الثلاثاء، 23 أغسطس 2016

دومينو.. المشكلات الصغيرة غير صالحة للسرد

في الوقت الذي ننادي فيه مع المرأة بحقها في الحياة والحرية والإبداع وممارسة حياتها كيفما يحلو لها، بعيدًا عن سطوة المجتمع الذكوري الذي بدأ منذ بزوغ الأديان الإبراهيمية التي كرست للإله الذكر، المُسيطر والمُهيمن على كل شيء، وباتت فيه المرأة مجرد تابعة ملزمة بالطاعة العمياء بعدما كانت إلهية في المجتمعات الأمومية؛ نُفاجأ غالبًا أنها أول من يخفق في المحافظة على هذه الحقوق التي تنادي بها وننادي بها معها، بل وتُفضل دائمًا أن تكون في كنف الرجل حتى على المستوى الإبداعي، وكأن ذهنيتها وعقليتها قد تشكلتا في نهاية الأمر على أن تكون مجرد تابع للرجل حتى في خيالها وآمالها.
لعل تأمل الإبداع الذي تقدمه المرأة لاسيما في المنطقة العربية بالكامل يجعلنا نتساءل: لم تظل المرأة مهما كانت مثقفة أو قادرة على التعبير عن نفسها مجرد ظل للرجل؟ ولا تكف عن الدوران حول مشكلاتها الصغيرة التي لا تخرج عن إطار الرجل المُهيمن، سواء كانت هذه الهيمنة بالسلب أو بالإيجاب. وبالتالي نراها تُعبرّ دائما إما عن اضطهادها من قبل الرجل، أو معاناتها في مجتمع ذكوري مهيمن يمثل الرفيق أو الأب أو الأخ، أو تعاني من حب رجل خدعها وتركها في لوعتها وحيدة، وكأن كينونتها مقترنة به، أو تدور دائما في فلك المطبخ وإعداد الطعام لرجلها، أو حياكة الملابس، أو غير ذلك من الأمور التي لا تخرج من دائرتها إلا نادرا. ومن ثم يكون العالم الإبداعي للمرأة العربية دائما عالمًا شديد الضيق والسطحية، يهتم بالتفاصيل التي لا معنى ولا ضرورة لها في الوقت الذي تعجز فيه عن التحليق فيما هو أوسع وأكثر رحابة وتظل عاجزة عن خلق حالة إبداعية حقيقية من الممكن الالتفات إليها أو الانفلات إليها!
إن تأمل المجالات الإبداعية التي حاولت المرأة خوض غمارها تجعلنا نتأكد أن قدرتها على الإبداع هي في الحقيقة قدرة واهية فهي عاجزة عن العطاء بشكل فيه من الوفرة والغنى والعمق؛ وبالتالي يكون من الطبيعي الانصراف عما تقدمه؛ لأنه في النهاية غير ذي أهمية كبيرة، أو غير لافت للنظر نتيجة وقوعها في أسر الدائرة الضيقة التي هي أسيرة لها دون محاولة منها للخروج على انغلاقها عليها. فإذا ما تأملنا مجال الأدب سنجدها في الغالب محصورة في عالمها الضيق ومشكلاتها الصغيرة التي تخصها، فلا تخرج في نصها إلى عالم أكثر رحابة إلا فيما ندر، أي أنها تدور في فلك عالمها الضيق النظرة لا تستطيع أن تتجاوزه! ولعل تجربة الروائية الراحلة رضوى عاشور كانت من التجارب الروائية النادرة التي خرجت فيها الروائية من عالمها الصغير الضيق إلى عالم آخر أكثر رحابة ما يدعونا للتوقف أمامه وتأمله، فلم نجدها مثلاً تتحدث عن كونها امرأة تعاني طوال الوقت، أو تثرثر مجرد ثرثرات لا معنى لها، أو تكتفي بتقديم دور المرأة الضحية بل قدمت لنا عالما روائيا حقيقيا إذا ما قرأناه بعد إزالة اسم رضوى عنه لن نستطيع الحكم أو القول بأن هذا العالم الإبداعي يخص امرأة بعينها، بل من الممكن نسبته إلى أي كائن من دون الانحياز إلى جنس بعينه. ولكن ما رأيناه لدى رضوى كان من الأمور النادرة التي لا تتكرر كثيرا، وهذا ما يجعلنا إذا ما أزلنا اسم أي كاتبة عن عملها وقرأناه؛ لابد سنردّه إلى أن من قامت بكتابة هذا العمل بالضرورة هي أنثى؛ نتيجة الثرثرات الفارغة التي لا داعي لها، والغنائية، والتحسر على حياتها، والتفاصيل الصغيرة التي تتحدث عن معاناتها، أو فقدها، أو غير ذلك مما يخص عالم المرأة فقط والذي لا يعني أحدًا في نهاية الأمر سوى امرأة؛ لأنها ترى- واهمة- أن هذه التفاصيل لابد سيهتم بها العالم بالكامل، في حين أن الحقيقة هي أنها لا تهم أحدًا سواها.
إذا ما تأملنا المجالات الأخرى التي تحاول المرأة أن تدلو بدلوها فيها سنجد أنها غير قادرة على خوضها بشكل فيه من العمق ما يجعلنا نتوقف أمامها، أو أنها لن تقترب منها مطلقا من قريب أو بعيد، فمجال الموسيقى مثلا نادرا ما نجد فيه امرأة، فلم نر ملحنة برعت في مجال التلحين الموسيقي، أو مؤلفة أغاني مثلا، أو فنانة تشكيلية متميزة، أو مخرجة متميزة أو كاتبة سيناريو إلا فيما ندر.
لعل هذا الفقر الإبداعي في معظم المجالات الإبداعية يعود في حقيقة الأمر إلى إشكالية مهمة وهي ضيق أو انعدام التجربة الحياتية بالنسبة للمرأة ومحدودية نهلها من الحياة بكل أشكالها، بما أنها تحيا في مجتمع ذكوري مهيمن ولا تحتك بالعالم الخارجي إلا من خلال الرجل؛ مما أدى إلى انعكاس ذلك على تجربتها الإبداعية التي اتسمت بالفقر، وبالتالي ظلت أسيرة لعالمها الضيق الذي لا تعرف غيره واقعيًا وأدبيًا؛ وهكذا اضيّق إبداعها من حيث الرؤية الفنية تمامًا مثل تجربتها الضيقة أو المنعدمة على أرض الواقع. كل هذا طبعًا مع التشديد على وجود مبدعات حقيقيات فارقات في التاريخ الإنساني كله، ويُشاد بتفوقهن على الرجال مجتمعين، ولكنهن استثنائيات ونادرات- حالات فردية.
هذه التأملات في عالم المرأة لابد ستكون هي محور تفكيرنا أثناء قراءة المجموعة القصصية "دومينو" للناقدة السينمائية والقاصة ناهد صلاح، وهي المجموعة التي ستجعلك كلما انتهيت من قراءة قصة من القصص تعود إلى قراءتها مرة أخرى، لا بداعي المتعة بما قرأته أو الاكتشاف، ولكن بداعي أنك ستفترض في نفسك الغباء حينما لا يصلك شيء من السرد الذي انتهيت منه؛ وبالتالي ترغب في العودة مرة أخرى للقراءة؛ علّك لم تكن في حالة تركيز كاملة وبالتالي لم يصلك المعنى الذي أرادته الكاتبة، لكنك بالتأكيد ستصل في النهاية إلى أن ما قرأته مجرد ثرثرة لا طائل منها، وبالتالي فأنت لم تقرأ شيئا ذا قيمة، بل مجرد تسويد للصفحات وثرثرات رغبت المؤلفة لها أن تأخذ شكل القصة، لكنها ليست بالقصة في نهاية الأمر بل سرد تتداخل فيه الأحاديث غير المترابطة التي تجعلك تتساءل ما علاقة هذا بذاك، وإلام يؤدي مثل هذا الحديث الذي لا يفضي إلى شيء ولا يُستخلص منه شيء؟
في قصتها "رشة ملح" لابد من التوقف أولاً أمام العنوان الذي لا يمكن أن يحيلك إلا إلى مجرد مفردات نسائية بحتة، إذن فهو قاموس نسائي منذ البداية، ولكن إذا ما تجاوزنا دلالة العنوان وإحالته فإننا بالضرورة لن نتمكن من فهم ما تريد أن تقوله المؤلفة! فالقصة لا تخرج عن إطار العالم الغارق تماما في حياتها النسائية التي لا تقدم لك أي خلاصة. كما أن التفاصيل التي تتحدث عنها لا تقدم لك أي تنامٍ أو تطور في الحدث، بل سيظل الحدث ثابتا على التفاصيل التي تزدحم بها القصة؛ مما يدفع بك إلى الملل لتنتهي القصة بشكل يجعلك تريد أن تغلق المجموعة تمامًا مؤكدًا لنفسك أن المرأة لن تقدم لك الكثير في الكتابة في نهاية الأمر.
