الاثنين، 24 سبتمبر 2018

مهما كلف الأمر.. الكتابة في مواجهة الموت


ثمة أسئلة عديدة يُطلقها الكثيرون لمعرفة السبب الجوهري في لجوء البعض إلى الكتابة؛ لذلك نجد العديد من الملفات الثقافية في الكثير من الدوريات تتساءل: لماذا نكتب؟
رغم أن الكثيرين من الكتاب يحاولون الإجابة على هذا السؤال الذي يُعد بالنسبة لهم وجوديا، إلا أننا نستطيع القول: إننا نكتب من أجل الحياة. من أجل مواجهة الصعوبات والتغلب عليها، من أجل تحويل الألم إلى متعة، من أجل الحياة في عالم آخر مواز قد لا نستطيع تحقيقه على أرض الواقع؛ لاستحالته، لكن الفن قادر على تحقيق الأحلام جميعها وجعلها حياة حقيقية يستمتع بها الكاتب والمتلقي معا، من أجل مواجهة الموت وتحديه والحياة بسعادة. إذن فنحن نكتب في الحقيقة من أجل التغلب على كل شيء والاستمتاع بحياتنا وتحويلها إلى ما نأمله حتى لو كان مستحيلا.
لكن هل تصلح كل هذه المبررات لتكون ركيزة لفعل الكتابة، أي هل تنفي هذه الأمور السابقة ضرورة معرفة من يُقبل على فعل الكتابة بآليات الكتابة وفنونها، وتكنيكاتها التي لا بد منها قبل الإمساك بالقلم والشروع في الكتابة؟
بالتأكيد إن معرفة أصول الكتابة هو أمر جوهري لا بد منه لكل من يفكر فيها، وإلا تحولت إلى فوضى ولا معنى، وغثاثة لا قبل لنا بها، وهذا للأسف ما نراه اليوم بوفرة في العديد من الكتابات التافهة التي لا علاقة لها بالكتابة الحقيقية؛ لأن من يقبلون على الكتابة لم يعرفوا فنونها، أو كيفية الكتابة قبل الإقبال على هذه العملية الوجودية.
إن الجهل الثقافي، وعدم التسلح بالمعرفة والفن يكونان من أهم الأسباب التي تعمل على تحويل فعل الكتابة إلى تفاهة ركيكة لا يمكن للمتلقي أن يحتملها؛ لأن الكاتب نفسه لا يعي آليات هذه العملية التي تكاد أن تكون مقدسة.
إن فعل الكتابة في حد ذاته ينقل لنا الكثير من الحيوات والخبرات لدى الآخرين، وهي الخبرات التي قد لا تتأتى لنا جميعا، لكن الكاتب الذي يصوغها في شكل فني ينقلها لنا بشكل فيه الكثير من الإمتاع والبساطة رغم أنها قد تكون خبرات من الصعوبة التي تجعل صاحبها غير قادر على صياغتها أو الحديث عنها. من هنا ندرك جيدا قيمة هذا الفعل الذي يُصهر الصعوبات، والآلام، بل الموت والحياة في شكل فني يجعلنا نقبل عليه بمتعة حقيقية.
هذا التحويل للصعوبات إلى عملية كتابية ممتعة هو ما يجعل الكثيرين منا يقبلون برغبة حقيقية على قراءة السير الذاتية أحيانا؛ فالسيرة الذاتية تحمل داخلها خلاصة تجربة حياة، أو الرحيق الحقيقي لإحدى التجارب الحقيقية مهما كانت مؤلمة وصعبة وتسببت لصاحبها في الكثير من المعاناة، ولعل في الكثير من السير الذاتية التي نقرأها الدليل على ذلك من حيث المتعة التي نشعرها حينما نقرأها رغم المعاناة التي تكون متضمنة داخل هذه السير.
هذه الرغبة في تأمل التجارب الحياتية التي يمر بها الإنسان، ومحاولته لصهر آلامه ومعاناته وتجربته في شكل فني يستطيع إكساب المتعة للآخرين هو ما جعل الكاتبة الأردنية نور العتيبي تكتب شيئا من سيرتها الذاتية- رغم أنها لم تكتب من قبل- في كتابها "مهما كلف الأمر"، أي أن الكاتبة التي لم تُقبل على فعل الكتابة من قبل أصرّت على سرد معاناتها التي مرت بها في شكل سردي من أجل مشاركة هذه المعاناة مع الآخرين من القراء.
