إن قراءة رواية "هدية آدم" للروائية الجزائرية آمال بشيري من
شأنه أن يقنعنا بإمكانية بناء مثل هذا العالم الغارق تماما في خصوصيته حتى أنه
يفرض علينا منطقه الداخلي الفني، ويجعلنا نُسلم به متواطئين معها على إمكانية حدوث
هذا الأمر رغم لاعقلانيته، بمعنى أن بشيري هنا قد استغلت التواطؤ الفني الذي نعرفه
في كل أشكال الفنون، وهو التواطؤ الذي ينشأ بين كل مُمارس للفن، ومُتلقيه بالاتفاق
الضمني على إمكانية حدوث أشياء لاواقعية، والتسليم بها من أجل بناء العالم الفني
الذي لا يمكن له الاستمرار لولا هذا التواطؤ، ومن ثم يستطيع الفنان في هذه الحالة
الانطلاق بحرية في بناء عالمه الفني الذي يرغب من خلاله في الحديث عن أمر ما، أو
إيصال شيء ما، أو حتى الاستمتاع بلعبة مُمارسة شكل فني لمُجرد الشعور بالمُتعة
الخالصة أثناء هذه المُمارسة الفنية الخاصة به.
لكن، ما الذي قد يدفع بشيري إلى مثل هذه المُغامرة الفنية ببناء عالمها
الروائي بالكامل على حدث لاواقعي؟
لعل تأملنا في مفهوم الثقافة الحالي، وحالة السيولة العارمة- التي يسبح
فيها العالم كلية- التي عملت على تسطيح الكثير من المفاهيم وقلبها إلى معانٍ بعيدة
عن جوهرها الذي نشأت عليه في الأساس كان هو السبب الرئيس الذي دفع بالروائية إلى
انتهاج مثل هذا الشكل لبناء روايتها؛ فالأعمال الروائية الفنية الجادة قد باتت راكدة
إلى حد بعيد مع جمهور غير واعٍ لمفهوم الثقافة الحقيقي، ومن ثم تحوّل إقبال هذا
الجمهور إلى الأعمال الروائية التي لا قيمة لها، والتي لا تُقدم لنا في جوهر الأمر
أعمالا فنية بقدر تقديم مجموعة من الأعمال المُتهافتة الفقيرة الخيال، المُفتقدة
للأسلوب، والأشكال الجمالية الفنية، والتي تعتمد إلى حد كبير على الإثارة
والتشويق، وما يُطلق عليه روايات الرعب، أو مُجرد الرومانسية التي لا معنى لها أو
هدف، والتي لا تُقدم لنا شيئا في نهاية الأمر.
هذه الأعمال الضحلة في الموضوع والخيال والأسلوب هي الأعمال الفنية التي
سادت في الآونة الأخيرة؛ مما خلق هوة شاسعة ما بين المُتلقي ومن يصرون على إنتاج
وتقديم أعمال فنية جادة وحقيقية، ومن ثم ظهرت مجموعة من الأسماء الفنية التي لا
تُقدم لنا أي شيء ذي قيمة في مُقابل انزواء الكثير من الأسماء الفنية، والأعمال
المُهمة بسبب حالة السيولة المُنتشرة، والمزيد من الضحالة والتجهيل الذي نُلاحظه
من حولنا، وهو ما يُشير إلى كارثة في مفهوم الثقافة الحالي، وإشكالية في التلقي
المُنبني على هذه الحالة الثقافية الزائفة، والتي لا طائل من ورائها إلا المزيد من
تشوه الوعي، والإدراك لهذه الأجيال التي ترى أن الأعمال الفنية الحقيقية لا تستحق
الإقبال عليها.
هنا كان المأزق الفني الذي وقعت فيه آمال بشيري حينما عقدت العزم على كتابة
روايتها، فإما أن تلتزم بكتابة رواية فنية جادة كما عهدناها في أعمالها الروائية
السابقة- وهو ما نُطلق عليه توصيف الأدب الرفيع الذي لا يعنيه إلا المعايير الفنية
وجدية الموضوع، والأسلوبية الروائية- ومن ثم فهي لن تجد الكثيرين الذين سينتبهون
إلى روايتها الجديدة وكأنها لم تصدر- أي جمهور النُخبة فقط، وهو قليل بالضرورة- أو
تضطر إلى اللجوء لحيلة فنية ناجحة من شأنها أن تُكسب روايتها شكلا جديدا، وقدرا
غير هين من التشويق والإثارة- مُتماهية في ذلك مع روايات الإثارة الخالية من
المضمون التي باتت سائدة من حولنا- ومن ثم تكون في هذه الحالة قد نجحت إلى حد بعيد
في امتلاك أكبر قدر مُمكن من الجمهور لهذه الرواية- الجمهور الشعبوي، وجمهور
النُخبة معا- والإقبال عليها؛ فتضمن جدية روايتها من جهة، ورواجها على أكثر من
مستوى من جهة أخرى، وهو ما فضلته بشيري في هذه الرواية، ولجأت إليه بشكل فني ناجح،
مُعتمدة إلى حد بعيد على التواطؤ الفني الناشئ ما بين الكاتب والقارئ، والذي
يُفيد: فلنتفق ضمنيا على أن هذا الحدث من المُمكن حدوثه على أرض الواقع حتى يمكننا
الاستمرار في نمو العالم الروائي الذي بين أيدينا. وهو ما رأيناه بالفعل في هذه
الرواية بشكل فني مُتماسك وناضج إلى حد بعيد مما يتيح لها امتلاك القاعدة الأكبر
من القراء.
إذن، فلجوء بشيري في عملها الروائي إلى حدث لاواقعي- انبنت عليه الرواية
بالكامل- كان مُجرد حيلة فنية منها من أجل اكتساب قاعدة أكبر من التلقي؛ ومن ثم
الوصول إلى قطاع من الجمهور ما كانت تستطيع الوصول إليه لولا هذه الحيلة التي
أكسبت أحداث الرواية قدرا غير هين من الإثارة التي من شأنها أن تمتلك القارئ- أي
قارئ- وتجعله مُتشبثا بالكتاب الذي بين يديه حتى الجملة الأخيرة منه من أجل الحصول
على الإجابات الضرورية للكثير من التساؤلات التي لا بد أن تُترى على ذهنه طوال
السرد الروائي، وهي الإجابات التي لن تفضي بها إليه الروائية في النهاية- لأنها
أسئلة لا إجابات لها في واقع الأمر- فهي الأسئلة التي انبنت على لاواقعية الحدث،
وهي اللاوقعية التي لجأت إليها الكاتبة لمُجرد اجتذاب القارئ وامتلاكه فقط من دون
تقديم الإجابات الشافية.
لكن، هل معنى خروج القارئ من الرواية خالي الوفاض من الإجابات التي كان
ينتظرها أننا أمام عمل روائي سار بنا حتى النهاية باتجاه الفراغ؟
لا يمكن لنا الذهاب إلى مثل هذا المنحى؛ لا سيما أن آمال من الكتاب الذين
لا يقدمون على كتابة عمل روائي فارغ، أو ضحل، أو بلا قيمة، بل هي دائما ما تهتم
بالفني فيما تقدمه، وبقيمته الثقافية والجمالية والدلالية، ولعلنا رأينا فيما قبل
القيم الجمالية والأسلوبية، ومدى جدية الكتابة الروائية لديها في العديد من أعمالها
السابقة، لا سيما روايتها "آخر الكلام" التي كانت رواية مبنية على رواية
"ذاكرة عاهراتي الحزينات" للروائي الكولومبي "جابرييل جارثيا ماركيز"،
والتي كتبها ماركيز أيضا بعد قراءته لرواية "الجميلات النائمات" للروائي
الياباني ياسوناري كواباتا، حيث رأت بشيري أن تبدأ روايتها السابقة- آخر الكلام-
من حيث انتهى ماركيز في روايته، وبالتالي جعلت الشخصيات تستمر في عالمها عند
النقطة التي توقف عندها الكاتب، واستمرت في استكمال العالم الروائي- غير الخاص
بها- الذي توقف عنده ماركيز مُعتمدة في ذلك على ثقافتها الخاصة، ومهارتها الروائية
والخيالية في استكمال عالم روائي قد انتهى منه صاحبه بالفعل- أي عالمها الروائي
الخاص بها هي.
