الخميس، 13 ديسمبر 2018

أنا دانيال بليك.. القتل باسم القانون

في الفيلم البريطاني I, Daniel Blake أنا دانيال بليك للمخرج الإنجليزي Ken Loach كين لوتش ثمة صرخة حقيقية في وجه المجتمع الإنجليزي من قبل الفقراء والمحتاجين تأتي على لسان الفيلم وصناعه؛ حيث يحاول المخرج توجيهها للحكومة التي تتعامل مع المحتاجين والمرضى بشكل فيه من الإهانة والإذلال ما لا يمكن احتماله؛ لدرجة أن بعض المحتاجين ينصرفون عن طلب حقوقهم القانونية ويستسلمون للفقر والموت والتشرد والجوع بعدما يصيبهم الكثير من اليأس في الحصول على أي شيء، وبعدما تكون كرامتهم قد تم إهدارها تماما ومن ثم يفقدون حتى احترامهم لذواتهم، وانتمائهم لمجتمعهم.
يتناول الفيلم الذي كتبه بإتقان السيناريست Paul Laverty بول لافرتي قضية اجتماعية خطيرة يعاني منها المجتمع الإنجليزي وتنذر بالعديد من الانفجارات الاجتماعية إذا لم تحاول الحكومة السيطرة عليها، وهي قضية البيروقراطية اللامتناهية في التعامل مع المحتاجين لمعاش دعم العجز ممن يصابون بالأمراض أو الإصابات الخطيرة التي تقعدهم عن العمل؛ الأمر الذي يؤدي بهم إلى الحاجة الماسة لهذا الدعم وإلا يتم تدمير حياتهم تماما والقذف بهم نحو الفقر والعوز والجوع ثم الموت إن لم يلاقوا هذا الشكل من أشكال الدعم.
لذا ينجح السيناريست بول لافرتي بالتعاون مع المخرج كين لوتش في تقديم فيلم من أفلام الواقعية الاجتماعية القاسية الذي قد يجعل المشاهد؛ لفرط واقعية الفيلم، يظن أنه ليس إلا فيلما وثائقيا يتحدث عن مشكلة من مشكلات المجتمع الإنجليزي، ولعل هذه الواقعية والإتقان في التقديم وصناعة الفيلم كانتا في صالحه كثيرا؛ حيث أثار ضجة كبيرة في بريطانيا حينما تم عرضه؛ لا سيما أنه عبر بصدق عن معاناة الآلاف من الإنجليز الذين يموتون ويتشردون بسبب البيروقراطية في التعامل معهم؛ الأمر الذي يهينهم وكأنهم يتسولون، وليسوا مجرد مطالبين بحقوقهم من الدولة التي يدفعون ضرائبها.
يدور الفيلم عن أزمة دانيال بليك الذي أدى دوره باقتدار الممثل الإنجليزي Dave Johns ديف جونز؛ حيث يمر بليك- الذي يعمل نجارا- بأزمة قلبية تجعله غير قادر على العودة إلى العمل مرة أخرى بأمر الطبيبة المعالجة، واستشاري الجراحة، وفريق المعالجة الفيزيائية الذين يرون جميعا أنه لا بد له من التقاعد وإلا أدى عمله إلى موته بشكل لا شك فيه؛ الأمر الذي يجعله يلجأ إلى المطالبة بمعاش دعم العجز، لكنه يواجه الكثير من البيروقراطية والإهانات، بل والمراوغة الفعلية في عدم منحه المعاش مما لا يمكن احتماله، ويشعره بالكثير من الدونية، بل ويتركه على شفا التسول.
يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة تماما بينما نستمع في الخلفية صوت إحدى الموظفات تطرح على بليك بآلية باردة مجموعة من الأسئلة بطريقة لا روح فيها؛ ولعل المخرج كين لوتش قد اهتم كثيرا أن يبدأ الفيلم بهذه الشاشة المظلمة من دون أن نرى المتحدثين لجذب انتباه المشاهد والتركيز على الآلية التي تتم من خلالها طرح الأسئلة التي لا معنى لها، ولا علاقة فعلية لها بما يعانيه بليك، أي أنه رغب أن يكون التركيز الأكبر على الموضوع قبل أن نرى الممثلين؛ نظرا لأهمية الموضوع الذي يطرحه الفيلم، فنستمع إلى الموظفة تسأله ببرود: هل يمكنك أن تمشي أكثر من خمسين مترا من دون مساعدة شخص آخر؟ هل يمكنك أن ترفع ذراعيك كما لو أنك تضع شيئا في جيب سترتك؟ هل يمكنك أن ترفع يديك إلى قمة رأسك كما لو أنك ستضع قبعة؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي لا معنى لها، ولا علاقة لها بما يعانيه من مرض في قلبه، ورغم أنه يجيب عليها في كل هذه الأسئلة وغيرها بالإيجاب، إلا أنه يحاول أكثر من مرة مقاطعتها؛ ليفهمها أنه يعاني من القلب وليس من أي شيء آخر، وأن أسئلتها لا علاقة لها بما يعانيه، لكنها ترد عليه في كل مرة بشكل فيه الكثير من التهديد: إنه عليه الإجابة عن أسئلتها بالإيجاب أو النفي فقط من دون أي توضيح وإلا سيكون الأمر ليس في صالحه وسيخرج من برنامج طلب معاش دعم العجز، لكنه يسألها بسأم: هل أنت ممرضة أو طبيبة؟ فتجيب: أنا مختصة في الرعاية الصحية. أي أن من بيدهم أمر المصابين في النهاية بأيدي أناس غير متخصصة؛ ومن ثم فهم لا يعرفون ما الذي يجب عليهم فعله سوى إلقاء مجموعة من الأسئلة الروتينية التي لا معنى لها، والتي يتم توجيهها لكل الحالات والأمراض المختلفة، ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة المبدئية يعطون المريض مجموعة من النقاط التي لو كانت أقل من 15 نقطة فإنه يتم رفض طلبه للحصول على المعاش مهما كانت حالته الصحية الحرجة!
بالفعل يحصل دانيال على 12 درجة فقط، وهذا يعني أنه قد تم رفض طلبه للحصول على المعاش، بل ويتم إعلامه بالرفض بعد مدة طويلة حاول خلالها مهاتفتهم كثيرا إلا أنهم كانوا يضعونه على الانتظار طويلا لمدة قاربت في إحدى المرات ساعة و48 دقيقة؛ الأمر الذي يشعره بأنه مجرد متسول، لكنهم حينما يجيبونه يخبرونه بأن طلبه قد تم رفضه وعليه أن ينتظر اتصالا من صانع القرار أولا قبل القيام بإجراءات الطعن على هذا القرار إذا رغب في الاستمرار والطعن.
يذهب بلييك إلى المبنى الحكومي وهناك تخبره الموظفة أنه لم يعد أمامه سوى انتظار اتصال صانع القرار أولا ثم القيام بالطعن، أو طلب معاش البطالة- وكأنه عاطل- بدلا من معاش دعم العجز، كما أنه عليه تقديم هذا الطلب من خلال الإنترنت، وحينما يسألها عن موعد اتصال صانع القرار لا يعطيه أي أحد إجابة نافعة، بل يخبرونه بأنه سيكون قريبا فقط.
هنا يقع دانيال في إشكالية حقيقية تجعله حائرا فيما عليه أن يفعل؛ فهو لا يمتلك سوى هاتفا محمولا عاديا لا علاقة له بالهواتف الذكية، كما أنه لا يعرف ما هو الإنترنت الذي لم يستعمله مرة واحدة في حياته؛ لذلك يضطر إلى الذهاب لأحد مقاهي الإنترنت ويطلب من المسؤول هناك مساعدته لكنه حينما يملأ بياناته جميعا ويضغط على زر الإرسال يحدث خطأ ويكون عليه البدء من جديد مرة أخرى، ويظل هكذا حتى ينتهي الوقت المحدد له في الإنترنت ويتم إغلاق الجهاز أمامه من دون أن يفعل شيئا سوى أنه أنفق المزيد من المال الذي هو في حاجة ماسة له.
يتجه دانيال مرة أخرى إلى المبنى الحكومي؛ حيث يخبرهم بعدم قدرته على التعامل مع الإنترنت وهناك يرى الموظفين يتعاملون بشيء كبير من الصلف والفظاظة والإهانة مع إحدى الفتيات التي تصطحب معها طفلا وفتاة، يفهم بليك أنهم يرفضون التعامل مع الفتاة- التي هي في حاجة إلى معاش بطالة- رغم أنها كان لديها موعدا معهم لمجرد أنها تأخرت قليلا عن موعدها، ورغم أنها حاولت أن تشرح لهم أنها انتقلت منذ أيام من لندن إلى نيوكاسل، وانها لا تعرف في المدينة شيئا؛ الأمر الذي جعلها تستقل الحافلة الخطأ وحينما انتبهت أسرعت هي وطفليها إلى المبنى ركضا، إلا أنهم يرفضون الاستماع إليها بشكل فيه من الفظاظة وعدم المسؤولية أو الشعور بالآخرين ما استفز بليك وجعله يقف في وسط المبنى وقد رفع صوته متسائلا عمن عليه الدور من المواطنين وحينما يجيبه أحدهم يسأله: هل لديك مشكلة في أن تتقدم هذه السيدة مكانك؟ فيجيب الرجل بأنه يوافق، هنا يتوجه بليك للموظفين: أظن أنه عليكم أن تتعاملوا معها الآن، لكن الموظفين يطلبون الأمن ويطرودونهم من المبنى معا.