صحيح أن الكاتبة هنا لم تسرد سيرتها الذاتية في شكل فني- قصة أو رواية- بل كان السرد في شكل تقريري تماما من خلال استخدام الضمير الثالث وكأنها تتحدث عن شخصية لا تخصها، لكن ربما كان استخدامها للضمير الثالث في السرد مجرد رغبة منها في جعل مسافة بينها وبين تجربتها من أجل تأملها معنا أثناء السرد؛ فكلما كانت هناك مسافة بين التجربة وبين الشخص الذي مرّ بها كلما كان أكثر مقدرة على تأملها بشكل أكبر والحكم عليها.
تتحدث العتيبي عن نفسها منذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها حينما بدأت تشعر بالكثير من الآلام في ساقها بينما لم تتعد بعد الصف الثامن من دراستها: "لقد كانت نور في الثالثة عشرة من عمرها عندما أحست بألم في ساقها اليسرى، وأخبرت والدتها بذلك، فما كان من والدة نور إلا أخذها إلى غرفة الطوارئ، كأي أم تريد التأكد من سلامة طفلها. دعني أحدثك عن حياة نور خلال تلك الفترة. لقد كانت في الصف الثامن، تلميذة نشيطة ومجدة في الدراسة. لقد التحقت بالعديد من النشاطات المدرسية، عزفت البيانو، وتعلقت جدا بالرياضة. مشاركاتها هذه لم تكن فقط محدودة لمدرستها بل امتدت لتشمل المدينة كلها، كانت تقوم بالعزف عن طريق السمع، وكان أسلوبها في العزف لا يصدق، مما جذب الكثيرين للاستماع إلى هذا العزف"، نلاحظ هنا من خلال هذا الاقتباس أن الكاتبة حريصة على أن تسرد هذه الفترة من عمرها؛ لتبين لنا مدى المأساة والألم اللذين أحاطا بها حينما نعرف فيما بعد أن الآلام التي تشعر بها في ساقها بسبب سرطان العظم الذي سيؤدي إلى بتر ساقها.
طفلة في هذا العمر، ومقبلة على الحياة بكل جمالها، ورغبتها في الاستمتاع بالحياة من خلال عيش طفولتها وممارسة كل الأنشطة المحببة لها تجد نفسها فجأة من دون ساق وعليها أن تتعايش مع الواقع الذي ألم بها؛ لأنه لا سبيل آخر لها سوى التعايش مع هذا الواقع.
حينما تذهب والدة نور بها إلى المشفى يخطئ الطبيب في التشخيص ويعطيها بعض المسكنات والفيتامينات، لكنها بعد ثلاثة شهور لا تستطيع تحمل الآلام الذي تثبت الأشعة أنها تعاني من سرطان العظم في ساقها ولا بد من بتر هذه الساق.
الكاتبة الأردنية نور العتيبي
بما أن الساردة تعيش في الإمارات التي ولدت فيها، وبما أن الإمارات في هذا الوقت لم يكن فيها هذا التخصص تضطر الساردة من خلال أبيها إلى السفر لبريطانيا لإجراء جراحة بتر الساق هناك حيث يعيش عمها مع عائلته. تصف لنا العتيبي مشاعرها بعد بتر ساقها: "حينها أدركت بأنها ستمضي حياتها دون أن تركض من جديد، لن تكون الأفضل في رياضاتها بل وأيضا لن تستطيع أن تلبس الكعب العالي كبقية الفتيات اللواتي في عمرها. يجبرك هذا الواقع بأن تفكر بطريقة مختلفة عندما يتعلق الأمر بحياتك، لقد تغير كل شيء إلى الأبد".
