الاثنين، 16 مارس 2020

ميتتان لرجل واحد.. الموت كوجهة نظر

هل تخيل أحدنا يوما الموت بشكل ساخر أو هزلي؟ بمعنى هل من الممكن لنا التفكير في فعل الموت- الحقيقة الكبرى التي لا يمكن إنكارها- باعتباره فعلا هزليا يدعو للسخرية من تناقضات الحياة، وحقائقها، بل السخرية من الموت نفسه؟ وهل من الممكن أن يكون الموت- رغم أنه حقيقة- مجرد وجهة نظر تحتمل الكثير من التأويلات والتخييلات والتفسيرات المختلفة؛ الأمر الذي يحول هذه الحقيقة إلى فعل يحتمل النسبية والاحتمالية تبعا للمنطلق الذي ينطلق منه من ينظر إليه ومن ثم يصبح خاضعا لثقافة متأمله وبيئته الاجتماعية التي هي بالضرورة مختلفة من شخص لآخر؟
هذه التساؤلات والتأملات المختلفة كانت هي العمود الفقري والأساس الذي نشأت عليه رواية "ميتتان لرجل واحد" للروائي البرازيلي جورج أمادو؛ حيث الموت هنا لا يحتمل الحقيقة المطلقة، ولا يمكن أن يكون له وجه واحد، بل هناك وجوه متعددة للموت تختلف اختلافا بينا فيما بينها بشكل فيه من السخرية من الفعل نفسه ما يمكن أن ينفيه كلية فيحيله إلى مجرد توهم، أو شكل من أشكال الخيال التي يتخيلها كل شخص على حدة؛ وبالتالي يسحب منه هذا المفهوم قدسيته التي اكتسبها منذ القدم؛ فتصبح السخرية من فعل الموت أو حقيقة وجوده هي الفعل الراسخ الذي يستقر عليها من يتأملونه ويصبح مجرد حقيقة نسبية خاضعة لردود الأفعال والثقافات المتباينة، بل يصبح أداة قوية قادرة على تقويض ما استقر عليه العقل الجمعي من ثوابت ترى أن الحياة لا يمكن لها أن تستمر من دونها رغم أنها في حقيقة الأمر مجرد شكلانيات فارغة وتافهة لا تؤدي بمن يؤمنون بها إلا إلى حياة بائسة خالية من البهجة والصدق؛ فكأنهم موتى في شكل أحياء تسعى.
 إذن فالأشياء ليست بالضرورة كما تبدو. هذه هي الفكرة التي يحاول أمادو الارتكاز عليها منذ بداية روايته. مستغلا في ذلك غوصه في تأمل العالم السفلي للمدينة والمجتمع البرازيلي، هذا العالم الذي يكتسب وصفه- العالم السفلي- من المواضعات التي اتفق عليها المجتمع البرجوازي وأخلاقياته، والتي هي ليست بالضرورة أخلاقا مُطلقة لا يمكن الاختلاف عليها لمجرد أن المجتمع اتفق عليها؛ ففي المقابل هناك أخلاقيات أخرى مختلفة اتفق عليها هذا العالم الموصوف بهذا الوصف والتي تُعد بالنسبة لمن يحيون داخله حقيقة أخرى مُطلقة بالنسبة لهم في مواجهة هذا المجتمع، يحاولون التمسك بها وإحياءها باعتبارها تمنحهم من السعادة والحياة الطبيعية والتلقائية الصادقة ما لا يمكن أن يتأتى لهؤلاء الذين ينظرون إليهم بأنفة والكثير من الاحتقار.
تعتمد الرواية منذ بدايتها على حدث واحد هو موت "كينكاس هدير الماء" الرجل الأسطوري بالنسبة لمن يعيشون في العالم السفلي من مقامرين وسكيرين ومتشردين ولصوص وقتلة وقوادين وعاهرات، أو "جواكيم سواريس دا كونيا" رب الأسرة المحترم والموظف المثالي والزوج الدمث الأخلاق المطيع لزوجته الذي يحظى بمكانة اجتماعية يحسده عليها الجميع في المجتمع البرجوازي، صاحب الأخلاقيات البرجوازية والذي يتمرد فجأة على هذه الحياة الطويلة التي عاشها بهذا الشكل الجدي ليُحدث انقلابا غريبا في حياته ويفضل هجر هذه الحياة المستقرة والاختفاء منها؛ ومن ثم يتحول إلى "كينكاس هدير الماء" السكير العربيد الذي يحتقر مجتمعه القادم منه ويقدس حياة الليل مع القوادين والعاهرات والسكيرين والمُشردين، وحول هذا الموت للرجل ذي الشخصيتين المتناقضتين يعمل أمادو على بناء روايته التي تسخر من كل الحقائق الثابتة؛ لتحيلها إلى أمور نسبية لا يمكن لأحد أن يستقر عليها، وينجح في السخرية من كل ما يدور حولنا في حياتنا، لدرجة السخرية من مفهومي الموت والحياة في حد ذاتيهما.
