السبت، 25 سبتمبر 2021

ثرثرة أمام جبل قاسيون.. القصة القصيرة كمُعادل لتشكيل العالم

لا يمكن إنكار الفكرة التي تفيد بأن الإبداع، بكل أشكاله، إنما هو قادر على إعادة تشكيل العالم، وتجميله، وتحميله بالعديد من المعاني التي لم يكن يحتملها من قبل- سواء بالسلب أم بالإيجاب- أي أن الفن في مُجمله يُعد سبيلا لخلق عالمٍ آخر موازٍ تبعا للرؤية التي يراها المُبدع، وهذه الرؤية تكون خاضعة للعديد من الاعتبارات منها الثقافية، والاجتماعية، والسيكولوجية، والحالة المزاجية المُسيطرة عليه؛ وبالتالي فالمُبدع، هنا، قادر على تحميل الحدث الذي قد يراه أمامه بالعديد من الدلالات التي قد لا يراها سواه، لكنه من خلال رؤيته الفنية- التي يتناول من خلالها الحدث- يستطيع جعل الحدث العادي حدثا فنيا له جمالياته المُختلفة الداعية للكثير من التأمل من قبل المُتلقي.

هذه الرؤية الفنية المُختلفة تُعد هي لُب العملية الإبداعية القادرة على الخلق من جديد من خلال تأملات المُبدع؛ لذا من الطبيعي أن يكون هناك أكثر من شخص يشاهدون حدثا واحدا عاديا لا يحتمل أي دلالات غير طبيعية، لكن إذا ما كان من بين هؤلاء الناس مُبدعا واحدا؛ فسيرى الحدث بشكل مُختلف تماما عنهم، وسيصل من خلال تأمله الخاص إلى شكل آخر جمالي ودلالي قادر على إكساب المشهد الكثير من الدهشة التي تُعد الهدف، أو النتيجة الأولى والحقيقية للعملية الإبداعية؛ فالعمل الإبداعي الذي لا يستطيع إثارة الدهشة هو في جوهره عمل إبداعي ناقص لم يصل للنتيجة الطبيعية للعملية الإبداعية.

إن المقدرة على إثارة الدهشة، أو تحميل العادي بالكثير من الدلالات الجديدة التي لم يكن يحتملها من خلال النظرة العادية هو ما نُلاحظه أثناء قراءتنا للمجموعة القصصية "ثرثرة أمام جبل قاسيون" للقاصة الأردنية إنعام القرشي، وهو الأمر الذي يجعلنا نُعيد التأمل والنظر عدة مرات في العديد من الأحداث العادية التي تحدث أمامنا كل يوم لمحاولة استخراج الفني، أو المُدهش فيها مثلما كانت تفعل القاصة من خلال تأملاتها التي تسلمها إلى إعادة تشكيل الحدث والأشياء، وكأنها تُعيد ترتيب العالم وفقا لرؤيتها الفنية الخاصة بها.

هذه المقدرة على الخلق الجديد نراها في قصتها "بوست" من خلال حدث عادي نراه يوميا، وقد لا يلفت نظرنا، أو نتورط في المُشاركة فيه رغم سخافته، إلا أنها من خلال تأملها ورؤيتها الفنية أحالت العادي والسخيف إلى غير عادي وفني لتجعلنا ننظر إليه نظرة أخرى جديدة ومُختلفة تماما، تبدأ القاصة قصتها بكتابتها: "تسكب قهوتها برغوتها السميكة في فنجان الشاي، لم يعد الفنجان الصغير يساعد في سحب النعاس من أجفانها، تضعه فوق المدفأة كي لا يبرد، يترنح المزاج بين الصحو والإغفاء، ويتمدد الوقت. هطول المطر ليس كافيا للتخلص من المزاج السيء"، ربما سنُلاحظ من خلال الاقتباس السابق الذي كان بمثابة المدخل للقصة مُعاناة القاصة من حالة فراغ تؤدي بها إلى مزاج سيء كما صرحت في نهاية الاقتباس، كما لا يفوتنا كتابتها: "يترنح المزاج بين الصحو والإغفاء، ويتمدد الوقت" كدليل على الحالة المتراوحة بين المزاج الجيد والسيء، ولعل تمدد الوقت دليل على الشعور بالكثير من الملل.

إذن، فنحن أمام قاصة تعاني حالة من حالات الفراغ والمزاج غير المُعتدل، وهو ما يجعلها تحاول إزجاء وقتها الطويل، وتعديله من خلال تناول فنجانا ضخما من القهوة، لكننا إذا ما تتبعنا القاصة في عالمها سنقرأ: "ترشف القهوة. الله، لذيذة جدا! تمشي في اتجاه المذياع وترفع صوت أغنية فيروز، تنفث كل ما في صدرها من دخان، وينتابها شعور قاتل بالملل. كل شيء كما تركته أمس وأول أمس!"، إذن فهي توغل في وصف حالة الملل التي تعاني منها محاولة تغييرها بالاستماع إلى الأغاني، لكنها تظل مُلازمة لها.

ألا نُلاحظ أن الحدث ما زال عاديا لا فارق بينه وبين الثرثرة التي لا هدف منها؟ إن محاولة الحفاظ على عادية الحدث السردي واقترابه من الثرثرة المُملة كانت مُتعمدة تماما من الكاتبة؛ للحفاظ على المُفاجأة الفنية في نهاية قصتها، أو صناعة المُفارقة الفنية في نهاية الحدث، لذلك نقرأ: "تُعيد الفنجان إلى مكانه فوق المدفأة، يميل قليلا وتنسكب القهوة فوق الشبك المُلتهب. تش تش تش. الشُعلة لا تنطفئ! تعدله، ينحرف مرة أخرى. لا يحدث هذا دائما! قالت ذلك وهي تحاول أن توازن نفسها بأقل الخسائر بعدما تلوث الفنجان، كي لا يزداد مزاجها سوءا، لا شيء تغير!"، إنها هنا توغل في الحالة المزاجية السيئة، والشعور الشديد بالملل الذي يلازمها، وهي تتعمد هذا الإيغال في الحالة لتقوية المُفارقة في ختام قصتها؛ لذلك نقرأ في نهاية القصة: "تفتح حاسوبها على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي، وتكتب "بوستا": فنجان قهوة، وصوت فيروز، ومدفأة في أجمل مزاج صباحي، أعطى للحياة لونا بخفة حروف دواوين شعر لا تكاد تستقر حتى تطير، صباحكم قهوة وشعر جميل أصدقائي". تُحمّل من "جوجل" صورة أنيقة لفنجان قهوة أمام مدفأة مُلتهبة وترفقها بالبوست لتنهال عليها التعليقات وأبيات الشعر الغزلية من المُعجبين بثقافتها الموسوعية التي لا مثيل لها، ومزاجها المُعتدل دائما الذي يمنحهم المزيد من السعادة"!

إذا ما تأملنا الاقتباس الذي أغلقت به القرشي قصتها سيتبين لنا المقصود من إعادة تشكيل وخلق العالم الذي سبق أن ذهبنا إليه؛ فالحدث العادي الذي ركنت إليه في قصتها هو امرأة شاعرة بالكثير من الفراغ والملل تحاول تعديل مزاجها بأي شكل بسيط سواء بالقهوة، أو الاستماع إلى الأغنيات، ولم يلبث الملل أن دفعها إلى كتابة "بوست" زائف عن مزاجها الجيد- ربما من أجل تعديل مزاجها- وإن كان الأمر يُدلل في جوهره على ثقافة الادعاء التي اكتسبناها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لكن المُفارقة الفنية هنا تأتي من جملتها الأخيرة، وهي المُفارقة التي ستحيل السرد العادي الشبيه بالثرثرة إلى سرد فني يحمل دلالته الفنية الجديدة التي لم نكن نُلحظها فيما قبل حينما قرأنا تعليقات الآخرين على اللاشيء/ الهراء الذي كتبته؛ فرغم أن المرأة لم تكتب أي شيء له قيمة، كما أن المكتوب لا يحمل في طياته أي معنى للفن، أو أي دليل على ثقافتها الموسوعية، إلا أن هناك العديدين من المُدعين والزائفين- ربما لكونها مُجرد أنثى- كتبوا لها أبيات الشعر الغزلية، وأبدوا إعجابهم بثقافتها الموسوعية التي لا مثيل لها- ولسنا ندري أين هذه الثقافة الموسوعية فيما كتبته- بل ويزداد الأمر إدهاشا ومُفارقة حينما يتحدثون عن مزاجها المُعتدل دائما الذي يمنحهم المزيد من السعادة! فهي ليست في أي مزاج مُعتدل، كما أنها في واقع الأمر لا تمنحهم أي شيء من السعادة، بل ربما لا يلتفت إليها أحد إلا لكونها أنثى يرغبون فيها فقط! أي أن المُفارقة التي ختمت بها القاصة قصتها تحمل في داخلها السخرية العاتية من الوضع الاجتماعي والثقافي العام الذي نراه كل يوم من حولنا، لكننا لا نتوقف أمامه كثيرا من أجل تأمله، أو محاولة إكسابه شكل فني مُختلف عما يبدو عليه، وهذا هو دور الفن الذي نتحدث عنه.

في قصة "صفعة" يتجلى لنا دور الفن في الخلق وإعادة ترتيب العالم بشكل أكثر فنية ومُفارقة من خلال فتاة ينقطع إبزيم حذائها أثناء لهوها؛ الأمر الذي يجعلها تخفي الأمر عن أبويها، وتضطر يوميا إلى الذهاب إلى مدرستها بحذائها المقطوع والذي تعاني كثيرا في المشي به، لكنها تُلاحظ أحدهم دائما ما يراقبها، يوميا، في رواحها وغدوها بحذائها المقطوع بينما تشي نظراته بالكثير من السخرية منها؛ مما جعلها تشعر بالكثير من الحرج وعدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة حتى لا تواجه نظرات الرجل الغريب الساخرة، فنقرأ: "من الصعب أن تكون المسافة قصيرة بين المدرسة والبيت وأنت ترتدي حذاء مخلوع الإبزيم، فالتا في الهواء! أشار لها بعض المارة سريعا بأنها نسيت أن تُحكم الإبزيم- لكنها وحدها- من كان يعلم أن الإبزيم مخلوع من مكانه، ولا مجال لإحكام أي شيء. هل كان يجب أن ينتقل والدها في كل مرة إلى مكان جديد كي تطول المسافة أكثر فأكثر؟ سؤال ظل يدور في ذهن الصبية الشقراء صاحبة الحذاء المنكوب"، إذن فالقاصة مُنذ جملتها الأولى حريصة على الدخول إلى قلب الحدث القصصي واقتحامه، إننا أمام أزمة طفلة تشعر بالكثير من الحرج، ولا يدور في ذهنها إلا العديد من التساؤلات بسبب ما يسببه لها الإبزيم المقطوع من حرج أمام الآخرين، وهو ما تعمل على تعميقه بقولها: "لو أنه يتوقف عن النظر إلى الحذاء، نظراته تُربكني، تُعثر خطواتي، ولا أستطيع السير بشكل صحيح، تنزلق قدمي فيه من التعرق، وفي بعض الأحيان تخرج منه كليا، ويتأخر خلفي بخطوتين؛ ما يستدعي أن أعود إليه وأحشر قدمي في داخله مرة أخرى! وهذا يسبب لي الإحراج كثيرا. كانت تعنيه بهذه الكلمات، ذلك الشخص الذي تراه كل يوم في طريقها صباحا إلى المدرسة، تشعر بحدة نظراته التي يوجهها إلى حذائها، وهي تحاول جرّه بقدمها كي لا تتأخر، وتحمله- أحيانا- وتنطلق راكضة لتصل في موعد الجرس، تنتعله أمام باب المدرسة دون أن يراها أحد. تستغرب إصراره على مُلاحقتها بنظرات الاشمئزاز والترفع، وكيف يدفع بها للشعور بالوحدة وعدم الانتماء إلى المكان. تظن لحظة أنها سوف تسحق نفسها كحشرة لا يحق لها الحياة، بينما يمعن التدقيق في حذائها كأنه يجلد تفاصيله".

إن إمعان القاصة في تصوير وشرح مشاعر الطفلة واستغراقها فيها كان من الأهمية الفنية بمكان ما سيُدلل لنا ويوضح سبب الفعل الذي ستقدم عليه فيما بعد، ولعلنا نُلاحظ الحالة النفسية والشعورية التي وصلت إليها الفتاة بسبب هذه النظرات المُشمئزة منها لمُجرد أنها تنتعل حذاءً مُنقطع الإبزيم؛ حتى أن ارتباكها يجعله ينخلع من قدميها بسبب ما يسببه لها من شعور بأنها مُراقبة من قبل شخص ما يحتقرها، أو يسخر منها. هذا الشعور بالضآلة والحرج الذي تضخم داخلها جعلها: "خطر في بالها أن تتمارض وتغيب عن المدرسة، لكنها استبعدت الفكرة، نهضت وفتحت الخزانة، وأخذت تبحث بين أشيائها لعلها تجد حلا. وجدت دبوسا قد يفي بإصلاح المهدور مُؤقتا ريثما تجد حلا آخر. وضعته أسفل مخدتها، لكنها لم تستطع النوم. ظلت تُحدق في سقف الغرفة الذي تراءى لها مليئا بالأحذية حتى غفت. كان الحلم أجمل بكثير، أعادها إلى غياهب الماضي، فمرة تكون سندريلا، ومرة أخرى تكون الأميرة النائمة، لكنها لم تستطع امتلاك أدنى إحساس في قلبها بالفرح أو الحزن، أو القدرة على التفكير في أي شيء آخر سوى إبزيم الحذاء الذي حجب عنها كل أمير حولها. نسيت خطوات الرقص من شدة تحديقها في حذائها المتوهج الخرافي"، أي أنه قد أوصلها إلى عدم الرغبة في الذهاب إلى مدرستها حتى لا يراها، كما جعلها ترى الكثير من الأحلام التي تخص الأحذية في الثقافة الجمعية، لا سيما سندريلا.