تقول واصفة حالتها بعد البتر: "الألم الذي كانت تعاني منه بعد خروجها من العملية كان لا يطاق بالأخص عندما كانت تحاول أن تأخذ قسطا من النوم، لم تستطع النوم إلا إذا أعطاها أحد الممرضين شيئا لتخفيف الألم. عندما نظرت لجهة اليسار لأول مرة لاحظت تبسط غطاء السرير في المكان الذي يجدر أن تكون فيه قدمها، وعندما استيقظت كان لا بد من تذكيرها باستخدام الدعامات لتسند نفسها"، إن معاناة طفلة في هذا العمر من هذه التجربة بالتأكيد ستكون تجربة شديدة القسوة، والشعور بالفقد؛ لكن نور لم تستسلم لهذه المشاعر، فحاولت التحلي بالقوة والإصرار والتحدي وتحويل هذه المشاعر السلبية إلى مشاعر إيجابية تساعدها على الاستمرار في الحياة وإسعاد نفسها؛ لذلك- بما أنها لا بد من أن تبقى ثلاثة أشهر على الأقل في لندن قبل العودة إلى الإمارات- تحرص على تعلم اللغة الإنجليزية وإتقانها هناك مستغلة هذه الفترة، وحينما تعود إلى الإمارات تجتهد كثيرا في دراستها لتتفوق في التعليم الثانوي، ثم تنهي دراستها الجامعية، هنا وقفت نور أمام العمل؛ حيث فرص العمل أمامها بالتأكيد ستكون قليلة، لكنها لم تشعر بالإحباط ولم تستسلم لواقعها بل رغبت في مقاومته وتحديه؛ الأمر الذي جعلها تُقدم للوظيفة في كل إعلان من الممكن أن يقع أمام عينيها إلى أن فوجئت بعد ثمانية أشهر باتصال بها يخبرها أنها قد تم قبولها للعمل في إحدى أكبر شركات البترول في الإمارات، كما أنها لم تكتف بذلك فقط، بل حرصت على دراسة الماجستير أثناء عملها وحصلت عليه كذلك؛ الأمر الذي رشحها للحصول على دورتين في أمريكا: "بقيت نور طالبة متميزة حاصلة دوما على علامات عالية، وقد تم ترشيحها لتحضر دورتين مكثفتين كشراكة مع جامعة "تولاين" في الولايات المتحدة. شعرت بالفرحة العارمة وبالفخر لحصولها على مثل هذه الدعوة التي لا يكاد المرء أن يصدقها".
إن تجربة نور السردية لم يكن لها أي علاقة بفنية السرد- وهي لم تدع ذلك- بقدر علاقتها الحثيثة في قهر الظروف التي يجد المرء نفسه فيها فجأة فإما أن يستسلم للألم والبكاء والإحباط والاكتئاب وربما الانتحار، أو يحاول مقاومة هذه الظروف العصيبة بتحويلها إلى صالحه والحياة بشكل جدي وسعيد بفضل إصراره وتحديه ومقاومته، وهذا ما أرادته نور العتيبي من خلال كتابتها لهذه التجربة الصعبة التي مرت بها، أن تقول لنا: نحن جميعا أقوى من كل الظروف الأليمة والقاتمة التي نمر بها شريطة التحلي بالتحدي والإرادة الحقيقية من أجل التغلب على هذه الظروف السيئة.
يبدو لنا كتاب "مهما كلف الأمر" للكاتبة الأردنية نور العتيبي من  كتب السيرة الذاتية التي ترغب في نقل تجربتها الأليمة ومحاولة صهرها في تجربة سردية لتتشارك بها مع الآخرين من القراء والتدليل على أن أصعب الظروف من الممكن لأي منا أن يتغلب عليها من خلال تحديه ومقدرته على الإصرار.


محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب.
عدد أغسطس 2018م




الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

موسيقى الصمت.. سينما السيرة الذاتية

رغم اعتماد السينما منذ فترة مبكرة على الأدب فيما تقدمه لنا من أفلام سينمائية مهمة، إلا أننا نلاحظ شكلا من أشكال الهوّس لدى السينمائيين بتقديم ما نُطلق عليه اسم سينما السيرة الذاتية، أي الأفلام المأخوذة من قصص حقيقية لأصحابها ممن استطاعوا تحقيق شكلا من أشكال النجاح في حياتهم رغم الصعوبات الكثيرة التي قد تواجههم.
