الجمعة، 17 ديسمبر 2021

رياح عائلة كشنوف.. محاولات جدية للسُخرية من العالم!

من البديهي وصف العملية الإبداعية باعتبارها إعادة صياغة العالم تبعا للمفهوم الذي يراه المُبدع في خياله، سواء جعل العالم من حوله أكثر بهجة، أم تشاؤما، أم حُزنا. جعله محبوبا، أم كريها. يدعو من خلاله للسخط، أم الرضى، أم السُخرية؛ فالعالم الإبداعي في حقيقته خاضع لسيكولوجية المُبدع، ومزاجيته، وثقافته، وخبراته الحياتية أو الخيالية، أي أنه، في نهاية الأمر، الخالق لهذا العالم، القادر على التحكم فيه، وتسييره كيفما شاء من خلال آلياته الفنية التي يبتكرها من أجل إقناعنا في نهاية الأمر بما يقوم به في عملية خلقه الفريدة التي تختلف من كاتب لآخر؛ ومن ثم فعلينا تلقي هذا العالم الذي صنعه من خلال آلياته الفنية التي نجح فيها، أو أخفق، ومن هنا يأتي دور النقد الذي لا يمكن له الموافقة على عالم الكاتب أو رفضه- لأنه لا يعنيه بالضرورة- بل يعنيه في المقام الأول أدواته الفنية التي استطاع من خلالها المُبدع صياغة عالمه، وهل أقنعنا في ذلك أم فشل فيه.

إذن فالمُبدع يقوم بتقديم عالمه تبعا للصورة المُنعكسة داخله، وكيفما يراها هو تبعا لخبراته وحالته النفسية والفكرية، ومن هنا تأتي أهمية الخلق الإبداعي الذي يجعله يرى العالم وفقا لرؤيته، وليس وفقا لما يراه الآخرون، وبالتالي يبدو لنا، في النهاية، الموقف الحياتي الذي قد يراه الآخرون مُغرقا في العادية والاعتيادية، مُختلفا لدى الكاتب الذي قد يراه شديد الحيوية أو الاختلاف، أو مُثيرا للدهشة، أو السُخرية، أو في حاجة ماسة للتأمل. هنا يأتي المعنى الحقيقي للإبداع الذي يجعل من العادي غير عادي، ومن الشيء المُمل أمرا حيويا زاخرا بالطاقة التي لا يراها أو يشعر بها غيره من الأناس العاديين.

من خلال هذا المفهوم، الأقرب إلى تعريف الإبداع، يدخل القاص الأردني بيدر جهاد عالمه القصصي الفريد الذي نُلاحظ من خلاله سُخريته من العالم في مجموعته القصصية "رياح عائلة كشنوف"؛ فهو يتأمله عن كثب، يحاول الامتلاء به وهضمه، ثم يعيد إنتاجه مرة أخرى من خلال رؤيته الخاصة التي تسخر من كل شيء مهما كان جديا، أو مأساويا، أو حتى غير قابل للسُخرية التي يتخذها نهجا في تأمل العالم من حوله- ربما كي يستطيع تقبله، ويكتسب المقدرة على التعاطي مع جهامته!

علنا نُلاحظ من خلال الجملة التي صدر بها القاص مجموعته ما يُدلل لنا على ما سبق أن ذهبنا إليه، وهو ما يؤكد أن الكاتب، هنا، مُدرك إدراكا جيدا لما يفعله، ويشق طريقه في العملية الإبداعية بوعي؛ ومن ثم تصبح سُخريته، هنا، آلية فنية ارتأى القاص أنها الأكثر مُناسبة مع ما يقدمه لنا، ولنقرأ: "الكتابة هاجس إنساني، يبحث في العام عن الخاص".

ألا تُدلل هذه الجملة التصديرية على ما سبق أن ذهبنا إليه حينما أكدنا بأن المُبدع إنما يُعيد صياغة العالم- العام- من خلال ذاته، وثقافته، وسيكولوجيته- الخاص- وبالتالي فهو ينتهج من خلال هذه الصياغة الجديدة نهجا يخصه، ويراه هو الأنسب لإبداعه ألا وهو السُخرية التي سنراها على طول صفحات المجموعة؟

في قصته "موسيقى صافيناز هانم" يتبدى لنا مُنذ المقطع الأول أسلوبيته الموغلة في السُخرية من كل شيء، وهي أسلوبية تبدو لنا مشوقة، مُبهجة، مُثيرة للدهشة في حديثه عن الأشياء رغم جديتها حينما نقرأ في مُفتتح القصة: "يا إلهي! هذا لا ينتهي، من الواضح أن لا مناص من الاستماع لموسيقى السيدة صافيناز هانم كل يوم، والتي تفقدني القدرة على قراءة صفحتي المُفضلة، في هذه الصحيفة الهزيلة، التي لا تهمني، والتي تكاد لا تخلو صفحة منها من صور رئيس البلدية السمين، صاحب المُؤخرة الكبيرة، وسيارته الكاديلاك الجميلة هذه، هل قلت جميلة! أجل جميلة، والسبب، أنه كان بعيدا عندما تم صُنعها، ولم يُشارك إلا في ركوبها، أحمد الله أن رئيس البلدية لا يصنع السيارات أيضا، على الأقل حتى هذه اللحظة".

في الاقتباس السابق تتأكد لنا سُخريته؛ فموسيقى السيدة صافيناز هانم تفقده المقدرة على قراءة صحيفته المُفضلة، لكن رغم تفضيله لهذه الصحيفة نُلاحظ أنه يصفها بأنها صحيفة هزيلة، بل ولا تهمه أيضا! إن السُخرية هنا تحمل في باطنها الكثير من اللامبالاة، والتعامل مع الأشياء بسأم، وكأنه غير راغب في التعامل مع هذا العالم! لكن مع تتبع المشهد الذي رسمه في هذا الاقتباس سنراه يمعن في التهكم من كل شيء؛ فالصحيفة المُهتم بتصفحها والتي تعوقه موسيقى السيدة صافيناز هانم عن قراءتها ليس فيها أي شيء يهمه، بل يرى فيها دائما ما يثيره، أو يمقته وهو صور رئيس البلدية السمين الذي يسخر من مُؤخرته الكبيرة في دلالة منه على أنه لا يفعل أي شيء سوى الجلوس على كرسيه ومُمارسة الفساد؛ لذلك فسيارته جميلة، لكنها جميلة، فقط، لأن رئيس البلدية لم يُشارك من قبل في صناعة السيارات، أي أنه إذا ما شارك في ذلك ستتحول السيارة إلى سيارة مُنفرة له؛ لأن رئيس البلدية الفاسد سيكسبها، بالضرورة، من صفاته الفاسدة والقبيحة!

إذن، فالقاص يعي جيدا ما يفعله، ويمارس سُخريته حتى مداها الأقصى والمُتاح له حتى أنه يكاد أن يسخر من حاله أيضا في: "لقد عزمت أمري، سأذهب غدا صباحا لأصرخ في وجهها، لا نريد سماع موسيقاك من اليوم فصاعدا، يمكنك السماع وحدك، لا تشاركينا ميول أذنيك العفنة، لا، لا، أعتقد أنها ستقول لي كما تقول لجاري الغريب مُدمن الكلمات المُتقاطعة، بأنها هي من تمتلك المبنى، وبالتالي فإن لها الحق في أن تفعل ما تريد، وستشير بإصبعها العجوز، قائلة: بإمكانك الرحيل الآن لو أحببت. وفي النهاية ستذكرني بأنه قد تبقى ثلاثة أيام على آخر مُهلة منحتني إياها لدفع الإيجار، حسنا سأكتفي بلعنها من هنا بصوت خافت، خوفا من إزعاج الجيران، كما تفعل هي، كما أني كدت أنسى، بأنني وحدي من يسكن فوقها تماما، وهي دائما ما تكون تحت أقدامي، حتى وإن حدث زلزال وانهار المبنى كله سأكون أنا من يسقط فوقها"!

هنا يتبين لنا أن القاص يوغل في سُخريته حتى أنه يكاد أن يسخر من نفسه؛ ومن ثم يمتنع عما انتواه في مواجهتها بالرفض حينما يتذكر أنه مُتأخر في دفع الإيجار؛ فينتقم منها بينه وبين نفسه بلعنها في مكانه بصوت خافت؛ حرصا منه على عدم إزعاج الجيران مثلما تفعل هي معهم، ولعل السُخرية الأكثر حيوية وفكاهة حينما يتخيل أنه إذا ما حدث زلزال فسوف يسقط فوقها بما أنه يقطن في الأعلى، وفي هذا السقوط المُتخيل فوقها شيء من الانتقام بسبب غضبه من موسيقاها التي تُثير بها الضجيج كل يوم.

يتناول القاص في قصته أزمة الضجيج الذي تُحدثه السيدة صافيناز هانم يوميا بموسيقاها التي تُزعج جميع سُكان المبنى، لكنهم غير قادرين على مواجهتها باعتبارها مالكة له؛ لذلك يلتزم الجميع الصمت إلى أن يشعر السارد داخل القصة بأنه لا بد له من مواجهتها الفعلية؛ لذلك حينما يأتي الصباح يجمع الجيران جميعا لمواجهتها، ويأخذون معهم البواب الذي يمتلك نسخة من مفتاح كل شقة في البناية. يحاول الجيران مُناداتها لكنها لا تفتح لهم الباب، يدقون عليها، إلا أنها تتجاهلهم، يطلبون من البواب فتح باب شقتها فيمتثل لهم، لكننا نُفاجأ بما يرونه حينما يتم فتح باب شقتها: "عندما يفتح الباب، يهرع الجميع إلى الداخل بفوضى متوقعة. يتقدمهم إرشا الذي يتجه بسرعة إلى الصالة ليجد قالب حلوى يبدو عليه التيبس والعفن، تعلوه شمعة ورقم 80. من الواضح أنها لم تأكل منه ولو قضمة واحدة، وكأنه أُعد للتو، زجاجتان من النبيذ الفاخر، أكواب، مقاعد وطاولة كبيرة، تتوسطها السيدة صافيناز هانم التي يبدو أنها كانت تتوقع زيارة، وتنتظر أحدا ما. تبتسم للجميع. تُشغل الموسيقى بصعوبة، وتقول مُفاااجأة. قبل أن تموت مكانها"!

إن المقطع الذي أغلق به القاص قصته يمتلك فيه الكثير من الفنية التي توحي لنا بمقدرته على التحكم في سرده القصصي؛ وهو حريص من خلاله على كسر توقع القارئ؛ لأن وصفه للمشهد بمُجرد فتحهم للباب يوحي لنا بأنها بالفعل قد ماتت حينما يصف قالب الحلوى المتيبس العفن، والرقم 80، وزجاجات النبيذ وغير ذلك مما وقع عليه نظر الجميع، لكن القاص في حقيقة الأمر كان يتلاعب بأفق التوقع الذي سيصل إليه قارئه؛ ومن ثم كشف لنا أن السيدة صافيناز هانم تجلس وسط كل هذا متوقعة قدوم أحد ما، فتبتسم لتقول كلمتها الأخيرة ثم تموت. أي أن السيدة صافيناز كانت تقوم بإحداث كل هذا الضجيج اليومي الذي أزعج جميع سُكان البناية بسبب شعورها العارم بالوحدة؛ ومن ثم فلقد رأت أنها إذا ما قامت بهذا الضجيج لا بد سيصعد إليها أحد السُكان من أجل الشكوى، وهو الأمر الذي ترغبه، أي أنها راغبة فيمن يشاركها وحدتها القاسية التي جعلتها تنتظر كل هذا الانتظار حتى تعفن قالب الحلوى من أجل الاحتفال بعيد ميلادها الذي لم يهتم به أحد، لكنها حينما صعد إليها الجميع وكأنهم سيحتفلون بها لفظت أنفاسها الأخيرة في اللحظة التي تحققت فيها أمنيتها التي انتظرتها كثيرا ولم تتحقق!