هذه النسبية الي تغلف حياتنا جميعا نراها غير مرة على طول الرواية؛ فكل ذي ثقافة يرى نفسه يمتلك الحقيقة الكبرى؛ ومن ثم يحكم على الآخرين من خلال ثقافته، ولا يرى العالم إلا من خلالها، فحين تصل ابنته "فندا" إلى غرفته الحقيرة في الحي الفقير الذي كان يسكنه لترى جثته نقرأ من خلال وجهة نظرها وثقافتها: "كان ميتا عديم اللياقة، لا يمكن مقارنته بأي ميت آخر، مجرد جثة لمتشرد مات مصادفة بلا احترام ولا وقار. وكان يبتسم في وجهها بوقاحة ساخرا منها ومن "ليوناردو" دون شك، ومن سائر أفراد العائلة.. جثة جديرة بأن تُلقى على المشرحة وتؤخذ في سيارة الشرطة إلى طلبة كلية الطب لاستغلالها في الدروس التطبيقية قبل أن تُرمى في النهاية داخل حفرة تافهة بلا نعش ولا ضريح، ودون صليب ولا شاهدة. كانت تلك جثة "كينكاس هدير الماء"، السكير، الفاسق، المقامر، المنشق عن العائلة والهائم على وجهه بلا ملاذ، وهكذا كانت ملقاة بلا أكاليل زهور ولا صلوات. لم يكن ذلك "جواكيم سواريس دا كونيا" الموظف المستقيم في دائرة الضرائب الذي أُحيل على التقاعد بعد خمسة وعشرين عاما من التفاني في العمل والإخلاص له، والزوج النموذجي الذي كان الجميع يرفعون له القبعة تقديرا وإجلالا ويشدون على يديه. فكيف يمكن لرجل في الخمسين من العمر أن يهجر العائلة والبيت وعادات حياة بأكملها؟ أن يهجر معارفه القدامى ليتشرد في الشوارع ويسكر في الحانات الرخيصة، متهافتا على المومسات، سائب اللحية متسخا يعيش في حظيرة وينام على فراش بائس؟ إلى هذه اللحظة لم تجد "فندا" جوابا واحدا يقنعها بذلك"، فالابنة هنا غير قادرة على فهم موقفه الوجودي الذي ارتآه لائقا به وبحياته؛ ومن ثم اختاره برضى واقتناع، ولذلك فهي لا يمكن لها أن تقبل سلوكه أو تلتمس له أي شكل من أشكال الأعذار، وهي هنا تنطلق من منطلقها وثقافتها وبيئتها الخاصة التي نشأت فيها وتعيش عليها؛ فترى أباها مجرد آبق آثم، جالبا للعار له ولأسرته بسبب حياته التي اختارها بعد خمسين عاما من عمره.
لكن هل فكرت الابنة في الأسباب العميقة والحقيقية التي دفعت الأب/ هذا الرجل الوقور كما تقول إلى اختيار هذه الحياة وتفضيلها على العيش مع أسرته؟ لو كانت "فندا" قد فكرت بشكل أكثر عقلانية وتعاطفا مع الأب لكانت قد توصلت إلى العديد من الأمور التي دفعته إلى مثل هذا السلوك اللامبالي الساخر من نفسه وأسرته والمجتمع أيضا، ولعلنا نلحظ جذور بعض هذه الأسباب في: "رفعت "فندا" رأسها وجالت بنظرها الحازم بين الحضور وأمرت بذلك الصوت الذي ورثته عن "أوتاسيليا": هل تريدون شيئا؟ إن كنتم لا تريدون شيئا فبإمكانكم الانصراف". إن النظرة المتأملة لهذه الفقرة السابقة توضح لنا أن ثمة حزم وحدة في التعامل يميزان "فندا"، وهذه الخصال هي في الحقيقة خصال أمها "أوتاسيليا"، أي أن الزوجة/ الأم كانت تتعامل بهذه الطريقة مع الزوج باعتبارها زوجة مسيطرة على الزوج، وهذا ما يتأكد لدينا فيما بعد حينما تُصرح العمة بذلك: "لطمت العمة "ماروكاس" "فندا" التي كانت جالسة إلى جانبها لطمة على فخذها وكأنها تعتذر لها، ثم أردفت: وأمك يا صغيرتي، كانت متسلطة بعض الشيء. أذكر أنه فر بعيدا ذات يوم، وحين عاد قال: إنه يريد أن يكون حرا كعصفور. وفي الحقيقة كم كان ظريفا"، أي أن العائلة بالكامل كانت تلحظ تسلط الزوجة على "كينكاس" ومحاولة تحكمها فيه؛ الأمر الذي جعله راغب غير مرة في الهروب من سطوتها عليه والتخلص منها بامتلاك حريته التي لا يحاسبه عليها أحد. هذه الرغبة في التحرر من سلطوية الزوجة تتأكد لنا أيضا حينما نقرأ قول العم "ليوناردو": "رمقها "ليوناردو" بنظرة متوسلة، كان يعلم أنه لا فائدة في النقاش مع "فندا" وأنها تنتهي دائما بفرض وجهات نظرها وإرادتها، وكذلك كان شأن "أوتاسيليا" مع "جواكيم" حتى جاء اليوم الذي قال فيه لكل شيء: "إلى الجحيم" ثم هجر البيت".
إذن فتحكم الزوجة الصارم في حياة الزوج ورغبتها في السيطرة عليه وفرض وجهات نظرها ورغباتها عليه، كل ذلك كان من ضمن الأسباب العميقة في تمرده على هذه الحياة ومن ثم هجرها والتخلص منها؛ كي يحيا حياته بالشكل الحر الذي يرغبه. ولكن هل كانت هذه فقط هي الأسباب التي جعلته يترك هذه الحياة المستقرة، والأسرة، والمكانة الاجتماعية كي يحيا حياة التشرد والسكر، والعربدة؟
بالتأكيد لم تكن هذه هي الأسباب الوحيدة أو الجوهرية لمثل هذا الموقف الوجودي الذي اختاره "كينكاس هدير الماء" لوداع حياته السابقة والتخلص منها تماما، والسخرية منها بأقذع الألفاظ، بل كان هناك العديد من الأسباب الأخرى الأكثر جوهرية وراء هذا الموقف الحر، منها رفضه الحقيقي والكامل لزيف المجتمع من حوله ومحاولة ظهور الناس على غير حقيقتهم مراعاة للآخرين وآرائهم فيهم، ونظرتهم إليهم، أي أن قيد المجتمع الزائف كان سببا جوهريا لسلوكه الذي ارتآه مناسبا له كي يحيا حياته بشكل أكثر صدقا وعفوية من الآخرين الذين يراهم "كينكاس" مجرد موتى أحياء لا يستطيعون الاستمتاع بحياتهم وبالتالي يفقدون جماليات الاستمتاع بها.