من هنا يأتي دور الخيال ومهارة كاتبه في ابتكار وسائل فنية من شأنها أن
ترفع من قيمة العمل الفني الذي يقوم به، وامتلاك زمام القارئ حتى اللحظة الأخيرة،
وبالتالي يكون قد نجح في تقديم عمل فني جاد، واكتساب أكبر قدر من الجماهيرية التي
قد لا تتوفر له إذا لم يلجأ إلى حيلته الفنية التي رأى أنها ستصل به إلى أكبر قدر
من الجمهور.
تبدأ بشيري روايتها بحدث لا بد له أن يمتلك زمام القارئ ليثير داخله الكثير من التساؤلات التي تتوالد من بعضها البعض، فضلا عن إثارة الدهشة، والرغبة في الاستمرار لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور، حيث يتلقى آدم- الشخصية الأساس في الرواية- طردا ضخما- عبارة عن علبة كارتونية- لا يعرف فحواه، ولا مُرسله، وحينما يفتح الطرد فيما بعد يكتشف وجود جثة لامرأة جميلة مُغلفة في كيس بلاستيكي داخله، ومعها دليل الاستخدام الخاص بالجثة، فضلا عن رسالة شخصية موجهة إليه من الجهة التي لا يعلم عنها أي شيء: "انتبه لوجود كتيب في قاع الكرتونة خلف قدميّ تلك الجثة الميتة/ الحية، سحبه بحذر، وبيد مُرتعشة فتحه ليجد به في أول صفحة رسالة مكتوبة بخط يد أنيق وغير موقعة، أتى فيها: السيد آدم، بعد التحية، نُعلمك أنه بعد التشاور، والاطلاع على قانون الاستحقاق العالمي، قررنا أن نُسلمك هذه المرأة "الحية/ الميتة" لتعتني بها، وهذه هي وظيفتك القدرية والأبدية من لحظة توقيعك على استلامها. لا يحق لك إرجاعها، أو إعطاؤها لأي شخص كان، ولا يحق لك رميها، أو إتلافها بأي شكل من الأشكال، ولا يحق لك أيضا دفنها، أو حرقها، وفي حالة حدوث العكس سيتم تقرير عقوبات قاسية وأبدية في حقك. مُلاحظة: هذه المرأة "الحية/ الميتة" لا تحمل اسما، ولا تاريخ ميلاد، ويمكنك التصرف في هذا. بلهفة وخوف تفحص باقي أوراق الكتيب الذي لا يحمل عنوانا، ولا رقم هاتف يُمكنه من الاتصال للاستفسار عن المصيبة التي حلت بحياته فجأة، كل ما قرأه هو تعليمات الاستخدام فقط، والتي جاء فيها ما يلي: افتح العلبة الكرتونية بشكل عمودي. انزع الكيس البلاستيكي عن الجثة الحية/ الميتة. اجلسها أو مددها بالشكل الطبيعي المعروف. هذه الجثة حقيقية، لا تحتاج للشحن، ولا لبطاريات، تتحمل الماء وكل العوامل الطبيعية. لا تُترك في متناول الجميع. ممنوع مُشاركتها مع أحد. هذه جثة خاصة بمن يستلمها. جثة للاستعمال طويل المدى. جثة غير قابلة للتلف، ولا للحرق، ولا للدفن".
إن تأمل الاقتباس السابق الذي ساقته بشيري مع وصول الطرد، وفتح آدم له يؤكد
لنا على ما سبق أن ذهبنا إليه مُنذ قليل، والذي يُفيد بأن الكاتبة هنا إنما لجأت
إلى حيلة فنية فيها الكثير من الإثارة والغموض؛ تستطيع الاعتماد عليها في بناء
عالمها الروائي والاستمرار فيه، أي أن وصول هذه الجثة كان هو المُحرك للسرد، والوقود
الذي من خلاله تستطيع الاستمرار في بناء عالمها الروائي حتى نهايته، وهي الحيلة الناجحة
بدورها في امتلاك زمام القارئ الذي لا بد أن تصيبه الكثير من الدهشة، والرغبة في
معرفة سر هذه الجثة، وما هي الجهة التي أرسلتها، وما هو السبب في ذلك، ولِمَ كان
آدم هو الوحيد الذي وقع عليه هذا الاختيار؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي لا
بد لها من التوالد في ذهن القارئ- رغم أن آمال لن تمنحه الكثير من الإجابات، وإن
كانت ستحرص كل الحرص على تغليف عالمها الروائي بالغموض حتى اللحظة الأخيرة منه لتظل
قادرة على امتلاك القارئ وعدم انصرافه عنها.
سنُلاحظ هنا أن الروائية في نسجها للعالم إنما تقوم بذلك بتؤدة ومهارة
وتمهل واضحين؛ مما يعني أنها تمارس خلقها للعالم بمُتعة فنية ربما تُشعرها بالكثير
من البهجة والسعادة؛ أي أنها مُدركة تماما لما تقوم به، وهو الإدراك الذي يجعلها تقوم
بنسج العالم من دون ترك ثغرات فنية فيه؛ وبالتالي فلقد قدمت لنا آدم/ الراوي مُنذ
السطور الأولى لروايتها بشكل تفصيلي فيه الكثير من التأمل لنعرفه جيدا، ونعرف
العالم الذي يعيش فيه، وصراعه النفسي الذي يعاني منه، أي أن تقديمها لصورة وافية
لآدم ومُميزاته الشخصية، وعيوبه كان بمثابة الفقرات التأسيسية للرواية التي ستنطلق
فيها الروائية وقد أفضت للقارئ بشخصيتها الأساس التي يقوم عليها العالم الروائي
بالكامل، ومن ثم سنعرف أنه يعيش وحيدا بعد موت أبويه، وأنه ابن لعائلة ثرية؛ لذا
فهو لا يعمل لعدم حاجته إلى المال: "رغم كل الوظائف المرموقة التي مارسها
آدم، ورغم كل المناصب العليا التي تبوأها سابقا، والتي لم يحتمل المكوث فيها لأكثر
من أشهر قليلة، فقد قرر، وهو في عمر تجاوز الأربعين بقليل أن يعمل مُرافقا للكلاب.
في الواقع فهو لا يحتاج لوظيفة، ولا لراتب شهري، فقد ورث عن والده غير العزيز ما
يكفي ليعيش حياة نبيلة دون الحاجة للعمل أو لأحد، لكنه يحب أن يقضي وقتا مُتقطعا مع
الكلاب دون تحمل مسؤوليتها بشكل كامل"، لكن رغم عدم هذه الحاجة للعمل، ورغم
إقباله على القيام بمثل هذا العمل الغريب فهو يطلب من أصحاب الكلاب مبالغا مالية
مُرتفعة، وهي المبالغ التي يحصل عليها من أجل التبرع بها: "فقد أصر سابقا،
ورغم حبه لتلك الكائنات التي تجاوزت البشر في إخلاصها لمن يرعاها على أن يطلب من
أصحابها مبالغا مُجزية مُقابل خدمته تلك، وفعلا فقد حصل على مال وفير مكنه من
التبرع به، وبنية طيبة لهيئة الدفاع عن حقوق الحيوان في الضفة الشمالية من
المتوسط".
إذن، فآدم هنا شخصية غريبة لافتة للانتباه بدوره، وهو شخصية- فضلا عن
غرابته- يمارس اللامُبالاة في كل تفاصيل حياته، حتى أن اللامُبالاة التي يعيش من
خلالها تُعد هي الميزة الأولى والأهم في حياته بالكامل، وهو ما نلحظه في الكثير من
السلوكيات، وردود الأفعال الدالة عليها، مما يؤكد لنا أن الروائية هنا لم تترك
مجالا للمُصادفة، ولم ترغب بإخبارنا بمثل هذا الأمر بشكل مُباشر قد يبدو لنا فجا-
مُتناقضا مع فنية السرد الروائي- بل لجأت إلى العديد من المواقف الروائية التي
ساقتها للتدليل على شخصيته وما تتميز به بدلا من إخبارنا بالأمر بشكل مُباشر سيبدو
لنا إذا ما لجأت إليه مُفتعلا، ومن ثم يُقلل من القيمة الفنية للحدث الروائي،
والميل به باتجاه المُباشرة: "قام مُتباطئا غير مُتحمس لترك سريره، إذ يعرف
بداخله، وككل مرة، أنه بمُجرد أن يترك غرفة نومه الوديعة تلك، سيعاوده الضجر الذي
يُشعره بلا جدوى الأشياء من حوله".