يمتلك القاص، هنا، الكثير من المهارة السردية التي جعلته يستطيع التعبير عن الأزمة الوجودية والشعور بالوحدة القاسية لدى السيدة صافيناز، وهي الأزمة التي جعلتها تُزعج الجميع من أجل الشعور بالمُؤانسة حينما يصعدون إليها ومن ثم تستطيع الاحتفال بعيد ميلادها معهم، كما أن الأسلوب الساخر الذي اتبعه القاص في تناول هذه الأزمة الإنسانية القاسية يُدلل على أن السارد إنما يتناول العالم من خلال وجهة نظره المُتهكمة من كل شيء مهما كان قاسيا أو مُحزنا؛ فهو يعيد إنتاج العالم وصياغته وفقا لما يراه هو مهما كانت جهامة ما يتحدث عنه.

في قصة "مُمتلئ بالفراغ" يتأمل السارد الذات الإنسانية وخرابها المُعتمل فيها، وهو هنا لا يتأمل ذوات غيره من الآخرين، بل يحرص على تأمل ذاته، وحده، وخرابها الذي يشعره لكنه لا يستطيع التعامل معه حتى لكأنما هذه الذات قد انفصلت عنه وبات شخصين يتصارعان معا؛ فتنتصر عليه الذات الخربة في النهاية!

يتحدث السارد، هنا، عن هذه الذات مُستخدما نفس الآلية الساخرة من كل شيء؛ ومن ثم فهو يسخر طوال القصة من نفسه، يتضح ذلك في: "عقلي مُمتلئ، الورقة فارغة، ولا أعرف ماذا سأكتب لك. أحب التجربة، تجربة كل شيء. أريد أن أكون زانية، وديوثا حقيرا مُقرفا يدخن سيجارة بعد كل شيء، فارغا، يضحك كثيرا بلا سبب. متسولا يتعرقل بالرصيف ليصطدم برجل رأسمالي يلبس بدلة ثمينة ولامعة، كان يشرب قهوته قبل أن تنسكب عليه وتُفسد حلته التي ستمنعه من عقد صفقة مليونية يعدها غير ناجحة ولو مُؤقتا، ليركله ويبصق عليه وهو يقول: خنزير، حذائي القديم ينفع أكثر منك. ليرد عليه بعد أن تكور على نفسه: ابصق عليّ مرتين، أرجوك، أنا أستحق ذلك سيدي. لكنه يذهب تاركا إياه، يحاول توقع من أي جهة سوف تأتيه البركة التي يسعد بها، ضرير يصطدم بعامود ويبول في المطبخ وغرفة النوم أكثر من مرة. جلاد طويل، لا يتعب ويحب عمله. أم عاهرة تفكر في ابنها أكثر من الذين ينامون معها في السرير كل نصف ساعة"!

بيدر جهاد

إن هذا المقطع القصصي الذي بدأ به بيدر جهاد قصته زاخر بالفراغ والخراب اللذين يمتلئ بهما السارد، وهو، هنا، يسرد إدراكه لهذه الذات الخربة بأسلوبية لا تخلو من السُخرية التي يتميز بها. هذه السُخرية التي تكاد أن تقترب به من تخوم المازوخية المرضية حينما يتخيل نفسه يصطدم بأحد الأثرياء، ويطلب منه المزيد من الإهانة له! إن هذه الرغبة المازوخية تحمل في داخلها الكثير من الاحتقار للذات؛ لذلك لا بد من إهانتها من قبل الآخرين، كما أن اعترافه بمثل هذه الأسلوبية عما يعتمل بداخله، وما يشعره تجاه ذاته يحمل في داخله قدرا من الرغبة التطهرية حينما يعترف بنقائصه ورغباته المُخجلة إلى حد بعيد حينما يتعرى أمام الآخرين؛ فهو يرغب في أن يكون امرأة زانية، وديوثا حقيرا مُقرفا، ومتسولا مازوخيا، وضريرا، وأم عاهرة تفكر في مُضاجعة ابنها أكثر من مُضاجعة زبائنها!

مثل هذه الشخصية التي تحمل داخلها كل هذه الرغبات المُتناقضة والمريضة- والتي يدركها السارد جيدا في نفسه- هي شخصية تحمل في داخلها جحيما حقيقيا- بسبب إدراكه ووعيه برغباتها- كما أن ما يدركه، في حقيقته، غير قابل للسُخرية، لكنه لا يتحفظ في اعترافه من فعل ذلك ربما كشكل من أشكال التطهر مما يعانيه.

يظل السارد- داخل القصة- يُعدد رغباته التي لا بد أنها ستبدو للآخرين مُجرد رغبات شاذة لشخص مريض، فيقول: "سأحب أن أعيش يوما كحذاء، لو سألتني، كما إني لا أمانع أن أكون ملابس داخلية لعارضة أزياء بارعة الجمال، ثلاثة أيام كاملة. أي شيء آخر، عدا كوني أنا، لقد مللت من كوني نفسي أربعين عاما، أُوقظها، أُغني لها لتغفو وتنام، وأغسلها، وأستر عوراتها، أعتني بها كدجاجة لا تعلم لماذا تركد على البيض، لكنها لا تغادره البتة قبل أن يفقس"!

في هذا الاقتباس يذهب القاص بسارده إلى أقصى رغباته المازوخية والرافضة لذاته؛ فهو يتدنى في هذه الرغبات ليكون مُجرد حذاء في قدم أحدهم، أو مُجرد ملابس داخلية لامرأة جميلة، وكي يمعن في سخريته يُحدد المدة بثلاثة أيام فقط! إن السارد هنا يشعر بالملل الشديد من ذاته، لا يرغبها، يشعر تجاهها بالكثير من المقت والكراهية؛ لذلك تتملكه هذه الرغبات المريضة تجاهها، بل ومحاولة إنكارها ورفضها، وربما بسبب هذه المشاعر المُتناقضة تجاه نفسه يدور في داخله صراع لا نهاية له ليصفها بالكثير من الصفات المُتدنية: "إنها بشعة، أنانية، بل الأكثر أنانية، لئيمة، حسودة، تكره الجميع. عندما سمعتها تبوح بكلمات تشبه الحُب، استرقت النظر، لأرى أنها أحبت الخراب، تعشقه، لا تميل لأحد سواه"!

إذن، فإدراكه الواعي لهذه الذات يجعله حريصا على توصيفها بدقة؛ وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعله يدخل معها في صراع جامح مضمونه الرفض لها: "ها أنا اليوم أعريها لك تماما، إنها تسمعني الآن وتضحك، لا أدري لماذا، لكنها تضحك وتضحك، صوتها يرتفع، تصرخ بالضحك، أعتقد أنها تريد إسماعك، كم هي وقحة! أعتقد بأنها أول من قام بفعل وقح، لا شيء يوقفها، هل تسمعها؟ انتبه جيدا هنا (يشير إلى أسفل بطنه) هه، لا تسمع، مُستحيل ألا تسمع كل هذا الضجيج والخراب، لا أصدقك. حسنا، أعتقد بأنني سأملأ الورقة وأكتب لك: أنت أيضا مُتآمر معها"!

إن المقطع الختامي للقصة الذي حرص عليه القاص يُدلل على أنه في حقيقة أمره لا يتحدث إلى أحد، بل هو يحدث ذاته أيضا، ويعترف لها بما يكنه من مشاعر سخط، وغضب تجاه نفسه، أي أن السارد هنا قد وقع في حالة هذيانية، تطهرية جعلته في حالة فصامية؛ ومن ثم انقسمت ذاته إلى العديد من الأشخاص المُتصارعين مع بعضهم البعض- الذات المريضة التي تصارعه برغباتها ككيان، ثم حامل الذات/ هو نفسه ككيان ثان، ثم الشخص المُستمع لما يرويه- ولا يمكن إنكار أن القاص هنا قد نجح أيما نجاح في التعبير عن هذه الحالة الفصامية التي يتحدث عنها بشيء غير قليل من السُخرية رغم مُعاناة الشخصية القصصية.

في قصة "كرسي خشبي قديم" يحرص الكاتب على أنسنة الموجودات، إكسابها الروح، جعلها تتنفس، وتتكلم، وتتحرك. تحب، وتكره، وتشعر بالغيرة، والغضب، والفرح، أي أنه يُكسب الأشياء مسحتها الإنسانية للدرجة التي لا بد لها أن توحي للقارئ بأنها إنسانية بحتة وليست مُجرد جمادات أكسبها كاتبها شيئا من الروح الإنسانية.

يحاول القاص في هذه القصة اتباع نفس الأسلوب السردي الذي اتبعه في القصة السابقة، وهو أسلوبية الاعتراف، أو الحكي لشخص ما يرغب في الإفضاء إليه بما يكنه داخله؛ لذلك يبدأ سرده بقوله: "سأعيد سرد القصة عليك وكأنها المرة الأولى، حتى في حماسها الذي لا أفتعله، تماما، كما يرسم وجهك بريشته القديمة الصدئة تلك الملامح عليه. أنا نفسي لا أعلم كيف دخلت، كل ما أتذكره، أني وجدت نفسي في هذا المكان، حتى بت أشك بأنني خُلقت هنا، شعري مُبلل، وجدت مرآة نظرت فيها، واستغربت هيئتي؛ مما أضحكني، أجل ضحكت. كنت أشبه كثيرا نفسي، أنا تماما ما تعكسه تلك الحقيرة".

ربما نُلاحظ هنا أن ثمة شخص ما يحكي عن نفسه، ومُعاناته، أو حيرته في اكتشافه بأنه في مكان ما؛ لذلك يستمر في الحكي لشخص ما يستمع إليه؛ فيتحدث عن سرير، ومرآة، ونافذة، وقصة خيانة لا نعرف عنها شيئا، لكنها تثير الكثير من غضبه وغيرته لأنها تخصه، ورغم أن الشخص الذي يستمع إليه لا يشاركه الحديث، أو لا يرد على تساؤلاته التي يوجهها إليه إلا أنه يظنه مُتآمرا عليه؛ لذا نقرأ في خاتمة قصته: "بعد صمت للحظات يلاحظ عليه التركيز، وكأنه ينصت إلى شيء ما، قبل أن ينتفض فجأة وهو يقول: ها هي، سمعتك تقولها مرة أخرى. أجل سمعتها، حتى أنت. يستنكر بألم. لا عليك، لن ألومك، أنت لا علاقة لك، فلست وحدك من يراني مجنونا وكاذبا لا أتعدى كوني مُجرد كرسي خشبي قديم"!

إن حرص القاص على إكساب الأشياء حياتها يتضح لنا في الفقرة الأخيرة من قصته، وهي الفقرة الختامية التي من المُمكن لنا أن نُطلق عليه توصيف "حُسن التخلص"، أي لحظة المُكاشفة التي يفضي فيها القاص للقارئ بحقيقة ما كان يقصده؛ ومن ثم ستتصاعد دهشتنا عند جملة الختام حينما نكتشف أن السارد في القصة- وهو السارد الذي يشعر بالخيانة، والغيرة، والغضب، والفرح، والدهشة، والذي تعاطفنا معه- لم يكن سوى مُجرد كرسي خشبي قديم يشعر بالغيرة من خيانة المرآة له مع السرير الموجود في أحد جوانب الغرفة بينما تتجاهله بقية الأشياء وكأنه غير موجود! أي أن القاص هنا مارس العملية القصصية باعتبارها لعبة يشعر بالمُتعة في نسجها، وإيهام القارئ بها إلى أن يصل إلى لحظة الكشف الأخيرة التي يكاد أن يسخر فيها من القارئ نفسه بعدما أوهمه أن ثمة شخص يحكي، وثمة خيانة يشعر بالألم بسببها.

