الأحد، 28 مايو 2023

وقُيدت ضد مجهول: سيريالية الفن في مواجهة الواقع

في عام 1974م بعد الانهيار الاقتصادي الذي حدث في مصر عقب الحرب مع إسرائيل 1973م؛ حاول الرئيس السادات- الذي كان السبب في العديد من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية- إعادة بناء الاقتصاد المصري؛ ومن ثم صدر القانون رقم 43 لسنة 1974م المعروف باسم قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي والمناطق الحُرة. وبدأت وفود من الأجانب تأتي إلى مصر لتستعلم وتدرس وتُخطط، وتُقدم العروض.

في هذا التوقيت هبط إلى مطار القاهرة وفد مكون من جنسيات مُختلفة من كندا، ومن هونج كونج، ومن اليهود، ولقد جاء هذا الوفد لأغراض غير الاستعلام والدراسة؛ فلقد كان مطلبهم إقامة شاليهات وفيلات على هضبة الأهرام، وعمل بحيرة صناعية كبيرة ذات قاع من المطاط بجوار الأهرام، واستغلال الساحل الشمالي في إقامة قرى وفنادق سياحية. وكانت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد هي أول من كتب في هذا الموضوع وكشفت خباياه، وتتلخص في أن الفريق المُستثمر القادم يبغي اتخاذ هضبة الهرم مركزا للتنقيب عن الآثار في الرمال، وتهريبها إلى الخارج، وكشفت عن تأثير بحيرة المطاط على آثار الجيزة عندما يمتلئ جوها ببخار ماء البحيرة، فضلا عن الآثار المُدمرة لتسرب مياه الصرف من المُنشآت السياحية في المنطقة.

عُرفت هذه القضية حينها باسم قضية هضبة الهرم، وهي القضية التي أثيرت عالميا للتحكيم فيها دوليا في باريس بعدما تم رفض إتمامها بعد توقيع العقود من خلال وزارة السياحة المصرية، وشركة إيجوث المصرية، ولعلنا نلاحظ أن هذا الأمر- لو كان قد تم- لم يكن سيقتصر على الاستثمار السياحي فقط، بل كان سيؤدي بالضرورة إلى تدمير هضبة الهرم وما تحويه من آثار، فضلا عن دخول الإسرائيليين، الذين انتهينا لتونا من الحرب معهم، كمُستثمرين في مصر، بالإضافة إلى سرقة الآثار المصرية وتسربها تحت ستار الاستثمار في الهضبة.

صحيح أن هذه القضية قد انتهت، فعليا، في 1974م- أي في نفس العام- إلا أن تأملها فنيا يتيح لنا الانطلاق بالخيال إلى آفاق رحبة لنتصور ما كان من المُمكن له أن يحدث لو تم الأمر، وهو ما لم ينسه المُخرج مدحت السباعي رغم مرور العديد من السنوات، ورغم تراجع مصر عن العقود التي وقعتها؛ فكتب سيناريو فيلمه الروائي الأول "وقُيدت ضد مجهول" 1981م لينحو باتجاه السيريالية والسُخرية مُتخيلا الأمر بشكل يخص الفن وحده، بعدما تعالى على الواقع المرير ليتناوله بشكل أعلى منه كثيرا؛ يوضح لنا التبعات التي كانت مُنتظرة.

إذن، فلقد بدأ المُخرج مدحت السباعي حياته السينمائية مُشتبكا مع الواقع، محاولا تأمله، وتقديمه لنا بشكله العبثي من خلال فيلمه الذي قد يجعلنا نضحك، لكنه الضحك على الذات المُمتزج بالحزن والحسرة على ما آل إليه الحال في عهد السادات في السبعينيات، وما ترتب عليه في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، أي أن المُخرج قد آل على نفسه الابتعاد عن السينما الإلهائية المُفرغة من المضمون منذ تجربته الأولى واختار تقديم السينما الجادة المُشتبكة، وإن مال إلى السخرية والسيريالية، أو ما يمكن أن نُطلق عليه "سينما المسخرة" التي تميز بها فيما بعد المُخرج رأفت الميهي، وإن كان الميهي أكثر سخرية منه وسيريالية؛ حيث ذهب بهما إلى مداهما الأقصى والمُطلق!


هذا الفيلم يجعلنا نقول: إن السباعي حينما فكر في تقديم تجربته الأولى لم يفكر في أن يكون تابعا لتيار الواقعية الجديدة، الذي بدأه المُخرج محمد خان، ولم يصنع السينما التي يقدمونها، ورغم أنه لم يكن امتدادا لهم، إلا أنه وضع نصب عينيه تقديم سينما تخصه تحمل من الجدية والسخرية ما يجعلانه يشتبك مع قضايا وطنه، وإن كان بشكل يخصه وحده.

يبدأ السباعي فيلمه في إحدى القرى البعيدة، التي لم يحددها، فنرى الفلاح صابر- قام بدوره المُمثل محمود ياسين- الجالس في حالة عشق مع حبيبته هنية- قامت بدورها المُمثلة صفية العمري- بين المزروعات محاولا وداعها قبل سفره إلى القاهرة حيث سيعمل هناك كعسكري في وزارة الداخلية، ويثبت للجميع أنه ليس مُجرد رجل فاشل كما يقولون عنه؛ لذلك يقول لها بثقة: ساعتها هرجع لأهل البلد، وأوريهم مين هو صابر عبد الرحيم اللي طول عمرهم بيقولوا عليه خايب ومنحوس، هوريهم هيبقى إيه مركزه في الحكومة.

إذن، فهو يحمل داخله من الآمال والأحلام من أجل تحقيق ذاته ما يجعله راغبا في العمل كعسكري في الداخلية، كما كان السبب الأول في هذه الرغبة اكتساب المال الشحيح في القرية والعودة مرة أخرى إلى قريته كي يتزوج من حبيبته هنية.

لعل السباعي كان من الإتقان ما يجعلنا نصدق بأن صابر مُجرد شخص شديد السذاجة، لم يغادر قريته مرة واحدة في حياته، كما أنه لا يدري أي شيء عن العالم خارج هذه القرية، وهو ما رأيناه بشكل عملي في مشهده حينما وصل إلى محطة سكك حديد مصر لأول مرة، وتردده، وتراجعه للخلف وقد امتلأ بالخوف حينما حاول أن يخطو بقدمه خارجها؛ فبمُجرد ما رأى القاهرة وازدحامها، وواتساعها خاف منها مُتراجعا مرة أخرى بظهره، إلى أن استعاد رباطة جأشه وخرج ليذوب بين الجميع.

يصل صابر إلى مركز التدريب، ويتم تكليفه بحراسة إحدى المناطق السكنية ليلا، لكن تقع العديد من السرقات في المنطقة المُكلف بحراستها؛ الأمر الذي يعرضه للفت النظر والتحقيق معه، بل ونقله إلى حراسة منطقة أخرى، ولأن صابر معروف عنه بأنه منحوس- كما كان يقول عنه أهل قريته- تتم سرقة خمس سيارات في المنطقة الجديدة التي انتقل إليها؛ الأمر الذي يعرضه للاستغناء عنه من عمله، لكن إحدى إدارات الداخلية تجتمع برئاسة نظيم بك- قام بدوره المُمثل مُحسن سرحان- للتحقيق في أمر هذا العسكري الذي كلما تم تكليفه بحراسة منطقة من المناطق تتم سرقتها؛ حيث بدأوا في التشكك بأنه مُتآمر مع من يقومون بالسرقة!


يؤكد الضابط رشدي- قام بدوره المُمثل عزت العلايلي- لنظيم بك أنه كان قد تشكك بدوره في صابر لكنه حينما وضعه تحت المُراقبة أثناء نوبة حراسته اتضح أن الأمور كلها تسير على ما يرام وفجأة تظهر السرقات بشكل لا تفسير له. يلومه نظيم على هذا الكلام، ويطلب منه التدقيق في مُراقبته ونقله لحراسة منطقة الأهرامات، لكن المُفاجأة هذه المرة تتضح لنا في سرقة الهرم الأكبر/ خوفو أثناء نوبة حراسته؛ الأمر الذي يهز الرأي العام العالمي بأكمله، وتتداوله وكالات الأنباء العالمية، بل ويتم تشديد الحراسة على جميع الآثار في العالم تخوفا من سرقتها بدروها!

إن محاولة المُخرج تقديم الأمر بشكل فيه من السخرية والسيريالية تتضح لنا في سرقة الهرم؛ فهو من الضخامة التي لا يمكن لها أن تسمح بسرقته؛ فالحجر الواحد فيه يزن المئات من الأطنان. وهو ما نراه حينما يقول المذيع في التليفزيون: وقعت منذ لحظات أغرب حادثة عرفها التاريخ، فقد اختفى، وفي ظروف غامضة، هرم خوفو الأكبر!

هذه السيريالية المُغرقة في السخرية سنلاحظها أيضا حينما يتم تحويل صابر للتحقيق- باعتباره المُتهم الأول في سرقة الهرم- حينما يقول للضابط رشدي: أنا طول نوبة الحراسة وأنا عمال ألف حوالين الأهرامات دايرن داير زي طور الساقية، مبعدوش عن عنيا لحظة واحدة، لما جم بقى يستلموا مني الصبحية الحراسة؛ لقيتهم ناقصين هرم! اتلفت يمين، اتلفت شمال إني ألاقيه، مفيش، زي ما يكون فص ملح وداب. ليرد عليه رشدي مُنفعلا غاضبا: هرم خوفو يا صابر، يضيع زي فص الملح؟!

ألا نُلاحظ هنا قدر السُخرية والسيريالية التي تميز أحداث الفيلم، وهو ما حرص عليه منذ البداية المُخرج مدحت السباعي؟ فالحوار بين كل من صابر ورشدي نفسه لا يحتمل الاقتراب من الواقع بأي حال من الأحوال؛ فكيف تتم سرقة الهرم الأكبر، وكيف يتلفت إلى اليمين أو اليسار من أجل البحث عنه وكأنه مُجرد كرة مُختفية عن أنظاره بينما جميعنا يعرف ضخامة الهرم؟!

إذن، فقد ارتفع السباعي كثيرا بالحدث وفكرته فوق الواقع؛ كي يتأمله بهدوء، وكأنه يضحك عليه، لكنه الضحك المرير الذي يجعله يتخيل سرقة الهرم الأكبر وكأنه مُجرد شيء من المُمكن لنا أن نضعه في إحدى الحقائب والهروب به!


إن تأمل السباعي للواقع المرير الذي عاشت فيه مصر في هذه الحقبة الزمنية يجعله يوغل أكثر في سُخريته من كل شيء، فيبدو لنا الأمر بمثابة السُخرية من المُجتمع، والمُعتقدات الدينية، والأيديولوجيات، والأفكار، والثقافة أيضا، أي أنه يسخر من كل شيء يحيط به، وكأنه يعمل على تفكيكه.

هذه السخرية نراها في راكب الأتوبيس المُتدين الذي يدلو برأيه في قضية سرقة الهرم لغيره من الركاب حينما يقول أحدهم: أما غريبة أوي حكاية الهرم دا. فترد إحدى الراكبات: اشمعنى يعني الهرم اللي انتوا زعلانين عليه أوي؟ ما هو كل حاجة بقت بتختفي اليومين دول، السُكر، والسمنة، والصابون، دا حتى الرز راخر مبقيناش لاقينه. فيقول أحد الرجال المُلتحين: تصدقوا بالله يا إخوانا، أنا فرحان أوي إن الهرم اختفى، وكفاية الفسق والفجور اللي كان بيحصل حواليه كل ليلة، الشاب من دول بياخد له واحدة من إياهم ويقعدوا هناك بالساعات، ولا الكباريهات اللي كانت مالية شارع الهرم على الصفين، يا شيخ بركة إنه غار، بلا مسخرة وقلة أدب!

في الحوار السابق يتأكد لنا أن المُخرج مُنغمس حتى النخاع- رغم سيرياليته وسُخريته- في الواقع المُحيط به ومشاكله التي يعاني منها الجميع؛ فالمرأة التي علقت على اختفاء المواد التموينية تؤكد على القضايا التي يعاني منها المواطن في هذه الفترة الزمنية، وارتفاع الأسعار، والتجارة في السوق السوداء، وهو ما قد يؤدي إلى انشغال المواطن عن قضية خطيرة مثل اختفاء الهرم؛ نظرا لأن المواطن مُنشغل في المواد التموينية غير المتوفرة كي يحقق لنفسه القدر الأبسط من الحياة في المأكل. كما لا يفوتنا نظرة الرجل المُتدين للأمر من وجهة نظره الضيقة التي جعلته لا يرى في الهرم/ الأثر سوى رمزا للفساد والفجور! أي أن المُخرج يسخر هنا من المُعتقدات الدينية من خلال منظورها الضيق.

هذه السخرية تتسع لتشمل الأيديولوجيات أيضا حينما نرى أحد الشيوعيين يخطب في زملائه قائلا: أيها الرفاق الأعزاء، اسمحوا لي أن أسأل: لماذا كل هذا الضجيج حول موضوع اختفاء الهرم الأكبر؟ ثم ما هو هذا الهرم الأكبر؟ اسمحوا لي أن أجيب: لقد بناه أجدادنا تحت ضربات سياط الفرعون خوفو الذي ساقهم من كل أنحاء الوادي، وسخرهم بالقهر والقيد والجبروت؛ لكي يشيدوا له مقبرة تحمل اسمه! أيها الرفاق: إننا لا بد أن نسعد لاختفاء الهرم؛ لأنه كان الرمز الأكبر لسيطرة البرجوازية واستغلالها لقوى الشعب الفرعوني العامل!

المُخرج: مدحت السباعي

أي أن كل قطاع من قطاعات المُجتمع يرى القضية من خلال وجهة نظره الضيقة، مُنصرفين في ذلك عن الحدث الأخطر الذي يمثل في النهاية الرمز الحقيقي لمصر، وكيانها، حيث يهدف المُخرج من الحديث عن سرقة الهرم إلى ضياع الجوهر الحقيقي والوجودي للدولة من خلال هذه السرقة.