يعرف بليك أن الفتاة كاتي التي قامت بدورها Hayley Squires هايلي سكوايرز كانت تسكن في لندن، وكانت تعاني من تسرب مائي في جدران شقتها هناك؛ الأمر الذي أدى إلى مرض طفلها ونقله إلى المشفى، لكنها تقابل صاحب الشقة في المشفى؛ ولأنها تقدمت بشكوى ضده قام بطردها هي وطفليها؛ ومن ثم ظلت تعيش لمدة عامين في نزل للمشردين عبارة عن غرفة واحدة فقط لها وللطفلين في انتظار الحصول على شقة جديدة، وحينما تم تسليم شقة لها كانت في نيوكاسل التي انتقلت إليها منذ أيام.
يتعاطف بليك مع كاتي ويعاضدها هي وطفليها لاسيما حينما يوصلها إلى شقتها ويجد أن الكهرباء مقطوعة لأنها لم يكن معها أموال لدفع فاتورة الكهرباء؛ الأمر الذي يجعل الشقة شديدة البرودة، كما أنها فضلت أن تشتري لطفليها ملابس جديدة للمدراس التي بدأت بدلا من دفع الفاتورة.
رغم أن دانيال بليك يعاني من أزمة خطيرة في صحته تكاد أن تتركه على شفا التسول لو لم يحصل على معاش دعم العجز إلا أنه يهتم بمشكلة كاتي بشكل يكاد يكون أكثر من اهتمامه بمشكلته الشخصية، وهذا ما يريد أن يقوله لنا المخرج كين لوتش: إن القليل من الاهتمام الإنساني بالآخرين من الممكن أن ينقذ حياة الكثيرين؛ لذلك يحاول أن يرعى طفليها، ويساعدها في حياتها، ويصلح لها أبواب المنزل، والصنابير التي تتسرب منها المياة، لكنه يلاحظ أن كاتي ليس لديها أي مال، كما أن الطعام لديها يكاد يكون غير موجود؛ فيأخذها إلى بنك الطعام للحصول على احتياجاتها.
لعل المشهد الأهم في الفيلم والأكثر تأثيرا هو المشهد الذي رأينا فيه كاتي في بنك الطعام حينما تحصل على احتياجاتها، حيث تنتحي أحد الأركان وتسارع- بينما أطرافها بالكامل ترتعش- في فتح إحدى علب البقول وتتناولها بيدها بشكل فيه من الجوع ما لا يمكن تخيله، وبمجرد ما تلمحها الموظفة نرى كاتي تنهار باكية وقد شعرت بالكثير من الحرج والخجل مما فعلته، هنا تحاول الموظفة تهدئتها بمساعدة دانيال مؤكدين لها أنها لم تفعل ما يستدعي الخجل أو الإحراج؛ فتخبر دانيال أنها كانت تشعر بالكثير من الجوع الذي أشعرها بأنها على وشك الغرق. نلاحظ في هذا المشهد الأداء المقنع الصادق للمثلة هايلي سكوايرز حيث ارتعاش جسمها بالكامل ومحاولة تناول الأكل بطريقة شديدة البدائية تدليلا على جوعها القاسي، ثم التركيز على ملامح وجهها بعد ذلك وعدم قدرتها على رفع عينيها في وجه أحد مطلقا نتيجة خجلها مما فعلته.
يحاول بليك التقديم على معاش بطالة في نفس الوقت الذي قدم فيه طعنا على تقرير لجنة معاش العجز، لكنهم يطلبون منه التوقيع على أنه لا بد أن يبحث عن عمل من خلال شبكة العمل على الإنترنت ومن خلال السعي خلف العديد من الوظائف. يحاول دانيال إخبار الموظفة بأنه لا يمكن له أن يعمل؛ لأن الطبيبة أكدت أن عودته للعمل سيؤدي إلى مقتله، لكنها ترد عليه بآلية رتيبة وبرود بأنه لا بد أن يبحث عن عمل ويثبت لهم أنه سعى إلى فعل ذلك كي يستحق معاش البطالة وإلا سترفض طلبه، كما أنه عليه إعداد سيرة ذاتية له وتقديمها لأصحاب العمل وإذا لم يخضع لذلك سوف يتم توقيع العديد من العقوبات عليه منها ما يصل لأسابيع في البداية ومنها ما يصل إلى ثلاث سنوات إذا تكررت.
يضطر بلييك للتوقيع ومحاولة البحث عن عمل بالفعل، وحينما يعود للموظفة ويخبرها عمن تقدم لهم بطلب عمل تؤكد له أن ما فعله غير كاف، وليس هناك دليل على أنه قد قام بذلك، فيسألها: وكيف أقدم الدليل على ذلك؟ فتخبره كان يجب أن تلتقط صور أو فيديوهات مع أصحاب العمل؛ الأمر الذي يجعله يخرج لها هاتفه ويقول لها: كيف أصور من خلال هذا الهاتف غير الذكي، ثم يقول لها: اسمعي، لقد أصبت بنوبة قلبية حادة، وقد سقطت تقريبا من على السقالات، وأريد العودة للعمل أيضا، لكن الطبيبة تمنعني من ذلك، إلا أنها لا تستمع إليه وتقول: يجب أن تلتزم بالبحث عن عمل لمدة لا تقل عن 35 ساعة في الأسبوع، ثم تهدده بتوقيع العقوبات عليه إذا لم يسع للمزيد في البحث عن العمل بشكل مرض لهم.
يبدو لنا الأمر شديد التعقيد حيث يحاول النظام الحكومي التأميني جعل الأمور أكثر تعقيدا بدلا من حلها، بل هم يرونه لا يستحق معاش العجز رغم التقارير الطبية المقدمة لهم والتي تثبت أن عودته للعمل سوف تؤدي إلى موته، كما يحاولون تعقيد حصوله كذلك على معاش البطالة وكأن النظام التأميني الحكومي الإنجليزي لا يرغب في النهاية سوى في تعذيب من يلجأ إليهم وإهانتهم وإشعارهم بالكثير من الدونية ثم يرفضونهم تماما في النهاية تاركين إياهم عرضة للتسول والعوز الشديد، والفقر وربما يصبحون عرضة للجوء إلى الجريمة أو الانتقام من المجتمع في نهاية الأمر بالإرهاب، وهذا ما أكده جار بلييك له حينما قال له: أنا أحذرك، سيجعلونك بائسا بقدر ما يمكنهم ذلك، وهذا ليس صدفة، بل مخطط له. كم من الناس لا يتمكنون من فعله؛ فيستسلمون.
لا ينسى بلييك رعايته لكاتي وطفليها، حيث تحاول البحث عن عمل لها بأي شكل لإعالة طفليها وإطعامهما، بالإضافة إلى رغبتها في العودة إلى دراستها مرة أخرى. تحاول كاتي أن تعمل خادمة في المنازل أو جليسة أطفال إلا أنها لا تنجح في ذلك حيث لم يطلبها أحد، وفي إحدى المرات تدخل إلى أحد المتاجر لشراء احتياجات أطفالها من الطعام وتأخذ القليل من الفوط الصحية في حقيبتها من دون أن يراها أحد، لكن كاميرات المراقبة تصورها ويقوم الأمن بضبطها؛ فيعطيها المدير ما حصلت عليه ويخبرها أنها لها لكن عليها ألا تعود إلى هذا المتجر مرة أخرى. تشعر كاتي بالكثير من الإهانة والهوان وبينما تنصرف من المتجر يعطيها رجل الأمن هاتفه ويخبرها أنه يستطيع أن يساعدها إذا كانت تبحث عن عمل ما.
لا تهتم كاتي كثيرا بأمر رقم الهاتف الخاص برجل الأمن، ولكن في إحدى الليالي تذهب صغيرتها إلى فراشها لتخبرها أن زميلاتها في المدرسة يسخرن منها لأن حذاءها مقطوع، ورغم أن كاتي سبق أن ألصقته لها من قبل إلا أنه قُطع مرة أخرى؛ فتخبرها الأم دامعة بأنها ستأتي لها بحذاء جديد هذا الأسبوع، وبالفعل تقوم بالاتصال برجل الأمن الذي يقابلها ونعرف أنه يعمل في شبكة للدعارة ومن ثم يرغب في استقطابها.
توافق كاتي بالفعل على العمل كعاهرة من أجل الإنفاق على صغيريها، ويكتشف دانيال الأمر بالصدفة حينما يرى الورقة التي كانت مدونا عليه رقم الهاتف، ومن ثم يذهب حيث تعمل كزبون وحينما يدخل عليها الغرفة تحاول تغطية نفسها من أمامه وتطلب منه باكية أن ينصرف. يحاول دانيال إثنائها عما تفعله فتقول له: أنا الآن في جيبي 300 جنيه وأستطيع أن أشتري لأطفالي ما يرغبونه من طعام أو ملبس، أرجوك انصرف فقط لأني لا بد أن أعود إلى عملي.
السيناريست باول لافرتي
ربما كان هذا المشهد من المشاهد المهمة أيضا في الفيلم حيث نرى انفعالات كل من دانيال وكاتي الصادقة، ومدى شعور كل منهما بالكثير من الألم والهوان بسبب ما وصلا إليه نتيجة تنكر المجتمع والنظام التأميني الحكومي لهما. ينصرف دانيال ويبيع أثاث شقته بالكامل لمحاولة الاستمرار في الحياة، وكلما سأل الموظفين عن موعد الطعن يخبرونه ببرود أن المسؤول سيتصل به لتحديد موعد؛ الأمر الذي يجعله يذهب إلى المبني الحكومي ويثور هناك ثم يخرج ليكتب على جدران المبنى معترضا من خلال علبة "سبراي": أنا دانيال بليك، أطالب بتحديد موعد اعتراضي قبل أن أتضور جوعا، وغيروا الموسيقى الكريهة على الهاتف. يقف الكثيرون من المواطنين يراقبون ما يفعله بلييك، ثم يتفاعلون معه ويقومون بالتصفيق له وتشجيعه على ما يفعله، إلا أن الشرطة تعتقله لفعله، ولأن تاريخه لا يوجد فيه أي تجاوزات يقومون بتحذيره ويخرج من قسم الشرطة.
ربما كان ما فعله بلييك من فعل اعتراضي ضد القانون هو فعل وجودي بحت يحاول من خلاله أن يقول للمجتمع بالكامل، قبل النظام الحكومي: أنا هنا، أو نحن هنا، هو وغيره ممن هم على شاكلته؛ لأن الفيلم يكاد أن يقول إن أمثال هؤلاء من المواطنين لا يشعر بهم أحد، بل لا يراهم المجتمع بالكامل، ويتحولون بالنسبة للأنظمة الحكومة التي سيطر عليها رأس المال إلى مجرد أرقام لا معنى لها؛ لذلك كان هذا الفعل هو ما عجل في تحديد موعد من أجل الطعن على قرار لجنة معاش دعم العجز، وهنا يطلب من كاتي الذهاب معه، ورغم أن كل الأمور تبدو في صالحه إلا أنه كان يشعر بالكثير من القلق، وحينما يتجه لغسيل وجهه قبل الدخول إلى لجنة الطعن تصيبه نوبة قلبية ويموت قبل الدخول إلى اللجنة.
المخرج كين لوتش
يأتي مشهد النهاية في الكنيسة كمشهد مهم في أحداث فيلم "أنا دانيال بليك" حينما تقرأ كاتي بألم الورقة التي وجدتها في ملابس دانيال حينما مات، وهي الورقة التي كان سيقرأها على اللجنة حيث يقول فيها: أنا لست بائعا ولا زبونا ولا عامل خدمة، أنا لست متهربا، ولا مجرما، ولا متسولا، ولا لصا، أنا لست رقما تأمينيا، ولا علامة على الشاشة، أنا أدفع ضرائبي، ولا أتأخر عنها، وأنا فخور بهذا. لا أتحدث قبل أن أرى، بل إنني أنظر في عيون جيراني، وأساعدهم إن استطعت. أنا لا أقبل ولا أبحث عن الصدقة. اسمي هو دانيال بليك، أنا رجل، ولست كلبا، ولهذا فأنا أطالب بحقوقي. أطالب أن تعاملونني باحترام. أنا دانيال بليك. أنا مواطن، لا شيء أكثر، ولا شيء أقل.
من خلال هذه الورقة التي كانت في ملابس دانيال وما قاله فيها يكتمل أمامنا مشهد المأساة الحقيقية التي يتعرض لها المواطنون الذين يمرون بأزمات صحية، أو أزمات تعطل في المجتمع الإنجليزي، وغيره من المجتمعات الرأسمالية في ظل نظام تأميني لا يعنيه المواطن، وحياته، وما يعانيه من هوان، بل إن هذا النظام التأميني يعمل على المزيد من احتقاره وإهانته وإشعاره بالكثير من الدونية، ولا يعطيه شيئا في النهاية، بل يتركه للجوع، والمرض، والموت، والتشرد؛ الأمر الذي يجعل من هؤلاء الأشخاص قنبلة بشرية حقيقية موقوتة في وجه هذا المجتمع قد تنفجر فيه في أي لحظة إما بالعنف، أو بالمساهمة في المزيد من الأمراض والمشاكل الاجتماعية كما حدث لكاتي وانخراطها في العمل في مجال الدعارة كي تستطيع إطعام طفليها.
الممثلة هايلي سكوايرز
يأتي فيلم "أنا دانيال بليك" للمخرج الإنجليزي كين لوتش كصرخة تحذير قوية وواضحة في وجه المجتمع الإنجليزي ونظامه التأميني الذي يعمل على إهانة كل من يلجأون إليه ثم تركهم في النهاية للفراغ ليلاقوا الموت باسم القوانين، واللوائح، والنظام ببرود لا إنسانية فيه بدلا من العمل على إنقاذهم، وتقديم ما يستحقونه من حقوق قانونية لا علاقة لها بالتصدق عليهم أو مفهوم التسول.
فيلم "أنا دانيال بليك" من الأفلام المهمة التي تتحدث عن الوجه القاتل والقاسي للمجتمعات الرأسمالية التي لا يعنيها سوى المزيد من الأرباح والصفقات والنجاحات مقابل موت الآلاف الذين لا يعنون لهم أي شيء سوى مجرد رقم من الأرقام غير المهمة.




 محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد ديسمبر 2018م 


الاثنين، 10 ديسمبر 2018

طقوس للموت.. السرد الساخر والكتابة على الحافة

مع تأمل حالة السرد الروائي العربي في الآونة الأخيرة لا يمكن إنكار أن ثمة كيانات سردية جديدة ومتميزة بدأت تتمركز في ساحة السرد منافسة في هذا التميز السرد الروائي المصري/ الأقدم تاريخيا في المنطقة العربية، والأسرع تطورا عن غيره؛ نتيجة للتراكم التاريخي الطويل لدى المصريين.
لكن ثمة سرد آخر بدأ في الظهور والتطور في العديد من الدول العربية الأخرى. صحيح أن بعض هذا السرد بدأ منذ فترة طويلة وتبلور ونضج بشكل كبير، واستطاع أصحابه أن يكون لديهم الكثير من التراكم السردي والثقافي ويشكلون كتلة ثقافية لا يمكن غض النظر عنها؛ لأهميتها مثل دول المغرب العربي لاسيما الجزائر التي بات لديها تراثا روائيا ضخما من روائيين متميزين، إلا أن الظواهر السردية الأخرى- التي لا تراكم ثقافي وسردي لها مثل منطقة الخليج العربي- بدأت تخطو خطوات ثابتة وبطيئة باتجاه السرد الروائي؛ ومن ثم فهي قادرة خلال فترة وجيزة على ترك تراكمها السردي الذي سيتحول بعد عدة خطوات من التعثر أحيانا والنجاح في أحيان أخرى إلى سرد متماسك يستطيع الوقوف على قدميه ومنافسة غيره في المنطقة العربية.
نرى هذه الخطوات البطيئة والمترددة أحيانا في المملكة العربية السعودية، والكويت، وعُمان، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها من دول الخليج؛ ولعله لا يمكن لأي متابع للساحة الثقافية العربية إنكار أن هذه الدول قدمت لنا بعض الأسماء- التي لا ننكر أنها قليلة- وإن كانت متميزة ومنافسة شرسة في الساحة الثقافية العربية.
في الآونة الأخيرة بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة تُصدر الكثير من الدوريات الثقافية المهمة المهتمة بالثقافة، راغبة لعب دور ثقافي في المنطقة العربية، بل ونجحت في استقطاب الكثير من الأسماء المهمة في المنطقة العربية للكتابة فيها، فضلا عن الكثير من الجوائز العربية الكبرى التي أطلقتها للعالم العربي، صحيح أن هذه الدوريات لم تهتم بإنتاجها المحلي بقدر ما اهتمت بالإنتاج العربي والأسماء العربية التي تراها هذه الدوريات مُكرسة في المشهد الثقافي، لكنها فعليا غضت النظر تماما وكثيرا عن العديد من الأسماء الثقافية المحلية ولم تهتم بها إلا فيما ندر، لدرجة أن الصحف والدوريات الإماراتية تكاد لا تتحدث عن الحركة الثقافية لديها إلا من خلال الإعلام الرسمي فقط، أي الفعاليات الرسمية التي تقيمها الدولة متجاهلة في ذلك بعض الأسماء الموهوبة والمجتهدة التي تقدم من حين لآخر بعض الأعمال التي لا بد من التوقف أمامها.
لا يمكن إنكار أن الحراك الثقافي في الإمارات بدأ منذ فترة قصيرة قياسا لعمر الثقافة العربية الحديثة، كما لا ننكر أنه حراكا بطيئا نسبيا يعتمد في المقام الأول على درجة تطور المجتمع والدفع به نحو المزيد من التمدين، فضلا عن أن العديد من الكتابات الجديدة فيه ما زالت ضعيفة ومتهافتة ولم تتشكل في الكثير منها إلا ندرة منهم بدأوا يتطورون وينضجون ثقافيا ويقدمون العديد من التجارب اللافتة التي لا بد من الوقوف أمامها لتأملها وتناولها بالكتابة النقدية. نذكر من هذه النماذج على سبيل المثال الروائية لميس فارس المرزوقي التي قدمت روايتها المهمة "حدثتنا ميرة"، لكن رغم أهمية هذه الرواية في السرد الروائي الإماراتي فإن الكاتبة قد اختفت تماما من الحياة الثقافية، ولم تقدم شيئا جديدا بعد هذه الرواية لأسباب لا يعرفها أحد.
قد نستطيع رد اختفائها إلى ظروف المجتمع، أو لأسباب أخرى تخصها، لكنها في النهاية تظل أسبابا تخمينية لا يعرف حقيقتها سوى الروائية التي اختفت. لكن من بين الروائيين المهمين فعليا في المشهد الثقافي الإماراتي لا يمكن بأي حال من الأحوال لمن يطلع عليه إنكار دور الروائي علي أبو الريش/ الأب الحقيقي للرواية الإماراتية وأقدمهم في الكتابة، وأغزرهم في الروايات التي قدمها للسرد الروائي العربي، كما تم اختيار روايته "الاعتراف" من ضمن أفضل مئة رواية عربية، وهو من الروائيين الذين لا يمكن تجاهل دورهم في تطور السرد الروائي الإماراتي وإعطائه خصوصية وتفردا ليختلف عن غيره من السرد في الخليج.
من خلال تأملنا لما ينتجه المشهد السردي الإماراتي نتوقف أمام الروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة وروايته الجديدة "طقوس للموت"، صحيح أن بوملحة له العديد من الروايات السابقة على هذه الرواية منها "رجل بين ثلاث نساء"، و"ليلة غاشية"، و"سوق نايف"، و"الذبابة"، و"الدنيا شمال"، فضلا عن مجموعته القصصية "أشجار تقف على العصافير"، لكن مع تأملنا للرواية الأخيرة "طقوس للموت" نلمح تطورا ونضجا في التجربة الروائية لديه، وهو ما يدفعه باتجاه المغامرة والتجريب في هذه الرواية لدرجة أنه يكتب على المحك والمخاطرة بتجربة السرد بالكامل التي كان من الممكن لها أن تنهار تماما وتتحول إلى كتاب تثقيفي وانتقاد لأحوال مجتمعه والوسط الثقافي العربي بشكل ساخر لولا أنه كان منتبها ومُدركا تماما لآليات السرد التي جعلته متماسك البنية، قادرا على أن يحوله إلى سرد روائي ممتع لا يمكن للقارئ تجاوزه، أو الانصراف عنه إلا بعد الانتهاء من عملية القراءة بالكامل ثم إعادة تأمل المشهد الثقافي من خلال ما صاغه بوملحة روائيا.
إذا ما تأملنا رواية بوملحة لن نجد من خلال ما كتبه حكاية بالمعني الحكائي/ الروائي المعروف لدينا؛ بل مجرد فكرة تدور حولها الرواية حتى الانتهاء منها، فثمة روائي يرغب في كتابة الرواية، وراوٍ خارجي يصف أحداث الرواية، وبطل للرواية يكاد يكون مقهورا طول الوقت من الراوي، ونستطيع فيما بعد سحب هذا القهر الواقع على بطل الرواية على الروائي أيضا باعتبارهما يتشابهان إلى درجة كبيرة؛ فبطل الرواية مقهور من الراوي، بينما الروائي مقهور من المجتمع المحيط به، فضلا عن أن بطل الرواية روائي أيضا داخل العمل، ويكاد يمر بنفس الظروف التي يمر بها الروائي الذي يكتب الرواية، كما لا يمكن إغفال أن الروائي وبطل الرواية يكادا أن يتطابقا في سماتهما السيكولوجية وثقافتيهما، وانتقادهما للوسط الثقافي العربي: "يتأمل بطل الرواية الكتب شاعراً بالضيق، نفس الروايات، نفس الروائيين، تتغير العناوين ويبقون هم، أسماءهم تُطبع بخط أكبر من عنوان الرواية، لم تعد هناك أهمية للعمل الأدبي، اسم الكاتب هو الأهم، ولو كتب هراء أو.... هذه رواية مشَلَّخَة كيف وصلت إلى هذا العدد من الطبعات. قالها بطل الرواية هازئاً، تذكّر صديقه "محمد العربي" الذي كان يعمل كأمين مكتبة في مكتبة (...)، - تم حذف اسم المكتبة لأمور تجارية. ترك بعدها العمل واختفى، كان يزوره دائماً لشراء الكتب، وعندما يشير بطل الرواية إلى رواية ما فإنه يقول له: مشلَّخة اتركها، أعرف نوعية الروايات أو الكتب التي تبحث عنها، يتجول معه في المكتبة، يعطيه الكتب التي يعرف أنها ستعجبه. سأل بطل الرواية أحد العاملين في المكتبة: رشّح لي مجموعة من الروايات القوية. طلب منه الموظف أن يتبعه، مشى خلفه إلى أن وصل إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، اعتذر منه بطل الرواية: أريد أن أحصل على روايات قوية أدبياً محكمة الحبك أو فلسفية تثير تساؤلات القارىء، لقد قرأت أغلب الكتب الموجودة في هذه القائمة وأخذت التي لم أقرأها في السابق، أريد كتباً أخرى".
إذن فنحن أمام ثلاث شخصيات من المفترض بأن إحداها واقعية/ الروائي، واثنتين متخيلتين- الراوي، وبطل الرواية-، ولكن رغم أن الشخصيتين الأخريين متخيلتين إلا أن الروائي يتعامل معهما باعتبارهما شخصيتين حقيقيتين، وهذا ما سنراه على طول الرواية من نقاش وشجار، وسب، وشد وجذب بين الروائي وشخصياته التي تعترض عليه أحيانا، بينما يحاول تهذيبها في أحيان أخرى، أو يحسن علاقته بهما غير مرة، فأحيانا يحاول الراوي التدخل في نسج الرواية تبعا لرؤيته هو؛ وهو ما يجعل الروائي يثور عليه في الكثير من الأحيان: "إن مضيت هكذا فتأكد بأنك ستدمّر الرواية، امنحني الفرصة قليلاً لأتحدث، أنا الراوي وهذا اختصاصي. رعشة سرت في جسدي، لا زلت أشعر بالخوف: صحيح بأنك الراوي ولكنك ابتعدت عن أحداث الرواية، ذكرت قصة رجل يسمّى "ريتشارد بريتين" هشّم زجاجة نبيذ على رأس "بيج رولاند" التي تعمل في سوبر ماركت، لا أعرفهم ولا أعرف سبب إقحام قصتهم في الرواية. حكّ الراوي بطنه: تلك القصة مدخل جيد للرواية، لكنك لم تدعني أكملها، اسمعني إلى النهاية وستدرك الرابط. أهم ما في الرواية المدخل، تُسيطر به على أذهان القرّاء. قال ذلك ثمَّ تحرّك من مكانه. فضاء أسود خلفه وأمامه، أطيافٌ لمقهى، طاولات وأناس يحيطهم الضباب، الرؤية غير واضحة". من خلال هذا الصراع بين الروائي والراوي ينسج عبيد بوملحة روايته التي لا تمتلك قوام الحكاية الروائية بقدر ما تمتلك روح التجريب السردي، وانتقاد الثقافة العربية، والسخرية منها بعنف يتناسب مع روايته؛ فثمة عمل روائي يُكتب لكنه في النهاية لا يقدم لنا حكاية العمل بقدر ما يقدم لنا حكاية الشخصيات الثلاث وصراعهم مع بعضهم البعض وتقديم المزيد من المعلوماتية المفيدة لتطور المتن الروائي.
هذا الصراع بين الروائي والراوي نلحظه بشكل أكبر حينما يتمرد الراوي على الروائي: "ناديته ولم يرد: سأتحدث معك كشخص بالغ. ما جعلني أغضب منك هو ما فعلته مع شقيقة الروائية. لماذا قمت بذلك؟ عقد حاجبيه غاضباً: تفو. بصق ناحيتي. لقد جنّ، لا تفسير آخر لديّ. ركض باتجاه الكتب، حمل مجلداً كبيراً بيديه، ركض بأقصى سرعته ناحية الشاشة، رماه بكل قوة عليّ. أغمضت عيني كملاكم يتأهب لتلقي لكمة قاضية لا يستطيع صدها، طاخ. فتحت عيني، الكتاب سقط على الأرض، الحمد لله بأن الشاشة لم تنكسر، يحمل الكتب من حوله ويرميها ناحيتي، خلع نعليه من رجليه ورماهما على الشاشة: يا مجنون ماذا تفعل؟ لم يرد عليّ، رواية مات بطلها وجنّ جنون الراوي فيها"، فالراوي هنا يثور ثورة عارمة على الروائي الذي يتعامل معه ويتخاطب من خلال شاشة الكمبيوتر التي تفصل بينهما، ونلاحظ أن الروائي يفقد سيطرته الكاملة على الراوي الذي يبصق عليه ويلقي عليه الكثير من الكتب. إذن فنحن هنا أمام حالة صراع حقيقي بين الروائي الذي يكتب الرواية وبين الراوي وبطل الرواية- المختلفان مع بعضهما طول الوقت-، لدرجة أن الروائي يتعامل مع الراوي باعتباره شخص ما قام باستئجاره لأداء عمل له ثم تنتهي أي صلة تربطهما ببعضهما البعض بمجرد انتهاء هذا العمل؛ فنرى الروائي يخاطب الراوي: "إن لم تخبرني عن الروايات التي عملت عليها سابقاً فاعذرني، سأغيّر لسان الراوي في روايتي وأجد راوياً جديداً يحل محلك، لا زلت في البداية وبإمكاني التخلص منك بسهولة وإعادة صياغة المسودة من جديد. إهئ، إهئ. لا تبكِ، تكلّم، أخبرني بكل شيء، لا تقلق، لن أقصيك من العمل أبداً: روايتك هي أول رواية أعمل فيها. رغبتُ في هذه اللحظة لو طردته، أوهمني بأنه راوٍ محترف وبعد الضغط عليه اكتشفت بأنه أول عملٍ له، حزنت لبكائه، يجب أن أخرجه من حزنه. ناديته، رفع رأسه لكني لم أرَ أية دمعة، لقد كان يتظاهر بالبكاء، وغد، لن أقطع عليه رزقه. لنتابع السرد. ووهوو. قفز من مكانه ووقف يحك بطنه، إنه مصاب بالجرب".
ثمة روائي هنا يرغب في كتابة رواية ما، وهو يحلم بكتابة رواية مكتملة تصلح للفوز بجائزة كبرى؛ لإيمانه بموهبته التي يتجاهلها الجميع أولا، وإحساسه بالظلم الواقع عليه ثانيا، وهو يرى أنه لا بد أن يضع فيها كل المعايير الفنية التي من شأنها إدهاش أعضاء أي لجنة تحكيم، ومن ثم ترغمهم على منحه الجائزة الكبرى، ولكن ثمة معضلة حقيقية أمام هذا الروائي الذي يتعطل السرد لديه أكثر من مرة، ويعيد بنائه وتشكيله والبدء فيه من جديد غير مرة؛ بسبب تدخل شخصية الراوي الذي يرغب في صياغة الأحداث كما يرى هو من خلال مجموعة من الأفكار والأحداث غير المنطقية، بينما تُعد تصرفات بطل الرواية التي يقوم بها معطلا آخر للسرد حيث يتصرف كما يهوى من دون رغبة الروائي أو الراوي؛ الأمر الذي يجعل الراوي يحتقره ويهزأ منه غير مرة.
نحن هنا أمام شكل روائي مُفكك تماما يحرص الروائي فيه على تفكيك الشكل الكلاسيكي أو المألوف من السرد الروائي ليعطينا شذرات سردية روائية، لا يلبث أن يلغيها لينسج غيرها باعتبار أن ما فات من سرد لا يليق أو لا يعجبه؛ فيجتهد في صياغة غيره بينما يتخلل عملية إعادة السرد، بشكل جديد، الكثير جدا من المعلومات الثقافية المتدفقة والمبثوثة في ثنايا السرد بسبب العديد من الشجارات والخلافات بين الروائي والراوي وبطل الرواية؛ مما يجعل زج الروائي للعديد من المعلومات عن عملية السرد ذاتها وكيف يجب أن تكون، أو بعض السير الذاتية لبعض المؤلفين المشهورين مثل ماركيز أو فيكتور هيجو أو غيرهما منطقية تماما، ولا يمكن للسرد أن يكتمل من دونها، أي أن المعلوماتية في النهاية تصبح من نسيج السرد الذي لا غنى للرواية عنه، وإذا ما حاولنا الاستغناء عنها يشوب السرد الروائي الكثير من النقص، فيكتب: "وضع الراوي يده على فم بطل الرواية الذي أراد أن يكمل حديثه، كان متأثراً. صفعه فسكت، نظر إليّ ويده ما زالت على فم بطل الرواية: وكيف تحارب نظرية القطيع؟ تمتمت في نفسي: لا أريد لروايتي أن تأخذ منحى فلسفياً وعلمياً، سأجيبه لأنتهي من تدخلاته: ذكر الكاتب الأمريكي "جيمس سورويسكي" في كتابه "حكمة الحشود" أن الذكاء الجماعي يتطلب استقلال الفكر وحُكم فائق واتخاذ القرارات الأكثر عقلانية استناداً إلى ردود أقل عاطفية وأكثر معرفة وتفهّم. أبعد الراوي يده عن فم بطل الرواية، حدجه بغضب: استمر"، نستطيع هنا أن نلمح ثقافة كاتب الرواية- بوملحة- الذي يصر على أن يُكسب روايته الكثير من المعلوماتية وبثها بين ثنايا السرد الروائي لتكون متنا فيه بشكل يبدو تلقائيا بعيدا عن الشعور بأنها قد تم زجها في السرد، وهذا ما سنراه في كامل السرد الروائي مثل: "قفز الراوي على الشاشة كأنه يريد خنقي: أرواح أخرى؟! تريد إخافتي. ضحكت بأعلى صوتي: أخبرني، الفضول يقتلني. رفعت رأسي إلى السقف، أريد أن أغوص في أحداث الرواية وهو يشتت السرد. فكرت قليلاً. لا مانع سأخبره ما دامت الأفكار نائمة في عقلي: بعد النجاح الباهر الذي حققته رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" قال "خورخي بورخيس" بأنه حلم بالرواية كاملة من أولها إلى آخرها، ولكنه لن يتعب نفسه بكتابتها لعدم إيمانه بالإطالة: لماذا؟ التفت وانبطح على جنبه يستمع. لأن "بورخيس" كان قاصاً لا يؤمن بالروايات: لماذا؟ وضع خمسة كتب تحت رأسه واستلقى على ظهره، إنه مستمتع: لأنها رؤيته، استمع لما قاله وستعرف. إنه جنون منهك ومستنزف، جنون تأليف كتاب ضخم، تفصيل فكرة في خمسمئة صفحة من الممكن أن تُشرح شفوياً بشكل تام في خمس دقائق. جلس بعدما كان مستلقياً: إنّ بورخيس محقّ فيما قاله"، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي تستدعي المزيد من المعلوماتية عن الكثيرين من الروائيين.
تبدو لنا هنا الفقرات التي يتناقش فيها الروائي مع الراوي بمثابة محطات استراحة عن إكمال سرد الرواية، يحاول من خلالها بوملحة بث الكثير من المعلوماتية المهمة التي لا تنفصل عن العمل الروائي، ثم لا يلبث العودة مرة أخرى إلى متنه السردي برشاقة تجعلنا لا نستطيع الاستغناء عما قدمه من معلومات ممتعة ووثيقة الصلة بالرواية: "انتظر، ما الذي تفعله يا مجنون؟ عندما طلبت منك أن تنقلب رأساً على عقب رفضت ذلك، والآن قمت على الفور بخلع ملابسك، لا يريد القراء رؤيتك عارياً، قد يطالبون بحرق كل النسخ بعد طباعتها، ويحترق جسدك وأنت عارٍ معها، على العموم كنت أريد أن أقول لك: إن الروائي الفرنسي "فيكتور هوجو" صاحب رواية "أحدب نوتردام" يكتب وهو عارٍ تماماً، وعندما يشعر بأنه يواجه ضغطا زمنيا ويجب عليه إنهاء الرواية التي يكتبها، يوعز إلى خادمه بمصادرة جميع ملابسه حتى لا يتمكن من مغادرة المنزل ويركز على عمله الكتابي، وفي الأيام الباردة كان يضطر بأن يلف نفسه ببطانيته، والروائية الأمريكية "فرانسين بروس" صاحبة رواية "الملاك الأزرق": أعجبني العنوان كثيراً، لماذا لا تغير عنوان روايتنا وتختار عنواناً جميلاً مثل تلك العناوين بدل "الذباب المنظم والنمل العشوائي" الذي لا أعلم ما الذي يرمز إليه؟ لا أعتقد بأنه سيشد القرّاء لشراء الرواية"، ولكن رغم وعي عبيد بوملحة جيدا بأن المعلوماتية الكثيفة في الرواية من الممكن لها أن تدمرها تماما وتتحول بها إلى مجرد كتاب تثقيفي يود الكاتب فيه استعراض ثقافته العريضة، إلا أنه كان منتبها تماما إلى هذا الأمر؛ وهو ما جعله يحاول دائما ربط هذه المعلومات التي يسوقها بمواقف روائية وخلافية بين الراوي والروائي؛ مما يحتم عليه أن يستعرض هذه المعلومات للراوي القليل الثقافة والذي يحاول أن يتعلم من الروائي ويكتسب ثقافته منه.
يحاول الروائي منذ الجملة الأولى تشييء شخصياته وإكسابهم الحياة بالحديث إليهم، ولعله من خلال محاولته إلباسهم ثوب الحقيقة باعتبارهم شخصيات لها وجود فعلي تكتسب هذه الشخصيات مشروعية وجودها في الحياة؛ ومن ثم تعارضه وتتشاجر وتختلف معه، بل وتناقشه في كيفية كتابة العمل الروائي، فنراه يقول في الجملة السردية الأولى محدثا شخصياته: "تتوقف حياتكما عند صفحة ثناها القارئ برمي الكتاب في سلة المهملات، حرقه، إهماله على أحد الرفوف أو نسيانه في الأدراج. دعك عينه بالمنديل المليء بالمخاط: حياة مملة. أعاد المنديل إلى جيبه: تلك حياتك التي ستتكيف معها. شفط مخاط سال من أنفه: كيف ذلك؟ أصابني الخوف، كيف يستطيع الواحد منّا أن يصوّر حياة شخص آخر؟!"، نلاحظ هنا من خلال المقطع الأول في الرواية رد فعل بطل الرواية على حديث الروائي؛ فهو يدعك عينيه بمنديله المليء بالمخاط ولا يستطيع تصور هذه الحياة التي من الممكن أن يحكم عليه القارئ من خلالها بالموت بمجرد إغلاقه للكتاب، أي أن بطل الرواية يتفاعل في الحقيقة مع ما يقوله أو يكتبه الروائي ومن ثم يكتسب مشروعية وجوده كشخصية حقيقية تعيش بيننا ومن حقها النقاش والاعتراض على الروائي، كما نلاحظ اعتراض الراوي على الروائي: "لم يعجبني العنوان. إنه نفس الصوت الذي يقاطعني منذ بدأت الكتابة، ها هو قد عاد مرة أخرى: لن تلتفت لجنة التحكيم إلى رواية بمثل هذا العنوان. الصوت يزعجني، سأمضي في السرد. تخنق الغصّة بطل الرواية على جهده وتعبه ومعاناته وسهره، عاش في بيت مليء بالكتب: لا تكمل كتابة الرواية، ستدمّر البداية، دعني أقوم بعملي"، أي أن الراوي يرغب من الروائي التنحي عن العمل كي يقوم به هو بديلا عنه.
هنا يتضح لنا أن الكاتب عبيد بوملحة يُدرك جيدا ما يفعله منذ الجملة الأولى، ويعمل على التأسيس له؛ ليكتسب التجريب مشروعيته لدى القارئ وتزول الدهشة ويصبح ما يكتبه فيما بعد عاديا ومقبولا من قبل القارئ ليستمتع معه بلعبة السرد التي وضع بوملحة شروطها منذ اللحظة الأولى.
يقول بوملحة في روايته: "نهضت من مكاني؛ لأعدّ لنفسي فنجاناً من القهوة، وأفكر فيما طلبه "إرنست همنغواي" مني: انهض يا بني وأكمل كتابة الرواية: لا أعتقد يا "همنغواي" بأنك واجهت مشكلة أثناء كتابة أية رواية من رواياتك بموت بطلها في منتصف الأحداث. لنفترض بأنه قد حدث لك. لا مشكلة، ولكن هل تفاجئت أثناء كتابة إحدى رواياتك بالراوي يهجم على إحدى الشخصيات ليغتصبها؟"، حينما نقرأ مثل هذا المقطع السردي بين الروائي و"هيمنجواي" لا تنتابنا أي دهشة من دخول "هيمنجواي" للسرد وحديثه مع الروائي الذي يتخيل الكثير من الشخصيات المشهورة تُقدم له النصيحة، أو تتحدث معه باعتبارهما صديقين يتشاروان مع بعضهما البعض؛ فالروائي أسس منذ الجملة الأولى لقبول أي شيء من الممكن كتابته، أي أنه عقد اتفاقا ضمنيا بينه وبين القارئ لاستساغة كل ما يمكن أن يرد على خاطره للدخول في نسيج السرد مما يمكن له أن يفيد السرد الروائي ويزيده ثراء، ولعل هذا الحديث بين "هيمنجواي" وبين الروائي يوضح للقارئ المشكلة الجوهرية التي يواجهها الروائي حيث تتصرف الشخصيات داخل المتن الروائي كما يحلو لها؛ ومن ثم فهو غير قادر على الاستمرار في السرد بسهولة مما يجعله يتوقف كثيرا عن إتمام العملية السردية ويُعيد بنائها غير مرة، وهذا بالفعل ما يصرح به "لهيمنجواي": "لا أعتقد يا "همنغواي" بأنك واجهت مشكلة أثناء كتابة أية رواية من رواياتك بموت بطلها في منتصف الأحداث"، أي أنه يعاني معاناة فعلية من تصرف الشخصيات كيفما اتفق؛ الأمر الذي يجعله يرغب في العودة إلى بداية الكتابة السردية وإعادة صياغتها: "عليّ أن أعود إلى بدايتها وأغيّرها. أضاءت الشاشة قبل أن أضع يدي على لوحة المفاتيح، لم أرتعد، اعتدت حدوث الأمور الغريبة مذ بدأت كتابتها: هل يحدث هذا دائماً للروائيين؟! إنه الراوي يسألني، لن أرد عليه؛ أنا غاضب منه بعدما فعله. ولكن... ولكن نبرة صوته تحمل الكثير من الحزن، إنه متأثر، أجزم بأنه أدرك خطأه الذي وقع فيه، في النهاية كيف أعامله كشخص بالغ عاقل وهو مجرد راوٍ للرواية، من المحتمل أنه لا يُدرك الخطأ الذي وقع فيه، قد يكون خطئي أنا، أنا اخترته، أوجدته وشكّلته، أو إنه فقد عقله حزناً على موت بطل الرواية".
ربما نلاحظ هنا أن الروائي قد بدأت تنتابه الكثير من الهلاوس المصاحبة لكتابة روايته، فهو لا يتحدث أو يتنازع مع شخصياته فقط، بل تضيء الشاشة أيضا قبل وضع يده على لوحة المفاتيح، ولعل هذه الأحداث الغريبة التي تحدث معه مثل أن يبصق الراوي على الروائي فتعلق البصقة في شاشة الكمبيوتر من الداخل سائلة عليها وغيرها من الأحداث هي ما دفعت الروائي إلى حالة حقيقية من الجنون في نهاية الأمر: "جلس على الكرسي في غرفته، لعق بقايا القهوة في كوب، كانت رائحته قذرة، صنان وعطونة، اتجه إلى المرآة، شعره استطال: لن أحلق لحيتي أو أخفف شعر رأسي، أريد أن تكون هيئتي مثل كبار الكتاب والمفكرين عندما أستلم الجائزة، هذه المرة سأفوز، أشعر بذلك، تحرّك من مكانه ووقف أمام الجدار عارياً ينظر إلى اللوحة المعلقة: الرواية الفائزة بالجائزة الكبرى 10.000 دولار هي (الذباب المنظم والنمل العشوائي)"؛ فهو يعاني مع أبطاله الذين يتصرفون بشكل غريب، كما أنه يشعر بالكثير من الظلم الواقع عليه بما أنه يرى نفسه كاتبا جيدا لكن الحركة الثقافية المحلية والعربية تتجاهله بينما يتم منح الجوائز لمن لا يستحقونها رغم كتاباتهم المهترئة التي لا تستحق أن يقرأها أحد.
الروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة
لعل هذه الحالة من الشعور بالغبن الواقع على الروائي رغم موهبته يحاول بوملحة تأكيدها وتعميقها داخل العمل من خلال الامتزاج الحقيقي بين بطل الرواية والروائي؛ فبطل الرواية حينما يتحدث عن نفسه وما يعانيه يكون في حقيقة الأمر يتحدث عن الروائي نفسه الذي يكتب الرواية: "جميع المكتبات تتجاوز رواياته في التنظيم الأبجدي أو تصنيف "ديوي العشري" وكأن أعماله لا تخضع لأي تصنيف، يزور المكتبات دائماً ليسأل عن رواياته، لا يعرفها البائعون إلا بعد أن يبحثوا عنها في جهاز الحاسب الآلي فيقال له بأنها قد أُعيدت إلى الموزع؛ لعدم بيع أية نسخة، وفي أحسن الأحوال يحصل على نسخة أو اثنتين في أسفل الرفوف وأبعدها، يرفعها بيديه الاثنتين، يتلفت يميناً ويساراً، يقبلها، يُعيدها إلى مكانها وهو يربت على غلافها، يُصارع نفسه لشرائها إلا أنه يتنازل عنها فقد يأتي أحد ما يبحث عنها". نلاحظ هنا أن بطل الرواية الذي هو روائي أيضا يتحدث عن حالة الظلم التي يشعر بها، والتي هي في الواقع نفس حالة الروائي الذي يكتب الرواية، أي أن بوملحة يحاول أن يبث لنا معاناة كاتب الرواية من خلال بطلها.
هذه الحالة من الشعور بالتجاهل رغم الموهبة نستطيع سحبها على عبيد بوملحة نفسه حينما ينتقد حال الواقع الثقافي المحلي في الإمارات؛ فيتبين لنا أن بوملحة يحاول أن يبث انتقاداته عن الثقافة المحلية، أو الوسط الثقافي العربي بوجه عام من خلال الروائي الذي يكتب الرواية وبطل الرواية نفسه اللذين لا ينفصلا على الإطلاق عن حال بوملحة: "وددت إغلاق الحاسب الآلي، غصّة في قلبي: انظر إلى الملاحق الثقافية في صحفنا وستعرف بأنك تحلم، التهميش ما نلقاه، صحفنا محلية وكل مواضيعها عن أدباء الخارج ومقالات منسوخة من الصحف العربية والعالمية. ارتعش الراوي: غير معقول. عقدت حاجبي: وصل الكسل بمحرري الصفحات الثقافية إلى عرض قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الدول الأخرى فقط. ما زال رافضاً: لا أصدقك. حركت يدي له: ارجع إلى جميع الصحف المحلية لعام كامل وراجعها، الاهتمام بالأدب المحلي والكتاب المحليين يكاد لا يتجاوز نسبة الواحد بالمئة. شهادة إبراء ذمة: أقر أنا الموقع أدناه بصفتي الفعلية (الراوي) عن عدم مسؤوليتي عمّا هو مكتوب أعلاه، وأعلن بأن الروائي هو الكاتب ويتحمل المسؤولية القانونية كاملة، وقد أصدرت هذه الشهادة لإخلاء طرفي من كل ما تفوّه به، إبراءً من أي حق أو ادعاء. هل أنا محاسب أيها الروائي؟ يرتجف خوفاً: أنت كراوٍ غير محاسب قانونياً وإنما أدبياً عن ملائمة لسانك للرواية وحسن الحبك والربط بين عناصر الرواية المختلفة وسلاسة أو منطقية الانتقالات بين الأحداث أو الشخصيات".
نلاحظ هنا أن عبيد بوملحة حينما يرغب في انتقاد الواقع الثقافي المحلي في الإمارات يسوق انتقاده بشكل صريح ومباشر، وإن كان قد جعله في شكل خلافي ونقاشي بين الراوي والروائي، بل وحرص على كتابة هذا النقد بشكل ساخر؛ ليخفف من مباشرته ومحاولة ربطه بنسيجه الروائي؛ لهذا رأينا قول الراوي: "شهادة إبراء ذمة: أقر أنا الموقع أدناه بصفتي الفعلية (الراوي) عن عدم مسؤوليتي عمّا هو مكتوب أعلاه، وأعلن بأن الروائي هو الكاتب ويتحمل المسؤولية القانونية كاملة، وقد أصدرت هذه الشهادة لإخلاء طرفي من كل ما تفوّه به، إبراءً من أي حق أو ادعاء".
الروائي الإماراتي علي أبو الريش
هذا الشكل الساخر يحرص عليه بوملحة غير مرة كلما ساق انتقادا للثقافة المحلية فنراه حينما يحاول انتقاد بعض الممارسات الحكومية مثل التصريح من قبل جهاز رقابة الكتب بطباعة عمل جديد مثلا يكون حريصا على أن يسبغ هذا الانتقاد بالكثير من السخرية الخفيفة الظل من خلال السرد فيقول: "لم يتحرّك بطل الرواية من مكانه، اقترب من الفتاة: عذراً، لم أسمع الاسم جيّداً. التفتت إليه، شهقت، شكّ في نفسه، سقطت عينه على رواية "الموتى السائرون" يحملها أحد الواقفين في الطابور، قرص بطل الرواية يده: آي، ما زلت على قيد الحياة. بلعت ريقها وهي تنظر إليه: إنه حفل توقيع أختي الروائية طوط طوط طوط لروايتها الجديدة طوط طوط طوط. ملاحظة مهمة: تم حذف اسم الروائية وعنوان الرواية لتجيزها أجهزة رقابة الكتب: أحضر موافقة خطّية من صاحبة الرواية في البداية. يتركون كل شيء، كل العناوين المذكورة في الرواية وأسماء الشخصيات ويتمسّكون بأمر تافه. أحضر موافقة ورثة الشخص الفلاني. أتضايق وأرد بأن الرواية هي توثيق لحياة أشخاص عاشوا و.. و... طاخ، يطبع ختم المنع على المسودة. حتى لا تتم رفع دعاوى قضائية عليك بعد ذلك". هنا يكتب بوملحة بسخرية أن الروائية اسمها طوط طوط طوط، باعتبار أنه قد نطق اسمها ولكن ثمة صوت رقابي دخل إلى السرد ليمحو صوته حينما نطق بالاسم مثلما يحدث في البرامج التليفزيونية حينما تضع رقابة على أي مفردة مرفوضة يقولها الضيف بإدخال صوت على صوته، وهو قد فعل ذلك سخرية من جهاز رقابة الكتب الذي يُضيق الخناق على الكثيرين من الكتاب ويمنع عنهم التصريح بطباعة كتبهم لمجرد ذكر أي اسم فيها.
لعل هذه الرغبة في مزج السرد الروائي بالكثير من السخرية هي من الأمور التي قد تؤدي إلى انهيار السرد بالكامل؛ فالكتابة الساخرة في السرد الروائي ليست دائما في صالحه، لكن بوملحة يحرص بذكاء على مزجهما بشكل يجعله مقبولا ومفيدا للسرد في نهاية الأمر لدرجة أنه يخاطر بالعملية السردية بالكامل حينما يذهب بالسخرية إلى مداها الأعمق ويسخر من العملية السردية نفسها: "وضعت الروائية طوط طوط طوط يدها على فمها وطفقت تضحك: الشعر الأبيض يغطي لحيتك ولم تتزوج حتى الآن؟! أراد الرد عليها لكنها سحبت الرواية من يده: إذاً سأضيف شيئاً إلى الإهداء لأنك غير متزوج إلى الآن. يا ترى ما الذي ستكتبه؟ هل ستكتب له أحبك؟ أم ستمازحه وتكتب له إلى الأعزب؟ أم رقم هاتفها؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة: أيها الراوي ما هذا الذي تقوله. تنحنح: أُضيف عنصر التشويق إلى الرواية؟ لم تر شيئاً إلى الآن، سأجعل رواية "الذباب المنظم والنمل العشوائي" من أفضل الروايات التي كتبت، سيتقاتل المعجبون عليك. ضربت الطاولة: احذف كلمة "المعجبون" وغيرها إلى المعجبات. ليكون الوصف دقيقاً. نظر إليّ: ما رأيك في التشويق الذي أضيفه على الرواية؟ ستستدعى إلى جميع القنوات التلفزيونية لإجراء المقابلات معك، ستكتب عنك جميع الصحف والمجلات"، إذا ما تأملنا المقطع السابق سنلاحظ سخرية الروائي من عملية السرد التي نراها اليوم على هذه الشاكلة في الوسط الثقافي العربي، حيث يكتب الكاتب أي شيء لا معنى له ثم لا يلبث أن يتحول إلى نجم ربما يكون أكثر شهرة من نجوم السينما، وبالتالي يبدأ في الحديث المتضخم عن نفسه وعن عدد المعجبين الذين يهرولون خلفه، وعدد المتابعين له على شبكة التواصل الاجتماعي وغير ذلك.
هذ الانتقاد الساخر من الواقع الثقافي العربي نراه بشكل أكبر تجليا في: "تقترب إحدى المعجبات من الروائية، تشيد بالروائية وروعة رواياتها. تحقق أعلى المبيعات، مؤثرة، مبكية، كل فتاة تقرأ لها تتخيل نفسها بطلة الرواية. قلّب بطل الرواية نظره بين الحضور، استغرب وجود عدد كبير من النساء الكبيرات في السن، ظنّ بأنهن قد حضرن لاقتناء الرواية وإهدائها لبناتهن أو حفيداتهن، اقترب منهن، سمع نقاشاتهن وإعجابهنّ بأعمال الروائية طوط طوط طوط: ما رأيك برواياتها؟ رائعة أليس كذلك؟ التفت إلى المعجبة: لم أقرأ أي رواية لها من قبل. فتحت المعجبة عينيها مستغربة ثمّ فتحت صفحات الكتاب وبدأت تقرأ: جمالك الليلكي، ينعكس على جمالي ويقول كله لكِ، طريق الحب أمامنا سالكِ، أتوقف دلالاً وتسألني ما بكِ؟ اربطيني بحبالكِ. شعر بطل الرواية بالغثيان: ما هذا؟! ابتسمت المعجبة: هذه خواطر تكتبها الروائية وتضعها في الرواية، هل تريد أن أكمل؟ لم تنتظر أن يجيبها واستمرت تقرأ، وهو لا يسمع إلا لكِ، و كِ.. كِ.. أنفه يحكه ودمعت عيناه، شعر برغبة في العطس، يرفع يديه أمامها لتتوقف لكنها لم تنتبه، لم يستطع بطل الرواية أن يتمالك نفسه: آتشو". ربما كان هذا المقطع من المقاطع المهمة التي تنطبق على الواقع الثقافي العربي بشكل حقيقي؛ فثمة كاتبات وكتاب لا قيمة فعلية لما يكتبونه ولديهم بالفعل مثل هذا الكلام الفارغ بينما نرى الآلاف من المعجبين بكتاباتهم الذين يرون هؤلاء الكتاب آلهة في السرد الروائي، بل ويصبحون من المقدسين الذين لا يمكن المساس بهم من قريب أو بعيد، ولعل في نموذج كتابة أحلام مستغانمي مثالا واقعيا من الممكن لنا إسقاط مثل هذا المقطع عليه، وهو ما دفع الروائي هنا ليكون أكثر إمعانا في القسوة حينما ينتقد الواقع مستشهدا: "استمع لما قالته "كارمن بالثيس" الوكيلة الأدبية "لغابرييل ماركيز" عن عملها في عالم الأدب: عملٌ وسخ. كلمتان فقط ونقطة، بلاغة ومباشرة واضحة".
من خلال هذه الجملة يكون عبيد بوملحة قد انتقد ما يحدث في عالم الثقافة بقسوة حقيقية لا يمكن لها أن تُقلل من قيمة السرد الروائي أو اتهامه فيها بالمباشرة والثرثرة؛ نظرا لارتباط كل ما يسوقه من انتقادات أو سخرية أو حتى معلوماتية بشكل روايته ارتباطا وثيقا بحيث يبدو من متن السرد وليس غريبا عليه.
نلاحظ على طول رواية "طقوس للموت" أن ثمة انشغال ودراية عميقة بآليات السرد وكيفية كتابة الرواية كعمل فني، أي أن الروائي لديه من الخبرة والدراية والعلم بآليات الكتابة السردية الكثير، وهذا ما نراه في العديد من الفقرات التي يحاول فيها الروائي بث ثقافته ومعرفته في متن العمل الروائي على شكل تساؤلات وحوارات مع الراوي، وإن كان الروائي هنا منتبها بشكل لافت لما يفعله فيحرص على السيطرة على السرد من دون أن يعمل على إثقاله أو انفلاته من بين يديه، فلا يبدو ما يقوله مجرد نتوء سردي في جسد الرواية؛ لذلك نراه يتحدث عن ذلك مع الراوي فيقول: "هل سيكون ذكر هذا المثال مفيداً، ليس على الروائي ذكر كل ما يعرفه في روايته، فقط ما يدعم عمله الأدبي ويشكّله ويشذبه ويمنحه المرونة ليتناسق مع السرد وألا يقطعه بحيث تكون المعلومة مقحمة ليبين الروائي ثراءه الفكري وغزارة معلوماته بشكل لا يضيف للسرد ولا يتواشج معه. عزيزي، تطويع المعلومات في العمل الأدبي مهمة بسيطة عندما يعرف الروائي طبيعة الرواية ويدرك مدى قدرته على ترويض أفكاره في القالب الروائي وصعبة إذا كانت انسياب وإفاضة من غير روية، تحتاج إلى أدوات، كحدث أو شخصية تتبناها. الراوي يقفز يريدني أن أذكر المثال. أدركت بأني مرغم: أسميه التكنيك العقلي بطريقة السلاطين العثمانيين. ركض في أرجاء المكتبة، علمت أنه يبحث عن كتب تحكي عن السلاطين العثمانيين، طلبت منه أن يعود إلى مكانه ويستمع: الفكرة ليست مذكورة صراحةً، ولكننا نستنبط من التاريخ والأحداث عزيزي".
هنا يبدو لنا الأمر كأن بوملحة يتوجه إلى القارئ بشكل مباشر ويوضح له أن موضوع روايته التي يكتبها يتناسب تماما مع ما يفعله ويسوقه من أمثلة ومعلوماتية، ومن ثم يبدو لنا واثقا مما يفعله، مدركا أنه لا يمكن أن يكون إثقالا على كاهل الرواية بقدر ما هو مفيدا في تقدم العملية السردية التي يعمل عليها.
يفاجئنا الروائي عبيد بوملحة في نهاية روايته بحدوث مفارقة لم تكن متوقعة من قبل القارئ ولم تخطر على باله حتى السطور الأخيرة منها حينما يكتب: "عاد بطل الرواية إلى عزلته، لم يخرج منها لأشهر، انتهى من كتابة الرواية وأرسلها إلى الجائزة، تمتم: شهور قليلة فقط وأفوز بالجائزة. بقيت حياة بطل الرواية كما هي، إما أن يجلس في غرفته ليقرأ أو ينزل إلى المقهى. اقترب موعد إعلان النتائج، رنّ هاتفه النقّال، رقم لا يعرفه يتصل به، شعر بطل الرواية بأن قلبه قد توّقف، ردّ على الاتصال وجسمه يرتعش. مبروك لقد فزت بالجائزة الكبرى. لم يستطع بطل الرواية أن يتحدث، صرخ الصوت في الجانب الآخر من الهاتف. مليون دولار. نزلت الدموع من عيني بطل الرواية، ثم استوعب الرقم الكبير الذي قاله المتحدث في الهاتف، زعق غاضباً: مليون دولار؟! هل تمزح معي؟ طمأنه المتحدث وسأله عددا من الأسئلة، وعندما وصل إلى الوظيفة ردّ عليه: روائي، قال المتحدث في الهاتف: هذه أول مرة يفوز معنا روائي في تاريخ الجائزة. ضحك بطل الرواية من المزحة بأعلى صوته، تماسك، وقف منتشياً. أخيراً فازت روايتي "الذباب المنظم والنمل العشوائي" بالجائزة الكبرى، صمت على الهاتف ومن ثمّ. أية رواية؟ لقد فزت في اليانصيب! انتشر الخبر في وسائل الإعلام، الروائي الفائز بالجائزة الكبرى المليون دولار. وبعدها اختفى الروائي فجأة ولم يحدثني، هرعت إلى بطل الرواية لأسأله فوجدته قد شنق نفسه، عدت راكضاً إلى الشاشة، أخرجت رأسي بصعوبة منها، وجدت الروائي معلقاً في السقف مثل بطل الرواية، لمحت تحته مسودة الرواية مطبوعة، ركّزت نظري عليها، أخيراً عرفت اسمه. عبيد بوملحه، يمسك في كف يده منديل، أعتقد بأنه مليء بالمخاط وتفوح منه رائحة البول، خيط من اللعاب يسيل على قميصه تجمّع عليه الذباب بانتظام، والنمل أسفل جثته يدور بعشوائية. ضحكت: لن أكون مطيعاً ككلب، لن أحرق المسودة، وسأنشرها، ستسألونني عن الروائية طوط طوط طوط وأمها وشقيقتها والفتاة التي استوقفت بطل الرواية، لا أعلم عنهم أي شيء، أكملوا الرواية وحدكم؛ فلم أعد قادراً، ليساعد الرب روحي الفقيرة".
هنا نلمح ارتفاع نبرة السخرية إلى مداها الأقصى حينما يتبين لنا أن الروائي/ كاتب الرواية هو المؤلف عبيد بوملحة نفسه، وأن بطل الرواية والروائي/ المؤلف لا ينفصلان عن بعضهما البعض في كل ظروفهما السيكولوجية والاجتماعية.
ربما كانت رواية "طقوس للموت" للروائي الإماراتي عبيد بوملحة من الروايات التي تحتاج إلى قارئ متمرس على عملية القراءة، قادر على الصبر حتى نهاية العمل من دون تعجل في الحكم عليه أو الانصراف عنه، وإن كنا نستطيع الجزم أن الروائي هنا لم يشب سرده أي شكل من أشكال الإملال بقدر ما كانت أحداثه ومعلوماته شيقة تدعونا للتمسك بالرواية حتى الصفحة الأخيرة منها، مُدللا في ذلك على قدرته في التحكم بخيوط السرد، محاولا التجريب في الشكل الروائي بشكل محكم ومقدما تجربة روائية ناضجة تشير إلى وجود كتابة جديدة في الإمارات من الممكن لها المنافسة مع الكثيرين ممن يسودون المشهد الروائي العربي.





محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد نوفمبر 2018م