هل ثمة من يتذكر قصة "موت موظف" للروائي الروسي أنطون تشيكوف؟ تلك القصة التي شعر فيها كريبيكوف/ الموظف البسيط بالكثير من تأنيب الضمير لأنه ذات ليلة في الأوبرا عطس عطسة لاإرادية، وفوجئ أن رذاذه قد جاء على قفا من أمامه ليكتشف أن الجالس أمامه هو الجنرال شيريستالوف. حاول كريبيكوف غير مرة الاعتذار للجنرال الذي لم يهتم بالأمر، ولم يشعر بأي استياء، لكن الموظف ظل يؤنب نفسه بأنه قد أساء للجنرال من دون أن يقصد؛ حتى أنه حينما عاد إلى بيته ليخبر زوجته بما حدث تلقت الأمر بلامبالاة، إلا أن كريبيكوف اتخذ قراره بالذهاب إلى الجنرال في اليوم التالي ليكرر عليه اعتذاره؛ مما أشعر الجنرال بالاستياء؛ لأن الأمر لا يستدعي ذلك، كما أنه قد نسيه، لكن كريبيكوف الموظف المثالي الذي يشعر بالكثير من الذنب ذهب إليه مرة أخرى في اليوم التالي محاولا الاعتذار؛ الأمر الذي جعل الجنرال يشعر بالكثير من الغضب منه ويطرده، ليعود الموظف إلى بيته، ويغير ملابسه ويموت كمدا؛ لأنه يشعر بالكثير من الذنب للإساءة غير المقصودة للجنرال، وظنه بأن الجنرال غير راغب في قبول اعتذاره.

ربما حرصنا على التذكير بقصة تشيكوف للتشابه الكبير بينها وبين قصة "رياح عائلة كشنوف" للقاص بيدر جهاد، لكن ليس معنى قولنا بأن ثمة تشابه بين القصتين بأنه القاص الأردني هنا قد أخذ من الروائي الروسي، أو سطا على قصته، بل نحن نقصد بأن ثمة روح واحدة تربط بين القصتين، وهي روح السُخرية، والشعور بالذنب الشديد من فعل إنساني بسيط لا يمكن أن نلوم أنفسنا عليه؛ لأنه يحدث للجميع، كما أننا لا ندعي أيضا بأن بيدر جهاد قد قرأ تشيكوف، فربما هو لم يقرأه من قبل، أو حتى لم يسمع عنه، لكن ثمة روح قوية تربط السرد التشيكوفي السابق بقصة القاص الأردني هنا، ولعل هذا الرابط يعود إلى استخدام بيدر جهاد طابع السرد التسجيلي/ التقريري، ولجوئه إلى الأسماء الروسية، والبيئة الاجتماعية الروسية- في مُعظم قصص المجموعة- وفكرة الشعور بالذنب من مُجرد فعل بسيط وتلقائي لا يستدعي كل هذا الأمر.

يتحدث القاص في قصة "رياح عائلة كشنوف" عن فلاديمير الذي يعود إلى بيته بينما يشعر بالكثير من القلق والخوف الشديدين؛ حتى أنه يكون غير قادر على وضع المفتاح في باب البيت من أجل الدخول إلى أن يفتح له أبوه السيد كشنوف. يلاحظ الأب الخشية الشديدة التي يشعر بها ابنه، ويسأله عن الأمر مُنزعجا بينما تتجمع العائلة أمامه؛ فنرى أخته نتاليا التي تحب الرسم، وأخاه التوأم نيكولا، وأمه. تحيطه العائلة مُنزعجة راغبة في معرفة ما الذي أصاب ابنهم في الخارج كي يشعر بكل هذا الهلع؛ فيروي لهم بأنه كان قد ذهب إلى البلدية من أجل إصدار بطاقة هوية جديدة له، وأنهم قد أخبروه أن البطاقة ستصدر في خلال نصف الساعة، لكنه أثناء انتظاره شعر بأن مُؤخرته قد ثقلت عليه لرغبته في التبرز؛ الأمر الذي جعله يحاول التماسك من أجل انتظار صدور هويته، لكنه أثناء مرور موكب رئيس البلدية لم يستطع منع نفسه من إطلاق الريح مرتين؛ الأمر الذي أشعره بكل هذا الهلع الذي يشعر به، حتى أنه ينتظر إلقاء القبض عليه في أي وقت وهو بين عائلته كعقاب له على إساءة أدبه وأطلاق الريح في موكب رئيس البلدية، فضلا عن شعوره بالحقارة وإساءة الأدب!

أنطون تشيخوف

ربما كان البون بين القصتين شاسعا، لكن الروح القصصية، والمعنى الذي تؤدي إليه كل منهما مُتشابهين، وهو ما جعلنا نتذكر قصة تشيكوف السابقة، كما لا يفوتنا بأن القاص الأردني هنا لم يتخل عن سُخريته السردية من كل شيء، ولعلنا نلاحظ ذلك، مثلا، في قوله: "اليوم، أنا فلاديمير كشنوف، كنت ذاهبا لإصدار هوية لي كما تعلمون. يصمت ويغمض عينيه، هزة قوية من السيد كشنوف.: فلاديمير، بني. يا إلهي! هل وصلوا؟ لنختبئ جميعا، هيا ماما للمطبخ. ما الذي تقوله حبيبي؟! لا أحد هنا، كنت تتكلم عن شيء ما يخص الهوية، ثم صمت. أجل الهوية، إثباتا لشخصيتي المُنحطة، الفقيرة الأخلاق. بني أرجوك. اهدأ، ثم أكمل. حسنا أبي، حسنا، سوف أكمل بالتأكيد، حتى إنني سأعيد كل شيء من جديد. اليوم، أنا فلاديمير كشنوف، كنت ذاهبا لإصدار هوية لشخصي الرخيص، وعند انتهائي من كافة الإجراءات كانوا قد أخبروني بأنها ستصدر خلال نصف ساعة، ضبطت ساعتي ثم خرجت. عندها فقط شعرت مُؤخرتي الكريهة هذه، والتي لا تنفد حمولتها دائما. يقول بتذمر وحنق ملحوظين وهو يستدير نحو الحائط: أرجوك أبي، أين سوطك؟ أرجوك، اصفعها ثلاث مرات وبقوة من أجلي، هيا الآن. حبيبي، أعدك بهذا، لكن الآن أرجوك أكمل، فقط أكمل".

إن السُخرية هنا تتمثل في شعور فلاديمير بالرغبة في التبرز؛ ولأنه شعر بهذا الإحساس الذي حاول تأخيره مما أدى إلى إطلاق الريح في نهاية الأمر أثناء مرور موكب رئيس البلدية؛ فهو يطلب من أبيه بصدق وبشعور شديد بالندم على فعله أن يصفع مُؤخرته؛ لأنها كانت السبب في هذه الفعلة التي يراها مُشينة، بل وتبدو له كجريمة سيعاقب عليها! إن سُخرية الكاتب هنا ليست مُجرد سُخرية من الوضع السياسي الذي يتحدث عنه، بقدر ما هي سُخرية من النفس الإنسانية وأفعالها البسيطة، والطبيعية، والتلقائية التي قد تجعل أصحابها يشعرون بالكثير من الخزي والعار مما بدر منهم رغم طبيعيته، كما أن الإمعان في التهكم هو ما نلاحظه في رد أبيه عليه حينما يقول له: "جبيبي، أعدك بهذا". وإذا ما كان بطل تشيكوف قد مات حسرة بسبب عطسة عادية وتلقائية تحدث للجميع، فبطل بيدر جهاد يشعر بالكثير من الخزي والعار، والرهبة، والخشية من عقابه لأنه أطلق الريح أثناء مرور موكب رئيس البلدية.

في قصة "تقاعد مُبكر" ثمة حكاية مُتخيلة يسردها القاص بشكل مُوغل في السُخرية رغم مأساوية الحدث، فهو يتحدث عن أحد المُحققين الذي يجلس في مكتبه شاعرا بالكثير من الفراغ والعدمية لعدم وجود زبائن يلجأون إليه مُنذ فترة طويلة من أجل التحقيق في أحد القضايا؛ لذلك يبدأ في تخيل دخول إحدى النساء عليه من أجل البحث عن قطها الذي اختفى، ويبدأ في تصور حوار ما يدور بينهما ليسألها العديد من الأسئلة عن قطها، وآخر مرة رأته فيها، وغير ذلك من التساؤلات، إلى أن يصل إلى الخطة المُحكمة التي حيكت من أجل اختفاء القط. هنا يأخذ بيدها للخروج من مكتبه وقد كتب على ورقة فارغة "مُغلق للتقاعد المُبكر"!

إن الشعور بالفراغ والملل هما ما يرغب القاص في التعبير عنهما من من خلال قصته، وربما يتبدى لنا أنه كان ماهرا في نسج الفكرة والحدث حتى أننا نظل مُنجذبين إليه حتى إغلاقه للقصة، ولنقرأ الفقرة التي بدأ بها سرده: "في مبنى قديم يحتاج إلى صيانة مستعجلة يجلس المُحقق طلال عامر على كرسي أسود مرن، ينحني للوراء عن قناعة كبيرة، كجزء من عمله. يمد قدميه واضعا إياها على الطاولة التي تُصنف كصحراء خاوية إلا من منفضة مُمتلئة بأعقاب السجائر، يخرج منها دخان سيجارة كان قد نسيها، بعد أن أمسك بقبعة مُحققين دائرية خضراء يغطي بها وجهه أثناء دفع جسده قليلا للأمام، للحصول على وضعية مُريحة، لأخذ قيلولة طويلة مُتسائلا: هل حل السلام في الخارج، ألم يعد هناك حقراء وسخون يثيرون الشغب؟! لا سرقات تحدث، هل فقد كل اللصوص مهارتهم المُحترمة؟!".

إن هذا المدخل الذي حرص القاص عليه في بداية قصته كان من الفنية التي منحت القصة الشعور بالملل الذي يسيطر على الشخصة القصصية/ المُحقق، وهو نفس الشعور الذي سينتقل إلى القارئ ببساطة حتى أنه سيتمثله كأنه يعيش مع طلال عامر؛ فيقاسمه إحساسه. لذلك يبدأ المُحقق في تخيل دخول إحدى النساء إليه من أجل البحث لها عن قطها، ولعل القاص في هذا الوصف، وهذه القصة التي يتخيلها المُحقق قد برع في سُخريته من الأمر حينما نقرأ: "أعتقد أنني اليوم سأقبل بكل سهولة التحقيق في قضية قط أجرب أليف مُدلل هارب. سأقفز من الكرسي وأنا أتظاهر بالحزن الخالص للزبون، والذي بالطبع سيكون سيدة عملاقة ترتدي فستانا أزرق كئيبا، وتمسك حقيبة مسكينة فارغة إلا من العطور، وبالتأكيد لو نظرت لحذائها الأحمر سيتقطع قلبي، مُشفقا على ذلك العتال المسكين الذي لا يستريح طوال اليوم من غوريلا مُخيفة مثلها تحب قطها الأليف سبستيان. سبستيان، ذلك القط الأبيض الجميل يجب أن نجده سريعا. لا وقت نضيعه آنسة غوريلا. لا بد أنه خائف يرتجف عند إحدى حاويات القمامة، جائع، لا يعجبه ذلك الطعام النتن الذي لا يليق بقط سعيد ومُؤدب مثله. لا يجب أن يأكل. بالتأكيد سيدة غوريلا. فلا سمح الله لو أن المسكين سبستيان اضطر وأكل فقط من أجل البقاء، لأنه يفكر فيك بالطبع، ويحب أن يعيد لمّ الشمل معك من جديد سيمرض".