إن آدم هنا غير مُتحمس تماما للقيام من فراشه رغم وجود شخص ما على الباب
يدق عليه، ولعلنا نُلاحظ في نهاية الفقرة السابقة ما يؤكد لنا على لامُبالاته،
والاستغراق في شعور الملل الذي يحيط به "بمُجرد أن يترك غرفة نومه الوديعة
تلك، سيعاوده الضجر الذي يُشعره بلا جدوى الأشياء من حوله". إنه الملل الذي
يلازمه طوال الوقت، وهو ما يجعله يبدو للجميع غير مُهتم بأي شيء يحدث من حوله، ولنتأمل:
"فارت القهوة، وسالت على سطح الموقد، لم يبال، سكب ما تبقى منها في فنجانه
البني القديم، ودلف إلى غرفة الجلوس، وعينه اليسرى على العلبة الجاثمة عند مدخلها"،
أي أن الروائية هنا حريصة تماما على رسم شخصيتها الرئيسية في الرواية بذكر الكثير
من التفاصيل عنها، وكيفية تعامله مع الأشياء، من حوله فهو يقوم بهذا الفعل السابق
بينما يوجد طرد غريب في شقته لا يعرف عنه أي شيء، ورغم غرابة الأمر فهو يتعامل مع
الأشياء بتمهل لامُبالٍ.
محاولة التركيز على الشخصية اللامُبالية لآدم هنا من شأنها أن تجعل القارئ
قادرا على فهم سلوكياته وردود أفعاله التي قد تبدو له غريبة، مثل: "حدق في
السقف ليلاحظ، ولأول مرة، طبقة الغبار السميكة التي أخفت بريق الثريا الذهبية،
أدار رأسه إلى الجهة اليمنى ليرى نصف سيجارته مُطفأة على الأرضية الرخامية، ثم
تعجب من شكل قدم الطاولة الخشبية التي أتى بها مُنذ سنوات من بيت والدته العزيزة،
ذلك الشكل الذي لم ينتبه إليه سابقا. شكل تتطابق تفاصيله مع مظهر رِجل الأسد بمخالب
بارزة عبارة عن نتوءات خشبية مصبوغة باللون البني المحروق". هذا الفعل
اللامُبالي والذي يبدو لنا مُجرد تأمل في الفراغ تأتي دهشته من أن آدم حينما كان
جالسا سابحا في فراغه، أو في تأمل سقف الغرفة، كان لتوه قد اكتشف جثة المرأة
المجهولة في الطرد الذي وصله، وقرأ الكتيب المُصاحب لها، وهو رد الفعل الذي لا
يتناسب مُطلقا مع دهشة ومُفاجأة اكتشاف جثة وصلته بمثل هذا الشكل الغامض والمُريب،
مما يُدلل على شخصية آدم.
لذا سنُلاحظ هذه اللامُبالاة في أكثر من موقف روائي، وهو ما نراه بشكل واضح
ومُباشر ذات مرة حينما تحاول أمه الراحلة الحديث معه عن الزواج: "شرح لها
مرارا أنه ليس لديه سبب مُقنع للزواج، وبأنه ليس هناك شيء أكثر جمالا لشخص مثله مُصاب
بلوثة "اللاجدوى" من أن يعبر الحياة خفيفا دون شريك، ولا نسل، ولا ملك،
دون حلم، ولا وهم".
إن الروائية هنا تذكر بشكل مُباشر وواضح تماما أن آدم لا يعنيه في الحياة
أي شيء، وغير مُهتم بما يدور من حوله، وهو ما يجعله يعيش فيما أطلق عليه
"اللاشيء"، إنه "اللاشيء" الذي صارح به أباه حينما سأله ما
الذي يرغب في أن يفعله في المُستقبل، ليرد عليه "باللاشيء"، مما أدى إلى
وجود علاقة فاسدة مُمتدة بينهما: "قل لي يا آدم، ماذا تريد أن تصبح في
المُستقبل؟ حسنا، في حقيقة الأمر هو لم يعرف طوال حياته معنى
"المُستقبل" غير ذلك الوقت الذي يخاف منه البشر، أيضا لم تكن لديه قدرة
على المُجاملة بالمعنى المُتعارف عليه، ولهذا رفض بحزم وهدوء أيضا أن يصبح عسكريا كما
تمنى له والده أن يكون، فأجاب بقلب صامد وغارق في الغرابة بأنه عندما يكبر سيكون
عمله الأعظم هو "اللاشيء". نعم، هكذا قالها بصدق بارد أخرس والده غير
العزيز الذي كتم لحظتها خيبة أمله في ولده الوحيد، ولم يعد يجرؤ من حينها على طرح
مثل هذه الأسئلة المُربكة عليه"، مما يعني أن آدم غارق في هذه الحالة من
اللاجدوى مُنذ صغره، وغير قادر على التخلص منها، بل هو مُستسلم لها تماما، شاعر
بالتصالح معها، راغب في عدم الخروج منها.
لكن، هذا الشكل من اللااكتراث بما حوله، وبما يدور في حياته لا بد أن يدفعنا للتساؤل: ما هو السبب في مثل هذه الحالة التي يستغرق فيها آدم مُستمتعا؟
إن السبب في مثل هذه الحالة التي يعيشها آدم هو فساد العلاقة الكامل بينه
وبين أبيه الذي يصفه آدم على طول الرواية "بغير العزيز"، حيث يعمل والده
في مجال أمني ما يتيح له التجسس على رسائل ومُكالمات المُحبين، ومن ثم يوشي بهم
للسُلطات لأنهم يستعملون مجموعة من المُفردات التي من شأنها أن تكون خطرا على
الأمن العام، ومن ثم فقد أودى والده بالكثيرين ممن لا ذنب لهم في أي شيء بالتخلص
منهم، أو اعتقالهم وحبسهم لمُجرد أنهم يستخدمون مُفردات شعورية لا معنى لها سوى
الحب، والمشاعر النبيلة، وهي المشاعر التي ترى السُلطة فيها خطرا عليها، بالإضافة إلى
علاقة الأب العنيفة والسيئة، المائلة للاحتقار مع الأم، وهو ما يجعل آدم يشعر
بالكثير من الكراهية تجاهه: "مُنذ الصباح إلى غاية غياب الشمس، وخلال كل
المواسم، وحتى في أيام العطل، وبمتعة خالصة، كان يقضي والده غير العزيز كل أيامه
في قبو مُظلم بين مئات الملفات التي ختم عليها بالشمع الأحمر "سري
للغاية". أرشيف وزارة الأخلاق أين كان يتجسس بمُتعة سادية غير مُبررة على
الرسائل التي يتبادلها العشاق فيما بينهم. كان يُعلم بقلم الحبر الأحمر الثمين ذي
الريشة الذهبية المُدببة الرأس، يرسم دوائر ثابتة، وبنفس الحجم على كلمات بعينها،
مثل الحب، الاشتياق، اللقاء، الوداع، محطات القطار، القبل، ربيع الثلج، إلخ،
مُعتقدا بأنها كلمات خطرة تُهدد أمن السُلطة المُتسلطة للأبد"، أي أن كراهية
وعداء الأب للمعاني الشعورية السامية، ومُلاحقة المُحبين للإيقاع بهم في غياهب
المُعتقلات- وهو رمز على تشوه مفهوم السُلطة الديكتاتورية، وكراهيتها، أو عدم
استيعابها لمعنى المشاعر، وعدم اهتمامها سوى بأمنها واستمرارها- أي إيذاء البشر
الآمنين بشكل مجاني، كان هو السبب الأساس في فساد العلاقة بين الابن وأبيه، وهو فساد
لم يستطع أي منهما رأبه؛ لأن الأب كان مُؤمنا تماما بأنه يؤدي من خلال عمله مهمة
مُقدسة من أجل الوطن!
