الأحد، 26 فبراير 2023

الباب المفتوح: حرية المرأة والتناقض الاجتماعي

في الوقت الذي قدم فيه المُخرج هنري بركات فيلمه "الباب المفتوح" 1963م كان مجموع أفلامه التي ساهم بها في مسيرة السينما المصرية قد بلغ 41 فيلما سينمائيا، أي أن فيلم الباب المفتوح كان رقم 42 في مسيرته السينمائية؛ وهو الأمر الذي أكسبه الكثير من المهارة والإتقان والفهم لآليات صناعة السينما، ولعل هذا النُضج كان واضحا كثيرا في أفلامه الأخيرة بعد هذه المدة الزمنية الطويلة في حقل الصناعة؛ ومن هنا كان انتباهه إلى رواية "الباب المفتوح" للروائية لطيفة الزيات ليس من قبيل المُصادفة التي جعلت أحد المُخرجين يقرأ إحدى الروايات؛ فيتحمس من أجل تحويلها إلى فيلم سينمائي، بل كانت خبرته الطويلة في الصناعة، و
نُضجه البيّن سببين رئيسيين في عينه السينمائية الحصيفة التي جعلته يرى في هذه الرواية صلاحيتها لأن يحولها إلى فيلم سينمائي ناجح من خلال تقنياته السينمائية ومهارته وخبرته التي اكتسبها على مرّ هذه السنين الزمنية الطويلة، ولعل هذا الحماس للرواية التي كتبتها الزيات هو ما جعل المُخرج يتحمس مرة أخرى لإنتاج الفيلم وليس إخراجه فقط ليقدم لنا فيلما شديد التماسك، مُتخم بالتقنيات السينمائية والرموز البصرية المُهمة والذكية، مما جعل الفيلم ما زال ناضجا بالفعل حتى اليوم رغم مرور كل هذه المدة الزمنية على صناعته، لكن رغم هذا الزمن يبدو لنا الفيلم وكأنه قد انتهى المُخرج لتوه من صناعته.

إذن، فاكتساب الخبرة الطويلة واللازمة في الصناعة كانت كفيلة بتقديم فيلم يبدو للمُشاهد وكأنما مُخرجه قد صنعه اليوم في ألفيتنا الجديدة، رغم حديث الفيلم عن الفترة التاريخية قُبيل الانقلاب العسكري المصري بقليل- ثورة يوليو 1952م- انتهاء بفترة العدوان الثلاثي على مصر 1956م، مرورا بحريق القاهرة في يناير 1952م، وإعلان الرئيس جمال عبد الناصر إعلان تأميم قناة السويس، أي أن الأحداث التاريخية السياسية في تاريخ مصر الحديث كانت هي الخلفية الأساسية التي تُحرك أحداث الفيلم منذ البداية حتى نهاية هذه الأحداث رغم أن الفيلم يعنيه في المقام الأول الحديث عن حرية المرأة، والمرأة الجديدة في مصر كما كتب عنها سلامة موسى وغيره من الكتاب الذين نظروا وكتبوا من أجل تحرير المرأة، مما يعني أن الفيلم ذو الخلفية التاريخية السياسية كان في حقيقته وجوهره فيلما ثوريا على مستوى الأفكار وإمكانية تطبيق هذه الأفكار التي يتشدق بها الجميع من عدم إمكانية التحقيق.

المُخرج هنري بركات

من هنا يمكن لنا القول: إن كل مشهد وقطع مونتاجي في فيلم هنري بركات يحمل من الدلالات والرموز والمهارة ما يمكن له أن يحيلنا إلى العديد من الأفكار والأحداث التي يرغب في الحديث عنها، أو اختصارها من دون ثرثرة بصرية وبشكل مُوجز فيه من الإتقان ما لم يتأت للكثيرين من غيره نتيجة هذه الخبرة السينمائية الطويلة التي اكتسبها، وهو ما لاحظناه في هذا الفيلم.

يبدأ بركات فيلمه أثناء نزول تيترات الفيلم على مشهد جرس إحدى المدارس الثانوية يدق بينما يتعالى صوت يحمل الكثير من الحماسة في الخلفية ليقول: في الفترة التي سبقت ثورة 23 يوليو اضطرت الحكومات المُتعاقبة، تحت ضغط الشعب، إلى قطع المفاوضات. وأخذ الشباب في كل مدينة، بل وفي كل قرية يتدربون على حمل السلاح، وبدأ الكفاح المُسلح ضد قوات الاحتلال في منطقة القناة، وفي القاهرة خرج الشعب كله يعلن تأييده للأبطال الذين يحاربون العدو في معركة الموت أو الحياة من أجل تحرير أوطانهم.

نلاحظ أن هذه المُقدمة الحماسية التي حرص المُخرج على البدء بها صاحبها فوتومونتاج ينقل لنا الأحداث الثورية التي تموج بها مصر في هذه الفترة من مُظاهرات عديدة تنطلق في كل مكان، وحماسة الشباب، ومشاهد الدبابات التي تستعد للحرب وغير ذلك من المشاهد، أي أن المُخرج لم يقدم لنا مُجرد مقدمة صوتية حماسية فقط، بل أسهم بما فعله من فوتومونتاج بنقل ما يدور في مصر بالكامل، لنرى في المشهد الأول ناظرة إحدى المدارس الثانوية تخطب في طالباتها بحماسة: إن وظيفة المرأة هي الأمومة، ومكان المرأة هو البيت، إن الكفاح والجهاد للرجال. مما يجعل الطالبة ليلى- قامت بدورها المُمثلة فاتن حمامة- تقاطعها هاتفة في زميلاتها: إن حضرة الناظرة تقول: إن المرأة للبيت والرجل للكفاح، وأنا أقول: إن الاستعمار حين يستعبدنا لا يفرق بين الرجل والمرأة، وحين يُسدد الرصاص إلى قلوبنا لن يفرق بين الرجل والمرأة؛ فدعونا نعبر عن شعورنا، دعونا نُعبر عن مشيئتنا، وتتفق مع الأخريات من زميلاتها على الخروج في مُظاهرة حاشدة؛ مما يجعل جميلة/ ابنة خالتها- قامت بدورها المُمثلة شويكار- تصفها بالجنون، وتخاف أن يراها أحد من أهلها وكأنها تفعل فعلا شائنا بخروجها إلى المُظاهرة!

تخبر جميلة خالتها- قامت بدورها المُمثلة ناهد سمير- بما قامت به ليلى؛ الأمر الذي يجعل الأب ثائرا مُنتظرا عودة ابنته، وبمُجرد عودتها يصفعها على وجهها، ثم لا يلبث أن يخلع حذائه ليقوم بضربها به؛ مما يجعل ليلى تلتزم غرفتها مُمتنعة عن الطعام، غير راغبة في الخروج منها. يحاول أخوها محمود- قام بدوره المُمثل محمود الحديني- دخول غرفتها وإقناعها بتناول الطعام؛ فتقول لها أمها لائمة: كان حد غصبك تعملي العملة السودة دي؟ تفضحينا وتجرسينا في الحتة؟! هي جميلة مش بنت زيك؟! معملتش عملتك دي ليه؟


بالتأكيد لا بد من ارتسام علامات الدهشة على وجوهنا حينما نستمع إلى قول الأم الذي يوحي بأن الفتاة قد ارتكبت فعلا شائنا من شأنه أن يضر بسُمعتها وسُمعة أهلها، في حين أنها لم تفعل أكثر من التعبير عن مشاعرها الوطنية ومُشاركة غيرها من أبناء الوطن في التعبير عن هذه المشاعر.