ألا نُلاحظ في الاقتباس السابق مدى سُخرية القاص من شخصياته حتى أنه قد جعل المُحقق- الشاعر بالكثير من الملل والفراغ- يتخيل مثل هذا الحديث واللقاء مع السيدة لتبلغ سُخريته مداها بوصفها بالغوريلا، بل وخطابها بمثل هذا التوصيف الذي رآه فيها؟ يستمر القاص في قصته التي ابتكرها داخل ذهن المُحقق إلى أن نقرأ: "ممتاز، ممتاز، الأمور تتضح لي أكثر، أين سلين الآن؟ ماذا قلت؟! هيا بسرعة، بسرعة. لقد خططا لكل شيء. حتى قدومك إلى هنا، كان لا بد أن يتخلصا منك بالطبع. المنزل فارغ بالتأكيد. سيدة غوريلا، أرجوك، سأخبرك في الطريق، لا وقت لدينا. إنها مُؤامرة، حبكة عبقرية، هيا الآن، هيا بسرعة. يمسك المُحقق طلال عامر بيد السيدة غوريلا، وهو يجرها للخارج، بعد أن كتب على ورقة بيضاء كبيرة: مُغلق للتقاعد المُبكر. مُعلقة للآن على باب المكتب في مبنى قديم قد ينهار في أي وقت مُمكن".

إن المقطع السابق الذي ختم به القاص قصته يحمل الكثير من اليأس المُغلف بالسُخرية؛ فالقصة بكاملها مُتخيلة وتدور في ذهن المُحقق، لكن القاص كان بارعا في التداخل السردي ما بين التخيل في ذهن المُحقق والواقع الذي لا يدور فيه هذا الأمر والذي جعل المُحقق يتقاعد مُبكرا؛ وبالتالي رأينا أن خروجه مع السيدة غوريلا من أجل البحث عن القط- الخيال- كان السبب في قراره كي يتقاعد عن العمل- الواقع- لأنه مُتعطل مُنذ فترة طويلة، كما يشعر بالكثير من الفراغ.

ثمة مُلاحظة لا بد من التوقف أمامها وتأملها هنيهة في المجموعة القصصية "رياح عائلة كشنوف" للقاص الأردني بيدر جهاد، وهي لجوء القاص إلى البيئة الأجنبية لا سيما الروسية سواء من خلال اختياره لأسماء الشخصيات القصصية، أو للبيئة الاجتماعية والجغرافية والثقافية التي تدور فيها أحداث مُعظم قصص المجموعة، وهو ما قد يوحي لنا كثيرا بأن المجموعة قد تمت ترجمتها من لغة أخرى لا سيما الروسية- بسبب الأسماء والجغرافيا- وهو أيضا الأمر الذي لا بد سيثير التساؤل: لم لجأ القاص إلى اختيار هذه الأسماء، أو البيئات غير العربية للتعبير عن عالمه القصصي؟

إذا ما تأملنا قصص المجموعة التي بين أيدينا سيتضح لنا أن القاص لم يكن ليمتلك الحرية السردية فيما قدمه لنا من عوالم قصصية لو لم يلجأ إلى بيئات وثقافات أخرى مُغايرة، أي أنه فضل الانسلاخ من بيئته العربية، وثقافتها، وتاريخه، لينتقل إلى ثقافات أخرى تتيح له التواشج والانصهار مع أسلوبيته السردية التي تعتمد على التهكم والسُخرية الدائمة، بل وتناول موضوعات لا تهم البيئة العربية كثيرا، أي أنه لو كان قد لجأ إلى إكساب قصصه مُحيطا وثقافة عربية لما كان قد نجح في هذه الأسلوبية التي اعتمدها لنفسه في السرد القصصي، فضلا عن أن موضوعاته التي اختارها لا تتناسب مع السيكولوجية العربية التي لن تهتم بالتأكيد- على سبيل المثال- بالجانب الأخلاقي الذي انتاب فلاديمير لمُجرد أنه قد أطلق الريح أثناء مرور موكب رئيس البلدية. إن حرص بيدر جهاد على بيئة غير عربية في عالمه القصصي منحه الكثير من الحرية السردية التي جعلته ينطلق بخياله إلى آفاق أرحب، وأكثر إنسانية قد لا نجدها في الثقافة العربية؛ لذلك كان اختياره تغريب بيئته القصصية اختيارا ناجحا ومُتناسبا تماما مع أفكاره، وعالمه، وأسلوبيته.

تأتي المجموعة القصصية "رياح عائلة كشنوف" للقاص الأردني بيدر جهاد كنموذج جديد للسرد القصصي في الأردن، استطاع من خلاله القاص- الذي قدم لنا عمله الإبداعي الأول- إقناعنا بأسلوبية قصصية تخصه وحده، سواء من خلال اللامبالاة الواضحة في تناوله لموضوعاته، أو السُخرية والتهكم الغالبين على جل قصص المجموعة، فضلا عن رغبته العارمة في الخروج من البيئة العربية وثقافتها، والانطلاق إلى آفاق أرحب وثقافة مُغايرة قادرة على استيعاب أفكاره وعوالمه المُختلفة كثيرا عما يمكن أن يفكر فيه العرب، أو يستطيعون استيعابه بسهولة إذا ما كان قد ظل حبيسا لعوالمهم وأفكارهم.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد ديسمبر 2021م

 

الأربعاء، 8 ديسمبر 2021

رأفت الميهي: سينما المسخرة

المُخرج رأفت الميهي
لم يكن رأفت الميهي ببعيد عن مجال السينما المصرية أو دخيل عليها حينما قدم أول أفلامه "عيون لا تنام" 1981م كمُخرج؛ فهو
يعمل في مجال السينما منذ فترة مُبكرة كمُترجم، ومُنتج، وسيناريست منذ أن كتب أول أفلامه "جفت الأمطار" 1967م الذي أخرجه سيد عيسى، ورغم أن هذا الفيلم لم يلاق النجاح اللازم أو الإقبال الجماهيري عليه، إلا أن الميهي لم يتوقف بسبب ذلك، بل قدم مع المُخرج كمال الشيخ أربعة أفلام سينمائية أخرى كتبها له، وقد كانت من أنجح الأفلام المصرية في هذه الفترة، وهي: "غروب وشروق" 1970م الذي صب اهتمامه على الانتقاد السياسي فيما قبل الفترة الجمهورية في مصر، ثم كتب سيناريو فيلم "شيء في صدري" 1971م عن رواية لإحسان عبد القدوس بنفس العنوان، وهو الفيلم الذي يحمل نقدا أيضا لفترة الملكية وما سادها من فساد، ثم فيلم "الهارب" 1974م[1] الذي لا يخلو من النقد السياسي ومُمارسات رجال الشرطة في التنكيل بمن يمارسون الفعل السياسي، والزج بهم وبذويهم في السجون، لتكون آخر مرحلته مع المُخرج كمال الشيخ فيلم "على من نطلق الرصاص؟" 1975م، وهو الفيلم الذي يمثل تجاه كمال الشيخ السينمائي من حيث البحث عن الأدلة من خلال منظور تشويقي، ومن خلال التوصل إلى قصاصات صغيرة من الدلائل التي تؤدي إلى انكشاف الحقيقة في نهاية الأمر، وقد كان من الأفلام التي تحاول نقد الفساد الذي يدور في المُجتمع المصري.

قدم الميهي الكثير من الأفلام التي قام بكتابتها لغيره من المُخرجين، ولعل فيلمه "غرباء" 1973م للمُخرج سعد عرفة كان من أهم الأفلام التي كتبها حيث يعمل على انتقاد ما يدور في المُجتمع من صخب فكري، وتشدق العديدين بالكثير من الأفكار والأيديولوجيات والمذاهب التي يرون أنها الحقيقة الكبرى بينما يرون من سواهم غائبين عن هذه الحقيقة.

إذن، فرأفت الميهي من أكثر الذين عملوا في السينما مُتبنين موقفا تجاه الحياة والمُجتمع المُحيط بهم، ولعل موقفه النقدي تجاه كل ما يدور من حوله بدا واضحا في الغالبية العظمى من الأفلام التي كتبها للسينما وأخرجها غيره من المُخرجين. وبما أن الفنان دائما ما يحاول السعي نحو الكمال؛ ولأن رأفت الميهي رغب في امتلاك رؤيته السينمائية الكاملة مثلما يرغب هو في تقديمها وبروحه وثقافته التي تخصه وحده؛ فلقد اتجه إلى الإخراج السينمائي لما يكتبه- لاحظ أن جميع الأفلام التي أخرجها الميهي كانت من تأليفه هو، أي أنه لم يخرج فيلما واحدا لم يكتبه.

في عام 1981م أخرج الميهي فيلمه الأول "عيون لا تنام" عن المسرحية الأمريكية "رغبة تحت شجر الدردار" Desire Under the Elms للمسرحي الأمريكي يوجين أونيل Eugene O Neill الذي كان من أفضل الأفلام للتعبير عن الواقع المصري؛ الأمر الذي جعل الميهي من أهم رواد الاتجاه الجديد في السينما- الواقعية الجديدة- جنبا إلى جنب مع رائدها محمد خان. أي أن فترة الاضمحلال الطويلة التي مرت بها السينما المصرية، والتي كادت أن تصل بها إلى السكتة القلبية التامة قد أفرزت العديد من شباب السينمائيين المُثقفين أصحاب الموقف مما يدور من حولهم؛ ومن ثم اهتموا أيما اهتمام بنقد الأوضاع القائمة، سواء من أجل تصحيحها المُباشر، أو لمُجرد التأمل فيما يحدث وتنبيه الجميع إلى أن الوضع الراهن لا بد له أن يؤدي في النهاية إلى كارثة اجتماعية واقتصادية حقيقية تحيق بالجميع؛ ومن هنا اكتسبت هذه السينما الجديدة أهميتها؛ لاهتمامها بالبسطاء ومُشكلاتهم، ومُعاناتهم، بل والتعامل معهم بقدر غير قليل من الحنان والحب من دون الذهاب إلى إدانتهم أو النظر إليهم باعتبارهم لا يحق لهم الحياة في هذا المُجتمع، أو لا يحق لهم مُجرد الحلم في حياة ووضعية اجتماعية واقتصادية أفضل.

يتناول الميهي في فيلمه الأول "إبراهيم" صاحب ورشة سيارات كبير في العمر. يتزوج من فتاة فقيرة تُدعى "محاسن"، وهو الأمر الذي يخشاه إخوته؛ بسبب خوفهم من احتمال مُشاركتها لهم في الميراث، وفي نفس الوقت يشعر "إسماعيل"، الأخ الأصغر لإبراهيم، والذي يعمل لديه في الورشة بالكثير من مشاعر البغضاء والكراهية نحو الأخ الأكبر إبراهيم؛ الأمر الذي يدفعه لاختلاق المشاكل طيلة الوقت مع محاسن، لكن، سرعان ما يتبدل حال العلاقة بين محاسن وإسماعيل ويميل إليها؛ ومن ثم تكون بينهما علاقة عاطفية جامحة تُثمر عن طفل في أحشائها. يظن إبراهيم، الأخ الأكبر، أن زوجته حامل بطفله، لكن حينما يحين موعد ولادتها يخبره الطبيب أنه لا بد من الاختيار بين الطفل أو الأم، فيختار إبراهيم الطفل مُفضلا إياه على الزوجة؛ فالطفل هو امتداده ووريثه الذي يرغبه كي يرث الورشة ولا يأخذها إخوته. هنا لا يتمالك إسماعيل نفسه ويهجم على أخيه الأكبر قاتلا إياه، وينتهي به الأمر إلى اللوثة العقلية.

رغم اقتباس العمل السينمائي من المسرحية الأمريكية إلا أن الميهي قد عمل على كتابتها بما يتناسب تماما مع الواقع المصري في الثمانينيات، وبالتالي لم يبق من الأصل الأدبي سوى الفكرة العامة الراغبة في الحديث عن جنون التملك؛ فالأخ الأكبر هنا هو من تعب سنوات طويلة من أجل إنشاء هذه الورشة وبقائها، ومن ثم الإنفاق على أشقائه الثلاثة، صحيح أن هناك شقيقين منهم قد سافرا إلى الخليج من أجل محاولة الثراء بعيدا عن أخيهم الأكبر، لكن الأخ الأصغر ظل مع إبراهيم الذي رباهم واعتنى بهم؛ ولأن إبراهيم يرى أنه صاحب الحق في المال وفي كل شيء؛ بعد سنوات الشقاء التي مر بها؛ فهو يتزوج من محاسن لتأتي له بالطفل الوريث لهذه الورشة، وهذا ما يُفسر في نهاية الفيلم تمسكه بالطفل من دون الزوجة والتضحية بها؛ فالطفل هو الامتداد الذي سيشعره أن شقاءه طوال عمره لم يأخذه غيره. لا يمكن إنكار أن الميهي قد نجح في التعبير عن شعور التملك، كما كان فيلمه نموذجا من أفلام الواقعية الجديدة التي تحاول التعبير عما يدور في هذه الفترة الزمنية والآثار الاقتصادية والاجتماعية وكم الصراعات التي تركتها فترة السبعينيات على ما بعدها؛ وهو ما جعل، مثلا، أصحاب الحرف اليدوية هم أصحاب السيادة في المُجتمع؛ حيث بات المُجتمع يفضلهم على المُتعلمين والمُثقفين وغيرهم، وهذا ما رأيناه في الفيلم تماما.

قدم لنا الميهي في أول أفلامه فيلما شديد الواقعية يعمل على تأمل العلاقات الاجتماعية في المُجتمع المصري وما آلت إليه من صراعات دموية مُخيفة تنبئ بانفجار وشيك في المُجتمع؛ الأمر الذي جعل الأخ الأصغر يقتل أخاه بسبب هذا الصراع؛ لذلك حينما رأينا فيلمه الثاني "الأفوكاتو" 1984م كانت الدهشة القصوى من الانقلاب الأسلوبي في تناول هذا الواقع رغم أنه لم يحد عن مساره في نقد هذا الواقع العبثي السوداوي المأساوي بكل ما يموج فيه من تناقضات لاعقلانية.

لا يمكن إنكار ارتباك النقاد- والجمهور أيضا- أمام رأفت الميهي حينما بدأ أسلوبه الفني الجديد الخاص به في السينما المصرية، وهو الأسلوب الذي كان هو رائده، وما زال، من دون أن يقلده أحد غيره في مثل هذا الاتجاه. فالميهي من المُخرجين الذين يتأملون الواقع بعُمق، ويعمل على انتقاده، لكنه يرى أن هذا الواقع السوداوي العبثي لا يمكن له أن يكون أفضل مما هو عليه، وسيظل هكذا بشكل أبدي، أي أن الجميع قد بات عالقا في اللحظة الآنية بقتامتها ومأساويتها. صحيح أن مثل هذه النظرة القاتمة كان من المُمكن لها أن تدفع غيره من المُخرجين إلى تقديم الكثير من الأفلام المليودرامية المُغرقة في البكائيات، لكنه لم يقع في مثل هذا المأزق ونجا بنفسه حينما اختار السخرية من هذا الواقع، ورأى أنها السبيل الوحيد إلى تقديمه ومحاولة مُعالجة مُشكلاته- رغم أن مُعظم أفلام الميهي تقريبا تؤكد أنه لا سبيل للخلاص من هذه المأساة التي نحياها؛ ومن ثم نرى أبطاله في نهاية أعماله السينمائية دائما ما تستسلم لما هو كائن؛ لأنه ليس في الإمكان تغيير هذه المهزلة التي نعيش فيها!

نقول: إن ارتباك النقاد أمام ما يقدمه الميهي من أفلام بأسلوبه الجديد الذي يخصه وحده- أسلوب المسخرة- أو السخرية من الواقع هو ما دفع جل نقاد السينما المصرية إلى الارتباك في تحديد المفهوم أو المصطلح على أفلامه السينمائية؛ وبالتالي رأينا العديد من المفاهيم التي يطلقها النقاد على هذه السينما المُختلفة والغريبة بالنسبة إليهم.

اعتبر مُعظم نقاد السينما المصرية أن ما يقدمه رأفت الميهي من أفلام تندرج تحت مُسمى أفلام الفانتازيا، أي أنهم رأوا في كل ما هو غريب عليهم في الأسلوب السينمائي مُجرد فانتازيا؛ بما أن العقل لا يمكن له أن يتقبلها بسهولة، أو لأنها خارجة عن المألوف وعما هو مُتعارف عليه في صناعة السينما. وربما كان هذا الاستسهال في تحديد المفهوم من الكوارث التي بقيت متداولة بين العديد من الأجيال حتى اليوم من دون محاولة النظرة المُتأملة؛ من أجل وضع تحديد لهذا الاتجاه السينمائي.

رغب الميهي هنا في أن يكون مُتفردا في لغته السينمائية؛ وبالتالي آل على نفسه أن يأخذ تجاها يخصه وحده- مثلما فعل يوسف شاهين في أفلامه التي اختلفت عما يقدمه غيره من مُخرجي السينما المصرية؛ فكان خارج السرب- ورأى أن الوسيلة الوحيدة لتأمل الواقع وتقديمه ومحاولة إلقاء الضوء على مُشكلاته هو التعالي على هذا الواقع؛ من أجل رؤيته رؤية كلية من بعيد، ثم السُخرية منه؛ لعل السُخرية تكون علاجا ناجحا لما يدور من حولنا. صحيح أن مُعظم أفلامه من المُمكن إدراجها تحت مُسمى الأفلام الكوميدية، لكنها ليست الكوميديا بالمفهوم الذي نعرفه، بل هي الكوميديا السوداء التي تجعل المُشاهد يضحك على نفسه وكأنه يبكي، أي أنه يضحك باكيا إذا جاز لنا التوصيف.

يُعرّف الفيلم الفانتازي بأنه: فيلم من مواضيع خيالية عادة، تتضمن أحداثا سحرية وخارقة للطبيعة ووجود مخلوقات أو عوالم خيالية غريبة. وهذا النوع يُعد مُختلفا تماما عن أفلام الخيال العلمي وأفلام الرعب، رغم أن هذه الأنواع تتداخل فيما بينها، لكن أفلام الفانتازيا في الغالب لديها عنصر من السحر والأساطير والتعجب والهروب من الواقع، ولعل خير مثال على أفلام الفانتازيا فيلم "سيد الخواتم" 2001م  Lord Of The Rings للمُخرج النيوزلندي بيتر جاكسون Peter Robert Jackson حيث يضم الفيلم جميع عناصر الفانتازيا تقريبا.

أندريه بريتون
إذا ما تأملنا مفهوم الفيلم الفانتازي السابق، ثم حاولنا تأمل ما يقدمه المُخرج رأفت الميهي من سينما تسخر من الواقع؛ فإننا بالضرورة لا يمكن لنا أن نُطلق على ما يقدمه المُخرج سينما الفانتازيا، أو أفلام الفانتازيا؛ لأنه لا توجد ثمة فانتازيا فيما يقدمه الميهي هنا، ومن ثم يكون إطلاق هذا المُسمى عليها من قبيل الظُلم لأفلامه، فضلا عن الجهل بالمُصطلح الذي تم إطلاقه في غمرة فوضى إطلاق المُصطلحات من نقاد السينما المصرية؛ لذلك لم نكن مع الناقد سمير فريد وغيره من النقاد حينما رأوا أن فيلم "الأفوكاتو" أو غيره من أفلام الميهي إنما تُعبر عن الفانتازيا.

ثمة نقاد آخرون- وهم أقل- أطلقوا على سينما الميهي مصطلح Film Parody أو المُحاكاة الساخرة في محاولة منهم لفهم ما يقدمه الميهي من أسلوب سينمائي جديد ومُختلف، لكن إذا ما عرفنا أن المقصود بهذه المُحاكاة الساخرة هو: كل أثر أدبي أو فني يُحاكى فيه أسلوب أحد المُؤلفين على نحو تهكمي يثير الضحك والسخرية؛ سيتأكد لنا أن هذا المُصطلح بعيد كل البعد عما يقدمه المُخرج من أفلام. وقد جاء في قاموس المعاني: "الباروديا": أثر أدبي أو مُوسيقي يُحاكى فيه أسلوب أحد المُؤلفين على نحو يثير الضحك والهُزء، أي أن البارودية هي المُحاكاة الساخرة لأحد المُؤلفين، مُحاكاة تهكمية أو ساخرة. ولعل أكثر الأفلام نموذجا على "الفيلم البارودي" هو فيلم "قابل الإسبارطيين" Meet The Spartans 2008م للمُخرجين Jason Friedberg and Aaron Seltzer الذي كان مُحاكاة ساخرة لفيلم 300 للمُخرج زاك سنايدر Zack Snyder 2007م، ومثله أيضا فيلم "فيلم مُرعب" Scary Movie 2013م للمُخرج الأمريكي مالكولم لي Malcolm D. Lee بأجزائه العديدة الذي كان يسخر فيه من سلسلة أفلام الرعب الشهيرة "منشار" Saw 2004م للمُخرج جيمس وان James Wan وهو الفيلم الذي أُنتج منه سبعة أجزاء حتى عام 2010م للعديد من المُخرجين، وسلسلة أفلام "صرخة" Scream المُنتجة في أعوام 1996م، 1997م، 2000، 2011م للعديد من المُخرجين أيضا؛ لذلك حينما نقرأ ما كتبه الناقد حسني عبد الرحيم عن الميهي: "محاولته الجديدة "علشان ربنا يحبك" تدخل في نفس الإطار الذي يعمل عليه منذ سنين، وهو "المسخرة الاجتماعية" كما في أفلام "السادة الرجال"، و"سيداتي آنساتي"، و"سمك لبن تمر هندي"، وتشتمل جميعا على فكرة نقد الزيف المُسيطر في حياتنا الاجتماعية، وجميعها "بارودي"- مُحاكاة ساخرة- وليس كما اصطلح سواد النقاد على تسميتها "بالفانتازيا"؛ فالميهي في مُعظم هذه الأفلام يقدم رؤى واقعية مُتطرفة وكاريكاتورية لكي يسخر منها، ولم أشعر في أي منها بأنه يكذب، بل على العكس دائما ما انتابني شعور بأنه يترافع في قضية شخصية جدا وحميمية"[2].

سيجموند فرويد
نقول: مع قراءة ما ذهب إليه الناقد حسني عبد الرحيم لا يمكن لنا أن نأخذ بما ذهب إليه، صحيح أنه كان مُصيبا في عدم الموافقة على ما ذهب إليه مُعظم النقاد في أن الميهي يقدم سينما الفانتازيا، لكنه لم يحالفه الحظ في تعريف هذه السينما حينما رأى أنها "سينما البارودي"؛ لأن الميهي لا يحاكي سوى الواقع فقط، أي أنه لا يحاكي عملا فنيا سابقا، أو كاتبا سابقا، أو أي أثر سابق عليه؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه السينما الساخرة من الواقع- سينما المسخرة- هي سينما البارودي، ومن غير المُمكن أن يستقيم معها هذا المفهوم.

إذن، ما هو المفهوم أو الإصطلاح الذي من المُمكن لنا أن نضع تحته أفلام رأفت الميهي الساخرة؟

إذا ما تأملنا المفهوم القادم ربما نستطيع الاقتراب أكثر من مفهوم اللغة السينمائية التي يقدمها الميهي في أفلامه حينما نعرف أن: السيريالية Surrealism وهي مُشتقة من كلمة فرنسية الأصل تعني حرفيا "فوق الواقع"، وهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، وحسب مُنظرها أندريه بريتون Andre Breton فهي آلية أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر إما شفويا أو كتابيا أو بأي طريقة أخرى، وهي فوق جميع الحركات الثورية. أي أن السيريالية، كمفهوم، هي أكثر المفاهيم التي من المُمكن لها أن تعبر عما يقدمه الميهي من أفلام سينمائية تعلو فوق الواقع من خلال تأمله ومحاولة السُخرية منه، ولعله في نقد عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud للسيريالية ما يؤكد سيطرة العقل والمنطق على هذا المذهب والاتجاه الفني، أي رغم فوضوية هذا الاتجاه الظاهري كما يتبدى لنا، إلا أنه كان نتيجة قدر كبير من التفكير العقلاني الذي يرغب في التعبير عن الواقع من خلال آليات وطرق مُختلفة تكون فيها السخرية مُحركا أساسيا، وقد بدأ فرويد نقده للسيريالية بتصريحه: إن ما لفت نظره في السيرياليين هو وعيهم وليس لاوعيهم، بما يعني أن التجارب التلقائية التي قام السيرياليون بإظهارها وكأنها إطلاق للاوعي كانت مُنظمة للغاية من قبل نشاطات الأنا، بما يشبه مُراقبة الأحلام خلال الحلم؛ وبالتالي فإنه خطأ من حيث المبدأ اعتبار قصائد السيرياليين ونشاطاتهم الفنية الأخرى كتعبير مُباشر عن اللاوعي؛ لأنها في الحقيقة مُحددة ومُنفذة من قبل الأنا، وبهذه الطريقة- حسب فرويد- يمكن أن يُنتج السيرياليون أعمالا عظيمة، لكنها تكون أعمال الوعي وليس اللاوعي، فقد خدع السيرياليون أنفسهم باعتبار أنهم ينتجون من خلال اللاوعي؛ ففي التحليل النفسي السليم، لا يعبر اللاوعي عن نفسه بشكل تلقائي، وإنما من خلال تحليل عمليات المقاومة والنقل- تحويل الرغبة أو الدافع من الموضوع الأصلي لموضوع بديل عند الشخص في علم النفس- خلال عملية التحليل النفسي.

الناقد عصام زكريا
من خلال فهمنا للسيريالية وآليتها الفنية، ومن خلال نقد سيجموند فرويد لها؛ حيث أكد أنها نتيجة نشاط عقلي واع تماما وتأملي يتأكد لنا أن أقرب المفاهيم الفنية على ما يقدمه المُخرج رأفت الميهي هو "الأفلام السيريالية"، أو "السينما السيريالية"، وهو المفهوم الذي ذهب إليه الناقد عصام زكريا في وصف سينما رأفت الميهي حينما كتب: "تنتمي أفلام رأفت الميهي منذ "الأفوكاتو" إلى الأسلوب السوريالي بوضوح. وهو مُصطلح فرنسي الأصل يعني حرفيا "فوق الواقعي". إذا كان الفنان الواقعي ينقل صوره من الواقع، فإن الفنان السوريالي يستلهم صوره من انعكاس هذا الواقع على ذاته. بمعنى أبسط: من أحلام يقظته ومنامه والخيالات والأفكار "الغريبة" التي تنشأ في عقله نتيجة عدم استيعابه وعدم قبوله لما يحدث في الواقع"[3]، ولعل هذا المفهوم الأقرب إلى الصحة والاتساق مع ما قدمه الميهي من سينما يكاد يكون هو المفهوم الوحيد الصحيح والذي لم يذهب إليه سوى الناقد عصام زكريا في محاولة تقريب هذه السينما من تقعيد المفهوم.

لكن رغم استقرارنا على هذا المفهوم- السينما السيريالية- فيما قدمه المُخرج رأفت الميهي من أفلام تتناول الواقع المعيش، وهي السينما التي لا يمكن لها بأي حال من الأحوال الانفصال عن الواقعية والاتجاه الجديد الناشئ في السينما المصرية- فهي تنطلق من هذا الواقع وتتخذ منه مادة أساسية في جميع أفلامها وإن كانت تحاول السخرية منه- إلا أننا نذهب إلى تسميتها "سينما المسخرة"؛ لأن هذا المُسمى هو الأقرب إلى روح هذه السينما، وإلى قول المُخرج نفسه في العديد من الحوارات.

يقول رأفت الميهي: "عندما أنتقد المُجتمع، لا بد أن أعلو عليه أولا كي أشاهده جيدا وأستوعبه، بمعنى أنني أحاول ألا أغرق في تفاصيله؛ لكي أرى تناقضاته، وهكذا أستطيع أن أسخر منه، وبصراحة شديدة أنا أرى أن الواقع مُؤلم جدا، وإذا لجأت إلى تصويره واقعيا ستكون الصورة قاتمة وكئيبة جدا"[4].

المُخرج كمال الشيخ
إذا ما تأملنا هذا التصريح من الميهي في حواره السابق يتأكد لنا أن المُخرج يدرك جيدا ويعي ما يفعله، وأنه يهدف في المقام الأول إلى السخرية من الواقع الذي ينطلق منه بعدما يعلو عليه قليلا من أجل تأمله بشكل واعٍ، ويؤكد الميهي أنه- نتيجة نظرته اليائسة السوداوية- لا يمكن له تقديم الواقع كما هو؛ وإلا تحول الأمر إلى البكائيات والمليودراميات مما لا يرغبه في السينما التي يقدمها؛ فكان الحل الذي اختاره هو السخرية من هذا الواقع وتقديمه في شكل هزلي يجعل المُشاهد يضحك على نفسه وما يعانيه وكأنه يبكي، وهو أسلوب سينمائي انفرد به الميهي وحده في السينما المصرية ولم يقدمه غيره من المُخرجين فيما عدا المخرج السوداني سعيد حامد في فيلمه الأول "الحب في الثلاجة" 1993م، لكنه لم يستمر في تقديم أفلام تخص هذا الاتجاه ونحا باتجاه موجه أفلام المُضحكين الجُدد التي سادت في حقبة التسعينيات من عمر السينما المصرية، وهو ما سنعود إليه في هذه الحقبة فيما بعد.

إذن، ففي فيلمه الثاني "الأفوكاتو" يعلن الميهي عن اتجاهه الخاص به فيما يقدمه من سينما مُختلفة، وإن كانت تسير في نفس إطار أفلام الواقعية الجديدة التي بدأها المُخرج محمد خان. يتناول الفيلم الواقع المصري في الثمانينيات، وهو الواقع الذي تركت عليه سنوات الستينيات والسبعينيات بأثرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فتحول المُجتمع المصري إلى مُجتمع شائه، غير واقعي من المُمكن أن تتخيل فيه أي شيء، وكل شيء، وهو ما أراد الميهي تصويره في فيلمه من خلال المحامي "حسن سبانخ" القادر على تحويل كل شيء لصالحه ولصالح موكله بالقانون، يحاول سبانخ التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر؛ بسبب إهانته للمحكمة في إحدى القضايا، ويتمكن من إقامة العديد من العلاقات الملتوية أبرزها مع تاجر المُخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد، أحد مراكز القوى في الستينيات، ويلعب سبانخ على جميع الحبال، ويبدأ في تحريك النظام القضائي وأوضاع المُجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح سبانخ في إخراج حسونة محرم من السجن وإعادته لواجهة المُجتمع مرة أخرى؛ تمهيدا لقيام سبانخ نفسه بالنصب على حسونة في "خبطة العمر"، حيث تضمنت خطة سبانخ اتهام حسونة بالإتجار في العملة المُزيفة، وتزويج شقيقة زوجته لحسونة، لكن حسونة ينجح في الإيقاع بحسن وإدخاله السجن، ولأن سبانخ يعشق التلاعب فسرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن مُتحالفا مع سليم أبو زيد في عملية جديدة تبدأ كما انتهى الفيلم بالهروب منه، وبدء حياة ملتوية جديدة.

نلاحظ في فيلم الميهي أنه يقدم رؤية شديدة السوداوية للواقع المعيش من خلال إطار ساخر هزلي كاريكاتوري؛ فالمُحامي قادر على قلب كل الحقائق وإقناع هيئة المحكمة بما يريده، والحراس الفقراء داخل السجن يقومون بخدمة سجنائهم من الأغنياء الذين يعيشون فيما يشبه المُنتجع داخل السجون، وأحلام سبانخ نفسه لا تتعدى رغبته في شراء دراجة لابنه، وتليفزيون ملون، وإجراء عملية لزوجته التي تزعجه بشخيرها أثناء النوم، وهو يسكن في الحواري المليئة بالقمامة ومياه المجاري الطافحة، ورجال الأعمال الذين كانوا نتيجة طبيعية لسياسة الانفتاح السابقة، لا يعنيهم المُجتمع بقدر ما يعنيهم تكديس المزيد من الثروات من خلال أي طريقة حتى لو كانت الإتجار في المُخدرات، وشقيقة زوجته غير قادرة على إتمام زواجها بخطيبها لضيق اليد، أي أن المُجتمع بالكامل في حالة انقلاب للمعايير بشكل لا يمكن احتماله، وهو ما يستقيم معه الشكل الساخر الكاريكاتوري الذي قدم من خلاله الميهي لفيلمه، ولعلنا نلحظ أن الفيلم لا ينتهي نهاية أقل سوداوية، بل يؤكد المُخرج على أن هذه المهزلة الاجتماعية والاقتصادية مُستمرة إلى النهاية ولن تنتهي. يتأكد لنا ذلك من مشهد النهاية الذي هرب فيه سبانخ وسليم أبو زيد من السجن؛ كي تستمر الدائرة التي لا نهاية لها.

رغم السوداوية القاتمة والتشاؤمية التي تميز بها الفيلم لم يكن الميهي يتخيل أن الواقع المعيش أكثر سوداوية وبؤسا وكابوسية مما قدمه في فيلمه حينما تعرض هو وكل من شارك في الفيلم إلى المُحاكمة بتهمة إهانة القضاء، والمُحامين، والإساءة للمُجتمع، وتشويهه، وفي هذا الشأن يقول الناقد والمُؤرخ السينمائي محمود علي: "كان أغرب قرار يصدره القضاء في قضية فنية تتعلق بحرية التعبير. المفروض أن القضاء المصري هو الحصن والدرع لضمان حق حرية التعبير. هكذا كان دائما موقف القضاء المصري. من هنا كانت الدهشة إزاء الحُكم على فيلم "الأفوكاتو" في نفس الوقت الذي كان يُعقد فيه مؤتمر الإبداع العربي بالقاهرة! والحكاية بدأت عندما تقدم كل من إبراهيم شاهين عمارة، وأبو الفضل حسني، ومحمد عبد العزيز جابر، وأحمد خليل، وشمس الدين عثمان المُحامون بدعوى ضد مُخرج الفيلم رأفت الميهي، وعادل إمام، وحمدي يوسف، وصلاح الصالح مُدير الرقابة، ورئيس مجلس إدارة شركة الدقي فيديو فيلم، وشركة التوزيع الداخلي والخارجي (يوسف شاهين وشركاه) يطالبون فيها: بوقف عرض الفيلم من دور العرض كافة، وسحب أشرطة الفيديو الخاصة به من الأسواق مع عقاب المُعلن إليهم عدا الأخير بخصوص المواد الواردة بعريضة الدعوى، وإلزامهم بـ 101 جنيه تعويضا مؤقتا باعتبار أن الفيلم يحمل قذفا مقصودا به رجال القانون من قضاة ومُحامين ورجال شرطة. وأن القذف جاء في صور مُقززة وإشارات بذيئة وألفاظ يعف عن ذكرها اللسان!"[5].

إذن، من المُمكن القول: لقد انقلب السحر على الساحر، بمعنى أن ما قدمه الميهي من مُجتمع شائه تحكمه مجموعة من العلاقات الهزلية اللاعقلانية تماما قد تجسم أمام عينيه في شكل كابوسي، أكثر كابوسية من فيلمه و"من هنا كان الحُكم في هذه القضية هو الأول من نوعه، فلم يكتف الحُكم بوقف عرض الفيلم إلى حين الانتهاء من مداولة القضية، بل قضى بحبس كل من رأفت الميهي، وعادل إمام، وحمدي يوسف (المُمثل)، ويوسف شاهين، ومُدير شركة الدقي فيديو فيلم، وعادل الميهي سنة مع الشغل وكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم؛ لوقف التنفيذ، وألزمت المُتهمين بأن يؤدوا للمُدعين بالحق المدني مبلغ 101 جنيه على سبيل التعويض المؤقت"[6]!

لكن، رغم هذه المأساة التي تعرض لها كل صُناع هذا الفيلم الذي تحول إلى كابوس حقيقي بعيدا عن شاشات السينما إلا أن المحكمة حكمت في نهاية الأمر بتبرئة الجميع باعتبار أن الفيلم مُجرد خيال لا علاقة له بأشخاص مُعينين، وكان مما جاء في حيثيات البراءة: "وباستعراض المحكمة لمشاهد الفيلم فإن المشهد الذي يتضمن عبارة (أنا مُحامي نصاب، أنصب على الزبون في 50 أو 100 جنيه)، هذا القول وغيره مما تضمنه الفيلم من مشاهد لا يتضمن قذفا أو سبا أُسند إلى شخص مُعين من المُدعين بالحق المدني أو إليهم جميعا، ولا صلة لشخص أو اسم المُحامي في الفيلم (حسن سبانخ) بشخص أو اسم أي من المُدعين بالحق المدني، فجميع مشاهد الفيلم لا تنطوي على إسناد واقعة مُعينة إلى المُدعين بالحق المدني تُوجب عقابهم جنائيا أو احتقارهم عند أهل وطنهم، وإن المُحامي في الفيلم لا يرمز إلى مهنة المُحاماة، فالفيلم ليس به هجوم على أي فئة، لا يُنكر أصلا أن بكل طائفة فئة قليلة من الذين حادوا عن الواجب وقواعد المهنة التي يعملون بها. وأضافت حيثيات الحُكم أن فيلم "الأفوكاتو" قُدم في أسلوب كاريكاتوري؛ بحيث يُدرك المُشاهد أن نوع ما شاهده، نوع من المُبالغة ولا يحدث في الواقع، وشخصيات الفيلم كاريكاتورية، فلم يحدث أن شاهدنا في تاريخ القضاء المصري قاضيا يعاكس ويغازل سيدة في أثناء انعقاد الجلسة بالمحكمة وبألفاظ سوقية مُبتذلة، وليس واقعيا أن الفيلم يعمل على حث المُشاهدين على تصديق ما يعرض، بل بالعكس يدفع المُشاهد إلى عدم تصديق ما يشاهده"[7]، أي أن القضية انتهت بعد فترة بتبرئة الجميع بعدما عاش الميهي كابوسه الذي صنعه على الشاشة بشكل أكثر قتامة في الواقع.

في عام 1986م يتخلى الميهي عن هذا الأسلوب الساخر؛ ليعود إلى الاتجاه الواقعي الذي يقدم الواقع كما هو من دون أي سخرية في فيلمه "للحُب قصة أخيرة"، لكن يبدو أن الواقع نفسه يسخر من الميهي- ملك المسخرة- فلقد فوجئ الميهي، مرة أخرى، برفع دعوى قضائية على فيلمه الجديد وعلى بطلي الفيلم معالي زايد، ويحيى الفخراني بدعوى احتواء الفيلم على مشاهد جنسية، "وبذلك رأينا عام 1986م قضية من أغرب القضايا التي ظهرت في المُجتمع المصري، والتي قُصد بها فرض الرقابة الاجتماعية على السينما المصرية- فصار هناك رقيبان خارجيان هما المُجتمع، والرقيب على المُصنفات الفنية، فضلا عن الرقيب الداخلي- حينما أُثيرت قضية الفعل الفاضح العلني عند عرض الفيلم؛ فتقدم البعض ببلاغ للنائب العام يُفيد بأن هناك فعلا فاضحا تم بين يحيى الفخراني، ومعالي زايد؛ الأمر الذي جعل المُخرج والفنانين يدافعون فيه عن أنفسهم باعتبار أن مشهد الفراش واللقاء الجنسي الحميم كان من صميم العمل؛ حيث كان الزوج مُصابا بمرض في القلب، وعليه فإنه يترتب على لقائه مع زوجته الكثير من أحداث الفيلم، ولكن، مرت القضية في النهاية بسلام حينما تمت تبرئة كل من معالي زايد ويحيى الفخراني من التُهمة الجديدة، بل والشاذة التي وجهها لهم المُجتمع صاحب القيم الجديدة"[8].
في هذه القضية يقول الناقد علي أبو شادي: "شهد بداية العام القبض على صُناع فيلم "للحُب قصة أخيرة"، المُخرج رأفت الميهي، والفنانين يحيى الفخراني، ومعالي زايد، والمُنتج حسين القلا، وتحويلهم إلى نيابة الآداب واتهامهم بارتكاب فعل علني فاضح؛ بسبب أحد المشاهد في الفيلم، والذي سبق أن صرحت الرقابة بعرضه. تفجر الموقف وانعقد مُؤتمر عام للمُثقفين دافع فيه وزير الثقافة الدكتور أحمد هيكل عن حق الفنان في حرية التعبير، وساند المُثقفون والسينمائيون صُناع الفيلم، وأُفرج عن الجميع بكفالة ضخمة، وتم تجميد الدعوى، وكان وراء هذه المعركة الساخنة السريعة بعض المُتعاطفين مع التيار الإسلامي المُتشدد"[9].

إذن، فالواقع بكامله يزداد ثقله الكابوسي الحقيقي على الميهي؛ ومن ثم رأينا مثل هذا الترصد اللاعقلاني لما يقدمه من سينما، ورغم أن فيلمه الثالث "للحُب قصة أخيرة" لم يكن فيه ما يمكن أن يستدعي مُقاضاته، إلا أنه مرّ بالتجربة مرة ثانية؛ لتؤكد له أن هذا المُجتمع بالفعل لا يستحق سوى السخرية.

ربما كان السبب الجوهري والوجيه في هذا الترصد بالمُخرج هو فضحه الدائم للمُجتمع وتعريته أمام نفسه، لا سيما سُخريته من خرافاته وعلاقاته الاجتماعية التي يظنها المُجتمع متوازنة، في حين أن الحقيقة تؤكد وجود اختلال حقيقي في هذه العلاقات، لا يرغب المُجتمع نفسه في الانتباه إليها، أو يحاول إنكارها؛ ففي فيلمه "للحُب قصة أخيرة" يتحدث عن "رفعت" المُدرس الذي يُصاب بالقلب، ويتزوج من "سلوى" الفتاة الفقيرة، والغريبة عن جزيرة الوراق التي يقطنها في قلب النيل، رغم رفض والدته التي تحاول إقناعه بتطليقها مُقابل حقه في الميراث. لكنه يفضل زوجته التي اختارها ويحبها على أي مال. تخاف سلوى على حياة زوجها لمرضه، ورغم عدم إيمانها بالمُعجزات إلا أنها تلجأ للتبرك بالشيخ "التلاوي"، و"القديسة دميانة". يتفق رفعت مع صديقه الدكتور "حسين" لإيهام سلوى بأن هناك خطأ في التشخيص، وأنه سليم؛ فتعتقد أن المُعجزة قد تحققت بتبركها للأولياء، وتحاول الأم إقناعه بالسفر للعلاج في الخارج وترك زوجته لكنه يرفض، إلى أن يتوقف قلبه تماما.

يوجين أونيل
لا يخفى علينا أن الفيلم عمل على فضح الموروثات الدينية الشعبية التي ترى التبرك بالأولياء- سواء في المسيحية أو الإسلام- من المُمكن أن يكون لها مفعول السحر؛ ومن ثم يقومون- الأولياء- بما لا يستطيع العلم أو الإنسان القيام به، كما أشار الفيلم إلى أن هذه الأمور تدخل في عداد الوهم والنصب أيضا، ولعل أهم ما نلمحه في فيلم الميهي فضلا عن رهافته في تناوله للعلاقات الإنسانية، وعلاقة الحُب بين رفعت وسلوى، أنه يقدم شخصياته في حالة اغتراب كامل على المستويين الوجودي والاجتماعي، حتى أن هذه الشخصيات تستسلم في نهاية الأمر- كما هو الحال لدى الميهي في كل أفلامه؛ حيث لا يوجد في الأفق ما يُدلل على ما هو أفضل مما هو قائم؛ لذلك يكون الاستسلام للأمر الواقع هو الحل دائما.

في عام 1987م يعود الميهي بنشاط وجرأة أكبر ليسخر من المُجتمع بالكامل في فيلمه "السادة الرجال"، وتتجلى هنا لدى الميهي مدى المرارة التي يستشعرها تجاه المُجتمع الذي يتحدث عنه، أي أن المُخرج يزداد تشاؤما في تناول أحوال مُجتمعه، ولعل هذا التشاؤم يتضح لنا من مشاعر المُخرج نفسه تجاه شخصياته في الفيلم، فهو لا يميل إلى أي طرف من الطرفين، ولا يتعاطف معهما، بل يبدو مُلتزما بالحياد تجاه الاثنين معا، مُوقنا بأن كلا منهما يستحق المصير الذي ذهب إليه، وأن هذا المُجتمع لا مجال للتعاطف معه أو الشفقة عليه، بل لا بد من الاصطدام القوي به لإفاقته مما يرتع فيه من عبث وفوضوية ستؤدي به حتما إلى الدمار في كل شيء لاسيما مُؤسسة الزواج التي يسخر منها في فيلمه.

يتحدث الفيلم عن "أحمد" وزوجته "فوزية" التي تعاني من مُعاملة زوجها، وعدم اهتمامه بها بالشكل الذي ترغبه والكافي لها كأنثى، تطلب فوزية الطلاق من زوجها، لكنه يرفض طلاقها؛ فتقرر فوزية إجراء عملية جراحية للتحول من امرأة إلى رجل. تعاني فوزية من مصاعب جمة بعد تحويل جنسها؛ نظرا لانتماء مشاعرها لجنس النساء، وفي ظل هذه المُعاناة للوالدين يفقد طفلهما الكثير من الاهتمام والرعاية؛ الأمر الذي يدفع أحمد في نهاية الأمر إلى الاستسلام للأمر الواقع والتحول إلى أنثى كي يعيش مع زوجه "فوزي" الذي كان فوزية.

ربما نُلاحظ هنا أن الميهي أطلق سُخريته إلى مداها الأكبر؛ فهو يسخر من المُجتمع مُمثلا في مُؤسسة الزواج، كما أنه لا يتعاطف مع أي من الطرفين بل يسخر منهما معا؛ فالرجل فظ شديد الغلظة لا تهمه المرأة في شيء سوى من أجل رغباته فقط، بينما المرأة تنتظر الفرصة كي تسنح لها وتقوم بالانتقام من هذا الرجل بمُمارسة نفس الأفعال التي كان يمارسها عليها حينما تتحول إلى رجل مثله، ولعل اليأس من إصلاح أي شيء في هذا المُجتمع المُهترئ هو ما يجعل أبطال الميهي يستسلمون للأمر الواقع في جميع أفلامه؛ وبالتالي يستسلم أحمد لهذا الواقع بتحوله إلى أنثى في نهاية الأمر، أي أن الأمور لدى الميهي تزداد عبثية ومرارة وتشاؤما بشكل سوداوي لا تبدو من خلاله أي بارقة أمل في الأفق القريب أو البعيد.

علنا كلما رأينا فيلما جديدا لرأفت الميهي يتأكد لنا أنه يشتط به الخيال في فيلمه الجديد أكثر من فيلمه السابق؛ حتى أننا نتساءل: ما الذي من المُمكن له أن يقدمه في فيلمه القادم، لكن المُخرج الراغب فعليا في سينما جديدة تخصه وحده من خلال سخريته القاتمة ينجح في أن يقدم لنا ما يثير لدينا المزيد من الدهشة نتيجة مقدرته على التجديد والمضي قدما في المزيد من السخرية، بل وتحطيمه للشكل الفني المُعتاد في السينما المصرية، وتقديم شكل جديد لا يخص سواه فقط؛ لذلك كانت دهشتنا حينما قدم الميهي فيلمه التالي "سمك لبن تمر هندي"، وهو الفيلم الذي وصفه بنفسه "بالمسخرة".

في هذا الفيلم يعمل المُخرج على تحطيم الشكل الفني للفيلم السينمائي المُعتاد- لاحظ أن تحطيم المضمون كان في أفلامه السابقة- فيبدأ الفيلم بمشهد أثناء التصوير نرى فيه المُخرج نفسه ومُساعديه، ويتوجه فيه مُمثلو الأدوار الرئيسية بالحديث إلى الجمهور؛ ليؤكدوا أن الفيلم مُجرد خيال، وأن الأماكن غير مقصودة، كذلك الأحداث ومهن الشخصيات.

هل يمكننا الذهاب هنا إلى أن المقصود بهذا المشهد هو نفي شُبهة أي اتهام للمُخرج وصُناع الفيلم بأنهم يقصدون أناسا بأعينهم، وأحداثا بعينها حتى لا يخرج أحدهم ويتهمهم قضائيا مرة أخرى بعدما حدث في فيلم "الأفوكاتو"؟

قد يكون هذا هو هدف المُخرج بالفعل، لكنه من خلال هذا الشكل المُدهش للمُشاهد- الذي لم يعتد هذا الشكل في السينما المصرية- أضفى المزيد من السُخرية والتجديد والصدمة؛ الأمر الذي أفاد فيلمه من الناحية الفنية لاسيما أن الفيلم يزاوج ما بين الحالة الواقعية والحالة فوق الواقعية- وليست الفانتازيا كما يحلو لنقاد السينما الذهاب- فهو لا تعنيه الفانتازيا ومُسمياتها بقدر ما يعنيه السخرية مما يدور حوله وإضحاكنا على أنفسنا وما نفعله، ولعل هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية التي يتأملها الميهي في أفلامه تجلت بشكل مُكتمل في هذا الفيلم الذي جعل عنوانه "سمك لبن تمر هندي"، وهي جملة يطلقها المصريون على حالة الفوضى الكاملة التي لا يستقيم فيها أي عقل أو ترتيب أو منطق؛ وبالتالي يتحول الأمر في هذه الحالة إلى فوضى وعبثية كاملة.

يتحدث الفيلم عن الطبيب البيطري "أحمد سبانخ" وحبيبته "إدارة". يرغب أحمد في الزواج من إدارة منذ سنوات طويلة لكن ظروفه الاقتصادية تعمل على تأخير زواجهما دائما؛ الأمر الذي يدفع والده إلى السفر للخليج بهدف الحصول على المال ومُساعدة ابنه، وبعد رفض الأب تقديم جزء من دخله إلى المسؤولين عن سفره للخارج يتعرض لمُضايقات منهم ويموت، وبعد نقل جثته إلى مصر يشك الإنتربول في انتماء أحمد ووالده لتنظيم إرهابي ويقوم أحد الضباط بمُراقبته، ويجد أحمد وخطيبته نفسهما في نهاية الأمر حبيسين في "المشرحة" التي ليست في حقيقتها إلا "المُستشفى الخاص لعلاج مشاغبي العالم الثالث".

هنا تبلغ السخرية لدى الميهي أوجها؛ فالمُستشفى الذي يعالج، يقتل المرضى، وملابس الأطباء هي نفسها ملابس المرضى، والأطباء يقرأون الكف والفنجال، والأعضاء البشرية تُشوى وتُؤكل في الأرغفة، والموتى يُبعثون في المشرحة، فيبدو الأمر وكأننا قد دخلنا إلى واقع خيالي، أو هو واقع الأحلام التي يجوز فيها أن يحدث أي شيء من خلال أي شكل غير منطقي، بل تستمر سُخرية الميهي من كل شيء وليس من المُجتمع فقط؛ فيسخر في مشهد مُهم من أحد مشاهد فيلم "الكرنك" حينما نرى الضابط يقول لمعالي زايد: دا زميل اللي اغتصب سعاد حسني في الكرنك يا معالي"! كما يستمر في سُخريته التي نراها حينما يسخر من المشهد الأخير من فيلم "الأرض".

إن السُخرية التي يُصر عليها الميهي فيما يقدمه من سينما تصبح هي الأسلوب والشكل والمضمون الكامل لسينماه؛ فكل ما نحيا فيه مُجرد شكل من أشكال العبث، وهذا العبث لا يمكن لنا مواجهته إلا من خلال السُخرية منه والضحك عليه؛ ولأن هذا العبث لا سبيل واقعي يمكننا من إصلاحه؛ فالأمر يبدو أمامنا شديد القتامة، وبالتالي يصبح الإنسان مُجرد حمار في نهاية الأمر، وهو ما رأيناه في نهاية الفيلم حينما نشاهد إنسانا برأس حمار، أي أن المُخرج يريد التأكيد على أننا لا نفكر، وأننا لا نفترق كثيرا عن الحمار في حياتنا اليومية التي أدت بنا إلى كل هذه المسخرة التي نحياها والتي يصورها لنا علنا نفيق مما نحن فيه.

في هذا الفيلم أراد المُخرج نقاش مفهوم العلاقة بين المواطن والسُلطة في العالم الثالث، ثم العلاقة بين هذا العالم الثالث والمُجتمع الدولي، وهو في ذلك يحاول، قدر استطاعته، الدفاع عن الإنسان ضد الديكتاتورية- سواء على المستوى المحلي أو المستوى الدولي- لكنه يقدم هذه الرؤية من خلال أسلوبيته الجديدة التي رأى أنها الأصلح للتعبير عن السينما التي يريدها.

من خلال هذه الأفلام الخمسة التي قدمها الميهي في فترة الثمانينيات- فترة هذه الحقبة محل الدراسة- يتأكد لنا أن الميهي استطاع التعبير عن هذا الاتجاه السينمائي الجديد في السينما المصرية- الواقعية- وإن كان هذا التعبير قد تم من خلال منظوره الفني الذي يخصه وحده، والذي لم يستطع غيره أن يمشي فيه، أو يسير على خطاه؛ فالمُخرج الذي يقدم هذا الشكل الفني الساخر، إنما ينطلق في كل أفلامه من الواقع، ويستغرق في نقاش قضاياه الرازحة على صدورنا، وإن كان يتناولها بشكل سيريالي؛ للتخفيف من وطأتها ومليودراميتها، أي أنه يحول لنا الميلودراما والبكائيات إلى مسخرة ضاحكة؛ فيضحك المُشاهد على ما يراه، ويسخر من نفسه محاولا تأمل ما آلت إليه أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية؛ الأمر الذي جعل الجمهور يتفاعل مع ما يقدمه المُخرج من "مسخرة" سينمائية واجتماعية.

 

 

من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"

مجلة نقد 21

عدد ديسمبر 2021م.



[1] يشير كتاب "بانوراما السينما المصرية 1927- 1982م" إلى أن فيلم "الهارب" كان عام 1975م، ويحمل الرقم التسلسلي في مُجمل إنتاج السينما المصرية 1611/ انظر الكتاب ص 118/ صندوق دعم السينما/ القاهرة 1983م، بينما يشير كتاب "دليل السينمائيين في مصر" للناقدين مُنى البنداري ويعقوب وهبي إلى أن تاريخ الفيلم هو 1974م/ انظر الكتاب ص 121/ سلسلة آفاق السينما/ العدد 28/ الطبعة الثانية/ الهيئة العامة لقصور الثقافة، كما يشير موقع السينما دوت كوم Elcinema.com إلى أن تاريخ عرض الفيلم هو 24 يوليو 1975م.

[2] انظر مقال "علشان ربنا يحبك: ضربة قاتلة للطبقة المتوسطة.. ولكن أين السينما؟!" للناقد حسني عبد الرحيم/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 19/ العدد 42/ مايو 2001م

[3] انظر مقال "رأفت الميهي: عقل السينما المجنون" للناقد عصام زكريا/ موقع البوابة الوثائقية/ الإثنين 27 يوليو 2015م.

[4] انظر حوار رأفت الميهي مع نجلاء فتح الله بعنوان "رأفت الميهي: هذا المُجتمع لا يستحق إلا السخرية!"/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 30/ العدد 42/ مايو 2001م.

[5] انظر كتاب "مائة عام من الرقابة على السينما المصرية" للناقد محمود علي/ الكتاب ص 369/ المجلس الأعلى للثقافة/ 2008م.

[6] انظر كتاب "مائة عام من الرقابة على السينما المصرية" للناقد محمود علي/ الكتاب ص 370/ المجلس الأعلى للثقافة/ 2008م.

[7] انظر المرجع السابق ص 384.

[8] انظر كتاب "السينما النظيفة" للناقد محمود الغيطاني/ الكتاب ص 17/ الطبعة الأولى/ سنابل للكتاب/ 2010م.

[9] انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 263- 264/ مرجع سبق ذكره.