نرى ذلك أيضا في قول أحد العلماء/ عويس- قام بدوره المُمثل محمود القلعاوي- حينما يستضيفه التليفزيون فيقول: اللي بنوا الأهرامات من سكان كوكب آخر، مُتقدمين عنا آلاف السنين، جم ونزلوا في الأرض، عاشوا فيها من 7000 سنة، وبعدين رجعوا! رجعوا بعد ما سابوا لنا أثر ضخم ينم ويؤكد على التقدم العلمي والمعماري اللي وصلوا له، وأنا واثق إن سكان الكوكب دوكهم هما اللي نزلوا وسرقوا الهرم! لأن الصورة التي تمت بيها السرقة دي أكبر من إمكانيات أي حد من سكان الأرض! ودا إنذار منهم لسكان كوكب الأرض؛ لذا أنا بحذرهم وبقول لهم: إن كوكب الأرض مُهدد بالاحتلال والغزو من سُكان الكواكب الأخرى!

ويقول الدكتور مخلوف الروحاني: الطريقة الوحيدة اللي هنقدر نعرف بيها الهرم راح فين إننا نحضر روح الملك خوفو! روح الملك خوفو هي اللي هتدلنا على مكان الهرم! أومال إيه؛ مش هو اللي مدفون فيه؟!

ويقول أحد أصحاب الملاهي الليلية حينما تستضيفه المذيعة: مُعظم الملاهي اللي موجودة في البلد موجودة في شارع الهرم، ومن يوم ما حصلت الكارثة والمُصيبة السودة اللي حصلت دي؛ واتقفل شارع الهرم أصبحنا حاليا كل الملاهي الليلية في حالة توقف، احنا بنخسر يوميا حوالي 300 ألف جنيه، كان بيدفعها السياح الأجانب والإخوة العرب في ملاهي شارع الهرم، متنسيش إن فيه حاجة مُهمة جدا، إن الملاهي الليلية دي كانت مصدر رزق لناس كتير ومنهم الراقصات، احنا عندنا 3000 رقاصة، ربنا يديهم الصحة، في حالة بطالة حاليا. يترتب على هذا موقف غريب جدا، إنهم بيضطروا ينزلوا عشان يرقصوا في الحفلات الخاصة اللي بتتعمل في الشقق والفلل. وهو ما نلاحظه أيضا في قول أحد المُنتجين السينمائيين للمذيعة حينما تسأله عما إذا كان موضوع سرقة الهرم يصلح كمادة لفيلم سينمائي؛ فيرد عليها: سرقة هرم؟! سرقة هرم إيه، وبتاع إيه؟! الموضوع دا مينفعش في الحلاوة، يعني فين الأدوار النسائية؟ مفيش أدوار نسائية، فين الرقصات والأغاني الشعبية؟ مفيش، مش كدا؟ طيب، فين المواقف الدرامية والألاعيب الميلودرامية؟ مفيش، يبقى مينفعش!


هل من المُمكن أن تصل السخرية من كل قطاعات المُجتمع لما هو أبعد من ذلك؟ إن المُخرج، هنا، حريص على الإيغال فيها ليحاول الوصول إلى حدها الأقصى، وهو في هذا الإيغال إنما يُدلل على مُجتمع شديد التفسخ، والتغيب في كل قطاعاته من دون استثناء أي قطاع فيها، وهذا الأمر لا بد له أن يدل على نظرة واعية ومُحللة لما يدور من حولنا، ومحاولة التأمل من خلال أحداث فيلمه- ليس تأمل الأمر من خلال المُخرج فقط، بل هو يدفع المُشاهد للتأمل الواعي لما يدور من حوله؛ عله يستطيع إصلاح أي شيء من الأمر قبل الانهيار الشامل، والتغيب عن كل شيء.

لم يكتف المُخرج مدحت السباعي، من خلال سُخريته الموغلة، بانتقاد المُجتمع فقط؛ فهذا المُجتمع ليس نتاج نفسه، بل هو نتاج مجموعة من السياسات السُلطوية، والاقتصادية، والسياسية التي أدت به إلى مثل هذه الحالة المُغرقة في التغيب- وهي السياسات التي مارسها نظام السادات، وعبد الناصر من قبله؛ فأفسدا كل شيء- لذلك يعرج المُخرج، هنا، على انتقاد السُلطة السياسية وبيان فسادها الموغل الذي كان السبب الرئيس في فساد المُجتمع بدوره، وهو الأمر الذي يذكرنا بقول القانوني الدكتور محمد عصفور: عندما يصيب الفساد القمة؛ فانه ينحدر كالسيل جارفا أمامه كل الإرادات والقيم.

هذا الفساد السُلطوي يتجلى لنا في قول المسؤول في وزارة الداخلية/ نظيم حينما يتحدث إلى الضابط رشدي بعد إخباره بأنهم قد شددوا الحراسة على كل المطارات والموانئ لمنع خروج الهرم من مصر؛ فيقول نظيم: أنا ميهمنيش الهرم يخرج ولا يتحرق! أنا كل اللي يهمني إن القضية تُستوفى قانونيا، فيه سرقة يبقى لازم يكون فيه سارق، فيه جريمة يبقى لازم يكون فيه مُجرم. المُهم نوصل للمُجرم، ولحد كدا يبقى دورنا انتهى، بعد كدا تبقى المسألة في إيد المحاكم والقضاء، ودول ملناش دعوة بيهم خالص. المُهم لازم نوصل للمُتهمين ونثبت التهمة عليهم!

أي أنه ينتقد نظام الشرطة والسُلطة في مصر- وهو ما نراه في مُعظم الدول العربية من فساد، وليس في مصر وحدها، حيث يحاول كل قطاع من قطاعات الدولة إلقاء اللوم على الآخرين وتخليص أنفسهم من الاتهام أو المسؤولية بالتقصير مُتناسين في ذلك القضية الجوهرية والأهم- لذلك يبدأ رشدي التحقيق مع الكثيرين ممن لا ذنب لهم في أي شيء؛ فيحاول تارة اتهام اليسار والشيوعيين بأنهم هم من تآمروا من أجل سرقة الهرم مع جهات خارجية؛ لأنهم يرغبون في تدمير البلد، ومن ثم ألقى بهم في السجن أولا، ثم في مُستشفى الأمراض العقلية، وتارة أخرى يحقق مع الموظف الفقير المسؤول عن منطقة الهرم، ويتهمه بسرقته لأنه المسؤول عنه، وبالتالي يحاول ظُلم الكثيرين لمُجرد إخلاء مسؤولية الداخلية عن الأمر، بل يصل الفساد حتى مداه الأقصى حينما يتصل رئيس الجمهورية بنظيم؛ الأمر الذي يجعل نظيم يقول لرشدي: أنت عارف أد إيه أنا بثق فيك، سعادة الباشا لما كلمني من شوية بالتليفون فهمني إن مسألة الهرم الجهات العليا هي اللي هتتصرف فيها، واحنا مش مطلوب مننا غير عمل التحقيقات وبس. عشان كدا أنا عاوزك تنزل مكتبك دلوقتي، وقدامك النهاردا وبكرا وتجيب لي ملف كامل للتحقيقات اللي أنت عملتها، وبمُجرد ما نقدم المُتهمين للنيابة؛ يبقى خلصنا نفسنا ونشيل إيدنا من الموضوع، ونسيبهم لما يتصرفوا، نشوف هيرجعوا الهرم ازاي!


إنه الفساد الضارب في كل شيء، وهو الفساد الذي يتأمله المُخرج ويقدمه لنا بشكل يحمل الكثير من السُخرية والسيريالية والعبثية، بل والكوميدية أيضا؛ علنا نفيق مما وصل إليه المُجتمع المصري في هذه الفترة الزمنية التي نخر فيها الفساد جذور هذا المُجتمع بادئا من السُلطة السياسية ليصل إلى قاع المُجتمع!

حينما يعلم نظيم أن لجنة من اليونسكو ترغب في مُقابلة صابر مع الصحافة العالمية من أجل معرفة الحقيقة في قضية سرقة الهرم باعتباره المسؤول الأول، بما أن السرقة قد تمت في نوبة حراسته، وبما أن الداخلية لا تستطيع منعهم من مُقابلة العسكري صابر، حتى لا يُقال أن الداخلية المصرية تخفي المعلومات عن الصحافة العالمية، وتتواطأ مع السارق؛ يفكر في إخفاء صابر عنهم بوضعه في مُستشفى المجانين، مُتهما إياه بالجنون؛ وبالتالي لا يمكن لأحد أن يقابله أو يأخذ أقواله بشكل جدي بسبب جنونه.

هنا يوغل المُخرج في قسوته الناقدة للمُجتمع المصري الذي بات لا يمكن التعايش مع ما يحدث داخله بسهولة؛ فنرى في المشفى العديد من النماذج الاجتماعية والمُثقفة الذين يدعي البعض منهم الجنون للهروب من العالم الخارجي وعدم قدرته على التفاعل معه، مثل الموسيقار، والطبيب الذي كان طبيبا في المُستشفى، لكنه فضل ادعاء الجنون ليكون مع النزلاء، وغيرهم من النماذج الكثيرة الأخرى، أي أن المُخرج، هنا، يقدم لنا مُجتمعا آخر موازيا، ورغم أن هذا امُجتمع الموازي هو الأفضل والأكثر اكتمالا من المُجتمع الخارجي المُشبع بالفساد، إلا أنه يكاد أن يقول لنا: إن الفساد السائد في كل مكان، والمتفشي في كل شيء؛ جعل من هم غير قادرين على تعاطي هذا الفساد يبتعدون عن العالم بادعاء الجنون للانفصال عن العالم الخارجي المُنهار تماما.

في المشفى يتعرف صابر على نزلائها، ويفهم منهم الكثير من الأمور، بل يعرف مدى وقدر المُؤامرة حول سرقة كل شيء في مصر- تاريخها، وآثارها، وثقافتها- فيصاب بالكثير من الرعب، وحينما تعلم هنية/ حبيبته بأمر اتهامه ودخوله المشفى من الجرائد تسافر إلى القاهرة بحثا عنه، وتصدق حديث الضابط رشدي الذي يقنعها بأن صابر لا بد له من الاعتراف على من ساعدهم في سرقة الهرم باعتباره متعاونا معهم، وبالفعل تحاول إقناعه بالاعتراف؛ فيندهش منها لأنها تتحدث مثلهم وتصدق بأنه قد تعاون في هذه السرقة اللاعقلانية؛ فيخبرها بأن هذا الهرم بناء ضخما لا يمكن لشخص سرقته مُطلقا.

يظهر الهرم الأكبر فجأة في إحدى قرى المكسيك، بعدما يتم إغلاق القضية وتقييدها ضد مجهول، وتبدأ المفاوضات بين الحكومة المصرية والمكسيكية من أجل استعادة الهرم مرة أخرى. ويخرج صابر من المشفى ليعود إلى قريته مرة أخرى بعدما عرف الكثير من الحقائق والفساد الذي لم يستوعبه إدراكه، لكن المُفاجأة الجديدة التي لم يكن ينتظرها أحد مُطلقا هي وقوع سرقة جديدة لنكتشف أن هذه السرقة الجديدة هي سرقة نهر النيل، وهي القضية التي يتم تقييدها أيضا ضد مجهول في إشارة من المُخرج إلى أن كل شيء في مصر في هذه الفترة كان مُعرضا للسرقة والنهب، لا سيما أنه بعد اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل تُركت الحرية لإسرائيل في استغلال مياه النيل، وفي هذا الأمر كان ثمة سرقة للنيل نفسه!

إذن، فالمُخرج هنا لا ينتقد فقط، ولا يحاول الجنوح باتجاه السيريالية على امتدادها الأقصى فقط لمُجرد أنها تستهويه، بل يحذر تحذيرا حقيقيا من سرقة الكيان المصري بأكلمله نتيجة السياسات الخاطئة على كل المستويات، وهي السياسيات التي تمارسها السُلطة السياسية في مصر في هذه الحقبة من تاريخها!

في فيلم المُخرج مدحت السباعي الروائي الأول نلحظ الجنوح المُتعمد باتجاه السُخرية، أو ما يمكن أن نُطلق عليه سينما المسخرة، ولعل المُخرج قد لجأ إلى مثل هذا الاتجاه الفني عامدا؛ حتى لا يكون مُباشرا في النقد السياسي، فضلا عن الارتفاع بفيلمه إلى شكل فني أفضل، فيه من الكوميديا السوداء ما يجعلنا ننتبه إلى خطورة ما يحدث من حولنا، لكن لا يعني جودة الفيلم من الناحية الفنية، واكتماله إلى حد بعيد أنه لم يخل من الأخطاء التي لم نفهم كيف لم ينتبه إليها المُخرج لا سيما المشهد الذي نرى فيه الضابط رشدي يتجه مع معاونيه بعد سرقة الهرم إلى الهضبة ليقول لأحدهم: رفعتوا البصمات؟ فيرد عليه أحدهم: أيوة يا فندم، كله تمام!


إن هذا المشهد الشديد السذاجة جعلنا نتوقف أمامه مُتسائلين: ما هي البصمات التي يمكن رفعها في هضبة الهرم الرملية، وعن أي شيء سوف يتم رفع البصمات، أي أين الشيء الذي من المُمكن لهم أن يرفعوا عنه البصمات؟!

يبدو أن المُخرج لم ينتبه إلى هذه الجملة الفادحة التي كتبها في سيناريو فيلمه مُعتمدا في ذلك على الكليشيهات المُعتادة دائما في الأفلام فيما يخص الشرطة التي لا بد لها أن تسأل مثل هذا السؤال الساذج.

لكن، رغم هذه الهفوة البسيطة والساذجة، لا يمكن إنكار أن المُخرج قد نجح بالفعل في تقديم نفسه من خلال تجربته الأولى كمُخرج له تجاه يخصه، محاولا تقديم سينما جادة تشتبك مع الواقع وتناقشه؛ لتجعلنا نتأمله محاولين تقديم بعض الحلول، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حال المُجتمع المصري في هذه الفترة الزمنية السوداء.

 

 

محمود الغيطاني

 مجلة مصر المحروسة

عدد مايو 2023م.

السبت، 13 مايو 2023

قصة ملك الصحافة: هل حارب تركي السديري طواحين الهواء؟!

في الفيلم التسجيلي "قصة ملك الصحافة" للمُخرج السعودي حسن سعيد ثمة سؤال يتبادر على ذهن المُشاهد، حتى أنه يظل يدق على عقله طوال مُدة عرض الفيلم: ماذا لو كان تركي السديري يحارب طواحين الهواء؟ وماذا لو كان قد تلاشى مجهوده الضخم سدى وكأنه لم يفنِ عمره بالكامل من أجل الحريات، والعالم الصحفي؟

بالتأكيد لو حدث ذلك لتحولت قصة حياته إلى كذبة ضخمة عاشها، مُصدقا إياها، لم تؤت أكلها في نهاية الأمر.