تبدأ القصة بامرأة تتحدث عن رجلها الذي أخبرها في الصباح عن رغبته في صينية بطاطس وأرز مفلفل: "ظلت نصف نهار تفكر كيف سيكون شكل طبق السلطة الذي ستفاجئه به مع صينية البطاطس والأرز المفلفل الذي طلبه قبل أن يخرج في الصباح الباكر وهو يقول لها: "حبة.. حبة"، ونظرتها التي صوبتها إلى شفتين تسربان الكلمات بدقة تمتد في الفضاء وتعود من ملكوت الشرود وفراشاته التي تتبعها خلف ظلال اللاشيء واللاأسئلة، وتحاول أن تستعيد رائحة الأطعمة التي كانت تُحضرها أمها، فتزدحم رأسها بالوجوه والضحكات والأمكنة، وتشعر أنها ارتفعت عن الأرض قليلا، لا تستطيع أن تقيس المسافة والأمر في أصله ليس علميا، كما أنها لا تُحب أن يُفسر لها أحد تفاصيلها على أساس علمي، تحب فقط مقادير أمها في تحضير الطعام"، من خلال هذا المقطع الذي تبدأ به القاصة قصتها يتضح لنا أنها تتحدث عن امرأة لا يعنيها في حياتها سوى ما يطلبه منها رجلها في أن تُحضر له ما يحبه ويطلبه، وبالتالي فحياتها كلها تتمركز حول ما يرغب أن يأكله ولا يمكن لحياتها الخروج عن هذا السياق، كما أننا إذا ما تأملنا الفقرة السابقة لابد أن نتساءل ماذا تعني الكاتبة بقولها: "لا تستطيع أن تقيس المسافة والأمر في أصله ليس علميا، كما أنها لا تُحب أن يُفسر لها أحد تفاصيلها على أساس علمي"، وما هو العلمي الذي قصدته في قولها؟ وما هي التفاصيل التي لا تحب أن يفسرها لها أحد على أساس علمي؟ وهل الحديث هنا من قبيل الثرثرة التي لا معنى لها؟ وهل تتحدث عن أمر سري في ذهنها هي فقط؛ وبالتالي لم تحاول توضيحه أو شرحه لنا كقرّاء؟!
إذا ما تجاوزنا هذه التساؤلات سنرى أنها تحاول الحديث عن تفاصيل الطبخة التي طبختها بالتفصيل مما لا يقدم لنا أي شيء مفيد يخص السرد سوى أنها تريد أن تشرح لنا كيف يمكن إعداد الطبخة؛ مما يجعل القصة أكثر تناسبًا مع كتاب يخص وصفات الطبخ لا وصفات السرد القصصية؛ فنراها تقول: "قطعت اللحم مكعبات متساوية قدر الإمكان، فهي سيدة التمام والكمال كما يصفها دوما، وسلقته مع ورق لاورا والبصل والهيل وجوز الطيب، ووقفت تشم الأبخرة الصاعدة مغمضة العينين لأنها تخشى إن فتحتهما أن تفقد متعتها أو تتراءى لها في الأبخرة أشكالا وصورا تُرعبها، فينقطع خيط الحنين وساعتها لا تبصر اللون البرتقالي ويطاردها الأزرق الكحلي في مدن مكسورة على جدران الظل والضوء، وكل شيء فيها مهدر بين الصوت والصدى"، وهنا فضلا عن التفاصيل التي تخص طريقة الطبخ التي من الممكن أن نتجاوزها، نلاحظ أن الجمل التي أتت فيما بعد مجرد جمل مهوّمة في الفراغ لا معنى لها، ولا يمكن فهم ما الذي تعنيه الكاتبة من صياغتها؛ فالجمل مُطلقة غير محددة لا تعبر عن شيء سوى كلمات متراصة بجانب بعضها البعض من دون معنى أو هدف، فما معنى: "لأنها تخشى إن فتحتهما أن تفقد متعتها أو تتراءى لها في الأبخرة أشكالا وصورا تُرعبها، فينقطع خيط الحنين وساعتها لا تبصر اللون البرتقالي ويطاردها الأزرق الكحلي في مدن مكسورة على جدران الظل والضوء، وكل شيء فيها مهدر بين الصوت والصدى"؟! وهل لهذا الحديث أي علاقة بما سبق أو فيما سيأتي بعد ذلك؟!
في الحقيقة أن هذه الجمل المبهمة لم يكن لها أي معنى أو علاقة بالسياق الذي تتحدث فيه، وبالتالي كانت مجرد جزر منعزلة عن السرد الذي تكتبه المؤلفة، ثم لا تلبث أن تعود إلى تفاصيل الطبخ مرة أخرى: "رصت البطاطس التي قشرتها وقطعتها شرائحا متوسطة ومتساوية الحجم في الصينية المتوسطة ورصت فوقها دوائر البصل المتوسطة ومكعبات اللحم الناضجة وصبت عليها صلصة الطماطم المتبلة بالملح والفلفل وزجتها ووضعتها في الفرن المتوسط، الكمال لا ينبغي أن يُمس"، وفضلا عن التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لا معنى لها فلقد لفتت نظرنا مفردات "الصينية المتوسطة، ودوائر البصل المتوسطة، وقطعتها شرائحا متوسطة، والفرن المتوسط"، فما هي الدلالة التي تريدها المؤلفة من التأكيد على وصف المتوسطة؟! لكننا في النهاية لن نجد أي دلالة سوى أن القاصة أرادت لهذه الأمور أن تكون متوسطة فقط لا غير! ربما باعتبارها كاتبة متوسطة، ثم لا تلبث القاصة أن تنخرط في الحديث عن بعض المعلومات عن البطاطس وأنها من أهم الأطعمة المؤدية للإصابة بالسرطان، لكنها تتحدث عن آراء علمية أخرى فتقول إنها مفيدة جدًا؛ كي تعود مرة أخرى لتهوّم بالسرد في اللامعنى والمُطلق بشكل غير مفهوم حينما تقول: "وبعد أن فلفلت الأرز "حبة..حبة" لم تتوقف كثيرًا عند سؤال آخر: من هذا الرجل الذي سحبها من حرير أحلامها إلى لهيب المطبخ وروائح البصل والثوم والفلفل، صحيح أنها تذكرت مقولة لطيفة الزيات الشهيرة: "الجنس هدم قلاعا وامبراطوريات"، لكنها لم تبتسم وامتصتها هواجس كانت تقصدها ولا تمنحها أية فرصة للإفلات، هواجس جائعة للوجع ومعلقة بين الحاضر والغيب ولها قوة الظل الذي يزحف ببطء حتى يغطس فيه المكان، حاولت أن تستل من هذه العتمة وتوقظ نفسها ببعض الذكريات السعيدة، فتجاوزت صوته وهو يتلو عليها مكررا الآية القرآنية: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا"، من خلال هذا المقطع لا نفهم ماذا تريد الكاتبة أن تقول! وما علاقة لطيفة الزيات ومقولتها بالسرد، وما هي الهواجس التي تقصدها وما نوعيتها؟ وما هو المكان الذي من الممكن له أن يغطس في هذه الهواجس، وما علاقة هذا بالآية القرآنية وما مدلولها، وما علاقة هذا الحكي بالكامل بسياق القصة التي تطبخ فيها؟!
تعود الكاتبة في نفس القصة إلى: "واصلت تحضير طبق السلطة، فقطعت الخس والخيار والفلفل والألوان والطماطم وبشرت الجزر وخلطتهم بحب الرمان ورشت الكثير من زيت الزيتون والقليل من الزعتر، وقبل أن تنثر رشة الملح الأخيرة رن هاتفها المحمول لحظة دخوله من باب الشقة بابتسامته العريضة وفي يده باكو من الشيكولاتة التي تحبها، بينما تصلبت مفاصلها وتجمدت ملامح وجهها وهي تقول بهدوء:.. طلقني"، هنا تنتهي اللاقصة التي ظنت الكاتبة أنها قصة، لكنها أيضا تنتهي بشكل غير مفهوم؛ فلم طلبت منه الطلاق، وما الداعي لذلك؟! أنا شخصيا لم يصلني أي معنى ولم أفهم؛ لدرجة أني قرأت القصة ثلاث مرات ولم يصلني منها أي معنى سوى أنها مجرد وصفة للطبخ وشرود في اللاشيء.
إذا كان هذا هو عالم المرأة الذي تكتب عنه وتهتم به؛ فمن الأدعى بها ألا تفكر سوى في مطبخها، وتترك لنا الإبداع حتى لا يتم تشويهه بمثل هذه الثرثرات التي لا معنى لها بدعوى أنها تكتب قصة أو أدبا؛ لأن ما قرأته في هذا السرد لا علاقة له بالأدب بقدر ما له علاقة بالطبخ.