يحاول محمود تهدئة ليلى لكنها تقول له: فهمني عشان أنا مبقتش فاهمة حاجة أبدا، كل حاجة أعملها عيب، كل حاجة أعملها غلط، الضحكة دي عيب، عيب ليه يا ماما؟ مش على الأصول، والكلمة، الكلمة اللي طالعة من القلب عيب، أضحك عيب، أسكت عيب، أدخل للضيوف عيب. ثم يقوم المُخرج بالقطع المُونتاجي على موقف سابق بين ليلى وأمها تقول لها فيه ليلى: أنا احترت معاكي يا ماما؛ كل حاجة أعملها تطلع عيب؛ لترد عليها الأم: أنت بنت، واللي يمشي على الأصول ميتعبش. ثم يعود المُخرج للحوار السابق بين ليلى ومحمود لاستكماله: أنت دايما كنت تقول لي: ولا يهمك، البنت زي الولد، واللي بيسموه أصول دا مش أصول بالمرة، وصدقتك، دلوقتي أنا مش فاهمة حاجة خالص.

من خلال هذا المشهد الحواري بين محمود وليلى يعمل المُخرج على التأسيس لفيلمه والموضوع الذي يحاول مُعالجته منذ البداية؛ حيث نرى نظرة المُجتمع المُحقِرة للمرأة؛ والتي لا يرى فيها إلا مُجرد هامش ممنوع من مُمارسة حياته بشكل طبيعي، حتى أنه  يكاد أن يمنع عنها التنفس بالهواء الطبيعي، ويطلب منها أن تكون مُجرد شيء للزينة فقط داخل بيتها؛ ومن ثم لا يجوز لها مُجرد إبداء الرأي أو حتى الحديث، بل يلومها على الصمت، أي أن المُخرج هنا يقدم لنا فيلما ذا طبيعة ثورية على ما يدور داخل المُجتمع وليس فيلما ثوريا من وجهة النظر السياسية كما قد يبدو لنا من الظاهر، صحيح أن الخلفية السياسية هي التي تسود الفيلم، وتكاد أن تحرك أحداثه، ولكن الجوهر الحقيقي للأحداث هو ما يدور داخل هذا المُجتمع الذي يحتقر المرأة في قرارة ذاته ويشيئها ليسلبها أي حق من حقوق الحياة!


يصل ابن خالتها عصام- قام بدوره المُمثل حسن يوسف- الذي يسكن معهم في الطابق الأعلى من البيت، وتطلب منه خالته أن يدخل لها من أجل إقناعها بتناول الطعام، وحينما يفعل يحاول الحديث معها، ويقتربان من بعضهما ليكادا أن يقبلا بعضهما البعض؛ لنعرف أنهما واقعين في العشق، لكن أمها تدخل عليهما مما يجعل عصام ينصرف مُرتبكا. هنا تعود ليلى إلى حيويتها وتُقبل على طعامها والحياة، مما يعني أن مشاعر الحُب هي الوحيدة القادرة على منحها المزيد من الحياة.

بعد عدة أيام تسألها أمها عن عصام وسبب غيابه منذ عدة أيام، لكنها تخبرها أنها لا تعرف عنه شيئا. في هذا الوقت يدق الباب ليدخل عصام سائلا عن محمود ويجلس أمام خالته في انتظاره بينما يختلس النظرات المُتبادلة مع ليلى، وحينما يأتي محمود يخبرهما بأنه يتدرب على السلاح استعدادا للذهاب مع الفدائيين في بور سعيد. تشعر ليلى بالكثير من الفرح لهذا القرار الذي اتخذه أخوها ويبدآن في الحديث عن ردود الفعل المتوقعة من أبيهما وأمهما؛ مما يجعل عصام يشعر بالغيرة، نظرا لفرحة ليلى غير المتوقعة بسبب قرار أخيها، ويخبره بأنه يريد التدرب والذهاب معه بدوره- نلاحظ هنا أن قرار عصام لم يكن عن اقتناع، بل من أجل اكتساب إعجاب ورضى ليلى عنه-.

لما يخبر محمود والده بقراره يثور عليه الأب غاضبا ليقول له بصرامة: حضرتك فاكر نفسك بطل؟! ليرد عليه الابن: أنا مش بطل، أنا راجل، راجل بيدافع عن حريته. فيقول الأب: تقوم تجازف بحياتك؟ مش يمكن تقع هناك من أول يوم؟ ليقول الابن: كل شيء مُمكن. هنا تزداد ثورة الأب قائلا: طبعا، أنت يهمك إيه؟ أبوك يشقى ويعرق ويشوف الويل عشان يخليك بني آدم، وحضرتك تموت بطل، وأمك تنحرق، وأبوك ينحرق. إلا أن الابن يقول بإصرار: بابا أرجوك افهمني، أنا لازم أسافر. ليرد مُهددا: اعمل حسابك، لو سافرت لا أنت ابني ولا أنا أعرفك، وعتبة البيت دا متخطيهاش، دا لو رجعت.


ألا نلاحظ هنا أن محاولة مسح شخصية الأبناء من قبل الآباء هنا غير مُقتصرة على الأنثى فقط، بل تتعداها إلى الذكور أيضا، حتى أن الأب يكاد أن يقمع الابن ويمسح شخصيته تماما مُعتبرا إياه غير مُؤهل لاتخاذ أي قرار مصيري في حياته؟ إذن، فموضوع الفيلم لا يقتصر هنا على حرية المرأة فقط، بل الصدام الشديد بين الأجيال الذي يجعل الآباء يقمعون أبنائهم مهما كانت أعمارهم.

هنا تطلب أم ليلى من عصام أن يقنع ابن خالته بالعدول عن قرارا السفر لكنه يخبرهم أمام أمه- قامت بدورها المُمثلة ميمي شكيب- بأنه قد قرر السفر معه؛ مما يجعل أمه تثور وتدعي محاولة الانتحار من أجل منعه من فعل ذلك، وهو ما يرضخ له بالفعل؛ حيث أنه لم يقرر السفر إلى الجبهة عن اقتناع، بل من أجل أن تزداد ليلى إعجابا به.

يتقدم أحد الرجال الكبار في العُمر للزواج من جميلة/ ابنة خالة ليلى، ولأنه يمتلك الكثير من المال والفيلا تفرح به أمها وتوافق عليه، صحيح أن جميلة تبدي استيائها منه في البداية لهيئته، ولأنهما لا يوجد بينهما أي مشاعر، لكن أمها تقنعها بأمواله التي ستوفر لها كل شيء؛ مما يجعل الفتاة ترضخ للزواج منه. على الجانب الآخر ينتقل المُخرج إلى والدة ليلى التي تدعو لابنتها بزيجة مثل زيجة ابنة أختها، لكن ليلى تقول لها: بعد الشر، دي مش جوازة، دي جنازة، وتؤكد لأمها أن الرجل قد اشترى جميلة بأمواله.


