الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

قطار الملح والسكر.. رحلة الهروب من الجحيم إلى الموت


في الفيلم البرتغالي "قطار الملح والسكر" The train of salt and sugar للمخرج ليسينيو أزيفيدو Licinio Azevedo تبدو لنا رحلة القطار المتجه من "نامبولا" إلى "مالاوي" في موزمبيق وكأنها رحلة الحياة بالكامل، ومن دون هذه الرحلة فالحياة متوقفة تماما، أو لا قيمة لها.
بعد عشر سنوات من الحرب في موزمبيق تصبح الحياة مستحيلة بالنسبة لمن يعيشون في "نامبولا"؛ نتيجة النقص الشديد في السكر، حتى أنهم لا يجدون ملعقة واحدة لتحلية الشاي؛ الأمر الذي يجعل عددا كبيرا من المواطنين راغبين في السفر إلى "مالاوي" من أجل تبادل الملح الوفير لديهم بالسكر، ومن ثم العودة مرة أخرى لبيعه والتجارة فيه، فالنقص الشديد فيه قد جعل له سعرا مرتفعا، كما أن الحياة تبدو مستحيلة؛ بسبب الفقر والفاقة اللذين كانا النتيجة الطبيعية للحرب الطويلة؛ وهنا يكون من الطبيعي لهم أن يغامروا بحياتهم في رحلة محفوفة بالمخاطر والقتل من أجل الحصول على السكر والعودة به.
يبدو الأمر طبيعيا بالنسبة للمسافرين من أجل تبادل الملح بالسكر، فليس مهما لديهم التساؤل: هل سيصلون إلى مالاوي أحياء أم لا، وهم لم يفكروا كذلك في عودتهم أحياء أم لا؛ فالحياة التي يحيونها في "نامبولا" أشبه بالموت؛ ومن ثم يكون الموت بالنسبة لهم أثناء رحلة التبادل والعودة مشابها لما يحيونه في "نامبولا".
لذلك نرى من خلال هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر العديد من الحيوات المختلفة للمواطنين المسافرين من أجل الحصول على السكر، فهناك الرجل المسافر مع زوجته وطفلهما الرضيع، وهناك السيدة الحامل الذاهبة إلى أهلها بعدما تخلى عنها أبو الجنين، وهناك "روزا" الممرضة الذاهبة إلى مستشفى جديد ستعمل فيه، والعديد من الحيوات والقصص الأخرى التي نراها في رحلة هذا القطار المحفوفة بالمخاطر نتيجة وجود العديد من الجماعات المسلحة التي ستعترض طريق القطار للسطو عليه وقتل كل من فيه، ولكن على الجانب الآخر سنرى بعض الحيوات المختلفة الممثلة في الجنود العسكريين الذين يعملون على حماية القطار والرحلة ومن فيها؛ لذلك سنرى القائد الأعلى للجنود المتميز بالصلابة والتعالي بتقاليده العسكرية، والقائد "سالومون" الراغب دوما في الاعتداء على النساء الموجودات في الرحلة باعتبارهن حق له وكأنه امتلكهن بما أنه يحمي الجميع، والقائد "تيار" الذي تخرج في الأكاديمية الروسية في أوكرانيا، وهو القائد الذي يتميز بالكثير من الإنسانية واحترام الجميع؛ لذلك يعاديه "سالومون" طول الرحلة؛ لأنه يرفض سلوك "سالمون" في اعتدائه على النساء وكأنهن ملكية له، كما أنه يعترضه في العديد من التجاوزات العسكرية التي يقوم بها.
يؤكد الجنود للمسافرين منذ بداية رحلة القطار أنهم كجنود مسؤولين عن حياتهم مسؤولية كاملة، وما عليهم كمواطنين سوى طاعة الأوامر العسكرية والالتزام بما يؤمرون به والانبطاح أرضا إذا ما حدث أي هجوم عسكري على القطار حتى تنتهي المعركة، وبالفعل يلتزم جميع المسافرين بالأوامر العسكرية حينما تحدث العديد من المناوشات والهجوم على القطار أثناء رحلته، وهي الرحلة التي تتوقف أكثر من مرة إما بسبب الهجوم والقتال من أجل الدفاع عن حياة المسافرين، أو لأن قضبان القطار قد تم خلعها من قبل إحدى الجماعات؛ فينزل المسافرون من أجل إصلاحها واستكمال الرحلة مرة أخرى، أو لوجود انفجار يعمل على تعطيل رحلتهم والسطو عليهم.