في قصة "فلافل" تبدأ القصة بالحديث عن كروية الأرض والدرس الذي كان يلقنهم إياه المدرس وهم صغار حول هذه المعلومة العلمية، والجدل الدائر بين جاليليو والأديان حول هذه الحقيقة العلمية، ثم لا يلبث السرد أن ينتقل بشكل مفاجئ إلى ساحة ميدان دام في العاصمة الهولندية أمستردام بينما الراوي ينام على ظهره بجوار حبيبته، ثم يبدأ الراوي في وصف تفصيلي لساحة الميدان وتاريخه، لكنه يتحدث فجأة بعد هذا الوصف عن الفلافل التي هي عنوان القصة فتقول المؤلفة على لسان راويها: "أما أنا فأستمتع بوضعيتي كواحد من المنسيين هنا في هذه الساحة العامرة، وأقرأ قصيدة "لا تصالح" لأمل دنقل بصوت عال يشاكس صوتها وهي مستلقية بجواري في نفس الوضعية، بعد أن التهمت معها اثنين من ساندوتشات الفلافل من المحل الزجاجي ذي العرض الشهي للفلافل والطرشي والمخللات، فلافل الحمص المستديرة، المقرمشة، الساخنة، الملفوفة بورق الخس الطازج، وسائل الطحينة ينساب في الفم ناعما ويغلب عليه مذاق السمسم الذي تباغته قضمة من قرن الفلفل الأخضر الحار، فتنشرخ سيمفونية الأكل والمضغ بسعال متقطع أو آهة مصحوبة بدموع فجرتها المتعة المدوخة في هذا الصقيع الأوروبي الذي لم ينجح في محو الضغينة، فما أن أخبرنا صديق بخبث أن المحل الزجاجي صاحبه إسرائيلي يدعي أن الفلافل ذاتها إسرائيلية، رمت هي نصف الساندويتش وظلت تلعن إسرائيل وجدودها، لم أفهم أنا وكذلك لم تفهم هي إذا كانت هذه مزحة من صديقنا أم حقيقة، لكنها فعلت ذلك من باب أن الحرص واجب، وأن شتيمة إسرائيل ضرورة وطنية، هذه طريقتها في التعبير عن عواطفها صريحة وصارخة ولا لبث فيها"، وهنا لابد من التوقف أمام شيئين: فالكاتبة هنا تهتم بتفاصيل الأكل ومكوناته بشكل مبالغ فيه وغير مفيد للسرد في شيء، وبالتالي رأيناها تُفصل القول في مكونات ساندويتشات الفلافل التي نعرف مكوناتها جيدا وإن لم تقدم لنا شيئا ذا فائدة، ولكن ما علاقة الفلافل التي جعلتها عنوانا لقصتها بالزج بإسرائيل في سياق القصة، وهل بزجها لإسرائيل داخل السياق أرادت أن تبني على ذلك أحداثًا لاحقة؟
الحقيقة أنها لم تبن على هذا الزج داخل سياق القصة بل تركت الأمور معلقة عند هذا الحد لتتحدث في فقرة طويلة عن إيريك فروم ونظريته التي تقول: "إن الحب هو قوة فعالة في الإنسان" وتبدأ في نقاشها، ثم تبدأ في الهذيان السردي الذي لا معنى له ولا طائل من تحته حتى تنتهي القصة وتفضي إلى اللاشيء؛ مما يجعلنا نحاول الربط بين كروية الأرض وجاليليو وصراعه مع الأديان حول الحقيقة العلمية وعلاقة كل ذلك بالفلافل، ثم أهمية الزج بإسرائيل في الأمر وعلاقة إيريك فروم بقصيدة أمل دنقل، ثم العبث السردي المهوّم في الفراغ الذي جاء في نهاية القصة؛ ليتأكد لنا في النهاية أن هذه الكتابة لا يمكن أن يفهمها سوى مؤلفها فقط! فهي مجموعة من الثرثرات التي تطلقها المؤلفة علينا وربما لا تفهمها هي أيضا، وبالتالي لابد من التساؤل ماذا تريد المرأة من الإبداع إذا كان كل ما تكتبه لا يمكن له أن يخرج عن فلك الأكل والمطبخ وتفاصيل الطبخات، ثم الثرثرات التي تبيّن لنا مفهوم الكاتبة المغلوط عن الأدب؟!
في قصة "سرسجي" يتأكد لنا أن ناهد صلاح لا يمكن لها أن تكتب القصة وأن ما تكتبه مجرد نصيحة أو خاطرة أو أي شيء من الممكن أن نطلق عليه أي مُسمى فيما عدا مُسمى الأدب أو القصة؛ فنحن حينما نقرأ أحدهم يقول: "أن ترتدي البادي المحزق أو القميص المفتوح حتى صُرتك والبنطلون الجينز المقطع والكاوتش الصيني الـ"هاي كوبي" لماركة عالمية، وتطوّل شعرك وتفلفله أو تعمله ديل حصان وتدهنه بالجيل، وتعلّق في رقبتك السلسلة والأساور والحظاظات الجلدية في معصمك، وتضع النظارة الشمسية التي أهدتك إياها البنت التي خدعتها بكلمتين حلوين عن رومانسية الطلوع للقمر بـ"التوك توك"، و"تتلطّع" على مقاهي وسط البلد وأنت تحمل تليفونك الـ"سامسونج" الجديد ومشغول بالـ"فيس بوك" وتتحدث برطانة العظماء في السياسة، فهذا لا يعني أنك صرت آدميا متكاملا، لأنك مهما فعلت لن يقولوا عنك سوى.. سرسجي".
ربما حرصتُ هنا على سوْق القصة بالكامل كما كتبتها صاحبتها لأوضح أنه لا علاقة لما كتبته بالقصة أو الأدب من قريب أو بعيد، وأن من خادعها وأفهمها أن هذا الكلام الذي هو من قبيل الردح من الممكن أن يكون قصة فقد أوهمها كثيرا، وكل من وافقها على أن هذه الهراء من الممكن له أن يكون قصة فقد ارتكب جريمة قصوى في حقها وفي حق الأدب أيضًا.
القصة لا يمكن أن تكون بمثل هذا الشكل، وإذا كانت الكاتبة ترغب في إعطاء النصائح فالقصة ليست هي المجال الصالح لها إطلاقا، فلتبحث عما يناسبها بعيدا عن الأدب، كما أن الأمر يبدو كرد فعل لموقف شخصي حدث مع الكاتبة الأنثى من أحد الرجال؛ ومن ثم فلقد أرادت أن تعطيه درسا قوليا كي تضعه في حجمه الطبيعي، ولكن هل هذا الأمر مجاله الأدب أم الجلسات الخاصة؟! أعتقد أن على الكاتبة القراءة كثيرا في كيفية الكتابة الأدبية قبل أن تُقدم على هذا الفعل بمثل هذه الجرأة التي لا يمكن تسميتها سوى أنها جريمة مكتملة الأركان.
في قصة "رائحة القرفة اللطيفة" تعمل المؤلفة على التكريس لصورة المرأة المنسحقة والعاشقة لانسحاقها وضعفها والتي لا ترى نفسها سوى في هذا الشكل، فهي تتحدث عن حبيبها الذي تعشق أن تشم فيه رائحة القرفة لفرط تناوله الـ"هوت سيدر" بعيدان القرفة، فهي تتشمم دائما رائحته التي تحبها كلما قابلها، حتى أن هذه الرائحة تنطلق في كل مكان يكون فيه، وتستعرض لقائها به في أكثر من مكان سواء أمام عمارات معروف، أو في ميدان طلعت حرب أمام جروبي، أو في شقة تجمعهما، ولكن رائحة القرفة الأثيرة التي تنطلق منه لا تلبث أن تتلاشى حينما يضع قدمه في وجهها ويرصد عدد الانفجارات التي حدثت في أنحاء البلاد، ومن ثم نخرج من السرد في النهاية ونحن لم نفهم ما الذي تريد أن تقوله لنا سوى تكريس صورة المرأة المنسحقة والتابعة. كما أن تأمل طريقة السرد يجعلنا نندهش من الجملة المركبة التي تجعلنا نتوقف أمامها كثيرا كي نستطيع تفكيكها وفهمها حينما تقول: "مرة أخيرة كان هو يجلس على الكنبة القديمة داخل الشقة الصغيرة بالعمارة الكبيرة في الحارة الضيقة، ينظر إلى السقف غير مبال، بينما كانت هي تتجمد لحظة أمام قدمه المرفوعة بغرور في وجهها، ثم تصرخ وتهذي بكلمات غير مفسرة قبل أن يقوم إلى المكتب في الجهة المقابلة دون أن يلتفت إليها، يخلع قميصه ويطمئن على عضلاته ويشد جهاز الكمبيوتر بقوة ثم يضغط على مفتاح التشغيل فتتدحرج كلماته لترصد عدد انفجارات اليوم في أنحاء البلاد وتختفي رائحة القرفة تماما"، هنا سنلاحظ أن الجمل شديدة التركيب كما أنها مبهمة تفتقد الدلالة والمعنى، ولا يمكن أن تؤدي بنا إلى خلاصة أو فكرة. فما الذي تريد أن تقوله لنا المؤلفة سوى أنها افتقدت رائحة القرفة التي تستمدها من رجلها حينما تعامل معها بذكورية فظة؟!