من هذه الأفلام الكثيرة التي قدمتها السينما العالمية للسيرة الذاتية نذكر منها على سبيل المثال: The Imitation Game 2014م للمخرج النرويجي مورتن تيلدوم Morten Tyldum الذي يحكي فيه قصة عالم الرياضيات والحاسوب "آلان تورينج" الذي لعب دورا رئيسيا في فك شفرة الإنجما الألمانية في الحرب العالمية الثانية، كذلك فيلم A Beautiful Mind  2001م للمخرج الأمريكي رونالد هاورد Ronald Howard الذي يحكي قصة عالم الرياضيات الأمريكي "جون ناش"، وفيلم Captain Phillips 2013م للمخرج الإنجليزي باول جرينجراس Paul Greengrass الذي يتناول قصة حقيقية وسيرة ذاتية للقبطان "ريتشارد فيليبس" الذي استولى قراصنة صوماليون على سفينته عام 2008م، وغيرها الكثير من الأفلام التي صنعتها السينما العالمية عن أشخاص أو أحداث كان لها أثرها في الحياة.
لكن هل معنى أخذ السينما العالمية من قصص السيرة الذاتية وتحويلها إلى عمل سينمائي يعني الالتزام الحرفي بهذه السيّر كما حدثت، أو كما كتبها أصحابها؟
إن انتقال السيرة الذاتية إلى السينما يعني نقلها من وسيط كتابي أداته الأولى هو اللغة، إلى وسيط آخر فني أداته الأولى هو الصورة، ومن المتفق عليه أن كل وسيط فني له آلياته التي تخصه والتي تختلف عن غيره من الفنون، وهذا ما يجعل السينما كثيرا ما تخون النص الأدبي الذي تأخذ منه بالتغيير، أو الإضافة، أو الحذف تبعا لما يتطلبه العمل الفني السينمائي وما يجعله أكثر نجاحا وجماهيرية تبعا لآليات فن السينما، أي الوسيط الجديد الذي ينتقل إليه النص الأدبي؛ لذلك حينما يلتزم المخرج السينمائي بالنص الأصلي المأخوذ عنه العمل السينمائي كثيرا ما يقع العمل في التقليدية، أو الملل وبطء الإيقاع، وعدم قدرة المخرج على التحليق الفني بعمله؛ نتيجة التزامه الكامل بالنص الأصلي المأخوذ عنه الفيلم السينمائي.
البوستر الأصلي للفيلم
ربما كان هذا ما رأيناه في الفيلم الإيطالي The Music of Silence موسيقى الصمت أو La Musica Del Silenzio تبعا للعنوان الأصلي للفيلم للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد Michael Radford الذي حاول من خلاله تقديم السيرة الذاتية لمغني الأوبرا الإيطالي الشهير أندريا بوتشيلي والتي كتبها بوتشيلي نفسه، حيث قام بأداء دور أندريا الممثل الإنجليزي توبي سيباستيان Toby Sebastian بأداء مقنع فيه الكثير من المصداقية التي تستحوذ على المشاهد منذ اللحظة الأولى كي يظل متعلقا بهذا الأداء الجيد الذي رأيناه حتى النهاية.
يبدأ المخرج فيلمه مع الثلاثينيات ومولد آموس باردي- الاسم الذي أطلقه على أندريا بوتشيلي- لأبوين من طبقة برجوازية بسيطة في توسكانا، حيث يشعر الأب ساندرو- الذي أدى دوره الممثل الإسباني Jordi Mollà بسعادة غامرة هو والأسرة بالكامل حينما يعلمون أن الطفل المولود ذكرا، ولكن فرحة الأبوين لا تكتمل حينما يعلمان فيما بعد أن الطفل آموس مُصاب بالجلوكوما الثنائي الخلقية، أي أنه لا يستطيع الرؤية جيدا منذ صغره، ورغم أنهما يجريان له العديد من العمليات الجراحية من أجل إنقاذ بصره إلا أنه يفقد إحدى عينيه تماما بينما لا يرى بالثانية إلا هيئة الأشياء في وجود الضوء فقط. يشعر الأبوان بالكثير من الحزن تجاه وليدهما إلا أنه كان قادرا على التحدي منذ الصغر بمساعدة عمه جيوفاني الذي كان يتعهده بالرعاية دائما والشد من أزره، وإشعاره بالمسؤولية والقوة تجاه ما يعانيه.
يشعر الطفل منذ الصغر بميل فطري تجاه الموسيقى، ولعلنا نرى ذلك في المشهد الذي رأينا فيه الطفل حينما كان في المشفى بعد إجراء عملية جراحية، بمجرد ما استمع إلى الموسيقى الآتية من إحدى غرف أحد المرضى نراه يهدأ تماما رغم أنه كان يبكي كثيرا متذمرا، يُعد من المشاهد التي تُدلل على أثر الموسيقى عليه منذ الصغر، حيث تُخبر الأم المريض الذي تصدر الموسيقى من غرفته: ابني عندما سمع الموسيقى أصبح هادئا فجأة لأول مرة؛ لذلك يتعلم آموس الموسيقى ويرتبط بها كثيرا، وحينما ينقله أبواه إلى مدرسة داخلية للاعتناء به وتعليمه طريقة برايل في القراءة تكتشف المعلمة أنه يمتلك صوتا متفردا ومختلفا تماما عن ذويه؛ مما يجعله أهم من يقودون الفرقة الموسيقية للمدرسة ويعتمدون عليه، لكنه أثناء لعبه للكرة في المدرسة تصيبه الكرة في رأسه؛ الأمر الذي يجعله يفقد البصر تماما منذ سن الحادية عشرة؛ ومن ثم يحيط به الظلام التام في حياته.
نلاحظ هنا منذ بداية الفيلم أن المخرج مايكل رادفورد الذي اشترك في كتابة السيناريو مع السيناريست آنا بافينانو Anna Pavignano كان حريصا على الالتزام بعرض حياة أندريا بوتشيلي منذ الصغر، أي أنه تتبع حياته منذ مولده وتطور حياته من مرحلة عمرية لأخرى، ولعل هذا الالتزام بفترات حياته العمرية المتتالية كان من أهم العوامل التي أثرت بالسلب على الفيلم الذي شابه الكثير من بطء الإيقاع بسبب هذا الالتزام الذي لم يكن هناك أي ضرورة فنية إليه.
صحيح أن الالتزام الكامل بالسيرة الذاتية وتتبع مراحله العمرية استطاع من خلالها المخرج أن يُدلل لنا على روح التحدي والدأب وعدم الاستسلام لذهاب بصره؛ حيث يُصرّ على فعل كل شيء بنفسه كما لو كان ما زال مبصرا، وليس في حاجة إلى مساعدة الآخرين؛ فنراه يعتلي جواده وينطلق به مرة، ومرة أخرى نراه يقود أصدقاءه على البحر ويشجعهم على النزول إلى الماء للسباحة؛ الأمر الذي يجعل أبيه يوبخه فيرد عليه آموس: إذا قفز الآخرون فوق عقبة يجب أن أقفز فوق الجبل، وإذا ركبوا الحصان، يجب عليّ ركوب النمر، في تدليل منه على تحديه الكامل للظروف التي وُجد فيها ورغبته في أن يحيا حياة طبيعية كما لو كان مبصرا. نقول: إن الالتزام بالسيرة الذاتية تبعا للمراحل العمرية التي مرّ بها ساعدتنا في فهم سيكولوجيته المتحدية الراغبة في التفوق، لكن المخرج كان يستطيع عرض هذه السيكولوجية من خلال العديد من المواقف الأخرى من دون الالتزام بالسيرة كما كتبها صاحبها، وهو الأمر الذي أدى إلى بطء إيقاع الفيلم كثيرا والنحو به باتجاه الملل.
يأخذ العم جيوفاني آموس إلى إحدى المسابقات- نهائيات كأس العالم مارجريتا في الغناء، وهي أكبر جائزة للغناء في توسكانا- وبالفعل يتم تتويج آموس باعتباره أفضل المتسابقين في المسابقة ويكتسب الكثير من الشهرة المحلية باعتباره مغنيا جيدا، لكن نتيجة لتقدمه في العمر والانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة يحدث أن يتغير صوته كثيرا وبالتالي يعتقد أنه فقد صوته إلى غير رجعة بعدما تحول إلى الجأش أو تكوين الصوت الذكوري عند مرحلة المراهقة. هنا ينتابه الكثير من اليأس ويتوقف تماما عن الغناء نتيجة الإحباط الذي شعر به ويكتفي بالعزف على البيانو، ولأنه لا يرغب في الاعتماد على أبويه في حياته الاقتصادية يلتحق بكلية الحقوق لدراسة القانون، محاولا الابتعاد عن حلمه في الغناء ويكتفي بالعزف اليومي على البيانو والغناءفي إحدى الحانات من دون أن يستمع إلى نفسه كما نصحه صديقه؛ كي يستطيع التعيش من هذا العمل.
يحاول العم جيوفاني أن يقدم آموس لأحد النقاد الموسيقيين حيث يصطحبه إلى الحانة التي يعزف فيها آموس ويغني مع العزف ليستمع إلى ابن أخيه راغبا منه أن يكتب عن موهبته، لكن الناقد يقول لآموس: أنا لا أصدق حتى أنك تمتلك أقل شيء من الموهبة لغناء الأوبرا حتى في أدنى فئاتها؛ فصوتك يفتقر إلى التمديد، القوة، اللون، ومجرد من كل شيء.
بالطبع كان نصيب الناقد الموسيقي من هذا الكلام أن ألقى العم جيوفاني الكأس في وجهه، لكن آموس أُصيب بالكثير من الاكتئاب وفقدان الثقة في نفسه وقدرته على أن يكون مغنيا أوبراليا؛ الأمر الذي جعله ينصرف عن الاهتمام بهذا الحلم الذي كان يراوده منذ الصغر، ويكتفي بالعزف اليومي في الحانة بعد أن تعرف على إحدى الفتيات وارتبطا بعلاقة حب، لكن في إحدى المرات حينما كان أحدهم يقوم بضبط البيانو الذي يعزف عليه آموس يقول له: إن صوتك جميل لكنه في حاجة إلى رعاية، أنت تدمره، ثم يخبره بأنه سبق له أن ضبط البيانو الخاص بمايسترو إسباني شهير يعمل مع معظم المشهورين من مغنيي الأوبرا، وهو من الممكن أن يوصله إليه كي يهتم به ويعمل على تدريبه والرعاية بصوته.
يوافق آموس على الذهاب إلى المايسترو الذي قام بدوره الممثل الإسباني أنطونيو بانديرس Antonio Banderas في أداء قوي ولافت للنظر شكل مباراة في الأداء التمثيلي بينه وبين الممثل الإنجليزي توبي سيباستيان Toby Sebastian، وحينما يستمع إليه المايسترو يشترط عليه مجموعة من الشروط كي يقوم بتدريب صوته على الغناء الأوبرالي ويعتني به ومنها: النوم في العاشرة مساء يوميا والاستيقاظ في السابعة، والامتناع الكامل عن تناول الكحول، أو التدخين، وعدم الكلام كثيرا والالتزام بالصمت الطويل؛ حتى يحافظ على صوته ويدخره للغناء فقط حيث يقول له: المغنون قبل الأداء يكونون في حاجة إلى حالة من الصمت المُطلق، وبالفعل ينصاع آموس لما أملاه عليه المايسترو الذي دربه لفترة طويلة ونجح في إعداده ليكون مغنيا أوبراليا.
يرتبط آموس بالفتاة التي أحبها ويتزوجان، ويأتيه أحد العروض للغناء مع المغني الشهير زوشيرو فورناسياري الذي يشكل ثنائيا مع المغني الأوبرالي بافاروتي؛ نظرا لانشغال بافاروتي في هذه الفترة ولإيمان زوشيرو بصوت آموس، ولكن بافاروتي يلغي ارتباطاته التي تشغله ويستمر مع زوشيرو؛ الأمر الذي يضيع الفرصة على آموس الذي يقع أسيرا للاكتئاب الحقيقي بعدما تزوج وضاعت منه الفرصة، وبات يعتمد على والديه اقتصاديا بعدما ترك عمله كعازف في الحانة الموسيقية.
تتعرض حياة آموس الزوجية للكثير من الانهيارات بسبب حالته النفسية السيئة، إلا أن الزوجة تتحمله وتحاول تعضيده إلى أن يقوم زوشيرو بالاتصال به كي يشترك معه في جولة موسيقية ويشاركه الغناء، وهنا تكون الفرصة الذهبية لآموس؛ حيث يبدأ رحلة نجاحه وشهرته ويصير من أهم مطربي الأوبرا الإيطالية المشهورين في العالم أجمع.
صحيح أن المخرج الإنجليزي مايكل رادفورد حاول تقديم حياة المطرب الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي معتمدا في ذلك على سيرته الذاتية التي كتبها بوتشيلي، لكنه وقع في مشكلة الالتزام الحرفي بالسيرة الذاتية وتتبع مراحله العمرية، كما أن يوتشيلي من خلال سيرته الذاتية كان يحاول التأكيد على أن ما وصل إليه في نهاية الأمر من هذه الشهرة العالمية كان سببه الحقيقي والجوهري هو الإيمان الذي يعتقده بوتشيلي، بينما حاول المخرج التأكيد على أن التحدي والدأب والإصرار كانوا من أهم الأسباب في هذا النجاح وليس الإيمان الذي حاول أندريا التأكيد عليه في سيرته.
إذا كانت هناك بعض العوامل الفنية الناجحة في فيلم موسيقى الصمت للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد فهي تعود إلى الأداء المحكم والجيد لكل من الممثل الإسباني أنطونيو بانديرس الذي أكسب الفيلم الكثير من الحيوية في نصفه الثاني، كذلك أداء الممثل الإنجليزي توبي سيباستيان اللذين استطاعا انتشال الفيلم من السقوط في الملل الشديد الذي قد يصرف المشاهد عن متابعته بسبب السيناريو الملتزم بالسيرة الذاتية التزاما كاملا، لكن الفيلم وقع في العديد من الأخطاء الأخرى منها أنه كان لا بد له من استخدام أغاني بوتشيلي التي يعشقها الملايين في العالم، والاعتماد على موسيقاه وهو ما لم يفعله، في الوقت الذي يقدم فيه فيلما عن حياته.
إن تقديم فيلم إيطالي عن حياة مغني الأوبرا الإيطالي أندريا بوتشيلي يجعلنا نقف مندهشين كثيرا أمام الفيلم الذي كان ناطقا باللغة الإنجليزية بدلا من اللغة الإيطالية التي كان لا بد أن يكون الفيلم ناطقا بها، كما أن تقديم الفيلم باللغة الإنجليزية جعل العديد من الممثلين فيه- وهم من جنسيات مختلفة- ينطقون الإنجليزية بالعديد من اللهجات المختلفة الهجينة ما بين الأمريكية والإسبانية والإنجليزية الذي جعل اللغة بين الممثلين تفتقد إلى الكثير من الانسجام في الفيلم، ولعل تقديم الفيلم ناطقا بالإنجليزية كان من أهم العوامل التي أضعفت من مستواه كثيرا؛ حيث كان من الأجدى تقديم الفيلم باللغة الإيطالية، وهي اللغة الأصلية لمن يدور حوله الفيلم لا سيما أن الأغاني كان يتم تقديمها باللغة الإيطالية.
رغم أهمية الفيلم الإيطالي موسيقى الصمت للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد كفيلم من أفلام السيرة الذاتية إلا أنه شابه الكثير من النقصان والأخطاء التي كان السبب الرئيس فيها التزام السيناريو حرفيا بسيرة المغني الأوبرالي أندريا بوتشيلي، فضلا عن نطق الفيلم بالإنجليزية التي لم يكن لها أي مبرر، بل أخرجت الفيلم من سياقه ومنطقيته باعتباره فيلما إيطاليا يتحدث عن أهم مطربي الأوبرا الإيطالية الذي يعرفه العالم أجمع.



محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية


عدد سبتمبر 2018م