يكتسب فيلم "قصة ملك الصحافة" أهميته من الشخصية الرئيسية التي يدور من حولها الفيلم- تركي السديري، رئيس تحرير جريدة الرياض سابقا- وهو الرجل الذي نهض بالجريدة نهضة شاملة وكبيرة لم تكن مُنتظرة، فضلا عن إفنائه لحياته بالكامل من أجل الدفاع عن الحريات، سواء على المستوى الشخصي- الضيق- أو المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي- الأوسع.

يتناول المُخرج حسن سعيد حياة تركي المُبكرة، مُنذ وُلد في قرية فقيرة، تكاد تكون بيوتها بالكامل مبنية بالطين- استعان المُخرج في فيلمه بالعديد من الشخصيات للحديث عن تركي، منهم ابنه مازن، وسعد الحميدين، وإبراهيم القدير، ويوسف الكويليت، وعبد الرحمن الراشد- أي أن المُخرج هنا إنما اعتمد الشكل الكلاسيكي لصناعة الفيلم التسجيلي، وهو الشكل المُعتمد على مجموعة من اللقاءات الثابتة أمام الكاميرا من أجل الحديث عن شخصية ما، أو حدث له أهميته.


لكن، رغم اعتماد المُخرج للشكل الكلاسيكي في صناعة فيلمه- تطور الفيلم التسجيلي كثيرا بالتداخل بين الأجناس الفيليمية المُختلفة؛ وبالتالي صرنا نرى أفلاما تسجيلية تتداخل مع الروائي، والتحريك، أي أن الحدود بين الأجناس قد زالت تماما، أو تكاد- إلا أن استعانته بالأرشيف- سواء كان الأرشيف الصحفي، أو العديد من اللقاءات- بالإضافة إلى تقطيعه لهذه اللقاءات في المُونتاج بحيث لا تكون طويلة ومُملة، كل هذا أكسب الفيلم المزيد من الحيوية، وكسب أيضا انتباه المُشاهد الذي ظل مُرتبطا بما يدور أمامه على الشاشة، مُستمتعا به، حتى نزول تيترات النهاية بعد وفاة السديري التي تركت بأثرها على مُشاهد الفيلم.

إذن، فالمُخرج يعي جيدا قدر الشخصية التي يقوم بصناعة فيلمه عن حياتها، وأهميتها في الحياة الثقافية، والاجتماعية في مُجتمع مثل السعودية- حيث الانغلاق الكامل في كل شيء، وتحريم كل شيء، وعدم امتلاك أحد لحريته، وبالتالي كان الحديث عن الحريات في الفترة الزمنية التي عاش فيها بمثابة الكارثة على كل المستويات، لكنه رغم ذلك كان مُناضلا من أجل ما يؤمن به، واستمر فيما يفعله بمُساندة- من حين لآخر- من الملك سلمان، الذي كان أميرا للرياض في ذلك الحين.


صحيح أن السديري قد بدأ حياته الصحفية في مجال التغطية الصحفية الرياضية، مع ما كان يميز كتابته التي يقوم بصياغتها بأسلوب أدبي- نظرا لأنه كان يكتب القصة فيما قبل- إلا أنه اتجه فيما بعد للصحافة السياسية؛ فكتب فيها وتابع الأحداث العالمية، والمحلية مُحللا إياها، الأمر الذي أدى إلى الكثير من المُشكلات التي تعرض لها في حياته، لدرجة إيقافه عن العمل والكتابة لمُدة عام كامل!

إن جدية وأهمية ما يكتبه السديري جعل محمد العجيان- الذي كان مُديرا لتحرير جريدة الرياض، ويقوم بعمل رئيس التحرير- يجتمع بمجلس الإدارة لاختيار رئيس تحرير للجريدة؛ ومن ثم وقع الخيار على تركي السديري ليكون رئيسا للتحرير.

لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل القرار الذي اتخذه محمد العجيان مع مجلس إدارة الجريدة؛ فالعجيان الذي كان يقوم بمهام رئيس التحرير، كان من الأجدى له أن يجتمع بمجلس الإدارة والتصويت على اسمه من أجل أن يكون هو رئيس التحرير، لا سيما أنه يقوم بهذا العمل مُنذ فترة تحت مُسمى مُدير التحرير، لكننا فوجئنا باختياره لتركي السديري، ورغم رفض السديري للأمر في بداية الأمر، حيث رأى أن العجيان هو الأولى بذلك، إلا أن العجيان أصر على أن يكون السديري رئيسا لتحرير جريدة الرياض؛ لكفاءته وجديته.

لكن، هل كان ظن العجيان، واختياره في محلة بالفعل؟


حينما تولى السديري رئاسة تحرير جريدة الرياض كان عدد صفحاتها ثماني صفحات فقط، لكنه ضاعف عدد الصفحات كثيرا، وجذب الكثير من الإعلانات التي ساهمت في رفع مستوى الجريدة المالي، فضلا- وهذا هو الأهم- عن استقطابه لكفاءات وكتاب من جميع الدول العربية من أجل الكتابة في جريدة الرياض، وهذا التعدد الثقافي أدى إلى أن تكون الجريدة من أهم الجرائد في المملكة، وربما الدول العربية المُحيطة؛ لأنها باتت عبارة عن مُلتقى ثقافي، وفني، وفكري، وسياسي، لجميع التيارات في المنطقة العربية، لكن الأهم كان اهتمام السديري بمصالح الصحفيين الذين يعملون معه في الجريدة؛ ومن ثم ضم إلى مجلس الإدارة مجموعة كبيرة من الصحفيين، حتى وصل نصف عدد أعضاء مجلس الإدارة من الصحفيين- تبعا لما ورد على لسان عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط!

إذن، فتولي السديري لرئاسة تحرير جريدة الرياض لم يكن مُجرد منصب إداري فقط، بل كان نهضة شاملة في حياة الصحيفة التي تحولت إلى أهم الصحف في المنطقة، لتنافس صحيفة الأهرام في ذلك الوقت- وهو ما جعل صحيفة الرياض تفوز على صحيفة الأهرام في إحدى المُسابقات رغم تساويهما في نقاط المستوى الصحفي، لكن جريدة الرياض فازت بسبب اهتمامها أكثر بالصحافة الإليكترونية التي اهتم بها السديري، ولم يهملها.


لكن، لأن السديري استكتب الكثير من الكفاءات الخارجية من العرب، كادت أن تقوم عليه ثورة من أعضاء مجلس الإدارة، لأنهم لا يستلمون أموالا من أرباح الجريدة؛ وبالتالي رغبوا في إقالة السديري بدعوى أنه ينفق أرباح الجريدة على الكتاب من الخارج!

في الحقيقة أن تركي السديري لم يفعل ذلك، ولم يُضيّع أموال الصحيفة، بقدر رغبته في تطويرها ونهضتها بشكل أشمل وأكبر، لكنه طلب منهم إعطائه الفرصة، وبالفعل وصلت لجميع أعضاء المجلس أرباحهم.

ربما كانت المعركة الكبرى في حياة السديري- المُتطلع إلى الحرية، والمُنافسة الصحفية، والوصول بالصحيفة إلى أعلى المراتب، والآفاق- كانت معركته مع وزارة الإعلام السعودي، حيث كانت الوزارة تبدي الكثير من المُلاحظات والاعتراضات على ما تنشره الصحيفة من صور للفنانين والفنانات، وبعض الأخبار، وغير ذلك مما تراه وزارة الإعلام- في زمن مُغرق في الظلام، والتشدد الديني، وتحريم كل شيء- غير لائق، ولا يجب الحديث فيه أو الإشارة إليه. ولأن الوزارة كثيرا ما تدخلت في الشأن الصحفي؛ فلقد عُرفت بين الصحفيين باسم وزارة النفي، ووكالة الإشادة- نظرا لأن الوزارة كانت كثيرا ما تستخدم مُفردة أشاد.


إن تدخل وزارة الإعلام السعودي واعتراضها على الكثير مما تنشره الصحف، لا سيما جريدة الرياض؛ يؤدي بالضرورة إلى انتفاء المُنافسة الصحفية مع غيرها من الصحف في جميع الدول المُحيطة بها، وبالتالي إقبال القارئ على الصحف العربية الأخرى، والإعراض عن الصحف المحلية التي لا تغطي الخبر كما يجب- بسبب المنع من وزارة الإعلام- وهو ما جعل السديري غير قادر على الصمت؛ لأن أفعال وزارة الإعلام ستؤدي إلى تراجع صحيفته وعدم أهليتها للمُنافسة، أو الصمود أمام غيرها من الصحف، وبالتالي سيكون الأمر بمثابة الفشل له أيضا باعتباره رئيسا للتحرير.

كتب السديري مقاله المُهم "وزارة الإعلام تُحرم على الصحف ما تُحلله لنفسها بما يخدم ترويج الصحف غير السعودية في السوق المحلية"، لكن لسوء حظه أن مقاله قد جاور تقريرا صحفيا يصف وزارة الإعلام "بوزارة النفي"، حيث بدا الأمر وكأنما التقرير جزء من مقال السديري؛ الأمر الذي أدى إلى غضب وزير الإعلام، وإيقاف تركي السديري عن الكتابة، وعزله أيضا من رئاسة تحرير صحيفة "الرياض".


استمر إيقاف السديري ما يُقارب العام الكامل، إلى أن لجأ إلى الملك سلمان- الذي كان أميرا للرياض في ذلك الوقت- وأخبره بالأمر، حيث تدخل الملك سلمان- الذي كان معروفا بأنه صديق الصحافة- في الأمر، وعاد مرة أخرى لرئاسة تحرير صحيفة الرياض.

لم تكن هذه هي الأزمة الأولى ولا الأخيرة في حياة السديري الذي مر بالكثير من المعارك طوال حياته، فلقد تعرضت حياته كثيرا للخطر بسبب ما يقوم بكتابته، لا سيما بعدما كتب عن إيران، وبدت كتابته مُهاجمة لها، كذلك بعد الأحداث الإرهابية التي حدثت في المملكة عام 2003م؛ الأمر الذي دفع السديري لشراء سيارة مُصفحة للتنقل بها، فضلا عن فرض الحماية عليه وعلى بيته من قبل مُؤسسته الصحفية، وبأمر كذلك من الملك سلمان، حينما بدت حياته مُهددة.

لكن الأزمة الأبرز كانت بسبب مقاله الذي كتبه عن لبنان، والذي أدى إلى أزمة دبلوماسية استمرت لفترة إلى أن كتب اعتذاره الرسمي، حيث كتب مقاله "لماذا لا يعود لبنان إلى سوريا"؛ الأمر الذي أدى إلى اعتراض رسمي من لبنان على ما كتبه السديري، وحينما كتب مقالا ثانيا يحاول فيه شرح مقاله الأول وتوضيحه، لم يقبل أحد بالأمر، إلى أن انتهى الأمر باعتذاره الرسمي، لتنفض الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.


إن الجهد الضخم الذي قام به تركي السديري من أجل النهوض بصحيفة الرياض- تبعا لحديث هاني الغفيلي، حققت الصحيفة في عهده مبيعات تعدت 100 مليون نسخة! قد يبدو الرقم مُبالغا فيه، لكنه في النهاية دال على التقدم الكبير للجريدة تحت رئاسة تحريره- وتقدير الجميع لما يبذله من جهد صحفي، ونجاح السديري في توفير الكثير من الموارد المالية لها، وغير ذلك، وحريته وشجاعته في التعبير والحديث عما يؤمن به- حتى لو كان المُجتمع بالكامل يراه غير لائق، أو حتى مُخالفا لوزارة الإعلام- ودفاعه عن الحريات العامة والخاصة، وبالتأكيد مُساندة الملك سلمان له كثيرا حينما كان أميرا للرياض. كل هذه الأمور أدت إلى أن اقترب منه الملك عبد الله في إحدى الوفود الصحفية، ووقف أمامه مواجها ليقول له الملك عبد الله: أنت ملك، وأنا ملك. أنت ملك في الصحافة، وأنا ملك آخر.


من هنا اكتسب تركي السديري لقبه الذي يستحقه كثيرا- ملك الصحافة- فلولا جهود السديري من أجل الحريات، والحديث فيما يراه مُناسبا للصحافة، لكانت الصحافة السعودية قاصرة حتى اليوم، ولما سمع عنها أحد، أو أقبل عليها، إنها الحريات والتسامح التي آمن بها السديري، والتي جعلت الكاتب العراقي رشيد الخيون يشيد به أثناء حكايته عن لقائه الأول به في بيته، حيث لمح لوحة مُعلقة على جدار بيت السديري، وهي لوحة لحصان الحسين، ومقتله، فأبدى الخيون دهشته، لكن السديري أكد له على أن اللوحة أعجبته لذلك قام باقتنائها، أي أنه لم ير أنها لوحة تعبر عن اختلاف طائفي مثلما ينظر إليها الآخرون، وهو ما يؤكد على انفتاحه على الآخر، وتشجيعه لكل أنواع الحريات مهما كانت، حتى لو كانت حرية المُعتقد، وهي حق أصيل لكل إنسان.


يتابع المُخرج السعودي حسن سعيد حياة، وأحلام، ونجاحات، ونضالات، وإخفاقات، وأزمات تركي السديري، ومقدرته على تكوين مدرسة صحفية تخرج فيها الكثير من القامات والأسماء المُهمة، إلى أن يُصاب الرجل بالسرطان، وسُرعان ما يُصاب بالألزهايمر، وبالتالي بدأ في فقد تركيزه، وتذكره للأشياء.

ربما كان من أقسى الأمور على الكاتب أن يُصاب بهذا المرض، وأن يفقد تركيزه، فهو يعتمد في حياته بالكامل على العمل العقلي؛ وبالتالي يكون فقدان الذاكراة الكامل، أو الجزئي، من الأمور المُؤلمة، والتي تكاد أن تكون انتهاء حقيقيا لحياة صاحبها.

حاول السديري تقديم استقالته حينما بدأ يفقد تركيزه، لكن مجلس الإدارة رفض في البداية؛ مما جعله يتراجع، لكنه عاد وترك الجريدة حينما تأكد من تأخر حالة المرض لديه، وبالتالي فقده للتذكر بشكل يكاد أن يكون كاملا.


