الجمعة، 26 يناير 2024

لا رجعة فيه: كل هذا العنف العادي!

ربما كان الوقت أو الزمن يحمل داخله، دائما، دلالته لكل منا؛ فهناك من يراه سبيلا وتمهيدا للمُستقبل- الذي نأمل، في الغالب، أن يكون أفضل- وهناك من يراه مُدمرا لكل شيء- فالوقت يحمل في معناه، غالبا، تدمير الأمور وعدم ثباتها على طبيعتها- أي أن الأمور الثابتة، سواء كانت جيدة أم سيئة، لا بد لها أن تتغير؛ حيث الوقت أو مرور الزمن كفيل بتغيير جوهريتها أيا كانت، والغالب أن الوقت يدمر كل شيء، وينقله إلى خريفه، وضعفه، ويسلبه قوته، حتى يحيله في نهاية الأمر إلى عدم لا وجود له أو قيمة.

هذه النظرة الواقعية للوقت/ الزمن- التي تحمل داخلها قدرا ليس هينا من العدمية- جعل الكثيرين ممن يمارسون الفن يلتفتون إليه من خلال نظرة عميقة تعمل على تأمله، ومتابعة أثره على صيرورة الأمور؛ ومن ثم محاولة مناقشة أثره على كل ما في الحياة بتقديم العديد من الأعمال الفنية التي تناقش مثل هذا الأثر.

رأينا ذلك من قبل في أفلام المخرج الصيني وونج كار واي المهووس بالزمن؛ حتى أننا نراه من خلال ما يقدمه من أفلام يكاد أن يكون مُنشغلا بالوقت وأثره على كل ما يدور في عالمه الفيلمي، ربما أكثر من انشغاله بموضوع الفيلم نفسه، ولعل مفردات الوقت مثل صوت عقارب الساعة، والتركيز بالكاميرا على الساعات، وتحديد التوقيت بالكتابة على الشاشة من أهم المُفردات السينمائية التي لا بد أن نلاحظها في أفلام وونج كار واي؛ الأمر الذي يؤكد هوسه بتأمل الزمن وصيرورته مثله في ذلك مثل العديدين من الفلاسفة.

في الفيلم الفرنسي "لا رجعة فيه" Irréversible للمخرج الأرجنتيني الأصل الفرنسي الجنسية Gaspar Noé جاسبار نوي نلاحظ مثل هذا الهوس بالوقت والعمل على تأمله، لكنه هنا حريص على التأكيد بأن الوقت في حقيقته مُدمر لكل شيء في نهاية الأمر؛ حتى أنه يتلاعب به ويعرضه من الأمام إلى الخلف، أي يعمل على عكسه؛ للتأكيد على خطورة تأثيره في الحياة، وبأنه رغم أي شيء لا يمكن العودة به إلى الوراء مرة أخرى من أجل إصلاح بعض الأخطاء التي لولا حدوثها ما عمل الوقت على تدمير شؤوننا الحياتية، والقضاء على كل شيء.


هذه الهوس المرضي بالزمن ومروره يؤكده المخرج بشكل صريح تماما منذ اللقطة الأولى في فيلمه حينما يبدأ الفيلم على مشهد شخصية فيلمه السابق الذي قدمه عام 1998م I Stand Alone أقف وحدي، حيث يستدعي المخرج هذه الشخصية إلى فيلمه الجديد؛ لنراه يقول لرفيقه: الوقت يدمر كل شيء.

بهذه العبارة التي يبدأ بها الفيلم على لسان شخصيته السابقة يلخص لنا نوي فلسفة فيلمه المُنشغل فيه بأثر الزمن على الأمور والأشخاص والحياة بكاملها، ثم لا يلبث أن ينتهي بنفس العبارة مكتوبة على الشاشة بمجرد الانتهاء من أحداث الفيلم؛ للتدليل على أثر الزمن في التدمير، وإكساب الأمور الوحشية والعنيفة سمة العادية، أو جعلها طبيعية، لا بد منها، مع حرص المخرج على التركيز على صوت عقرب الثواني العالي في خلفية المشهد الأول وغيره من المشاهد.


إذن، فنحن هنا أمام فيلم ينشغل بالزمن وأثره على الحياة بالكامل. هذا الانشغال بالزمن هو ما يمكن أن يفسر لنا معنى عنوان فيلمه المُلتبس إلى حد ما- لا رجعة فيه- أي غير قابل للعكس والعودة به مرة أخرى من حيث بدأ؛ فما حدث قد حدث، وبناء على فعل الحدوث ترتبت كل الأحداث التالية على هذا الحدث سواء كانت جيدة أم سيئة، وهي في الأغلب، دائما، ستكون أحداثا سوداوية ودامية لا يمكن تخيلها.

إن حرص المخرج على أن يبدأ فيلمه بشخصية من فيلمه السابق- رغم عدم جوهريتها في الأحداث اللهم إلا التأكيد على تدمير الوقت لكل شيء- واعترافه بأنه قد قضى فترة في السجن لممارسته الجنس مع ابنته- وهو ما لم نعرفه، أو نتوصل إليه مع نهاية الفيلم السابق، تُعد بمثابة إجابة واضحة للسؤال الذي ظل معلقا في الفراغ سابقا، فضلا عن أنه يقدم في هذا المشهد الافتتاحي فلسفة فيلمه القاسية حينما يرد عليه صديقه ببساطة بعدما عرف اغتصابه لابنته: لا توجد جرائم، إنما فقط حوادث عادية! أي أنه يريد التدليل على أن ما حدث كان لا بد له أن يحدث من دون العمل على تضخيم الفعل، أو الإمعان في تأمله طويلا؛ حتى لا يتضخم في ذواتنا! كما أنه حريص من ناحية أخرى على ربط أفلامه مع بعضها البعض بثمة رابط، وكأنها سلسلة متتابعة لا يمكن لها الانفصال عن بعضها.


ألا نلحظ في مثل هذه النظرة وهذا التأويل الناتج من رد صديقه عليه قدرا غير هين من العدمية؟ إنها العدمية التي تعمل على تبسيط الأمور والأحداث والجرائم وردود الأفعال مهما كانت عنيفة أو قاسية، وتردها إلى طبيعتها باعتبارها مجرد أفعال بسيطة كان لا بد لها أن تحدث؛ لأنها ترتبت على فعل آخر حدث من قبل في صيرورة الزمن، وهذا الفعل السابق- سواء كان صحيحا أو خاطئا- لا يمكن الرجوع بالزمن مرة أخرى من أجل تغييره أو تصحيحه؛ ومن ثم علينا تقبل الأمور كما هي من دون الندم على حدوثها!

في فيلم هو من أكثر الأفلام قسوة بصريا، يحرص فيه مخرجه على أسلوبيته في تقديم الصورة بشكل مُمعن في السادية التي يمارسها على المُشاهد يقدم المخرج جاسبار نوي فيلمه "لا رجعة فيه" مُعتمدا في ذلك على التصوير والكاميرا المحمولة في المقام الأول، أي أن الفيلم يعتمد بشكل جوهري على تقديم الصورة من خلال أسلوبية المخرج أكثر من اعتماده على السيناريو البسيط الذي كتبه؛ ولتحقيق فلسفة المخرج وإيصالها للمُشاهد كما يرغبها- كتب جاسبار نوي سيناريو فيلمه- سعى نوي إلى تصوير الفيلم بنفسه بالاشتراك مع المصور الفرنسي Benoît Debie الذي اهتم أكثر بالإضاءة المُصاحبة للتصوير، وترك مهمة التصوير للمخرج نفسه.


كل شيء في هذا الفيلم يبدو لنا مقلوبا، وغير مستقر، ومتوترا، ويكاد أن يسقط خارج الإطار- وكأنه على الحافة- إلى أعماق مُظلمة لا أمل فيها؛ حتى أن تيترات الفيلم نفسها جاءت بحروف مقلوبة إلى أن تميل كتابة التيترات بزاوية حادة وكأنها ستسقط في هوة عميقة لا قرار لها- تماما مثل شخصياته- وهو ما يُدلل على مهارة المخرج وفنيته التي يحرص من خلالها على ربط الشكل الفيلمي بالمضمون.

إن التأمل في أسلوبية المخرج البصرية، وطريقته في تقديم مشاهده منذ اللقطة الأولى يؤكد لنا إدراكه التام لما يفعله، ورغبته في التأثير السادي على المُشاهد من خلال الصدمة البصرية التي يقدمها له؛ فالكاميرا المحمولة غير الثابتة هنا متوترة، لاهثة، شاعرة بالكثير من الغضب والتربص والترقب لكل شيء، كما نلاحظ أنه كان حريصا غير مرة على قلب المشهد رأسا على عقب؛ فتبدو الأشياء والممثلين مقلوبين في أسفل الشاشة، منذ بداية الفيلم، وهو ما نراه بوفرة دائمة في الثلث الأول من الفيلم. هذه الكاميرا المتوترة تؤدي بالضرورة إلى توتر المُشاهد وشعوره الدائم بعدم الارتياح، والقلق، والدوار في رغبة عميقة من المخرج في ربط الصورة بالموضوع، وهي أسلوبية بصرية تخص المخرج حرص على إرسائها في فيلمه، كما كانت ذات صلة عميقة بما يشاهده المُشاهد من عنف غير طبيعي يجعله يشعر بالدوار الحقيقي.


إن القصة البسيطة التي يقدمها المخرج من أجل إثبات مقدرة الزمن على الدمار الكامل تتلخص في زوجين هما "أليكس"- أدت دورها الممثلة الإيطالية Monica Bellucci مونيكا بيلوتشي- وماركوس- أدى دوره الممثل الفرنسي Vincent Cassel فينسينت كاسل- بالإضافة إلى صديقهما الذي كان حبيب الزوجة السابق "بيير"- أدى دوره الممثل الفرنسي Albert Dupontel ألبرت دو بونتيل- حيث نرى الزوجين معا في مشهد عشقي في منزلهما يصل إلى ثماني عشرة دقيقة ركز فيه المخرج على حبهما الشديد لبعضهما البعض، واكتشاف أليكس أنها حامل، ثم استعدادهما للسهر هذه الليلة مع صديقهما بيير- حبيبها السابق- أستاذ التاريخ والفلسفة العقلاني، وبالفعل يذهبون من خلال المترو إلى الحفل الليلي، بينما يحاول بيير معرفة أسرارهما الزوجية منهما بأسئلته اللحوحة عن شكل العلاقة الجنسية بينهما، ثم ينتقل المخرج بهم إلى الحفل حيث نرى أليكس ترقص لمدة طويلة بنعومة حالمة بينما يلهو زوجها ماركوس من خلف ظهرها مع العديد من العاهرات في المكان بعدما تناول الكثير من الخمور والمخدرات التي جعلته غير متزن وفاقدا لوعيه في الوقت الذي يحاول فيه بيير منع ماركوس من ارتكاب المزيد من الحماقات التي من الممكن لها أن تُدمر العلاقة بينه وبين أليكس إذا ما انتبهت لما يفعله. تزداد حماقات ماركوس في التعامل حتى مع زوجته؛ الأمر الذي يجعلها تغضب بسبب عدم إدراكه، وتناوله الكثير من الحبوب المُخدرة؛ فتنصرف من الحفل وحدها رغم محاولة ماركوس استبقائها، ورغبة بيير في إيصالها إلى المنزل خشية تركها وحدها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل.


ترفض أليكس اصطحاب بيير لها، وتطلب منه الاعتناء بزوجها الفاقد لرشده بسبب ما تناوله ثم تنصرف، وأثناء محاولتها إيقاف تاكسي تخبرها إحدى السيدات بأن عبورها للطريق يعرضها للخطر، وأنها عليها العبور من خلال النفق. تتجه أليكس إلى النفق الفارغ تماما للعبور، وأثناء عبورها تلحظ أحد الرجال الذي يحاول الاعتداء جسديا على إحدى السيدات، لكنه حينما يلحظها يترك السيدة التي معه لتهرب بينما يمنع أليكس من الخروج من النفق مُهددا إياها بقتلها بالمطواة التي يخرجها من ملابسه. تشعر أليكس بالخوف الشديد، وتطلب منه أن يتركها تعبر، لكنه يبدأ في تحسس جسدها ويغتصبها في شرجها تحت تهديد السلاح في مشهد طويل استمر حوالي العشرة دقائق من زمن الفيلم، وبعدما ينتهي من اغتصابه يقوم بلكمها في وجهها بقسوة، ثم ضرب وجهها في الأرض حتى تدخل في غيبوبة مُحطما وجهها تماما.


بعد انتهاء الليلة وخروج ماركوس وبيير من الملهى يرى زوجته بالمُصادفة يحملها رجال الإسعاف، وفي هذه الأثناء يعرض عليه رجلان غريبان أن يساعداه في إيجاد القاتل ويعملان على تنمية شعور الانتقام داخله باعتباره حق إنساني لا بد منه. ينساق ماركوس لشعور الانتقام ويتبع الرجلين مع بيير ويبدآن في البحث عن الرجل في العديد من النوادي المثلية، وسط الكثيرين من الشواذ والعاهرات. يحاول بيير غير مرة منع ماركوس من العنف الذي يمارسه من أجل الوصول إلى قاتل زوجته، لكنه يستمر في المزيد من العنف مع الجميع، إلى أن يدخل أحد نوادي الشواذ وهناك يظن بأحد الرجال أنه من قتل زوجته، وحينما يحاول الاعتداء عليه يكسر له هذا الرجل ذراعه، ويحاول اغتصابه؛ الأمر الذي جعل بيير يدافع عنه بتناوله مطفأة الحريق وضرب الرجل بها في وجهه 23 مرة حتى يسحق وجهه تماما. تأتي الشرطة والإسعاف ليخرج ماركوس من هناك مُحطما جسديا بعد الاعتداء البدني عليه واغتصابه داخل الملهى بينما يتم التحقيق مع بيير؛ بسبب تحطيمه لرأس الرجل في الداخل.


هذه هي الحكاية البسيطة- في سياقها وتسلسلها العادي والمنطقي- التي اعتمد عليها المخرج في تقديم فيلمه القاسي بصريا راغبا في التأكيد على قسوة الزمن في تدمير مصائر الجميع. لكن، هذه الحكاية لا يمكن لها أن تؤتي بأكلها التي يرغبها المخرج إلا من خلال الطريقة التي قدمها بها؛ فالحكاية السابقة كما سبق أن سردناها هي مجرد قصة درامية من الممكن أن نراها في أي فيلم سينمائي، لكن المخرج هنا عمد إلى تقديم هذه الحكاية من خلال أسلوب الصدمة القاسية وقلبها تماما رأسا على عقب- تماما مثل كادراته التي كنا نراها مقلوبة على رأسها- أي أنه سعى إلى تقديم الفيلم من نهايته واستمر به حتى وصل إلى بدايته التي كانت هي ما ختم به الفيلم، فزمن الفيلم هنا يسير للخلف في تقديم الحكاية معكوسة بدلا من تراتبيته الزمنية العادية، بمعنى أننا رأينا في بداية الفيلم مشهد ماركوس محمولا على حمالة الإسعاف بعد الاعتداء عليه واغتصابه في النادي الجنسي، وتوقيف صديقه بيير واستجوابه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى رحلة البحث عمن قتل زوجته ورغبته في الانتقام منه، وهكذا استمرت الأحداث  مشهد بعد الآخر بشكل معكوس إلى أن وصلنا لماركوس مع أليكس في منزلهما والمشهد العشقي الطويل لهما واكتشافها لحملها.

إن تقديم أحداث الفيلم بهذا الشكل المعكوس، وحرص المخرج على تقديم العنف الشديد في الثلثين الأولين من الفيلم؛ لينتهي إلى هدوء الكاميرا وثباتها في الثلث الأخير منه، وتقديم المشهد الرومانسي الطويل؛ يجعل المشاهد قادرا على تفهم هذا العنف اللامتناهي، والسبب فيه، والاقتناع بأثر الزمن في تدمير كل شيء، وأن بعض السلوكيات التي قد تصدر منا، والتي يترتب عليها الكثير من الكوارث فيما بعد لا يمكن لنا إصلاحها بعودة الزمن إلى الوراء مرة أخرى، وهذا ما قصده المخرج تماما من تقديم قصة فيلمه بشكل عكسي؛ فالأمور هنا غير قابلة للعكس، ولا يمكن القول: لو لم نفعل كذا ما كان قد حدث ما حدث؛ فالفعل قد تم، والأخطاء البسيطة قد حدثت؛ ومن ثم ترتب عليها المزيد من الأخطاء التي أدت إلى الكثير من الدموية المُدمرة للجميع، وهذا ما قصده المخرج حينما جعل الشخصية المجهولة في بداية الفيلم تقول تعليقا على قول الرجل عن اغتصابه لابنته: لا توجد جرائم، إنما فقط حوادث عادية؛ ومن ثم يكون كل ما حدث لأليكس وماركوس وبيير من كوارث ودموية وتحطيم لحياتهم تماما مجرد حوادث عادية ترتبت على بعض الأخطاء البسيطة التي حدثت فيما قبل!

المُخرج الأرجنتيني الأصل الفرنسي الجنسية جاسبر نوي

العنف هنا يسيطر على كل شيء، وهو شكل من أشكال الدمار الشامل لكل ما يحيط به من مظاهر الحياة، وإمعانا من المخرج جاسبار نوي في تأكيد هذا العنف في نفس المُشاهد والرغبة في إقلاقه والضغط عليه ليكون داخل الحدث تماما وكأنه عنصر من عناصره؛ استخدم المخرج نوعا من الموسيقى الكابوسية الحادة التي كادت أن تدفع المُشاهد إلى الانهيار العصبي مع الاستغراق فيها وإلحاحها على سمعه؛ وهو ما عمد المخرج إليه لتدمير أعصاب المُشاهد مع الأحداث العنيفة التي يشاهدها ليكون لها أكبر الأثر فيما بعد في الثلث الأخير من الفيلم؛ حيث العنف الشديد والرغبة في الانتقام يجعلان بيير يقول لماركوس: أنت لم تعد إنسان على الإطلاق، حتى الحيوانات لا تنتقم من نفسها، لكن رغم هذه العقلانية التي تبدو لنا من بيير نراه بعد قليل يحطم وجه أحد الأشخاص في ملهى الشواذ مستخدما مطفأة الحريق حيث يدق وجهه 23 مرة في مشهد طويل حتى يسحقه تماما حرص فيه المخرج على عدم القطع أو تحريك الكاميرا التي ظلت شاخصة مراقبة متأملة في حالة استمتاع سادي قاس لم نرها في أي مشهد سينمائي من قبل، حيث يترك بيير الرجل وقد تم سحق وجهه تماما ظنا منه أنه الشخص الذي يبحثون عنه، فضلا عن دفاعه عن صديقه الذي كسر له هذا الشخص ذراعه راغبا في اغتصابه.

المُمثل الفرنسي ألبرت دو بونتيل

هذا العنف يتجلى لنا في كل المشاهد التي سادت في الثلثين الأولين من الفيلم؛ لذلك نرى ماركوس في رحلته المحمومة اللاهثة من أجل البحث عمن اغتصب وقتل زوجته يرش وجه سائق التاكسي برشاش الفلفل ويستولي على سيارته؛ لأن السائق لا يعرف مكان النادي الجنسي الذي يريده ماركوس، وحينما يحاول بيير إيقاف سلسلة العنف في البحث عن هذا الرجل ويرفض النزول من التاكسي مع ماركوس؛ يقوم ماركوس بتحطيم زجاج وواجهة السيارة بقضيب من الحديد؛ ليرغمه على الاستمرار معه في رحلة البحث، كما يعتدي ماركوس بعنف على إحدى العاهرات في العالم السفلي لباريس الليلية حينما يسألها عن الرجل المقصود وتؤكد له أنها لا تعرفه، أي أننا أمام إعصار وتيار هادر وجارف من العنف الذي يطول كل شيء وأي شيء من دون توقف، وهو العنف الذي عمل على رعايته وتنميته وتقويته رجلان مجهولان حينما شاهدا ماركوس منهارا أمام جثة زوجته التي يحملها الإسعاف؛ حيث قال له أحدهما: هل تعتمد على رجال البوليس؟ ماذا تعتقد بوسع البوليس فعله؟ لا شيء، وأنت تعلم ذلك، هل سيجدوا المذنب؟ هل سيزجون به في السجن، هل سيعطونه ملابسا وطعاما، هل سيعتنون به، هل سيجلبوا له طبيبا؟ لو تملك مالا؛ سنساعدك في الانتقام، المجرم سفك دماء؛ والآن الدماء تُطلق صيحة الانتقام؛ فالانتقام حق إنساني!

قد يكون كل ما قاله الرجل فيه الكثير من المنطقية والعقلانية، لكنها العقلانية التي يريد من خلالها الوصول إلى عبارته الأخيرة اللاعقلانية: الانتقام حق إنساني؛ لأنه من خلال هذه العبارة يحيل المجتمع بالكامل إلى شكل دموي، وسلسلة من الانتقامات العنيفة التي لا يمكن لها أن تنتهي مُطلقا، وهو ما ما رأيناه بالفعل على الشاشة حينما اقتنع ماركوس بقول الرجل واتبعه؛ الأمر الذي أدى إلى تدمير الجميع.

بعدما ينتهي المخرج من سلسلة الانتقامات التي بدأ بها أحداث فيلمه، وهي الأحداث المعكوسة لما حدث قبلا؛ نشاهد المشهد الطويل الذي تم فيه اغتصاب أليكس بعد خروجها من الملهى وعبورها للنفق؛ حيث أوقفها الرجل المثلي واغتصبها من مؤخرتها في مشهد جنس خلفي طويل استمر عشرة دقائق كاملة من خلال استخدام المخرج كاميرا ثابتة حتى انتهاء المشهد، وكأنما الكاميرا القاسية السادية كائن حي يتأمل مُستمتعا- خشية تحويل عينيه أو إغلاقها للحظة- بما يدور أمامه من وحشية وعنف لا مبرر لهما تجاه أليكس، ولعلنا نلاحظ هنا أن سبب هذا العنف من هذا الرجل تجاه أليكس يحمل داخله حقده الشديد على التميز؛ فكونه رجلا مثليا يجعله- في حقيقة الأمر- غير راغب في اغتصاب أنثى لا تجذبه جنسيا، لكنه اغتصبها في مؤخرتها نظرا لمثليته أولا، ثم إمعانا في إهانتها والانتقام منها؛ نظرا لشعوره بتميزها الشديد عليه بسبب جمالها اللافت، وهو ما أراد تدميره في نهاية الأمر حيث حطم وجهها تماما بركلها بقدمه في وجهها بداية، ثم لكمها بقوة الكثير من اللكمات المُتتالية، ثم ضرب وجهها في الأرض بقسوة حتى حطمه تماما بينما يصرخ بهيسترية: أتعتقدين أنه بوسعك فعل شيء لأنك جميلة؟ هذا هو وجهك البغيض!

المُمثل الفرنسي فينسينت كاسل

هذا المشهد القاسي، هو ما يبرر لنا ما سبق أن رأيناه من عنف شديد في المشاهد السابقة التي بدأ بها الفيلم من أجل الانتقام لما حدث لأليكس، ولعل مشهد الاغتصاب كان فيه من القسوة والعنف غير المُبرر ما يجعلنا نتقبل ما شاهدناه من عنف سابق مارسه زوجها في المشاهد الأولى.

هل من الممكن اعتبار فيلم نوي فيلما نسويا يحاول الانتصار للمرأة، أو الحديث عما يقع عليها من عنف في مجتمع ذكوري؟

من الممكن لنا تفسير الفيلم من خلال هذا المُنطلق؛ فجميع شخصياته الذكورية تحمل داخلها من طاقة العنف ما لا يمكن احتماله أو وصفه، سواء كان بيير الذي يسحق عظام جمجمة الرجل في ملهى الشواذ، أو ماركوس العنيف مع الجميع من أجل زوجته، بينما نرى أليكس دائما في صورة هادئة حالمة تحمل في داخلها وقسمات وتعبيرات وجهها الكثير من الملائكية الناعمة، أي أن الفيلم يتناول العنف الاجتماعي الذكوري تجاه العالم بأكلمه.

يؤكد المخرج كاسبار نوي على أن أخطاءنا لا يمكن لنا العودة فيها؛ لأن الزمن قد سجلها وسيبدأ التعامل المُستقبلي على أساسها، وكل ما سيأتي فيما بعد سيكون مُترتبا على هذه الأخطاء، وكأنها حدثت كأي حدث طبيعي؛ لأن الزمن سيمنع عودتها مرة أخرى أو التراجع عنها. هذه الأخطاء البسيطة والساذجة جدا التي قد تؤدي إلى مثل هذا الإعصار هي ما صوره المخرج في تناول ماركوس للكثير من الخمور والمُخدرات في الحفل؛ الأمر الذي أدى إلى غضب زوجته وانصرافها وحدها؛ فلولا هذا الخطأ البسيط لما انصرفت، كذلك الخطأ في عبورها للنفق وخوفها وتوقفها عن العبور حينما رأت الرجل يعتدي على إحدى النساء فيه؛ فلولا هذا العبور والتوقف الخائف لما كان الرجل قد انتبه إليها وقام باغتصابها ثم قتلها، ثم خطأ ماركوس بالانسياق خلف غضبه الذي عمل الرجل الغريب على تنميته داخله ورعايته من خلال حديثه حول حق الانتقام الإنساني؛ فلولا انسياق ماركوس خلف هذا الغضب والرغبة في الانتقام لما تم الاعتداء عليه واغتصابه في النادي الجنسي، ولما قام بيير بسحق رأس الرجل وقتله، أي أن الفيلم يعمل على التأكيد بأن ثمة أخطاء ساذجة وبسيطة تحدث، ورغم بساطتها وسذاجتها إلا أن الزمن يستغلها؛ وبالتالي يترتب عليها إعصار كامل من العنف، والجريمة وتدمير الحيوات والدم الذي لا يتوقف عن الجريان!

المُمثلة الإيطالية مونيكا بيلوتشي

يحاول المخرج التأكيد على فلسفته تجاه الزمن وتدميره لكل شيء بالادعاء من خلال فيلمه بأن كل ما يدور في حياتنا هو أمر قدري، حتى العنف الشديد يبدو لنا في نهاية الأمر وكأنه أمر قدري لا فكاك منه، ولا يمكن لنا تجنبه، وهو ما رأيناه حينما أخبرت أليكس زوجها وصديقه بأنها تقرأ كتابا عن الزمن وأثره في حياتنا، حيث يفيد الكتاب بأن المُستقبل مُحدد بالفعل، وكل شيء مُرتب ومُقدر، والدليل على ذلك هو الأحلام التنبؤية، هذه الأحلام التي سنراها فيما بعد في الثلث الأخير من الفيلم حينما تستيقظ الزوجة لتقول لزوجها: رأيت حلما غريبا مشيت فيه من خلال نفق أحمر تماما، وبعد ذلك انشطر النفق إلى نصفين. هذا الحلم هو ما نفذه المخرج سابقا في مشهد الاغتصاب الشرجي حينما عبرت أليكس النفق ذا الإضاءة الحمراء الخافتة، ثم اغتصابها وشقها إلى نصفين، أي أن الحلم الرمزي هو ما حققه المخرج بصريا في المشاهد التي أتت فيما قبل، كما لا يفوتنا حرصه على أن تكون الإضاءة في النفق حمراء للدلالة على العنف والقتل والدم الذين سنراهم فيما بعد.

يؤكد لنا المخرج الفرنسي الأرجنتيني الأصل جاسبار نوي من خلال فيلمه "لا رجعة فيه" على أسلوبيته السينمائية الخاصة جدا، ومدى قدرته على تقديم فيلم يهتم أيما اهتمام بالصورة التي ترتبط ارتباطا جوهريا مع موضوعه، بل ويدرك جيدا، من خلال الفيلم، على مقدرة الصورة والصوت على تشكيل وعي ومشاعر المُشاهد، وقدرتهما على الضغط على أعصابه وكأنه يعيش داخل الحدث الذي يراه أمامه على الشاشة؛ الأمر الذي جعله يقدم فيلما من أكثر الأفلام السينمائية قسوة وسادية بصرية قد لا يحتملها العديدون من المُشاهدين.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد يناير 2024م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السبت، 13 يناير 2024

رمضان في يوم: الصوم كفعل ثقافي

في الفيلم التسجيلي الألماني السعودي "رمضان في يوم" للمُخرج السعودي مجتبى سعيد، والمُخرجة الألمانية التونسية الأصل مايسة لحدهب، والمُخرج الألماني التركي الأصل نيلجون أكينجي ثمة رحلة مدروسة بشكل مُتقن لمُتابعة ستٍ من الشخصيات العربية المُسلمة التي تحيا في مناطق مُختلفة من ألمانيا، حيث يعيشون يومهم العادي والأخير من شهر رمضان- في انتظار العيد- أي أن المُخرج يُدرك جيدا ما يفعله، حيث خطط بشكل واعٍ للفيلم الذي قام بإعداده، وهو ما يبدو لنا واضحا في الشكل الأخير الذي خرج عليه الفيلم.

لكن، لا بد من طرح التساؤل: لِمَ اختار المُخرج تصوير هذه الشخصيات الست في يومها الأخير من شهر رمضان؟

إن المُخرج هنا يتعامل مع فعل الصوم، ويصوره باعتباره فعلا ثقافيا، واجتماعيا في المقام الأول، فعل ذات، وهوية، أي أن هذه الشخصيات العربية المُسلمة حينما اندمجت مع المُجتمع الألماني لم يبق لها ما يربطها بجذورها في نهاية الأمر سوى هذا الفعل الثقافي، وهو الفعل الذي من شأنه أن يوثق من الروابط الأسرية لهم في غربتهم، فهم من خلاله يحاولون الحفاظ على عدم تفتت الأسر، والعمل على تماسكها، وهو ما سنُلاحظه بشكل شديد الوضوح- وإن لم يكن خطابيا، بل مال باتجاه التلقائية والبساطة- حينما نستمع إلى إحدى الفتيات العربيات المُسلمات تقول لأصدقائها: إنه جزء من ثقافتنا، إنه ببساطة ينتمي إلينا، جزء من تقاليدنا. الناس الذين لا يصومون لا يفهمون في الكثير من الأحيان ما يعنيه الصيام، نحن نعلم ما هو الصيام، لكن في العمل أسمع كثيرا: يا إلهي! كيف هو الصيام، دائما ما تتكرر هذه الأسئلة. متى سمعتم من شخص غير مُسلم، من ألماني على سبيل المثال، نادرا ما نسمع أن شخصا ما يتمنى لك عيدا سعيدا؛ لأن لا أحد يعرف بذلك، لكننا نقول لكل ألماني: أتمنى لك عيد ميلاد مجيد، وعيد فصح سعيد، لكن، متى يقول لنا الناس ذلك؟ هذا لا يحدث. لقد اندمجنا جيدا هنا، لكن هل ثقافتنا تُحترم حقا؟ لست مُتأكدة. عيد الميلاد عند الألمان هو عندما تجتمع العائلة كلها معا، نفس الشيء مع الصيام؛ نلتقي معا في المساء، نأكل معا، الأسرة كلها تجتمع، وغالبا ما يكون هذا في شهر رمضان، الشهر الذي تقترب فيه من العائلة برمتها.

ربما يتضح لنا مما سبق أن قالته الفتاة أن فعل الصوم هنا ليس إلا فعلا ثقافيا في جوهره، فعلا اجتماعيا يحاولون من خلاله بالفعل الحفاظ على تماسك الأسرة- تماما مثلما يفعل الألمان في عيدهم، عيد الميلاد- لكننا سنُلاحظ أيضا في طيات حديثها نوعا من الشكوى، أو الشعور بالنقص، أو المظلومية، أو الظن بأنها مُجرد مواطن من الدرجة الثانية، وهو ما قد نستشعر منه الصوت العالي، والمُباشرة التي لا تتناسب مع فن السينما، حينما قالت: نادرا ما نسمع أن شخصا ما يتمنى لك عيدا سعيدا؛ لأن لا أحد يعرف بذلك، لكننا نقول لكل ألماني: أتمنى لك عيد ميلاد مجيد، وعيد فصح سعيد، لكن، متى يقول لنا الناس ذلك؟ هذا لا يحدث. لقد اندمجنا جيدا هنا، لكن هل ثقافتنا تُحترم حقا.

إن هذا القول في جوهره يحمل الكثير من شعور النقص، فضلا عن الخطابية- فضلا عن أنه يؤكد من جهة أخرى على أن فعل الصوم قد انتُزع بالفعل من مفهومه ودلالته الدينية إلى مفهوم الهوية- فهي تُدرك جيدا أنها في مُجتمع لا علاقة له بالثقافة الإسلامية الوافدة منها، كما أن المُجتمع الألماني لا يعنيه أن يعرف ثقافة الوافدين عليه، ومن ثم فمن الطبيعي أن يعرف الوافد ثقافة البلد الذاهب إليه، في حين أن البلد المُستضيف ليس من الضروري على أفراده إلزام أنفسهم بمعرفة ثقافة من وفد عليهم، أي أن الأمر هنا لا علاقة له باحترام الثقافة الإسلامية من عدمها- كما تظن الفتاة.

اعتبار فعل الصوم فعل اجتماعي مُهم يوطد من أواصر الأسرة والمُجتمع، سنلحظه مرة أخرى في قول الشيخ عبد الله حجير: رمضان هو أمر اجتماعي وعائلي، وعلاقته بالشغف وطيدة، ذلك لأن الناس تصوم رغم أن الصوم يتطلب الكثير منهم، ويستنفد الكثير من الصبر والقوة، وما إلى ذلك. وهنا يكمن الجمال في رمضان، شهر رمضان هو حقا ركيزة للمُجتمع، ركيزة دينية، اجتماعية، وثقافيه، إنه ظاهرة.

إذن، فرؤية المُخرج الفنية الأولى في صناعة فيلمه هي إثبات أن فعل الصوم- بالنسبة للمُسلمين المتواجدين في المهجر- هو مُجرد فعل ثقافي، وتواصلي في جوهره، وليس شكلا من أشكال التعصب، لا سيما أننا سنرى بهاء الدين، المُهاجر العراقي الذي يعمل DJ، رغم أنه لا يلتزم بصوم رمضان، لكنه راغب في إعداد حفل مُوسيقي كبير يدعو فيه جميع أصدقائه من الألمان احتفالا بعيد الفطر، أي أن الفعل الديني هنا قد بات فعلا ثقافيا يحمل العديد من الدلالات الواسعة والمُختلفة، ومنها تعريف الآخرين بثقافة الوافدين من العرب والمُسلمين. كما رأينا المُلاكم الألماني ذا الأصول العربية- المولود في بافاريا- فرات أرسلان حريصا على الذهاب للمقابر لزيارة أمه مع طفله، بعد أدائه لصلاة عيد الفطر، وهو نفس الطقس الثقافي الذي يمارسه جميع المُسلمين في العالم، حيث يسرعون لزيارة موتاهم في المقابر بعد الانتهاء من صلاة العيد.

يبدأ المُخرج مُجتبى سعيد فيلمه قبيل لحظة السحور بدقائق قليلة، حيث يتابع شخصياته الست التي أشار إليها في تيترات المُقدمة، لذلك كتب: يعيش في ألمانيا حوالي 4.5 مليون مُسلم، يرافق الفيلم ستة أشخاص خلال اليوم الأخير من شهر رمضان.

سنُلاحظ أن المُخرج هنا يحرص على تقسيم فيلمه إلى ثلاثة أجزاء، هي: سحور، إفطار، عيد الفطر، حيث يعنون كل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة التي يتكون منها فيلمه مع شرح المفهوم الثقافي للكلمة على الشاشة، ومن ثم يبدأ في مُتابعة شخصياته المُختلفة لنرى يوم كل شخصية فيهم في النهار الأخير من رمضان، فنرى مريم البديري- مُصممة الأزياء الجزائرية المُقيمة في مانهايم- حيث تُمارس عملها في الساعة 3:30 قبل تناولها لسحورها، وفرات أرسلان- بطل العالم في المُلاكمة المُقيم في جوبنجن- يُعد مشروبه في الساعة 3:38، ليقطع المُخرج على إنتصار سيف الدين- المُربية اليمنية المُقيمة في أيسن- بينما تُشاهد التلفاز في 3:45 صباحا، ثم ينتقل بنا إلى الشيخ عبد الله حجير- رجل الدين المتطوع والمُربي الاجتماعي المُقيم في برلين- في الساعة 4:20 صباحا حيث يؤم الناس في المسجد، وسُرعان ما نرى بهاء الدين- الذي يمارس عمله كدي جي، وهو عراقي مُقيم في برلين- في الساعة 5:45، ثم رحمة- الطالبة المدرسية التونسية المُقيمة في مارل- في الساعة 11:15 ظهرا.

إذن، فكاميرا المُخرج حريصة على تتبع شخصياته بتؤدة، وتمهل لتعريفنا بهم، وهو في هذا يتقن كيفية التأسيس لعالمه الفيلمي الذي يرغب في الدخول إليه؛ لذا تقول مريم أثناء تصميمها لأحد أزيائها: رمضان هو الوقت المُناسب لي لإبطاء إيقاع الحياة قليلا، لقضاء الوقت مع العائلة، والتفكير، وفعل الخير مرة أخرى- لاحظ المفهوم الاجتماعي للشهر.

إنه نفس المعنى الذي سنُلاحظه في حديث رحمة: بالنسبة لي، رمضان هو شهر الاقتراب من الله، ولاكتساب صفات أفضل للنفس، والاقتراب من الأشخاص الذين نحبهم، الأصدقاء والعائلة- لاحظ المفهوم الاجتماعي الثقافي- سيكون الصيام في تونس أسهل كثيرا من الصيام هنا، هناك الجميع تقريبا يصومون معك، على العكس من هنا. هنا تتم مُخاطبتك أحيانا بطريقة غريبة، يقول المُعلمون لي دائما: هل تريدين فعلا الصيام؟ هل أنت مُجبرة على القيام بذلك؟ دائما ما نواجه مثل هذه الأسئلة، ولكن هناك الكثير أيضا من الذين يصومون معنا هنا، لاحقا، سنذهب إلى أبناء وبنات عمومتي في فرنسا، ببساطة، نحن معهم لا نشعر بالوحدة، لدينا مزاج مُشترك، كل شخص يمر بنفس الشيء الآن. أي أن فعل الصيام هنا يحمل في باطنه الرغبة في الارتباط بالجذور، والشعور بالقيم الأسرية، وعدم الشعور بالوحدة التي قد يشهر بها الفرد في المهجر- الانتماء.

هذا المفهوم الثقافي لرمضان هو ما يدفع بهاء الدين- الذي لا يلتزم بالصيام في رمضان- إلى تجهيز حفلته المُوسيقية كرمز للاحتفال بعيد الفطر مع غيره من الألمان، أي أنه يحتفل بالعيد- الرمز الديني الثقافي الإسلامي- من خلال المفهوم المُحيط به، والذي يفهمه ويمارسه- عمله كـD J- وبالتالي يكون إقامة الحفل المُوسيقي مُتماهيا ومفهوما مع قوله: خطتنا الراقصة هي كالتالي: يا رفاق، نحن نحب بعضنا البعض، نحن نحتفل بالرقص، نصوم رمضان، ونفرح بالعيد، ونحن نفعل كل شيء، ونحن سنبقى كما نحن. أي أنه رغم عدم التزام بهاء الدين بالشكل الديني، ومُمارسة طقوسه، إلا أنه حريص على التعريف بثقافته بطريقته الخاصة، والمُختلفة.

إن مفهوم بهاء الدين للاحتفال بعيد الفطر، ونقل ثقافته للآخرين مع اختلافه عن مفهوم غيره من المُهاجرين يؤدي إلى سوء الفهم بينه وبين غيره من المُهاجرين، حيث يحاول الدعاية لحفلته المُوسيقية الراقصة بلصق مُلصقات الدعاية على أحد جدران المساجد، فيمنعه أحدهم بدعوى أن هذا جدار مسجد، وبالتالي لا يصح له لصق دعايته عليه؛ لذا نراه يقول: إنها مُجرد دعوة للعيد، والعيد جزء من الثقافة الإسلامية، سيكون رائعا لو قمنا به بشكل مُختلف قليلا، بمُوسيقى إليكترونية، وحفلة رقص غنائية، إلا أننا سنحتفل في النهاية مع الجميع، لكنه قال لي بأن ما نفعله لا علاقة له بالعيد، أنا لا أفهم ما يقصد، بالتأكيد هذا الرجل لا يفهم ما نفعله.

موقف الصدام، أو الخلاف هنا بين الرجلين- من ثقافة واحدة- هو موقف ثقافي في المقام الأول، فالرجل الذي يمنعه هو ابن نفس الثقافة، وإن كانت مُنغلقة، بينما بهاء الدين يرغب في تعريف الآخرين على ثقافته بطريقتهم التي يعرفونها.

ربما كان أهم ما يميز فيلم المُخرج السعودي مُجتبى سعيد هو مُناقشته للمفهوم الثقافي للفعل الديني، وهو ما يحرص على التركيز عليه في المقام الأول، صحيح أننا نلمح جانبا دعائيا/ بروباجندا يحرص على تجميل صورة الإسلام أمام الغرب في صناعة الفيلم، لكنه في النهاية من الأفلام التي تمت صناعتها بشكل فيه قدر كبير من الإتقان، لذا يقول الشيخ عبد الله حجير: يقولون: هناك أنواع مُختلفة من الثقافات، من ضمنها أيضا ثقافة الطعام، وثقافة اللغة والدين، ثقافة الطعام لا تعني فقط كيف تبتكر الوصفات، بل تعني كيف تأكل مع الآخرين، ومع الغرباء. لذا فهم جميعا- لا سيما الشيخ وفرات أرسلان- كانوا حريصين على إعداد إفطار كبير يدعون إليه العديد من أصدقائهم الألمان، وأبناء الأحياء التي يسكنون فيها من أجل تعريف الآخرين بثقافتهم، والمزيد من الاندماج في المُجتمع الألماني. وهو أيضا ما نُلاحظه في قول فرات أرسلان الذي يدعو أصدقاءه، والمُتدربين في مدرسته للمُلاكمة، حيث يقول: ما يدفعني أكثر للصيام هو أن في هذا الوقت، ولمرة واحدة في كل عام، نستذكر الجوع فعلا.

لكن، هل ركز المُخرج مُجتبى سعيد على المفهوم الثقافي، والاجتماعي لرمضان فقط من خلال فيلمه؟

إن المُخرج هنا يتعرض لمجموعة من المواقف الاجتماعية والثقافية الدالة من خلال فيلمه لتبيّن لنا كيف تطورت ثقافة الآخرين في المهجر، فتقول إنتصار- اليمنية لصديقتها التونسية: عندما جئت إلى هنا لم أكن أصلي أساسا، وعندما كنت باليمن كنت أنوي ارتداء الحجاب، حينها لم أكن أرتديه بعد، في عدن، في جنوب اليمن التي تُشبه إلى حد ما تونس، عليك التمييز بين جنوب اليمن وشمال اليمن، الأغلبية لم يرتدين الحجاب، لقد كان هناك من يرتدينه ومن لم يفعلن ذلك. حصلت على المنحة الدراسية وجئت إلى ألمانيا، لكني لم أرتدِ الحجاب، على ما يبدو كي لا أتعرض للرفض، لقد لاحظت أن الناس هنا مُختلفين تماما، لقد كنت الوحيدة أيضا عند دراستي للهندسة ودراسة اللغة، ثم تقدمت بطلب عمل في إحدى المدارس المهنية، كنت هناك كعادتي أرتدي قبعة في مُقابلة العمل، لقد أحسست بتأنيب الضمير، وكأنني لم أكن مُختلفة، ثم دعاني المسؤول لمُناقشة كل شيء، وتوقيع العقد، ثم فكرت، ماذا سأفعل الآن؟ فقررت أن أذهب كما أنا عليه بالحجاب، وإذا لم يقبل بحجابي، فلن يقبلني. لقد كان مرعوبا قال لي فورا: لماذا ترتدين الحجاب فجأة الآن؟! رفضني بسبب الحجاب. قال: إنه ليس ضدي شخصيا، لكن عملائي وطلابي لن يتقبلوا هذا الأمر إطلاقا.

ألا نُلاحظ هنا أن ارتداء إنتصار للحجاب الذي كانت ترفض ارتدائه، بل ومُمارستها لفعل الصلاة التي لم تكن تفعله، هما مُجرد فعل ثقافي في المقام الأول؟ إن شعورها بالغربة في المُجتمع الجديد، واندماجها فيه حتى أنها باتت مُجرد رقم عادي في مُتتالية عددية- لا يميزها أي شيء عمن حولها، وربما عدم الالتفات إليها- قد دفعاها إلى الالتزام والعودة إلى ثقافتها- العودة للجذور والتمسك بها في مواجهة الاختلاف- وبالتالي يكون الفعل في حد ذاته فعلا ثقافيا، إنه يتحول في حقيقة الأمر إلى فعل هوياتي، أي محاولة تعريف الآخر بالذات، والتميز أمام الآخرين، ورغم أنها كانت تظن بأن ارتدائها للحجاب قد يؤدي بها إلى التعرض للرفض، إلا أنها حينما فعلت ذلك لم تجد الرفض من الآخرين، وبالتالي فإن رفض المسؤول لعملها معهم لم يكن فعل رفض خاص، بل اندهاش لأنها لم تكن كذلك حينما تقدمت للعمل، وسُرعان ما اختلفت مما أدهشه- يؤكد ذلك أنها عملت في وظائف أخرى واندمجت في المُجتمع كمواطنة عادية.

كذلك يتابع سعيد قضية مُهمة لدى المُسلمين المُهاجرين، وهي تطور ثقافة المُهاجرين باتجاه الانفتاح، والتقبل للذات، والآخرين؛ فالمفهوم الديني الذي يميل باتجاه الذكورية لدى غالبية المُسلمين- حتى المرأة- ينمحي أثره لدى من هاجروا، وبالتالي يبدأون في التساؤل عن الحقوق والواجبات، وهو ما نراه من قول إحدى النساء لمريم: غالبا ما لا نرى لنا في المُجتمع المُسلم أي اعتبار، وإذا لم نمض في طريقنا الخاص فلن يرانا أحد، نعم، ما زلت أعتقد بأنه يجب أن يكون هناك مسجد باسم امرأة، الحديقة والمكتبة أيضا تُسمى باسم امرأة، كل الصحابة لهم مساجدهم الخاصة، لكني لا أعتقد بأني سمعت عن مسجد باسم صحابية. فترد عليها مريم: آخر مسجد شعرت فيه بالراحة كان في دبي، وكان ذلك مُنذ وقت طويل، كانت لدينا شرفة واسعة على السطح مُخصصة للنساء، كان بإمكاننا الصلاة في الهواء الطلق، هل تتذكرين؟

إن الفيلم التسجيلي "رمضان في يوم" للمُخرج السعودي مُجتبى سعيد من الأفلام المُهمة، والمُتقنة إلى حد بعيد في صناعة فيلم يعمل على التوثيق للمُهاجرين من المُسلمين والعرب في دول المهجر، حيث يؤكد على أن الفعل الديني يتحول إلى فعل ثقافي/ هوياتي، قادر على التغيير، والتعبير عن الذات، بل والتأكيد على الانتماء، وبالتالي فهو فعل اجتماعي مُهم، يساعد على المزيد من الاندماج في المُجتمعات الأخرى، وتبادل الثقافات من خلال مُتابعة ست شخصيات في آخر يوم من أيام رمضان، وكيف يقضون هذا اليوم في مُمارساتهم اليومية استعدادا لعيد الفطر.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "النص الجديد".

عدد يناير 2024م.