هذا الزيف/ القيد الاجتماعي هو ما يحرك أفراد المجتمع على غير طبيعتهم الحقيقية فنرى ابنته "فندا" تفكر: "ينبغي أولا، استدعاء الطبيب الشرعي للحصول على شهادة الوفاة، ثم لف الجثمان في ملابس لائقة وأخذه إلى البيت ودفنه إلى جانب "أوتاسيليا"، في مأتم متواضع لا يكلف كثيرا، فالظروف صعبة هذه الأيام، ولكن عليها القيام باللازم لكي تتجنب الإحراج أمام الجيران والمعارف وزملاء "كينكاس"". إذن فالابنة هنا لا يعنيها سوى نظرة المجتمع إليها، ورغم أن الظروف المادية صعبة ولا تساعدها على ما ترغب في فعله إلا أنها تُصرّ على ما تريد فعله لمجرد أن "تتجنب الإحراج أمام الجيران والمعارف وزملاء "كينكاس""؛ فالنظرة الاجتماعية هنا تضحى أكثر قداسة من حياة الإنسان ذاتها وتمتعه بما يرغبه، ومن ثم يتحرك الإنسان وتصدر كل أفعاله انطلاقا من تقديس المجتمع والخوف من سطوته وليس انطلاقا من رغباته الشخصية الحرة؛ لذلك تفكر "فندا": "أما الآن فقد انتهى كل شيء، انتهت كوابيس السنوات الماضية وانتهت لطخة العار في تاريخ العائلة"، فالابنة هنا ليست حزينة على موت الأب بقدر سعادتها من التخلص من كابوس اجتماعي كان ينغص حياتها ويجعل المجتمع ينظر إليها نظرة غير لائقة؛ لذلك حينما تتخيل زوجها يخبر مديره بموت أبيها تقول: "راحت تتخيل "ليوناردو" وهو يروي، بإسهاب حادثة موت والدها المفاجئة، لمديره الذي سبق له أن تعرّف إلى "جواكيم" في تلك الأيام السعيدة، حين كان يعمل في دائرة الضرائب. "لكن من لم يعرفه؟ ومن لم يحترمه في تلك الأيام؟ وهل كان يمكن لأحدهم أن يتوقع له مثل هذا المصير؟" واستطردت مستسلمة لتخيلاتها: "من المؤكد أن "ليوناردو" يجتاز الآن لحظة عصيبة صعبة وهو يحاول أن يشرح لمديره بإسهاب سر الطريق الذي سلكه هذا الرجل العجوز الأخرق في آخر أيام حياته. والأسوأ من ذلك لو انتشر الخبر بين زملائه، فحينها ستبدأ النميمة في الانتقال من طاولة إلى أخرى وتمتلئ الأفواه بابتسامات الرياء والنكت الفاضحة والتعليقات السوداء".
إذن فالابنة هنا لا يعنيها موت الأب، ولا تشعر باتجاه هذا الحدث بأي إحساس من الحزن، بل هو شعور عميق بالراحة؛ لتخلصها من كابوس اجتماعي كان يثقل عليها يجعل الآخرين ينظرون إليها بسخرية نتيجة سلوك الأب، أي أن ما يعنيها في المقام الأول هو حالة النميمة التي ستنتشر بين الآخرين حينما يصلهم خبر الموت.
هذه الحالة من العبودية للمجتمع تجعل تصرفات الآخرين فيه مجرد تصرفات نفعية زائفة لا حقيقة ولا صدق فيها، بل هي في حقيقتها تصرفات مرائية لاكتساب رضى المجتمع المحيط بهم رغم أنها تقتل فيهم الحياة العفوية والصادقة فيضحون فعليا مجرد أحياء موتى لا يمكنهم أن يكتسبوا أنفسهم أو سعادتهم بالتصرف التلقائي تبعا لما يرغبون، ولعل هذه العبودية الحقيقية للمجتمع هي ما تدفع أفراده إلى الكثير من التناقضات التي لا يمكن أن تكون مقبولة اجتماعيا في جوهرها؛ لذلك نرى "فندا" الحريصة على نظرة ورد فعل المجتمع تتصرف تصرفا لا يمكن أن يكون لائقا اجتماعيا حينما تفكر بنبرة انتقامية فيها الكثير من التشفي: "أما "جواكيم سواريس دا كونيا" فسيعود وهو في كامل الاحترام للالتقاء بأهله من جديد، في رفاه منزل محترم. لقد حانت ساعة العودة ولم يعد في وسع "كينكاس" هذه المرة أن يضحك في وجه ابنته وصهره، أو أن يرسلهم لزراعة البطاطا، وأن يودعهم ساخرا ويرحل وهو يصفر. إنه الآن ممدد، بلا حراك ولا أنفاس، على فراشه البائس الحقير. نعم، لقد انتهى "كينكاس هدير الماء".
أليست هذه النظرة الشامته الانتقامية من "فندا"/ الابنة إلى أبيها تحمل في طياتها تصرفا اجتماعيا شائنا من ابنة تجاه أبيها؟ إنها تحتقره، وسعيدة في موقف موته؛ لأنه كان يسبب لها تحرجا اجتماعيا كبيرا، رغم أن فعلها الشامت لا يمكن أن يتقبله المجتمع نفسه، إذن فالعبودية لزيف المجتمع وشكلانياته لا تؤدي بعبيد هذا المجتمع في النهاية إلا إلى التناقضات التي لا يمكن أن يتقبلها الجميع، وبالانسياق لشكلانيات المجتمع يقع أفراده في المزيد من التناقضات غير المقبولة.
تفكر "فندا" أمام جثة أبيها: "أليس الغضب من الموتى خطيئة كبرى؟ فلماذا نحشو رؤوسنا بالأفكار السيئة عنهم، لا سيما إذا كان الميت أباك. حينها تمالكت "فندا" نفسها، إنها امرأة تقية، ترتاد كنيسة "النهاية السعيدة" بانتظام، تميل أكثر إلى الروحانيات، وتعتقد في تناسخ الأرواح. ومهما يكن من أمر، فإن ابتسامة "كينكاس" لم تعد تعني لها أي شيء، فهي الممسكة بزمام الأمور الآن، وعما قريب لن تبقى منه غير روحه التي ستُبعث ثانية متجسدة في الكائن الوديع والمواطن المسالم "جواكيم سواريس دا كونيا" المنزه عن كل خطأ"، ولكن رغم إقرارها بتدينها وأنها امرأة تقية صالحة لا يجب لها أن تغضب من جثة والدها إلا أننا نراها تشعر غير مرة بالسعادة من موته، وهذا ما يدفعها إلى التناقض مع معتقداتها الدينية بسبب سطوة المجتمع التي تجعلها خاضعة لها شاعرة نحوها بالكثير من الخشية فنقرأ: "لذلك فإنها تشعر بالسعادة الآن وهي تنظر إلى الجثة الساكنة في تابوت شبه فاخر، ببذلتها السوداء ويديها المتصالبتين على الصدر في حالة من الورع والندم، وحذائها الجديد اللامع تحت شعاع الشمعتين"، وهذا ما نراه أيضا في: "في هذه اللحظة الحميمة من الرضى العميق، والزهو بالانتصار، كانت "فندا" تشعر بالطيبة والسخاء، فأرادت أن تنسى السنوات العشر الماضية، كما لو أن رجال وكالة دفن الموتى قد طهروها بواسطة الخرقة المبللة بالماء والصابون، الخرقة نفسها التي استخدموها لتخليص جسد "كينكاس" من أوساخه. ولم تكن تريد أن تتذكر سوى أعوام طفولتها وشبابها وفترة خطبتها وزواجها، والطيف الوديع لـ"جواكيم سواريس دا كونيا"، شبه المختفي في كرسي من القماش غارقا في قراءة جريدته، لا يصحو من غيبوبته تلك إلا حين يأتيه صوت "أوتاسيليا" بلهجة تأنيب: "جواكيم"! فيتوقف عن القراءة ويهب واقفا".
ربما كانت كل هذه التناقضات داخل "فندا" أمام جثة أبيها، وهي التناقضات التي أدت إليها سطوة المجتمع وزيف شكلانياته التي لا طائل منها؛ مما يؤدي بالأشخاص إلى المزيد من السلوكيات غير الأخلاقية والتي لا يمكن أن يتقبلها المجتمع أيضا، هي السبب الرئيس في الانقلاب الذي حدث في حياة "كينكاس هدير الماء" الذي رغب في تخليص روحه من هذه القيود التي تشعره بالموت بدلا من الحياة، وتنفي عنه التلقائية والصدق في تصرفاته؛ الأمر الذي جعله يقول لها وللمجتمع: إلى الجحيم، فضلا عن سطوة زوجته ورغبتها في التحكم في حياته وهو ما نراه في الفقرة السابقة: "لا يصحو من غيبوبته تلك إلا حين يأتيه صوت "أوتاسيليا" بلهجة تأنيب: "جواكيم"! فيتوقف عن القراءة ويهب واقفا"، أي أن قيود المجتمع الزائف بالإضافة إلى سيطرة الزوجة كانا سببين جوهريين فيما سلكه من سلوك، ولعلنا نلاحظ في المقطع السابق تناقضا بينا لا يمكن قبوله بين مشاعر "فندا" تجاه أبيها وبين معتقداتها الكنسية التي ترى نفسها من خلالها امرأة تقية، ولنتأمل: "في هذه اللحظة الحميمة من الرضى العميق، والزهو بالانتصار، كانت "فندا" تشعر بالطيبة والسخاء"، فالابنة هنا تشعر بالرضى العميق، والانتصار على جثة أبيها بدلا من الشعور بالحزن أو الشفقة. إن تأمل جثة ميتة يدعو أي شخص صالح حتى لو لم تكن تربطه أي صلة بهذه الجثة إلى الشعور بالألم، أو الشفقة، أو الحزن، وليس الشعور بالرضى العميق، والزهو بالانتصار. كما أن الإحساس بالانتصار على جثة لا حول لها ولا قوة هو في حد ذاته فعلا لاأخلاقي لا يمكن قبوله لا اجتماعيا، ولا دينيا، وهنا نعود إلى التأكيد على أن السبب في هذه السلوكيات المرفوضة كان سببها المجتمع الذي تخشاه الابنة رغم زيفه.
إن الشكلانية التي لا يمكن أن تُفيد الإنسان في حياته الحرة والصادقة تجعله غير تلقائي في أي من أفعاله، راغبا دائما في أن يظهر على غير حقيقته؛ مما يؤدي بالمرء إلى أن يكون منافقا للجميع لمجرد أن ينظروا إليه نظرة احترام. هذا ما نراه في: "حسب إيضاحات العم "إدواردو" فإن التابوت هو الأكثر كلفة، وكذلك السيارات، أما إذا كان في موكب الجنازة حشد كثيف من المشيعين، فذلك يكلف ثروة! في هذه الأيام لم يعد بمقدورك حتى أن تموت! اشتروا بذلة جديدة سوداء من محل قريب من هناك، (لم يكن قماشها يساوي شيئا، ولكنه على حد عبارة "إدواردو" فاخر أكثر من اللازم ما دام سيصبح طعاما للديدان) كما اشتروا حذاء أسود، وقميصا أبيض، إضافة إلى ربطة عنق وجوربين. أما الملابس الداخلية فلا حاجة إليها"؛ فالبرغم من ضيق الظروف الاقتصادية التي تمر بها العائلة إلا أنهم يحرصون على التابوت، والسيارات، وموكب الجنازة، وغير ذلك من الشكل المظهري من أجل إرضاء نظرة المجتمع من حولهم، ولعل السخرية اللاذعة هنا تتبدى في: "أما الملابس الداخلية فلا حاجة إليها"! وهذا ما يؤكد ما ذهبنا إليه، فلقد تغاضوا عن الملابس الداخلية التي لن يراها أحد بينما اهتموا بالبذلة وربطة العنق، والحذاء اللامع، وغيرهم من الشكليات التي سيراها المجتمع، وهذا أيضا ما يجعل "فندا" تقول لنفسها في تأكيد صارخ ومقزز على شكلانية المجتمع وزيفه: "بهذه الذكرى الأخيرة وحدها أحست "فندا" بالتأثر الشديد، حتى أنها همت بالبكاء ولكن الغرفة كانت خالية للأسف، آه.. لو انتابها هذا الإحساس في الجنازة لكانت قادرة على سفح بعض الدموع أمام الناس كما يليق بابنة صالحة"!
بالتأكيد علامة التعجب من عندنا؛ فالابنة لا يعنيها الحزن على أبيها، ولا أن تذرف عليه الدموع إلا أمام الناس فقط كي تثبت لهم أنها ابنة صالحة، وفي هذا تأكيد على أن المجتمع يقتل في الجميع أرواحهم ليدعهم في نهاية الأمر مجرد أموات تسعى على قدمين.
هذا الزيف المتأصل في كل ما يحيطنا باسم المجتمع والأخلاقيات الزائفة، والوضع الاجتماعي، ونظرة الآخرين إلينا هو ما دفع "جواكيم سواريس دا كونيا" الرجل المستقر في حياته الاجتماعية والزوجية إلى الثورة على كل هذا الزيف وهجر هذه الحياة غير الحقيقية ومن ثم تحول إلى "كينكاس هدير الماء" الرجل السكير، المشرد، العربيد، اللاأخلاقي من وجهة نظر مجتمعه؛ ليكتسب حريته وتبدأ روحه في التحليق الحر، أي أنه رغب في ترك حياة الموتى المزيفين، والانطلاق إلى حياة الأحياء العفويين الصادقين من وجهة نظره؛ لذلك كان "كينكاس" ساخرا من كل شيء، ساخرا من نفسه، ومن الآخرين، ومن الحياة، ومن الموت نفسه، حتى أن هذه السخرية تظل معه حتى بعد موته، وهي السخرية التي تتعرض لانتقاد المجتمع أيضا رغم أن الرجل مجرد جثة لا حول لها ولا قوة، فيقول الطبيب الذي جاء لفحص الجثة: "انظروا كيف يضحك! ههه.. إنه يسخر منا بوجهه الخليع"، تعليقا منه على البسمة الساخرة المعلقة على وجهه رغم موته.
تبدأ الرواية ببائع التماثيل الدينية الذي يشيع موت "كينكاس هدير الماء" وينقل الخبر إلى عائلته، وهنا تبدأ الأسرة في التفكير فيه وكيف ستنقل جثته من الحي الفقير البائس الذي كان يحيا فيه ومحاولة إخفاء الفضيحة حتى لا يتناولهم الآخرون بالنميمة، ولعل خبر موت "كينكاس هدير الماء" كان من الأمور التي هزت المدينة بكل وجوهها المحافظ منها، والعالم السفلي أيضا؛ فإذا كانت الأسرة ومجتمعها المحافظ كانا قد تأثرا بموته نظرا للانقلاب الذي حدث في حياته مما جر عليهم الكثير من العار، وهز المجتمع بالنميمة المتواصلة عنه، فلقد كان تأثير هذا الخبر على العالم السفلي الذي عاش فيه أشد وقعا وصدمة حتى أنه كاد أن يتوقف تماما عن الحياة التي تعطلت بسببه: "في تلك الساعة كان خبر موت "كينكاس هدير الماء" المباغت ينتشر في شوارع مدينة "باهيا" بسرعة غير متوقعة. صحيح أن تجار السوق لم يغلقوا دكاكينهم تعبيرا عن الحداد. لكنهم رفعوا على الفور أسعار دمى الأطفال، وحقائب السعف، والمنحوتات الطينية التي كانوا يبيعونها للسياح وكأنهم يؤدون بذلك ضريبة للرجل الميت على طريقتهم الخاصة.. وعلى مقربة من السوق تشكلت تجمعات صاخبة تشبه الاجتماعات السياسية السريعة، والناس يتنقلون من مكان إلى آخر فيما الخبر يطير في الهواء، يستقل مصعد "لاسيردا"، ثم يسافر في الترامات إلى "كلسادا"، ويصعد في الحافلة إلى سوق "سنتانا". حالما بلغها الخبر، انفجرت "باولا"، تلك الزنجية الرشيقة، بالدموع أمام طبقها من حلوى "التابيوكا". فلن يأتيها "هدير الماء" في ذلك المساء إذن، لن يغمرها مرة أخرى بكلمات الغزل المنتقاة ببذاءة نادرة، ولن يحاول مجددا أن يقرصها من رمانتي صدرها الممتلئتين، ويقوم بحركاته المعتادة الماجنة التي تدفعها إلى الضحك".
في مقطع آخر نقرأ تأثير موت "هدير الماء على المدينة: "وفي المساء كان الظلام يهبط رويدا رويدا والحداد يلف بهيبته كل شيء، فسيطر الحزن العميق على الحانات والخمارات والدكاكين والمستودعات. وعلى كل مكان تُشرب فيه "الكشاسا". فلم يتناول أحد مشروبا إلا للتخفيف من حدة هذا الألم جراء الخسارة التي لا يمكن تعويضها، خسارة الرجل الذي كان أمير السكيرين، فلا أحد كان يجرؤ على مجاراته في ذلك، ومهما كانت كمية الكحول التي يلقي بها في جوفه، فإنه لم يفقد توازنه أو صفاء ذهنه أبدا، بل على العكس كان يزداد رصانة وتألقا ويغدو متوقد الذكاء".
إن موت "كينكاس هدير الماء" لم يكن مجرد حدث عادي من الممكن له أن يمر من دون أثر، بل كان حدثا استثنائيا لا بد أن تتوقف من أجله الحياة بالكامل، وهذا ما رغب أمادو أن يصوره لنا في روايته من خلال سرده، حتى أننا خُيل لنا أن الكرة الأرضية نفسها قد توقفت عن الدوران بسبب هذا الموت، أي أن أمادو يُحيل الحدث إلى حدث كوني؛ لذلك نقرأ: "لقد انتشر خبر موته في كل مكان، وبلغ البيوت الفقيرة التي تسكنها المومسات الرخيصات، ويرتادها المتشردون والمتحيلون والمهربون الصغار، وفيها يجد البحارة ملاذا دافئا وعائلة أليفة ويختلسون بعض الساعات الهاربة من الحب. في ذلك الوقت الضائع من الليل، بعد أن أغلق سوق الجنس الحزين أبوابه، وذهبت النساء المتعبات للبحث عن قليل من المواساة، وصل خبر موت "كينكاس هدير الماء" فعمّت الكآبة المكان وانهمرت أكثر دموع الحزن لوعة. كانت النساء يبكين وكأنهن فقدن قريبا، وأحسسن فجأة، بأن لا حول لهن ولا قوة في بؤسهن. بعضهن أحصيّن أموالهن وقررن أن يشترين للميت أجمل أزهار "باهيا". فيما كانت "كيتاريا جاحظة العينين" ممزقة القلب، مُحاطة بأشد دموع التعاطف من رفيقات البيت، وكانت أصوات عويلها تتتبع درجات شارع "ساو ميغيل""، إذن فكل مفردات الحياة كادت أن تتوقف لموت "كينكاس"، هذا الرجل الذي كان يحبه ويحترمه الجميع في كلا العالمين، ربما لصدقه الحقيقي مع نفسه، بل وبلغ الأمر إلى درجة توقف المومسات عن تقديم أجسادهن للزبائن حدادا على "كينكاس": "قبل أن يحل المساء ثانية تدحرجت "كيتاريا جاحظة العينين" من على كرسيها، فتم نقلها إلى سريرها لتنام مع ذكرياتها، فيما قررت النسوة ملازمة منازلهن، وإغلاق أجسادهن في وجوه الرجال تلك الليلة، حدادا على الفقيد، تماما كما كن يفعلن ليلة الخميس المقدس أو الجمعة المباركة!!".
يحرص هنا الروائي البرازيلي جورج أمادو من خلال سرده عن "كينكاس" على أسطرته والارتفاع به في نظر الجميع سواء كانوا ممن في العالم المحافظ، أو العالم السفلي باعتباره أسطورة عصية على الفهم، بل ويحاول التكريس لجعل خبر موته من الأمور الميتافيزيقية التي لا يمكن إدراكها عقليا؛ لذلك يبدو لنا الأمر أن "كينكاس" فعليا عصي على الموت، وأن خبر موته مجرد شائعة، ورغم رؤية البعض للرجل ميتا، إلا أن الآخرين يرونه حيا بفعل الابتسامة الساخرة المرتسمة على وجهه، بل نرى ابنته تسمع صوته يسخر منها ومن العائلة رغم أنه مجرد جثة أمامها، وحينما يأتي إليه أصدقاؤه المقربون لإلقاء النظرة الأخيرة عليه يبدأون في التعامل مع جثته باعتباره حيا يرزق تارة فيشربون معه الكحول، وباعتباره ميتا تارة أخرى فيبدأون في الاتفاق فيما بينهم على تقسيم إرثه لا سيما عشيقته المثيرة، بل ويستشيرونه في ذلك ليختار من بينهم أكثرهم أحقية في وراثتها منه: "كيف مات، إذن، فجأة في غرفة بائسة عند "منحدر طوباو"؟ كان حدثا لا يُصدق! لذلك حين بلغ الخبر أصحاب المراكب لم يأخذوه على محمل الجد، فكثيرا ما كان "هدير الماء" ينصب لهم شراك مكائده الخفية ويوقعهم فيها، وليست هذه هي المزحة الأولى التي يخدعهم بها جميعا".
الروائي البرازيلي جورج أمادو
إذن فموت "هدير الماء" لا يمكن أخذه على محمل الجد؛ فهو الرجل الكثير المزاح مع الجميع والذي يخدعهم دائما، بل سنرى هذه الحالة الأسطورية من حيث استحالة موته في عيني ابنته ذاتها: "في هذه اللحظات المتأرجحة بين العتمة والنور بدأت ملامح التعب تغزو وجه الميت. فاعتبرت "فندا" الأمر طبيعيا، ولم تتفاجأ، فقد قضى العشية كلها ضاحكا متمتما بأقذر الكلمات، هازئا منها.. وحتى عندما وصل "ليوناردو" والعم "إدواردو"، حوالي الخامسة بعد الظهر، فإنه لم يتنازل عن وقاحته تلك، ويركن إلى الراحة ولو قليلا، بل همس في وجه "ليوناردو": "يا له من غبي". ثم حوّل مدافع سخريته صوب "إدواردو". ولكن، عندما خيمت ظلال الشفق على المدينة، لاذ "كينكاس" بالسكون التام. كما لو أنه كان ينتظر شيئا وتأخر قليلا"، هنا، ومن خلال هذا المقطع السابق يتحول "هدير الماء" إلى أسطورة حقيقية عصية على الموت، فلا يوجد من يصدق موت هذا الرجل، بل هو حي قادر على السخرية الحقيقية من كل شيء، الموت، والحياة، والبشر، حتى السخرية من نفسه.
إن الارتفاع بـ"هدير الماء" إلى هذه الحالة الأسطورية العصية على الموت من وجهة نظر الجميع، يجعل الموت في حد ذاته- باعتباره حقيقة مطلقة- مجرد وجهة نظر تختلف من شخص لآخر وتبعا لثقافته وبيئته؛ فإذا كان بائع التماثيل الدينية على يقين حقيقي بموت "كينكاس" فهذه وجهة نظره هو التي لا بد أن يتحملها؛ لأن ثمة وجهة نظر أخرى من خلال عيني ابنته ترى أنه بالفعل ميت، لكنه قادر على السب والسخرية من الجميع، وهنا يتحول موته إلى حقيقة متأرجحة قابلة للشك أو اليقين، لكن وجهة النظر الثالثة وهي السائدة في المدينة بأكلمها تؤكد أن "كينكاس" ما زال حيا، ورغم أن جثته أمامهم تكاد تكون ميتة فعليا، إلا أن هذه الجثة تتصرف معهم العديد من التصرفات التي توحي لهم بأنه ما زال حيا يُرزق؛ وهو الأمر الذي يجعل الجميع يتعاملون معه باعتباره حيا؛ فيأخذونه للتنزه، ويسكرون معه بوضع زجاجة الخمر في فمه للشرب، ويستشيرونه في تقسيم إرثه، ويذهبون معه إلى البار حيث يشربون ويتشاجرون، ويذهبون إلى المركب في عرض البحر للعشاء مع الأصدقاء. هنا يتحول السرد أيضا إلى مجرد وجهات نظر متباينة ومختلفة، وبالتالي يكون على القارئ أن يختار وجهة النظر التي يميل إليها، فإما يعتبر "هدير الماء" ميتا، أو حيا، وللقارئ هنا مطلق الحرية في التعامل مع النص كيفما يحلو له بعدما أغرقه أمادو في حالة عميقة من التأرجح بين الشك واليقين: "جرعة جرعة وغدت آخر الزجاجات فارغة تماما، ثم أوقفوا "كينكاس" فعلق "المدهون": هو سكران إلى درجة أنه لا يستطيع الوقوف، فمع تقدمه في السن لم يعد قادرا على تحمل "الكشاسا". تعال يا أبي لنذهب من هنا. قال "المدهون" ممسكا بذراع "كينكاس"، وقد أعطاه "العريف" ساعده هو الآخر. وانطلق الموكب المهيب: "الطائر الجميل"، و"رشيق الحركة" في المقدمة، وخلفهما "كينكاس" في غاية السرور وهو يتقدم بخطى راقصة بين "الزنجي المدهون"، و"مارتان العريف""، هنا يتأكد لنا أن الجميع يراه حيا، ورغم أنهم جميعا على يقين بأن "هدير الماء" لا يمكن له أن يسكر مهما وضع في جوفه من كحول، إلا أنهم يحاولون هنا من خلال المقطع السابق التماس العذر له: "هو سكران إلى درجة أنه لا يستطيع الوقوف، فمع تقدمه في السن لم يعد قادرا على تحمل "الكشاسا"؛ إذن فكل شيء مع "هدير الماء" قابل للتأويل والاحتمالية، وإذا كان الرجل غير قادر على المشي وحده من دون إسناده من الجانبين، ورغم أنهم يجرونه جرا بينهم إلا أنهم يرون السبب في ذلك أنه قد بات سكرانا لدرجة عدم قدرته على المشي.
حقيقة كونه ما زال حيا تتجلى لنا من خلال سرد أمادو الذي يجعلنا كقراء نتشكك أيضا في موته حينما يكتب: "كان "كينكاس هدير الماء" في ذروة البهجة عابثا بكل شيء، فمرة يحاول أن يعرقل "العريف" و"المدهون" معا، ومرة يُخرج لسانه للمارة وكأنه يسخر من الناس جميعا، وأحيانا يميل برأسه على أحد الأبواب ليتجسس بخبث على عشيقين مُتلاشيين في الحب، ومع كل خطوة كان يعلن عن رغبته في التمدد على الشارع، فمشى الأصدقاء الخمسة على مهل وكأن الزمان مجرد خادم عندهم"، إذن فأمادو هنا يتلاعب بالقارئ من خلال سرده حينما يبدأ في الحديث عن "هدير الماء" باعتباره حيا يُرزق، ورغم أن كل هذه الإشارات والأفعال التي جاءت في الفقرة السابقة تدل على حياته، إلا أنها في نفس الوقت قد تدل على موته، ولنتأمل: "يحاول أن يعرقل، يُخرج لسانه للمارة، يميل برأسه على أحد الأبواب، يعلن عن رغبته في التمدد على الشارع". كل هذه الأفعال والإشارات تحتمل المعنيين معا، فإما أن يكون في ذروة السُكر فعليا، أو يكون مجرد جثة يظنها من معه من الأصدقاء ما زالت تحيا، ومن هنا تأتي مهارة السرد لدى أمادو الذي يتخير الأفعال والمفردات الدقيقة للتعبير عن الحالة التي يتحدث عنها في روايته، ومن ثم يوقع القارئ في نفس التباس شخصيات الرواية.
هنا يتأكد لنا أن أمادو يريد التأكيد على أن الموت يحمل العديد من الوجوه، وأنه مجرد وجهة نظر قابلة للتأويل، والتفسير، والكثير من التخيلات. هذا ما نراه حينما يتحدث صديقه "الطائر الجميل": "أيها الناس، لقد سرت إشاعة مفادها أن "هدير الماء" لقى حتفه، فخيم الحزن ولبس الجميع ملابس الحداد. وهنا تداخل الصوت بقهقهة "كينكاس" وأصدقائه، فصمت "الطائر الجميل" لحظة، ثم واصل: إذن، إنه هنا، أيها الناس.. اليوم عيد ميلاده، وها نحن نحتفل به، سنقيم وليمة في مركب صيد الكابتن "مانويل". وفي تلك اللحظة تحررت "كيتاريا جاحظة العينين" من ذراعي "دوراليس" و"مارغو السمينة"، وحاولت أن تتحرك في اتجاه "كينكاس" الجالس إلى جانب "المدهون" على إحدى درجات الكنيسة. ولكنها سرعان ما فقدت توازنها بسبب التأثر العميق في تلك اللحظة الخارقة، دون شك، ووقعت على مؤخرتها. فساعدوها في النهوض على الفور وقربوها منه: لص! كلب! سافل! ماذا فعلنا لك لكي تنشر هذه الإشاعة وتزرع في قلوبنا الرعب؟ وجلست إلى جانب "كينكاس" المبتسم، وأمسكت يده ووضعتها على صدرها القوي لكي يحس بنبض قلبها المذعور".
نلاحظ من خلال هذا المقطع السابق أن المدينة بالكامل تتعامل مع "هدير الماء" باعتباره حيا يرزق، لا يمكن له أن يموت؛ لذلك أخذ أصدقاؤه الثلاثة جثته إلى الخارج ليعيشوا معا عالم الليل، وليحتفلوا به بما أنه لم يغادر عالمهم بالفعل، وهنا تبدأ المدينة كلها في التحول إلى الفرح بعدما خيم عليها الحزن بسبب خبر موت "هدير الماء": "اتجهوا صوب بيت "كيتاريا" والقهقهات العالية تقطع أحاديثهم من حين إلى آخر، فيما عادت الضوضاء إلى الحانات مجددا وانبعثت الحياة على طول منحدر "ساو ميغيل"، وكانت "كيتاريا" في لباسها الأسود تفيض جمالا على كل من حولها، فلم يشتهوها من قبل مثلما اشتهوها تلك الليلة". إن تأثير "هدير الماء" على المدينة بأكلمها واضح من خلال السرد، سواء كان في العالم المحافظ الذي تحرك فعليا لموته بالنميمة، أو في العالم السفلي الذي توقفت فيه الحياة حين موته، ثم عادت الحياة لهديرها مرة أخرى حينما تأكدوا أنه ما زال حيا، هذه الحقيقة التي رغب السرد في تأكيدها في: ""كينكاس" وحبيبته "كيتاريا" فقط بقيا خارج الحلقة ولم يأكلا شيئا، بل اكتفيا بالاستلقاء في مؤخرة المركب، شبه منصتين إلى غناء "ماريا كلارا"، وكانت الجميلة "جاحظة العينين" توشوش في أذن "ذئب البحار العجوز" ببعض كلمات الحب والعتاب: لماذا سببت لي كل هذا الذعر يا "هدير" اللئيم؟".
يحاول جورج أمادو من خلال روايته السخرية من مفهوم الموت، والعادات الاجتماعية، والشكلانيات، وزيف الأخلاق مستخدما في ذلك خبر موت "هدير الماء"؛ لذلك يصبح السرد الروائي زاخرا بالسخرية والالتباس بين الواقع والحقيقة، فلا شيء من الممكن أن يفضي بنا إلى اليقين، صحيح أن القارئ يميل إلى موت "هدير الماء" لكن الأسلوب الساخر الذي يكتب به أمادو قد يجعلنا أحيانا نميل إلى حقيقة كونه حيا رغم معرفتنا أن أمادو يسخر من الفكرة في حد ذاتها، وهذا ما يجعله ينهي روايته بشكل أكثر سخرية وإن كانت تميل هذه المرة إلى اليقين، وكأنه رغب أن يقول لنا: إن شخصية مثل "هدير الماء" لا يمكن لها أن تموت موتا طبيعيا كما يموت باقي البشر؛ فبما أنه اختار حياته بعد الخمسين، فلا بد له أن يختار موته أيضا؛ لذلك نقرأ: "كان الكابتن "مانويل" ممسكا بالدفة والغليون في فمه.. ولكن لا أحد فهم كيف استطاع "كينكاس" النهوض على قدميه والاستناد إلى الشراع الصغير، "وكيتاريا" شاخصة فيه بعينيها العاشقتين غير قادرة على تحويل بصرها عن وجه البحار العجوز المبتسم للمياه وهي تغسل المركب، والبروق تضيء العتمة. كان الرجال والنساء متشبثين بالحبال، متعلقين بجوانب المركب، والريح تعصف والمركب الصغير يهدد بأن يغرق في أية لحظة"، ويظل الجميع في المركب يتأملون ما يفعله "هدير الماء" إلى أن يكتب أمادو: "في ذروة هيجان البحر، وفي قلب الخطر المحدق بالمركب المنهار، تحت وميض البرق، شاهدوا جميعا "كينكاس" يلقي بنفسه في البحر وسمعوا كلماته الأخيرة: على كل فرد أن يعتني بدفن نفسه، فلا وجود لمستحيل".
هنا يتحول "هدير الماء" إلى أسطورة حقيقية لا يمكن لها أن تُمحى من ذهن أي شخص عرفه، أو قرأ هذه الرواية التي تنتصر للحياة المنطلقة الصادقة ضد ما هو زائف يحاول التحلي بالأخلاقية رغم أنه غير ذلك؛ لذلك تنشأ عن "هدير الماء" الكثير من الحكايات الخالدة بعد موته: "أما كلمات "كينكاس" الأخيرة فما زالت الروايات مختلفة حولها إلى الآن. فمن كان يستطيع أن يستمع إليه مباشرة في تلك الليلة العاصفة؟ ولكن حسب رواية شاعر جوال، وهي الرواية التي راجت في السوق دون غيرها من الروايات، كانت اللحظات الأخيرة على هذا النحو: في خضم الاضطراب العميم سُمع "كينكاس" يقول: سأُدفن كما أشتهي، في الساعة التي أشتهي. يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن، لميتة جديدة، وميت جديد. أما أنا فلن أترك أحدا يحبسني في قبر أرضي رذيل. وكان من المستحيل معرفة بقية الكلمات".
رواية "ميتتان لرجل واحد" للروائي البرازيلي جورج أمادو رغم صغر حجمها إلا أنها رواية تحتمل الحديث عنها في آلاف الصفحات؛ حيث الانتصار للحياة والصدق، والسخرية من الموت والمجتمع والأخلاق والشكلانيات.



محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد مارس 2020م.