إلا أن الموقف المُؤثر كثيرا في الفيلم حينما يخرج السديري- الفاقد للذاكرة- من منزله مُتجها إلى مبنى جريدة "الرياض"، وحينما يصل إلى المبنى يسأله مُدير مكتبه عن رغبته في فتح المكتب الخاص به له؛ فينظر إليه السديري غير قادر على التركيز، أو التذكر ليسأله: أي مكتب يقصد!

إذن، فلقد فقد الرجل الذاكراة بشكل كامل بعد كل هذه الحياة الحافلة بالمعارك، والصراعات، وبالتالي فلقد نسي بأنه كان رئيسا لتحرير الجريدة، ومن ثم نسي مكتبه الذي تساءل عنه. لكن الأمر المُدهش أنه رغم نسيانه، وفقده الكامل لذاكرته؛ فلقد خرج من بيته، واتجه وحده إلى مبنى الصحيفة التي عاش فيها حياته مُناضلا، وارتقى بها، إلى أن وصل إليها، حتى لكأنما تركي السديري قد نسي العالم بكل ما فيه، لكنه لم يستطع نسيان البيت الصحفي الذي قضى حياته بالكامل فيه، والذي أفنى حياته من أجله ومن أجل رفعته.


إن الفيلم التسجيلي "قصة ملك الصحافة" للمُخرج السعودي حسن سعيد من الأفلام التسجيلية المُهمة التي تُقدم لنا حياة ثرية لصحفي سعودي حاول النضال المُبكر ضد الانغلاق والتدين، والتشدد، ونجح في ذلك، وأظن أن مثل هذا الفيلم كان من المُستحيل للمُخرج تصويره وتقديمه لولا حالة الانفراج التي سمح بها الملك سلمان، وولي العهد، والهادفة إلى انخراط المملكة في التقدم من خلال الفنون والثقافة، وغيرهما. أي أن تركي السديري كان من المُمكن جدا أن يكون من المسكوت عنهم لو كان الوضع في المملكة قد استمر حتى اليوم كما كان، إلا أن الرغبة في التحرر، والاستعانة بالفنون، والسماح بالحريات كانت من أهم خطوات المملكة من أجل تقديم الكثير من التجارب التي تسحتق التأمل.

 

محمود الغيطاني

نشرة "سعفة" مهرجان أفلام السعودية.

العدد التاسع مايو 2023م.

الخميس، 4 مايو 2023

بينيديتا: المُؤسسات الدينية وذهانية فكرة الله!

في الفيلم الفرنسي Benedetta بينيديتا الذي يتناول حياة راهبة في دير Pescia بيسشيا، Tuscany توسكانا في إيطاليا قرر المُخرج والسيناريست الهولندي Paul Verhoeven بول فيرهوفن أن يشرع وسطاه مُحركا إياه مُستمتعا؛ ليدسه بقوة في مُؤخرة المُؤسسات الدينية، وسيطرة الكنيسة، وزيفها، ونفاقها، بتقديمه للمثلية الجنسية داخل الدير، والتركيز على تفاصيلها، ونوازعها المُحركة لها، واستمتاع الشخصيات بما يفعلنه، مُستخدما تمثال مريم العذراء كقضيب جنسي صناعي لدخول مهبل الراهبة بينيديتا وإمتاعها!

إذن، فما زال فيرهوفن مُستمتعا بإحداث الصدمة للمُتفرج من خلال ما يقدمه من أفلام سينمائية، لطمه على وجهه بموضوعات أفلامه رغم تخطيه الثمانين من العمر، مُمتلكا لنفس النزق، والانطلاق، بل والسُخرية من كل شيء- بما فيها الأديان ووجود الله- رغم أنه قد شارك فيما قبل في وضع كتاب عن المسيح! إنه فيرهوفن صاحب الأفلام الصادمة Basic Instinct غريزة أساسية 1992م، وShowgirls فتيات الاستعراض 1995م، و Elleهي 2016م، وغيرها من الأفلام التي يُصرّ فيها على تأمل ما يعتقده من خلال أفلامه، والسُخرية من كل ما يدور من حوله.

اعتمد المُخرج الهولندي في صناعة فيلمه الذي شارك في كتابته مع السيناريست الأمريكي David Birke ديفيد بيرك على كتاب المُؤرخة الأمريكية Judith C. Brown جوديث سي براون، وهو كتاب سيرة ذاتية عن الراهبة الإيطالية بينيديتا بعنوان: Immodest Acts: The Life of Lesbian Nun in Renaissance Italy أعمال غير متوقعة: حياة راهبة مثلية في عصر النهضة بإيطاليا، وهو الكتاب الصادر عام 1986م، وإن كان المُخرج لم يهتم بتفاصيل حياة بينيديتا كما ذكرتها المُؤرخة الأمريكية في كتابها، بقدر اهتمامه بقصة مثليتها وتأمل حدوثها داخل الدير؛ وبالتالي كشف الزيف الديني، والنفاق، وخداع البسطاء، وصناعة الأساطير، والتجارة باسم الله!


ثمة مفاتيح أساسية يعتمد عليها المُخرج في صناعة فيلمه، وهي مفاتيح يتخذها من صلب العقيدة المسيحية، فإهانة الجسد عقيدة في المسيحية، وعلى المرء إنكار احتياجاته، ورغباته والتنصل منهما حتى يكون مُستحقا لله، أي أن وجود الإنسان على الأرض محض عذاب له، ورغم وجود الحاجات الجنسية كحاجات أساسية في جسده- وضعها الله نفسه في الإنسان- إلا أنه لا بد له من إنكارها والتنصل منها، وكبتها، بل والقضاء عليها من أجل استحقاقه الدخول في الفردوس الإلهي- سادية الإله وقسوته وجهامته التي لا تُحتمل، وفكرة امتلاك الله لأعضائنا الجنسية- هذه الجهامة والسادية الإلهية تتضح أكثر حينما يقول أب الاعتراف لبينيديتا حينما تعترف له بأنها تُشاهد رؤى ترى فيها يسوع: المُعاناة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة المسيح! أي أن الله- بافتراض خلقه للإنسان على الأرض- إنما فعل ذلك لرغبات شديدة السادية داخله، وهي جعل الإنسان يعاني طوال حياته من أجل الدخول في الفردوس الإلهي المُفترض- كما تدعي الأديان- وبالتالي يكون سبب الخلق في جوهره هو مُعاناة الإنسان الذي لا ذنب له في هذا الخلق، ولم يتخذ قرار خلقه أو تواجده على الأرض، ولم يشترك فيه- ولو على مستوى الرأي والمشورة- بل فُرض عليه، ورغم فرضه من دون أي تدخل أو رغبة، أو إرادة منه؛ فهو لا بد له من المُعاناة والعذاب طوال فترة حياته كي يفوز في النهاية بالفردوس المُفترض، والذي من المُمكن له أن يكون مُجرد أسطورة خيالية ومُختلقة لا وجود لها! هذا ما سنُلاحظه أيضا حينما تلتحق الطفلة بينيديتا بالدير وتمنحها إحدى الراهبات رداءها الذي سترتديه في الدير؛ فتقول الصغيرة: إنه يلسع، إنه فظيع. لترد الراهبة: هذا مقصود؛ فلتهدئة جسدك لا يجب أن تشعري بالرضى عن ذلك- مازوخية الإنسان تجاه جسده، وتحقيره، وإهانته، وتعذيبه من أجل التقرب من الله باعتبار أن هذا الفعل من طقوس الإيمان به.


من هنا يبني بول فيرهوفن فيلمه المُهم في تأمل المُؤسسات الدينية وما يسودها من فساد وزيف باسم الأديان، بل وتأمل مدى جدية وحقيقة فكرة الله، وهل هي فكرة حقيقية، أم مُجرد فكرة ذهانية في أذهان الآخرين حينما تتلبسهم حالة سيكولوجية طارئة تجعلهم يتخيلون وجوده الفعلي!

إن الحالة الذهانية التي اعتمد عليها المُخرج، وافترضها مُنذ بداية فيلمه تتضح لنا حينما نُشاهد موكبا صغيرا لأسرة تسير باتجاه دير بيسشيا، حيث سيودع الأب والأم ابنتهما الصغيرة- التي لم تتعد السبعة أعوام- بينيديتا- قامت بدور الطفلة المُمثلة Elena Plonka إيلينا بلونكا- في الدير لتكون من راهباته، وفي الطريق يتوقفون أمام تمثال للعذراء مريم؛ لتهبط بينيديتا الصغيرة من أجل الصلاة لها، وغناء إحدى الأغنيات الدينية، لكن مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق يهجمون عليهم راغبين في الاستيلاء على ما معهم من أموال، وحينما يخبرهم والد بينيديتا بأنه لا يحمل أموال؛ يستولي أحدهم على قلادة ذهبية في عنق أمها، لكن بينيديتا تطلب منه بجرأة وجسارة واثقة رد القلادة إلى أمها، وحينما يرفض تخبره: ستعاقبك السيدة العذراء إن لم تُرجعها. فيسألها ساخرا: وكيف تعرفين يا فتاة؟ لتقول: السيدة العذراء تفعل كل ما أطلبه منها.


هنا ينطلق صوت أحد الطيور الذي تؤكد الفتاة بأنه صوت العذراء، وحينما يلتفت الرجل لأعلى لرؤية الطائر تسقط مُخلفات الطائر في عين الرجل؛ الأمر الذي يجعله يعيد لأمها القلادة بالفعل، طالبا منها الاستمتاع بالعذراء التي تخصها.

إن تأمل المشهد السابق، وهو مشهد تأسيسي للفيلم، يحمل معنى لا يمكن تجاهله، أو المرور عليه من دون التوقف أمامه قليلا، إن بينيديتا لديها اعتقاد يقيني بأنها لديها علاقة خاصة جدا مع العذراء مريم- أم الإله يسوع- وهذه العلاقة الخاصة تمنحها أحقية طلب ما ترغبه من العذراء، بل ودفاع العذراء عنها، وإنقاذها من أي مأزق من المُمكن أن تقع فيه بينيديتا، ألا نلمح هنا علامات الذهان النفسي الذي لا بد له أن يتطور مع مرور الوقت إلى ذهانات مرئية، وسمعية، بل وحسية أيضا؟ أي أن الفتاة تحمل مُنذ صغرها بذور ذهانها الذي سنراه فيما بعد، وتأكيدها على رؤيتها للمسيح واتخاذه لها كزوجة!


مع وصول أبوي بينيديتا إلى الدير لتسليم ابنتهما- مع ما في هذا الفعل من اللإنسانية وقتل للطفولة، لا سيما أن الطفلة ليس لديها القدرة على اتخاذ القرار السليم في هذا العمر للرهبنة، تماما مثل فعل الله في خلق الإنسان على الأرض بدون إرادة أو رغبة أو مُشاركة منه- تقول رئيسة الراهبات/ الأخت فيليسيتا لوالد بينيديتا- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Charlotte Rampling تشارلوت رامبلينج: أعلم أنك قد أحضرت عروسا جديدة ليسوع- لاحظ التأكيد على الأسطورة، وأن الراهبات هن زوجات يسوع الإله، وبذلك فهو لدية عدد لانهائي من الزوجات/ الراهبات، مع ما يحمله الأمر من دلائل بيدوفيلية المسيح باعتبار بينيديتا طفلة- ستكون بينيديتا سعيدة جدا معنا. ليقول الأب: وقد أحضرنا أيضا الكثير من البرتقال والتفاح والنبيذ، وستحصلون على نفس القدر خلال الخمس والعشرين سنة القادمة في كل عام. ترد فيليسيتا: هذا كرم بالغ منك سيد كارليني، وماذا عن الوديعة؟ ليقول مُترددا: عندما وُلدت بينيديتا كانت على وشك الموت، لكنها نجت بمُعجزة من الله؛ لذلك وعدته بأن أقدمها له- القرار بالكامل في يد شخص واحد، سواء كان الله بالنسبة للإنسان وخلقه ثم مُعاناته، أم الأب بالنسبة لبينيديتا ووضعها كراهبة في الدير- لكن فيليسيتا تقول: هذا مُؤثر جدا، سمعت قصصا كثيرة كهذه، وهي في كل مرة تؤثر في، لكننا نرى كل عام مئات الفتيات الرائعات الراغبات في خدمة الرب، ومطلوب مني قبول ثلاثة فقط. فيرد: مُقابل قبولكم لابنتي سأكون سعيدا بأن أقدم لكم هدية من 50 عملة ذهبية بدون احتساب الفاكهة والخمر، هذا أيضا جيد، أليس كذلك؟ إلا أنها تقول مُصرة على الزيادة: خارج هذه الجدران لا يقل مهر العروس عن 50 عملة، وهل تستحق عروس المسيح مبلغا أقل؟ فيقول: يمكننا مُناقشة ذلك، خمسة وسبعون. لتقول بصرامة غاضبة: لا تساوم كاليهودي من أجل 25 عملة. أي أنها ترغب منه أن يقوم بدفع 100 عملة ذهبية في مُقابل قبولها لابنته كراهبة في الدير!


مع تأمل المشهد السابق بروية وتقليبه على جميع أوجهه المُمكنة؛ فالأمر لا يتعدى التجارة والمساومة باسم الرب، أي أن المُؤسسة الدينية في حقيقتها ليست إلا تاجرا باسم الدين باعتبارها- المُؤسسة- خليفة الله في الأرض، أو مبعوثة الله للآخرين ممن يرغبون في الإيمان به، والتقرب إليه- وبالتالي يكون الأمر على الوجه التالي: إذا ما رغبت في التقرب من الله، وخدمته، والدخول إلى فردوسه الإلهي؛ فعليك أن تدفع، وكلما رغبت في أن تكون في مكانة أفضل فعليك أن تدفع المزيد! أي أن الفردوس في النهاية للأثرياء ومن يمتلكون المزيد من الثروة- رغم كونه وهما- وإذا ما كنت لا تملك؛ فلا مكان لك في هذا الفردوس، وبالتالي ستكون مطرودا من رحمة الله التي تمتلكها المُؤسسة الدينية، وتقصرها على نفسها، وهو ما رأيناه تماما من الأخت فيليسيتا/ رئيسة الراهبات/ مُمثلة المُؤسسة الدينية التي ترفض قبول الفتاة كراهبة من أجل خدمة الرب إلا من خلال دفع المزيد والمزيد من الأموال- لاحظ قولها الجشع: خارج هذه الجدران لا يقل مهر العروس عن 50 عملة، وهل تستحق عروس المسيح مبلغا أقل؟!