لذا فهو يصور شر هذا الأب وما يقوم به، وأثره على العلاقة المُتبادلة
بينهما في: "بعدما كبر قليلا تحول اهتمامه، خاصة عندما كان يشتد به الملل
أكثر، إلى ما يسميه "بقاموس الكراهية"، كراسة قديمة بعدد هائل من
الأوراق يكتب عليها مُنذ طفولته الكلمات التي كان يحرص والده غير العزيز على رسم
دوائر حمراء حولها، ووصفها بالكلام المُشين ككلمة "أحبك"، "مُشتاق
إليك"، "سنلتقي"، "الماضي"، "ورد" إلى آخره من
كلمات أنيقة مُبهجة، تلك الكلمات التي تعشقها حتى القلوب الخبيثة. بفضل تلك
الكراسة البالية، وفضل رقابة والده على رسائل الأشخاص الذين يتمتعون بموهبة الحب،
فهم علم الدلالة، وأحسن علم البلاغة، وأتقن المعنى؛ إذ انتبه مُنذ صغره إلى أن كل
كلمة حولها دائرة حمراء هي في الواقع كلمة ذات قيمة ومعنى إنساني عظيم، ما عدا ذلك
فإن الباقي منها هي كلمات شريرة تحث على الكراهية، وعلى القسوة، وعلى الأذى والشر".
إن فعل الشر والكراهية الدائمين اللذين يمارسهما الأب باسم الوطنية، أو
السُلطة على الآخرين الذين تتمثل كل جريمتهم في الحلم والمحبة هو ما يدفعه إلى
تفسير موت الأب بتفسير قد يبدو لنا عقلانيا من وجهة نظر آدم رغم سُخريته في ظاهره:
"لم يستطع آدم إيجاد سبب مُقنع على الأقل فيما يخص سبب موت والده غير أنه في
لحظة ما، حاول قلبه الضيق الاتساع قليلا أمام كل تلك الكراهية التي كانت تُعشش بداخله؛
فانفجر في ثانية"! ألا يبدو لنا هذا التفسير للموت شديد العقلانية، بل وجزاء
مُستحقا لأبيه بعد كل هذا الإيذاء الذي قام به في حق غيره من البشر الذين لا جريرة
لهم؟
قبح الأب، وإيمانه بما يقوم به من إيذاء للآخرين، يصفه آدم ذات مرة لأمه
بأنه- يقصد الأب- "رجل يكره الحب" في: "سابقا، عندما كان شابا
مُضطرب القلب والروح، وفي يوم اشتد بينهما النقاش، حاول أن يشرح لوالدته موقفه
العصي من الحياة، وأيضا منها، هي التي تركت وراءها رسائلها التي لم تُرسلها يوما
لحبيبها لأنها تزوجت برجل ذميم الشكل والطبع، رجل يكره الحب، ويشطب بمُتعة مريضة
الكلمات الأنيقة لأنها توجعه في مكان ما بداخله".
بالتأكيد رجل مثل هذا الشخص الكاره لكل ما يحيطه من مشاعر من الضروري أن
ينعكس هذا الفعل على سلوكه مع كل من يحيطون به، وأولهم زوجته التي كان آدم يرى
تعامل الأب معها مما يوغر في صدره، ومن ثم تزداد الهوة بينه وبين هذا الأب غير
العزيز، ومن ثم الكثير من العواصف النفسية التي أدت إلى تشكيل شخصية آدم بمثل هذا
الشكل اللامُبالي، الاكتئابي الذي نراه عليه: "عادت له صورة والده غير العزيز
جالسا قبالته حول طاولة الطعام، ينظر إليه شاردا، عندما كان ينهمك آدم في مضغ
طعامه عدة مرات، وهو يضغط بقوة مُؤلمة على فكيه، في محاولة منه لبلع غضبه الصادر
من تعليقات هذا الأخير على مذاق الطعام غير الشهي الذي كانت تحضره له والدته
العزيزة بكل إتقان. ما زالت تلك الذكرى المُستفزة تُسبب له غصة في الحلق".
إذن، فبشيري التي تُدرك جيدا كيفية نسج عالمها الروائي والاستغراق في
تفاصيله، لم تترك أمامنا كقراء مجالا للمُصادفة، بل كانت حريصة بتمهل وتؤدة على
بناء عالمها الروائي وتوضيح الأسباب التي أدت بآدم- الشخصية الأساس لعملها
الروائي- إلى مثل هذه السيكولوجية التي قد تبدو لنا غريبة، فضلا عن استغراقها في
الاكتئاب، واللامُبالاة التامين، وهي الأسباب التي ساقتها على طول السرد الروائي
مبثوثة ما بين التفاصيل والأحداث كندف لا تكتمل إلا مع انتهاء العالم الروائي
بأكمله، أي أن اكتمال الصورة بكل تفاصيلها لن تفضي بها الروائية إلا مع انتهاء الرواية
مما يؤكد لنا على أنها مُدركة لأسلوبيتها التي اختارتها لروايتها، ومحاولة امتلاك
القارئ حتى المُفردة الأخيرة من عملها الروائي، وهو ما جعل الرواية لا تمنح
مفاتيحها لقارئها إلا مع نهايتها.
لذا حينما نقرأ بعض هذه السلوكيات الغريبة التي يميل إليها آدم، لا يمكن
لنا أن تنتابنا الكثير من الدهشة بعدما نكون قد فهمنا أن السبب الأساس في مثل هذه
السلوكيات هو الأب الذي أفسد حياة آدم، وأمه، وكل من يحيطون به، وحتى من لا
يعرفونه ولا يعرفهم! أي أن هذا الأب كان مُؤذيا بشكل مُطلق للجميع باسم الانتماء
للوطن، وحفظ الأمن: "يُدرك آدم جيدا بأن مزاجه الفاسد، وقلة اهتمامه بالأشياء
من حوله، تلك التي يسميها الآخرون مجازا أساسيات الحياة، وبأن عناده المُتصلب الذي
لم يورثه إلا الخسارات المُتتالية، وبأن إيمانه بمفهوم "اللاشيء" بعيدا
عن الفلسفة، وعن عشرات الكتب التي قرأها، كل هذا يعود لسبب علاقته المريضة بوالده
غير العزيز. كان يُصر مُنذ طفولته على أن يُبدد الوقت دون سبب واضح، وفي تحدٍ لا
معنى له للناس من حوله".
العلاقة الفاسدة بين الابن والأب أدت إلى عدم رغبة آدم في الحياة مع أبيه، اختفائه
من حياته وحياة أمه التي يراها تتأذى مع هذا الرجل، وهو ما دفعه- حينما قرأ لأول
مرة قصة النبي نوح- باتجاه الرغبة في بناء سفينة والإبحار مع أمه بعيدا ليغرق
الطوفان أباه: "جرى نحو غرفة والدته العزيزة، ترجاها بإلحاح أن تركب سفينته،
أما هي فلم تتفاجأ، ولم توبخه عندما وجدت طاولة الطعام التي ورثتها عبر أجيال
طويلة مُثبتة إلى جذع شجرة الياسمين، ولم تنزعج لرؤيتها شرشف السرير الثمين الذي
قضت أشهرا في تطريزه قد تحوّل إلى شراع. ورغم إدراكها أن اكتشاف زوجها لذلك اللعب
الطفولي وقتها كان سيُعرض ابنها الوحيد لعقاب شديد لا يتحمله قلبها الضعيف، ردت
عليه بكل هدوء: حسنا، ليكن الله في عونك، وليرسل الطوفان قبل مجيء والدك. رد عليها
بثقة غير مُعتادة: سينقذنا الطوفان من والدي، وسوف نبحر بعيدا عنه، وسوف ننجو، فقط
أنا وأنت، وسنعيش حياة سعيدة برفقة هذه الحيوانات الوديعة".