أثناء الرحلة يحاول القائد "سالومون" الاعتداء على "روزا" الممرضة وأخذها في كابينته الخاصة بدعوى أنها ستطبخ له، في حين أنه يريدها كجارية له يضاجعها فقط باعتبارها ملكية خاصة له، ولكن القائد "تيار" يمنعه من ذلك وينصحها بالابتعاد عن طريق "سالومون" بالبقاء في منطقة آمنة بعيدا عن عينيه، وهنا تبدأ قصة حب بين "روزا" و"تيار" في الوقت الذي يتابعهما فيه "سالومون" راغبا فيها وساخطا على زميله راغبا في قتله، وفي نفس الوقت يقوم "سالومون" بإرغام الزوجة المسافرة مع زوجها وطفلهما الرضيع على الرضوخ له والدخول إلى كابينته كجارية له، وحينما يعترض الزوج يهدده بالقتل؛ مما يجعله يستسلم لتسليم زوجته له، لكنه بعد عدة أيام يذهب إلى القائد ليستأذنه في أنه بحاجة إلى زوجته لأن الرضيع في حاجة إلى الطعام؛ الأمر الذي يجعل "سالومون" يأمر جنوده بضرب الزوج بقسوة ووحشية لأنه تجرأ على طلب زوجته.
هنا يتدخل القائد "تيار" ويتحدث مع القائد الأعلى عن تجاوزات زميله ويطلب منه أن يوقفه عن هذه التجاوزات، ولكن حينما يجري القائد الأعلى تحقيقا في الأمر يخشى الزوج من "سالومون" وعقابه فيقر أمام القائد الأعلى أن زوجته معه، وكل ما هنالك أنها خرجت لتروح عن نفسها ثم عادت إليه وكل شيء على ما يرام.
يتخذ "سالومون" موقفا عدائيا من "تيار" ويحاول الاعتداء على "روزا" مؤكدا لها أنها ستكون له قبل نهاية رحلة القطار؛ الأمر الذي يجعل "تيار" يهدده بالقتل إذا ما اقترب من "روزا" مرة أخرى، وفي إحدى المعارك التي تهجم فيها إحدى المجموعات المسلحة على القطار وتشتبك القوة العسكرية التي تؤمن القطار بهم ينجح "تيار" في قتل قائد المجموعة المسلحة منذ بداية الهجوم؛ الأمر الذي ينهي القتال سريعا، وهنا يتربص به "سالومون" راغبا في قتله فيخرج "تيار" مسدسه للدفاع عن نفسه ويقوم كل منهما بإصابة الآخر بطلق ناري، كما يسرع الزوج الذي سبق "لسالومون" أن اعتدى على زوجته بالإجهاز عليه بسكينه، وهنا يأمر القائد الأعلى بترك جثه "سالومون" لأنه بتجاوزاته العديدة، ومحاولته قتل زميله "تيار" لا يستحق قبرا.
تحاول "روزا" إنقاذ "تيار" إلا أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة متأثرا بالطلق الناري، كما أن السيدة التي كانت حاملا في بداية الرحلة تصاب بطلق ناري أثناء إحدى الهجمات على القطار وتموت تاركة طفلها الذي أنجبته قبل الهجوم بقليل.
يصل القطار إلى محطته التالية وهو يحمل جثة القائد "تيار" حبيب "روزا" التي تودعه وتأخذ طفل المرأة المقتولة للعناية به بعدما فقدت حبيبها، بينما يستمر القطار في رحلته وكأن شيئا لم يحدث، في رغبة من المخرج في القول: "إن الحياة مستمرة، ولن يوقفها أي شيء حتى لو ماتت قصة حب، أو ماتت أم تاركة طفلها بين يدي غيرها للعناية به؛ فهذا هو الطبيعي واليومي أثناء الحروب".
ربما كان أهم ما يميز الفيلم هو أداء الممثلين خاصة الممثلة "ميلاني دو فالس رافاييل" التي قامت بدور "روزا" والممثل "ماتامبا جواكيم" الذي أدى دور القائد "تيار"، كذلك الممثل الذي أدى دور القائد الأعلى، كما كان المونتاج عنصرا مهما من عناصر الفيلم؛ الأمر الذي أدى إلى حيوية المشاهد والسيناريو بشكل متلاحق من دون وجود أي إملال أو بطء في أحداث الفيلم، ولعل التصوير والكادرات المهمة التي كان المخرج حريصا عليها لاسيما التركيز على حركة سير القطار، واللقطات القريبة لعجلات القطار كانت من أهم ما يميز الفيلم فنيا.
قطار الملح والسكر محاولة فنية لتأمل الحياة بعد الحرب في موزمبيق عام 1988م من خلال رحلة خطيرة في قطار يرغب من يقومون بها في الحياة، لكن بعضهم تنتهي حياته في هذه الرحلة.



مجلة الشارقة الثقافية 
عدد ديسمبر 2017م
 محمود الغيطاني