إن الدين هنا يبدو في يد الجميع مُجرد أداة براجماتية، أسطورية، تغييبية من أجل نهب الفقراء، والبسطاء ممن يرغبون في التقرب من الإله، بل والسيطرة عليهم، وعلى رغباتهم، وإرادتهم الحرة، فضلا عن سلبهم لأموالهم!

إن الحديث باسم الدين هو حديث قاسٍ، جهم، مُخيف، يضخم من معاني الخوف في قلوب المُؤمنين به- لا الحب والخشوع- بل هو يتعدد، وينقسم إلى مجموعة من الأديان، لكل منها مفهوم خاص يختلف عن الآخر، وهو ما رأيناه حينما قُبلت بينيديتا في الدير، حيث تقول لها إحدى الراهبات مُتسائلة عما في يدها: ما هذا؟ لترد: إنه من والدتي، لأتمكن من الصلاة للسيدة العذراء. لتقول لها: عزيزتي، لدينا العذراء الخاصة بنا هنا، اعتبارا من اليوم ستصلين لها. أي أن تمثال العذراء الخاص بالطفلة قد فقد ماهيته، وقداسته، ومعناه بمُجرد دخول الطفلة للدير؛ وبالتالي أضحى مُجرد تمثال لا قيمة، ولا معنى له؛ فهم يمتلكون العذراء الخاصة بهم- المُختلفة عن عذراء الآخرين، في إسقاط على تعدد مفهوم القداسة، وربما زيفه، وأسطوريته.


إذن، فبول فيرهوفن يتأمل المُؤسسات الدينية/ ظل الله على الأرض، ساخرا منها، فاضحا إياها بتعريتها، وهو يمارس هذا الفعل بتؤدة وتمهل، ومتعة فائقة قد تقترب به من فعل الأورجازم الجنسي، مُؤكدا على زيفها، ونفاقها، وبراجماتيتها، وتجارتها بالدين، وبالله نفسه، حتى لكأن فيرهوفن قد تحرر من كل قيوده من أجل صناعة فيلمه، ناطقا بلسان الفيلسوف الروماني إميل سيوران: تخلصت من الله بسبب حاجتي إلى التأمل، تخلصت من آخر المُزعجين!

تشعر الفتاة بالكثير من القلق؛ نتيجة لأن رداء الراهبات الجديد الذي ترتديه يقرص جسدها بقسوة، وهو ما يجعلها تترك فراشها متوجهة إلى تمثال ضخم للعذراء، راكعة أمامه لتقدم لها الصلوات، طالبة منها مُساعدتها في حياتها الجديدة، لكن التمثال تنكسر فجأة قاعدته ليسقط فوق الفتاة تماما من دون أن يصيبها لوجود مسافة بينه وبين الأرض حُبست فيها الفتاة؛ مما يجعل راهبات الدير يستيقظن ليحاولن إنقاذ الفتاة من أسفل التمثال الضخم برفعه من فوقها.


ربما إذا ما تأملنا المشهد بروية أكثر لاتضح لنا ما يرغب فيرهوفن في التأكيد عليه بأسلوبية سينمائية تلقائية، بعيدة تماما عن المُباشرة والسطحية؛ فحينما سقط تمثال العذراء على بينيديتا لم يصبها- مُعجزة دينية بالنسبة للراهبات- وعند سقوطه استقر نهد العذراء الأيسر العاري أمام فم الطفلة مُباشرة؛ فأسرعت الطفلة رغم هول الموقف ورعبه إلى رضاعة نهد العذراء العاري- بذور المثلية الجنسية المُبكرة لدى الطفلة، حتى أنها لديها رغبة حسية مع العذراء المُقدسة- وهو ما يؤسس له المُخرج مع بدايات فيلمه، أي أنه يسير من خلال سيناريو الفيلم على خطين متوازيين لا بد لهما أن يلتقيا في نهاية الأمر- فساد المُؤسسة الدينية وزيفها، ومثلية بينيديتا المزروعة فيها مُنذ صغرها- ورغم أن إحدى الراهبات تهمس لرئيسة الدير: إنها لمُعجزة أنه لم يتم سحقها. إلا أن الأخت فيليسيتا تتجاهل قول الراهبة، ورغم أن الفتاة الصغيرة كريستينا/ ابنة فيليسيتا تسألها ألا يُعد الأمر مُعجزة؟ إلا أن فيليسيتا تتمادى في إنكار الأمر وتجاهله، فهي لن توافق على مُعجزة الصغيرة؛ لأن الأمر لن يصب في مصلحتها كرئيسة للدير في نهاية الأمر.

بعد مرور ثمانية عشر عاما على تواجد بينيديتا كراهبة في الدير، نراها في أحد العروض المسرحية الدينية- أدت دورها المُمثلة البلجيكية الأصل الفرنسية الجنسية Virginie Efira فيرجيني إيفيرا- بينما تؤدي دور العذراء، مع تواجد أبويها في الدير لحضور العرض، لكنها أثناء العرض ترى نفسها- من خلال رؤية- ترعى مجموعة من الأغنام بينما يناديها المسيح الذي يتجسد لها، مُخبرا إياها بأنه قد اتخذها كزوجة له- بداية الأعراض الذهانية بشكل أوضح- مما يجعلها تجري باتجاهه، وهو ما جعلها تُحرك قدميها وكأنها تجري أثناء العرض- أي أنها تعيش بالفعل ما تراه، وهو ما يترك بأثره على جسدها في الواقع المعيش- مما سيجعل أمها تسألها عن السبب في تحريك قدميها أثناء العرض المسرحي لتؤكد لها بأنها كانت تجري باتجاه المسيح الذي تجسد لها وأخبرها بأنها زوجته! أي أن فيرهوفن يرسم ملامح شخصيته الذهانية بتمهل ووعي تام؛ ليهيئنا لما سيقدمه فيما بعد.


أثناء توديع الأبوين لبينيديتا بعد انتهاء زيارتهما لها، تقتحم الدير فجأة فتاة مع مجموعة من الأغنام بينما يُطاردها أحد الرجال راغبا في إيذائها، وتحتمي الفتاة/ بارتولوميا- قامت بدورها المُمثلة اليونانية الأصل البلجيكية الجنسية Daphne Patakia دافني باتاكيا- ببينيديتا، طالبة منها حمايتها، وعدم رغبتها في مُغادرة الدير، وتؤكد لها بأنها ترغب في خدمة الرب. يجذب الرجل المُطارد بارتولوميا مما يؤدي إلى سقوط بينيديتا معها على الأرض؛ فيتدخل والد بينيديتا بإبعاده عن الفتاة. تقول بارتولوميا لرئيسة الدير: أنا أحب المسيح، اقبلوني، دعيني أبقى هنا. لترد فيليسيتا: لكن الدير ليس مكانا يُقبل فيه الجميع، عليك أن تدفعي للبقاء هنا، هل لديك المال؟

إنه الإمعان في التأكيد على زيف المُؤسسات الدينية المادية في حقيقة أمرها، أي أنها مُجرد مُؤسسات لكنز الأموال وتكديسها باسم خدمة الرب، وبالتالي فالدير- مكان العبادة وخدمة الرب- ليس لحماية المُستضعفين واللاجئين إلى الرب من أجل حمايتهم، بل هو مكان لمن يمتلك المال فقط! وبالتالي فالمسؤولين عن المُؤسسة الدينية لا يعنيهم خوف، أو حتى قتل أحدهم أمامهم، ولا حمايته ما دام لا يمتلك المال، المنشود الأساس من المُؤسسة!


سنعرف أن الرجل المُطارد هو والد باتولوميا الذي تحاول الهروب منه؛ لأنه قد اتخذها كزوجة بعد وفاة زوجته، وظل يضاجعها رغما عنها، بل إن أشقاءها اعتادوا على مُضاجعتها في الوقت الذي يتغيب فيه أبوهم. حينما تتوسل بارتولوميا لحمايتها من أبيها تؤكد والدة بينيديتا بأنهم سيتكفلون بنفقاتها، وهو ما يجعل الأخت فيليسيتا تتوجه إلى والد بينيديتا الثري وقد تحركت فيها براجماتيتها باعتبار أن ما يدور أمامها هو مُجرد صفقة جديدة باسم الله لتقول له: سيد كارليني، لا يدخل الغني ملكوت الله، هل أنت جاهز للدفع؟- الابتزاز باسم الدين- ليرد عليها بسُخرية: وأنت يا أماه، ألا تفعلين كل شيء حتى تتمكنين من دخول الجنة؟!

إنه قانون المُؤسسات الدينية الزائف، والذي يمارسه المسؤولون عن هذه المُؤسسات بيقين وإيمان بأن ما يفعلونه هو في خدمة الرب، وإن كانوا في قرارة أنفسهم لديهم يقين أقوى بأنهم مُجرد بهلوانات زائفة تعمل من أجل مصالحها الخاصة، مُرتدية لباس الإيمان.


تتعهد بينيديتا برعاية باتولوميا/ الراهبة الجديدة وتجهيزها للرهبنة، وأثناء مُساعدتها في استحمامها- لكونها كانت شديدة القذارة- تبدأ رغباتها المثلية في التحرك والانطلاق من إسارها الذي كبتته داخلها طويلا، وهو ما يجعلها ترتبك كثيرا، تاركة باتولوميا وحدها، محاولة الابتعاد عنها.

إن بينيديتا في جوهر الأمر لديها رغبة مثلية دفينة ومُتقدة- سبق أن أشار إليها فيرهوفين في بداية الفيلم وحادث العذراء التي سقطت فوقها- ربما حاولت قمعها طوال حياتها، لكن هذه الرغبة بمُجرد ما وجدت الفرصة للانفلات من هذا القمع؛ خرجت متوهجة مُشتعلة، وهو ما رأيناه حينما قُبلت بارتولوميا في الدير، وباتت بينيديتا هي المسؤولة عن تأهليها وتعليمها، فرأينا بارتولوميا حينما كانت تستحم كادت أن تنزلق قدماها؛ لتسرع بينيديتا تجاهها في محاولة منها لإنقاذها من الانزلاق، لكنها رأت تفاصيل جسدها العاري من وراء الستار الشفاف الفاصل بينهما؛ الأمر الذي جعل بينيديتا تشعر بالكثير من الارتباك المُنفعل، وهو ارتباك يشوبه الكثير من الرغبة المُلتهبة المقموعة التي بدت واضحة على وجهها، مما جعلها تسرع بالخروج من الحمام هاربة من رغبتها التي تحركت فيها.


هذه المحاولة للقمع ستتكرر مرة أخرى حينما تقوم بارتولوميا بتقبيل بينيديتا على شفتيها كتعبير عن الامتنان والشكر لكل ما قدمته لها من مُساعدة؛ حيث تُسرع بينيديتا مُرتبكة للصلاة مُخاطبة للمسيح: أبتاه، أشعر بأن بارتولوميا تحتاج إلى مُرشد، لكني لا يمكنني أنا تعليمها. ليرد المسيح على لسانها- لسان بينيديتا، أي أنها تصل بها ذهانيتها إلى تقمص المسيح في الرد على نفسها بما ترغبه هي في قرارة نفسها- الله هو من أرسل هذه الفتاة؛ إنها بحاجة إلى الكثير من الحب والمودة- الرغبة الدفينة داخل بينيديتا، وتبرير الأمر لانطلاق رغباتها باسم الله على لسان المسيح، أي الله المُضلل- لكنها ترد: نعم، يجب أن يتم إرشادها بيد من حديد، ليس من خلالي. لكن المسيح يرد على لسانها أيضا: فليهدكِ الله- أي أن المسيح غير راضٍ عن تخليها عن المهمة التي ستفتح أمامها آفاق رغباتها المثلية للانطلاق!

ربما إذا ما تأملنا ما حدث بشكل أكثر عقلانية لاتضح لنا الموقف جيدا؛ فبارتولوميا، الفتاة الفقيرة التي اتخذها والدها وأشقاؤها الذكور كزوجة يضاجعونها، عابثين بجسدها باعتباره أداة جنسية بعد وفاة والدتها، لا تعرف في حياتها أي طريقة للتعبير عن امتنانها وشكرها إلا من خلال الجسد الذي اعتادت على تقديمه لمن أمامها من أجل إسعاده؛ وبما أن بينيديتا كانت هي من قامت بإنقاذها من أبيها وأشقائها بإدخالها إلى الدير، ومُساعدتها، لم يكن أمام بارتولوميا من طريقة أخرى تعرفها في حياتها إلا التعبير عن شكرها من خلال جسدها- أداتها الوحيدة للتعبير عن الامتنان والشكر- فقامت بتقبيل بينيديتا على شفتيها لرد شيء من الجميل الذي تشعر به، وكمحاولة لإسعاد بينيديتا. في المُقابل نرى أن بينيديتا، في جوهر الأمر، لديها من الرغبات المثلية المكبوتة ما يجعلها تتحين الفرصة للخروج والانطلاق، وهو ما لاحظناه أثناء استحمام بارتولوميا، ورؤية بينيديتا لتفاصيل جسد الفتاة العارية؛ مما جعلها ترتبك مُنفعلة لتحرك الرغبات الدفينة فيها، وهو أيضا ما جعلها غير قادرة على تفسير قبلة بارتولوميا لها إلا من خلال الرغبة الجنسية الدفينة التي تنهشها، أي أن بارتولوميا هنا لم تكن مُحرضا بشكل عمدي لانطلاق رغبات بينيديتا الجاهزة أساسا للتوهج في أي لحظة مُناسبة.


لأن بارتولوميا باتت مُتعلقة ببينيديتا التي ساعدتها، ونظرا لأنها لا تعرف من وسيلة أخرى للتعبير عن امتنانها إلا من خلال جسدها الذي تظن بأنه يمنح السعادة للآخرين؛ فهي ترغب في إسعاد بينيديتا بطريقتها الخاصة- التي تقاطعت مع رغبات بينيديتا الدفينة- الأمر الذي يجعلها تقف خلفها أثناء أداء الترانيم والصلوات الجماعية، لتقوم بتحريك كفها على ظهر بينيديتا من أعلى إلى أسفل حتى تصل إلى عانتها التي تدس بارتولوميا يدها فيها من الخلف لتقبض عليها؛ مما يجعل بينيديتا تشعر بالاندهاش. هنا تتجسد لبينيديتا إحدى الرؤى الذهانية المُسيطرة عليها؛ فترى الكثير من الثعابين التي تُهاجمها، والتي تدخل في ملابسها، لكن المسيح يأتي لإنقاذها مُخلصا إياها من الثعابين القاتلة، مُخبرا إياها بأن هذه الثعابين هي مجموعة من الشياطين الراغبة بها الشر.