لكن، علينا مُلاحظة أن آدم حينما تعرض للقسوة هنا فهو لم يعانِ من قسوة
الأب فقط، بل تعدى الأمر ذلك إلى مُدرسته في المدرسة التي كانت تهينه، وتضربه أمام
زملائه، وهو ما يُساهم بالضرورة في خلق شخصية اجتماعية مُنسحبة إلى عالمها الشخصي،
والتقوقع داخل ذاته: "في إحدى الأمسيات الماطرة صفعته تلك المُدرسة الحاقدة
على خده الأيمن، ومن وقتها، وهو يتعامل مع خده الأيسر بتعالٍ وكبرياء، إذ وصل به
اللامنطق إلى أن يضع راحة يده الصغيرة المُرتجفة عليه كل ليلة قبل أن ينام، يحكي
له كل أسراره ليوصيه في نهاية الكلام بخده الأيمن الذي أهانته تلك المُدرسة التي
لا تحبه، والتي قبضت عليه في تلك الأمسية الماطرة بالجرم المشهود، وهو يضع كتاب
"جول فيرن" وسط كتاب قواعد اللغة العربية، مُستمتعا بتلك الرحلات
الخيالية التي لم يعشها الكاتب سوى في خياله". هذه الأفعال، والعلاقات ما بين
آدم وأبيه من جهة، وبينه وبين المُدرسة القاسية من جهة أخرى، من شأنها أن تعمل على
تشكيل شخصيته بمثل هذا الشكل الذي حرصت الروائية على وصفها به، أي شخصية مُنسحبة،
مُكتئبة، لامُبالية، مُنعزلة، غير مُشاركة في المُجتمع.
تتناول بشيري حال المُجتمعات العربية وما يدور فيها بإشارتها إلى أن الأحداث
إنما تحدث في إحدى دول جنوب المتوسط، وفي هذا المُجتمع تنتشر الكثير من
الديكتاتورية، وعدم المقدرة على تفهم معنى الحب- بل النفور منه وكأنه عار لا يجب
أن يمس أي منا- وهو ما يؤدي بمثل هذه المُجتمعات- فضلا عن ديكتاتوريتها- إلى نشأة
مُجتمع ذكوري، شديدة العنف والقسوة على أفراد المُجتمع مع بعضهم البعض، وهو ما
لاحظناه على سبيل المثال مع زوج "أم فاطمة" التي ترعى آدم مُنذ ماتت أمه
تنفيذا لوصيتها: "كثيرا ما كانت تلجأ إلى البيت القديم، لدى والدته العزيزة،
دامية الرأس، مُحمرة الوجه، تصرخ من الألم، وهي تدعي بقلب حار على زوجها الذي كان
يضربها كلما عاد من البحر خالي الوفاض، حتى إنه في يوم ما ضربها بقنينة فارغة من
الزجاج مُباشرة على وجهها؛ فأفقدها عينها اليسرى التي اختلط بياضها بسوادها دون
أمل في صفائها مرة أخرى".
إنه العنف الذكوري الذي تصوره بشيري بشكل أكثر قسوة وعنفا في مقطع آخر
بكتابتها: "هو لا يستطيع أن يغضب منها- يقصد أم فاطمة- فهي من رائحة والدته
العزيزة، عملت لديها في البيت القديم مُنذ أن تطلقت من زوجها البحار، ذلك الرجل
القاسي القلب الذي كان يأكل السمك نيئا، ويشرب الكحول الطبي بنهم، كان يضربها بشدة
وعنف لا مثيل لهما، مرة بشاكوش على ظهرها، ومرة بيد الهون النحاسية على رأسها، كلما
نهته عن ذلك بسبب الرائحة العفنة التي كانت تصدر منه". لكن رغم كل هذه القسوة
التي تعرضت لها أم فاطمة إلا أنها ظلت قوية، مُتمسكة بحياتها، لديها العزيمة على
العمل والاستقلالية، تمتلك الأمل في رؤية ابنتها مرة أخرى بعدما سلبها زوجها منها،
لكن في مُقابل كل ذلك أدى ما مرت به إلى خلق شخصية مُنسحبة داخل ذاتها، تُحادث
ابنتها الغائبة طوال الوقت بصوت عالٍ، غير مُلتفتة، ولا واعية إلى ما تقوم به من
فعل- أي أن القسوة لا بد لها أن تؤدي بالضرورة إلى تشويه المُجتمعات، وسلوكيات
الأفراد فيها، فضلا عن انكسار أرواحهم: "حتى اليوم، لا يستطيع آدم أن يقول
لها شيئا يزعجها، وذلك ليس فقط بسبب تعاطفه معها مُنذ طفولته، وإنما هو أيضا مُعجب
بقوة صبرها، وتحملها ذلك القهر القديم المُتجدر في روحها الصلبة دون أن تُفكر يوما
في الانتقام من زوجها القاسي الذي اختفى في ليلة ماطرة بعدما ضربها كالعادة لدرجة
أنه أفقدها وعيها وهي نافس، لف رضيعتها فاطمة في خرقة بالية وتبخر". هنا
يتبيّن لنا طبيعة الشخصية المُنكسرة المشوهة التي تعاني منها أم فاطمة أيضا،
وكأنما هذه المُجتمعات الديكتاتورية/ الذكورية لا تُفرز في نهاية الأمر إلا أفرادا
أكثر عنفا ليمارسونه على الآخرين من أجل تشويههم، وقتل أرواحهم فيهم، مما يجعلهم
يميلون إلى الانسحاب والعزلة- فالقسوة في الواقع مثل الظلم، حلقات تُسلم لبعضها
البعض.
لكن، هل يقتصر تأثير الديكتاتوريات هنا على هذه القسوة التي يتعامل بها الجميع مع بعضهم البعض، فضلا عن نشأة المزيد من المُجتمعات الذكورية، والأكثر من العنف الموجه من الجميع للجميع؟
يتعدى تأثير القسوة هنا إلى ما هو أعنف منها على المستوى النفسي للجميع، فشخصيات
بشيري- الروائية- هي شخصيات شديدة الاغتراب، صحيح أنهم جميعا يعيشون وسط
المُجتمعات وما تمور به من أشخاص آخرين، إلا أنهم في واقع الأمر يشعرون بالوحدة
القاتلة، بعدم القدرة على التواصل، بافتقار المُتعة مع مُمارسة أي شيء، حتى لكأنهم
واقعين بالكامل في العدم الذي يشعرون معه بالفراغ التام، هذا الاغتراب الكامل
نلمحه بشكل جلي على آدم الذي يدور في فراغه طوال الوقت، مُنعزلا، وحيدا، غير راغب
في التواصل مع من يحيطونه، وهو ما نلمحه كذلك لدى صديقه السوري المُهاجر إلى
ألمانيا- الرومي- حيث كثيرا ما يتواصلان مع بعضهما البعض عبر الهاتف: "ضغط
على زر الاتصال، ووضع على أذنيه سماعته المُتقنة الصُنع، أضاءت شاشة الهاتف على
وجه الرومي المُحمر كعادته عندما يكثر من شُرب "الفودكا"، وارتجال
قصائده الاستثنائية. رد عليه هذا الأخير بصوت كأنه طلقة نار على جثة بائتة: أهلا يا
صديقي البعيد القريب، قبل كل شيء أريد إبلاغك برغبتي الشديدة في البكاء"، مما
يعني أن الرومي المُهاجر إلى ألمانيا لينفصل عن وطنه السوري يشعر بالكثير من
الاغتراب والبؤس بعيدا عن الوطن رغم أنه لا ينقصه أي شيء، وليس في ضيق مادي، أو أي
شكل من أشكال العوز، وهو ما يتأكد لنا حينما يسأله آدم عن أحواله ليرد: "في
الواقع، وبالمنطق، وبما يحدث خارج نفسي، أنا بخير! لدي سقف فوق رأسي، وأكل يقيني
من النفوق مثل أي حيوان بري، لدي راتب هيئة الشؤون الاجتماعية غير الاجتماعية الذي
يصل إلى حسابي كل بداية شهر، في مُقابل أنه عليّ أن أندمج مع بشر لا يشبهونني في
شيء".