تتم زيجة جميلة بالفعل ويدير بركات أثناء حفل الزواج مشهدا حواريا مُهما بين ليلى وصديقاتها له علاقة جوهرية بما يرغب في قوله داخل فيلمه بشكل غير مُباشر وغير مُقحم؛ فنرى إحداهن تسأل: ازاي جميلة تتجوز راجل زي دا؟! لترد أخرى: زي ما أمك اتجوزت أبوكي. لتسألها الأولى مُستنكرة: من غير حب؟! من غير شوق؟! من غير إحساس؟! أمك اتجوزت من غير حب عشان مكنتش تقدر تعمل غير كدا، أنت زي أمك؟! أفكارك زي أفكارها؟! فتتدخل ليلى قائلة: احنا مُصيبتنا تقيلة، على الأقل أمهاتنا كانوا فاهمين وضعهم، لكن احنا تايهين، لا احنا فاهمين إذا كان الحب حلال ولا حرام، أهالينا يقولوا: حرام، وراديو الحكومة ليل مع نهار يغني للحب، والكتب مُعظمها يقول للبنت: أنت حرة، لكن لو صدقت تبقى مُصيبتها تقيلة، وسُمعتها زفت وهباب! أي أن المُخرج هنا يشرح لنا- بعيدا عن المُباشرة- الوضع الاجتماعي الذي يتحدث عنه وأزمته التي تجعل الجميع غير قادرين على الفهم واتخاذ الطريق الصحيح من خلال هذا المُجتمع الشائه والمُنقسم على ذاته.

يلاحظ عصام أحد الشباب الذي يُغازل ليلى مُتقربا منها؛ فيشعر بالغيرة الشديدة وحينما تصعد إلى شقة خالتها من أجل أن تأتي لها بالفرو الذي يخصها يلحقها عصام ويحاول الاعتداء عليها وإرغامها على تقبيله، لكنها تهرب منه لتقف الخادمة أمام باب الغرفة مُتأملة إياه برغبة لاهبة، ولعل هذا المشهد من المشاهد الفنية المُهمة التي حرص المُخرج بركات على تقديمها بمهارة فنية بدت في القطعات المُونتاجية التي قدمها؛ فمن خلال القطع المُونتاجي يتبادل المُخرج صورة الطبول في الحفل بالأسفل التي تتسارع دقات العازفين عليها بشكل محموم، بينما الراقصة تتسارع خطواتها بشكل أكبر، ويقطع المُخرج على حسن يوسف الجالس على الفراش يلهث مُتأملا الخادمة، ثم القطع على الخادمة الواقفة على الباب مُتأهبة الرغبة، ويقوم بتبادل هذه اللقطات التي تزداد سرعة وتيرتها بشكل لاهث إلى أن يقطع قطعا نهائيا للدلالة على أن العلاقة بين عصام والخادمة قد تمت وانتهت بالفعل.

إن هذا المشهد الذي برع فيه المُخرج باستخدام القطع المُونتاجي وتبادل المشاهد كان مشهدا مفصليا من مشاهد الفيلم حيث سيترتب عليه العديد من الأحداث التي ستليه.


يحاول عصام الاعتذار لليلى فيما بعد ويعودا إلى صفو علاقتهما، لكن شقيقها محمود يعود من الجبهة مُصابا بطلق ناري في يده؛ ليقول له الأب مُؤنبا: أديك رحت يا سيدي ودافعت عن حريتك، كانت النتيجة إيه؟ مش كان مُمكن الرصاصة دي تيجي في قلبك؟ ليرد محمود: الاحتمال دا أنا كنت عامل حسابه يا بابا، بس أنا مش عايش لوحدي، أنا عايش في بلد، بلد لها حق عليا. لتقول له ليلى بعد انصراف والدها: يا ريتني كنت زيك، قوية زيك، أقول كل اللي نفسي فيه.

أي أنها تحسده على مُجرد مقدرته في التعبير عن نفسه وما يفكر فيه أمام أبيه، في حين أنها عاجزة تماما عن فعل ذلك.

يسأل محمود عن عصام؛ فتسرع ليلى إلى الصعود لشقة خالتها من أجل إخباره، لكنها تقابل أمام المصعد حسين/ رفيق محمود في الكفاح المُسلح على الجبهة- قام بدوره المُمثل صالح سليم- فيسألها عن شقة محمود وهنا تعرف أنه حسين الذي طالما حكي لها عنه محمود في خطاباته، ويعرفها هو بدوره؛ لكثرة حكي محمود له عنها.

تصعد ليلى وتسأل جميلة عن عصام؛ فتخبرها بأنه في غرفته طالبة منها الانتظار لحين ارتداء فستان زفافها لتأخذ رأيها فيه، إلا أنها بمُجرد ما تدق الباب على عصام يخرج إليها مُرتبكا، وحينما تدخل الغرفة ترى الخادمة جالسة على الأرض بينما تحاول تنظيف السجادة من أثر انسكاب القهوة. تطلب ليلى من عصام الانفراد به من أجل الحديث، لكن الخادمة تتلكأ في الخروج رغم أن عصام ينهرها، وحينما تذهب إلى جميلة تخبرها بالأمر مُستنكرة، إلا أن جميلة تخبرها بأنها صغيرة ولا تفهم شيئا، فالخادمة صديقة عصام، وحينما تستفسر منها عن معنى الصداقة تؤكد لها أنها كانت مثلها حينما رأت عصام معها لأول مرة في المطبخ وحينما أخبرت أمها بالأمر شرحت لها كل شيء، أي أن عصام على علاقة بالخادمة، وهو الأمر الذي يصيب ليلى بالصدمة الكبيرة، وتقرر قطع علاقتها نهائيا به، بل وتظن أن جميع الرجال خائنين وأنها عليها ألا تصدقهم في أي شيء، وأنه لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه مُسمى الحب في نهاية الأمر.


في هذه اللحظة يندلع حرق القاهرة الذي حدث في يناير 1952م، ويشعر حسين بالكثير من الإعجاب والمشاعر تجاه ليلى التي تعمل على تجاهله تماما، ويتم القبض على جميع الفدائيين وإلقائهم في السجن ومنهم محمود وحسين، ويظلون حوالي ستة شهور في المُعتقل إلى أن تقوم ثورة الجيش في يوليو 1952م ويخرج جميع المُعتقلين من سجونهم.