مجموعة الرؤى الذهانية التي لا يراها سوى بينيديتا في خيالها، والتي تصدقها وتوقن بها؛ تجعلها تتوجه إلى أب الاعتراف مُخبرة إياه برؤيتها للمسيح الذي اتخذها كزوجة له، لكنه يخبرها: المُعاناة هي الطريق الوحيد لمعرفة المسيح. فترد: أعلم أن الله يريدنا أن نتألم يا أبتاه- الله السادي بلا سبب، وبشكل مُطلق- ولكن، قد أخافني ذلك. ليرد عليها: هذا طبيعي، غالبا ما يكون صوت الله مُرعبا- الله المُخيف المُرعب البعيد عن الرحمة والحب- الأحمق يقول: لست خائفا، لكني أعلم أنه خائف حتى الموت، هل سبق لكِ أن رأيت كيف يعمل الجراح؟ لتسأله: هل يستمتع حقا بالمُعاناة؟ فيرد الأب: استمري في الصلاة، وسيكون كل شيء على ما يرام- استمتاع الله بمُعاناة البشر كإمعان في ساديته!


إن الحوار الدائر بين كل من أب الاعتراف، وبينيديتا هو في جوهره حوار مُرعب إذا ما كان يتم باسم اليقين الديني والاطمئنان من قبل رجل الدين؛ لأن الله هنا ليس سوى شخص مريض في حاجة ماسة للعلاج، أو تجنبه كلية ما دامت مُتعته الوحيدة، والطريق الوحيد للتقرب منه هو عذاب البشر الذين لا جريرة لهم في أي شيء، فضلا عن تأكيد رجال الدين بأن الله مُرعب ومُخيف، أي أن عبادته ليست لحب البشر له، ولا لإيمانهم به، بل بسبب خوفهم وهلعهم منه، ولولا هذا الخوف والهلع لما عبده أحد، أو اهتم به.

إن فيرهوفن هنا يصنع فيلمه بشكل فني على مهل، من دون أي رغبة في التعجل، فهو يتأمل المُؤسسات الدينية، ومُؤسسيها والمسؤولين عنها وما يروجونه، ويراقب رغبات بينيديتا المكبوتة التي تتحين الفرصة للخروج، ويُهيئ لها هذه الفرصة للانطلاق، وبالتالي يُهيئنا نحن كمُشاهدين للانفجار الكبير بين المُؤسسة وبين رغبات بينيديتا وذهانيتها التي ستستغلها للوصول إلى رأس السُلطة الدينية!


أثناء عمل الراهبات في نسج الحرير تصطدم بارتولوميا بالأخت كريستينا/ كبيرة الراهبات/ ابنة فيليسيتا- قامت بدروها المُمثلة الفرنسية Louise Chevillotte لويز شيفيلوت- مما يؤدي إلى سقوط بكرات الحرير في القدر الذي تغلي بداخله المياه، وهو ما يجعل بينيديتا تدعي بأن بارتولوميا هي المُخطئة، رغم أن العكس هو ما حدث- الكذب خطيئة كبرى تمارسها بينيديتا، وتصر عليها- بل وترغم بارتولوميا على استعادة بكرات الخيط من الماء المغلي وإلا ستستدعي أباها وتطردها من الدير؛ الأمر الذي يجعل بارتولوميا تمد يدها مُندهشة داخل القدر لاستعادة البكرات مما يعرض يدها للكثير من الأذى والحرق البالغ! إن إصرار بينيديتا هنا على إيذاء بارتولوميا رغم ميلها الجنسي لها هو من قبيل محاولة الانتقام النفسي، وتشويه الجمال الذي يثيرها جنسيا، إنها تنتقم من رغبتها الجنسية المُشتعلة في بارتولوميا بمحاولة إيذائها وتشويهها على المستوى الجسدي. لكن، لا يفوتنا هنا أن بينيديتا تمتلك، فضلا عن رغباتها الجنسية المثلية، رغبات سادية في تعذيب الآخرين- التماهي مع الإله السادي- وهو ما عبر عنه المُخرج فيما بعد حينما أنكرت كريستينا مُعجزة بينيديتا، وهو ما جعلهم يحكمون على كريستينا بأن تجلد نفسها لطرد الشياطين التي تسكنها. نقول حينما حدث هذا الأمر، تسأل بارتولوميا بينيديتا: لقد استمتعتِ بذلك، صحيح؟ لتسألها بينيديتا: ما الذي استمتعت به؟ لتقول: مُشاهدة كيف جلدت كريستينا نفسها. فترد بينيديتا: لا، غير صحيح، هذا شيء مُختلف، كنت أفكر بك، فكرت كيف ستشعرين أنت بذلك! أي أن بينيديتا هنا تمتلك من السادية ما يجعلها تفكر في كيفية شعور حبيبتها بالعذاب حينما يتم جلدها- إنه التماهي مع الله في صفاته السادية، ورغبته في مُعاناة من يشعرون تجاهه بالقرب، أو الحب.


يحاول بول فيرهوفن فضح أسطورة التسامح الديني، وهي الفكرة الأساس التي تقوم عليها المسيحية، وتتميز بها عن غيرها من الأديان؛ لذلك نرى إحدى الراهبات تقول لبينيديتا: خطيئتي أنني كنت يهودية، وكانت الأخت بيترا عاهرة، جميعهن لديهن أطفال وماضٍ، لكن لا أحد يهتم، وقد كان أبي مختونا، وهذه خطيئة من المُستحيل أن تُغتفر. أي أن فيرهوفن يرغب في القول: لا تصدق وهم التسامح في المسيحية؛ فهي ديانة لا تتسامح في الكثير من الأشياء، ولا تغفر، ورغم أن بعض الأخوات كن عاهرات، إلا أن المسيحية تتسامح معهن، لكنها لا تتسامح مع الأخت التي كانت يهودية، وأبيها كان مختونا، أي أنها ديانة تمييزية عنصرية في نهاية الأمر- كما رغب المُخرج أن يعبر من خلال المشهد.

إن الصدمات المُتتالية- العقائدية أو الجنسية أو المُمارسات المُؤسسية- التي يحرص المُخرج على إخراجها من جعبته واحدة تلو الأخرى، تُكسب الفيلم في حقيقة الأمر حيويته، وطزاجته، وتنجح في جذب المزيد من انتباه المُشاهد واستمتاعه بما يدور أمامه من أحداث مُتلاحقة لا تتوقف عن مُفاجأته، والمزيد من اندهاشه، وجعله يلهث ورائها، ورغم أن الفيلم في جوهره مُحرض إلى حد كبير لكشف الكثير من الادعاءات؛ مما سيثير الكثيرين، وقد يشعرهم بالاستياء، إلا أن فيرهوفن كان من الوعي، والانتباه، ما جعله يقدم فيلما فنيا عميقا في المقام الأول، مُبتعدا به عن المُباشرة والسطحية في تناول فكرته التي يُصرّ عليها.


تُصاب بينيديتا بنوبات مُتتالية من الرؤى المُبهمة الغامضة؛ الأمر الذي يجعلها تصرخ صراخا شديدا أثناء نومها، ويجعل جسدها يتشنج كثيرا؛ حتى أن رئيسة الدير أمرت الراهبات بتوثيقها في فراشها لحين قدوم الطبيبة من أجل رؤيتها- تقدم الحالة الذهانية كثيرا لما يشبه الصرع، ومن المعروف أن الذهان يرتبط ارتباطا وثيقا بحالات الصرع؛ فيؤدي إلى الهلاوس السمعية، والبصرية، والحسية- ورغم أن بينيديتا كانت حريصة قبل إصابتها بهذه الحالة على الإيذاء الجسدي لبارتولوميا- التخلص من الشعور بالذنب لميلها الجنسي باتجاهها، والتماهي مع سادية الله- إلا أن بارتولوميا المُحبة المُتسامحة تتجه إلى فراشها وهي مُقيدة إليه، وتكشف لها يدها المُلتهبة المشوهة من أثر الماء المغلي، لتسألها عن السبب في قسوتها معها، ثم تقوم بتقبيل شفتيها مُعاتبة إياها على ما فعلته بها، فتغرق بينيديتا في رؤية ذهانية ترى فيها مجموعة من الرجال يحاولون اغتصابها، لكن المسيح يصل في اللحظة الأخيرة ليقوم بقتلهم جميعا، وحينما يكشف لها وجهه تكتشف بأنه ليس المسيح، بل رجلا أعورا- ربما في إحالة إلى المسيخ الدجال- راغب في اغتصابها وحده؛ لتدخل في نوبة تشنج جديدة وصراخ يسمعه من هم خارج الدير.


ألا تشير كل الدلائل التي تمر بها بينيديتا، وتعاني منها- صراخ، وتشنج، وهلاوس سمعية وبصرية وحسية- إلى مرضها الذهاني الذي يرغب فيرهوفن في التأكيد عليه لإثبات ذهانية ووهم فكرة الله؟ إن الله لديه يتحول إلى فكرة ذهانية حقيقية، لا يراها، ويوقن بها سوى شخص مريض في حاجة ماسة إلى العلاج من أوهامه، وهو ما نراه مُتجليا لدى بينيديتا التي تعاني مُنذ صغرها من ذهانيتها- اليقين من أنها على علاقة مُباشرة بالعذراء.

إن تطور حالة بينيديتا الصحية والعقلية يجعل رئيسة الدير تتخذ قرارها بأن تكون بارتولوميا مُرافقة لبينيديتا كي تعتني بها أثناء مرضها، ولعل رئيسة الدير قد اتخذت هذا القرار بسبب ما فعلته بينيديتا ببارتولوميا- الإيذاء الجسدي بوضع يدها في القدر- وهو ما أكدته حينما قالت لبينيديتا: بارتولوميا وحدها هي الأخت المثالية للاعتناء بك، ربما يكون ذلك درسا في التسامح. لتسأل بينيديتا بارتولوميا بعد مُغادرة رئيسة الدير: لماذا أنت هنا؟ هل جئت لتعذبينني؟ لكن بارتولوميا ترد عليها: هل فعلت شيئا يجعلك تعتقدين ذلك؟


ربما نُلاحظ هنا اختلاف وجهات النظر لنفس الفعل؛ فبينيديتا ترى أن اعتناء بارتولوميا بها هو شكل من أشكال التعذيب- على المستوى النفسي، ومستوى الرغبات الجنسية المُشتعلة تجاه بارتولوميا- بينما بارتولوميا لا ترى ذلك بالفعل لأنها راغبة في مُساعدة وإسعاد بينيديتا التي كانت السبب في إنقاذها من أبيها وأشقائها، ولا تستطيع أن تفهم سبب قسوة بينيديتا عليها، إن اختلاف مُنطلق كل منهما هو ما يؤدي إلى النتيجة في تفسير الفعل.

تتقبل بينيديتا وجود بارتولوميا معها، وتحاول كبح جماح رغباتها تجاهها، حتى أن بارتولوميا حينما تقول لبينيديتا حينما تتهيأ لتغيير ملابسها: هل أستطيع أن أرى؟ ترد عليها بينيديتا بصرامة: لا يمكننا أن نتعرى أمام الآخرين. أي أنها تحاول منع الانفجار الجنسي الذي قد يحدث بينهن، لكن ازدياد وطأة ذهانيتها يدخلها في مجموعة من الرؤى الجديدة المُتتالية- يرغب المُخرج هنا في التعبير عن الصراع بين الروح والجسد، الإيمان والرغبة، السماوية والأرضية في مجموعة من التناقضات الثنائية التي تتجاذب بينيديتا- فنراها أثناء نومها يتجسد لها المسيح مصلوبا على نافذة غرفتها مُوقظا إياها قائلا: هل تريدين أن تعاني كي تظهري لي حبك؟ اخلعي ملابسك- اليقين بما أفضى لها به أب الاعتراف بشأن المُعاناة. لترد بوجل: نحن ممنوعات من خلع ملابسنا في حضور الآخرين. ليقول مُندهشا: مني؟! لا يجب أن تخجلي مني، افعلي ما أقوله. فتسرع بينيديتا بالتعري خاضعة لتقول: حاضر يا سيدي، أنا في طاعتك. ليقول آمرا: تعالي إليّ، ابعدي ما يفرق بيننا، وضعي يديك على يدي- في إشارة منه إلى الخرقة الوحيدة التي تستر عورته- وما أن تفعل بينيديتا ما يأمرها به إلا وتشعر بالكثير من الألم، وتبدأ كفاها وقدماها في النزيف بعدما تم اختراقهما في إحالة إلى أنها قد تم صلبها حينما اتحدت بالمسيح، لتقع فاقدة للوعي بينما يديها وقدميها المُخترقتين تنزفان بغزارة.


إذن، فلقد تطورت الحالة الذهانية التي تعاني منها بينيديتا بشكل كبير لدرجة أن هلاوسها الذهانية التي تراها وحدها قد باتت تترك على جسدها الكثير من الآثار، ومنها جروح قدميها وكفيها. وهي الآثار التي تتيقن جميع راهبات الدير من أنها بالفعل مُعجزة، وأن بينيديتا ليست سوى قديسة اختارها يسوع بالفعل كزوجة له، لكن رئيسة الدير/ فيليسيتا تتشكك في صدق بينيديتا لتسألها: هل كنت في الصلاة عندما حدث ذلك؟ لترد: كنت نائمة في السرير. لتقول فيليسيتا: القديس فرانسيس كان في الصلاة عندما تلقى الندبات، وكاترينا من سيينا أيضا، لا أحد منهما كان نائما. لكن بينيديتا المُقتنعة تماما بأن المسيح كان هو السبب في الندبات ترد عليها باعتزاز: أنا كنت نائمة، وترك يسوع هذه الآثار.