إن الرومي هنا غير قادر على التواصل مع المُجتمع من حوله، لا يستطيع التكيف
مع ثقافة مُختلفة عن ثقافته، وهموم أخرى بينها وبين هموم وطنه بون شاسع، هو يشعر
بأنه قد تم جزه تماما من جذوره كما يحدث مع النباتات لتتم زراعته في أرض أخرى غير
مُلائمة له، وهو ما يجعله في حالة دائمة من الاغتراب، والحزن، والرغبة في البكاء،
وربما الصراخ في كل من حوله، مما يعني أن الديكتاتوريات في منطقة الشرق الأوسط-
سواء في جنوب البحر المتوسط، أو في شرقه- لا تؤدي في نهاية الأمر سوى إلى موت
مواطنيها حتى لو كانوا يتحركون أحياء بين البشر، يتبيّن لنا ذلك من قول الرومي
لآدم: "أجلس يوميا في مقهى أطلقت عليه اسم "المقهى الكوني" فقط
لأراقب ندلاءه الذين أتوا من بلاد جميلة، ومُشمسة، البرازيل، البرتغال، إيطاليا،
ودون ملل أحرص دوما على طرح نفس السؤال المُكرر على نفسي: لماذا يقذف المرء بشبابه
في بقعة نائية مثل هذه؟ أتعلم؟ أخيرا، وبعد جهد جبار، تعلمت كيف أكتب هذا السؤال
باللغة الألمانية على دفتر لكي أرميه تحت عيون نُدل "المقهى الكوني"
لعلهم يجيبونني يوما".
هو حال الديكتاتوريات، وغياب القانون، اللذان نلمحهما حينما يفكر آدم في
التخلص من الجثة بإلقائها في صندوق القمامة كي يكتشفها عند الفجر "رضا"-
عامل القمامة في الحي- الذي قد يفرح بها ويأخذها إلى بيته القصديري لمُؤانسته، أو
قد يبلغ الشرطة عن عثوره على جثة امرأة ما، لكنه إذا ما قام بهذا الفعل الأخير:
"حسب المنطق المُتعارف عليه، سيتم اقتياده إلى قسم الشرطة، ويديه مُكبلتين
بالحديد، خائر القوى، ومُتهم بارتكاب جريمة القتل التي سيُعاقب عليها كما ينص
القانون، وذلك حتى في حالة لو لم تتوفر الأدلة التي تُوجب ذلك، يكفي أنه فقير ليتم
إعدامه بكل عدل، أليس لكم في القصاص حياة؟"، إنه حال الفقراء والتعامل معهم
في تلك المُجتمعات، مما يعني أنهم ليس لديهم أي حقوق إنسانية، وفي الحقيقة فغياب
الحقوق لا ينطبق فقط على الفقراء في هذه الدول، بل هو يشمل الجميع اللهم إلا
الفاسدين وأصحاب السُلطة، فهم فقط الذين يحصلون على حقوقهم في مُجتمعات مُتخبطة في
كل شيء إلا مُمارسة الفساد الذي يؤدي بالضرورة إلى شعب غير سعيد في أي شيء: "كيس
بلاستيكي شفاف ذكره بأغلفة النايلون غير المُتقنة للدمى المطاطية التي كانت تُباع
في البقالات أيام الاشتراكية السعيدة لشعب غير سعيد".
إن آمال بشيري في روايتها تحاول نقل صورة بانورامية لمُجتمع يتفسخ على كل
المستويات، لا سيما المستوى الشعوري، أو الإنساني العاطفي، وهي الحالة التي تعاني
منها في الواقع مُجتمعاتنا العربية التي تحاول طوال الوقت اعتبار الحب، والمحبة،
والتعاطف ليسوا إلا جريمة لا يجب مُمارستها، وبالتالي فالقضاء عليها هو السبيل
الأمثل. من هنا رأينا- وما زلنا- نرى الكثير من جرائم الشرف، وتحريم المشاعر باسم
الدين، والتقاليد، وغير ذلك الكثير، وبما أن السُلطة السياسية في هذه المُجتمعات
لا يعنيها سوى أمنها واستقرارها فقط، وبما أن هذه المشاعر تُكسب من يمارسها المزيد
من إنسانيته، فالسُلطة تتآمر مع المُجتمع الجاهل في القضاء على المشاعر من أجل
مصلحتها الشخصية، فضلا عن تقزيم الجميع وسلبهم لحقوقهم الإنسانية من أجل المعيشة؛
ومن ثم تترك الجميع يهيمون في عوالمهم الخاصة، غير قادرين على الحياة، ولا يعرفون
إليها سبيلا، ولنتأمل حال رضا عامل القمامة: "عرف آدم بأن رضا رجل مُتعلم،
يحمل شهادة عليا في تاريخ الفن، رغم أنه تعلم القراءة والكتابة في سن مُتأخرة من
خلال مدارس محو الأمية التي توفرها الدولة بالكثير من الشح لمواطنيها الفقراء.
وبأن هذا الأخير أيضا قارئ نهم، قرأ الفلسفة بتمعن، واطلع على الفن بشغف، وسمع
المُوسيقى بأذان متذوقة للجمال، حتى أن لدى هذا الأخير محاولات خجولة في كتابة
القصة القصيرة، وكتابة مقالات ذات مواضيع رفيعة حول مُختلف الفنون، لكنه يا للأسف
لم يجد وظيفة يقتات منها سوى جمع القمامة، ذلك العمل الذي كلما زادت ساعاته نقص
كبرياؤه، واحترامه لنفسه وهو يجوب ذلك الحي الذي تسكنه طبقة الموظفين الساميين،
وذوي العلاقات الاجتماعية المُؤثرة". بالتأكيد نعرف جيدا أنه كلما شعر الفرد
بالتدني، كلما أدى ذلك إلى قتله على المستوى النفسي، وبات أكثر ليونة وطواعية،
وبالتالي يسهل توجيهه حيثما ترغب السُلطة، أي أن فعل التجويع والإذلال هو في جوهره
فعل سياسي سُلطوي من أجل الحفاظ على وجودها واستمرارها.
لكن، ألا تؤدي السُلطوية في الكثير من الأحيان إلى الفوضى؟
إنها الفوضى التي نلمحها في: "كان المشهد العام في تلك المدينة
البعيدة يوحي بانضمام آدم إلى قائمة مجانينها الكثر الذين أتوا من أنحاء مُختلفة،
هاربين بخبلهم من الموت، ومن مُدن مُضطربة. عرفت وقتها حرب أهلية صامتة، إذ يقتل
الجار جاره، ويغتال الابن أباه، وتُفجر عشرات القنابل وسط حشود البشر لتحولهم في
ثوانٍ معدودة لأشلاء ساخنة تُدفن في مقابر جماعية دون شاهد يحمل اسم أي واحد منهم"،
وهي الفوضى التي قد تغذيها السُلطة، وتعمل على تأجيجها أيضا من أجل البقاء في
الحُكم من دون اهتزاز استقرارها.
إن آدم في حقيقة الأمر ينطلق في حياته- الخاوية تماما- من الحب، والتعاطف،
والمحبة. بمعنى أن المشاعر هي التي يحتاجها، ويفتقدها، وتحركه بشكل إيجابي، وعند
افتقاد هذه المشاعر- وهو محروم منها بالفعل مُنذ صغره إلا من أمه التي ماتت وبات
وحيدا من دونها- فهو يقع في الفراغ الكامل، وهو الفراغ الذي اعتاده وبات لصيقا به،
مما أكسبه الكثير من العدمية التي يعيش فيها، نلمح تلك الحاجة إلى الحب في:
"تمنى ألا يكون الوحيد الذي حلت عليه هذه المُصيبة، وبأن ما يحدث له ليس إلا
ظاهرة مُنتشرة بين الشباب الذين يعيشون بمُفردهم، شباب يعانون من قلة الحب، ينامون
وحدهم، ويكلمون أنفسهم، يبكون وحدهم، ويرقصون وحدهم، هؤلاء الشباب الذين يُصنفهم
المُجتمع في خانة المعتوهين والمجانين"، بالتأكيد لمحنا في الاقتباس السابق
الحاجة الماسة إلى الحب التي يعاني منها آدم، وغيره من الشباب في المُجتمع من
حوله.
المحبة التي هو في أمس الحاجة إليها، يلمحها آدم دائما في الآخرين، يستطيع
اكتشافها بسهولة نادرة: "شعر آدم بصعوبة التواصل معه، اكتشف فيه رجلا ثائرا،
وغاضبا، لكن فهم أيضا بأن في قلبه مُتسعا للمحبة، وللحظات نادرة من السعادة"،
أي أنه يكتشف هذه المشاعر في رضا، عامل القمامة حينما يتحدث معه لأول مرة، ويتعدى
الأمر ذلك إلى تأمله في هذه المشاعر لدى الكلاب: "يعود بها ككل مرة عند نهاية
النزهة إلى مساكنها الراقية لتنهمك في النباح وراء الأبواب المُصفحة، وهي تودعه
بمحبة عارمة كما يشعر".