يحاول حسين مُفاتحة ليلى في أمر عشقه وإعجابه بها ورغبته في الزواج منها، لكنها تحرص دائما على التهرب من مشاعرها التي تشعرها تجاه حسين، وترى أن جميع الرجال غير صالحين للحب، وتُصرّ على إنكار مشاعرها تجاهه، في هذه الأثناء يصل إلى حسين خطاب من مصلحة البعثات يخبره بأنه سيذهب في بعثة إلى ألمانيا لمُدة ثلاث سنوات؛ مما يجعله يسرع إلى بيت ليلى فيراها خارجة من البيت ويستوقفها مُخبرا إياها بأمر البعثة ليسألها: أسافر ولا أستنى؟ لكنها تخبره بأنه عليه السفر. هنا يخبرها حسين بأنه يحبها، ويشعر بحبها له، وهو الحب الذي تحاول إنكاره، وحينما يسألها عن عصام وعن أمر انتهاء علاقتها به تؤكد لها أنها لا تحب أي رجل، وأنه لا يوجد ما يمكن أن نُطلق عليه مُسمى حب؛ فيؤكد لها بأنها تقتل نفسها، وأنها لا بد لها من أن تترك الباب مفتوحا للانطلاق في الحياة وآمالها حتى لو كانت بعيدا عنه، لكنه يثق في أنها تحبه، وبما أنها ترفض الاعتراف فإنه سيسافر.

تسافر أسرة ليلى إلى مصيف بور سعيد، وهناك تنظر إلى السفن ظانة أن حسين قد سافر بالفعل، لكنه يذهب إليها في هذه اللحظة مُخبرا إياها بأنه لم يستطع السفر من دون رؤيتها ويطلب منها أن تلتقيه في الغد أمام العبارة لتودعه قبل سفره. ترفض ليلى الأمر، لكنها سرعان ما توافق عليه.


في اليوم التالي نراها مُترددة في الذهاب لوداعه، وفي اللحظة الحاسمة تسرع بالهبوط من بيتها للحاق به قبل تحرك السفينة، إلا أنها أثناء ركضها تصطدم بإحدى الخادمات التي ينسكب من يديها الفول الذي كانت تحمله. هنا يعود المُخرج هنري بركات إلى استخدام آلياته السينمائية الذكية والفنية فتركز الكاميرا على مشهد الفول المُنسكب أرضا حيث تتأمله ليلى لاهثة بينما يقوم بالقطع المُونتاجي على مشهد الخادمة في بيت ابن خالتها حيث تنظف القهوة المُنسكبة على السجادة. إن هذا الربط المُونتاجي بين المشهدين له دلالة مُهمة في سيكولوجية ليلى المُترددة بين مشاعرها وسلوكها التي تسلكه في الواقع من محاولة الإنكار، كما يلعب دورا فنيا مُهما في التعبير عن أزمتها وموقفها، وهو ما نراه حينما تتأمل ليلى مشهد الفول المُنسكب وسرعان ما تعود أدراجها إلى بيتها مرة أخرى مُقررة عدم الذهاب لوداع حسين المُنتظر لها.

يسافر حسين وتنتقل ليلى إلى الدراسة الجامعية في كلية الآداب حيث تدرس الفلسفة، ونشاهد فؤاد- قام بدوره المُمثل محمود مرسي- أستاذ الفلسفة الذي يترصد ليلى في كل حركاتها وسكناتها مُضطهدا إياها، حتى أنه يلمح غيابها من مُحاضراته إذا ما غابت ويلومها بقسوة، وحينما يراها تتحادث مع أحد زملائها في مكتبة الجامعة يعنفها باعتبار أنها تستخدم المكتبة لأغراض غير الاطلاع، ويصر على سؤالها في المُحاضرة حينما يلمح أنها شاردة ويوبخها أمام الجميع؛ مما يجعلها راغبة في الانفجار فيه، لكنها تشعر بالجبن في النهاية من فعل ذلك، حتى أنه يلمحها ذات مرة مع زميلاتها تمر من أمامه فيناديها مُوبخا: إيه دا؟! فتتساءل: هو إيه؟! ليقول: اللي في شفايفك. لتقول: روج. لكنه يقول: ما أنا عارف إنه روج، أنت حاطاه ليه؟! عمري ما شفتك حاطة روج قبل كدا. لترد: كل البنات بتحط روج. لكنه يقول: وأنت لازم تبقي زي كل البنات؟! ليه متكونيش أحسن منهم؟ تقول ليلى: أنا مش أحسن من حد. لكنه يؤكد: قطعا أحسن. لتسأله: ليه؟ فيقول: لأني أنا أعتقد كدا. هنا تنتحي ليلى أحد الأركان بعدما يتركها فؤاد لتمسح شفتيها من أثر الروج بينما يراقبها من دون أن تدري.


يقطع المُخرج في المشهد التالي على فؤاد في بيت ليلى مع أبيها طالبا إياها للزواج؛ فيوافق الأب ليدخل على ليلى وأمها قائلا بسعادة: ألف مبروك يا بنتي، قرينا الفاتحة على بركة الله، والخطوبة الخميس الجاي، والدخلة في أول نوفمبر بإذن الله، فتسأله ليلى مُستنكرة: يعني محدش خد رأيي. لترد الأم: وهي دي جوازة عايزة أخد رأي يا بنتي؟! دا أنا من يوم فرح جميلة وأنا بدعي إن ربنا يجعل بختك زي بختها. ليقول الأب: أهو طلع بختها من السما!

هنا يعود المُخرج بركات إلى استخدام مهاراته الفنية في الصناعة السينمائية مرة أخرى؛ فبمُجرد ما انتهى أبوها من جملته الأخيرة يتم القطع على مشهد جميلة في فيلتها مع أمها أثناء مُشادة كلامية تقول فيها جميلة: أنا خلاص مبقتش قادرة أستحمل أكتر من كدا، أنت فاهمة إيه معنى الست لما تعيش مع واحد بتكرهه وتفكر إنها تخونه في كل لحظة؟ مش الطلاق أشرف لي؟ لكن الأم ترد بحزم: أنا قلت لك: مش عايزة فضايح. لكن جميلة تقول: الطلاق فضايح، لكن أي حاجة في السر مش مُهم، مش كدا؟ فترد أمها: أنا أهون عليا أشوفك ميتة ولا تجبيش سيرة الطلاق دا تاني أبدا، احنا معندناش أبدا حد في العيلة اتطلق.

إن القطع المُونتاجي الذكي والمُتعمد الذي قام به المُخرج هنا بمُجرد ما تلفظ أبو جميلة بجملته الأخيرة، وانتقاله إلى ما يدور بين جميلة وأمها يحمل من الأهمية في سياق الحدث ما يؤكد على مُستقبل ليلى إذا ما رضخت للأمر ووافقت على الزواج من فؤاد، وهو الأمر الذي سيؤكد عليه المُخرج مرة أخرى بشكل أكثر فنية فيما بعد.

تستعد ليلى لخطبتها من فؤاد في فيلا جميلة، وأثناء الخطوبة تجلس جميلة إلى جوار العروسين لتبارك لليلى، لكن فؤاد يظل مُتلصصا بنظره على ساقيّ جميلة المكشوفتين؛ مما يجعل ليلى وجميلة تلاحظان ذلك فتنصرف جميلة بعيدا. هنا تقول له ليلى: لطيفة جميلة مش كدا؟ تعرف إن احنا متربيين في بيت واحد؟ ليرد عليها: جايز، بس أنت حاجة وهي حاجة تانية، أنت عمرك ما هتكوني زيها؛ فتندهش ليلى لتقول: أنت قلت الجملة دي بطريقة غريبة زي ما تكون زعلان إني مش زيها. فيقول: أنت لو كنتي زيها مكنتش اتجوزتك، أنت مُطيعة وهادية وبتسمعي الكلام. فتسأله: يعني هتتجوزني عشان كدا بس؟! ليرد: أومال يعني عشان إيه؟


هذا الرد الصادم من فؤاد يكون أول مُؤشر لها لبداية التفكير في رفض إتمام الزواج منه، ولعل خبرة المُخرج الطويلة في صناعة السينما قد ساعدته في أن يجعل من هذا المشهد مشهدا بانوراميا للفيلم، حيث نرى ليلى سرعان ما تشرد مُتأملة فيما حولها؛ فترى جميلة تتهامس مع أحد الرجال ثم تنصرف؛ لينصرف خلفها في إيحاء بأنها ستنفرد به، وسرعان ما تلتفت إلى شقيقها محمود الذي تراه مع الفتاة التي يحبها مُغازلا إياها فتظل مُتابعة لهما بسعادة بينما ترتسم البسمة على وجهها، وحينما يسألها فؤاد عن سبب شرودها ترد عليه بسعادة: محمود وسناء بيحبوا بعض. فيقول بسخرية: فيه خطوبة رسمي؟ لتقول: لا، فيه حب. ليقول: مفيش حاجة اسمها حب، دي كلمة اخترعها الإنسان المُتحضر عشان يبرر بها رغباته، اللي أنت شايفاه قدامك دا اندفاع زي اندفاع الحيوان ورا غريزته بالظبط.

إنها الخطوة الثانية التي لا بد أن تجعلها تفكر بعمق بشأن هذا الزواج. تقوم ليلى من جانبه ذاهبة إلى الحمام لتغسل وجهها، وتتوجه إلى إحدى الغرف حيث تجد جميلة في أحضان الرجل الغريب. وحينما يخرج الرجل تخبرها جميلة أن ما رأته هو مُستقبلها الذي سيحدث لها فيما بعد إذا ما تزوجت فؤاد، وأنها حاولت الطلاق لكن أمها رأت أن الخيانة في السر أفضل لها من الطلاق أمام الآخرين.

يقطع هنري بركات هذا المشهد المُهم على مشهد آخر أكثر أهمية منه، حيث نرى أم ليلى وأبيها بينما تقول له الأم: شوفت يا سليمان أد إيه البنت كانت فرحانة وسعيدة؟ ليقول: البنت هتتستر بإذن الله. لترد الزوجة: الحمد لله، هم وانزاح عن قلب الواحد. ليقول بيقين: رضا، آدي احنا عملنا اللي علينا قدام ربنا وقدام الناس.

ألا نلاحظ في هذا الحوار ما يرغب المُخرج في نقاشه وتقديمه؟ إن الأبوين في المُجتمع المصري يريان أن الأنثى مُجرد همّ على الصدر لا بد من التخلص منه حتى لا يجلب لهما العار أمام الآخرين، وأن الفتاة إذا ما رُزق بها بعضهم يظلون في همّ كبير وضيق وقلق لكون المولود أنثى، ويظل هذا الضيق يكبر مع الوالدين طوال العمر إلى أن يسلماها لرجل غريب يتولى شأنها باعتباره زوجها، وهنا فقط يشعران بالراحة العميقة؛ لأنها لم تعد تخصهما وكأنهما قد قاما بنقل ملكيتها وعارها المُفترض إلى رجل آخر ليتولى بلواها! كما أن في جملة الأم الأولى التي تعتقد فيها أن ابنتها كانت تشعر بالسعادة والفرح بعد الانتقال بالقطع المُونتاجي من المشهد السابق مُباشرة، وهو مشهد ليلى مع جميلة، يحمل داخله الكثير من السخرية المريرة التي يعمل المُخرج على تعميقها في نفوس المُشاهدين.


تبدأ ليلى في التفكير الجدي بشأن زواجها من فؤاد، وبعد إعلان تأميم قناة السويس تعلن كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل العدوان الثلاثي على مصر؛ مما يجعل محمود راغبا في العودة مرة أخرى إلى الجبهة، وحينما يفاتح أباه في أمر زواجه من فتاته يسخر منه الأب ويوبخه؛ لأنه غير قادر على الإنفاق على نفسه، فكيف له التفكير في أمر خطبته من هذه الفتاة. في هذه اللحظة يصل فؤاد إلى البيت ليطلب منه الأب إقناع محمود عما يفكر فيه. هنا يجلس فؤاد مع محمود ليناقشه قائلا: مفيش حاجة اسمها حب، فيه رغبة، رغبة تنتهي لما الإنسان ينال اللي هو عايزه، والرغبة حاجة والجواز حاجة تانية. فيرد محمود: أنا مش فاهم قصدك إيه بالظبط. ليسأله فؤاد: لازم تتجوز يا محمود، خلاص أفلست؟ مفيش طريقة؟ ما أنت ماشي معاها يا أخي. ليرد محمود: أنا مش مصدق وداني. ليقول فؤاد: افهمني، الإنسان لما يتجوز لازم يتجوز واحدة تعيش تحت رجليه، واحدة تخدمه، واحدة تاخد بالها من بيته وتربي له أولاده وبس، واحدة يقدر يسيطر عليها! وهو الأمر الذي يجعل محمود مُندهشا من حديثه، ويفكر في إثناء أخته عن إكمال هذا الزواج، لكن ليلى تسمع ما يقوله فؤاد لشقيقها؛ مما يجعلها تتوجه إلى غرفة أبيها غاضبة مُقتحمة إياها؛ لتخبره بأنها ترغب في الحديث معه بشأن زواجها، إلا أنها حينما تشاهد وجه أبيها الغاضب تشعر بالكثير من الخوف وتتراجع عن قرارها.

يسافر محمود إلى الجبهة، وحينما تزداد الغارات مع العدوان الثلاثي يقترح فؤاد على والديّ ليلى الابتعاد عن هذا القلق بالتوجه إلى الفيوم؛ فيوافقه أبوها. في هذا الوقت تحدث إحدى الغارات ويسرعون جميعا إلى المخابئ، إلا أن ليلى تتحرك وحدها غير مُهتمة بما يدور حولها لتكون آخر واحدة تخرج من الشقة، هنا يصل حسين من ألمانيا ويقابلها على درج السلم؛ ليخبرها بأن محمود قد أخبره بأمر خطوبتها من فؤاد الذي لا تشعر تجاهه بأي مشاعر، ويطلب منها أن تعدل عما تفعله بنفسها، ويؤكد لها أنه ما زال يحبها، ولا بد أن تخرج من هذا الخندق الذي تحبس نفسها فيه، وأن تفتح الباب على مصراعيه من أجل حياتها حتى لو كانت هذه الحياة بعيدا عنه. لكنها تخبره أن حياتها لا طعم ولا قيمة لها، فيخبرها بأنه سيسافر في الغد إلى بور سعيد وعليها أن تذهب معه؛ لتسأله وما قيمة ذلك، هنا يخبرها أن الحياة ستكون لها قيمة حتى لو كانت في جرعة ماء تعطيها لأحد المُصابين على الجبهة.

لطيفة الزيات

في اليوم التالي تتجه أسرة ليلى إلى محطة القطارات من أجل السفر إلى الفيوم، ونتيجة لظروف الحرب الطارئة يتم تأخير جميع خطوط القطارات فيما عدا المُتجة إلى ومن بور سعيد فقط. هنا تتأمل ليلى الحركة في محطة القطارات، وتلاحظ أحد القطارات القادمة من بور سعيد بالكثير من المُصابين مما يجعلها تتأملهم، فيلحق بها فؤاد ليسألها عن السبب في تعريض نفسها لمثل هذه المشاهد والأشكال. هنا فقط تمتلك ليلى إرادتها فتقوم بخلع خاتم الخطوبة من إصبعها لتعيده إليه، وحينما يعترض أبوها طريقها مُتسائلا عن وجهتها تخبره بأنها ستسافر إلى بور سعيد وعليه ألا يعترض طريقها.

تحاول ليلى الركض من أجل اللحاق بقطار بور سعيد الذي بدأ يغادر الرصيف، ويلمحها حسين المُسافر في نفس القطار فيناديها، بينما نشاهد في مشهد دلالي مُهم ليلى تركض محاولة اللحاق بالقطار، بينما القطار يتحرك، وهناك الكثير من أيدي المُسافرين على متن القطار المُمتدة في الهواء باتجاهها محاولين الأخذ بيدها دلالة على أنها حينما حاولت اتخاذ قرارها نحو الحرية فإن الكثير جدا من الأيدي قد امتدت إليها كي تساعدها في قرارها لهذه الحرية، وبالفعل تمسك بهذه الأيدي المُمتدة لتصعد إلى القطار المُتحرك، وتتلاقى مع حسين في مشهد ختامي.

إذن، فالمُشاهد لفيلم الباب المفتوح لا يمكن له تجاهل دور المُونتاج الذي قام به المُونتير فتحي قاسم بالتعاون مع المُخرج هنري بركات؛ فالمُونتاج هنا كان هو البطل الحقيقي للفيلم، والمُحرك الفني الأساس لكل ما فيه، حيث تلاعب به بركات بشكل مُتقن وكأنه يمارس إحدى ألعابه الأثيرة لديه، كما لا يمكن غض البصر عن المُوسيقى التي لعبت دورا مُهما طوال أحداث الفيلم للمُوسيقار أندريا رايدر، إلا أن أهم ما في الفيلم كان تقديمه للمُمثل الجديد الموهوب محمود الحديني الذي كان وجوده في هذا الفيلم أول ظهور له على شاشة السينما، حيث أثبت أنه يمتلك موهبة لا تقل عمن يشاركونه في الفيلم من مُمثلين، ورغم أنه كان يقف أمام الكاميرا لأول مرة، ورغم أنه يشارك مُمثلين في قدر فاتن حمامة وشويكار وحسن يوسف إلا أنه أثبت مقدرته على الوقوف أمام فاتن حمامة، وتخطى حسن يوسف بدرجات في الأداء وكان أكثر حيوية وحضورا منه.

إن فيلم الباب المفتوح للمُخرج هنري بركات من الأفلام المُهمة في تاريخ السينما المصرية التي حرصت على الأخذ من الروايات الأدبية، وهو فيلم يناقش العديد من القضايا المُهمة في مضمونها، وإن كانت القضية الأهم التي حرص بركات على التركيز عليها هي قضية الحرية والتناقضات الاجتماعية التي يعاني منها المُجتمع المصري بشكل خاص باتجاه المرأة ووضعها في هذا المُجتمع. كما لا يفوتنا أن الفيلم من أهم الأفلام الثورية التي تم تقديمها في هذه الفترة- والمقصود من مُفردة الثورية هنا هي الثورة الاجتماعية على ما يحيط بالمُجتمع من أفكار رجعية، وليس المفهوم السياسي في المقام الأول رغم أن الأحداث السياسية التاريخية كانت هي المُحرك الأول لأحداث الفيلم، لكن المُخرج نجح بقدر كبير في الهروب من سطوتها على فيلمه ليجنح إلى الثورة الاجتماعية في المقام الأول.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد فبراير 2023م.

الجمعة، 10 فبراير 2023

إيناس الدغيدي: مُجرد بداية مُبشرة

حصلت المُخرجة إيناس الدغيدي على دبلوم المعهد العالي للسينما قسم الإخراج في عام 1975م، كما عملت كمُساعد مُخرج مع العديد من المُخرجين المصريين مثل كمال الشيخ، وصلاح أبو سيف، وهنري بركات، وأشرف فهمي، أي أن المُخرجة كانت من قلب عالم السينما وصناعتها؛ ومن ثم كانت على دراية بأهمية الصناعة وكيفية تقديم الجيد منها أو السطحي.

ربما بسبب هذا الوعي بصناعة السينما قدمت الدغيدي فيلمها الأول "عفوا أيها القانون" 1985م مُتناولة قضية من القضايا المُهمة التي تؤرق قطاعا كبيرا من المُجتمع المصري لا سيما النساء، إلا أن المُجتمع والقانون لا يعير هذه القضية أي اهتمام؛ ومن ثم تكون الدغيدي بصناعتها لهذا الفيلم من المُخرجات المُهمات والجريئات في الاشتباك فيما هو مسكوت عنه اجتماعيا رغم خطورته.

كانت القضية المُؤرقة للمُخرجة في فيلمها هي عدم المساواة أمام القانون في قضايا الزنا؛ فالرجل الذي يضبط زوجته مُتلبسة في قضية زنا ويقوم بقتلها لا يعاقبه القانون، بل يُحكم عليه حُكما لا قيمة له لا يتجاوز الثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ باعتبار الأمر مُجرد جُنحة، وأنه كان في موقف الدفاع عن شرفه! في حين أن المرأة التي تضبط زوجها مُتلبسا في حالة زنا وتقوم بقتله لا يتهاون القانون معها؛ ومن ثم تتعرض للحكم بالحبس المُشدد- 15 عاما- أو المُؤبد!

لا يمكن إنكار أن هذه النظرة المزدوجة باتجاه نفس الموضوع لا يمكن قبولها عقليا أو منطقيا، كما أن خيانة الرجل هنا لا يمكن اختلافها عن خيانة المرأة؛ لذلك لا بد من التساؤل: كيف يكون قتل الرجل لزوجته في هذه الحالة دفاعا عن الشرف، بينما قتل المرأة للرجل في نفس الحالة هو حالة جنائية تُوجب الحبس المُشدد؟!


من خلال هذه النظرة ذات المعيار المزدوج، ومن خلال قصة كتبها أحد الضباط- نبيل مكاوي- وقرأتها الدغيدي بالمُصادفة، وعلمت أنها قصة حقيقية؛ فكرت في صناعة فيلمها الأول الذي تحاول من خلاله نسف الاعتقادات الاجتماعية التي ترى أن الشرف ملك للرجل فقط بينما المرأة لا يمكن لها الادعاء بأنها تدافع عن شرفها.

أثار فيلم "عفوا أيها القانون" الكثير من اللغط حينما تم عرضه، ووصل الأمر في تأثيره إلى حدوث تغيير في قانون الأحوال الشخصية الخاص بقضايا الزنا. يتحدث الفيلم عن مُدرسة الفلسفة بكلية الآداب- هدى- التي ترتبط بقصة حُب مع "علي" المُدرس بكلية الهندسة، لكنهما حينما يتزوجان يخبرها علي بعجزه الجنسي، ويحاول إقناعها بأن الجنس ليس كل شيء في الحياة، لكنها واجهته باحتياجها لتلك المشاعر وعاطفة الأمومة، إلا أن حبها له منعها من مواجهته بعنف أو طلب الطلاق، لكن المُشكلة أن الزوج يُصاب بحالة هياج وشك في كل شيء؛ فحينما تقوم الزوجة بزيارة شقيقتها وزوجها يظن علي بأنها قد أخبرتهما بعجزه وفضحته؛ فيقوم بضربها، لتترك له البيت وتلجأ إلى والده وتشكو له من عصبية الزوج الزائدة، إلا أن الزوج- علي- يظن أنها قد فضحته أمام أبيه أيضا؛ فيحتد عليها ويحاول خنقها إلا أن أباه ينقذها من يديه، لكن الزوج يذكر اسم "زينات" أثناء محاولته لخنقها. تسأل هدى حماها عن زينات؛ فيخبرها أنها زوجته الثانية التي رآها في أحضان عشيقها؛ فقام بقتلها، وحُكم عليه بالسجن شهر مع إيقاف التنفيذ في الوقت الذي كان عُمر علي فيه 11 عاما. تحاول هدى علاج الزوج الذي لم يكن لديه أي سبب عضوي في العجز، وتكتشف أن سبب عجزه مع النساء أنه كان يحب زوجة أبيه- زينات- ولأنه يرى أن هذا الحُب مُحرم؛ فقد أُصيب بالعجز مع النساء. تنجح هدى بالفعل في التغلب على المُشكلة النفسية لزوجها، ويصبح زوجا طبيعيا، ويقيم حفلا كبيرا يدعو إليه كل أصدقائه ومنهم "صلاح العيسوي" مُدير المُطبعة التي تطبع كتبه، وزوجته "لبنى" صاحبة المطبعة. يقيم علي علاقة جنسية خارج إطار الزواج مع لبنى، ولكن حينما يعلم أن زوجته حامل بطفلهما، يحاول التوقف عن هذه العلاقة التي ترغب لبنى في الاستمرار فيها، ويأخذها ذات يوم إلى منزله بينما الزوجة في الخارج، لكنها تعود وتسمع أصواتا داخل غرفة نومها؛ ولخوفها تتناول أحد المُسدسات التي يحتفظ بها الزوج، وبمُجرد دخول الغرفة وترى زوجها عاريا في فراشها مع لبنى؛ تقوم بإطلاق النار بشكل عشوائي وتهرب. في المشفى يلفظ الزوج أنفاسه رغم محاولاته بتبرئة الزوجة إلا أن أباه يمنعه من ذلك، ويتم علاج لبنى التي يقاضيها زوجها بتهمة الزنا لكنها تطرده من المنزل والمطبعة؛ فيعود إليها صاغرا، لكن المُفاجأة الأكبر أن الزوجة قد باتت مُتهمة بالقتل العمد هنا، بل وحُكم عليها بالسجن خمسة عشر عاما!

من فيلم زمن الممنوع

أثار الفيلم الكثير من اللغط والشد والجذب، فهناك من يوافقون المُخرجة ويرون بالفعل وجود شكل من أشكال التحيز ضد المرأة لصالح الرجل في القانون، وهو ما يدل على ذكورية المُجتمع، والقانون معا، وهناك من رفض ما قدمته، ولكن سواء رفض المُشاهد ما ذهبت إليه المُخرجة أو قبله، فلقد استطاعت الدغيدي تقديم نفسها كمُخرجة قوية، ولافتة للنظر منذ الفيلم الأول، وهو ما جعل الكثيرين يحتفون بها، ويرون أنها قد بدأت صناعة السينما من أجل تقديم سينما جديدة ومُختلفة وجادة، ترى أن الاشتباك مع مشاكل الواقع هو أهم ما يميز هذه الصناعة.

عام 1988م تقدم المُخرجة فيلمها الثاني "زمن الممنوع"، ورغم محاولاتها في هذا الفيلم إكسابه سمت الجدية، بزج مشاهد الثورية في الجامعات المصرية فيه، ومحاولة الحديث عن رجال السياسة الفاسدين، إلا أنها لم تنجح في إقناع المُشاهد بذلك؛ حيث كان الفيلم من الأفلام التي تميل إلى السينما التجارية وعدم الاهتمام بفنية الفيلم، بل انصب اهتمامها في الحقيقة على الحديث عن تجارة المُخدرات، ثم وقوع ابنة تاجر المُخدرات في الإدمان والاغتصاب، ثم الإصابة بلوثة عقلية، وكأنما المُخرجة التي اهتمت في فيلمها الأول بالواقع ومشاكله، قد تخلت عن هذه النظرة في فيلمها الثاني، بل وتعمل على مُغازلة الجمهور بتمرير رسالة له مفادها أخلاقي في المقام الأول، مُلخصها: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.

المُخرجة إيناس الدغيدي

يبدأ الفيلم بفتاة تهيم على وجهها في الصحراء كراعية للغنم وقد أُصيبت بالخبل، ويبدأ الفيلم بسرد قصة هذه الفتاة من خلال مشاهد الفلاش باك؛ فنعرف أنها "أميمة" الطالبة في كلية الطب، والعضوة النشطة في اتحاد الطلاب بالجامعة، والتي تقود المُظاهرات؛ فيتم القبض عليها وعلى غيرها من الطلاب، لكنهم حينما يعلمون في القسم أنها ابنة أحد رجال السُلطة "عاصم دياب" يُفرج عنها فورا، لكنها تتمسك بالإفراج عن زملائها أيضا، خاصة "هشام" الذي لا يوجد لديه أي شكل من أشكال النشاط السياسي. هشام شاب مُلتزم يعيش بمُفرده بعدما سافر والداه في إعارة لإحدى الدول العربية، وتنشأ بينه وبين أميمة قصة حُب ويقوم بخطبتها، لكن في هذه الأثناء يقوم أحد الطلاب المُنافسين لأميمة في انتخابات اتحاد الطلبة بتشويه سُمعتها عن طريق الكشف عن حقيقة والدها تاجر المُخدرات المُستتر خلف مركزه السياسي ونفوذه، كما أن الأب من ورائه امرأة هي "نعناعة" التي تُدير مكانا يلتقي فيه المُدمنون. تحاول أميمة معرفة حقيقة والدها؛ فتلجأ إلى أمها التي ترأس جمعية من الجمعيات النسائية، والدائمة الانشغال، وغير العابئة بابنتها، لكنها لا تصل إلى شيء، فتحاول معرفة الحقيقة بطريقتها؛ تذهب إلى مقر نعناعة وتلتقي هناك بالشباب المُدمن، وتتأكد من صحة كل ما أُثير. تقع أميمة فريسة للإدمان، وتعتاد التردد على نعناعة، لكن أحد المُدمنين يقوم باغتصابها وهي مُخدرة. يكتشف هشام ذلك ويحاول حبسها في منزله؛ لتمتنع عن الإدمان لكنه يكتشف أنها قد باعت كل شيء، وينتهي الفيلم بإصابتها بلوثة عقلية، وهيامها في الصحراء ورعي الأغنام.

هل نجحت الدغيدي من خلال فيلمها الثاني في الاستمرار على نفس المستوى سواء من ناحية الشكل أو المضمون؟


من يشاهد فيلم "زمن الممنوع" لإيناس الدغيدي يتأكد له أنها لم تستطع الحفاظ على نفس المستوى الذي قدمت من خلاله نفسها كمُخرجة سينمائية في فيلمها الأول؛ ومن ثم رأينا أن مستواها تراجع كثيرا بعدما عقدنا عليها الكثير من الآمال في صناعة سينما جادة، لكنها مالت في فيلمها الثاني إلى السينما التجارية بشكل فج، وهي السينما التي لا تهتم بأي قضية سوى قضايا المخدرات والاغتصاب والمعارك، والأكشن؛ لجذب المزيد من الجمهور، ولتذهب السينما المسؤولة إلى الجحيم فيما بعد.

في فيلمها الثالث "التحدي" الذي قدمته الدغيدي في نفس العام- 1988م- تحاول استثمار نجاح وقبول فيلمها الأول الذي مال إلى مُناصرة المرأة التي يظلمها المُجتمع والقانون معا، من خلال قصة تتشابه إلى حد ما مع الفيلم الأول، لكنها لا تُوفق في تقديم فيلم يرقى إلى مستوى فيلمها الأول.

من فيلم عفوا أيها القانون
تتناول في هذا الفيلم "هدى" التي تُقاسي من مُعاملة زوجها "إبراهيم"؛ الأمر الذي يجعلها تترك له منزل الزوجية بصحبة ابنها الصغير "عادل"، وتُقيم لدى أختها "سعاد" وزوجها "زينهم"، لكن بعدما أقنعتها أختها بالصلح والعودة إلى الزوج تستجيب لها؛ لتُفاجأ بزوجها في أحضان زوجة جاره في حجرة النوم. تفقد هدى أعصابها وتُصمم على فضح الجميع أمام الجيران؛ فيحاول إبراهيم إسكاتها ويطبق على رقبتها وكادت أن تختنق، لتجد أمامها سكينا فطعنته به. يموت الزوج ويتم إلقاء القبض عليها، ولأنها لا تمتلك أتعاب مُحامٍ؛ تنتدب لها المحكمة المُحامي "أبو المجد" ليدافع عنها بالمجان، وتظل القضية مُتداولة لأكثر من عامين؛ بسبب تأجيلات أبو المجد بينما كان الطفل عادل في رعاية جده لأبيه- عبد القوي- وهو رجل ثري ذو نفوذ قوي، وقد دأب على تلقين الطفل كراهية أمه التي قتلت أباه أمام عينيه، بينما كان المُحامي الشاب "أحمد" الذي يعمل في مكتب المحامي "أبو المجد" قد فقد منزله المُنهار، وأودع أمه لدى خاله، وعاش هو في منازل أصدقائه، وكان الخال يطمع في تزويج أحمد من ابنته "كاميليا" التي يبدو عليها التعلق به، وفي مُقابل ذلك ستُحل كل مشاكل أحمد؛ نظرا لثراء الخال المقاول الذي سيمنحه شقة للزواج، وشقة أخرى؛ ليفتحها كمكتب للمُحاماه، لكن أحمد كان يفضل صناعة مُستقبله بنفسه. يتبنى أحمد قضية هدى للدفاع عنها بالمجان، ويتمكن من تحويل القضية إلى ضرب أفضى إلى الموت بدلا من القتل العمد؛ وبذلك تحصل على ثلاث سنوات سجن كانت قد قضت مُعظمها في الحبس. تبدأ أمور أحمد في الازدهار كمُحام، وتلجأ إليه هدى لمُساعدتها في رؤية ابنها، ويتمكن المُحامي بالفعل من الحصول لها على ساعة أسبوعية لرؤية الطفل، وهي الساعة التي كان الجد يحاول إعاقتها ومنعها دائما. يحاول المُحامي البحث عن سكن وعمل لهدى؛ ليتيح لها حضانة الابن؛ فلجأ الجد إلى مُحاربة أحمد؛ ليمنع قاتلة ابنه من حضانة حفيده. ينجح أحمد في الحصول على شقة من خاله بدعوى فتحها كمكتب لعمله وتكوين نفسه ليتزوج من ابنة الخال، لكنه يتزوج هدى في هذه الشقة. هنا يتعاون كل من الجد والخال ضد الزوجين، وكل منهما له مصلحته الخاصة: الجد ليبعد أحمد عن معاونة هدى، والخال ليجبر أحمد على العودة والزواج من ابنته. يتم طرد أحمد من الشقة، ويسعى الجد لطرد هدى من الوظائف التي حصلت عليها، فكر أحمد في خطف الطفل؛ حيث لا يمكن اتهام الأم بخطف ابنها، لكنه يفشل في ذلك ويحتجزه رجال الجد في المزرعة حتى يجيئ الخال ويخرجه. يحاول الجد التآمر على هدى، ويعدها بالإقامة مع ابنها في المزرعة إذا ما تخلصت من زوجها بالطلاق؛ هنا تطلب هدى الطلاق من الزوج، لكن الجد لا يفي بوعده، ويطردها لتعود إلى نقطة الصفر.
من فيلم عفوا أيها القانون

إذا ما تأملنا الفيلم الثالث للمُخرجة؛ لتأكد لنا أنها لم تقدم من خلاله الجديد؛ فالفيلم لا يبتعد كثيرا عن نفس القصة، ونفس الأفكار التي قدمتها في فيلمها الأول- أي ظلم المرأة الاجتماعي، وذكورية المُجتمع في التعامل معها- وإن ظل الفيلم الأول هو الأقوى والأكثر إقناعا على مستوى الرؤية والمضمون؛ لذلك لا يمكن القول أن المُخرجة إيناس الدغيدي قد قدمت أفلاما مُهمة بعد فيلمها الأول في فترة الثمانينيات، وإن كانت قد حاولت الاجتهاد في فعل ذلك، لكنها كانت من المُخرجين الذين بدأوا مُجرد بداية موفقة، رغم أنها لم تتقدم خطوة واحدة بعد هذه البداية؛ لتتخطاها إلى ما هو أفضل منها، بل قدمت بعدها أفلاما أقل من حيث المستوى الفني والمضمون؛ فخذلت الكثير من الآمال المُنعقدة عليها في صناعة سينما جادة.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد فبراير 2023م.