إذن، ففيرهوفن هنا يصعد من وتيرة الأحداث ليحدث الصدام القوي بين ذهانية فكرة الله وقدسيتها، وبين المُؤسسة الدينية ومصالحها البراجماتية- تصديق مُعجزة بينيديتا يترتب عليه تصعيدها لتكون رئيسة الدير بدلا من فيليسيتا- بالإضافة إلى خط الرغبات الجنسية المثلية بين بينيديتا/ القديسة، وبين بارتولوميا.


هذا الصراع يتضح بشكل جلي حينما يقول رئيس الدير لفيليسيتا: أتعتقدي بأنه لا يجب تصديق هذه المُعجزة؟ لترد: عزيزي رئيس الدير، أعتقد أنك لا تُصدق ذلك على الإطلاق. لكنه يقول بصرامة: هل أبدو ساخرا؟ الآن فقط لدي نفس الرؤية. لتقول: هذا مُحتمل جدا، مثل تلك الموجودة عند القديس فرانسيس، أسيزي كانت قرية مجهولة، الآن يتدفق إليها الحجاج كالنهر. ليقول: ويملؤون صندوق مال كنيسة بازيليكا. فترد: التي يحكمها أسقف وليس رئيس دير. أي أن لعبة السُلطة والمال هنا واضحة تماما في المُؤسسة الدينية؛ فرغم أن فيليسيتا لا تصدق مُعجزة بينيديتا نتيجة لأنها لا توجد ندبات على جبهتها- في إشارة إلى تاج الشوك على رأس المسيح- وهو ما يجعل كريستينا/ كبيرة الراهبات/ ابنة فيليسيتا أيضا تتشكك في المُعجزة، إلا أن رئيس الدير يُصرّ على قبوله بالمُعجزة، واعتبار بينيديتا قديسة بالفعل؛ لأن قبول الأمر وشيوعه بين الجميع سيؤدي إلى ذيوع شهرة الدير الذي سيتحول إلى كنيسة، وحج الكثيرين من المُؤمنين إليه تبركا بالقديسة بينيديتا، وتدفق الأموال الضخمة إلى الكنيسة، بل وتصعيد رئيس الدير إلى أسقف، أي أن الأمر مُجرد صفقة مالية رابحة بمُجرد قبول ادعاءات بينيديتا حتى ولو كانت غير صادقة، بينما الأمر سيختلف بالنسبة لفيليسيتا التي سيتم تنحيتها عن منصبها كرئيسة للدير، ويتم تصعيد بينيديتا مكانها! إنه الزيف والخداع الكامل باسم الرب من قبل المُؤسسة الدينية.


تحاول بينيديتا الصلاة أمام تمثال العذراء، وتُصاب بمجموعة من الندبات والجروح في جبهتها؛ فتصرخ ليجتمع كل من في الدير، وفجأة تتحدث إليهم في صوت ذكوري بينما الدماء تتساقط على وجهها: غدا، ستعرفون أيها الخطاة، الطاعون قادم، وسيكون عقابا رهيبا، وسأنقذكم منه ببركة زوجتي، وها هم يُضطهدون ويُعذبون، ويقتلون من ينقذهم.

سنُلاحظ أن بينيديتا تقول كلامها بصوتها الذكوري المُخيف، بينما عينيها تدوران في محجريهما، غير ثابتتين باتجاه السماء، وسُرعان ما تفقد وعيها في تأكيد يقيني من المُخرج على أنها تعاني من حالة صرع، وذهان لا شك فيه، وهو الذهان الذي يجعلها ترى ما تراه، والصرع الذي يجعلها تفقد الوعي، وتتماهى مع الصوت الذكوري المُنطلق منها، ولعل الدليل على أنها هي من تفعل بنفسها ذلك- رغم يقينها وإيمانها بأن الله يسوع هو الفاعل في حقيقة الأمر، وهو ما يقر في ضميرها- أن كريستينا قد عثرت على زجاج مُختلط بالدم أسفل تمثال العذراء، أي أن بينيديتا قد استخدمته في إحداث الندوب بجبهتها كي يصدقها أي شخص مُتشكك في مُعجزتها، وهو أيضا ما ستتوصل إليه بارتولوميا فيما بعد حينما تبدأ في النزيف مرة أخرى من كفيها وقدميها؛ فتعثر بارتولوميا على قطعة فخار مُدببة مُختلطة بالدم، أي أن بينيديتا قد استخدمتها لاستعادة ندوبها ونزفها. إن بينيديتا في أفعالها، وجرحها لنفسها ليس لديها الوعي بأنها من تفعل ذلك بنفسها نتيجة حالتها الذهانية، بل هي تُصدق ويُخيل إليها بأن المسيح/ الله هو من يفعل بها ذلك، وأنه بالفعل قد اتخذها كزوجة وظلا له على الأرض.


هذا الصوت الذكوري الذي تقمصته بينيديتا يجعل رئيس الدير يقول لفيليسيتا بخشية: هذه الكلمات المُزعجة تعود إلى صوت الرب، أشعر بهذا من كل قلبي، هذه مُعجزة حقيقية، كيف تستطيعين إنكارها؟! لتقول: أنا لا أنكر يا صاحب السماحة. ليرد: أنت تتظاهرين باللطف، وعندما أستدير تغرسين سكينا في ظهري، حسنا، دعينا نرى ما سيعطيه الله لكل منا في الحياة. أي أن الجميع قد آمن بمُعجزة بينيديتا التي تدعيها بصلتها بالإله، وبالتالي تبدأ التبرعات تنهال على الدير من المواطنين كي تباركهم القديسة بينيديتا، بينما تخضع فيليسيتا للأمر لأنها لا تستطيع الخروج عن طاعة رئيس الدير، لكن كريستينا تظل مُتشككة في الأمر، وهو ما نتأكد منه حينما تقول كريستينا لأمها: إنها تسخر منك، لكنك لم تقولي شيئا. فترد فيليسيتا: هذه قواعد اللعبة، في النهاية يفوز الجميع، رئيس الدير يصبح أسقفا، والدير سيحصل على فوائد مالية، أي أن المُؤسسة زائفة، وفاسدة حتى النخاع، ومتورطة في النفاق باسم الدين.


يُفجر فيرهوفن الخط الفاصل بين الروح والجسد، برؤية جديدة لبينيديتا، وهي الرؤية التي تُطلق رغباتها الجنسية إلى ما لا نهاية حينما ترى المسيح في نومها قائلا: أريدكِ أن تعطيني قلبك. لتسأله: ألن أموت بلا قلب؟ فيقول: سوف تعيشين، هل تحبينني؟ فتسأله: كيف سأعيش بلا قلب؟ ليقول: سأعطيك شيئا أفضل، قلبي. هنا تشعر بينيديتا بأنها غير قادرة على احتمال قلب المسيح، وتوقظ بارتولوميا النائمة في الفراش المجاور مُخبرة إياها، بما حدث وبأن صدرها لا يستطيع استيعاب قلب المسيح، وتطلب من بارتولوميا وضع يدها على صدرها لتتأكد من الأمر؛ فتضع بارتولوميا يدها على صدر بينيديتا العاري مُتحسسة إياه برغبة جنسية، وهو ما يجعل بينيديتا تشعر بالمُتعة لتبدأ في التأوه المُلتذ من مُداعبة صدرها، أي أن فيرهوفن قد فتح الطريق لانسيال الرغبات المكبوتة، وهي الرغبات التي ستنفجر في وجه الجميع كعاصفة لا يمكن لأحد إيقافها.

حينما تلجأ كريستينا إلى أب الاعتراف مُخبرة إياه بأنها تتشكك في مُعجزة بينيديتا، يسألها ما سبب تشككها، فتقر له بأنها قد رأتها تقوم بصُنع الندوب على جبهتها مُستخدمة لشظايا الزجاج- رغم أنها لم تر ذلك بالفعل، وأكدت لأمها بأنها لم تر هذا الأمر، لكنها تشك فيه- هنا يُصر الأب أثناء الإفطار الجماعي للراهبات على أن تقف كريستينا أمام الجميع للحديث عن شكوكها، وحينما تحاول الاستعانة بأمها، وبأنها قد أخبرتها بما رأته، تتنصل فيليسيتا من الأمر، مُؤكدة بأن كريستينا لم تر بالفعل هذا الأمر وإن كانت تتشكك فيه؛ لينطلق صوت بينيديتا الذكوري الغاضب مع تشوهات في وجهها تؤكد على سيطرة الحالة الذهانية عليها لتقول بصوت مُخيف: إنها لا تؤمن بي، إنها ممسوسة بالشياطين، علينا أن نُعاقبها بالسوط، يجب أن تجلد نفسها. ليقول الأب: يجب طرد الشيطان من هذا الجسد! لتقوم كريستينا بتعرية ظهرها أمام الجميع وتبدأ في جلد نفسها.


إذن، فلقد سيطرت أسطورة/ معجزة بينيديتا المُتحدة بالله على الجميع، وتمكنت من إحكامها؛ مما جعلهم يبدأون في التصرف من دون تفكير، بل انطلاقا من إيمانهم بالمُعجزة التي حدثت للقديسة بينيديتا.

تنتقل بينيديتا إلى غرفة فيليسيتا باعتبارها قد باتت رئيسة للدير، وتنتقل معها بارتولوميا حيث تبدآن في مُمارسة رغباتهما المثلية التي انطلقت كالعاصفة التي لا يمكن الوقوف في وجهها، ولعل أول مرة لهما في مُمارسة الجنس بشكل كامل كانت من الأهمية ما يجعلنا نتوقف أمامها لمُفارقتها، فلقد قامت بارتولوميا بتعرية بينيديتا وبدأت في تقبيلها ورضاعة ثدييها، وسُرعان ما انتقلت بأصابعها لمُداعبة فرجها وإدخال أصابعها فيه بعد أن قامت بتعريها بدورها، هنا تبدأ بينيديتا بالتفاعل الجنسي معها والشعور بالمُتعة طالبة منها إدخال أصابعها بشكل أعمق، لكن بارتولوميا تخبرها بأن أصابعها قصيرة، مُستمرة في مُداعبتها إلى أن تصل بينيديتا إلى الأوجازم مُرتعشة. ما يهمنا في هذا المشهد المثلي هو وصول بينيديتا لرعشتها الجنسية، حيث ينطلق لسانها باسم يسوع مُلتذة، وهو التناقض المُذهل الذي يرغب المُخرج في إيصاله لنا؛ فبالتناقضات تُعرف الأشياء، وإذا ما كانت بينيديتا مُؤمنة في قرارة نفسها بأن المُعاناة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة المسيح، ففي هذا المشهد أثبت المُخرج من خلالها أن بالأورجازم الجنسي- سواء من علاقة جنسية مثلية أم طبيعية- أيضا يُعرف المسيح، ومن ثم لهج لسان بينيديتا باسمه بمُجرد وصولها لأورجازمها، إنه التناقض الساخر من كل شيء، وهو ما يميز فيلم بول فيرهوفن من دون عمدية تبتعد بالحدث عن القصدية، وتميل به إلى التلقائية والطبيعية.


تشعر بارتولوميا بالتقصير في إشباع بينيديتا الجنسي وإرضائها بسبب قصر أصابعها التي طلبت منها بينيديتا الإيغال بها عميقا في فرجها؛ ومن ثم تبزغ في ذهنها فكرة استخدام تمثال العذراء- هدية أم بينيديتا لها قبل دخولها للدير- كقضيب صناعي ليرضي بينيديتا جنسيا، فتقوم بشحذ نصفه الأسفل بسكين، وتحاول أن يكون ناعما حتى لا يجرح حبيبتها، وتُعده لها كمُفاجأة، وبالفعل تستخدمه كعضو ذكوري بإدخاله في فرج بينيديتا التي تصل إلى الأورجازم بشكل أعمق، بينما فيليسيتا تتجسس عليهما من ثقب كانت قد أحدثته في جدار غرفتها التي انتقلتا لها الفتاتان.

لأن كريستينا شعرت بالكثير من الإهانة بعد جلد نفسها أمام جميع راهبات الدير، ولأن أمها لم تُساندها في كذبتها بأنها قد رأت بينيديتا أثناء صُنع الندبات على جبينها؛ فهي تصعد أعلى الدير لإلقاء نفسها منه، وحينما تسقط مُضرجة في دمائها؛ تقترب منها بينيديتا من أجل مُباركة روحها، لكن فيليسيتا التي رأت بينيديتا أثناء مُمارستها للجنس مع بارتولوميا ترفض اقتراب بينيديتا من ابنتها كريستينا، فتقول لها بينيديتا: أيتها الأخت فيليسيتا، أريد أن أضع يدي عليها لأبارك روحها. فترد فيليسيتا بغضب: أنت، لا تلمسيها. لتقول بينيديتا: هذا واجب، روح المُنتحر تذهب إلى الجحيم، لا أريد أن يحدث لها ذلك. لتقول فيليسيتا: ابعدي يديك، خذيها بعيدا. لكن بينيديتا ترد: كلمة واحدة مني، وسأنقذها من النار الأبدية!

بالتأكيد علامة التعجب السابقة من عندنا؛ فمن يمثلون الدين- المُؤسسات الدينية، وقد باتت بينيديتا مُمثلة للمُؤسسة- يمتلكون صكوك الرحمة، والغفران، ومفاتيح الجحيم، والفردوس الإلهي، أي أنهم في حقيقة أمرهم يرون أنهم الله- وليس ظله- على الأرض، وبالتالي فهم من يقررون من يدخل الجحيم، ومن يخرج منه، بينما الرعاع والغوغاء من المُؤمنين يتبعونهم في إيمان ويقين كاملين، مُسلمين حياتهم، وأنفسهم، وأموالهم لمُمثلي الدين باعتبارهم الله الفعلي!


تهرب الأخت فيليسيتا إلى فلورنسا لإخبار القاصد الرسولي بما سبق لها أن رأته، واكتشاف مُمارسة بينيديتا للجنس مع بارتولوميا في الدير مُستخدمة لتمثال العذراء- مع ما له من قداسة تتعارض تبعا للمفهوم الديني مع دناسة الفعل الجنسي- وبالتالي فإن هذا هو خير دليل على تجديف بينيديتا، وكذبها في كل ما ادعته من رؤى.