الحاجة للتعاطف، والمحبة، والمُشاركة هو ما يدفع آدم باتجاه الرغبة في
مُساعدة جميع البشر من حوله، إسعادهم بأي شكل؛ لأنه يكتسب السعادة من سعادتهم، هو
لا يرغب سوى في منح الحب الذي افتقده طوال حياته للآخرين؛ وبالتالي نراه يساعدهم كثيرا،
مثلما رأينا مُساعدته الدائمة، وعنايته بأم فاطمة التي طلب منها عدم خدمة الآخرين
في البيوت، في مُقابل أنه سيتكفل بكل مصاريفها، بل وطلب منها أيضا عدم خدمته، والتوقف
عن تنظيف بيته، لكنها تصر على العناية به كطفل مُنذ اعتادت على فعل ذلك في طفولته
المُبكرة، نرى ذلك أيضا في: "ما زال آدم يؤمن بطيبة الناس، ومعنى احترام
الأكبر في السن منهم، إذ ما زال ينحني في الشارع بخفة ليأخذ تلك القفة الثقيلة من
يد مُرتعشة لعجوز وحيدة تمشي الهوينى ليوصلها إلى باب بيتها وهو ينصت بمُتعة
مُنقطعة النظير لبعض شكواها عن الزمن الذي تغير، وعن أمراض الشيخوخة، وعن جحود الأبناء"،
فضلا عن موقفه حينما عرف أن رضا/ جامع القمامة لديه حلم في أن يعبر الصحراء الكبرى
بدراجة نارية؛ مما يجعل آدم يمنحه دراجته البخارية اليابانية الصُنع التي كانت أمه
قد أهدتها له وهو في عمر المُراهقة.
إذن، فآدم في جوهر الأمر ليس إلا امرئ يحمل بين جنبيه قلبا شديد الرقة، ومشاعر
مُرهفة لا تستطيع احتمال القسوة، أو العنف، وربما كان ذلك هو السبب الرئيس في
مروره بالتجربة النفسية التي أطلق عليها الجميع اسم الجنون رغم أنه لم يُجن في
واقع الأمر، بل إن كل الظروف القاسية، وانقلاب المعايير من حوله، والعنف السائد في
كل شيء قد جعلوه غير قادر على الاحتمال، على شفا الجنون بالفعل، ومن ثم لجأ عقله
الباطن إلى حيلة نفسية لحمايته من هذا الجنون، حيث فقد ذاكرته بالكامل فجأة، فلم
يعد يعرف تاريخه، ولا نفسه، وهام في الشوارع والمُدن، لينام فيها، ويأكل مما تطوله
يداه من القمامة، وبالتالي لم يكن أمامه سوى جماعات المجانين الهائمين في الشوارع
من أجل الاحتماء بهم، والحياة معهم: "في إحدى تلك الصباحات المُفزعة، الغارقة
في حياة دامية، قضى فيها الأبرياء نحبهم دون ذنب، وبشكل مجاني غير مُبرر، استيقظ
آدم على صوت نباح الكلاب، وصفارات سيارات الإسعاف، وصراخ مُخيف يصدر من بشر
يتقاطرون دما، يجرون وسط الأشلاء المُتناثرة وسط الدخان الذي لوث الهواء والأشجار وحجب
الرؤية. جرى هذا الأخير نحو غرفة والدته العزيزة التي وجدها تطل من النافذة بوجه
مُصفر، وجسم مُرتعش، تهيأ له بأنه سمع دقات قلبها المُتسارعة. تراجع دون أن يُغلق
باب الغرفة، ودون أن ينطق بكلمة. شعر بثقب كبير وسط رأسه، وهيئ له بأن خرطوما
بلاستيكيا عملاقا أخذ في شفط أجزاء مُتناثرة من دماغه دون أن يسيل منه قطرة دم
واحدة. شعر بتنميل في وجهه، وبارتعاشة حارقة في شفتيه. بدأ جسده يهتز دون أي تحكم
منه، انتابه شعور أكثر حدة بالهلاك، وأنه يغرق في بياض تام. أغمض عينيه بقوة لكي
يتمسك بأي شيء من حوله، فتحهما ليرى بعدها كل شيء يهتز ويتراقص بسرعة جنونية. سالت
دموعه حارقة على خديه الباردتين. من لحظتها لم يعد آدم يعرف من هو، وأين هو. جرى
عبر الباب نازلا سلالم البيت وهو مخطوف الروح لا يعرف وجهته".
إن فقدان الذاكرة المُؤقت الذي انتاب آدم هو في جوهره حيلة نفسية لجأ إليه
عقله الباطن من أجل حمايته مما يراه يحدث من حوله، والذي لا بد أن يفضي به إلى
الجنون الحقيقي؛ لذا لم يعد يعرف أي شيء، ولا يتذكر أي شيء: "وقتها فقد آدم
كل قدرة على تذكر من هو، ولا من أين أتى، وماذا كان يفعل في تلك المدينة الغريبة،
لكن في الواقع، وعلى بُعد مئتي كيلو متر كانت والدته العزيزة تبحث عنه بحرقة في
مُستشفيات المدينة، وفي أقسام الشرطة، وفي المقابر الجماعية".
لكن، إذا ما كان افتقاد الحب هو السبب الرئيس في فقد آدم لذاكرته من أجل
حمايته من الجنون الفعلي، فلقد كان هو السبب الأساس أيضا في عودة ذاكرته إليه مرة
أخرى، ومن ثم عودته إلى أمه: "في إحدى الصباحات المُمطرة، استيقظ آدم على صخب
جرس المدرسة التي نام على الرصيف المُقابل لها، شعر ببلل الورق المقوى الذي
افترشه، فتح عينيه، رأى قبالته- أمام باب تلك المدرسة المُزدحمة بتلاميذها الصغار-
امرأة طويلة القامة، أنيقة المظهر، تمسك بيد ابنها الصغير الذي بدا له بأنه يعيش
تجربته الأولى في معنى التخلي عن والدته التي كان مُلتصقا بها. فجأة اغرورقت عينا
آدم بالدموع، رأى صورة والدته العزيزة، تذكرها بإحساس غارق في المحبة والاشتياق،
قام مفزوعا من ذاكرته التي عادت إليه دفعة واحدة"، مما يعني أن المشاعر
الرقيقة التي تسيطر على آدم، وهي المشاعر التي تجعله دائم الافتقاد إلى الحب،
راغبا في منحها للآخرين هي التي تحركه في كل ما يقوم به من أفعال- حتى لو بدت لنا
غريبة للوهلة الأولى.
لم تتوقف آمال بشيري في روايتها على رصد الجانب السياسي، والاجتماعي
للمُجتمعات جنوب البحر المتوسط فقط، بل تعدت ذلك إلى وصف الجانب العقائدي المشوه
الذي ترزح تحته هذه الدول، وهو الجانب الذي يُحرم الحياة ذاتها على من يرغب في
عيشها، أو الاستمتاع بها، وهو ما نلمحه في: "ركب أول سيارة أجرة مرت أمامه
دون أن ينتبه لسائقها. ذلك الكهل البدين بلحية مُشعثة وطويلة، انقبض قلب آدم عندما
نظر في وجه هذا الأخير وهو يطلب منه بصوت هادئ خفض صوت المُسجل الذي كان يذيع خطبة
حول عذاب القبر وظهور الثعبان الأقرع. نظر السائق إلى آدم شاردا، وهو يرد بسؤال
فاجأ آدم: ألست مُسلما يا أخي؟! شعر آدم بأن قنبلة ذرية انفجرت فجأة في رأسه،
وتحولت إلى شظايا غضب عنيف، لم يجبه، أشار له بيده بأن يوقف السيارة جانبا عند
الرصيف".
إذن، فآمال بشيري حينما فكرت في كتابة روايتها لم يكن يعنيها في المقام
الأول كتابة رواية عن جثة ما، وتطور الأحداث التي ستصاحب هذه الجثة، بل اتخذت من
هذه الجثة- بكل ما يحيط بها من إثارة وغموض- تكؤة للسرد، والبناء عليها، وبالتالي
لم يكن يعنيها أمر الجثة، بقدر ما كان يعنيها العالم الروائي القائم على افتقاد
الحب في مُجتمعات مشوهة في جوهرها، وأثر افتقاد هذا الحب على أفراد هذه
المُجتمعات، وما يمكن أن يفعله هذا النقص بهم، صحيح أنها لم تُهمل أمر الجثة التي
كانت متواجدة، ومُحركة للسرد حتى نهايته، لكنها لم تهتم بتفاصيل الإجابات على
الأسئلة المتوالدة نتيجة لتواجدها المُفاجئ في حياة آدم.