في قصتها "فردة حلق" تُصرّ الكاتبة على نفس العالم الضيق الذي تدور في فلكه ولا يمكنها الخروج منه بأي شكل من الأشكال، إنه عالم الهزائم الصغيرة، والمرأة المنسحقة تحت الضغط الذكوري الذي يتمثل الأب أو الأخ أو الحبيب أو الزوج، إنه الرجل غير القادر على فهم مشاعر المرأة المرهفة الحس والذي تعاني منه في كل حياتها، وربما لذلك حاولت المؤلفة أن تكون القصة على لسان حبيبها أو رفيقها الذي يتأمل حالتها، ولعلنا نلاحظ في عناوين معظم القصص هذه المفردات النسائية التي لا تعبر سوى عن عالمها المحدود، فهي تتحدث هنا عن فردة الحلق التي ما أن تضيع منها إلا وتتأكد أن علاقتها بالرجل الذي معها قد انتهت وكأن ضياع فردة الحلق هي إشارة لانتهاء علاقتها بالرجل المرتبطة به. كما تتأمل المؤلفة كثيرًا بشيء لا يخلو من التفلسف معنى ضياع فردة الحلق وتأثير ذلك على حياتها وعلاقتها بالرجال، وتعمل على تحليل الأمر بشكل فيه من الثرثرة أكثر مما قد يفيد السرد، ثم لا تلبث أن تنغمس في الحديث عن المرأة المقهورة ممثلةً في الأم والأب حينما تقول على لسان الراوي: "تتمترس في مكانها حيث تجلس في وضعية اليوجا تلك التي أبهرتني منذ رأيتها لأول مرة ولم أعرف كيف أضاهيها أبدا، تتربع وأرجلها متقاطعة ومطوية إلى داخل جسمها وجذعها العلوي منتصبا فيما هي تُجمع كل فردات الحلقان الوحيدة وتشخص بنظرها إلى نقطة بعيدة تستعيد فيها صورا من حياتها، أب متجهم وأم مهدودة الحيل وصفعة قوية من أبيها على أذنها اليمنى لأنها رفضت وهي صغيرة أن تتناول الدواء، حتى هذه اللحظة هي تظن أن الصفعة هي سبب عدم إذعان تلك الأذن بالذات للاستسلام لأي فردة حلق، قالت لي ذات مرة: إنني أشبه أباها، واقعي جدا لا أُصاب برعشة الخرافة أو حمى الخيال"، وهنا يتضح لنا أن مأساتها الحقيقة في حياتها هي صفعة أبيها وقسوته في التعامل معها ومع أمها؛ وبالتالي تضيع منها دائما فردة الحلق التي تعني انتهاء علاقتها بالرجال، وفي هذا التناول ما يدل على السطحية وعدم العمق في تناول موضوع القصة، وهو ما نراه عند أغلب الكاتبات اللاتي يدرن في عالمهن الضيق غير المهم، كما أنها تحرص على إنهاء القصة بأن يشتري لها رفيقها زوجين من نفس الحلق حتى إذا ما ضاع منها فردة يخرج لها الثانية ويقول لها: إنها لم تضع، وهنا يتضح لنا أنها رغم اتهامها الدائم له بأنه مثل أبيها واقعي ولا يهتز للخيال ولا يشعر بمشاعرها إلا أنه حريص على أن يشتري زوجين من الحلق حتى لا يفقدها الأمل في علاقتهما، أي أنه أكثر حساسية تجاهها أكثر من حساسيتها تجاهه.
في المجموعة القصصية للقاصة ناهد صلاح نلمح العالم الضيق الذي تدور فيه معظم نساء المنطقة العربية وهو العالم الذي لا يستطعن الخروج منه، بل يبقين رهنه دائما وكأنه لا يمكن لهن الحياة خارجه، أي أن المرأة العربية في النهاية رهينة مازوخيتها التي تعمل على اجترارها بشيء من المتعة، كما أن الكتابة هنا لا يمكن وصفها سوى بالثرثرة في الهواء الطلق، حتى أننا لا نستطيع الخروج مما نقرأه بأي شيء مفيد، كما أن السرد متوقف غير قادر على التطور رغم السطور الكثيرة المكتوبة لكنها لا تؤدي إلى أي معنى في النهاية؛ لأن الكاتبة لديها الرغبة في الكلام فقط من دون أي هدف يتجاوز هذا الكلام.
نحويًا، نلاحظ وجود العديد من الأخطاء التي لم تحرص الكاتبة على مراجعتها، منها عدم الاهتمام بحرف الجزم "لم" وبالتالي لم تحذف حرف العلة في "لم تر" التي كتبتها "لم ترى"، كما وضعت المؤلفة الهمزة على الواو مرتين في كلمة "بهدوء" التي كتبتها "بهدؤ"، كما لاحظنا أنها كتبت "ثلاث رجال" في حين أن الصحيح هو "ثلاثة رجال" لأن الأعداد من ثلاثة إلى عشرة تخالف التمييز في التذكير والتأنيث، كما نرى جملة "عيناكِ الطفوليتين التي تركز على نقطة بعيدة وتحبس دموعها"، هكذا كتبتها المؤلفة مع اختلال الضمائر وحالات النصب والرفع؛ لأن صحيح الجملة هو "عيناك الطفوليتان اللتان تركزان على نقطة بعيدة وتحبسان دموعهما"، هذا فضلا عن الخطأ الذي بتنا نراه لدى النسبة الغالبة من الكتاب تقريبا وهو عدم إدغام ما يتوجب إدغامه في اللغة مثل قولها: "في ما مضى"، الذي لابد أن يُكتب "فيما مضى" وغير ذلك من الأخطاء.
مجموعة "دومينو" من المجموعات القصصية الفقيرة فنيًا والتي لا يمكن أن تقدم سوى صورة مشوهة تشويها حقيقا حول كتابة المرأة العاجزة عن الخروج إلى عالم إبداعي واسع ورحب بعيدًا عن مشكلاتها الصغيرة وإحساسها بالدونية أمام الرجل وكونها مجرد تابع له، كما أن هذه المشكلات الصغيرة التي تراها المرأة في قرارة نفسها عظيمة وكبيرة ومحور العالم كله، هي في حقيقة الأمر ليست كذلك، وهي مجموعة من المشكلات التي لا يمكن أن تكون صالحة لبنية السرد الفني أو الأدبي، بل هي صالحة لثرثرتها مع صديقاتها في جلسات النميمة بعيدا تمامًا عن العالم الأدبي.

محمود الغيطاني




الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

"البوكر".. انقلاب المعايير وفساد الذمم الثقافية

ربما كان الفساد الحادث كل عام في جائزة "البوكر" العربية (الجائزة العالمية للرواية العربية) التي ترعاها هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة في الإمارات العربية المتحدة ما يدعو لتأمل هذه الجائزة التي باتت مشبوهة؛ بسبب خياراتها الروائية كل عام والتي توجت شبهتها الحقيقية بإعلانها فوز رواية "مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لشبه الروائي الإنجليزي الجنسية الفلسطيني الأصل ربعي المدهون في دورتها الأخيرة باعتبارها أهم رواية عربية صدرت في العام الماضي رغم تهافت الرواية والروائي، فضلا عن أنها مُحاطة بشبهة صهينة التاريخ الفلسطيني التي كانت واضحة تماما لكل من قرأ الرواية، بالإضافة إلى مغالطات الروائي المُتعمدة في ذكر العديد من الأمور التي تخص هذا التاريخ.
إذا ما تأملنا تاريخ هذه الجائزة المثيرة للعديد من التساؤلات حول أهدافها الحقيقية ورغبة المسؤولين والقائمين عليها؛ لوجدنا أنها أُطلقت في "أبوظبي" في إبريل 2007م، وتبعا لما أعلنته الجائزة حينها، ومازالت تدعيه حتى اليوم أنه قد تقرر إطلاق النسخة العربية منها بهدف ترسيخ حضور الروايات العربية المتميّزة عالمياً، ولعله لابد لنا من التوقف كثيرا أمام ما يدعونه من أنهم يرغبون في ترسيخ الروايات المتميزة عالميا. لأن كل نتائج البوكر منذ تم إنشائها حتى اليوم لم يكن في قائمتها القصيرة أو الرواية الفائزة بها في نهاية الأمر ما هو متميز بالفعل مثلما يدعون إلا ندرة تُمثل الهامش بينما المتن فيها هو الرداءة والضعف والتهافت؛ مما يجعلنا نرسم الكثير من علامات الاستفهام والتعجب من هذه الخيارات الضعيفة فنيا، وكأنما القائمون على الجائزة لا يعنيهم سوى الرداءة والركاكة فقط في مجال الرواية، بينما يعملون على تنحية كل ما هو فني وروائي، وفي هذا ما يناقض المنطق.
"وُلدت فكرة الجائزة باقتراح من جانب الناشر المصري ابراهيم المعلّم والناشر البريطاني جورج وايدنفلد لتأسيس جائزة مُشابهة لجائزة "المان بوكر" التي حقّقت نجاحاً بالغاً؛ مما قد  يشجّع تقدير الرواية العربية المتميّزة ومكافأة الكتّاب العرب ويؤدّي إلى رفع مستوى الإقبال على قراءة هذا الأدب عالمياً  من خلال الترجمة، كما أن الجائزة فريدة من نوعها في العالم العربي بحيث أنّها ملتزمة بقيم الاستقلالية، الشفافية والنزاهة خلال عملية اختيار المرشّحين"، هذا ما تُعلنه الجائزة على موقعها الرسمي، لكن الواقع الذي نراه كل عام يؤكد لنا أن الجائزة لا يوجد فيها أي لون من ألوان النزاهة النقدية أو الأدبية، بل تسودها الكثير من الشبهات والجدال واللغط؛ الذي قد يؤدي بنا إلى الظن بأنها مُمولة من جهة معادية للعرب وللفن الروائي على وجه الخصوص بحيث تعمل على الترويج لكل ما هو فاسد فنيا ومهترئ لغويا.
كما تقول الجائزة عن نفسها في موقعها الرسمي: "يقوم مجلس الأمناء سنوياً بتعيين لجنة تحكيم تتألف من خمسة أشخاص هم نقّاد وروائيون وأكاديميون من العالم العربي وخارجه. يقدّم الناشرون روائع الأدب المتوفّرة لديهم والتي تمّ نشرها خلال العام السابق. يقرأ أعضاء لجنة التحكيم كل الروايات المرشّحة وقد يزيد عددها على مئة رواية، ويقررون بالتوافق قائمة مرشحين طويلة وقائمة قصيرة وفائز نهائي. من أجل ضمان نزاهة الجائزة التامة لا تُكشف هويات أعضاء لجنة التحكيم حتى موعد الإعلان عن القائمة النهائية". إذا ما تأملنا الفقرة السابقة التي تذكرها الجائزة عن نفسها؛ لتأكد لنا من خلال الواقع الذي نراه كل عام أن المسؤولين عن الجائزة  يتمادون في التدليس على الجميع بتصريحاتهم؛ فلجنة التحكيم التي يتم اختيارها من قبل مجلس الأمناء المزعوم هي مجرد لجنة مشبوهة على المستوى النقدي دائما، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بما يصرحون به من خلال موقعهم الرسمي، كما أنها لا علاقة لها بفن الرواية؛ ولعلنا لاحظنا في كل السنوات تقريبا أن المسيطرين على لجان تحكيم هذه الجائزة ليسوا سوى صحفيين وشعراء والنادر من الأكاديميين الذين لا نعرف عنهم الكثير، أي أن تحكيم الجائزة في النهاية بيد مجموعة من الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالأدب وليس كما ذكروا "نقّاد وروائيون وأكاديميون "؛ مما يؤدي بهم إلى هذه النتائج المشكوك بمصداقيتها؛ لأنه مشكوك بأهليتهم، ومحاولة التكريس لأعمال روائية ضعيفة وركيكة مثل أعضاء تحكيمها.
إذا كان الأمر كذلك فنحن لابد لنا من التساؤل: هل هذا التسطيح والتتفيه للرواية العربية يعود في حقيقة الأمر إلى لجان التحكيم التي يتم اختيارها، أم إلى مجلس الأمناء الذي يختار هذه اللجان؟
بالتأكيد أن الفساد الأدبي الحقيقي في هذه الجائزة يعود إلى مجلس الأمناء ذاته؛ لأنه يختار من يشاء من أعضاء لجان التحكيم ممن ليس لهم علاقة بالفن الروائي، أو الصحفيين الذين لا يملكون أدوات للتحكيم في فن الرواية، أو حتى الشعراء الذين هم أبعد من يكونوا عن هذا الفن، أو الأجانب الذين لا دراية لهم بالثقافة العربية، وبذلك يكون مجلس الأمناء ككيان هو الفاسد الأول والحقيقي رغم تضامن لجان التحكيم معه، ولكن الأصل في هذا هم القائمون على اختيار أعضاء اللجان الممتثلين لرغباتهم وأهوائهم ومصالحهم الضيقة في محاولة إفساد الرواية العربية باختيار ما هو أضعف، وما هو مؤدلج ويخدم اعتبارات سياسية معينة، أي أن الأمر في النهاية ليس سوى صفقة فساد باسم الأدب تتم أمام الجميع وبصلف لا يمكن التغاضي عنه.
إن تأمل لجان التحكيم التي يُصرّ على اختيارها مجلس أمناء الجائزة فيه الكثير من العوار؛ مما يدفعنا دائما للتساؤل: هل من الممكن أن تسيطر الصحافة على الأدب بمثل هذا الشكل لدرجة أن يكون من محكمي جائزة لفن الرواية العديد من الصحفيين؟ وما علاقة الصحافة بالفن الروائي، وهل من الممكن أن يمتلك الصحفي الذي لا علاقة له بالفن الروائي- حتى وإن كان صحفي شئون ثقافية- القدرة على التحكيم في جائزة روائية؟!
إن لغة الصحافة في الأساس هي مجرد لغة ضعيفة ومبتذلة وعادية ويومية وتقريرية ومباشرة؛ كي تستطيع الاقتراب من القارئ العادي، أي رجل الشارع الذي نجد منه غير المثقف، وغير المتعلم، وما دون ذلك؛ لذلك تقترب لغة الصحفيين دائما من هذه اللغة السطحية، كما أننا نعلم جيدا أن معظم الصحفيين حتى العاملين في المجال الثقافي يتميزون بالكثير من الجهل الثقافي وربما لم يقرأوا كتابا واحدا في حياتهم، بل هم لا يستطيعون تركيب جملة صحفية واحدة سليمة- باعتباري أعمل أيضا في المجال الصحفي، وأرى يوميا الكثير من الكوارث التي يرتكبها هؤلاء الصحفيون بشأن اللغة، بل والثقافة التي يكتبون في شأنها-، فهل من الممكن أن يكون هؤلاء هم الذين يحكّمون في جائزة تخص الفن الروائي، بل وفي أهم جائزة في منطقة الشرق الأوسط؟! وكيف سيستطيع الصحفي الذي لا يعرف جماليات وآليات اللغة الحكم على جماليات رواية ما أو فنيتها؟! وفي النهاية فالجائزة في شروطها التي أعلنتها على موقعها الرسمي لم تذكر أنها تختار صحفيين من أجل التحكيم فيها، بل قالت أنها تختار أكاديميين متخصصين في الفن الروائي، ونقاد، وروائيين، وليس صحفيين.
الأمر الثاني الذي لابد من التوقف أمامه هو: ما علاقة الشعر والشعراء بفن الرواية؟ فمجلس أمناء الجائزة يتخير مجموعة من الشعراء في لجان تحكيمها وهذا أمر لابد أن يدهشنا دهشة حقيقية؛ لأن المنطق الواقعي- حتى لمن لا علاقة له بالفن على إطلاقه- لابد سيقول: إن الشعر والشعراء لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالفن الروائي، كما أن المنطق يقول: إنه لا يمكن أن يكون هناك روائي ما عضو في لجنة تحكيم تخص جائزة شعرية، فكيف ينقلب الحال ويصح أن يكون هناك شاعر في لجنة تحكيم جائزة تخص الفن الروائي؟!
هل رأينا في يوم من الأيام روائيا مُحكما في جائزة تخص فن الشعر؟ إذا كان الأمر بالنفي فلمَ العكس من الممكن له أن يحدث بل ويكون هناك شاعر متهافت وضعيف فنيا رئيسا للجنة تحكيم جائزة "البوكر" مثلما حدث في الدورة الأخيرة التي أعطت المدهون روايته؟! بل وفي العام السابق أيضا يكون هناك شاعر متوسط القيمة مثل مريد البرغوثي كرئيس للجنة التحكيم؟! إن الأمر يثير الكثير من الدهشة حينما يكون الشعراء هم المحكمون في جوائز الرواية، بل وتظل الدهشة معنا لا يمكن زوالها حينما نعرف أن الشعراء هم رؤساء لجان التحكيم في جائزة تخص الفن الروائي.
إذا ما تأملنا أعضاء لجنة التحكيم في الدورة الأخيرة- التي كانت دورة كارثية حقيقية باستبعاد روايات مهمة من المنافسة، والاستقرار على روايات ساقطة فنيا- نستطيع من خلال ذلك معرفة السبب في هذه النتيجة الكارثية التي توجت المدهون وروايته المغرقة في سطحيتها على رأس جميع الروايات التي كانت تتنافس معها.
تكونت لجنة تحكيم "البوكر" في دورة 2016م من كل من الناقدة والشاعرة والصحفية الإماراتية أمينة ذيبان، وعضوية كل من الصحفي والشاعر المصري سيد محمود، والأكاديمي المغربي محمد مشبال، والشاعر والصحفي اللبناني عبده وازن، والمترجم منير مويتش من البوسنة، وإذا ما تأملنا الأسماء جيدا لوجدنا أن اللجنة تضم ثلاثة شعراء هم الإماراتية أمينة ذيبان، والمصري سيد محمود، واللبناني عبده وازن، بينما يتبقى ناقد مغربي، ومترجم من البوسنة، أي أن اللجنة التي تخص فن الرواية تضم ثلاثة شعراء للحكم على الأعمال الروائية المتنافسة ومن هؤلاء الشعراء صحفيين هم سيد محمود، وعبده وازن، وأمينة ذيبان، وبالتالي تكون اللجنة مكونة من شعراء وصحفيين؛ ليسيطر كل من الشعر والصحافة على مقدرات الفن الروائي في نهاية الأمر.
إذا ما حاولنا الموافقة على وجود شعراء في لجنة تحكيم الرواية- رغم أن الأمر لا يمكن قبوله؛ بما أنه لا يمكن قبول العكس- لوجدنا أن رئيس لجنة التحكيم كانت أمينة ذيبان وهي شاعرة إماراتية كانت تعمل في الصحافة لفترة طويلة ثم انخرطت في الدراسة الأكاديمية فيما بعد لتحصل على الماجستير والدكتوراه في الآداب من جامعة لندن، وبكالوريوس مزدوج في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة الإمارات، ولكن إذا ما تأملنا حال الشعر الذي تنتجه الشاعرة التي كانت رئيس لجنة التحكيم على الفن الروائي لوجدناه لا يختلف كثيرا عن التردي الذي رأيناه في الرواية التي تم اختيارها، أي أن الأمر هنا لابد أن يكون معقولا ومتناسبا مع المستوى الأدبي لمن اختاروا الرواية، تقول ذيبان في قصيدة "نمو متزن":
اختزن اللهفة
في ورق الورد
على قلب امرأة
تتلو أوراق الجنة
في صمت الشعراء الأبدي
الأقسى
من عمر يتجاوز
ألف امرأة
مسكون بالورد
وبالحب
وبالشفق المدرك
في رأسي
أتطاول
أدخل في شرفة ليل مسكون باللحظة
فإذا كان هذا هو المستوى الشعري للشاعرة التي ترأست لجنة التحكيم، وهو الشعر الذي نراها فيه مغرقة في اللامفهوم بشكل يجعلنا نأنف من قراءة الشعر مرة أخرى؛ فلابد أن يكون خيارها كمحكّمة مجرد رواية ضعيفة فنيا لا معنى لها سواء على المستوى اللغوي أو الدلالي أو الجمالي فضلا عن هراء موضوع الرواية، وهو أنسنة الإسرائيليين بشكل يتفوق على جميع العرب، بل وجعلهم في مصاف الملائكة على الأرض.
بالتأكيد سيقول البعض أن ذيبان ليست مجرد شاعرة أو صحافية، بل هي متخصصة أكاديميا في مجال نقد الرواية، ولكن ما هي الإسهامات النقدية المهمة التي قدمتها ذيبان في مجال نقد الرواية حتى يتم اختيارها كرئيس لجنة تحكيم في جائزة للرواية العربية؟ أليس من الأجدى لمن يتم اختياره كمحكم في جائزة خاصة بالرواية أن يكون ناقدا له العديد من الإسهامات المهمة في مجال نقد الرواية ومطلعا دائما على كل ما هو جديد في عالم الرواية، ومشاركا فعليا في عالم الكتابة النقدية ومتابعة الأعمال الروائية؟! نحن في الحقيقة لم نر لأمينة ذيبان الكثير من الإسهام النقدي أو حتى مجرد إسهام واحد لافت للنظر في المجال النقدي، وكل ما نعرفه عنها هو كتابها "الحداثة والتغيير عند عبدالرحمن منيف"، فهل يكون مثل هذا البحث النقدي هو كل مؤهلاتها لتكون عضو لجنة تحكيم في جائزة للرواية بل ورئيسا لها؟!
كما أننا لاحظنا أن مسوغات ومبررات وحيثيات فوز الأعمال الأخيرة التي قدمتها لنا ذيبان كرئيس للجنة التحكيم كانت مجرد مسوغات انطباعية لا يمكن لها أن تصدر من ناقد يفهم آليات النقد الأدبي حينما قالت: " شهدت هذه الدورة من الجائزة ترشح أعمال مهمة تُمثل تجارب روائية حديثة منفتحة على حقول غير مطروقة سابقا تندمج فيها الذات الفردية والذات الجماعية، وتشمل هذه الحقول فضاءات نفسية واجتماعية وسياسية وتاريخية، تتميز بانفتاحها على أشكال وأساليب سردية مبتكرة تُسائل الموروث الروائي العربي وتتفاعل مع اللحظة المأساوية الراهنة، وقد اتسمت مهمة اللجنة بالمتعة والتحدي"، فهل من الممكن اعتبار مثل هذا الكلام المُطلق في الهواء حيثيات نقدية لفوز رواية من الروايات، وهل من الممكن قبول مثل هذا الكلام الانطباعي البعيد كل البعد عن الطرح النقدي، بل وزاد الطين بلّة ما قاله ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة: "روايات القائمة القصيرة لهذا العام متنوعة في مواضيع وتقنيات وتجليات شخوصها، تجعل من القريب بؤرة مكثفة في تماهيها مع الوضع الإنساني في أطره الاجتماعية والسياسية، وفي البوح عن مكونات النفس البشرية. شوط كبير ما زال أمام الرواية العربية لتقطعه، لكن روايات هذه القائمة تؤشر بتفاؤل متنام أن المسيرة قد انطلقت لتصل إلى قارئ يزداد تفاعلا مع الأدب الروائي العربي عاما بعد عام"، أعتقد أن رئيس مجلس أمناء الجائزة كان من الأدعى له التزام الصمت والجهل معا بدلا من هذه الكلمات الانطباعية التي لا معنى لها، والتي لن يفهم منها من يسمعها أي شيء؛ لأن الكلام في حقيقته مجرد "فض مجالس"، أي كلام يُقال في المناسبات ومن ثم لا يمكن فهمه بشكل نقدي حقيقي، كما أنه من قبيل القول الذي يمكن إطلاقه على كل الروايات كل عام وليس هذا العام فقط بعينه.
لعل ارتباك أعضاء لجنة التحكيم في الإجابة على العديد من الأسئلة التي وُجهت إليهم في ندوة جائزة الرواية العربية العالمية "بوكر" التي استضافها النادي الثقافي بعد إعلان فوز رواية المدهون كان دليلا على تخبطهم حينما واجهوا العديد من الأسئلة المهمة، بل ودلّت إجاباتهم على أنهم لا يقرأون فعليا كل ما يُقدم إليهم من أعمال إبداعية، حيث يعتمدون على الصدفة فقط؛ مما يؤدي إلى ظلم العديد من الروايات الجيدة فنيا، وتفضيل الكثير من الروايات الضعيفة والمتهافتة عليها؛ فحينما طرح الكاتب والروائي العماني يعقوب الخنبشي سؤاله: "إذا كان أمام لجنة التحكيم 159 عملا روائيا لتحكيمها فإن حسبة بسيطة جدا توضح أن أمام أعضاء اللجنة إذا عملوا بشكل مستمر على مدار عام كامل من دون أي توقف يومين وربع لقراءة كل رواية!! فكيف تستطيع لجنة التحكيم إقناعنا أنها قرأت كل الأعمال في أشهر معدودة لتخرج بالقائمة الطويلة ثم القصيرة خاصة أن بعض الروايات لا تكشف عن نفسها منذ الفصل الأول؟"، لكن الإجابة كانت بالفعل كارثية ومربكة ومخيفة؛ لأنها تدل بالفعل على ظلم الكثير من الأعمال؛ حيث كان الرد: "إن الرواية الجيدة تكشف عن نفسها منذ الصفحات الأولى والرواية الرديئة تكشف عن نفسها من العنوان!!"، كما قالوا: " إن مجلس الأمناء كان على دراية أننا لا نستطيع قراءة كل الأعمال قراءة كاملة؛ ولذلك أشار علينا من خلال خبرته مع لجان التحكيم الماضية أن نترك الرواية متى ما رأينا أنها لا تستحق ولا نكملها"، أظن أن هذا الأسلوب في اختيار الروايات يدل على أن هناك الكثير من الأعمال التي يتم ظلمها، كما أنه لو كان الأمر كذلك، والواقع الفعلي يؤكد أن اللجنة المكونة من خمسة أشخاص لا تستطيع قراءة الأعمال كلها والصبر عليها حتى النهاية؛ فما المانع من أن تتكون اللجنة من أكثر من خمسة أشخاص فقط، أو لِمَ لمْ يفكر مجلس الأمناء في أن تكون هناك لجنة أولية للقراءة كي تنبثق منها اللجنة النهائية المكونة من خمسة أفراد إذا كان يهمهم فعليا أمر الفن الروائي، وإذا كان يعنيهم أن تكون الجائزة بالفعل نزيهة ومحترمة كما يدعون؟! وإذا كانت رواية مثل رواية المدهون لا يمكن الصبر عليها فنيا ولا لغويا أو جماليا، أو دلاليا حتى الخمسين صفحة الأولى ورغم ذلك فازت الرواية وصبر عليها حتى النهاية جميع أعضاء لجنة التحكيم؛ فهذا يدل على أن الرواية لم تفز لفنيتها أو حبكتها أو جمالياتها، بل كان هناك أمر آخر لا يفهمه من هم خارج اللجنة قد أدى بهذه الرواية السقيمة إلى الفوز، ومن ثم لابد أن يخرج علينا مجلس أمناء الجائزة ليقول لنا: ما هي الاعتبارات النقدية المهمة التي رأتها اللجنة المُحكّمة في هذه الرواية كي تفوز على غيرها من الروايات الأخرى التي كانت أحق بمثل هذا الفوز، بل كانت هناك الكثير من الروايات الأخرى التي تجعل رواية المدهون بعيدة تماما عن الدخول في القائمة الطويلة نفسها.
رغم اعترافنا بأن الشاعر والصحفي المصري سيد محمود من أهم صحفيي الثقافة في مصر وأنه صاحب رؤية صحفية تخص العالم الثقافي ومن أمهر من يعمل في هذا المجال، لكننا نتساءل: هل من الممكن أن يكون الصحفي المتمرس والماهر في مجال الثقافة عضو لجنة تحكيم في جائزة مهمة تخص الفن الروائي؟ وهل بات الصحفيون مُحكّمين على الرواية والأدب بدلا من النقاد المتخصصين أو الروائيين الذين يحتكمون على آليات فن الرواية؟!
إن اختيار سيد محمود كصحفي وشيوع ظاهرة اختيار الصحفيين في مجال الروايات الأدبية بات من الأمور التي لابد من التوقف أمامها كثيرا؛ فالصحافة لا صلة تربطها بالأدب كي تكون وصية على الفن الروائي، ولا يمكن أن يكون الصحفيون هم من يقيّمون الأعمال الروائية أو يعملون على تذوقها؛ لأن الصحافة تابعة للثقافة وليس العكس هو الحقيقي، وهذا يجعلنا نندهش من أن معظم الجوائز الآن باتت تختار الصحفيين للتحكيم في الجوائز الأدبية متجاهلة في ذلك المبدعين والنقاد الذين هم أهل الاختصاص والأحقية في التحكيم على هذه الجوائز، وربما يكون اللهث خلف الصحفيين بمثل هذا الشكل هو السبب الأول والرئيس في إفساد الثقافة العربية بالكامل؛ لأنهم يريدون ثقافة تخص آلياتهم واقتناعاتهم وليست ثقافة فنية خالصة لوجه الفن، كما أن الشاعر سيد محمود قد صدر له من قبل ديوانين هما: "تاريخ تاني" عام 2000م، و"تلاوة الظل" 2012م، وبالتالي إذا رغب البعض بالتقول: إن سيد محمود ليس مجرد صحفي ثقافة بل هو شاعر، فالسؤال الذي سيظل عالقا هو: وما علاقة الشعر والشعراء بجائزة تخص الفن الروائي؟!
يأتي بعد ذلك الصحفي والشاعر اللبناني عبده وازن وهو رئيس القسم الثقافي في جريدة الحياة الدولية، كما أنه شاعر له العديد من المؤلفات المهمة منها: الغابة المقفلة 1982م، و"العين والهواء" 1985م، و"سبب آخر لليل" 1986م، و"حديقة الحواس" 1993م، و"أبواب النوم" 1996م، و"سراج الفتنة" 2000م، و" نار العودة" 2003م، و"حياة معطلة" 2007م، و"قلب مفتوح" 2009م، ورغم تعدد الإنتاج الشعري للشاعر عبده وازن يظل السؤال المعلق الذي سيظل يدق رؤوسنا دائما هو: ما علاقة الشعر والصحافة بالرواية؟ وكيف يُحكّم شعراء وصحفيون في مجال الرواية؟ وهل من الممكن في يوم من الأيام حدوث العكس أي يقوم الروائيون بالتحكيم في مجال الشعر، أو في مجال الصحافة؟! كما أن الكتب النقدية التي أصدرها وازن لم تكن عبارة عن كتب نقدية بالتعريف الصحيح للنقد، بل كانت مجرد كتب تتحدث عن شخصيات باعتبارها مجرد تأمل في التجربة وليست نقدا خالصا كما نعرف النقد بشكله الحقيقي.
يبقى المترجم منير مويتش من البوسنة وهنا لابد من التوقف الحقيقي للتساؤل: كيف من الممكن لمترجم ما أن يعي الدلالات اللغوية المحلية المتسمة بطابع ثقافي شديد الخصوصية عصي الفهم على من هم خارج هذه الثقافة؟ هل من الممكن اعتبار مويتش صالحا للتحكيم في جائزة تخص الرواية العربية باعتباره يقوم بالترجمة من العربية إلى البوسنوية أو أي لغة أخرى؟ إن اللغة العربية بالنسبة للمترجمين مجرد لغة ثانية، وهذا يجعلهم غير قادرين على تذوق جماليات اللغة في المقام الأول ودلالاتها، وإذا كان الأمر فيه من الصعوبة التي تجعل المترجمين كثيرا ما يلجأون إلى المؤلفين كي يستفسروا منهم عن بعض السياقات اللغوية أو بعض الجمل التي تخص ثقافتهم المحلية، أو التي تمت كتابتها بالعامية التي تخص كل مؤلف! فكيف أمكن لمويتش البوسني أن يفهم الغثاء الذي كتبه المدهون بالعديد من اللهجات المحكية؟ الحقيقة أنني كمصري عربي وجدت الكثير من المعاناة والصعوبة في فهم الكثير مما كتبه المدهون بشكل فيه من اللهجات الهجينة حتى على الفلسطينيين أنفسهم،  والركاكة والأوأوات والأمأمات من لهجات محكية ودخيلة إلى اللغة مما لم يكن هناك أي داع لها، فكيف استطاع البوسني الذي يتحدث ويقرأ العربية كأجنبي أن يفهم ما كتبه المدهون مما لا علاقة له بالجماليات أو الدلالات؟! وهل من الممكن أن يكون الأجنبي مُحكّما على أدب عربي لا يخصه، وفي هذا الحين هل سيفهم ثقافة هذا الكاتب ومحليته وخصوصيته وتفرد كل ثقافة على حدة، وهل من الممكن أن أكون أنا كمصري مجيد للغة الإنجليزية مثلا ومترجما عنها صالحا للتحكيم في جائزة تخص الرواية الإنجليزية؟!
أظن أن الأمر هنا يبدو لنا كشكل من أشكال العبث الذي يتعمده مجلس أمناء هذه الجائزة المشكوك في أمرها، والتي تلعب لعبة من التوازنات السياسية والنفعية البعيدة كل البعد عن الأدب؛ ومن ثم فهي تعمل على إفساده.
يبقى في النهاية الناقد المغربي محمد مشبال وهو الأكاديمي والناقد الوحيد الموجود في هذه اللجنة البائسة التي لا تخص فن الرواية من أجل التحكيم فيه، وإن كان لا يمكن إبعاد شبهة التورط عنه في اختيار هذه الرواية السقيمة، وإذا كان مشبال كناقد قد تورط في اختيار رواية لا يمكن لها أن تمت لفن الرواية في شيء؛ فهذا يجعلنا نتشكك فيما يكتبه في المجال النقدي نظرا لفساد ذائقته وآلياته النقدية التي كان من الأولى بها أن تجعله يلفظ الرواية بسبب لغتها على الأقل، ونحن لا نستطيع هنا افتراض رفض مشبال لهذه الرواية الركيكة؛ لأنه لو كان رآها- كناقد صاحب ذائقة نقدية سليمة- غير صالحة للفوز بالجائزة؛ لكان قد احترم تاريخه وخرج علينا معترضا على هذه الكارثة التي تمت تحت نظره وبتواجده وموافقته، وبما أنه التزم الصمت فهو متواطئ في اختيار هذا العبث المُسمى رواية.
إذا ما تأملنا ما سبق أن استعرضناه فيما يخص هذه اللجنة التي منحت رواية المدهون جائزتها الكبرى باعتبارها أهم رواية نافست هذا العام يتضح لنا السبب في تغليب الركاكة والسطحية على كل ما هو جيد، فلقد كان من ضمن الروايات المتنافسة معها روايات أخرى مهمة نشهد لها بأنها تستحق الجائزة، من هذه الروايات رواية المغربي طارق بكاري "نوميديا" وهي من الروايات الفاتنة سواء على المستوى اللغوي أو مستوى البناء، كما أنها تقدم لنا عالما ذا فرادة وخصوصية بشكل يعرف كاتبه كيف يبنيه ويتصرف فيه، ورواية "عطارد" للمصري محمد ربيع وهي من الروايات المهمة على المستوى الفني والتي لا يمكن تجاهل قيمتها، وغيرها من الروايات سواء في القائمة الطويلة أو القصيرة، وأظن أنه إذا كانت اللجنة الغراء راغبة في منح أحد الكتاب الفلسطينيين جائزتها باعتبار أن موضوع المحاصصة الجغرافية موجود في الجائزة بالفعل فكان من الأجدى بها منحها للروائي الفلسطيني محمود شقير صاحب رواية "مديح لنساء العائلة" فعلى الأقل رواية شقير فيها من اللغة والبناء والفن الروائي ما هو أفضل مما كتبه المدهون من اللارواية التي لا علاقة لها بعالم الرواية؛ لافتقادها فهم اللغة ودلالاتها وجمالياتها، بل وتركيب جملة أدبية سليمة.
كما أن رواية المدهون كانت كارثية بكل المقاييس من ناحية اللغة وعلامات ترقيمها وأخطائها التعبيرية، فكيف يمكن الصبر على رواية لا يوجد بها علامة ترقيم واحدة سليمة حتى أن من يقرأها يظن أن من قام بكتابتها لا علاقة له باللغة العربية من قريب أو بعيد، أو أنه مازال يتعلم اللغة ولم يعرفها بعد، وهنا إذا كانت الجائزة بالفعل تعمل على الاهتمام بالسلامة اللغوية للروايات المتنافسة فيها فكيف قبلت الكارثة اللغوية في رواية المدهون حتى أنها كانت الفائزة باعتبارها أهم الروايات المتنافسة؟! بالإضافة إلى افتقادها لأي شكل من أشكال الفن والبناء؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون منافسة لغيرها من الروايات.
إن ما يحدث في جائزة "البوكر" العربية هو أمر يدعو للتوقف أمامه طويلا، بل يدعو مجلس أمناء الجائزة للخروج علينا ببيان توضيحي يوضح أهداف الجائزة، وما هي الأسس والمعايير التي يتم من خلالها اختيار الروايات الفائزة بشكل فيه من الموضوعية والوضوح الحقيقي والشفافية ما يجعلنا نقتنع بدلا من إطلاق الكلام على عواهنه باعتبار أنها من أكثر الجوائز نزاهة في حين أن الواقع يقول غير ذلك، ولعل ما حدث في الأعوام الماضية من اختيار العديد من الروايات الضعيفة والركيكة والمستهلكة ما يدل على أن الجائزة قد وضعت لنفسها قانون الرداءة كمعيار لاختيار الأعمال الروائية، أو أن الأمر يخضع لاعتبارات سياسية معينة، أو مجاملات وشلليات؛ ولعلنا لا نستطيع حتى اليوم نسيان فوز رواية "القوس والفراشة" للروائي المغربي محمد الأشعري الذي كان وزيرا للثقافة في المغرب مناصفة لأول وآخر مرة مع رجاء العالم وروايتها "طوق الحمام" 2011م بهذه الجائزة رغم ركاكة رواية الأشعري وضعفها الفني، ولم توضح لنا اللجنة حيثيات اقتسام الجائزة في هذا العام خلافا لما نعرفه رغم ضعف رواية المغربي الأشعري؛ مما يثير الكثير من الشبهات، وغير ذلك من الروايات التي كان أكثرها كارثية رواية المدهون "مصائر".
كما أن ما حدث فيما قبل داخل لجان تحكيم الجائزة ومجلس أمنائها ما يدلل على وجود شيء مشبوه يدور في كواليس هذه الجائزة منها أن الجائزة شهدت في سنوات سابقة لها انسحاب محكمين من لجانها اعتراضًا على آلية اختيار الأعمال المرشحة لها، وكان أشهرهم الناقدة المصرية شيرين أبو النجا في دورة 2010م قبل إعلان القائمة القصيرة، إلى جانب انسحاب الناشر اللبناني رياض الريس، عضو مجلس الأمناء قبل ذلك بعام من دون إبداء أسباب، فيما اعتبرها آخرون اعتراضًا على إعطاء الجائزة للروائي المصري يوسف زيدان، لتحصد مصر الجائزة عامين على التوالي.
بالإضافة إلى الأزمة التي حدثت في 2010م والتي كانت الأقوى، حيث نشرت جريدة لبنانية خبر جلسات سرية شارك فيها وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور جابر عصفور، بحضور الروائية علوية صبح، التي كانت تنافس برواية "اسمه الغرام" من أجل أن تذهب الجائزة إليها، وهو الأمر الذي دفع المصريين إلى شن حملة ضارية على الجائزة، حيث اشترك في هذه الحملة أسماء أدبية لها ثقلها في الأدب المصري والعربي؛ مما اضطر لجنة الجائزة  إلى إصدار بيان لنفي ما رددته الجريدة اللبنانية، وكتب من جانبه جابر عصفور نافيًا كل ما قيل، رغم أن الأمر ليس غريبا على عصفور صاحب الصفقات الثقافية.
يبقى أمر لا يمكن تجاهله في لجان تحكيم هذه الجائزة المريبة؛ فلقد أعلنت الجائزة منذ دورتها الأولى أن مجلس الأمناء يقوم باختيار "نقاد وروائيين وأكاديميين" في لجان التحكيم وجميعهم لابد أن يكونوا متخصصين في فن الرواية، لكننا إذا ما نظرنا إلى تشكيل اللجان في السنوات الماضية لوجدنا ما يدهشنا ويجعل الأسئلة العديدة تُترى على أذهاننا؛ ففي عام 2010م كان الشاعر سيف الرحبي عضو لجنة تحكيم رغم أنه لا علاقة له بالفن الروائي، وفي عام 2011م كان الشاعر والصحفي الأردني أمجد ناصر والذي كتب رواية واحدة في حياته وإن كان ينتمي إلى عالم الشعر وليس الرواية، وفي عام 2013م كانت هناك كارثية أن يكون الدكتور جلال أمين- بروفيسور فخري للاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والدارس للقانون في جامعة القاهرة والاقتصاد في مدرسة لندن للاقتصاد- رئيسا للجنة التحكيم، وهذا يجعلنا نتساءل: ما علاقة رجل اقتصاد وقانون بالتحكيم في جائزة روائية؟! ولم تقتصر كارثية هذا العام على جلال أمين فقط بل كان رسام الكاريكاتير والفنان السوري علي فرازات عضو لجنة تحكيم في نفس اللجنة أيضا؛ فهل بات رجال الاقتصاد والقانون ورسامي الكاريكاتير محكمون على فن الرواية؟! وهل من الممكن أن يكون الروائي محكما على فن الكاريكاتير في عام من الأعوام؟! وفي نفس هذا العام أيضا كان الناشر ماهر الكيالي عضو في نفس لجنة التحكيم! وفي عام 2015م كان الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي هو رئيس لجنة التحكيم؛ لتضج عقولنا من سيطرة الشعراء والصحفيين على لجان تحكيم أهم جائزة روائية في العالم العربي، ليشاركه كعضو في لجنة التحكيم الشاعرة والإعلامية البحرينية بروين حبيب التي لا ننكر أنها أكاديمية في الأدب بعد حصولها على درجة الدكتوراه، ولها دراسة نقدية بعنوان " تقنيات التعبير في شعر نزار قباني"، ولكن ما هي الإسهامات النقدية المهمة واللافتة للإعلامية والشاعرة المرموقة من أجل اختيار مجلس أمناء الجائزة لها كعضو لجنة تحكيم؟ هذا فضلا عن حرص مجلس الأمناء في كل عام على أن يكون من أعضاء اللجنة عضو أجنبي مهتم أو متخصص في ترجمة ودراسة الأدب العربي، وهذا ما لا يمكن قبوله منطقيا؛ لأن أي متخصص أو مترجم عن الأدب العربي لا يمكنه الإلمام بالأبعاد اللغوية في النص الروائي الذي يخص ثقافة معينة بسهولة؛ حيث يحمل العمل الروائي الكثير من الخصوصية التي تجعل جميع المترجمين تقريبا يعودون إلى مؤلفي الروايات الذين هم بصدد ترجمتها لسؤالهم عن الكثير من الأمور الشديدة الخصوصية في أعمالهم والتي لا يمكن لهم أن يفهموها بسهولة، ولعل هذا ما جعل رواية ضعيفة لغويا مثل رواية المدهون قد فازت في الدورة الأخيرة.
إن ما يدور في أروقة البوكر يجعلها من أكثر الجوائز في المنطقة العربية فسادا، وبالتالي تصبح معظم الروايات الفائزة فيها مجرد أعمال أدبية مشكوك في فنيتها ونزاهة لجان التحكيم فيها؛ مما يستدعي وقفة طويلة أمام هذه الجوائز التي تعمل على التكريس للركاكة في مواجهة كل ما هو فني، حتى لكأن الأمر مجرد اتفاق على قتل الجيد والفني والتجريبي في مقابل سيادة كل ما هو ردئ.


محمود الغيطاني