على الجهة الأخرى تشعر بارتولوميا بالكثير من الخوف من اتجاه فيليسيتا إلى فلورنسا خشية كشف أمرهما، فتسأل بينيديتا بارتولوميا: هل تظنين إني جرحت جبيني بنفسي بالزجاج؟ لترد بارتولوميا: هذا تماما ما فعلته، أليس كذلك؟ لتقول بينيديتا: لا أعرف، لا أعرف كيف حدث هذا الشيء، أعرف فقط أن الله يُعبر عن إرادته من خلالي، ليس جلدي فقط- ثم تسحب كف بارتولوميا إلى فرجها العاري لتقول: بل هذا أيضا، العار غير موجود تحت حماية محبة الرب.

في المشهد السابق يتأكد لنا أمرين مُهمين: أولهما أن حالة الذهان النفسي المُسيطرة على بينيديتا قد استغرقتها مُتملكة إياها تماما، حتى أنها لا تعرف بالفعل بأنها هي من تقوم بهذه الأفعال بجسدها- الندبات في يديها وقدميها وجبهتها- وتظن بشكل يقيني وصادق بأن المسيح/ يسوع/ الله هو من يقوم بهذه الأفعال بها باعتبارها زوجته، أو مُمثلا له على الأرض تتحدث باسمه، بل وبصوته في الكثير من الأحيان، ثانيا: أن بينيديتا قد تصالحت تماما مع رغباتها الجنسية المثلية تجاه بارتولوميا- وهي الرغبات التي تُحرمها طقوس ديانتها، وتتعارض مع المفهوم الروحي للإيمان- بل وبدأت تُكسبها المشروعية باسم الرب- أعرف فقط أن الله يُعبر عن إرادته من خلالي، ليس جلدي فقط، بل هذا أيضا، العار غير موجود تحت حماية محبة الرب- أي أن ما يفعلنه من مُمارسات جنسية هي حق مشروع ومُقدس لهما، يتم تحت حماية الرب، وباسم محبته!

المخرج والسيناريست الهولندي بول فيرهوفن

هنا يصطدم المُقدس بالمُدنس، ويتماهى معه تماما من وجهة نظر بينيديتا، بينما يأخذ شكل الصراع المُخيف بالنسبة لكل من في الدير، بل وللقاصد الرسولي الذي لجأت إليه فيليسيتا في فلورنسا- قام بدوره المُمثل الفرنسي Lambert Wilson لامبرت ويلسون.

يبدأ الطاعون في الانتشار في كل مكان، وتخرج بينيديتا أمام الدير مع الآباء والراهبات من أجل التضرع للرب من أجل حمايتهم من الطاعون، وفجأة تجثو أمام تمثال المسيح لتتضرع إليه أن يحميهم، وسُرعان ما تنهض مُخبرة للجميع بأن المسيح قد وعدها بحمايتهم من الطاعون، لا سيما أهل بيسشيا، وتطلب من الجنود إغلاق أبواب المدينة، ومنع أي مخلوق من الدخول أو الخروج منها، لكنها تقع ميتة فجأة أمام الجميع.

يتوجه القاصد الرسولي مع فيليسيتا إلى الدير لمُعاقبة بينيديتا وبارتولوميا بحرقهما في النار على فعلتهما، ولعلنا نُلاحظ أثناء اتجاه القاصد الرسولي إلى الدير مشهدا مُهما مُدللا على الكثير مما يرغب فيرهوفن في قوله، حينما يتعلق أحد الرجال المُصابين بالطاعون بعربة القاصد الرسولي طالبا منه المُساعدة: أيها الأسقف، توصلوا إلى حل، فأنت يا صاحب السعادة قد تموت، لا تتركوني أموت هكذا. فيدفعه القاصد الرسولي بعيدا قائلا: اذهب إلى الأب في أبرشيتك، فهو من سيعتني بك. إلا أن الرجل يرد عليه بسُخرية مريرة: هذا أنا، أنا هو الأب في أبرشيتي.

السيناريست الأمريكي ديفيد بيرك

إن دلالة الموقف موغلة في السُخرية من كل ما تمثله المُؤسسة الدينية بزيفها، وكذبها، واحتيالها، وعجزها عن الفعل في جوهر الأمر؛ فإذا ما كان الأسقف يظن أن الأب اللاجئ إليه مُجرد مواطن عادي من البسطاء، وبالتالي أحاله إلى الأب في الأبرشية- باعتبار أن الخديعة الدينية، والقدرة على فعل المُعجزات على يد رجال الدين مُستمرة- فإن الرجل/ الأب في حقيقة الأمر يرد بسُخريته المريرة رده الذي يؤكد على أن الأمر بالكامل لا يعدو سوى مُجرد خديعة عظمى يصدقها الغوغاء لشعورهم بالراحة النفسية بتصديق كل هذا الهراء.

حينما يصل الأسقف إلى الدير يجد الأبواب مُغلقة، ولما يخبره رئيس الدير بأنه لا يمكن لهم الدخول إلا بعد خضوعهم للكشف من قبل أطباء الدير، يرد عليه الأسقف بصلافة، بأن الله هو من أرسلهم؛ وبالتالي سيدخلون في كل الحالات- الإيغال في الخديعة باسم الله.

يكتشف القاصد الرسولي بأن بينيديتا قد ماتت وأنهم يقومون بتجهيزها للدفن، وحينما يبدأ الأسقف في مُباركتها تفتح عينيها فجأة لتخبرهم بأنها عادت من الموت بعدما رأت الجحيم والنعيم، كما رأت كل من هم موجودين من حولها في الماضي والحاضر والمُستقبل، فيخبرها الأسقف بأنها ستُعرض للمُحاكمة بتهمة التجديف، ومُمارسة الجنس في الدير.

يحاول الأسقف استجواب بارتولوميا من أجل الاعتراف بما فعلته مع بينيديتا، وحينما يفشل في حملها على الاعتراف بالأمر يبدأ في تعذيبها مُستخدما "الكمثرى"- أداة من الفولاذ يتم إدخالها في مهبلها لتبدأ في التمدد والاتساع من أجل تمزيق المهبل- وتحت ضغط التعذيب تعترف بارتولوميا بمُمارستها للجنس مع بينيديتا مُستخدمة لتمثال العذراء كقضيب صناعي، وتدلهم على مكان التمثال الذي أخفته بينيديتا داخل تجويف صنعته في صفحات الكتاب المُقدس.

الممثل الفرنسي أولييفه ريوردين

هنا يتحول صوت بينيديتا إلى صوت ذكوري غاضب- صوت المسيح- لتقول: تجديف، كيف تجرؤ على ذلك؟! كيف تتعامل هكذا مع زوجتي؟- المسيح يتحدث مع الجميع من خلال بينيديتا المُستغرقة في ذهانها- ستُحاسب على هذا، أنت دنس، ستتم مُحاكمتكم جميعا، أنتم أتباع الشيطان، توقفوا عن الحُكم، سوف تتوسل إليّ من أجل الرحمة، ستموت في عذاب جهنمي.

يلقي الجنود القبض على بينيديتا لتجهيزها للحرق أمام المواطنين، بينما يطردون بارتولوميا من الدير، وأثناء مثولها أمام الشعب المُؤمن بمُعجزتها، والذي يحاول الدفاع عنها وإنقاذها من الحرق حتى لا تحدث كارثة، ولعنة تصيبهم جميعا، يطلب منها الأسقف الاعتراف من أجل إنقاذها من الحرق؛ فتتمثل الصوت الذكوري الغاضب مرة أخرى لتقول على لسان يسوع: لقد خانوا حبي، الآن لن يكون أي منكم بأمان، سيأتي الموت إلى هذه المدينة كما الريح التي تحمل كل شيء في طريقها- لتبدآ كفاها في النزيف، وتظهر عليهما الندوب العميقة مرة أخرى- انظروا، ملك الموت قد مد يده، الموت هنا، إنه بالفعل يمشي بينكم، يا ملاك الموت، أرني وجهك.

يأمر الأسقف بتقييد بينيديتا إلى العمود الخشبي، وإضرام النار بجسدها، فيثور المواطنون المُؤمنون بمُعجزتها، ويقاومون رجال الأمن مُعتدين عليهم، محاولين إنقاذ بينيديتا من وصول النيران إلى جسدها، وتنجح بارتولوميا بالفعل في فك وثاقها، لكنها تعثر على قطعة فخارية حادة مُدببة مُلطخة بدمائها أسفل قدمها- الدليل على أن بينيديتا هي من تقوم بإحداث الندبات بنفسها وليس المسيح، وهو الإغراق في ذهانيتها- بينما يهجم الجميع على الأسقف محاولين قتله، لتقوم امرأة بطعنه بسكين في صدره بعد اكتشافهم بأنه مُصاب بالطاعون، وتُسرع فيليسيتا التي أصيبت بالطاعون مثل الأسقف بإلقاء نفسها في النيران المُشتعلة.

الممثل الفرنسي لامبرت ويلسون

إن إنقاذ بينيديتا من الحرق، والاعتداء على الجنود، وقتل القاصد الرسولي، هو تعبير بليغ من المُخرج على المقدرة الهائلة للغوغاء على التدمير إيمانا بأساطيرهم، حتى لو كانت هذه الأساطير خاطئة، وهو تحذير غير مُباشر من صانع الفيلم يشير إلى مقدرة الغوغاء على تحويل كل ما حولهم إلى دمار تام إذا ما تُرك لهم زمام الأمر، أو حاولوا تغليب أوهامهم، وجهلهم، ليكونا هما وجهة النظر السائدة.

تسرع بينيديتا إلى القاصد الرسولي الذي يلفظ أنفاسه لتسأله: هل تريدني أن أبارك روحك؟ ليرد عليها: عندما كنت ميتة هل رأيت عالما آخر؟- التشكك في جوهر الدين ذاته واختلاط الإيمان بالأسطورة، فهو لا يصدق وجود عالم آخر، وهو ما كرس حياته له، وفي نفس الوقت بدأ يتشكك في وجود الأسطورة وأن بينيديتا بالفعل قديسة- لترد عليه بينيديتا: أراني يسوع مكان الجميع في الماضي والحاضر والمُستقبل. ليسألها: وأنا؟ هل سأذهب إلى الجنة أم جهنم؟ لتقول: إلى الجنة. لكنه يرد لافظا أنفاسه: تكذبين حتى النهاية.

إن الجملة الأخيرة التي تلفظ بها الأسقف لبينيديتا تكشف لنا كل شيء، وهي جملة مُؤسسة، وجوهرية يقصدها بول فيرهوفن في فيلمه المُهم؛ فرجل الدين/ القاصد الرسولي واثق تمام الثقة بأنه مُجرد مُحتال باسم الدين والرب، وأنه إنما يخادع الجميع بمكانته في المُؤسسة الدينية، بل ويوقن بأن المُؤسسة بالكامل كاذبة مُنافقة مُحتالة، وبالتالي فيقينه بأنه لن يذهب إلى الجنة هو ما اعترف به في نهاية الأمر رغم تأكيد بينيديتا له بأنه سيذهب إلى الجنة.

الممثلة الإنجليزية شارلوت رامبلينج

تقضي كل من بارتولوميا وبينيديتا ليلة من العشق الجنسي بعيدا عن الدير في الهواء الطلق، لكن في الصباح تستيقظ بينيديتا العارية لتنهض ناظرة إلى الدير البعيد؛ وترتدي ملابسها راغبة في العودة إليه. تحاول بارتولوميا إثنائها عن العودة إلى الدير، مُؤكدة لها أنها إذا ما عادت سيحرقونها بالفعل، لكن بينيديتا تخبرها بأنها لا تستطيع الحياة بعيدا عن الدير، وبأنهم حتى لو حاولوا إحراقها فإن يسوع سينقذها من النيران. تعود بارتولوميا إلى محاولاتها العبثية في إقناع بينيديتا بأنها تدعي كل ما حدث، وبأنها هي من تقوم بفعل هذه الندوب بنفسها، مُظهرة لها القطعة الفخارية الحادة الملوثة بدمائها، لكن بينيديتا- المُستغرقة في ذهانها لدرجة تصديق كل ما حدث- تؤكد لها أنها بالفعل مُعجزة، وبأنها زوجة يسوع، لتترك حبيبتها مُتجهة إلى الدير، مُفارقة إياها للأبد. هنا يكتب بول فيرهوفن على الشاشة: تم رفض شهادة الأخت بينيديتا كارليني، وعاشت حتى بلغت عمر السبعين مُنعزلة في مُجمع الدير، وتمكنت من حضور القداس، وفي بعض الأحيان سُمح لها بالعشاء مع أخواتها، لكن جالسة على الأرض، والطاعون الذي عصف بالبلاد ابتعد كليا عن مدينة بيسشيا.

إن إغلاق بول فيرهوفن لفيلمه بهذه الكلمات يتماهى مع الحقيقة والأحداث التاريخية التي حدثت لبينيديتا كارليني بالفعل، لكن الفيلم في جوهره كان بمثابة البيان الثوري ضد خديعة المُؤسسة الدينية وما يدور فيها من خديعة لا يمكن تجاوزها أو الصمت عنها، وهو ما عبر عنه المُمثلين بإتقان موغل في الأداء، لا سيما مُباراة الأداء المُدهشة التي كانت بين كل من المُمثلة فيرجيني إيفيرا- بينيديتا- والمُمثلة تشارلوت رامبلينج- فيليسيتا- حيث كانت كل منهما تؤدي دورها كأنها تحيا حياتها الطبيعية، وليس مُجرد أداء تمثيلي أمام الكاميرا.

الممثلة الفرنسية لويز شيفيلوت

إن الفيلم الفرنسي بينيديتا للمُخرج الهولندي بول فيرهوفن هو في حقيقته قصة نسوية عن امرأة تؤسس للسُلطة في نظام أبوي من خلال الإيمان، والحب، وذهانية فكرة الله، ووهمها، مُستخدمة في ذلك سلاحها الوحيد الذي تمتلكه، وهو أنوثتها، وقضيبها الصناعي من خلال تمثال العذراء، بما في ذلك من إحالات كثيرة على وهم القداسة، وتعارضها مع فكرة الدين عن دناسة العلاقات الجنسية، فضلا عن ذكائها، وهو ما لاحظناه في بداية الفيلم- الليلة الأولى لالتحاق الطفلة بينيديتا للدير- حيث تقول لها إحدى الراهبات: أنت فتاة ذكية، يمكن أن يكون الذكاء خطيرا جدا يا صغيرتي، ليس فقط على الآخرين. وهو ما رأيناه يتحقق بالفعل على طول أحداث الفيلم.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد مايو 2023م