إن الروائية هنا تتحدث عن آدم، وأمه العزيزة التي كانت تحب رجلا من روسيا
موفدا للعمل كطبيب في بلدها، وارتباطه بها بعلاقة حب لاهبة، أدت إلى حملها بآدم،
ولكن والد آدم غير العزيز الذي كان يراقب الجميع ويتهمهم بالخيانة العظمى بسبب
مشاعر الحب، راقب والدته ووالده الروسي، وألقى بالروسي في المُعتقل، وهددها بفضحها
واعتقالها أيضا إذا لم تتزوجه، وهو ما رضخت له الأم في مُقابل إطلاق سراح حبيبها
الروسي الذي سيكتشف آدم فيما بعد أنه لم يتم إطلاق سراحه، بل مات في المُعتقل تحت
ضغط التعذيب. سنعرف ذلك على لسان أم فاطمة: "تم زواج والدتك بالرجل الذي رباك
كابن له بسرعة قياسية، ودون رضى مُعلن من جديك، وأيضا دون حفل زفاف، ولا حتى إعلان
لأفراد العالة الكبيرة. بعدها اختفى والدك الأجنبي، وادعى زوج والدتك الجديد بأنه
أطلق سراحه كما وعدها ليعود إلى بلده بشكل نهائي. قاطعها آدم وهو يبكي مثل طفل
تائه وسط الزحام: إذن، أين اختفى والدي الأجنبي، أين ذهب؟ تاتيانا تؤكد بأنه لم
يعد لبلده. هزت أم فاطمة رأسها وهي تشير له بضرورة الهدوء لتستطيع أن تُكمل
كلامها: لم تصدق والدتك كلام الرجل الذي تزوجها تحت التهديد، لهذا السبب كانت
تُكرر عليه يوميا السؤال نفسه حتى انفجر يوما تحت ضغطها ليخبرها بغضب بأنه لم يفرج
عنه، إنما ساقه يومها مُباشرة إلى السجن الأمني، حيث تم إيداعه بتهمة التجسس، وبعد
أيام قليلة قضى نحبه تحت التعذيب الشرس. من يومها فقدت والدتك الحزينة الرغبة في
الحياة، وأيضا الرغبة في الموت، واستمرت في فتح عينيها فقط من أجل ألا تتركك وحيدا
ويتيما برفقة ذلك المُجرم الذي لا يخاف الله".
إن تأمل العالم الروائي الذي حرصت بشيري على بنائه بتؤدة وتمهل؛ يجعلنا
نتساءل: أين الجثة التي وصلت لآدم، والتي قام عليها السرد الروائي من كل هذا؟
لقد ظلت الجثة هي المُحرك الأساس للسرد على طوال الرواية حتى نهايتها؛ فآدم
بدأ يعتاد على هذه الجثة، يتعايش معها، حتى أنه أطلق عليها اسم حواء، واشترى لها
فستانا أنيقا وغاليا من أجل سترها به، كما كان يلاحظ يوما بعد آخر العديد من
التغيرات التي تطرأ عليها، من اكتسابها الحرارة شيئا فشيئا، وتحرك بعض قسمات
وجهها، أو أن يستيقظ من نومه ليجدها في وضع غير وضعها الذي تركها عليه، إلى أن
تسترد الجثة الحياة مرة أخرى في اليوم السابع من وصولها إليه، ولعل آمال بشيري هنا
قد تعمدت إعادة الحياة للجثة في اليوم السابع لما له من دلالات رمزية ودينية
أسطورية في الديانات الإبراهيمية، أي أن السبعة أيام التي كانت فيها الجثة جامدة
كانت هي أيام الخلق والتطور التي اكتسبت في نهايتها الحياة الكاملة مرة أخرى،
تماما كقصة الخلق التي انتهت في اليوم السابع في الأسطورة الدينية وإحالاتها
المُتعددة.
معنى ذلك أن بشيري تُدرك جيدا ما بدأت فيه، وبأن وجود هذه الجثة هي السبب
الرئيس الذي سيجعلها قادرة على امتلاك ذهن القارئ حتى نهاية روايتها، ومن ثم لم
تتجاهلها على طول السرد، بل ظلت تعود إليها بين صفحة وأخرى لتتابع حالتها، مما
يجعل القارئ مُستمرا معها، راغبا في معرفة التطورات التي من المُمكن لها أن تطرأ
على هذه الجثة ليعرف الإجابات التي يرغبها على الأسئلة التي تدور في ذهنه، لكن
بشيري تُفاجئنا بانقلاب السرد في نهاية الأمر حينما تستعيد الجثة حياتها، ونعرف أن
اسمها هو تاتيانا، وأنها روسية الجنسية، فضلا عن أنها شقيقة آدم الكبرى في جوهر
الأمر من أمها الروسية التي هجرها أبوها حينما ذهب إلى هذا البلد الذي مات فيه
وتعرف هناك على أمه ووقع في عشقها، لكنه لم يعد مرة أخرى إلى روسيا مما جعل الزوجة
الروسية تظن بأنه قد سقط في شراك زوجته العربية ونسيها هي وطفلتها.
هنا تنهي بشيري روايتها من دون أي إجابات على أسئلة القارئ برغبة آدم في
الذهاب مع شقيقته إلى روسيا لاستكمال الحياة في بلاد تعرف معنى الحب، والتواصل،
والمشاعر، والمحبة، لكن بعد البحث عن رفات أبيه لجمعها مع رفات أمه في روسيا. أي أنها
لم تقل لنا ما هي الجهة التي قامت بنقل تاتيانا إلى آدم في شكل جثة، ولِمَ فعلت
هذه الجهة ذلك، وكيف استعادت تاتيانا حياتها مرة أخرى، وهل كانت ميتة بالفعل أم في
حالة تجمد ما؟ وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي كانت ينتظرها القارئ، ولكن بما أن
وجود هذه الجثة كان الهدف الفني الرئيس من ورائه هو بناء السرد للانطلاق في العالم
الروائي الذي اختارته الروائية وإكسابه المزيد من التشويق، والإثارة، وبالتالي
امتلاك قطاع أكبر من الجمهور الذي لم تكن لتصل إليه لولا هذا الحدث اللامنطقي؛ فهي
لم تهتم بتقديم الإجابات التي لن تنقص السرد، بل ستزيده تشويقا، والمزيد من
التفكير في الرواية حتى بعد الانتهاء منها- أي امتلاك القارئ حتى بعد انتهائه من
الرواية.
إن رواية "هدية آدم" للروائية الجزائرية آمال بشيري من الروايات
الجادة المُهمة التي انبنت أحداثها بالكامل على أحداث غير واقعية رغم واقعية الحدث
الروائي، وهي حيلة فنية لجأت إليها الروائية لإكساب الرواية المزيد من الإثارة
والتشويق التي من شأنها امتلاك القارئ في ظل ثقافة سائدة باتت شديدة الترهل،
والسطحية، والسيولة، وهو الأمر الرئيس الذي دفع بشيري إلى انتهاج هذا الشكل الفني
كحيلة من أجل اكتساب قطاع أكبر من الجمهور الذي لا يُقبل على الأدب الرفيع، أو
الأدب الجاد والجيد بسبب انسياقه من خلف الأدب الذي لا معنى له، أو الأدب الفارغ
من المعنى، البعيد عن الأسلوبية والجماليات التي لا بد أن يتحلى بها فن الرواية. ولعلنا
لاحظنا أن بشيري كانت من الذكاء والمهارة ما جعلها بالفعل تنجح فيما فكرت فيه،
واستطاعت بمقدرة بارعة الاستحواذ على تفكير قارئها، وجذبه معها حتى الجملة
الروائية الأخيرة من أجل معرفة الإجابات على الأسئلة التي تُترى على ذهنه طوال
السرد.
مجلة "نقد 21"
عدد مايو 2025م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق