الأحد، 20 سبتمبر 2020

النجوم لا تسرد الحكايات.. امرأةٌ بخيال طفلة

 

هل من الممكن صياغة العالم من خلال خيال طفولي يحمل في طياته الكثير من البساطة والسذاجة والخيال الثري؛ ومن ثم يقتنع القارئ بمثل هذا العالم وكأنما ثمة طفلة هي من صاغته وقدمته إليه؟

يظل مثل هذا التساؤل يدور في ذهن كل من يقرأ المجموعة القصصية "النجوم لا تسرد الحكايات" للقاصة الأردنية بسمة النسور التي أكدت من خلال المجموعة مقدرتها على السرد القصصي مستعيرة عيني طفلة مندهشة وبسيطة تلبستها حالتها منذ القصة الأولى لمجموعتها القصصية حتى نهايتها. إن محاولة بسمة النسور تقمص دور الطفلة والحديث بخيالها لا يعني أن جميع قصص المجموعة يتم سردها على لسان طفلة صغيرة فقط، بل سنرى من خلال قصص المجموعة بعض القصص الأخرى التي تتم صياغتها على لسان امرأة راشدة، لكنها تحمل داخلها أيضا روح طفولية تسكنها؛ وبالتالي نلاحظ أن المرأة الراشدة الساردة تتصرف بطفولية، أيضا، لا تختلف فيها عن أي طفلة لم تزل بعد صغيرة.

نلاحظ هذه الطفولية التي تلبست شخصيات المجموعة في قصتها الأولى، مثلا، "آلام كثيرة"، ورغم أن القاصة تستخدم الضمير الثالث في السرد- ضمير الغائب- للحديث عن امرأتين تلاقتا بعد زمن طويل من القطيعة رغم صداقتهما القديمة، إلا أن ردود فعل الشخصية الرئيسية في القصة لا يمكن لها أن تختلف عن رد فعل أي طفلة ستكون في نفس هذا الموقف، وهو السعادة والشعور بالتفوق والانتقام من أجل خلاف قديم كانت قد نسيته، وكأنها إحدى الطفلات التي اختلفت مع صديقتها على لعبة ما، وحينما ضاعت اللعبة من الثانية شعرت الأولى بالسعادة الجمة، وكأنما قد نبت لها جناحين بسبب هذا الفقد لهذه اللعبة السالفة الذكر.

تحاول القاصة منذ بداية قصتها صياغة عالمها بشكل مُباشر يعمل على إدخال القارئ إلى قلب هذا العالم من أقصر الطرق بقولها: "كان لقاء المرأتين مصادفة محضة، لم تملك أي منهما تفاديها. رغم أن كلتاهما حاولتا تصنع عدم الانتباه لوجود الأخرى، غير أن قاعة الانتظار في مكتب المحامي كانت ضيقة نسبيا، كما أنجز بقية الحاضرين معاملاتهم وغادروا على التوالي؛ مما أبقاهما وحيدتين بصحبة السكرتيرة التي اعتذرت عن التأخير؛ بسبب انشغال المحامي في مكالمة خارجية مهمة"، ناهيك عن الخطأ الوارد في الاقتباس السابق الذي جعل اسم "أن" مرفوعا في "كلتاهما" بدلا من نصبه "كلتيهما"؛ حيث يُنصب المثنى ويجر بالياء، فإن القاصة وضعت القارئ بشكل مُباشر في عالمها الذي بدأت في صياغته منذ السطر السردي الأول؛ فنحن هنا أمام امرأتين لا نعرف عنهما شيئا، لكنهما في مواجهة ما، وهي نوع من المواجهة التي تحرص كل منهما على تفاديها؛ لشعور كل من المرأتين بالحرج منها؛ لذلك هيئت الساردة العالم الذي لا بد أن تلتقيا فيه وصاغته في شكل مكتب محامي، ولعل اختيار المكان لكي يكون مكتب أحد المحامين كان من الأهمية والضرورة السردية التي سنعرفها فيما بعد مع استكمال الحدث والوصول إلى نهاية القص؛ فالمرأتين كانتا صديقتين قديمتين، لكنهما افترقتا وحدثت بينهما قطيعة طويلة؛ لأن الثانية وقعت في غرام حبيب الأولى الذي مال إليها ثم تزوجا؛ الأمر الذي جعلها تشعر بالخديعة من صديقتها وحبيبها، ورغم أن المرأة الأولى قد تزوجت فيما بعد- وهو ما سنعرفه مع استمرار السرد- إلا أنها بمجرد رؤيتها لصديقتها القديمة عادت إليها غصتها، وكأن الجرح المُندمل قد عاد طازجا قد حدث في لحظتها الآنية؛ لذلك تحاول الهروب من الموقف، لكن صديقتها الثانية تبادرها بالحديث، وتؤكد لها أن الأمر قد مرّ عليه الكثير من الزمن، وأنهما قد شارفتا الخمسين، وحينما تدخل الأولى إلى غرفة المحامي نعرف أنها قد ذهبت إليه لإنهاء إجراءات الطلاق من زوجها، إلا أن المفارقة الحقيقية التي نعرفها أنها حينما تهم بمغادرة المكتب تخبرها صديقتها الأخرى أن زوجها قد مات منذ عامين، وأنها هنا من أجل الخلاف على تركته.

ربما نلاحظ من خلال هذه القصة أن الساردة تهتم بالتفاصيل السيكولوجية لشخصياتها في: "تظاهرت بالانهماك في تصفح مجلة قديمة. أحست أن المرأة الأخرى تحدق فيها، تمتمت قائلة بغيظ: ما زالت وقحة كالسابق. رفعت بصرها محاولة مواجهتها بنظرة تحمل شيئا من التحدي. غير أنها باغتتها بابتسامة تشي بمودة كبيرة، هتفت: كيف حالك؟ مضى زمن طويل، أصبحنا عجوزتين، أليس كذلك؟!"، في هذا الاقتباس يتأكد لنا اهتمام الساردة بردود الفعل النفسية لشخصياتها؛ فرغم أن المرأة الأخرى لا تمتلك تجاه الأولى أي ضغينة، إلا أننا نلاحظ أن الأولى تمتلك من الأحكام الجاهزة ما جعلها تظن أن صديقتها القديمة "ما زالت وقحة كالسابق"، رغم أنها لا تحمل أي شكل من أشكال الوقاحة بقدر ما تحمل مقدارا كبيرا من الرغبة في التودد ومد أواصر الصداقة المقطوعة، وهو ما يُدلل على اهتمام القاصة بالتفاصيل الصغيرة لشخصياتها، وطريقة تفكيرها. هذه التفاصيل نلمحها في: "كانت صديقتها الأقرب قبل أن تسلبها الرجل الذي أحبته أكثر من أي شيء. مضى وقت طويل قبل أن تفهم سر التلعثم والارتباك الذي بدا واضحا عليهما في كل لقاء. حين واجهتهما بما يدور في رأسها، تبادلا نظرة متواطئة وأطرقا صامتين. قررت أن لا تكرههما. كانت واثقة بأنهما لم يتعمدا استغفالها، وأن ما حدث كان رغما عنهما. غير أنها رفضت الاستماع إلى أي تبرير. اكتفت بالقول: كان بإمكانكما تجنيبي آلاما كثيرة"، أي أن المرأة رغم يقينها "بأنهما لم يتعمدا استغفالها" في علاقتهما مع بعضهما البعض، إلا أنها اتخذت موقفا عدائيا منهما، وكأنما قد سلبتها هذه الصديقة لعبتها المفضلة.

ربما يقول البعض: هذا لون من ألوان رد الفعل الإنساني الطبيعي ستتخذه أي امرأة في مثل هذا الموقف، لكننا حينما نقرأ نهاية قصتها لا بد أن تتغير هذه النظرة تماما، ويتأكد لنا أنها لم تكن تفكر سوى بعقلية طفلة صغيرة فقط: "غادرت المكتب. رمقت صديقتها القديمة بنظرة مستطلعة. بدت الأخيرة حزينة ومنكسرة، لوحت لها مودعة. مشت عدة خطوات باتجاه الباب. التفتت ثانية حين هتفت باسمها. تقدمت نحوها بخطى مترددة. قالت بلهجة متلعثمة: لقد مات منذ شهرين. أُصيب بنوبة قلبية. أنت تذكرين كم كان مدخنا شرها. أنجبت ولدين، ثمة مشاكل بشأن التركة. ظلت ساهمة، سقطت حقيبة يدها، تناولتها وقد انتابها ارتباك شديد. لم تعرف ما الذي ينبغي عليها قوله، ترددت للحظة قبل أن تهمس بخجل: أنا آسفة. اقتربت منها، احتضنتها بمودة قائلة: لا تحزني، اعتن بنفسك، سوف تتجاوزين الأمر. يؤسفني أننا لم نعد صديقتين هل تسامحيني؟ أنت قلت مضى زمن طويل. ربتت على كتفها بحنان. خرجت من المكتب. ضغطت على زر المصعد. تأملت نفسها بالمرآة بأسى. تذكرت تأكيدات المحامي حول خلاصها الوشيك. طغى على روحها إحساس مفاجئ بالخفة. حطت ابتسامة كبيرة فوق وجهها، أخذت تدندن بأغنية خفيفة في طريقها إلى السيارة. حين أرادت أن تدير المحرك اكتشفت أن ثمة أجنحة هائلة قد احتلت مكان ذراعيها السابقتين".

من خلال هذا الاقتباس يتأكد لنا أن المرأة لم تكن تتعامل من خلال رد فعل إنساني طبيعي، بل من خلال رد فعل طفلة فقدت لعبتها المفضلة في يوم ما على يد صديقتها، وحينما اطمأنت إلى أن هذه الصديقة قد فقدت هذه اللعبة ولم تعد أي منهما تمتلكها؛ فقد عادت إلى طبيعتها مع صديقتها القديمة، بل وشعرت بالراحة الكبيرة لدرجة شعورها بأنها قد نبت لها جناحين تطير بهما، بل وبدأت تدندن بأغنية خفيفة رغم أن الظرف لا يسمح بذلك؛ فهي من جهة تسعى في إجراءات طلاقها، ومن جهة أخرى قد علمت للتو بأن حبيبها القديم قد مات.

في قصة "المقصورة" تتشكل أمامنا هذه الرغبات الطفولية الموغلة داخل الشخصيات النسائية لقصص المجموعة، وهي الرغبات التي تتصرف من خلالها الشخصيات وتتكون ردود أفعالها بناء عليها. نرى ذلك من خلال صديقتين تذهبان إلى دار عرض سينمائي لرؤية أحد الأفلام، وترغبان في الجلوس في المقصورة المُخصصة لكبار الشخصيات رغم أن تذكرتيهما لا تسمحان لهما بذلك، لكنهما تخيلتا الكثير من العوالم غير الحقيقية لتعيشا فيها، كأن تتخيل إحداهما أنها أناييس نن، بينما تخيلت الأخرى بأنها صاحبة منصب رفيع في إحدى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ولكن رغم جلوسهما في المقصورة، التي كانت خالية، إلا أن الموظف المسؤول يرفض تواجدهما فيها طالبا منهما بأدب الالتزام بمقاعدهما؛ لأن وجودهما في المقصورة قد يؤدي إلى فصله من عمله. ترضخ المرأتان للموظف وقد تميزت إحداهما غيظا، إلا أنه بمجرد انتهاء الفيلم ترى إحداهما الموظف يجلس باسترخاء في المقصورة وحده بعدما منعهما من تحقيق خيالهما؛ الأمر الذي يجعل إحدى الصديقات تشعر بالقهر؛ لأنه منعها من تحقيق خيالها الجميل الذي تريد الحياة فيه لمجرد أن يسترخي في مقاعد المقصورة الوثيرة!

"اشتعلت الأنوار، نظرت إلى صديقتي. كانت منهمكة في تجفيف دموع اعتدت رؤيتها في نهاية كل فيلم حزين. تطلعت حيث المقصورة. كان الموظف نفسه جالسا هناك باسترخاء. أومأت لها بأن تنظر باتجاه المقصورة قبل أن ينهض الموظف من هناك محاولا إخفاء ارتباكه. مشينا باتجاه السيارة. اقترحت عليها أن نتناول عشاء خفيفا في أحد المطاعم القريبة. قالت بأسى: لست جائعة، فقط أود أن أصرخ؛ ذلك الوغد كسرني، المقصورة في متناول مؤخرته كل الأيام، كان ينبغي ألا نستجيب له، لكنك جبانة، رضيت بهزيمة مُبكرة. كنت أتوق لحظة تمييز صغيرة! حين أدرت محرك السيارة قلت لها: آنا كارنينا دفعت حياتها ثمنا للحظة تمييز، نحن لم نخسر شيئا، ابتهجي". إن رد فعل إحداهما بسبب حرمانها من الجلوس في المقصورة والحياة داخل خيالها الذي تخيلته باعتبارها أناييس نن، هو رد فعل شديد الطفولية في حد ذاته لا يمكن أن يشعر به الإنسان الراشد؛ فهي تريد أن تصرخ لمجرد حرمانها من الحياة داخل الخيال، وترى أن الموظف الذي جلس مكانها قد هزمها هزيمة كبيرة في حياتها رغم أن الأمر لا يمكن أن يتم تفسيره أو تلقيه بمثل هذا المعنى في الواقع، لكنها تتصرف كطفلة منعها أحدهم من اللعب بلعبتها، أو منعها من تخيل نفسها تعيش في عالم من الخيال، ولعل القاصة تؤكد على ذلك في ختام قصتها حينما تكتب على لسان المرأة التي تخيلت نفسها أناييس نن قائلة لصديقتها: "كل ليلة أغمض عيني وأحلم بأنني امرأة أخرى. أعيش في زمان آخر، ومكان آخر مع أناس آخرين، وأصحو في اليوم التالي لأكتشف أن ذلك غير ممكن. ألا يحدث لك ذلك أحيانا؟ كانت قد أطبقت باب السيارة قبل أن تسمعني أجيب: هذا بالضبط ما يحدث لي دائما". إن الكاتبة هنا تريد التأكيد على الخيالات والرغبات الطفولية التي تصوغ من خلالها شخصياتها عالميهما، كما أنها من جهة أخرى تمتلك من المقدرة السردية وتفهم سيكولوجية المرأة- وهي السيكولوجية الأكثر قربا من عالم الطفولة خلافا لسيكولوجية الرجل- ما يجعلها تصف هذه السيكولوجية وهذا العالم النسائي المختلف تماما عن العالم الذي من الممكن للرجل أن يتخيله بشكل سلس، وهو العالم الأقرب إلى الأطفال؛ فهي هنا لا تحاول التركيز على هذه التخيلات الأنثوية باعتبارها محاولة للهروب من العالم الذكوري المُسيطر والمُتحكم في عالم المرأة كما تفعل غيرها من الكاتبات اللائي يجأرن دائما ويشكين من ظلمهن والتحكم فيهن؛ فبسمة النسور بعيدة تماما عن هذه الشكوى التي تُفسد السرد القصصي وتسلبه ثرائه في نهاية الأمر، بل هي تتأمل في عالم المرأة وتنقله للقارئ بشكل فيه من السلاسة والتلقائية ما يجعل قصصها تحمل بصمة خاصة فيها الكثير من الروح الطفولية المرحة البسيطة، لكننا نلاحظ أن القاصة رغم امتلاكها لجملها البرقية السريعة التي تتناسب إلى حد بعيد مع أسلوبية القصة القصيرة وروحها التي تحتاج إلى السرعة اللاهثة، إلا أنها بدأت قصتها بجملة شديدة الطول لا يمكن لها أن تتناسب مع عالم القصة القصيرة في: "لم يكن في صالة السينما عندما وصلنا سوى عدد قليل من المتفرجين الذين توزعوا بشكل متباعد في الصالة الفسيحة التي بدت خالية تقريبا ولم يظهر أن إدارة السينما تتأهب لاستقبال شخصيات مهمة". إن طول الجملة هنا يشعرنا بأن أنفاسنا تنسحب معها لحين الانتهاء منها، وهذا الطول لا يتناسب مع السرد القصصي، وكان من الأولى بالكاتبة أن تعمل على تقطيع جملتها إلى مجموعة من الجمل القصار؛ لتكون أكثر مناسبة مع عالمها القصصي.

في قصة "النجوم لا تسرد الحكايات" تواجه النسور الحياة بالخيال الكامل، وتؤكد من خلال قصتها أن الخيال الطفولي من الأهمية التي تجعل العالم أكثر بساطة وتقبلا مما لو عشنا فيه من خلال واقع الراشدين. تتناول القصة موت جدة إحدى الطفلات وتساؤلها عن جدتها؛ فتخبرها أمها أنها قد تحولت إلى نجمة في السماء من أجل أن ترعاها وتعتني بها، وأنها تستطيع أن تحادثها كما كانت تحادثها من قبل وتحكي لها حكاياتها، لكن الجدة لن تستطيع أن ترد عليها:"وجدت المرأة- التي كانت بلا يقين- نفسها في مأزق حقيقي وهي تحاول تفسير رحيل الجدة المُباغت للصغيرة التي ظلت تتساءل: ولكن أين هي الآن؟ وهكذا ابتدعت حكاية أول نجمة تظهر في السماء. أكدت لها أن الجدة لم تبتعد تماما، بل تحولت إلى تلك النجمة؛ كي تظل قريبة منها وتحرسها في الليل. طمأنتها أن بمقدورها التحدث معها تماما كما اعتادت أن تفعل في السابق، وأضافت أن الفرق الوحيد هو أن الجدة لن تتمكن من سرد حكايتها المسائية؛ لأن النجوم لا تسرد الحكايات، لكنها لن تكف عن الاستماع"؛ فتصدق الطفلة الأمر وتعيش في عالم الخيال مع الجدة التي تحولت إلى نجمة، ورغم بساطة فكرة القصة وموضوعها إلا أنها تحمل من الأسلوبية والحبكة التي صاغتها بها القاصة ما يجعلها من القصص المُهمة في المجموعة. هنا تنسج القاصة سردها ببراعة توضح من خلالها خيال طفولي ساذج مرح: "تسللت الصغيرة إلى حجرتها. خلعت ثياب المدرسة. ارتدت قميص النوم القطني. تقدمت نحو النافذة. أزاحت الستارة. حدقت في السماء. خُيل لها أن ثمة نجمة تتقدم باتجاه النافذة. صفقت ببهجة، قالت بلوم: لماذا لم تخبريني أنك سوف تذهبين إلى السماء؟ كنت سأذكرك أن تأخذي نظارتك. الآن لن تتمكني من رؤيتي جيدا. لو بقيت في المنزل لكان أفضل. ماذا ستفعلين حين تمطر؟ ألن تشعري بالبرد؟! هل حقا تعبت من حياتك على الأرض؟ يبدو أنك تحبين أم محمود أكثر مني، من أجل ذلك لحقت بها، ربما غضبت لأنني أحب "توم وجيري" أكثر من حكاياتك، لكنك تحبينه أيضا. كنت تضحكين كثيرا حين نشاهده معا. قلت لي: هذا الفأر خفيف الظل، والقط الشرير يستحق ما يحدث له، هل نسيت؟!".

نلاحظ هنا أن بسمة النسور قادرة على تقمص شخصية الطفلة وروحها، والحديث بلسانها الذي يتوجه بالحديث إلى الجدة؛ مما يجعل الكاتبة هي الطفلة ذاتها في رؤيتها للعالم وإعادة تشكيله بناء على المعطيات الجديدة التي صدقتها الطفلة بعدما حدثتها أمها وقالت لها هذه الحكاية، لكن القاصة كانت من الذكاء ما جعلها لا تستغرق في هذا العالم الخيالي للطفلة، وتؤكد لنا في نهاية الأمر أن عالم الصغار الخيالي أكثر رحابة واطمئنانا ومقدرة على مواجهة الواقع من الكبار الذين يتعاملون مع الواقع بمعطياته القاسية؛ لذلك تكتب: "تمددت على السرير. فكرت بالرحلة الموعودة في نهاية الأسبوع. ارتسمت ابتسامة رضى على وجهها، وسرعان ما غلبها النعاس. أطلت المرأة وقد هدها الإنهاك والحزن. طبعت قبلة على جبينها. نزعت نظارة الجدة من يد الصغيرة. أحكمت وضع الغطاء على الجسد المطمئن. طوت الثياب المُلقاة على الأرض. وضعت حقيبة المدرسة على الكرسي المجاور للسرير. تنبهت إلى النافذة المفتوحة. أوشكت أن تغلقها. اتكأت على حافتها. حانت منها التفاتة إلى الخارج. أُصيبت بالدهشة حين رأت خلف النوافذ المحيطة الكثير من الأولاد يتطلعون إلى السماء بتوق كبير، ويثرثرون بلا انقطاع"، أي أن الكاتبة تؤكد في ختام قصتها أن الخيال الذي يعيش عليه الأطفال كان أفضل لهم في تقبل الواقع القاسي مما لو كانوا قد تعاملوا مع معطيات هذا الواقع نفسه، كما نجحت سرديا في تقمص حالة الأطفال والحديث بلسان حالهم مع الأمر.

هذا التقمص الكامل، والحديث بلسان الأطفال وخيالهم، والاستغراق في عوالمهم الطفولية البسيطة الساذجة نراه بشكل أكثر وضوحا في قصتها "بيت بيوت" التي تسردها القاصة على لسان طفلة مستخدمة الضمير الأول/ المتكلم في السرد؛ حيث تحكي إحدى الطفلات عن صديقتها إيمان التي تريد أن تبوح بسرها الذي ائتمنتها عليه لأبويها لمجرد أنها لم تلعب معها لعبتهما المفضلة "بيت بيوت" في الليلة الماضية ولعبتها مع جارتها سمر، ورغم أن الطفلة/ الراوية تحاول التأكيد لإيمان أن سمر جاءت إلى بيتها مع أمها وفرضت نفسها عليها ولعبت معها بلعبتها إلا أن إيمان تُصرّ على مقاطعتها، وحينما تذهب إلى بيت الراوية مع أمها تخبر أبويها أن الراوية تحب عبد الحليم حافظ وأن قلبها يخفق حينما تراه على الشاشة، وأنها أخبرتها بأنها ستتزوجه حينما تكبر. تثور الفتاة حينما تفضح صديقتها سرها أمام والديها؛ فتجذبها من شعرها وهي تصرخ باكية، وتبدأ إيمان في الدفاع عن نفسها وتعضها بقوة في يدها بينما تثور عاصفة من الضحك بين الآباء. تقاطع كل من الصغيرتين للأخرى، وتنتحي الفتاة الصغيرة/ الراوية في حجرتها باكية لتدخل لها إيمان وتطلب منها أن تلعب معها "بيت بيوت" للمرة الأخيرة في حياتهما، وبالفعل تبدآن في اللعب وتتناسيا ما حدث من إفشاء السر والرغبة في القطيعة أثناء لعبهما.

إن بساطة العالم الطفولي- الذي تتحدث عنه وتصفه الكاتبة- وسذاجته كان من السلاسة والانسياب ما جعل هذه القصة من أفضل قصص المجموعة في التعبير عن الخيال الطفولي: "اندفعت نحو حجرتي. أطبقت الباب خلفي. ألقيت بجسدي على السرير وواصلت انتحابي. أطلّت بعد قليل وقد اكتسح الندم ملامحها المضطربة. جلست عند طرف السرير دون أن تنبس. قلت بلهجة حازمة: عليك أن تعيدي الدمية التي أهديتك إياها في عيد ميلادك. أطرقت مفكرة. تأففت بضيق، ثم ردت: إن أمك من ابتاعها ولست أنت. قلت: أنا من قدمتها لك، وأريد استعادتها؛ لأنك لم تعودي صديقتي. أجابت باستسلام: حسنا، سأعيدها لك في الغد. ساد صمت عميق. ثَبتُّ ذراعي خلف رأسي، وظللت أحدق في السقف محاولة تجاهل وجودها. اقتربت بخطوات متثاقلة، قالت بحذر: لنلعب "بيت بيوت" للمرة الأخيرة. ترددت قليلا، ثم تناولت منديلين ومسحنا دموعنا. أجبت بلهجة متواطئة: حسنا، ولكنها سوف تكون الأخيرة. قفزنا عن السرير مبتهجتين. صففنا الدمى باعتناء. انهمكنا في اللعب ثانية. وظلت ضحكات الكبار تقتحم علينا الحجرة دون أن ندرك تماما ما المضحك في الأمر".

القاصة الأردنية بسمة النسور

إن عالم الطفولة الخاص الذي تستغرق فيه القاصة وتعمل على وصفه بكل ما ينتابه من بساطة وسذاجة يكاد أن يُشعر القارئ بالتوحد فيه، بل وينتابه إحساس من المرح مُشاركا للطفلتين في عالميهما البسيط الذي نجحت الكاتبة في التعبير عنه بشكل بسيط، وإن كان فيه من الإحكام السردي ما يجعلها تدرك جيدا كيف تصوغ عالمها الذي دخلته.

هذا العالم البسيط نلمحه بشكل أكثر اتقانا في قصتها "هبوط اضطراري"؛ حيث تؤكد القاصة من خلال قصتها مدى إدراكها لما تفعله بالانغماس في هذا العالم وكيفية صياغته بشكل مُحكم فيه من الإقناع ما يجعل قصصها ذات عالم فريد يخصها وحدها بقدرتها السردية التي تغوص بها داخل عوالم الأطفال وخيالاتهم بشكل مُحكم؛ حيث تتحدث من خلال الضمير الأول على لسان طفلة تشاهد زوجة عمها الإنجليزية التي تُصرّ على دفن قطتها حينما تموت، وهو الأمر الذي يجعل أفراد الأسرة يندهشون من رغبتها ويسخرون منها فيما بينهم، وتذكر أن زوجة العم التي تحبها وتعتني بها دائما قد فضلت الرحيل إلى بلدها حينما أراد العم الزواج من أخرى ووعدتها أنهما سيلتقيان مرة أخرى: "عندما ذهبت بصحبة عمي لتوصيلها إلى المطار تشبثت بطرف ثوبها المنقط دون أن أتفوه بكلمة. شدتني إلى صدرها بقوة هامسة: سوف نلتقي يوما ما، أعدك. لم أصدقها؛ لأنها وعدتني وهي تحزم حقائبها أن تصحبني. وشوشتني قائلة: سوف أضعك في الحقيبة، ولن ينتبه أحد لاختفائك. ونعيش في بيت جميل مُحاط بحديقة صغيرة. سأنصب لك أرجوحة ونمتطيها سويا حتى يصيبنا الدوار". تعتمد القاصة على ما قالته زوجة العم للطفلة ليكون محور قصتها؛ حيث تبدأ الفتاة المُفتقدة لزوجة العم في تخيل أنها قد ذهبت معها بالفعل داخل حقيبة سفرها، وأنها قد طارت معها في الطائرة؛ ليبدأ عالمها في التشكل تبعا لخيالها الذي انبنى على ما أسرت به زوجة العم. هنا تحلم الفتاة بأنها في الطائرة تنظر إلى بيتها الصغير وجدتها، وصديقاتها، وتبدأ في سرد حكاياتها اليومية مع الصديقات والجدة والأب والأم؛ لتقوم القاصة بتقطيع السرد بأسلوب مونتاجي سينمائي ما بين حكاياتها مع صديقاتها وأشقائها، وما بين وجودها على متن الطائرة إلى أن تضطر في نهاية الأمر إلى الهبوط الاضطراري من الطائرة وتعود إلى عالمها الواقعي حينما تهددها أمها إذا لم تهبط من الطائرة التي لا وجود لها سوى في خيالها: "انهمكت أمي في نشر الثياب على الحبال المنصوبة في ساحة البيت الخلفية وهي تلعن حظها العاثر، ناديتها ثانية، رفعت رأسها نحوي وهتفت بحدة: متى ستكفين عن التصرف ببلاهة؟ اهبطي على الفور. قلت لكاتيا: أريد أن أعود إلى أمي. قبلتني باستسلام، ثم فتحت النافذة. دفعتني برفق إلى الأسفل. رفعت بصري نحوها. كانت عيناها تذرفان الدموع. لوحت لي قائلة: تذكريني دائما. غابت الطائرة. تلاشى هديرها تماما. أخذت أحلق في الهواء وقد فردت ذراعيّ على اتساعهما. خشيت من السقوط في طشت الغسيل. غير أنني صحوت وكانت جدتي تحتضنني وهي تردد: اسم الله عليك".

 نلاحظ هنا أن القاصة لم تُسرّ إلينا بحقيقة الأمر، وأن العالم الذي ذهبنا إليه مجرد عالم يدور في أحلام الفتاة إلا في نهاية قصتها حينما تصحو من نومها بينما جدتها تجلس إلى جوارها، وهو أسلوب تتبعه القاصة في معظم قصصها تقريبا؛ حيث نلاحظ أننا نكتشف حقيقة العالم في نهاية القصة فقط، وهو أسلوب تبرع الكاتبة في استخدامه.

في قصة "منذ ذلك الحين" تنجح القاصة في التعبير عن عالم المرأة من خلال امرأة ذات سيكولوجية مرحة تحرص دائما على تدبير العديد من المقالب لكل من يحيطونها من أجل الضحك معهم من خلال ردود أفعالهم؛ فتارة تتصل بشقيقها وتعمل على تغيير صوتها وتوهمه بأنها فتاة تحبه ومُغرمة به، وبالفعل يصدقها أخوها إلى أن يكتشف أنها هي من تفعل به ذلك؛ فيقسم أن يقتلها إن لم تكف عن شقاوتها، ثم تنتقل المرأة للحديث عن زواجها وعلاقتها المثالية مع زوجها، إلى أن تفكر ذات مرة في تدبير أحد مقالبها مع زوجها؛ فتطلب من زميلها في العمل أن يتقمص دور أحد جيرانهم في نفس البناية، وأن يتصل بزوجها ويتهمه بأنه يستقبل النساء في شقته: "خطر لي تدبير مقلب مُحكم لزوجي، وهكذا رجوت أحد زملائي الذي يتقن التقليد مُهاتفة زوجي. لقنته بالضبط ماذا يقول. أدرت قرص الهاتف. ضغطت على الزر الأرجواني الذي يتيح للجميع سماع صوت من على الخط الآخر. حاولنا جاهدين كتم ضحكنا ونحن نستمع إليه يخاطب زوجي بلهجة حانقة قائلا: السيد..؟ أنا جارك، أقطن في الطابق الأرضي. أود أن أحذرك من تصرفاتك الرعناء. إن الجيران يتذمرون من سلوكك غير الأخلاقي. وقد قررنا إبلاغ مالك البناء. هذا الأمر مُخجل لا يمكن السكوت عنه. لا يجوز أن تستقبل امرأة أخرى أثناء غياب زوجتك. نحن عائلات محترمة ولن نرضى عن هذه التجاوزات المخزية. جاء صوت زوجي متلعثما. ملأت نحنحته فضاء المكتب. أدركت مدى ارتباكه قبل أن يجيب قائلا: من أنت لتخاطبني بهذه اللهجة؟ لا يحق لك اتهام الناس هكذا. أنت مُخطئ أيها السيد وعليك الاعتذار على الفور، إن المرأة التي تتحدث عنها بهذا الشكل المُبتذل هي شقيقتي الصغرى، إنها تأتي لتساعدنا في الاعتناء بالمنزل؛ لأن زوجتي موظفة كما تعلم ما دمت تراقبني. أقفل السماعة مُحتدا. قال زميلي ضاحكا: ما ذنبي كي أتعرض للتوبيخ بسبب نزواتك الطائشة؟ لن أستجيب لك ثانية مهما حصل. رددت بلهجة معتذرة: أظن أنه احتد لأن المُزحة طالت شقيقته. أنت تعرف حساسية هذا الأمر. أعترف أنني قسوت كثيرا هذه المرة. ليس من اللائق أن أجعل من مساعدتها لنا موضوعا للدعابة. سوف يقتلني عندما يكتشف تورطي في المؤامرة. حاولت جاهدة مُشاركة الزملاء الذين ظلوا يضحكون طوال الوقت؛ لأنهم كانوا يجهلون أن شقيقة زوجي الوحيدة سافرت بصحبة زوجها إلى استراليا قبل عامين، ولم تعد منذ ذلك الحين".

إن القصة هنا لا يمكن لها أن تكتسب قيمتها وحبكتها إلا من خلال النهاية التي أنهتها بها الكاتبة؛ فلولا هذه الجملة الأخيرة لما كان للقصة أي ثيمة سوى مجرد سرد جيد فقط من دون هدف، لكن الجملة الأخيرة هي التي أكسبتها مشروعيتها وذكائها وإتقانها؛ وبالتالي لا بد أن يعود القارئ مرة أخرى إلى بدايتها ليُعيد قراءتها بمجرد الانتهاء منها؛ ليستعيد العالم القصصي مرة أخرى بناء على معرفته ومعطيات الكاتبة التي أوضحتها في السطر السردي الأخير.

تمتلك القاصة بسمة النسور المقدرة على استعارة التقنيات السينمائية واستخدامها بذكاء داخل سردها القصصي بما يخدم هذا السرد في مشهدية بصرية تجعل القصة أكثر قربا وتجسدا للقارئ الذي يقرأها. نرى ذلك، على سبيل المثال، في قصتها "كي يكتمل المشهد"، وهي القصة التي تتحدث فيها القاصة عن أحد الأشخاص الذي يخرج من السجن بعد عدة سنوات، ولا يوجد أي أحد في انتظاره، وحينما يستقل سيارة تاكسي ينظر إليه سائقها بارتياب ويسأله من أين يأتي يقول: "كنت في زيارة أحد الأصدقاء، المسكين كان تاجرا محترما تورط في قضايا شيكات حتى أشهر إفلاسه، وهو الآن نزيل السجن، كل ذلك نتيجة ثقته المُفرطة في الآخرين. طالما نصحته أن يكون أكثر حذرا غير أنه لم يستمع. تخيل أن زوجته طلبت الطلاق؟ أليس ذلك منتهى الجحود؟"، هنا تعمل القاصة على صياغة عالم هذه الشخصية بهدوء وتؤدة من دون أن تفضي للقارئ بالعالم دفعه واحدة، بل تبثه المعلومات جرعة بعد أخرى بسلاسة وهدوء. لذلك يهبط الرجل إلى وسط المدينة محاولا استعادة ذكرياته القديمة حينما كان حرا طليقا منذ سنوات؛ فيذهب إلى مطعمه المُفضل الذي كان يلتقي بزوجته السابقة فيه، ويستعد ذكرياته معها، ويسأل عن صاحب المطعم الذي كان يعرفه؛ فيخبره النادل أنه قد مات. يتناول طعامه ثم يغادر المطعم للمشي وحده في وسط المدينة متأملا ما حوله، لكنه يشعر بالوحشة الشديدة، وعدم قدرته على التكيف مع ما يراه، وتنتابه رغبة شديدة في العودة إلى السجن مرة أخرى، أو أن يكون للمدينة نافذة وباب؛ حتى يكتمل المشهد الذي يراه، وتصبح المدينة كالسجن الذي كان فيه، ويرغب في العودة إليه مرة أخرى: "ظل يتأمل المشاهد المتلاحقة، أحس بالوحشة. تمنى لو يعود إلى زنزانته. طرد الفكرة مؤكدا لنفسه أن كل ما يحتاجه هو فترة بسيطة للتأقلم. غير أنه كان على يقين بأن كل ما تحتاجه المدينة هو بوابة كبيرة ونوافذ عالية، وحراس متأهبون حتى يكتمل المشهد"، أي أن الكاتبة كانت بارعة في سبر أغوار سيكولوجية الشخصية التي تتحدث عنها، وبالتالي قدمت من خلال سردها العديد من المعطيات التي جعلته في النهاية يرغب في العودة إلى السجن مرة أخرى، لا سيما أنه قد اعتاد وجوده فيه؛ ومن ثم باتت الحرية بالنسبة له تشعره بالوحشة؛ لأنه غير قادر على التكيف معها.

نلمح من خلال هذه القصة المشهدية البصرية التي حرصت عليها الكاتبة باستخدام تقنية الفوتومونتاج في: "وضع بعض "الفكة" في الصحن الفارغ. ثبت حقيبته الصغيرة فوق كتفه وغادر. لم يشعر بالتعب. لم يرغب في أن يستقل تاكسي. ابتعد عن الضجيج. وصل إلى تلة مطلة على المدينة. لمح امرأة تركض مذعورة نحو جهة غامضة. لمح رجلين متأنقين يسيران بخطى بطيئة وقد انهمكا في حوار هامس. علا صوت شرطي السير عبر مكبر الصوت يحث السائقين على إفساح الطريق. دبت فوضى مفاجئة حين داهمت السلطات المُختصة الباعة المتجولين للتأكد من التراخيص اللازمة. قرفص متسول عند الزاوية وقد أنهكه الاستجداء. دب شجار بين مراهقين حين عبرت فتاة على قدر من الجمال"، إن هذه المشهدية التي حرصت من خلالها القاصة على استخدام تقنية الفوتومونتاج، كانت من أهم الأساليب السردية والتقنية التي استطاعت من خلالها إيصال الحالة النفسية التي وصلت إليها شخصيتها القصصية؛ ومن ثم شعورها بالوحشة والرغبة في العودة إلى السجن مرة أخرى؛ فمن خلال تتالي الصور وانسيالها أمام الشخصية القصصية شعر بعدم مقدرته على التفاعل أو التماهي مع هذا المجتمع الذي يمور أمامه؛ ومن ثم فلكي يكتمل المشهد الذي يراه أمامه؛ كان لا بد له أن يتخيل المدينة من خلال شبابيك وأبواب وحراس؛ كي يستطيع التكيف معها مرة أخرى، والشعور بالاطمئنان.

لكن، رغم مقدرة القاصة الأردنية بسمة النسور على صياغة عالمها القصصي ببراعة من خلال خيال امرأة تتمثل عالم الطفولة، أو من خلال مقدرتها على التعمق في سيكولوجية شخصياتها القصصية؛ لتثبت من خلال ذلك أنها لديها عالم قصصي يخصها وحدها تستطيع من خلاله التفرد بتقديمه، مبتعدة في ذلك عن الكتابات الغثة التي كثيرا ما تتحفنا بها الكثير من الأقلام النسائية التي لا تقدم لنا سوى الهراء، ومؤكدة على أن الموهبة في النهاية هي المقياس، وأن المرأة التي تمتلك الموهبة والمقدرة السردية تستطيع أن تقدم لنا عالما إبداعيا مُهما بعيدا عن الصراخ والبكاء من ذكورية المجتمع الذي يظلمها، إلا أننا لاحظنا عدم اهتمام الكاتبة باللغة التي تكتب بها، بل وإهمالها تماما، حتى أنها تكاد أن تكون قد قامت بإلغاء جميع الهمزات في اللغة العربية وتجاهلتها، ومن ثم اخترعت لها لغة أخرى تخصها من دون همزات؛ فلا اهتمام بهمزات القطع والوصل على طول المجموعة، فضلا عن أنها تضع الهمزات أحيانا في غير مواضعها كأن تكتب "بامكانكما" مهملة في ذلك الهمزة "بإمكانكما"، وكتابتها "باغنية"، بدلا من بأغنية"، و"كاس" بدلا من "كأس"، وفي مواضع الوصل تحولها إلى قطع فتكتب "لإستقبال" بدلا من "لاستقبال"، و"إمرأتان" بدلا من "امرأتان"، ومن المعروف في اللغة أن الألف في لفظ الجلالة هي ألف وصل دائما إلا في حالة النداء بحرف النداء "يا" حينها تتحول ألف الوصل إلى همزة قطع؛ فنقول "يا ألله" بدلا من "يا الله" إلا أن الكاتبة لم تدرك ذلك وتركتها كهمزة وصل كما هي. كما أنها لا تعرف أن الفعل المعتل لا بد من حذف حرف العلة من نهايته حينما يكون في حالة الأمر؛ ومن ثم كتبت "اعتني" بدلا من "اعتنِ". كما نصبت الفاعل بدلا من رفعه في قولها: "طغى على روحها إحساسا مفاجئ بالخفة" رغم أن كلمة إحساس هنا فاعل، وفي حالة التسليم جدلا بأنها منصوبة لكان ما بعدها منصوبا مثلها لكننا لا تعرف لم نصبت الفاعل، ورفعت صفته رغم أن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب، وغير ذلك الكثير من الجرائم اللغوية التي جعلت من مجموعتها مذبحة حقيقية للغة لم تساهم فيها بسمة النسور وحدها، بل ساعدها في ذلك دار النشر المتقاعسة عن أداء دورها في مراجعة ما يقدمه لها الكاتب لغويا؛ الأمر الذي جعل الإهمال في اللغة يصل إلى أن دار النشر نفسها قد أهملت الهمزات في "ترويسة" المجموعة، وهي الترويسة المكتوب فيها معلومات الناشر فرأينا الناشر يكتب "إستنساخه" بهمزة قطع بدلا من ألف الوصل، كما يكتب كلمة "الإخراج" من دون همزة محولا إياها من همزة قطع إلى ألف وصل؛ الأمر الذي يُدلل على أن دور النشر لا يعنيها سوى المكسب فقط من دون الاهتمام أو الاعتناء بما تقوم بتقديمه إلى القارئ.

 

 

مجلة عالم الكتاب.

عدد أغسطس 2020م


 

الخميس، 10 سبتمبر 2020

مرور هادئ حول العالم.. بلاغة الخيال في صياغة القصة القصيرة

 

قد يرى البعض أن فن كتابة القصة القصيرة أكثر طواعية وسهولة من كتابة الرواية؛ لذا يُقبل العديدون على كتابتها من دون معرفة آلياتها الفنية التي هي أكثر إحكاما وحبكة من كتابة الرواية التي تحتمل بعض الثرثرات أحيانا، أو بعض التأملات، وتعدد الشخصيات والأمكنة المختلفة، بل وإبداء رأي الروائي في بعض الأوقات، وغير ذلك مما يحتمله فن الرواية فيما لا يمكن للقصة القصيرة احتماله.

لكن، هل يعني ذلك أن فن القصة القصيرة هو فن هش لا يحتمل التجريب؟

إن عدم احتمال القصة القصيرة لهذه الأمور التي يمكن تجريبها في فن الرواية لا يعني أنها الفن الأكثر هشاشة؛ ومن ثم لا تحتمل المزيد من التجريب؛ فهناك الكثيرون ممن كتبوا القصة وجربوا فيها، وبرعوا فيما قدموه بشكل متميز لم يقدمه غيرهم مثل القاص السوري زكريا تامر، على سبيل المثال، وغيره من كتاب القصة، لكن عدم احتمال القصة لآليات الرواية يتأتي من خصائصها التي نشأت عليها، أي أن آلياتها التي تخصها بمثابة البصمة الوراثية التي لا تكون الكتابة حينها منتمية إلى القصة إلا بها، لا سيما الإيجاز، والجمل القصيرة البرقية اللاهثة السريعة المتلاحقة، والشخصيات القليلة التي قد تصل إلى شخصيتين فقط، ومحدودية المكان الذي يدور فيه الحدث، هذا فضلا عن "برقية" الحدث الذي يشبه التماع برق في السماء واختفائه سريعا، أو ما يُشبه فلاش الكاميرا الذي سرعان ما يختفي بمجرد وميضه.

هذه السرعة اللافتة في تقديم القصة القصيرة يشبه إلى حد ما تجميد الزمن للحظات على لقطة واحدة، أو زواية واحدة من زوايا الحياة، ثم التعامل مع هذه الزاوية بمنطق زمني آخر يختلف تماما عن المنطق الآني الواقعي؛ لذلك قد نجد أن الزمن الفني في إحدى القصص القصيرة يكاد يكون عمرا كاملا، في حين أننا موقنين أن هذا الزمن لا يكاد يتخطى دقائق معدودة في الحياة الواقعية، أي أن القاص المتمكن من أدواته في القص يستطيع تحويل الزمن الحقيقي الواقعي إلى زمن آخر مختلف تماما من خلال زمنه الفني باستعمال آليات كتابة القصة القصيرة، ولا نشعر أنه قد أطال في تجميد هذا الزمن وتأمله وتشريحه والحديث عنه، وهذا من مميزات فن القصة. كما أن الخيال يلعب دورا لا يمكن التغاضي عنه في كتابة القصة. صحيح أن الخيال لا غنى عنه في كتابة الرواية، لكن تعود أهمية الخيال وبلاغته في كتابة القصة إلى قدرته على تحويل هذه اللحظة القصيرة جدا في عمر الزمن الواقعي إلى عالم متكامل- قد يكون طويلا جدا- في الزمن الفني، كما أن الخيال يلعب دورا لا يمكن تجاهله في كتابة القصة حينما يحوّل اللاواقعي إلى واقع يتقبله المتلقي رغم أنه يشعر باليقين الكامل أن ما يقرأه لا يمكن لعقله أن يستسيغه بسهولة، ولكن بلاغة الخيال، وبراعة القص، واستخدام لغة تتناسب مع فنية القص هم ما يجعلون القارئ متواطئا ومصدقا ما يذهب إليه القاص رغم أنه لا يستقيم معه في حياته الواقعية.

هذه التأملات في الآلية الفنية لكتابة القصة القصيرة هي ما تدفعك إليه دفعا قراءة المجموعة القصصية "مرور هادئ حول العالم" للقاص المصري محمد إمبابي؛ حيث نلاحظ أن الخيال قد اكتسب بالفعل بلاغة في تقديم القصص التي كتبها الكاتب؛ ومن ثم كان تميزها بفضل هذا الخيال أولا، ثم إتقانه لآليات كتابة القصة سواء من حيث اللغة القصصية، أو من حيث البناء الفني لفن القصة.

هذه البلاغة في الخيال نلاحظها بشكل جلي في قصته "عين رأت"، وهي القصة الأخيرة من مجموعته، حيث يمعن القاص في استقطاب القارئ نحو ما يكتبه ببلاغة خيالية تجعله يصدق كل ما يذهب إليه الكاتب، لكنه يصفعه في نهاية القصة بقوة- من دون الخروج من الشكل الفني الذي بدأه-؛ ليقول له: إن هذا مجرد خيال، لا علاقة له بالواقع، لكنه سيظل في إطار ما هو فني لا يمكن الخروج عنه.

يتحدث القاص عن الطفل "سيد" البطيء الفهم والاستيعاب، والذي لا يستطيع الحركة إلا بمساعدة الآخرين؛ لذلك تحمله أمه على ظهر الحمار وتسنده بكتفها في رحلتي الذهاب والإياب إلى كتّاب الشيخ "جاب الله"؛ ولأن سيد لا يستطيع الاستيعاب السريع؛ فالشيخ يؤجل تحفيظه للقرآن حتى ينتهي من باقي أطفال القرية الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى أهلهم كي يساعدونهم في أعمال الزراعة في الحقل، ثم يتفرغ له هو و"عامر" الذي يأتي بأفعال تشبه البله فضلا عن غبائه الشديد: "اعتاد الشيخ جاب الله أن يترك سيد لنهاية اليوم مع "عامر العبيط"، لأنهما بطيئا الفهم ويتطلبان منه مجهودا، بجانب أنهما لا يدفعان مالا ولا يقدمان شيئا مما يقدمه الناس.. قطعتي جبن، قدحي ذرة، أو رغيفين من الخبز الطارج في أيام الخبيز، فكان ينتهي من باقي الأطفال مبكرا ليلحقوا بآبائهم في الحقول، بينما يقعد كل من سيد وعامر متجاورين في انتظار أن يحين دورهما في آخر النهار. لم يجد الشيخ ما يدعوه للعجلة فيما يتعلق بهما على الإطلاق، فليس وراء أي منهما مصلحة تُقضى أو نفع يُنتظر، ولا يصلح أي منهما لفعل أي شيء بمفرده أو مُرفقا بعون من الغير، فاستعوض أهلهما المولى في طعامهما وكسائهما بلا مردود، كمن يجود بالسُقيا والسباخ على نخلة ذكر يعرف جيدا أنها لا تطرح، ونذروهما لله". يعفي الشيخ جاب الله سيد من تعلم الكتابة، ويقتصر تعليمه له على القراءة وحفظ القرآن فقط، ويلاحظ تقدم سيد في الحفظ؛ لذلك يحتفظ به وحده؛ نظرا لوجود أمل في تعلمه، بينما يستغني عن عامر الذي لا أمل منه في أي شيء. ونتيجة للانتظار الطويل من سيد وصمته الذي لا ينتهي؛ فهو لا يجيد فعل أي شيء في حياته سوى التأمل الطويل الصامت؛ الأمر الذي أكسبه القدرة على تحليل ما يراه وربط الأمور ببعضها البعض وكأنه يتنبأ بالغيب، ويعرف ما لا يعرفه سواه: "أثناء صمته المصحوب بهش الذباب المتجمع حول وجهه بهزة رأس كل بضع دقائق، كان سيد يفعل أفضل ما يُجيده، النظر والمراقبة، ينظر متفحصا كل شيء.. وجوه الناس وأحوالهم، هيئاتهم المتقاربة، تحياتهم عند اللقاء وسلامهم عند الرحيل، حتى حفظ عن ظهر قلب مواقيت دخول وخروج الناس بمهارة جعلته يدرك متى سيجيء فلان ومتى سيرحل. راقب أحمال البهائم المُتزايدة والمتناقصة من البرسيم، والتي تشي بإذا ما كان صاحب البهيمة سيخرج غدا للحقل أم لا. استطاع وحده بالنظر أن يدرك أن بقرة "شعلان" عُشر من المقدار المتزايد من البرسيم، الذي لاحظ أنها صارت تلتهمه وحدها مؤخرا، وبعد أن لاحظ أيضا أنها صارت ترفص بساقيها كل من يحاول الاقتراب، ذلك بالرغم من أن شعلان لم يُخبر أحدا بأنه "نطط" عجل الحاج "زغلول" عليها سرا منذ شهر".

هذا التأمل الطويل من قبل سيد، وهو التأمل الذي لم يكن عمديا أو قصديا بقدر ما كان مفروضا عليه بسبب الوحدة الطويلة والصمت الدائم، أدى إلى مقدرة سيد على تحليل ما يراه أمامه والوصول إلى العديد من الحقائق التي كان يحتفظ بها لنفسه فقط، ولا يسر بها لأحد، حتى أنه استطاع تفسير سر أناقة الأستاذ "ياسر" موظف محكمة البندر الابتدائية، الذي يظن أهل القرية بأكملهم أنه ينفق بلا حساب على مظهره؛ ومن ثم يمتلك الكثير من الألبسة التي لا يستطيع أي منهم أن يمتلكونها: "لكن الحقيقة التي لم يدركها أحد سوى سيد، إثر مُراقباته، هي أن الأستاذ ياسر ليس "بِزا" ولا يحزنون، بل ليس لديه في الحقيقة سوى بنطالين فقط، أحدهما مرتوق من فتق عند- لامؤاخذة- المِحشم، وثلاثة قمصان بألوان مختلفة ومعطف وكوفيتين، يتبادل ارتداءها حسب جدول مُنتظم لا يعلمه إلا هو، بصورة تجعله يمضي أطول فترة بين كل مرة وأخرى لذات الـ"طقم"، فيبدو للناظر أن الأستاذ ياسر لا يُكرر "طقما"، وأنه يمتلك دولابا ولا دولاب العمدة".

بالفعل ينجح سيد في حفظ ستة وعشرين جزءا من القرآن؛ وهو الأمر الذي يجعل الشيخ جاب الله يقربه إليه ويهتم به كثيرا، حتى أنه يُجلسه إلى جواره في كل مكان، وليس أمامه كما كان يفعل في السابق: "صار سيد قادرا على أن يصحح لشيخه بعض الأخطاء، وأن يُسعفه مُكملا عند وقفات السهو، الأمر الذي غيّر من وضعه لدى شيخه تماما، فقربه واصطفاه، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الشيخ جاب الله أن يُبدي بسيد فخرا لم يُبده بأحد من قبل، وأمر "العيال" بحمله وأن يجلسوه بجانبه فوق المصطبة، ليربت على كتفه قائلا: جدع يا سيد، حافض يا سيد".

هذه القدرة التأملية الطويلة من قبل سيد جعلته يربط الأشياء ببعضها البعض، بل ويسبح في الملكوت حينما يستمع إلى شيخه يرتل القرآن وكأنه يحلق من شاهق؛ ليرى الأمور في الأسفل من خلال رؤية بانورامية شاملة ودقيقة، ويحدث ذات مرة أن تتأخر الحكومة في فتح المياه للقرية من أجل سُقيا أراضيهم؛ الأمر الذي أدى إلى جفاف الترع واحتراق المحاصيل الزراعية بالكامل، ورغم أن القرية بدأت تعاني من قسوة عدم وجود المياه، إلا أنهم خشوا الشكوى لأولي الأمر من الحكومة وفضلوا الصبر حتى يتذكرونهم ويفتحوا لهم المياه ظنا منهم أنهم لن يتذكرونهم مرة أخرى، ولكن قدرة سيد على الرؤية المستقبلية التي اكتسبها من طول التأمل جعلته يرى المياه قادمة ويخبر بها شيخه قبل أن يحدث الأمر؛ مما يجعل الشيخ جاب الله يظنه من أهل الخطوة وأولياء الله الصالحين: "في يوم كانت الشمس أنهت ما عليها، ولم تجد شيئا آخر لتفعله، فهمّت بالغروب، وبينما سيد جالس بجوار شيخه وحدهما مواجهين مغرب الشمس، ظلل قرصها المتهاوي خلفهما، فبديا بعمامتيهما كحبرين بلوحة شرقية. قرأ الشيخ من سورة ق: "ونزَلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلْعٌ نضيد. رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميْتا كذلك الخروج". تطوّح سيد على جانبيه طربا. ارتقت به كلمات الله، كما ترتقي به كل مرة، وفي ارتقائه منفصلا عن الدنيا، شعر سيد بشيء، وهو ينظر إلى السماء من أعلى، رأى أسراب "أبو قردان" خرجت من بطن المسقاة، وتعششت أفرع الشجر، وكلاب العزبة لم تعد تلهو بالقرب من خيط الماء الرفيع باحثة عما تأكله، حتى فئران المسقاة، اختفت وسكنت جحورها، مُخلّفة وراءها صمتا. دفعه ذلك الشعور إلى أن يمد بصره نحو الجنوب من حيث يأتي "الطرف"، ليرى بما عهد من الغبشة حين تحليقه، دفقات الماء تندفع بقوة من بوابة الهدّار نحو باطن المسقاة، لتهدأ وطأتها بعد عدة أذرع حاملة أمامها أكواما من القمامة سرعان ما اختفت. عندما وصل الشيخ لقوله: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، وقبل أن يُكمل، توقف سيد عن التطوح، وتسارعت أنفاسه، وقال بصوته المُتباطئ، وهو سارح، كأنما لا يعني بقوله أحدا: يا سيّدنا.. الطرف جيّ. وقرت تلك الجملة في أذن جاب الله، وكان على وشك الاستكمال فتوقف. ضاقت حدقتا عينيه، وأمعن النظر في سيد، الذي لبث سارحا، همّ الشيخ أن يسأل، ولكن قبل أن يفعل، وصلته من مسافة بعيدة أصوات اللغط والضوضاء مُنبئة بشيء، وبالانصات سمع أطفال العزبة يصيحون صيحتهم المعهودة عند مجيء الطرف: الله حيّ.. الطرف جيّ. الله حيّ.. الطرف جيّ".

هنا تأكد الشيخ أن سيد من أهل الخطوة ومن أولياء الله الصالحين الذين يرون الشيء قبل حدوثه؛ لذلك أصرّ على أن يأخذ سيد معه إلى "البندر" حينما يتجه إلى مولد "المعتوق". يبدأ القاص في حكاية ذهاب سيد مع شيخه إلى البندر، وهي الرحلة التي يحكي فيها سيد مشاهداته وملاحظاته في البندر بالتفصيل؛ حيث الأفندية الذين يختلفون عن أهل القرية في ملابسهم، وطريقة مشيهم، ويصف المولد بالتفصيل، ثم رحلته مع الشيخ إلى حفلة الشيخ "التوني" الذي يتمايل رواده حوله من فرط اندماجهم مع الأناشيد الصوفية التي يغنيها.

يصف سيد كل شيء بالتفصيل في هذه الرحلة، وهي الرحلة التي يتحدث عنها القاص بقوله: " عندما ذهب سيد للبندر مع شيخه، كانت تلك أول مرة يخرج فيها من العزبة، وأول مرة يرتدي فيها جلبابا مكويا ويتعطر بالمسك، وأول مرة يركب فيها سيارة، حملوه وأركبوه بها مُفردين له مقعدا بجوار السائق، فأصابته رهبة وداهمه خوف، كخوفه من موسى الحلاق الذي لم يأمن له قط. فزع في البداية من أن يترك نفسه، وهو معدوم الحول والحيلة لقطعة من الحديد. وإذا ما كان اعتاد أن يترك نفسه بلا حول أو حيلة للناس، فهم مُستأمنون، أما تلك "الحديدة"، فيخلق ما لا تعلمون! كيف تدور تلك ولم تُزمجر؟ وكيف يقعد بها الراكب مُغلقا عليه بابها، ليجد نفسه بعد برهة وصل إلى جهته؟". يستمر القاص في سرد رحلة سيد إلى البندر مع شيخه كما رآها سيد بكل تفاصيلها: "عند وصوله للبندر، كانت تلك أول مرة يرى فيها غرباء لا يعرفهم، رأى لتوّه رجالا لا يشبهون رجال العزبة، يرتدي بعضهم ملابس غريبة لم ير مثلها من قبل، وتتدلى من أعناقهم قماشات طويلة لأمر غير مفهوم، في البداية ظن أنها شيء من قبيل الرُتبة، كالشرائط المعلقة على ذراع وطربوش شيخ الخفر، إلا أن شيخه لما لاحظ نظرته المتسائلة، أخبره بأن ذلك هو زي الأفندية".

ينجح القاص هنا من خلال سرده في جذب القارئ لهذه الرحلة إلى البندر بكل التفاصيل التي رآها سيد حتى انتهاء الشيخ التوني من أناشيده الصوفية التي تنتهي بذهاب رواده إلى عالم آخر من الدروشة والتوحد في هذا العالم: "التوني يشدو، والموسيقى تتسارع، والفتاة جُنت. أمسكت بضفيرتيها الطويلتين لتدور بهما كراقصي التنورة، والفتى انخعلت مقلتاه، واحتقن وجهه، وفغر فاه كمخبول بذكر من أذكار الثريد، وسيد ظل ينظر لئلا يفلت من مصيدته شيئا، والفتاة ما زالت تدور، والتوني يصدح كُل القلوب إلى الحبيب تميلُ. والناي والكمنجة أشرقا بالنور، والفتى لما تبسمت، تبسم. ومعي بهذا شاهدُ ودليلُ. دنت من الفتى، ليخرّ على ركبتيه، ونزّ من صدره العرق كأن به كوّة. أما الدليل إذا ذكرت حبيبهُ. ألقت عليه محرمتها بدلال، فبكى. نزلت دموع العاشقين تسيلُ. لحظتها انطفأت الشموع، وساد الظلام وذُهل الخلق، وعلت أصواتهم بحثا عن الضوء، وما إن ضغط أحدهم زر القابس، حتى حضرتهم الرؤية، فشاهدوا الفتى منطرحا، حيث كان سارحا، ممسكا المحرمة بكلتا يديه، وقد سال من فمه اللعاب. أما سيد، فلم يكن موجودا. حلّق تاركا خلفه كل شيء، ليرى وحده في الظلام ظل الفتاة جاريا خارج القاعة في ضوء القمر، الذي كان قد اكتمل في غير ميعاده".

ربما نلاحظ من خلال هذا الاقتباس السابق المقدرة السردية لدى محمد إمبابي الذي نجح أيما نجاح في خلق عالم فني، وصياغة عالم مكتمل يمور بما فيه من حركة ووجد وتصوف وسموق أرواح كل المشتركين فيه؛ فالعالم هنا يمور بالحركة التي لا تهدأ لحظة واحدة، بل هو في تصاعد مستمر، وفوران يؤذن بالانفجار، حتى وصل من خلال وصفه السردي المتسارع اللاهث إلى نقطة الصفر/ الانفجار التي هدأ بعدها كل شيء حينما صمتت الموسيقى وتوقف التوني عن أناشيده، وهذا يؤكد مقدرة القاص السردية في صياغة عالم فني قادر على حبس القارئ معه؛ لتلهث أنفاسه مع ما يدور في هذا العالم وكأنه جزء لا يمكن أن ينفصل عنه، لكن المقدرة الفنية لإمبابي لا تتجلى في مقدرته على صياغة العالم في هذا المشهد الأخير فقط، بل نراها واضحة تماما بعد انتهاء هذا المشهد حينما يكتب: "ربت الشيخ جاب الله على كتفه قائلا: اصحى يا سيد، وصلنا. أفاق سيد ناظرا حوله ليجد نفسه في السيارة، وقد وصل للبندر، ليرى بعينيه لأول مرة غرباء لا يعرفهم، يرتدي بعضهم ملابس غريبة لم ير مثلها من قبل، وتتدلى من أعناقهم قماشات طويلة لأمر غير مفهوم".

إن هذا الاقتباس الذي أنهى به القاص قصته يؤكد مقدرته على امتلاك السرد بشكل مُحكم؛ حيث يصدمنا بهذه الجملة الختامية وكأنها يصفعنا على وجوهنا لنفيق مما سبق أن صدقناه وعشناه معه في رحلة سيد إلى البندر، وهنا نكتشف أن هذه الرحلة لم تحدث بعد، بل كانت مقدرة سيد على رؤية ما سيراه مستقبلا. وهو ما رآه أثناء نومه في السيارة متجها إلى البندر، أي أنه رأى ما سيحدث مسبقا في أحلامه، ورغم أن العقل والمنطق لا يمكن لهما التجاوب والموافقة على ما ذهب إليه الكاتب، إلا أن بلاغة السرد والخيال تجعلنا نميل إلى التصديق لا سيما أن القاص يمتلك أدواته التي تجرنا معه منساقين خلفه فيما يسرده، ومن هنا تتجلى لنا بلاغة الفن، وقدرته على التأثير حينما يكون قادرا على إقناعنا بما لا سبيل إلى اقتناعنا به.

إن مقدرة الكاتب هنا على صياغة عالمه القصصي بشكل فيه من الفنية ما يقنعنا ويجعلنا منساقين خلفه مستعينا في ذلك بالخيال وتملكه لأدوات القص نراه بشكل جلي في قصته "الذي خاض النهر"، وهي القصة التي يتحدث فيها عن السيد "أليكسيس" المكسيكي الذي ترك "مكسيكو سيتي" بعدما عانى كثيرا من شظف العيش هناك؛ ففضل الرحيل مع زوجته الحامل إلى "كانكوون"، لكن الزوجة يأتيها المخاض بمجرد وصولها؛ فيستعين ببعض سكان المدينة على توليدها، وتلد توأما يُطلق على كل منهما اسم "بينو" ظنا منه أن الجنين قد انقسم في بطن أمه إلى اثنين نتيجة سبب ما: "قرر السيد أليكسيس أن يُسميهما على الفور ودون انتظار. أصر أن يسمي كليهما "بينو". كيف لا وهما- حسبما آمن- طفل واحد انقسم بداخل الرحم لسبب ما؟! لعله اصطدم بطن أمهما من الخارج بشيء صلب أو ما شابه. إذاً فلا مفر من الاعتراف بالحقيقة.. "بينو" و"بينو" هما في الأصل "بينو" واحد، ولكن لاحقا، ولأجل التفرقة الضرورية، التي كان يستوجب معها أن يكون لكل منهما اسم مستقل، أشار لأحدهما بـ"بينو أونو"، والثاني بـ"بينو دوس"، أي "بينو الأول"، و"بينو الثاني"".

لكن تحدث إحدى المعجزات التي يتميز بها ابنه "بينو أونو" حينما يكونون في الكنيسة وبمحض الصدفة يكون كورال الكنيسة ناقصا بغياب أحد الأطفال لوعكة أصابته صباح الأحد، وهنا يتأمل القس الأطفال الموجودين في الكنيسة ليختار "بينو أونو" مكان الطفل المتغيب، ورغم أن "بينو أونو" لم يتدرب من قبل على الأغاني الكنسية، إلا أنه بمجرد ما يمسك الورقة المكتوبة فيها الأغنية الدينية إلا ويبدأ في الغناء مع الكورال من دون أي شكل من أشكال النشاز، لكن المعجزة التي ظهرت أن الكلمات المكتوبة على الورقة كانت حروفها تحترق بمجرد ما يغنيها "بينو" لتترك مكانها على الورقة مفرغا تماما: كان "بينو أونو" يغني: "المسيح قام.. المجد للرب في الأعالي"، حينما حدثت المعجزة.. اصفرّت الورقة بكفه الصغيرة، وارتعشت لنراها جميعا، وهي تستشيط رويدا رويدا لتتصاعد منها خيوط دخان رفيعة دقيقة لا تغمي، وكأنما تلك الخيوط الرفيعة من الدخان كانت ترسم بحرقها في الورقة شيئا. من مواقعنا على كراسي القاعة، رأينا الورقة في يد "بينو أونو" تحترق من فوق السطور ببطء دون أن تشتعل كلية، وكأن أحدا ما أعاد كتابة الكلمات بالحرق الدقيق في الورقة بدلا من القلم.. نفذت من ثنايا الورقة أطراف شعاع الشمس الآتي من خلف "بينو أونو"، فرأينا بأم أعيننا الورقة من ظهرها المقلوب، وقد صارت مفرغة بالحرق بدلا من الكتابة".

انتشر خبر "بينو أونو" ومعجزته في كل مكان حتى وصل إلى "بلايا ديل كارمن" في ظرف أسبوعين، ومنها إلى "تولوم" في ظرف أقل من شهر، إلى أن جاء القرية مجموعة من العربات الفخمة التي تجرها الخيول، وترجل منها عدد من السادة ذوي القبعات المرتفعة والسترات الأنيقة، ليسألوا عن "بينو أونو" وأبيه. قابل السادة والد "بينو أونو" ليقدم له رئيسهم نفسه بقوله: "الرقيب أول إجناسيو فيا، من جيش جلالة الإمبراطور ماكسيميليان الأول". هنا يؤخذ "أليكسيس دي تورا" والد "بينو" ويظن أن الأمر متعلقا بسرقته السابقة لدجاجات جارته حينما كان يتضور جوعا: "ارتبك أليكسيس، وجعل يفكر في أي جُرم ارتكبه ليصل الأمر لأن يرسل له جلالة الإمبراطور أحد ضباطه. حاول استبعاد أن يكون الأمر متعلقا بسرقة الدجاج من حظيرة جارته السيدة الهولندية العجوز، حينما كان يقطن بـ"مكسيكو سيتي"، ولكنه لم يُفلح في أن يطرد تلك الفكرة. استرسل في التفكير لائما نفسه على تكرار تلك الفعلة الخبيثة أكثر من مرة، وحدّث نفسه بأنه لو اكتفى بمرة واحدة أو مرتين لما لاحظ أحد، لكثرة الدجاج في حظيرة السيدة، ولكن ست عشرة مرة! يا لك من بغل يا أليكسيس!".

لكن أليكسيس يطمئن حينما يعرف أن سبب هذه الزيارة هو وصول خبر معجزة ابنه "بينو أونو" إلى الإمبراطور الذي أرسل هذا الوفد للتأكد منها، وبالفعل يتأكد الوفد بالكامل من المعجزة حينما يغني "بينو أونو" أمامهم: "أخرج "بينو أونو" من الدرج قطعة خشبية مستطيلة، ابتعد بها قليلا نحو باب غرفة الاستقبال المفتوح على الحديقة، ليكون في منتصف حزمة الضوء، وبدت نظراته إلى قطعة الخشب في تلك اللحظات القصيرة، التي ظل "إجناسيو" يتابعه خلالها بكل تركيزه، مضطربة بشكل مخيف، ذلك الاضطراب الذي يعرفه "إجناسيو" جيدا. الآن، وقف "بينو أونو" في وضع الغناء، وقد حددت الشمس لجسده على الأرض ظلا طويلا امتد لمنتصف الغرفة. تجمدت الموجودات، وحلت نفحة هواء متثاقلة كزائر إضافي، وبعد أن استكان وابتسم ابتسامة اندلعت من عينيه الخبيثتين، بدأ في الغناء: وداعا "خوان"، وداعا "روزاليتا"، وداعا صديقي "خيسوس" و"ماريا". خرجت الكلمات المصحوبة بنغمة شديدة الرقي من فم "بينو أونو" بطبقة صوت ثابتة لا تدافُع فيها ولا غوغائية، لتجذب بمفردها أذهان الحاضرين نحو الصورة التي يتحدث عنها فأدركها الجميع دون عناء. عندما تصعدون للسفينة الكبيرة، ستفقدون أسماءكم ولن ينادونكم سوى بالمهاجرين. كان اللوح الخشبي، الذي يُمسك به "بينو أونو" في الوقت ذاته، وتحت التأثير الساحر ذاته بدأ في الاحتراق من واجهته، وبدأت الحروف في التشكل فوق سطحه بشكل مُعجز، ولم يكن ذلك كله للمرة الأولى، بعد أن حدث من قبل بقاعة كنيستنا، التي لا تُشبه كاتدرائية نوتردام. توقف بينو عن الغناء، بعد أن أصبح لوحه الخشبي مُفرّغا بكلمات أغنيته الحزينة، وبعد أن وصلت أذهان جميع الحاضرين إلى حالة غير عادية من الاستثارة والتوتر جراء ما شهدوه مما لا ينطبق عليه غير وصف المعجزة".

القاص محمد إمبابي

يحاول السادة التأكد من عدم وجود أي احتيال فيما حدث، وبالفعل يوقنون أن ما رأوه كان معجزة حقيقية حدثت أمامهم، وهنا يطلب قائدهم/ إجناسيو أخذ "بينو أونو" معهم حيث: "يرغب جلالته في ضم بينو أونو للحاشية الإمبراطورية، حيث ستُدرس موهبته بشكل علمي وتُولّى بالرعاية الكاملة في ظل إمكانيات لا كذب في القول إنها غير محدودة، ذلك بجانب العمل على تنميتها والاستفادة منها، وسيراعي جلالته، ورجاله المكلفون كافة أن يكون بينو أونو هو أول المستفيدين، وبالطبع سيعود ذلك على أسرته بالكثير مما لن يتوافر في ظل الظروف العادية". يرفض أليكسيس طلب إجناسيو ويؤكد له هو وزوجته أنهما لا يرغبان في التخلي عن أي واحد من ابنيهما، فيحاول إجناسيو إقناعهما بأن طلبات جلالة الإمبراطور لا يمكن أن تُرد، لكنهما يصران على موقفيهما. يحاول إجناسيو بكافة الطرق إقناع الوالدين بأخذ بينو معهم لكنهما يصران على الرفض؛ فيهدد إجناسيو أليكسيس بأنه إذا رفض ذلك سوف يعتقله ويودعه السجن بتهمة سرقة الدجاج من جارته الهولندية، بل وسيتم سجن زوجته أيضا باعتبارها كانت تعرف؛ ومن ثم فهي مشاركة له في الجريمة، وسيتم إيداع الطفلين في أحد الملاجئ ثم يذهبان إلى الإمبراطور في نهاية الأمر.

يحتار الزوجان فيما يجب عليهما فعله بعد هذا التهديد؛ ولأن كل من بينو أونو، وبينو دوس سمعا هذا التهديد صراحة؛ فلقد انسحبا من غرفة المعيشة بعدما استأذن إجناسيو في الذهاب إلى دورة المياة، وبعد مرور فترة من الزمن سمع الجميع صوت صراخ إجناسيو الشديد آتيا من دورة المياة وحينما ذهب الجنود لرؤية ما يحدث فوجئا: "في آخر الطرقة الضيقة، كان الرقيب "فيا" مُلقى على أرضية دورة المياة المفتوحة، والنار تشتعل في ثناياه بشكل قبيح.. كان "بينو أونو" يغني في مواجهته مباشرة بوجه شاحب شبق مستغرق، وكأنما لا يعنيه من العالم شيء. التقمت النار وجه الرقيب "فيا" متسلقة زيه العسكري من الرقبة لأعلى، كحية التفّت حول ضحيتها بعد شهور من الجوع. انتفض الجميع رعبا، وأصاب والد "بينو أونو" الخرس.. كان الرقيب "إجناسيو" يصرخ بضراعة ممسكا وجهه المشتعل، بينما لم يتوقف "بينو أونو" عن الغناء: جدي الذي خاض النهر بأكلمه، أرادوا أن يأخذوا كل ماله، أبي الذي خاض النهر بأكلمه، أخذوا منه كل ماله. وبينو دوس.. بينو دوس، الذي كان واقفا بجوار شقيقه يبادله أبيات الغناء بصوت جهوري، صرخ فجأة منتشيا، فازداد استعار النار بجسد الرقيب "فيا". لم يعد الأخير قادرا على الاحتمال، فأخرج سلاحه، وأطلق على رأسه النار. ساد السكون، وكأنما كانت بدايات القيامة قد أوشكت على الاندلاع، ظلت أصداء صوتيّ كل من "بينو أونو" و"بينو دوس" تتأرجح في الهواء، وبدأت جثة الرقيب "فيا" في التفحم كلية حاملة رائحتي الكربون واللحم المحترق".

هنا يتبين لنا مقدرة القاص محمد إمبابي في صياغة عالم قصصي يخصه وحده فقط، وبمقدرة على الإقناع فيما يذهب إليه، ولكن مقدرته الفنية والخيالية تتضح لنا بشكل أكبر حينما نقرأ بعد هذا الاقتباس مباشرة المقطع الأخير الذي أنهى به قصته حينما كتب: "لاحقا.. انتشر خبر وفاة نصاب مُحترف يعمل بفرقة سيرك جوال بنواحي "كانكوون"، أثناء محاولة ابتزاز أسرة بسيطة، بعد أن اعترف شركاؤه بفشلها، وبوفاته أثنائها محترقا".

إن المقدرة القصصية لدى إمبابي جعلته يبني عالما خياليا معتمدا على آليات القصة التي يمتلكها جيدا، متسلحا بأسلوبية تخصه تماما، لكن التساؤل الذي لا بد أن يرد على أذهاننا حينما نقرأ القصة هو: لماذا آثر القاص على أن تكون شخصيات قصته مكسيكية، ولماذا دارت القصة في فضاء غير عربي لا سيما أنه كان يمتلك من الأسلوبية في هذه القصة ما يوحي لنا بأن هذه اللغة لا تخص اللغة العربية، وكأنما قد تمت ترجمة القصة بالفعل إلى العربية. بالتأكيد نحن هنا لا نُشكك في انتماء القصة لصاحبها، لكننا نتساءل عن السبب الذي جعله يذهب إلى أن تكون الشخصيات ومسرح القصة الذي تدور فيها لا ينتميان إلى عالمه العربي الذي ينتمي إليه، وإن كان ذلك لا ينفي براعته فيما قدمه لنا، لكن ما يجعلنا نُشدد على هذا التساؤل هو قصته الأخرى التي كانت بعنوان "دي لا لونا" التي دارت أحداثها أيضا في المكسيك حيث بطلتها السيدة "لوث دي لا لونا" التي يعرف الجميع عنها حياديتها الكاملة تجاه وجود أو عدم وجود أي شيء، وهو الأمر الذي تطور معها إلى عدم الاهتمام بأي شيء، أو التعلق به؛ الأمر الذي جعلها تتخلى عن أي شيء من الممكن لها أن تتعلق به، بل وتترك أيضا اهتمامها بما تحب من الطعام وكأنها دخلت حالة من حالات الزهد الكامل في الحياة وكل ما يتعلق بها، لدرجة أنها حينما اكتشفوا وفاتها وجدوا في أحشائها بعض العشب الذي ينبت على باب بيتها؛ الأمر الذي يُدلل أنها وصلت إلى حالة تامة من الزهد غير المبرر في أي شيء: "بعد أعوام عديدة لاحقة عندما توفيت، وقام الطبيب العدلي بتشريح جثمانها لمعرفة سبب الوقاة- الذي اشتبه البعض أنه كان انتحارا- وجد أن بقايا الطعام نصف المهضوم المتبقي في أمعائها لم يكن سوى بعض حبوب القمح، والذرة الجافة، بجانب نوع من الأوراق الخضراء رجّح أنه من نخيلة عشبية ما. تأكد من ذلك لاحقا بمجرد النظر إلى رقعة النجيل الخضراء، التي تنبت على جانب مدخل الباب، والتي حُشّت بعناية أكثر من مرة".

نقول إن رسم الشخصيات والإصرار على أن تكون مكسيكية، وعلى أن يكون مسرح الحدث مكسيكيا أيضا لا يمكن له أن يقلل من فنية القصص التي يقدمها محمد إمبابي، لكنه يطرح تساؤلا جديا حول السبب في ذهابه إلى ذلك.

في قصته "ريتا" يقدم إمبابي قصا شديد العذوبة في لغته القصصية، والتعبير عن المشاعر الإنسانية من حيث ارتباط "سيد أبو الدهب" الشهير بـ"أبو كلبة" بكلبته "ريتا" وإطلاق الناس عليه هذا اللقب؛ بسبب الارتباط الشديد بينهما. نلاحظ في هذه القصة كيف يبني القاص عالمه بحرفية ومهارة سردية بحيث يصوغ العالم كله في حكاية سيد مع كلبته، وكأنما كل ما دون هذا العالم مجرد فراغ لا أهمية له، ولا مكان من الممكن له أن يحتمله؛ فالعالم هو سيد وريتا كلبته فقط، وما حدث لهما من أحداث. يبدأ القاص سرده بشكل يُهيء من خلاله القارئ للعالم الذي يريد السارد إدخاله إليه؛ بحيث يتحول العالم بأكمله إلى هذا العالم القصصي فقط، ومن هنا تأتي براعة إمبابي في صياغة العالم القصصي الذي يُقبل عليه؛ حيث يعمل على أن يكون العالم القصصي هو المحيط الأساس الذي يحيط بالقارئ؛ فلا يفكر في أي شيء خارج هذا المحيط؛ لذلك يفتتح قصته مباشرة من قلب الحدث القصصي الذي سنعرف تفاصيله فيما بعد: "تجشأ "سيد أبو الدهب" الشهير بـ"أبو كلبة" واحدة، وهو يجرع من قرعة البوظة بخمارة صبحي الكائنة بـ"محلة سُبك"، ثم تنهد، وقال لمن بجانبه: مش تاعبني غير بصة عينيها، كانت بتقوللي: كدة أهون عليك! انزلقت من عينيه دمعتان تبعهما بسحب مخاطه المُتدلي، ثم استأنف الشرب في صمت. أصابت الرجل حيرة.. هل تلك من فم سيد أم هي ضرطة؟ كان على وشك القول مطمئنا إنها لا بد ضرطة لسوء الرائحة، لولا أن ما سمعه جليا من صوت مصاحب، كان صوت تجشؤ. سأله بلا مبالاة حقيقية: إلا هو أنت موتها ليه؟"

من خلال هذا المقطع الافتتاحي نستطيع ملاحظة أن القاص يعمل على صياغة عالم سيد وريتا بذكاء من الكلمة الأولى في قصته، بل ويضع المتلقي في قلب هذا العالم مباشرة؛ ومن ثم يجذبه من تلابيبه مستحوذا على اهتمامه الذي لن ينصرف عن القصة إلا مع آخر كلمة منها؛ ليظل القارئ متأملا ما دار فيها من عالم ثري ومشاعر صادقة نجح إمبابي في التعبير عنها. يبدأ القاص بعد هذا المقطع الافتتاحي في الحديث عن سيد أبو الدهب الابن الوحيد لأبوين فقيرين تماما، وكيف أنه لم يجد في حياته أي شيء من الممكن أن يكون جيدا؛ لذلك كان يرى دائما أنه سيء الحظ في كل شيء، حتى أن سوء الحظ قد بلغ به أنه كان ابنا وحيدا لهذين الأبوين الفقيرين اللذين تركا له الكثير من الديون. يعثر سيد في أحد الأيام على كلبة صغيرة في صندوق ويلاحظ أنها نظيفة ومعها طبق من اللبن، يأخذها سيد إلى بيته وقد فرح بها؛ حيث ستكون الونس الوحيد له في حياته. لم يعرف سيد أن كلبته من فصيلة ثمينة "جيرمان شيبرد" لكنه اهتم بها أيما اهتمام، وأطلق عليها اسم "ريتا" بل كان يؤثرها على نفسه في الطعام أيضا؛ لذلك حينما عمل ميكانيكيا في إحدى الورش في قريته كان يأتي لها بيوميته كلها الكثير من الفروج الذي يقوم بطهيه حتى تأكله الكلبة من دون معاناة. يرتبط سيد ارتباطا شديدا بكلبته ويعتبر نفسه أبا لها، ويصطحبها معه أينما ذهب حتى أنها كانت تذهب معه إلى ورشته. لكن بعد انتشار السيارات الأوتوماتيك ركد سوق الميكانيكية في البلدة؛ الأمر الذي اضطر صاحب الورشة إلى إغلاقها تماما: "بعد انتشار سيارات الأوتوماتيك، التي تستلزم صيانتها ماكينات الوكيل المتطورة، ركد سوق الميكانيكية بالبلدة، واقتصر الزبائن على سائقي الأجرة والشاحنات، الذين لا يدفعون شيئا من باب الزمالة والعشم، ومن يدفع منهم فإنه يدفع بالشُكك، أو يعد بالدفع حين ميسرة لا تأتي. ولذلك توقفت حال سيد وورشته، التي يعمل بها، وبمرور نهارات كثيرة متتالية بلا زبون واحد، قرر صاحبها الأسطى عرفة غلقها، بعد أن أصبحت لا تأتي بمصاريفها وأجرة الصنايعية العاملين فيها. ويوم أن صرف الأسطى عرفة تلميذه سيد نادى عليه وقال: واد يا سيد.. الحالة زي ما أنت شايف، وربنا عالم امتى هتُرزق ونتعشى زفر تاني! ثم مال عليه، وأردف ناصحا: أنا من رأيي تبيع الكلبة دي لحد ما ربك يُفكها. إنت يا ابني مش حمل مصاريفها دلوقت، ويا دوبك تعرف تكفّي نفسك أكل. ثم نفحه عشرين جنيها، وقال له: روح يا ابني الله يسهلّنا ويسهلّك".

لا يفكر سيد في الخلاص من كلبته المرتبط بها ارتباطا قويا، وينفق كل ما يمتلكه عليها حتى يبدأ في الاستدانة من الجميع، ويقضي العديد من الأيام من دون طعام هو وكلبته؛ الأمر الذي يجعله يفكر في بيعها بدلا من أن تموت من الجوع معه، ورغم حبه الشديد لها، وارتباطه القوي بها إلا أنه يجد بيعها أفضل من الموت جوعا، وبالفعل يبيعها لأحدهم بخمسمئة جنيه سدد بها ديونه وأكل بعد الامتناع عن الطعام لعدة أيام بسبب عدم وجود المال، ولكن الكلبة كثيرا ما كانت تهرب من صاحبها الجديد وتذهب إلى سيد الذي يعيدها بحزن إلى صاحبها الجديد الذي أحكم وثاقها حتى لا تهرب مرة أخرى، إلا أن الكلبة نجحت في قطع وثاقها والهروب مرة أخرى إلى سيد، لكنها أثناء مرورها على قضبان السكة الحديد يصدمها القطار فيقطع رجليها الخلفيتين وجزء من ذيلها: "أثناء عبورها المتلهف لقضبان السكك الحديدية، وعلى حين غفلة، لحقها "الإسباني" بنفيره المدوي ليلتهم في غمضة عين ساقيها الخلفيتين وقطعة من ذيلها، تاركا إياها مبعثرة على بازلت المزلقان الأسود. في لحظة مهملة لا تزن لأحد شيئا، صارت ريتا نصفا، بنصف روح، بعد أن كانت منذ لحظات مكتملة تنبض بما عهدت عليه نفسها دوما، بالحياة، وبحب سيد كانت ريتا. ظلت تعوي وتنزف في مكانها إلى أن أدركها بعض المارة، فتعرفوا عليها على الفور. حملوها فوق دراجة بخارية لمنزل سيد، الذي صرخ منهارا عندما رأى الدم يسيل من فخذي عزيزته المبتورين. في البداية ظن أن مالكها الجديد هو من فعل ذلك، فأقسم أن يفلقه نصفين، ولكنهم سرعان ما أخبروه بأن الفاعل هو حديد القطار البارد".

يسرع سيد بريتا للطبيب الذي أنقذها من الموت، لكنها باتت عبئا شديدا عليه لا سيما أنه لا يجد المال الذي يعيش منه، كما أن حياتها صارت صعبة بعدما أصبحت غير قادرة على الحركة من دون مساعدته. يجد سيد عملا في إحدى القرى المجاورة لقريته كميكانيكي، كما أن صاحب الورشة وفر سكنا للعمال المغتربين، لكنه فكر في ريتا التي لا يمكن لها أن تتحرك من دونه، ولا يمكن له أن يتركها وحدها فتموت، كما أنه لا يمكن أن يأخذها إلى السكن المشترك حيث أن صاحب العمل لن يقبل بذلك لا سيما أنها كلبة غير قادرة على الحركة وحدها. يفكر سيد في التخلص من ريتا رحمة بها؛ فيسكر حتى لا يرى أمامه ويطعنها ملقيا بها في أحد المصارف: "لن يستطيع أن يتركها ويرحل ليأكله قلبه خوفا وقلقا، سيُريحها ويرتاح. وتمهيدا لما انتواه، شرب سيد زجاجتي براندي مخلوطتين بالسبرتو الأحمر، حتى اهترأ حلقه واحتقن وجهه وغابت عنه ملامح الدنيا، ولم يبق فيه منه مثقال حبة، كان حينها حيوانا صرفا، فتصرف بما يليق. لف ريتا في ملاءة وحملها إلى شاطئ المصرف نازلا لأسفل نحو حافة الماء المنساب بسلاسة، لم تخل من بضع دوامات صغيرة، وهناك لم يعط نفسه فرصة للتفكير. وفي لحظة كتلك، التي سبق أن مرت بها ريتا على قضبان القطار، جاءت أخرى، لينغرس فيها نصل مطواة سيد بجانبها، لتُبلل دماؤها الدافئة الملاءة وقميصه مرة أخيرة. أفلت سيد يديه من حولها، ودموعه من عينيه، قائلا: سامحيني يا ريتا.. سامحيني يا بنتي. ثم تركها ليبتلعها الماء إلى أن غابت، وظهرت على سطح المياه بضع فقاعات حملت زفيرها الأخير. وفي النزع، لم تفعل ريتا أي شيء؛ ظنت بعقلها البسيط أن سيد يفعل ما عليه فعله، ربما كان يساعدها لتصبح قادرة على اللعب معه مرة أخرى".

هكذا ينجح إمبابي في إغلاق قصته بشكل فيه من المشاعر المحتشدة ما يجعل القارئ نفسه يتأثر بها كثيرا، متعاطفا معهما هما الاثنين؛ ليظل القارئ متأملا ما حدث لفترة غير قليلة من الوقت؛ مما يُدلل على تأثير القصة ومدى قدرة القاص على التعبير عما يريد أن يقوله من خلال عالمه الخاص جدا الذي يصوغه خياله.

في قصة "غير صالح للونس" ينجح القاص في سرد القصة على لسان قطة بشكل غير قليل من الإقناع، وبدلا من أن يشكو الإنسان ما يحدث له نجد أن القطة هي التي تشكو حياتها وصعوبتها وما تلاقيه من البشر وغيرهم من الحيوانات لأحد الذين عطفوا عليها، واشترى لها قرصي لانشون؛ فيبدأ القاص قصته بكتابة: "يااااه! إن حجرك دافئ جدا يا أفندي، ثم هذا الدخان، هذا الدخان الطالع من حنكك.. شهي لذيذ، يبعث على الاسترخاء. ما به يا أفندي؟ هل هو الحشيش؟ لا أعلم. ويدك.. يدك حلوة، تداعب رأسي وتدعبس فيه عن القمل والبراغيث، التي نكحته أكلا وشربا حتى شبعت. تطردها أو تقرصها لتنفجر بالدم، الذي جرعته مني غيلة- ولتطفحه سما هاريا- فأنتشي لسماع صوت الـ"فرقعة"، وكأنما بعثك الله لتنتقم لعاجزة مثلي، لم تستطع باللحس والخمش والعض أن تطرد من فرائها تلك الطفيليات القذرة".

يستمر القاص في السرد على لسان القصة التي تشكو حالها للأفندي الذي يحنو عليها، وكيف أن جميع الناس يحاولون تفاديها والابتعاد عنها ظنا منهم أنها قطة جرباء، غير نظيفة ونجسة كما يصفون الكلاب، ثم تسرد عليه صعوبات حياتها في البحث عن الطعام، وكيف أنها تراقب قمامة السادة الذين يتركون الكثير من بقايا الأكل في قمامتهم، ومن ثم تكون بمثابة وجبة شهية لها، قد يقاتلها من أجلها غيرها من القطط، ولكن الصعوبة الأكبر أن الآدميين أيضا قد باتوا يقاتلونها على هذه الوجبات التي تعيش عليها في القمامة. ثم تحكي له كيف أنها كانت تنتظر ذات ليلة خروج الخادم بالقمامة من عند سيده الذي يترك الكثير من بقايا الطعام في قمامته، وبالفعل حينما خرج أسرعت إلى صندوق القمامة لتحصل على وجبتها إلا أنها فوجئت بأحد الفتيان الذي جرى على الصندوق للأكل منه، وحينما رآها ركلها ركلة قوية ثم بدأ يأكل، إلا أنها لم تتحمل إهانتها وضياع وجبتها بهذا الشكل فقفزت عليه وأطلقت أظافرها في وجهه وعضت أنفه؛ الأمر الذي جعله يهرب صارخا. بعدما تحكي القطة بعض معاناتها وحكاياتها للأفندي الذي عطف عليها تخبره أنها غير صالحة للونس؛ لذلك فهي لا يمكن لها أن تذهب معه إلى بيته، وتخبره أنها في انتظاره في أي وقت يشعر فيه بالوحدة لتحكي له المزيد من الحكايات: "لأنك حنيّن أقول لك: والله لو أنني أصلح للونس لقلت لك اصطحبني لبيتك، ولكنني أعلم بأن ذلك ليس ممكنا، فأنا لست من قطط البيوت، ولا مكان لي سوى الشارع رغم ما به من قساوة، وربك كريم وتُرزق وأتعشى كل ليلة الحمد لله. روح يا

أفندي روّح، وأرح جسدك من هذا البرد، وإذا ما صعُبت عليك نفسك، وضاقت بك الحال، ولم تجد لك أحدا، فتعال. تعال كل بضعة أيام لأحكي لك عن شيء جديد لم أحك لك عنه من قبل، فليس بجعبتي أكثر من الحواديت، وليس بجعبتك شيء. فليكُب الملآن منا على الفاضي".

ينجح القاص هنا في التعبير عن مدى البؤس الذي يعيشه الإنسان نفسه وليس القطة التي تحكي الحكاية؛ فهو من يشعر بالوحدة والبؤس، وهو من يحتاج إلى المؤانسة، وليس القطة، ورغم أن القطة تلاقي في حياتها الكثير من البؤس والصعوبات في حياتها، إلا أنها ترى حياتها أفضل من هذ الأفندي الذي تشعر تجاهه بالشفقة في حالة من حالات تبادل الأدوار المثيرة للكثير من السخرية السوداوية.

ينجح القاص محمد إمبابي في مجموعته القصصية "مرور هادئ حول العالم" في صياغة العالم

من حوله بشكل شديد الخصوصية نجح فيه من خلال لغة سردية قصصية تخصه وحده وأقنعتنا بما يقدمه من عالم قصصي، تأملناه كثيرا بعد انتهاء كل قصة من قصصه؛ حيث يترك عالمه بأثره داخلنا لنظل نجتره كثيرا؛ نظرا لبراعته فيما يقدمه سواء على مستوى الخيال، أو مستوى اللغة التي يتميز بها، أو حتى على مستوى آليات القص التي يتقنها بشكل مُحكم؛ ليدلل لنا أنه من كتاب القصة الجدد الذين يستطيعون تقديم الكثير فيها، والعمل على تطوير آلياتها.

 

 

 مجلة عالم الكتاب.

عدد يونيو/ يوليو 2020م.