لكن، هذا الحدث الذي قد يبدو عاديا ويوميا، ونراه كل يوم، تحرص الكاتبة على إكسابه معنى آخر وجديد تماما، وهو ما نراه في إغلاقها القصة بشكل لم نكن ننتظره أو نتوقعه من فتاة في مثل هذا العمر؛ فنقرأ: "في الصباح نهضت مُبتسمة، تشعر بهمة عالية، تزينت أمام مرآتها بثقة. رفعت رأسها بشموخ في أثناء سيرها، بينما كان الحذاء- بين الفينة والأخرى- ينزلق من قدمها كالعادة. لم يعد يعنيها انزلاقه بقدر ما كانت تفكر في صاحب النظرات الوقحة الذي سبب لها الكثير من الألم في الأيام الماضية. تدور بنظراتها كأنها تبحث عنه. ظهر أمامها- فجأة- ترتسم على وجهه نظرته الساخرة- نفسها- التي تشملها من رأسها حتى إخمص قدميها. ترتكز نظراته على حذائها ذي الإبزيم المخلوع. اقتربت منه وقد ارتسمت على وجهه بسمة شائهة لا تفسير لها، ما أن وقفت أمامه حتى بدأت ابتسامته في الانزواء مُتحيرا. انحنت إلى الأسفل كأنها تحاول تعديل وضع الحذاء في قدمها. تابعها بنظراته، لكن اللحظات القليلة التي تلت انحناءتها لم يكن لها تفسير حينما التقطت الحذاء في يدها وصفعته به على وجهه لتعيده مرة أخرى مُستمرة في طريقها مرفوعة الرأس وقد اتسعت ابتسامتها"!

إن حرص إنعام القرشي على إغلاق القصة بمثل هذا الشكل المُفاجئ هو ما نُطلق عليه المُفارقة التي تُكسب العمل الفني دهشته، وتخرجه من إطار العادي إلى الإطار الإبداعي والفني، أي أنها تمتلك من المقدرة الفنية ما يجعلها تستمتع بالخيال الذي يغير من طبائع الأمور إلى ما هو مُدهش مُمتلكا للكثير من الرؤية الفنية، فكان إغلاقها للقصة، هنا، صفعة لنا جميعا بقدر ما كانت صفعة لمن يسخر منها!

في قصة "صوت الشجن" نُلاحظ اهتمام القاصة بتشكيل العالم تبعا لرغباتها الداخلية المكبوتة، أي الرغبات التي تشعر بها ولا تستطيع البوح بها لمن حولها؛ الأمر الذي يجعلها تتخيلها لتحيل المكان من حولها إلى مكان آخر لا وجود له في الواقع بقدر ما هو بداخلها هي فقط! تكتب إنعام مُفتتحة قصتها: "أسندت ظهري إلى الحائط، وبدأت أقضم رغيف خبز أسود محشوا بالجبنة الفرنسية المُدخنة؛ فشعرت حينها بطعم الدخان. كنت أقضم الرغيف بينما كان صوت موسيقى حزينة ينساب إليّ من نافذة أحد البيوت. لم تكن لدي الرغبة في التفاعل معها حتى لا أشعر بالشجن. لطعم الجبنة المُدخنة في فمي مذاق الحياة. أنشغل بسد جوعي، ألوك اللقمة طويلا لأستمتع بمذاقها أطول فترة مُمكنة. يعلو صوت المُوسيقى، أحاول مقاومته حتى لا أنشغل عن المذاق الذي أحبه". ألا نُلاحظ هنا أن القاصة حريصة دائما على أن تبدأ أحداث قصصها بشكل لا يمكن له أن يخرج من إطار الثرثرة التي لا معنى لها؟ بالتأكيد هي حريصة على ذلك بشكل مُتعمد؛ لأنها تُحيل العادي فيما بعد إلى شكل فني مُختلف عما بدأته، وهو ما سنُلاحظه مع استمرارها في السرد: "أتوجه ببصري حيث النافذة التي تنساب منها الألحان. كان زجاجها مُغلقا، لكني ألمح أشياء تتحرك خلفه. أدقق النظر بينما أنا مُنهمكة في لوك لقيماتي واستحلابها في فمي حتى آخر قطرة. ألمح جسدين عاريين يتداخلان بانسيابية كأنهما يشاركان المُوسيقى عزفها. أرهف السمع وقد توقفت عن المضغ. تتركز حواسي بالكامل في عينيّ وأذنيّ. أراهما يمتزجان، يتحدان كأنهما باتا جسدا واحدا بينما يختلط أنينهما بصوت المُوسيقى الشجي الأقرب إلى الحزن. يبدو لي أن عذوبة صوتهما أجمل بكثير من اللحن الذي يستمعان إليه. أشعر بشيء يسري في جسدي وأنا أشاركهما هذه اللحظة المُوسيقية، بينما تتابعهما عيناي وقد توسعتا، أقضم وقد فقدت جبنتي المُفضلة مذاقها. أمضغها دون إحساس لتسقط في جوفي. تحوّل مضغي الطعام إلى عملية آلية لا تعنيني".

بغض النظر عن الخطأ في مُفردة "توسعتا" بدلا من "اتسعتا"، في الاقتباس السابق يتحول، هنا، السرد الأقرب إلى الثرثرة إلى سرد يكتسب المزيد من الحيوية حينما تستمع إلى صوت تأوهات عاشقين خلف زجاج إحدى النوافذ وتبدأ في مُراقبتهما شاعرة بشيء من النشوة لرؤيتها لهما. أي أننا سنظن أنها ستندمج في هذه العملية الجنسية التي لا بد لها من الاسترسال فيها ووصف حميميتها، لكننا نُفاجأ أن القاصة لا تنساق خلف اعتقادنا في وصف ما تراه، بل تقطع فجأة على صوت شقيقتها التي تسألها عما تنظر إليه؛ فتطلب منها هامسة مأخوذة النظر إلى النافذة التي تقابلهما، لكن رد شقيقتها هو ما يُكسب الحدث القصصي قيمته ومكانته الفنية حينما نقرأ: "تتجه بعينيها حيث أشرت، لكنها تعود ببصرها مُندهشة لتسأل: ماذا هناك؟! بصوت يبدو مُرتعدا: هذه النافذة هناك، تلك التي يصدر منها صوت المُوسيقى. تنطلق- فجأة- ضحكة مدوية من فم شقيقتي، تقول أثناء انصرافها: أي نافذة هذه! المساحة المُقابلة لبيتنا، بالكامل، مُجرد أرض فارغة، يبدو أنك قد جُننت. أندهش لقولها؛ فأعيد النظر حيث كنت أتلصص عليهما، لكني لا أرى سوى أرض فارغة مُتسعة المساحة!"

إن إغلاق القصة بمثل هذا الشكل بعد إيهامنا بأنها كانت تراقب عاشقين يمارسان الجنس هو ما يكسبها فنيتها في نهاية الأمر؛ فالشخصية داخل القصة إنما تتأمل العالم من حولها، وتعيد بنائه وتشكيله من خلال خيالها الذي يحركه رغباتها الخفية التي لا يعرف عنها أحد شيئا، وبالتالي فهذه الرغبات قد خرجت في شكل واقع بالنسبة لها لتتشكل أمامها مُستمتعة بها، لكنها سُرعان ما عادت إلى العالم الواقعي الذي أثبت لها أن الخيال ربما يكون أفضل من الواقع في بعض الأحيان، ويعمل على تجميله.

هذا الخيال الذي يسيطر على شخصيات إنعام القرشي القصصية، وهو الخيال الذي ينجح إلى حد كبير في إعادة تشكيل الحياة ووقائعها من خلال وعيها الفني بكيفية كتابة القصة القصيرة هو ما نراه مرة أخرى في قصتها "كابيتشينو" التي ترغب من خلالها في الانتقام من الزوج الذي كثيرا ما اعتدى عليها بالضرب، لكنها لا تمتلك الحيلة من أجل الرد عليه بالمثل؛ لذلك تفتتح القصة بالدخول إلى قلب الحدث مُباشرة: "خرجت وهي تصرخ: كفى، لقد ضيّعت الكثير من الوقت، آن لك أن تتوقف. تسحب منديلها لتمسح قطرات الدم النافرة من أنفها، تعتدل في جلستها على الكرسي الخشبي الطويل داخل حديقة يرتادها الكثير من الجاليات الأجنبية. يبدو الجو مُناسبا لكوب من الكابيتشينو. سأراقبه وهو يتعثر أمامي، سأركله بقدمي، لن أكون رحيمة معه. تتمتم، ثم تغادر الكرسي صوب المقهى: لو سمحت، كابيتشينو. تشعر بالهدوء بينما تشرب الكابيتشينو الدافئ. يجعلها رذاذ المطر البهيج تفتح فمها لقطراته، تهز رأسها طربا وهي تُدندن. يُفاجئها النعاس؛ فتميل على حافة المقعد، وتغطي عينيها بحافة القبعة وتغفو". إن الاقتباس السابق الذي افتتحت به القرشي قصتها يُدلل على أنها قد دخلت إلى قلب الحدث بشكل مُباشر من دون أي تمهيد، وهو ما يُكسب القصة الكثير من الإيجاز، ولعلها كانت حريصة على أن تبدي رغبتها في الانتقام منه بالرد على ضربه لها بنفس الفعل، وهو ما تخيلته قبل إغفاءتها. لكن حينما يشتد هطول المطر تفتح عينيها لتجد المكان قد امتلأ بالكثيرات من الأمهات والأطفال الذين يلتفون من حولها طالبات منها أن تتبعهن مُتجهات إلى منزلها، وحينما تدخل إلى المنزل تجده ما زال جالسا في ملابسه الداخلية المُهترئة، بل تقوم الأمهات بتقييده ليضربنه انتقاما لها، طالبات منها مُشاركتهن في ضربه: "يأمرنها بركل مُؤخرته بقوة. تفعل ذلك بينما تسري في جسدها بهجة تُشعرها بالانتشاء. كلما ركلته بقوة أكبر صرخ محاولا الإفلات من أيديهم، لكنهم يشدون وثاقه بقوة أكبر. تلكم أنفه حتى ينبجس الدم سائلا منه. يتوسل إليها أن ترحمه، لكنها لا تتوقف. ينظر إليها بضعف شديد ليخرج صوته واهنا مُتأدبا: هل اكتفيت؟"، أي أن الزوجة قد استطاعت الانتقام لنفسها من الزوج الذي يهينها ويضربها دائما بمُساعدة الأمهات اللاتي قابلتهن في المقهى.

لكن، المُفاجأة الفنية التي تحرص عليها القرشي تتبدى لنا إذا ما أكملنا ما كتبته بعد سؤاله لها هذا السؤال السابق، فنقرأ: "تفتح عينيها، فجأة، مُلتفتة حولها لترى كوب الكابيتشينو فارغا تماما، بينما يقف النادل أمامها ليسألها بأدب عن إمكانية رفعه"! إن مصدر المُفاجأة هنا أن القاصة كانت قد حرصت فيما قبل على التأكيد بأنها قد استيقظت حينما ازداد هطول المطر، أي أنها اهتمت بالإيهام؛ كي يقع في نفس القارئ بأن الحدث حقيقي، لكنها عادت مرة أخرى لتؤكد لنا أن ما لجأت إليه كان مُجرد إيهام، وأن كل ما قرأناه من أحداث في القصة مُجرد خيال الشخصية داخل القصة، أو رغبتها العارمة في الانتقام، وبالتالي فالحدث كان مُجرد حلم رأته وكانت راغبة في تحقيقه، كما أن سؤال الزوج لها: هل انتهيت، كان في حقيقته صوت النادل الذي سألها هذا السؤال، لكن الواقع اختلط بالحلم، وهو ما يؤكد أن القاصة تمتلك أدواتها الإبداعية التي تساعدها إلى حد بعيد على الوصول إلى ما ترغبه بشكل فني، لا سيما إيهام القارئ ثم صفعه مرة أخرى كي يفيق من هذا الإيهام الذي أدخلته فيه.

إن امتلاك القرشي لأدواتها الفنية، وفهمها لكيفية كتابة القصة القصيرة يتجلى لنا في العديد من قصص المجموعة؛ حيث تنجح غير مرة في صناعة المُفارقة القصصية التي تفجر في نفس القارئ الدهشة، وهو الشعور الأهم في العملية الإبداعية. هذا ما نُلاحظه في قصتها "بدلة حال لونها" التي نُلاحظ فيها أنها رغم بساطتها تمتلك من المقدرة على صناعة القصة وخلق العالم بشكل مُتقن؛ فنقرأ: "جلسا، أخيرا، في المقهى على طاولة لشخصين، نظر إلى وجهها، ابتسم، فابتسمت. نظرت إلى ملامحه كأنها تتعرف عليه من جديد. تقول في نفسها: ما يزال يلبس البدلة نفسها التي كلح لونها، كم هو بخيل! حتى هذه العادة لم تتغير فيه، يحمل كيسا كاكي اللون، ولا يسألني ماذا أشرب، ويختار لي القهوة التي لا أحب شُربها وقت العصر! لا أظن أن يكون بيننا أي نوع من الانسجام بعد اليوم، سأعترف له بأنني سأسافر وأحل أمري من الموضوع"، إذن، فنحن أمام عاشقين قد التقيا بعد فترة انقطاع، أو خلاف، بينما نُلاحظ أن المرأة تُعيد النظر في علاقتها معها، وطباعه التي تكرهها فيه، لكننا إذا ما استمررنا مع القاصة فيما تكتبه بعد هذا المقطع سيختلف الأمر كثيرا: "كيف حالكِ وما أخباركِ؟ لم كل هذا التُقل؟ لا، أبدا، ظروف. يحدق فيها وهي تتكلم، يُحدث نفسه: أصبحت أجمل، وزاد عدد الأساور في معصمها، ذهب حقيقي، نعم، هذه السلسلة التي تمسك بها وتحرك إطارا ذهبيا لمُصحف جميل وثقيل مُعلق بها، حتى الحقيبة، لم تعد تلك التي كانت معها من قبل، هذا يعني أن وضعها المادي تغير إلى الأفضل"، أي أنها إذا ما كانت تحاول تأمله من خلال خصاله التي تكرهها فيه، وكانت تأمل أن يكون قد تغير إلى الأفضل لتستطيع أن تكمل معه، فإنه ينظر إليها نظرة مُختلفة تماما طامعا في مالها الذي تمتلكه بينما لا يحمل تجاهها أي قدر من المشاعر الحقيقية؛ لذلك حينما تسأله أثناء شروده في تأملها: "لم لا ترد؟ سألته بتعجب. آسف لقد سرحت قليلا. بماذا؟ هل تتزوجينني؟"!

هنا تكون المُفارقة القصصية لقصة قد تبدو عادية جدا، ولعل الدليل على امتلاك القرشي المقدرة القصصية وفهمها بشكل جيد قد اتضح لنا من خلال الإيجاز الذي لم تكتبه وإن كان قد وصلنا، فنحن لم نقرأ السؤال أو الكلام الذي قالته له حتى يرد عليه، بل قرأنا سؤالها المُباشر له، لكننا سنفهم أنها قد تكون قد أخبرته بأنها ستسافر ولن تستطيع إكمال العلاقة معه، وبما أنه كان شاردا فهو لم يسمع ما تقوله، بل كان غارقا في طمعه في أموالها، لذلك كان رده عليها هو طلب الزواج منها كي يمتلكها، ويمتلك أموالها، رغم أنها قد تكون قد أخبرته برغبتها في عدم الانخراط معه، لكن بما أنه لا يستمع سوى إلى نفسه؛ فلقد طلب منها الزواج الذي اختتمت به القاصة قصتها بشكل قد يبدو مبتورا، وإن كانت هي حريصة على هذا الشكل الباتر الذي يكسب القصة المزيد من الفنية، والتأكيد على فهمها لآليات كتابة القصة.

في قصة "المشهد الأخير" قد تبدو لنا القصة كمُزحة كتبتها القاصة، لكنها رغم ذلك تمتلك من المُتعة السردية ما يجعلها تُصرّ على كتابتها محاولة من خلالها التعمق داخل سيكولوجية المرأة التي هي أقرب إلى سيكولوجية الأطفال من خلال امرأة رأت أحد المشاهد الفيلمية ورغبت في تجربته والاستمتاع به على أرض الواقع؛ فتبدأ قصتها بمشهدها الأثير: "عندما تحسست المُمثلة "أودري هيبورن" بإصبع قدمها حرارة الماء في حوض الاستحمام، كانت سلوى تسير حاملة قهوة أمها إلى "البلكونة". استوقفها المشهد، وتابعت الفيلم حتى انتقلت الكاميرا إلى ستارة الحمام المُنسدلة، والمُعبأة ببخار الماء في حين يعلو صوتها بأغنية رقيقة، نثرت حولها فقاعات الشامبو التي غطت عدسة الكاميرا، وظهرت كلمة The End"، أي أننا أمام مشهد سينمائي عادي في أحد الأفلام، لكنه استوقف سلوى التي شغلها المشهد وظل في خيالها لا يبارحه راغبة في تجربته بنفسها على أرض الواقع: "جلست سلوى تُعيد أدق تفاصيل المشهد في ذهنها، ورأت أن خوض تجربة كهذه تكريما لذاتها في استقبال العام الجديد، لن يكلفها الأمر سوى إحضار صابونة مُعطرة بدلا من شامبو الفقاعات ليكتمل المشهد، فتكون بديلة أودري هيبورن في فيلم حديث"؛ لذلك تجلس سلوى مع أمها محاولة إقناعها بالصلح مع خالتها التي قاطعتها الأم مُنذ فترة طويلة، ودفعها من أجل زيارتها، وحينما تقتنع الأم ذاهبة إلى شقيقتها، تنفرد سلوى بنفسها لتُعد طقوس ما ترغب في فعله: "امتلأ نصف الحوض، غطى البخار كل شيء حولها، أسندت كفها إلى الحائط وهمّت بوضع إصبع قدمها لتتحسس سخونة الماء، تماما كما فعلت المُمثلة. سُحلت كفها فجأة فانقلبت داخل حوض الاستحمام. صرخت وغضبت، غير أنها تريثت، ولم تشأ أن تفسد أجواءها بسبب تعثر لم يسفر عنه إلا بلل المنشفة. قالت في سرها: ربما حدث هذا مع المُمثلة أودري عدة مرات. ارتاحت لهذا التحليل وهي تنظر إلى الصابونة المُعطرة داخل علبتها الملونة على حافة حوض المغسلة، مممم! كيف سيكتمل المشهد وينتهي بالغناء إذا لم تستخدم الصابونة؟ هكذا بدا من ابتسامة خفيفة لا تُفارق شفتيها، لا سيما أنها مُنسجمة مع دندنة الأغنية نفسها بصوت خفيض. خطوتان فقط، وتملأ رغوة الصابونة وجه الماء! هكذا أقنعت نفسها. تمسكت بحافة الحوض، وتعلقت بالستارة، وانكبت على المغسلة خوف أن تنزلق مرة أخرى، وأمسكت الصابونة. ثبتت قدمها، وعادت- بحركة سريعة- إلى حوض الحمام، اهتزت الستارة فخُلع عمودها الصدئ ووقع فوق ظهرها، صرخت وغرقت مع صراخها في الماء من شدة الألم. أصابها الإحباط، تنفست عميقا، لكنها حاولت أن تُعيد لذهنها قليلا من البهجة. استرخت وهي تُدير الصابونة بين يديها وتملأ وجه الماء برغوتها وتُعيد سماع الأغنية برأسها، تغير مزاجها رغم الألم، وطمعا في الاسترخاء أكثر؛ أسندت رأسها إلى الخلف، حاولت وضع المنشفة أسفل عنقها، لكن شدة الألم زادت. كيف لم أنتبه إلى هذا الجزء؟! تمتمت. نظرت حولها لعلها تجد الحل. لمحت الليفة الخشنة مُعلقة قرب "الدوش"، مدت يدها وأمسكت بحبلها المُتدلي وسحبته باتجاهها، لكنه علق، شدته بقوة أكبر فسقط "الدوش" بغفلة منها وارتطم بوجهها مُباشرة، وأصاب أنفها الذي نفر منه الدم. صرخت بذعر بعد أن رأت الفقاعات وقد تلوّنت بالدم، نهضت تتحسس الطريق إلى المغسلة، ورشقت وجهها بالماء البارد وهي تضغط أنفها لإيقاف النزيف. نظرت في المرآة وهالها أنفها المُنتفخ، ووجهها المُلطخ بالدم المُتجلط. مسحت البخار بكفها. وكتبت فوق المرآة بأصابع مُرتجفة بينما كانت تُدندن أغنية ثورية تحفظها جيدا: أنا ضحية مشهد لن يكتمل"!

ألا تبدو لنا القصة بالكامل كمُجرد مزحة؟ إنها بالفعل تبدو كذلك إلا أن الكاتبة كانت حريصة على كتابتها بأسلوبيتها القصصية الجيدة؛ لتتعمق في سيكولوجية المرأة الطفولية التي تحمل الكثير من المشاعر المُرهفة، والراغبة دائما في إشعار نفسها بالسعادة من خلال أي تجرية حتى لو بدت بسيطة وطفولية، أو ساذجة؛ فالمهم هو أن تكتسب قدرا من السعادة التي تجعل مزاجيتها جيدة، وبما أن الإبداع في جوهره يهدف إلى المُتعة، فنحن لا نستطيع إنكار أن الهدف من هذه القصة في نهاية الأمر إكساب القارئ شيئا من المُتعة التي تُعد جوهر العملية الفنية برمتها.

في قصة "صورة" تتأمل القاصة زيف المُجتمع من حولها الذي يدفع الجميع للتعامل مع بعضهم البعض بشيء غير قليل من الكذب، لا سيما تعامل الرجل مع المرأة الذي قد يبدي لها الاحترام الفائق، بل ويصفها بصفات غير واقعية بعيدة عنها كل البُعد ولا يمكن لها أن تتحلى بها في مُقابل رغبته الجنسية فيها فقط، أو لمُجرد أنها أنثى يطمع في النيل منها. تتناول الكاتبة فكرتها من خلال مُمثلة ليست مشهورة فتكتب: "تقف مُرتبكة وشعور الخجل يقفز خارج الإطار، لِمَ يقف هؤلاء الذكور الخمسة حولي؟! هل يظنون أنني مُمثلة جيدة وجميلة؟ كيف أصدق أن أيا منهم قد رآني في إحدى حلقات مُسلسل مثلت فيه، أو دفع ثمن تذكرة لحضور مسرحية لي؟ يقفون كأعمدة كهرباء خشبية قديمة، لأنني أقصرهم، أشعر بالكثير من الحرج! يلتصقون بي ببلاهة لأخذ صورة برفقتي، هل يعرفونني حقا؟ لِمَ لم يسألني أي منهم عن خطتي للمُستقبل؟! أرتدي قميصي قصير الكمين، وأضطر إلى أن أضم يديّ لأحمل الحقيبة، فأنا محشورة في وسطهم، وهم لا يتقنون فن المسافات، عليهم أن يفهموا أن لي خصوصيتي حتى إن كنت مُمثلة شهيرة! أبتسم وأميل برأسي قليلا باتجاه كتفي اليمنى لتكتمل الصورة. هل أنا مُمثلة ذات قيمة؟ بت أشك في ذلك! أنظر إلى ذراعي البضتين ناصعتي البياض، والسلسلة الذهبية المدلاة فوق صدري، الآن أجزم سبب ما أحدث جلبة في المكان، لقد فُضحت النية. أنظر إلى الصورة وأحقد على الكاميرا الذكية التي لمحت فتنة ذراعيّ العاريين، بينما يبدو عند التقائهما بكتفيّ منبتيّ صدري وفتنتهما!".

ربما حرصنا على سوق القصة بالكامل هنا لأنها رغم إيجازها إلا أنها توضح التناقض الحقيقي والزيف الذي يتمتع به الجزء الأكبر من المُجتمع لا سيما حينما يتعامل مع امرأة ما؛ فيضفي عليها الكثير من التعبيرات والتوصيفات التي قد تكون لا تتمتع بأي منها، ولكن بما أنها مُجرد أنثى يطمع الآخرون في النيل منها؛ فهم يضفون عليها كل ما يمكن أن يكون جميلا، ولعل هذ الزيف الذي تعيه الشخصية جيدا داخل القصة يتجلى لنا في سؤالها: "هل أنا مُمثلة ذات قيمة؟!"، إنها تُدرك جيدا أنها ليست بهذه القيمة الفنية التي تجعل الآخرين يتهافتون عليها بمثل هذا الشكل، لذلك ستظل على تساؤلاتها إلى أن ترى الصورة التي تُظهر جزءا من نهديها؛ فتُدرك جيدا أن هذا التهافت سببه جسدها الجميل، وكونها مُجرد أنثى يطمعون فيها، أي أن القرشي رغبت في فضح زيف المُجتمع من حولها في التعامل مع المرأة، لا سيما المرأة التي تعمل في أي مجال إبداعي، من خلال هذه القصة المُعبرة بشكل فني جيد، وهو الزيف الذي يرفع الكثيرات من النساء إلى مصافٍ عالية رغم جهلهن، وتفاهتهن، لمُجرد أن الرجال لا يستطيعون السيطرة على رغباتهم الجنسية فيها؛ فيبدأون في نفاقها وتزييف كل ما حولهم.

لكن، رغم وعي القرشي بما تكتبه من أعمال قصصية، ورغم أنها تمتلك أسلوبيتها وآلياتها في كتابة القصة القادرة على خلق عالم إبداعي، إلا أنها وقعت في الفراغ الكامل، وقدمت قصة لا معنى لها، ولا يمكن لها أن تؤدي بنا إلى أي شيء في قصتها "أزهار ذابلة"؛ مما يجعلنا نتساءل: إلام ترغب الكاتبة في الوصول من خلال هذا الكلام المصفوف إلى جوار بعضه البعض، والذي لا يؤدي إلى أي معنى من المُمكن لنا أن نقبض عليه بعد انتهاء قراءتها؟!

بما أن القصة كجُمل من المُمكن لنا فهمها مُنفردة، ولكن إذا ما أُضيفت إلى الجُملة المجاورة إليها تفقد معناها؛ فسنحرص على سوق القصة بالكامل: "لأنه مُتعب، بدا هذا جليا على قسمات وجهه؛ ينام على حافة السرير مُنكمشا، ويضع كفيه بين ركبتيه، بينما يسقط الغطاء الأبيض على الأرض مثلما يفعل كل يوم. غرفة المكتب محشوة بالكتب القديمة. صوت مُمرضته بالكاد يُسمع: سيدي هل أنت في حاجة إلى شيء؟ الشاعر: لا حرية لروحه المُعذبة بين الجدران، ولا وجود لجسده المُنهك خارج الكلمات. يحدق مليا في سقف غرفته في المُستشفى؛ فيخال أن هنالك أشكالا غامضة تُحاكي قصص أحلامه المُستعصية، وجوه أبطال كادحين، وقساة لصوص، وناكري جميل هاربين من قسوة الزمن إلى البعيد. ما الذي أريده؟ يسأل، ولأن السؤال يغادر مع سُحب الدخان المُتطاير من بين أصابعه النحيلة؛ فلا إجابة. يبحث عن حذائه القطني أسفل السرير، يمشي إلى النافذة، يرى الشجرة الضخمة في مكانها تحجب الأفق."!

هذه هي القصة بالكامل كما كتبتها القرشي، وهي القصة التي تجعلنا نتساءل: لماذا نكتب، وماذا نكتب؟ إن المجموعة، بشكل عام، تؤكد أن الكاتبة تمتلك من المقدرة الفنية ما يجعلها تكتب القصة بشكل جيد، كما أنها تتقن صناعة العالم القصصي وتعيد تشكيله، لكن لِمَ قد ينساق الكاتب، أحيانا، رغم مقدرته الفنية إلى الثرثرة التي لا داعي لها، والتي تؤدي إلى الفراغ الكامل؟ إن القصة لا معنى لها، ولم تؤد بنا في نهاية الأمر إلى أي شيء، وبالتالي لم نفهم ما تقصده الكاتبة، أي أنها كتبت بلغة عربية غير مفهومة لا يمكن أن تؤدي بنا مُفرداتها إلى أي شيء نتيجة انسياقها خلف شهوة الكتابة لمُجرد الكتابة من دون فكرة أو معنى من المُمكن لها أن تقبض عليه كي تقدمه لنا.

تأتي المجموعة القصصية "ثرثرة أمام جبل قاسيون" للقاصة الأردنية إنعام القرشي باعتبارها من الأعمال القصصية المُهمة القادرة على التأكيد بأن القصة القصيرة من الأشكال الفنية القادرة على خلق العالم وإعادة بنائه وتشكيله من خلال الرؤية الفنية للقاص، أي أن الحدث العادي والطبيعي الذي نراه يوميا في حياتنا، والذي قد لا نلحظ فيه أي شيء من المُمكن أن يلفت انتباهنا قد يكون حدثا جللا ومُهما بالنسبة للقاص الذي يمتلك أدواته الفنية، ورؤيته الفنية الجيدة من أجل إعادة تشكيل هذا الحدث بشكل جديد يمنحه هذه الأهمية، وهو الأمر الذي يؤكد أن الإبداع قادر دائما على التعبير عن العادي بشكل يفقده عاديته ويكسبه الكثير من الفنية والجمالية، كما لا يمكن إنكار وعي الكاتبة بفن القصة القصيرة ودوره المُهم في صناعة العالم من حولنا، ومقدرتها على كتابة القصة بفنية عالية.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد سبتمبر 2021م.

الخميس، 16 سبتمبر 2021

في المدينة ما يكفي لتموت سعيدا.. كيف تصنع السلطة الإرهاب في الجزائر

ثمة العديد من الروايات التي حاولت الانتباه إلى عالم السلطة وألاعيبها، ومخططاتها الفاسدة التي تلجأ إليها من أجل غسيل عقول الجماهير وجعلهم يعيشون في وهم كبير يظنون من خلاله أن هذه هي الحياة الحقيقية، بينما الحقيقة التي لا يعرفها المواطنون المحكومون أنهم يعيشون في أسطورة غير واقعية ابتدعها الساسة والحكام فقط من أجل مصالحهم الشخصية، وحفظ توازناتهم بالشكل الذي يرغبونه هم، وهو الشكل الذي يمنحهم المزيد من المكاسب الفاسدة- سواء على مستوى السلطة أو المال- بينما يتحول الشعب بأكمله إلى مجرد قطيع تابع مُغيب، مُصدقا لكل ما يدور حوله من أكاذيب وادعاءات صنعها النظام الحاكم الفاسد وأتباعه.

ربما كانت الرواية الأهم التي انتبهت إلى لعبة السلطة في صناعة الفساد والإرهاب هي رواية "الأفيال" للروائي المصري فتحي غانم، وهي الرواية التي أكد فيها الروائي على أن صناعة الإرهاب الحقيقية وتغذيته، ومحاولة غسيل مخ الشباب إما باسم الدين، أو باسم الأيديولوجيات اليسارية، بل وتدريب الشباب في معسكرات للسلاح وتعليمهم كيفية الاغتيالات والقتل تكون من خلال أنظمة أمن الدولة المخابراتية، ووزارة الداخلية، وغيرها من الأجهزة السلطوية التي تتحرك من خلال رأس السلطة والنظام؛ باعتبار أنهم يفعلون ذلك من أجل حفظ التوازن في المجتمع وتسيير مصالحهم التي هي أهم بكثير من الوطن نفسه؛ لذلك رأينا في رواية غانم اللواء سعد الحوت الذي اعتزل العمل وفضل الحياة بعيدا تماما حينما يروي الحقيقة كاملة من دون رتوش ليوسف منصور الذي قام النظام بتجنيد ابنه في إحدى الجماعات الإرهابية وتدريبه على الاغتيالات، كما كان يفسر هذا الفعل من قبل النظام باعتباره فعلا يساعد على الاستقرار واستتباب الأمن والنظام؛ فنراه يقول ليوسف عن أحد ضباطه: "كان يأتيني بكل ما أريده عنهم من معلومات. قام بواجبه على أكمل وجه. عرفت أساليبهم في الدعوة. أين يدربون الأولاد. ما يدور في اجتماعات القيادة. كانوا يعرفون أنه ضابط شرطة، ولكنه كان يمثل من وجهة نظرهم انتصارا كبيرا لهم. كانوا يهنئون أنفسهم بأنهم تسللوا إلى قيادة المباحث؛ مما هيأ أذهانهم لوضع خطط للاستيلاء على السلطة. كل هذا كنت أعرفه عن طريق زياد. وكان ينفذ لنا أي توجيه.. يا زياد الشيوعيون يدبرون شغبا في الجامعة ويمهدون له بجرائد حائط يكتبون فيها مقالات تُهيج. كان زياد يتحرك من قيادة جماعته فينقض أولاده على الشيوعيين، يحاصرونهم، ويمزقون جرائدهم، ويرهبون من يفكر في مجرد السؤال عن أخبارهم. نفس التكتيك الذي كنت أستخدمه من خلال قيادات للشيوعيين لضرب أي تحرك من الجماعات الدينية أو غيرهم إذا ما أقدموا على حماقة، وتوهموا أنهم قادرون على فرض رأيهم على السلطة. عملية توازن مستمر. فإذا حدث التوازن حدث الاستقرار، ويدخل المتمردون الشقوق والجحور".

من خلال سرد اللواء الحوت للآلية التي يعمل بها جهاز الشرطة يتضح لنا أن كل الخيوط تكون في يده، وأنه يقوم بكل الدسائس والمؤامرات، وتجنيد الشباب الصغير من أجل مصالحه فقط، لا يهمه في ذلك افتراق أب عن أبيه، أو حتى موته والتضحية به من أجل ما تراه السلطة معاضدا لمصلحة، فيقول اللواء الحوت: "أول مرة قرأت اسم حسن يوسف منصور كان في قائمة لمجندين جدد أرسلهم زياد إلى معسكر تدريب في البحر الأحمر. كانوا يتدربون تحت سمعنا وبصرنا. الكاراتيه، والجودو، واستخدام الخناجر، وكنت مطمئنا إليهم لأنهم قوة أمن تحت قيادة ضابط من ضباطي قد أستعين بهم في مواجهة مؤامرة تخريب؛ فيكون الشعب هو الذي تصدى للمؤامرة لا رجال الشرطة".

كما يشرح الحوت كيفية تجنيد هؤلاء الشباب في الجماعات الإرهابية بيد الشرطة لاستخدامهم فيما بعد كأداة قمع للآخرين والقضاء عليهم. هذا الأسلوب الذي تحاول من خلاله السلطة الفاسدة خلق واقع وهمي لا يعرف حقيقته سوى من يعمل معهم فقط ممن يحركون خيوط اللعبة؛ فيعيثون في الوطن فسادا، وإرهابا، وقتلا للجميع من دون تمييز؛ من أجل مكاسبهم المادية والسلطوية فقط، وهو ما فضحه بإسهاب وبشكل روائي مُحكم منذ صدرت الرواية في 1981م.

بالتأكيد إن القارئ لرواية "في المدينة ما يكفي لتموت سعيدا" للروائية الجزائرية ياسمينة صالح، لا بد له أن يتذكر أحداث رواية "الأفيال" لفتحي غانم؛ ليس لأنهما يتحدثان عن تلاعب السلطة بعقول الجميع من أجل مصلحتها الشخصية فقط؛ بل لأن كل منهما يؤكد أن فساد النظام السياسي في كل من مصر والجزائر جعلهما مصريّن على صناعة الإرهاب داخل المجتمعين، وتصديره إلى المواطنين من خلال الاغتيالات والعنف الذي أسال الكثير من الدماء في البلدين؛ ومن ثم باتت أرض الوطن مجرد ملعبا واسعا لكل أشكال العنف والتصفية من قبل السلطة المنوط بها في الأساس حماية المواطنين وليس تصفيتهم والتلاعب بمصائرهم وعقولهم؛ حتى لا يُطالبون بحقوقهم الأساسية في حياتهم.

إن إدراك الأنظمة السياسية لمدى خطورة شعور المواطن بالأمان والسلام في مجتمعه؛ حيث يبدأ في المطالبة بحقوقه في الحرية؛ يدفع بهم في النهاية إلى صناعة الوهم بإرهاب الجميع وإشعارهم بالخطر على حيواتهم وحيوات أولادهم؛ مما يؤدي إلى شغلهم تماما عن المطالبة بهذه الحقوق؛ وبالتالي يبدأون في الانسياق خلف السلطة والالتفاف حولها؛ ظنا منهم أن الخطر المُحدق بهم لا يمكن له أن ينتهي إلا من خلال هذه السلطة الزائفة- في حين أنها هي من صنعت الخطر أساسا؛ كي تحتمي به-، وهنا تنجح السلطة الفاسدة في السيطرة الكاملة على جميع مقدرات الأمور في الدولة، وتمنع المواطن- راضيا- من الحديث في أي حق دستوري من حقوقه- فأمام الخوف على الحياة لا يظهر أي مطلب آخر سوى الحماية والأمان.

إذن فمن خلال الرواية التي قدمتها لنا ياسمينة صالح يتضح لنا أنها راغبة في التأكيد على فضح اللعبة السياسية، وأنه لم يكن هناك إرهابا حقيقيا في الجزائر، وهو الإرهاب الذي أدى إلى سنوات "العشرية السوداء" التي راح ضحيتها ما يقارب من 200000 مواطن، بل كان هناك إرهابا وهميا اصطنعته السلطة من أجل تصفية معارضيها، وكل من يُطالب بحقوقه من ناشطين سياسيين، وكتاب، وصحفيين، بل وبعض العاملين في السلطة من المنقلبين عليها أيضا، وإلصاق ذلك بالإسلاميين؛ من أجل الحفاظ على مكتسبات الفساد التي اكتسبها النظام بعد ثورة التحرير الجزائرية التي نجحت في إنهاء الاستيطان الفرنسي بعد 132 عاما من الاحتلال. صحيح أن من تولوا رأس السلطة فيما بعد كانوا من المناضلين الذين خاضوا غمار المعارك من أجل تحرير بلادهم، أو كانوا من أبناء الشهداء، إلا أن السلطة بمكتسباتها أدت إلى إفساد عدد كبير منهم؛ من ثم باتت مصالحهم أهم من مصالح الوطن الذين عاثوا فيه فسادا وتخريبا، وعملوا على إفقار المواطن بكافة الأساليب وعدم توفير أي فرص عمل له، رغم أن الجزائر تُصنف باعتبارها السابعة في العالم من حيث الاحتياطي البترولي، والرابعة على مستوى العالم أيضا من حيث احتياط الغاز، ورغم هذه الثروات الهائلة إلا أن مستوى معيشة المواطن الجزائري وصل إلى حد الإفقار والإذلال الكامل، وظهرت على السطح طبقة من الفاسدين الأثرياء الذين لا يعنيهم سوى المال المتحالف مع السلطة؛ ومن ثم تاجروا في أي شيء وكل شيء، من الأغذية الفاسدة، حتى تجارة السلاح الذي يُوزع داخل الوطن من أجل التخلص من أبنائه الشرفاء.

ربما نلاحظ رغبة الكاتبة في فضح كل هذا الفساد منذ الإهداء الذي قدمت به روايتها حينما كتبت: "إلى الوطن المغلوب على أمره! وإلى الأمل: نصدق وجودك مهما يكن"، أي أنها تشير إلى العالم الذي ستدخله روائيا منذ الوهلة الأولى.

تدور الرواية عن لخضر زرياب ابن الحمّال الفقير الذي يعمل في الميناء طيلة اليوم؛ ليعود في المساء كي يرتمي على فراشه مستعدا ليوم جديد من الشقاء؛ وبسبب هذا الفقر المدقع الذي جعل الأب لا يجد عملا آخر؛ نتيجة أزمة التعطل عن العمل التي تسود الجزائر؛ فالرجل ليس لديه الوقت لأي شكل من أشكال المشاعر لا مع زوجته، ولا مع ابنه لخضر؛ فالأهم هو كيف سيأتي لهم بالمال الشحيح؛ لذلك حينما تمرض الزوجة بعد إنجاب شقيقته الصغري لا يستطيع الأب أن يفعل لها شيئا بسبب قلة المال؛ فتموت: "لكم شعر باللاجدوى وقتها..! ثم ما معنى الجدوى أساسا؟ كان في العاشرة عندما ماتت أمه بعد أسبوع من وضعها أخته الصغرى.. ماتت بسبب نقص في الرعاية. كان يسمع أنينها ليلا، ويرى في الصباح شحوبها وجفاف صدرها من الحليب.. يومها، طلب من أبيه أن يفعل شيئا، وبدل ذلك انهال عليه بالضرب صارخا فيه: لا ينقصني إلا أن تُملي عليّ واجباتي يا ابن الكلب. أمك تحتاج إلى الدواء والغذاء لتشفى، أين لي بالمال لأشتري لها كل ذلك؟ أين لي بالمال؟".

إذن فبسبب الفقر والمال القليل تموت الأم؛ ليتزوج الأب بامرأة جديدة تنجب له العديد من الأطفال، وتتعامل مع لخضر وأخته معاملة قاسية وتعزلهما عن أبنائها، ثم تلي الأم في الموت أخته الصغيرة حينما أُصيبت بالحمى وهي في الخامسة، ويبقى لخضر وحيدا غير قادر على التكيف مع المجتمع من حوله، أو تكوين صداقات، أو علاقات مع الفتيات، ولا يشغل تفكيره إلا كيفية الهروب من الجزائر من خلال البحر إلى أوروبا.

يضغط عليه أبوه في العمل معه كحمّال مثله في الميناء، وهناك يفكر غير مرة في الهروب على ظهر إحدى السفن، لكنه يخشى فعل ذلك؛ حتى لا يُعرض الأب فيما بعد للطرد من العمل، لكن الأب يُصرّ على أخذ راتبه بالكامل كل شهر ولا يترك له أي شيء متعللا أن إخوته الصغار والبيت في حاجة إلى المال، وبما أن لخضر لا يفعل شيئا في حياته سوى الذهاب إلى الميناء للعمل، ثم العودة إلى البيت للنوم؛ فلم يكن في حاجة إلى المال. ولكن يحدث أن يقابل نجاة الطالبة ابنة جارهم البقال، ويتقرب منها ويشعر تجاهها بالكثير من الانجذاب والحب؛ وهنا يبدأ شعوره بالخجل من هيئته وملابسه الرثة، وحذائه الممزق أمامها، كما أنه يرغب في أن يجلس معها في أي مكان لشرب القهوة بينما هو لا يمتلك المال الذي يسلبه منه الأب، وهنا يقرر الاحتفاظ براتبه لنفسه كي يشتري حذاء جديدا وملابس، لكن الأب يثور عليه ويذهب إلى أبي نجاة ويخبره بعلاقة ابنه بابنته ويحذره من الابن. هنا يزوّج الأب الابنة لأول من يطلب يدها، الذي كان ضابطا، وهو ما جعله يضرب لخضر ذات مرة حينما سمعه ينادي نجاة باسمها.

يتحدث رئيس العمال- ابن أحد الشهداء- الذي كان يُطالب دائما بحقوقهم ويدافع عنهم مع لخضر ويخبره أنه يلحظ فتور العلاقة بينه وبين أبيه، وعرض عليه إذا ما كان راغبا في العمل في مكان آخر فهو سيوفر له هذه الفرصة، وبالفعل يوافق لحضر وينتقل للعمل في أحد المستودعات كحارس ليلي، وهو المستودع الذي يمتلكه أحد الجنرالات. يحاول لخضر ذات مرة معرفة ما تحويه صناديق المستودع حينما يشك أنهم يتاجرون في الأغذية الفاسدة التي تقتل الآلاف من الأطفال، لكنه يكتشف أن الصناديق مكدسة بالأسلحة، وحينما يشعر بدخول أحد الحراس عليه يرتبك خوفا ويُطلق عليه النار ويحاول الهرب؛ فيقتل أكثر من رجل أثناء هربه، وحينما يدرك ما فعله يحاول الانتحار بالرصاصة الأخيرة، لكنه يتم إنقاذه وبعد إجراء الكثير من التحقيقات معه، وبعد سرده لحكاية كاذبة أكثر من مرة تبرؤه وتدين العديد من الحراس الذين كان يستمع لحكاياتهم من خلف باب المستودع؛ يعود للعمل مرة أخرى وقد اكتسب شيئا من الثقة؛ لذا يأمره أخو الجنرال أن ينقل إليه كل أخبار الحراس ويتجسس عليهم ويقدم له تقريره كل صباح. بالفعل ينجح لخضر في القيام بعمله كمخبر بإتقان من خلال إضافة الكثير من الحكايات الكاذبة والملفقة إلى الحكايات العادية، وهو ما أدى إلى توريط الكثيرين من الحراس؛ الأمر الذي يجعل الجنرال ينقله إلى مستوى جديد: "هل يمكن الوثوق في حراس يعتبرون شغب طلاب الجامعة مطلبا شرعيا؟ قالها الرجل ذو السترة الجلدية، وإن شعر ببعض القرف وهو يلتقي بلخضر لأول مرة، إلا أنه اعترف لمسؤوليه أنه أذهله في طريقة سرد التفاصيل بثقة مذهلة جعلت شقيق الكولونيل يحوله من حارس مستودع إلى موظف من نوع خاص! قال له فاروق ذات مرة: هناك مهمات تنتظرك، وعليك أن تؤديها بأمانة! كان مستعدا لذلك طالما سيحصل على المال وعلى.. السلطة! السلطة! أليست هي التي قادته إلى كل هذا الجنون؟ كان يصدق من البداية أن السلطة أهم من المال لأنها تصنعه! وعندما أعطاه السي فاروق تفاصيل مهمته الجديدة عرف أنه دخل عالما آخر سيحمله بعيدا! قال له بصوت يشبه التهنئة: من الآن فصاعدا ستكون تحت إشراف أحد الضباط، سيدربك على بعض الأمور التي تحتاجها. تقاريرك ستكون مهمة بالنسبة للكولونيل الذي اقتنع بقدراتك على العطاء! كان لخضر يعرف أن الفشل يعني الموت، وكان يريد أن ينجح ليس لأنه لا يريد أن يموت، بل لأنه لا يريد أن يفشل!".

ربما نلاحظ هنا أن الفقر والعوز الشديدين، والكثير من الإهانات، والعذابات التي واجهت لخضر في حياته، وهو الوضع الذي أوقع فيه النظام الفاسد الكثيرين من الجزائريين هو ما يُحرك لخضر ويجعله تائقا إلى كل من المال والسلطة؛ لذلك يتحرك في حياته بمبدأ برجماتي بحت قد يجعل القارئ يتعاطف معه أحيانا؛ بسبب حياته البائسة، رغم أن هذه التصرفات ستحوله فيما بعد إلى وحش حقيقي مستعد كل الاستعداد للتضحية بكل من هم في طريقه، حتى لو كانوا أقرب الناس إليه؛ ليترقى في النهاية بعد الكثير من العمليات القذرة التي انخرط فيها بالتعاون من السلطة ويصبح جنرالا يهابه الجميع ويمتلك من السلطة الباطشة ما لا يمكن أن يجعل أي إنسان يقف أمامه، ويتزوج ابنة مدير الجامعة الذي كان أحد ضحاياه، وحينما تموت الزوجة أثناء ولادتها لابنه، يتخلى عنه ويتركه لجديه يربيانه وينساه تماما، ليقابله فيما بعد في نهاية حياته باعتباره ضابطا تحت يده كجنرال، لكنه لا يعرف أن الجنرال هو أبيه.

إن سيكولوجية الخوف والرهبة الكاملتين من السلطة هي ما نلاحظه منذ الصفحات الأولى من الرواية حينما يذهب الجنرال لخضر إلى مكتبه ويطلب من سكرتيره ملف الضابط الجديد حسين زرياب- حيث تبدأ الرواية بلخضر كجنرال وحينما يمسك ملف ابنه يعود به الزمن للوراء في فلاش باك طويل لا ينتهي إلا حينما تنتهي حكايته حتى وصوله إلى مركز الجنرال-. نقول إن سيكولوجية الرهبة والخوف كانت واضحة في حديث الروائية عن سكرتير لخضر: "لم يكن ليقول أكثر من "حاضر"! فهو يتقاضى راتبا جيدا، ناهيك عن المزايا التي يمنحها له عمله، فإنْ تملَّلك بطاقة عليها ختم وزارة الدفاع معناه أنك مواطن استثنائي في دولة تُقدس البذلة العسكرية والجزمة الغليظة التي يلبسها أولئك الذين يملكون موهبة إرهاب الآخرين..! يتذكر يوم أرعب جارهم الحي لأنه التحق بوزارة الداخلية وأصبح يلبس بذلة زرقاء أثارت فخر أسرته ورعب جيرانه منه.. كل بذلة رسمية تُخيف الناس، وكل شخص تُقاس أهميته إزاء بذلته وليس إزاء شخصه، لهذا بمجرد أن تنتهي مهامه الرسمية بالمعاش أو الفصل، ينتهي وقاره، وينتهي خوف الناس منه.. يتحول من شخص استثنائي إلى شخص عادي.. عندما جاء دوره أصبحت له بذلته الخضراء الرسمية لبسها بإحساس غريب يشبه إحساس حية تغير جلدها.. وحدها البذلة من حولت فشله إلى نجاح في أعين الناس.. أصبح مخيفا ومهما!". إذن فالروائية توضح سيكولوجية جميع الجماهير تجاه السلطة منذ الصفحات الأولى؛ حيث ترى الجماهير فيها الشيء المرعب الذي لا يمكن الوقوف أمامه أو مواجهته، بل لا بد من الإذعان الكامل له، حتى لو كان في هذا الإذعان الكثير من الذل أو الإهانة.

هذا الانكسار الشديد في حياة لخضر وغيره من المواطنين، والتعاسة التي يشعرون بها تعمل الكاتبة على تعميقها في نفس لخضر منذ البداية؛ ربما لتجد له تبريرا على سلوكه الذي سيسلكه فيما بعد في حياته الخالية تماما من المشاعر، وهي بذلك تحاول إيجاد المُبرر الموضوعي الذي قد يدفع بعض الشخصيات البريئة- التي لا ذنب لها في أي شيء سوى أنها قد وُلدت في مجتمعات قمعية وفاسدة عملت على إفساد أبنائها بالفقر- إلى ارتكاب الكثير من الجرائم التي لا يمكن تصورنا لهم يرتكبونها؛ لولا الضغط عليهم بالانصياع إلى السلطة الغاشمة التي تجعلهم مجرد تروس في عجلة فسادهم. هذه السلطة الغاشمة نراها أولا لدى الأب الذي يمارس سلطته على ابنه حينما يأخذ راتبه بالكامل، بل ويوشي به لوالد الفتاة التي أحبها، وكأن المجتمع قد تحول إلى سلسلة من الحلقات، كل حلقة من حلقاته تُمارس المزيد من القهر المُمارس عليها بإسقاطه على الحلقة الأضعف منها؛ فنقرأ حينما يخبره أبوها بأنها ستتزوج ولا يريد أن يراه مرة أخرى: "مشى خطوات بالكاد تقوى على حمله، أحس بالإحباط وهو يعود إلى البيت.. "لحسن الحظ أن والدك نبهني قبل أن يصبح الموضوع فضيحة"! تذكر هدوء والده طوال الأيام الماضية، بل وكان يرى في عينيه نظرة أقرب إلى التشفي! ألهذا الحد يكره أن يراه سعيدا؟ كان في قمة انكساره وهو يصارع الأشياء التي تضاربت في داخله، أحس أنه كائن بائس لمجرد أنه على هذه الأرض! فجأة ضاع كل شيء، ضاعت نجاة وضاع الحلم والحوارات الجميلة والعادية والشارع الحميم الذي كانا يمشيان فيه.. لم يعد للحياة طعم ولا للأشياء لون.. أحس أنه أصبح يتيما من جديد، وزاد إحساسه باللاجدوى في نهاية الأسبوع وهو يسمع إلى زغاريد آتية من بيت نوح".

لكن الكاتبة لا تكتفي هنا بتمثيل مأساته فيما فعله معه والده فقط بعدما وشى به، وجعله يخسر حبيبته، بل جعلته يشعر بالإهانة العظمى حينما يعتدي عليه خطيب نجاة/ الضابط أمام الجميع حينما يسمعه ينادي باسمها؛ فتنقذه من يد خطيبها بقولها: "أرجوك يا علي توقف وإلا ستقتله، توقف، ألا ترى أنه يثير الشفقة؟! كان مذهولا من الموقف كله، حتى وهو يشعر بشيء ساخن بدأ يسيل من أنفه. نظر إلى نجاة التي جرّت خطيبها من ذراعه وأبعدته عن المكان بعد أن التمَّ المارة حولهم. ظل مسنودا على الجدار يرتعش.. مسح آثار دم سال من أنفه وشفتيه.. لم تؤلمه اللكمات التي وقعت على وجهه بقدر ما آلمته الجملة التي قالتها: ألا ترى أنه يثير الشفقة؟! أحس بألم يخترقه للعظم، انتابته رغبة في الصراخ.. يا إلهي، قالها وهو يغطي وجهه بين يديه ويجهش بالبكاء! بكى طويلا أمام أعين المارة الذين حاول بعضهم التخفيف عنه، وقف مترنحا عائدا إلى البيت ليتفاجأ بالضابط ينتظره عند مدخل الحي مع شخصين كانا يرتديان اللباس الرسمي. أحس بالخوف عندما طلب منه بطاقته الشخصية كما يفعل مع أي مشتبه به.. دس يده داخل جيب سترته الداخلي وأخرج البطاقة. ناولها إلى الضابط الذي أمسكها دون أن ينظر إليها، وقال بصوت لا يخلو من حقد: أعتقد أنك تعرف ماذا فعلت؟ لا أعرف! بل تعرف أيها الجائع، تعرف جيدا!"، ثم ينهال عليه ضربا مرة أخرى.

إن محاولة الكاتبة الإمعان في تصوير الذل والانكسار والفقر الذي يعاني منه لخضر من كل من يحيطونه في حياته، هي مجرد مقدمات لعالمه القادم؛ كي نفهم السبب الذي جعله ينساق خلف هذا العالم الإجرامي الفاسد السلطوي الذي لم يكن أمامه غيره من أجل إنقاذ حياته فعليا من الموت، ثم إنقاذها من الهوان الذي يعيش فيه وتخلي الجميع عنه واحتقاره؛ الأمر الذي جعله يتخلى تماما عن مشاعره ويضع مصالحه أمام عينيه كبديل عنها، أي أن السلطة في النهاية هي من تصنع الفاسدين؛ كي يكونوا أذرعا لها بابتكارهم المزيد من الإفقار والهوان والبؤس الذي يصبغ حياتهم.

إن شيوع الفساد في النظام الجزائري الحاكم أدى إلى تحويلها إلى شكل آخر لم يكن متوقعا لها بعد تخلصها من الاستيطان الفرنسي، بل تشابه الوضع إلى حد كبير- حتى بعد الاستقلال- مع نفس الوضع المهين الذي كانت عليه الجزائر أثناء الاحتلال الاستيطاني؛ فالمهانة لا تختلف، والبؤس هو البؤس، والتنكيل بالجميع لم يتغير، ولم يستعد المواطن كرامته المُهدرة بل زادت إهدارا على يد حكامه: "يتكلمون عن أشياء تخصهم، وأحيانا يتكلمون في السياسة، عن المظاهرات التي قادها طلبة الجامعة وانتهت إلى تدخل عنيف من رجال الأمن! قال أحدهم: اقتيد بعض المتظاهرين إلى ثكنات عسكرية للتحقيق معهم! سمع تفاصيل مروعة عن تعذيب تعرضوا إليه! رد آخر: عذبوهم لأنهم طالبوا بالعدالة والكرامة والخبز، رد الأول: يستحقون أكثر من ذلك! كيف يجرؤون على تشويه سمعة البلد كما لو كنا جياعا، سمعة البلد أهم من كل المشاكل! رد عليه صوت ثالث: لا! هم شباب مثلنا، يعيشون على الحافة، انظر كيف تحولت البلد إلى اسطبل يحكمه الغيلان! أصبح الشعب مجرد قطيع يؤخذ إلى الذبح في المناسبات". أي أن المواطن الذي ظن أنه سيستعيد آدميته وكرامته وحقوقه بعد انتهاء الاحتلال الفرنسي؛ وجد نفسه مقهورا بشكل أكبر، وينال المزيد من الذل الذي سيتحول فيما بعد من خلال ألاعيب السلطة إلى شكل التصفيات الجسدية للمواطنين باسم الإرهاب الديني، رغم أن هذا الإرهاب لم يكن حقيقيا، بل كان صنيعة السلطة نفسها التي كان من الأجدى بها أن تحمي المواطن وتجعله يعيش في رغد وكرامة.

لذلك، ولأن السلطة تفهم جيدا أن أولى مراحل التمرد والمطالبة بالحقوق هو الوعي أولا؛ فلقد استهدفت منذ البداية الجامعة وطلابها من أجل التلاعب بعقولهم، والقضاء على مستوى الوعي لديهم تماما بانغماسهم في الدين وتقوية النزعات العنيفة لديهم، ومحاولة السيطرة عليهم؛ لاستخدامهم فيما بعد كأداة لهم يبطشون بها، ويصفون من خلالهم معارضيهم من أبناء اليسار، أو غيرهم، ومن هنا حاولوا زرع لخضر داخل الجامعة كسكرتير لمدير الجامعة- للإيقاع به؛ لاسيما أن المدير من الناس الشرفاء كما أنه ابن أحد الشهداء الذين لهم مكانتهم في المجتمع- رغم أن لخضر لم يكن متعلما؛ فعلموه القراءة والكتابة، وزوروا له العديد من الشهادات بأختامهم الرسمية التي يمتلكونها: "هنالك مهمة تنتظرك، ستتدرب على بعض المهام الإضافية للقيام بها! رمقه الضابط بنظرة جانبية وهو يضيف: ستحقق حلم حياتك بالدخول إلى الجامعة هذا العام! قالها بسخرية واضحة، كان لخضر يعي تماما أن رئيسه يستمتع بالسخرية منه، لكنه شعر بالغضب لأنه سخر منه أمام شخصين دخلا المكتب بخطوات متثاقلة، أضاف يقول وهو ينظر إلى الشخصين اللذين أخذا مكانهما على مقعدين بجوار المكتب، بينما ظل هو واقفا: هذا منير ضابط مكلّف بالاستعلامات، سيعطيك فكرة سريعة عما عليك القيام! وهذا رياض سيدربك على التقنيات المهمة"، أي أن السلطة هي من تصنع الفساد وتكرسه ليكون هو القاعدة في المجتمع؛ لذلك حينما يعرفون فيما بعد بعلاقة لخضر بابنة مدير الجامعة وزيارته المتكررة له في بيته يحاولون استغلال الوضع لصالحهم: "بدخولك إلى بيت المدير سهلت علينا تعب التفكير في خطة موازية! تقاريرك عما يجري في بيت المدير تُسلم إليّ شخصيا لأسلمها إلى المسؤولين! هذه هي الأوامر! أحس لخضر أنه يرتعش من رأسه إلى إخمص قدميه، كان يتصبب عرقا وهو يبحلق في الفراغ: للمدير قريب يعمل في الصحافة، ويحشر أنفه في الأمور التي لا دخل له فيها، يزوره كل نهاية أسبوع منذ مرض، ما نريد معرفته هو مصادر الصحفي! من أين يأتي بالأخبار والوثائق التي ينشرها! هذا هو عملك الجديد!"، أي أنه يجعله خائنا لثقة المدير فيه هو وابنته.

من هنا يتضح لنا أننا لسنا أمام سلطة سياسية تعمل على حماية الوطن، بل نحن أمام عصابة حقيقية خطفت الوطن والمواطن معا، وتعمل على التنكيل به، والتجسس عليه، ثم تصفيته جسديا مع كل من يعاونونه إذا لم ينساقوا لهم. إنها العصابة التي تحاول استغلال كل الأمور لصالحها الفاسد، وهذا ما رأيناه من خلال تعامل السلطة مع الطلاب الجامعيين المنتمين لليمين الديني بمحاولة تأصيل ذلك فيهم ومساعدتهم على العنف؛ كي يكونوا واجهتهم أمام الجميع فيما تمارسه السلطة من تصفيات جسدية للمعارضين ثم يلصقون هذه الجرائم في التيار الديني فيما بعد: "كان الطلبة يحبون فيه هذا الإيمان على الرغم من اختلافهم معه في طريقة فرض الدين وكيفية الوصول إلى اليقين وبالتالي فرضه على الآخرين، بالنسبة للمدير الدين هو المعاملة، وبالنسبة إليهم الدين يجب أن يُفرض فرضا على الجميع، ولعل المدير أخطأ في ثقته في بعض الطلبة، فلم يخطر على باله أنهم يريدون أكثر مما هو ممكن، إلا عندما أعلن الطلبة عن الإضراب! وقتها شعر بالخوف وهو يرى الطلبة يحملون بين أيديهم قضبانا حديدية ويجبرون زملاءهم للانضمام إليهم بالقوة، كانوا يرون في القوة انتصارا ولو بالتهديد! تحول الخوف إلى ذهول وهو يرى الطلبة يهتفون بصوت واحد: "لا إله إلا الله، والله أكبر، عليها نحيا وعليها نموت"! أحس المدير أنه وقع في الفخ! حاول الحديث معهم مدافعا عن منطق الحوار، لكن الأمور خرجت عن السيطرة عندما رفضوا الإصغاء إلى نداءاته، ظل يصرخ: كل شيء سيحل بالهدوء يا أبنائي، العنف لن يغير شيئا سيزيد من المشاكل! ظلوا يهتفون بأعلى أصواتهم: "لا إله إلا الله، والله أكبر، عليها نحيا وعليها نموت"".

الروائي المصري فتحي غانم
نقول أن هذا المد الديني الذي تحاول السلطة تغذيته في الطلاب ورعايته ببث المزيد من الرغبة في العنف داخلهم ومساعدتهم على ذلك نلحظه بشكل أوضح حينما يقومون باعتقال الطلاب الذين قاموا بهذا العنف داخل الجامعة، لكنهم بعد أيام يطلقون سراحهم بعد الاتفاق معهم على المزيد من العنف الفاسد، أي أنها مجرد صفقة بين السلطة والطلاب المتدينين: "ألم يصل إلى هنا ضمن نفس اللعبة التي صنعت منه مخبرا جيدا بعد أن كان حمّالا جيدا؟ وهو في النهاية أحسن حالا مما كان عليه من قبل، وهو الآن حرّ يطارد حرية الآخرين. هو الآن حي يساهم في قتل الآخرين بالوشاية عليهم! كان يدرك أنه يقوم بشيء يجب القيام به، فلو لم يقم به، سيأتي غيره للقيام به! في اليوم التالي صعق عندما لمح طالبين يدخلان إلى الجامعة كما لو أن شيئا لم يكن، كان الطالبان في صدارة التقارير التي أرسلها، وكانا أهم عناصر الانتفاضة التي وقعت في الجامعة، بل هما من قادا الإضراب بالخطب النارية التي احتوت على عبارات غذت روح الثورة والعصيان! ذهل وهو ينظر إليهما يمران أمامه وقد ارتسمت على شفتي أحدهما ابتسامة عريضة! نظر إليه الآخر نظرة متهكمة وواصل طريقه نحو قاعة المحاضرات". هنا يتضح لنا أن السلطة تستغل نفوذها في الإفساد الكامل لكل شيء؛ فليس لخضر فقط هو من أفسدته وأدخلته اللعبة ليكون مخبرا على مدير الجامعة وطلابها وما يحدث فيها، بل استطاعت تغذية تيار المد الديني أيضا بالعنف؛ لتتخذ من الطلاب أذرعا أخرى لها؛ ليمارسوا العنف باسم الدين تحت أنظارهم وكما يرغبون هم، كما جعلت جميع من يعملون معها مخبرين يتجسسون على بعضهم البعض؛ فلخضر يكتب التقارير عن الطلاب المتعاونين مع السلطة، بينما هم يكتبون التقارير أيضا عن لخضر، بينما كلا الطرفين لا يعرفان أنهما يتعاونان مع نفس الجهة.

إن صناعة السلطة للإرهاب في الجزائر كان من ضمن الكوارث التي عانت منها الجزائر لفترة طويلة، لا سيما في سنوات العشرية التي ما زالت تترك بآثارها على المجتمع الجزائري حتى اليوم، كما أنها أدت إلى فقدان مئات الآلاف من المجتمع الجزائري ممن لا ذنب لهم فيما حدث، وعملت على تصفية الموارد المالية للمجتمع الذي يزداد إفقاره يوما بعد آخر. هذه الصناعة البشعة نراها في حديث رجال الشرطة مع بعضهم البعض عن طلاب الجامعة الفارين بقولهم: "المهم أن المسؤولين مرتاحون للنتائج! قالها الرجل الجالس بصوت بارد، بينما الآخرون مشدودون إليه بكل حواسهم، أضاف الرجل الجالس: هنالك جهة سوف تستقبل الفارين وتدربهم على العمل، وسيكون بيننا وبينهم شخص مشترك! العملية في غاية الحساسية والمهم أن تكون النتائج جيدة لأن المسؤولين سينتقمون منا إن أخفقنا في تنفيذها بحذافيرها! قال جعفر: لن نخفق، لأن حياتنا مربوطة إلى العملية، سنقوم بها إلى النهاية! هذا المطلوب! خبر فرار المسجونين بدأ ينتشر، سوف نستعين بالصحافة في الوقت المناسب! الأوامر التي عندي هي أن يكون الأشخاص المسؤولون عن العملية على اتصال دائم ببعضهم، في الليل والنهار. ستكون لقاءاتنا هنا أو في أماكن أخرى، وهنالك احتمال فرار مساجين آخرين سوف ينقلون أيضا إلى نفس المكان للتدرب على السلاح! وأول جماعة لن تقل عن عشرة أشخاص، وستكون تحت أعيننا، لأن طارق أصبح معهم! وسيكون عيننا وأذننا بانتظار التحاق آخرين به لمساعدته على إدارة العمليات!!".

إذن فهم هنا لم يحاولوا تغذية العنف في نفوس الطلاب باسم الدين فقط، بل حاولوا تهريبهم من الاعتقال بعدما اتفقوا معهم، ويعملون على تدريبهم أيضا في كيفية استعمال السلاح ضد المجتمع؛ مما يؤكد أن صناعة الإرهاب هنا هي صناعة سلطوية في المقام الأول، فكرت فيها السلطة فقط من أجل حماية مصالحها: "حكى له جمال عن تصرفات الشيوعيين المستفزة، كما حكى له عن فريد الذي انهال بالضرب على زميله اليساري، وهدده بالقتل! ظل يصغى مذعورا، فكر أن دوره قد ينتهي فجأة ويبدأ دور فريد وإبراهيم اللذين ستوكل إليهما مهمة تأجيج الصراع داخل الجامعة! كان يدرك أن الهدف الأول ليس قتل الطلبة أو اعتقالهم، بل قتل رغبتهم في التغيير وملء قلوبهم بالخوف من التغيير نفسه!". أي أن الدولة هنا هي من تصنع الإسلاميين من أجل السيطرة على الوضع حتى لا تنفلت الأمور من يدها. هذا ما تؤكد عليه الروائية مع تطور الحدث الروائي الذي ينصب بالكامل على هذا الفعل: "عندما ذهب إلى عمله في اليوم التالي وجد الشرطة منتشرة في كل مكان، مشى بخطوات سريعة كمن يهرب من شيء، لمح جمال الذي لوح له بيده، ركض نحوه، وهو يقول: ما الذي يجري؟ قُتل طالب أمس ليلا! قالها وهو ينظر إلى عيني لخضر نظرة مرعوبة وأضاف: أطلق إبراهيم الرصاص على الطالب اليساري! قتله وهرب! الشرطة تحقق مع الجميع".

هنا تتضح لنا اللعبة بالكامل؛ فبعدما جندت الشرطة الطالب المتدين إبراهيم؛ كي يعمل لصالحها، وبعدما أطلقت سراحه في اليوم التالي على اعتقاله حينما وقعت أحداث إضراب الجامعة، دفعته لقتل الطالب الذي يقود التيار اليساري داخل الجامعة، ثم ذهبت للتحقيق الصوري في الأمر باعتبار أن إبراهيم هارب، رغم أنه يعمل معهم ويعرفون مكانه. إنهم بذلك نجحوا تماما في رسم المشهد الراغبين في سيادته أمام المجتمع، وباتت اللوحة مكتملة وجاهزة لما يفكرون في فعله؛ فهاهو التيار الديني قد صعد وأصبح له قوة محركة، وها هو التنافس الشديد بينه وبين التيار اليساري قد احتدم، وبدأ العنف المتبادل بينهما، أي أن ثمة عنف وتصفيات جسدية باسم الدين قد نشأت في المجتمع ويراها الجميع؛ ومن ثم يأتي دور الشرطة والسلطة المزيف كي تتدخل لمحاولة إنهاء هذا العنف وحماية المجتمع، رغم أن السلطة هي من ستقوم فيما بعد بكل عمليات الاغتيال والتصفية بنفسها ومن خلال ضباطها؛ وبالتالي في خضم هذه الأحداث الدموية لا بد أن يشعر المواطن بعدم الأمان فيكف عن معارضة السلطة، أو المطالبة بحقوقه في رغيف خبز، أو عمل، أو حرية، ويلتف المجتمع بالكامل حول السلطة التي لا بد أن تحميه من هذا الرعب وتوفر له الأمان، وبذلك تكون السلطة الفاسدة قد نجحت تماما في إنهاء أي اعتراض عليها، أو المطالبة بأي شيء.

إن الهدف الأساس من تدخل السلطة في المجتمع الجامعي يتضح مما قاله سي الباهي الصحفي الشريف صديق مدير الجامعة حينما سأل لخضر ذات مرة: "هل الوضع في الجامعة كما يقولون مستقر؟ تبدو الأمور مستقرة منذ فترة، فالأمن منتشر في كل مكان! هكذا استقرار يبدو كالهدوء الذي يجئ قبل العاصفة. ثم وهو ينظر إليه أضاف: لن يتركوا الجامعة في حالها لأنها البوابة الاستراتيجية للمجتمع يا عزيزي، تدميرها يعني تدمير المجتمع فكريا ومعنويا، سيصبح الناس غير مقتنعين بالدراسة، سيتهمون التعليم بأنه يشجع على العنف ويفرّخ الإرهابيين! أليس هذا ما تقوله الصحف المأجورة؟ تتهم المدارس بأنها تُمهد الطريق للعنف مع أن العنف موجود منذ الاستقلال!".

هذا العنف الدموي السلطوي سيتأكد حينما نقرأ: "أحس بالتعاسة وهو يتحول إلى مجرد عامل ضمن مجموعة تؤدي العمليات القذرة لتطهير البلد كما يقول رؤساؤه! ساهم في حرق مستودعات، وفي اغتيال أشخاص لا يعرفهم! وفي اليوم التالي يقرأ في الجريدة كل التفاصيل عن الضحية، فيتعرف على ضحيته! في ظرف أشهر دخلت المدينة في فوضى كبيرة بعد أن زادت حدة الرعب، وزادت التصفيات الجسدية، والعناوين الصحفية الضخمة التي توجه إصبع الاتهام إلى الإسلاميين"! هنا تكون السلطة بالفعل قد وصلت إلى غايتها؛ فهي ورجالها من يقومون بالعنف وعمليات التصفية الجسدية، ثم يقومون بنسبتها إلى الإسلاميين بعد الاستعانة بالعديد من الصحفيين الفاسدين الذين يعملون على الكتابة عن الحدث وتضخيمه لزيادة الرعب في نفوس المواطنين المذعورين مما يحدث حولهم.

ازدادت وتيرة العنف، وتورط لخضر في المزيد من العمليات القذرة بعدما تجسس على الباهي/ الصحفي الشريف، وصديق مدير الجامعة الذي صار حماه بعدما تزوج لخضر من ابنته، وكتب عنه الكثير من التقارير لرؤسائه؛ حيث وثق فيه الباهي وأعطاه كل المعلومات عنه وعن مصادره الصحفية؛ فتمت تصفية جميع المصادر ثم كانت الطامة الكبرى حينما طلب منه رئيسه بوضع الخطة بنفسه من أجل تصفية الباهي: "حان لك أن تتحرك نحو حل يرضي الجميع! قبل أن يستوعب لخضر الكلمة أضاف: لديك مهمة إيقاف صوت الباهي، ولن أقبل بأي خطأ في هذه العملية! أتركك تضع الخطة المناسبة، وأنا واثق أنك لن تخيب ظننا! أنا تحت أمركم يا سيدي! أوامرنا واضحة إذا! طأطأ رأسه وهو يغادر. كان قلبه يدق بقوة"، إذن فهو يخون كل من يثق فيه، ويتخلص من حياته بكل برود وسهولة باعتبار الأمر مجرد أوامر في عمله؛ لذلك نقرأ: "ذلك الشهر حدث ما خشيه كثيرا، كان الباهي هو الهدف هذه المرة! يعترف لخضر بينه وبين نفسه أنه تأثر كثيرا عندما علم بالطريقة التي اغتيل بها الباهي بعد اختطافه! عُثر على رأسه أسبوعا من بعد، وقد كُتب على جبهته بالدم: الله أكبر! لم يُعثر على بقية جسده أبدا! كانت الصدمة أكبر من الاحتمال على سي الطيب الذي نُقل يومها إلى المستشفى، بينما غرقت نجاة في حزن عميق على أبيها وعلى صديقه! كان لخضر في حالة أشبه باللاشعور وهو يتحسس حجم النفاق الذي يعيش فيه، بين حياتين واحدة لأسرته والثانية لعمله!"؛ لذلك يتورط لخضر في المزيد من عمليات الاغتيال ويصبح أهم من يقوم بعمليات التصفية الجسدية القذرة لدى العديد من رؤسائه المسؤولين. هذه العمليات التي لم يكن هناك مجال فيها للتمييز بين برئ أو مُدان؛ فكل من يحضر مسرح العملية لا بد من تصفيته حتى لا يترك أي شهود على ما حدث، ويظل عمل السلطة في الخفاء؛ ليقع في ذلك الإسلاميين من دون غيرهم: "هل كانت العملية تستحق كل تلك الجثث التي كانت على الأرض؟ قالها لخضر في نفسه وهو يركب السيارة مع الرجال، كان منهارا وهو يفكر أنها عملية تخويف إحدى الصحافيات التي جاءت تزور والدتها المريضة، وانتهت باغتيالها هي وشقيقين لها أحدهما ضابط شرطة أراد حماية أخته فنسي حماية نفسه! كان الدم رهيبا في مدخل البيت، عملية تليق بعنوان الصحيفة في اليوم التالي! قرأ الخبر بعينين مرتعشتين: اغتيال صحفية تعمل في التليفزيون واثنين من أشقائها على يدي جماعة إسلامية! كان يرتعش وهو يقرأ تفاصيل العملية، كأنه يتابع جريمة لا يعرفها، أو لم يُشارك فيها".

هذه الدموية التي اعتادها لخضر باعتبار أن ما يفعله هو من صميم عمله في أجهزة الشرطة والجيش جعله يتخلى عن إنسانيته تماما، ويصبح القتل بالنسبة له عملا عاديا كتفصيلة من تفاصيل حياته اليومية؛ وهو ما جعله يقتل رئيسه السابق في العمل حينما كان يعمل حمّالا في الميناء، وهو الرئيس ابن الشهيد الذي كان يدافع عن حقوق العمال، وتوسط له كي ينتقل في العمل بالمستودع كحارس ليلي. حينما أتت له الأوامر بتصفية أحد النقابيين لم يكن يعرف من هو هذا الشخص، لكنه حينما وقف أمامه عرف أنه رئيسه الذي كان يعطف عليه وساعده ذات يوم، لكن القتل أصبح هو الطبيعي في حياته الذي لا يمكن له التراجع عنه باعتباره مجرد أوامر لا بد أن يؤديها: "بدا له النهار طويلا وقلبه يدق بقوة، ظل يراقب ساعته ويدخن بنهم، ويردد بنفس الصوت: إياكم والخطأ! كان الشخص الذي عليهم تصفيته نقابيا بدأ يسطع نجمه وسط العمال والإعلام، فلم تكن تخلو صحيفة من صورته وتصريحاته النارية التي تثير غضب الكبار، خاصة أنه يُطالب بالعدالة الاجتماعية وحق الشعب بأن يكون ثريا! تلك مطالب تكفي لتضع رأسه في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام! لكنه لم يفهم حرص رئيسه المباشر على أن تتم تصفيته ذبحا، إلا أنه لم يكن ليجادل طريقة القتل، ذبحا أو سلخا، فالقتل واحد، والعملية لن تخرج عن كونها روتينية! كان يعي أنه لا يعمل موظفا لدى الدولة، بل يعمل موظفا لدى أشخاص يعتقدون أنهم الدولة"؛ لذلك حينما اقتربت سيارة رئيسه من الكمين الذي نصبه في الطريق لم يتراجع حينما عرف أنه هو المقصود بالتصفية هذه المرة: "لمح السيارة وهي تخفض من سرعتها، ولمح السائق يضيء النور الداخلي للسيارة كما يفعل أي سائق عند اقترابه من حاجز أمني، اكتشف لخضر أن السائق لم يكن وحده، كان معه شخص آخر، وامرأة في المقعد الخلفي، أحس بالعرق يتصبب منه وهو يفكر أن الجميع سيقتلون الليلة، فلن يسمح بترك شهود عيان! فتح الراكب الثاني باب السيارة ونزل وهو ينظر إلى الرجال قائلا بصوت لا يخلو من استعطاف: من فضلكم لدينا امرأة حامل يتوجب نقلها إلى المستشفى!".

هنا يتحول لخضر إلى مجرد وحش تحركه السلطة فقط وكأنه مجرد آلة للقتل لا مشاعر لها، وهذا ما يؤكده ذات مرة بأن السلطة والمال هما ما يحرك الحياة، وأنه لا غنى لأي منهما عن الآخر؛ لذا حينما يخرج أحد رؤسائه الفاسدين من السلطة ويبدأون في إنشاء شركات تُدر الكثير من المال الفاسد؛ يلجأون إليه باعتباره ما زال في هذه السلطة الفاسدة؛ فهو يمثل السلطة التي ستسهل لهم أعمالهم، وهم يمثلون المال الذي سيدفعونه له من أجل سلطته. هذا الوحش الذي داخله يجعله يقتل رئيسه السابق بكل هدوء، بل ويقتل زوج حبيبته الأولى التي كانت جارته/ نجاة من دون أن يعرف أنه قد قتل الرجل الذي أهانه من قبل حينما كان صغيرا: "خرج الرجل من السيارة، لم يتكلم قط، كان ينتظر نهاية لهذه الوقفة المملة، مدّ أحدهم بطاقات الهوية نحو لخضر الذي نظر إليها مذهولا، يا إلهي، قالها ثانية، سي منصور رئيس عمال الميناء؟ ياه! كم سنة؟ فكر أنه لم يتغير كثيرا على الرغم من الشعر الذي كساه البياض والهالة السوداء تحت عينيه والنظارة السميكة، ما يزال يحتفظ بنظراته الواضحة ورأسه المرفوع أثناء الحديث، كان قلبه يخفق بشدة وهو يفكر أنه سيأمر بقتل الرجل الوحيد الذي كان سببا فيما وصل إليه اليوم، قالها في سره وهو يعيد النظر إلى البطاقة أمامه، فكر أن رئيسه ينتظر مكالمته لينام قرير العين، وفكر في الذين سيكتشفون غدا فجيعتهم في غياب رجلين أحبا الوطن وكرها اللصوص فيه! تنهد بعمق وهو يُعيد الأوراق إليهم، قال بصوت خافت يخاطب أحد رجاله: لا تستعملوا السلاح الأبيض على الرجل الثاني! قالها وابتعد بخطوات مثقلة، عندما وصل إلى سيارته سمع صوت رصاصة، ثم سمع صراخ امرأة ورجل وبعدها ساد صمت قاتل! دخل سيارته وأغلق الباب، وأدار مفتاح السيارة وانطلق عائدا إلى مكتبه ليخبر رئيسه بذات الجملة التي تعوّد قولها له: نم مرتاحا، كل شيء على ما يرام! كانت تلك العملية سببا في ترقيته ليصبح بعد شهر مدير المركز!".

إن السيكولوجية التي تتعامل بها السلطة الفاسدة في إدارة المجتمعات هي سيكولوجية لا مجال فيها سوى للمصلحة فقط، وهذه المصلحة هي في المقام الأول المصلحة الشخصية الضيقة جدا التي تخص أفرادا بأعينهم بعيدا عن المصلحة العامة التي تخص الوطن بالكامل؛ لأن الوطن بالنسبة إليهم هو آخر ما يمكن أن يفكروا فيه؛ لذلك قال له أحد الضباط الذين قاموا بتدريبه ذات يوم: "في عملنا ليس هنالك مكان للتعاطف، أنت تعمل في مكان لا مكان فيه لغيرك! أن تكون أو لا تكون. أن تعيش أو تموت، ولا شك أنك ستختار الحياة! استغرب من حجم الكلمات التي كان يرددها مراد بحماسة بدت مبالغا فيها، نظر إليه نظرة عميقة وأضاف: التعاطف مع الضحايا يعني عدم قدرتك على تمييز خطورتهم الحقيقية، لأن العاطفة تفتح الباب للشفقة، ولا مكان للشفقة في عملنا!".من خلال هذه العقلية الإجرامية لمجموعة من الفاسدين الذين يديرون شؤون الوطن يتم التعامل مع الأوطان من أجل المزيد من إفقارها وإفسادها في مقابل أن يزيدوا هم ثراء على حساب الجميع الذين يتم إفقارهم، وتجويعهم، والتلاعب بعقولهم، وقتلهم في نهاية الأمر.

هذه الحياة الزائفة المصطنعة بالكامل من قبل السلطة؛ كي يعيش المواطن والمجتمع في وهم الخوف والذعر الذي لا ينتهي باعتباره حقيقة لا يمكن الشك فيها، مما يدل على أن معظم ما يدور حولنا من الممكن التشكيك فيه، وأن ما نراه كحقيقية لا يمكن الشك فيها من الممكن جدا أن تكون مجرد وهم عظيم تم إيهامنا به. نقول أن هذا الزيف والوهم يؤدي إلى أوهام أكبر يصدقها من صنعوا الأوهام أنفسهم؛ فلخضر القاتل الذي قام بالكثير من الأعمال القذرة وقام بقتل الكثيرين الذين لا ذنب لهم يصبح فجأة جنرالا لا توجد سلطة فوقه يهابها، بل هو السلطة الأكبر في المجتمع الجزائري، ويتعامل  معه الجميع باعتباره من أبناء الوطن الشرفاء الذين حموه وعرّضوا حياتهم للخطر من أجل حمايته: "يذكر جيدا اللحظة التي صافح فيها الرئيس مصافحة حارة وهو يقلده وسام الشرف كرجل شجاع استطاع أن يحمي البلاد من الأعداء الافتراضيين! استطاع في السنوات الأخيرة أن يتحول إلى شخص محترم، تلك أشياء يستطيع قراءتها في عيون الذين يسعون إلى مصافحته والحديث معه ولو لدقائق، مثلما يراها في العناوين الصحفية التي تتكلم عنه بطريقة وقورة! استطاع أن يصنع قوته من ضعف الآخرين ومن الظروف التي ساندته، إلى أن أصبح جنرالا". أي أن التاريخ يتم تزييفه بالكامل، ويصبح القاتل والسارق والناهب هو حامي الوطن والرجل الشريف في نظر الجميع، بينما يتم تصفية الشرفاء من أبناء الوطن المنهار تماما.

ربما بسبب هذا التزييف للتاريخ في نظر الجميع تقوم السلطة بالتخلي عن العنف فيما بعد بطريقة برجماتية تماما؛ حيث أتى العنف الذي اتبعته لسنوات بأكله، وبات عليها توقيفه من أجل المزيد من المصالح التي تبتغيها السلطة فقط، وليس من أجل مصالح الوطن والمواطن: "لقد أصبح أقوى من ذي قبل والضباط أكثر انحيازا لرؤيته الواقعية، حتى الضباط القدامى الذين لم يستسيغوا رتبته الجديدة، أيدوا نظرته القادمة للأوضاع، لأنهم كانوا بحاجة إلى السلم إذ لم يعد من الممكن الإبقاء على مصالحهم في ظل تزايد رقعة العنف. كانوا يرفضون الهرب الجماعي للمستثمرين الأجانب، فقرروا إقناعهم أنهم استطاعوا تخليص البلد من الإرهاب ليعودوا، ويستثمروا في بلد الشهداء كيفما شاءوا! تلك هي الواجهة الجديدة التي سمحت للكبار بتبييض أموالهم التي جمعوها في سنوات العنف. أضاف بنفس الحماس: سنطارد الإرهابيين حتى نخلص البلد منهم. لن نسمح باستمرار هذه المهزلة. هذا واجبنا الذي عليه نحيا وعليه نموت!". إن هذا الحديث في الجملة الأخيرة التي قالها لخضر أمام مجموعة من الضباط الصغار الذين هم تحت إمرته، ومنهم ابنه الضابط حسين الذي لا يعرف أنه يجلس أمام أبيه، هو حديث يستدعي الكثير من الدهشة والسخرية معا؛ فمن قام بمعظم العمليات الإرهابية هو لخضر ومن يعمل معهم من أبناء السلطة الفاسدة، أي أنه لم يكن هناك في الحقيقة ما يمكن أن يُسمى بالإرهاب، كما أن ما يثير السخرية أن لخضر بات يتحدث بكل ثقة أمام الآخرين عن الواجب في حين أن حياته بالكامل كانت عبارة عن خيانات متكررة لكل من وقعوا في طريقه ذات يوم؛ لذلك تتعملق الدهشة أكثر حينما نقرأ: "كلما استطاع أن يقضي على جماعة إرهابية ما يجتمع بزملائه الضباط ليخبرهم بانتصاراته التي يحققها. بالقول لهم: نحن شركاء في هذه الانتصارات لأننا نحب الوطن ولأننا نريد له الخير. الناس تعبت من الموت والعنف، وما كنا لنترك الأبرياء يموتون بلا سبب! نحن رجال هذا البلد ويجب أن نحبه إلى درجة الموت في سبيله". أي أن السلطة باتت تصدق أوهامها والكذبة العظيمة التي نسجتها في حياة المواطنين الجزائريين وأمسوا يرون أنفسهم هم من يحمون الوطن من أعدائه، في حين أنهم العدو الحقيقي لهذا الوطن، هم وغيرهم من الساسة في معظم أوطاننا العربية الذين يمارسون نفس الأسلوب الجرائمي في حقوق شعوبهم.

حينما يعرف الجنرال لخضر أن الضابط الشاب حسين زرياب الذي جاء إلى إدراته جديدا ليكون تحت إمرته هو ابنه الذي تخلى عنه منذ سنوات طويلة، يحاول التقرب من الابن حينما تتحرك مشاعره نحوه، لكنه يخشى أن يخبره بالحقيقة؛ حيث يظن الابن أن أباه ميتا. يعرف لخضر أن حسين يحب فتاة اسمها نجاة، وتكون المفاجأة حينما يعلم أن هذه الفتاة هي ابنة نجاة جارتهم/ أول فتاة أحبها في حياته، وهي نفس الفتاة التي قتل زوجها الضابط في إحدى عمليات الاغتيال التي قام بها. لكن الابن يُصاب في إحدى العمليات التي يقوم بها ويتم نقله إلى المشفى بين الحياة والموت، ويعترف لخضر لنجاة الأم بكل شيء حدث في حياته كأنه طقس من طقوس التطهر بينما ينتظرون زوال الخطر عن ابنه في الرعاية المركزة.

تأتي رواية "في المدينة ما يكفي لتموت سعيدا" للروائية الجزائرية ياسمينة صالح باعتبارها من الروايات المهمة والنموذجية التي تتحدث عن الفساد السياسي في أوطاننا العربية، مُعبرة فيها عن مرحلة سوداوية في تاريخ الجزائر، وهي المرحلة التي أودت بحياة مئات الآلاف من الجزائريين من أجل تكريس المزيد من الفساد في الوطن لمجرد مجموعة من المرتزقة الذين تولوا زمام السلطة السياسية؛ ففضلوا الاستفادة من هذه السلطة بالفساد وإفساد كل ما يدور حولهم، مستولين في ذلك على كل خيرات الوطن التي احتكروها لأنفسهم فقط، باعتبارهم هم فقط أصحاب هذا الوطن، ولعلها لم تبالغ فيما ذهبت إليه؛ فهو نفس الفساد ونفس الأسلوب الذي يدور في معظم أوطاننا العربية الفاسدة سياسيا.

كما لا يمكن إنكار أن الرواية كان أهم ما يميزها هو تقشفها الكامل من تكلسات وتزيدات اللغة أو الحدث؛ حيث كانت الروائية شديدة الحرص على عدم التزيد في العالم الذي تتحدث فيه، وعدم العودة إلى تكرار أي أحدث سبق أن تحدثت عنها من خلال لغة قوية وسليمة وتؤدي إلى المعنى مباشرة من دون أن شكل من أشكال المداورة.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد أغسطس 2021م

 

 

 

 

 

 

 

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

محمود الغيطاني: الشكل العام للسينما المصرية كان الثبات والتأمل

يعيش النقد الفني العربي في السنوات الأخيرة عُنفا رمزيا يُمارس عليه في خفاء من لدن مُؤسسات عربية تعمل على تغذية لاشعور القارئ بكون الرواية غدت أسلوب نمط الحياة العربية المُعاصرة، بل تذهب أكثر من ذلك إلى إصدار جوائز خيالية حول أعمال روائية عربية، مُقابل أخرى مُحتشمة تُعنى بدراسة فنون الصورة وما يرتبط بها من تشكيل وسينما وفوتوغرافيا. الفرق أن الأولى تعيش في غيبوبة الماضي وتفتخر بفن أدبي يُنسب تاريخيا ومعرفيا إلى الغرب، أما الثانية فهي تشتغل في صمت وتتنطع إلى العيش في قلب المُجتمعات العربية وتحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، بحكم الدور المحوري الذي أضحت تلعبه الصورة في حياة الفرد على مستوى العالم وتكريس ثقافة مُغايرة تستبدل مفاهيم القراءة والاستيعاب والإدراك بأخرى تتعلق بالمرئي والتصور واللامرئي والحدس والرمز.

محمود الغيطاني

بهذا المعنى فهي لا تقلب كياننا وتفكيرنا، وإنما نمط حياتنا وإدراكنا وتصورنا للعالم، الذي يعيش فينا قبل أن نعيش فيه، كما هو الأمر مع الناقد المصري محمود الغيطاني الذي لم تمنعه كتابة الرواية والنقد الأدبي من مقارعة صناع الصخب داخل الفن السابع، بل راكم في ذلك عدة دراسات نقدية، تقوم على تشريح السينما العربية وتفكيك مُتخيلها وفق زوايا وسياقات ومعارف لا تخرج من الجغرافيا العربية. وإن كان الغيطاني يكتب في الأدب والنقد السينمائي، فإنه لا يعتبر ذلك شغفا أو نزوة عابرة تجعله أسير سحر الصورة السينمائية، وإنما يُقبل على الفن السابع بأدوات معرفية بحثية تجعله يُشرح خطابها، ويبرز ظواهرها وينحت مفاهيمها، بما يجعل الفيلم ظاهرة سينمائية يتوسل أدوات حداثية للتعبير عن العالم، ثم لأنه وسيط بصري يفرض معرفة مُغايرة عن الكتابة الأدبية ودقة في النظر إلى مشاهد الصورة وأنماطها. لذلك حرص الغيطاني قبل أسابيع قليلة على إصدار الجزأين الأول والثاني من مشروع نقدي حول السينما بعنوان "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية عن دار فضاءات بعمّان. بهذه المُناسبة كان لنا هذا الحوار الخاص معه حول الكتاب:

 حاوره: أشرف الحساني

1.     محمود الغيطاني، أوّلاً، تكتب في القصّة والرواية والنقد الأدبي وبنفس الشغف تُمارس الكتابة النقدية السينمائية، وقد صدر لك داخل هذا اللون الفنيّ عدّة دراسات نقدية تناول واقع السينما العربيّة من زوايا مُغايرة. كيف يهتدي المرء وجدانياً إلى التأليف في كل هذه المجالات، علماً أنّ لكل فنّ كتابته وخصائصه وأفكاره؟

الأمر لا علاقة له بالوجدان، بل بالمعرفة وسعة الاطلاع، والجدية والدأب فيما ترغب أن تفعله، وكل كاتب يستطيع الكتابة في كل المجالات إذا ما امتلك المعرفة الحقيقية والجادة التي تؤهله لذلك. ثمة فارق عميق بين أن تكون الكتابة لديك هما حقيقيا لا مناص منه حتى أنك ستشعر بالحزن، وتلوم نفسك على اليوم الذي لم تنجز فيه، وبين أن تكون الكتابة مُجرد وجاهة اجتماعية؛ كي يُقال عنك الكاتب فلان. كتبت في كل هذه المجالات واستمتعت بها، بل وأبدعت فيها، ولكل منه مُتعته، لكن يحدث أن تفقد مُتعتك بشكل فني ما فتزهده، وتستقر على لون بعينه. وهذا ما حدث معي، فقدت مُتعتي في كتابة الرواية، والقصة؛ فأعرضت عنهما رغم براعتي في صياغتهما حتى إني قد أكتب لك قصة من الفراغ إذا ما طلبت مني كتابتها لحظيا وستكون جيدة جدا على المستوى الفني، إلا إني سأراها فاقدة للروح لأنها محض صناعة. لذلك أرى إني في اللحظة التي أفقد فيها المُتعة تجاه أي شيء في الحياة لا بد من الإعراض عنه مُباشرة؛ لأني لا يمكن لي إرغام نفسي على الاستمرار فيما لا يكسبني المُتعة، بل سيمنحك الرتابة، حينها لن يكون لديك شيئا لتقدمه، وأنا مُقتنع أن من يشعر بأنه لم يعد لديه ما يقوله؛ فعليه أن يصمت احتراما لما فعله في السابق، وشكله، وتاريخه، والكتابة في حد ذاتها مُتعة خالصة كغيرها من المُتع. وهذا ما حدث معي، صحيح أن ثمة رواية انتهيت منها مُنذ عدة سنوات، وكانت ضخمة قد تصل إلى الألف صفحة، وصحيح أن البعض قرأ منها مقاطع ورأى أنها جيدة، لكني رأيت أنها لا تليق بي وبما أنتجته من قبل؛ لذلك تخلصت منها ورفضت نشرها. أعرف إني إذا ما رغبت في إعادة كتابتها بشكل جيد سأفعل، لكني فقدت المتعة الحقيقية؛ لذا لم أعد إليها مرة أخرى، ربما كان هذا الموقف- فقدان المُتعة- هو ما يجعلني أكتب في رواية أخرى على فترات مُتباعدة كثيرا، لكني لا أعود إليها إلا في لحظات الانتشاء بالكحول فقط. هذه هي اللحظة الوحيدة التي أجد نفسي راغبا في إكمالها والاستمرار فيها، ولا أنكر إني مُعجب وراضٍ عما كتبته فيها حتى الآن، لكني حينما أحاول العودة إليها لاستكمالها أثناء الوعي الكامل أجد في نفسي الرغبة في عدم الاستمرار فيها والإعراض عنها. خلاصة الأمر تؤكد إني أنجزت ما أنا راضٍ عنه وفخور به في مجالي القصة والرواية، لكني لم أعد أستمتع بهما، ووجدت مُتعتي الحقيقية في الكتابة النقدية الأدبية والسينمائية، وإن كنت لا أنكر أن الكتابة في السينما هي الأقرب إلى نفسي، وهي الأكثر مُتعة حتى الآن، أي أنني قد جربت في حياتي كل هذه المجالات الكتابية، ووجدت راحتي في النقد الأدبي والسينمائي اللذين يُعدان شكلا مُهما، ولا يقل أهمية عن الكتابة في الرواية والقصة؛ فالنقد إبداع موازٍ، تماما كما هو الأمر في القصة والرواية، وإن كنت أنا بشكل شخصي أرى أن الإبداع النقدي أكثر مُتعة من أي شيء آخر. لكن ثمة نقطة خطيرة لا بد من التوقف أمامها في العملية النقدية؛ فالنقد في وجه من وجوهه من المُمكن اعتباره الكذب بإقناع، أو صناعة الأكاذيب المُقنعة، أي أن الناقد قادر على تزييف الحقائق- إذا ما أتقن العملية النقدية وخبرها جيدا- فيصنع الأكاذيب، بل والتلفيق بشكل مُقنع للمتلقي من خلال معطيات لا بد أن تؤدي إلى نتائج مُحددة، ومن هنا تأتي خطورة العملية النقدية التي لا يحكمها في نهاية الأمر سوى ضمير الناقد فقط الذي إذا ما خالف هذا الضمير سيصنع من بعض الكتاب أكذوبة ويجعل لهم مكانة هم لا يستحقونها، في حين يحط من شأن كتاب يستحقون ما هو أفضل، وبذلك يكون مزورا للتاريخ الثقافي باسم العملية النقدية!

 

2.      ما الدافع اليوم في زمن اللا معنى، الذي نعيشه أنْ يهمّ المرء إلى اصدار كتاب حول السينما في 5 أجزاء، أمام العنف الرمزي الذي غدت تُمارسه بعض المؤسّسات داخل العالم العربي على مفهوم الصورة وكافّة فنونها السينمائية والفوتوغرافية والتشكيليّة وتحوّلاتهما الجماليّة؟

هما دافعان في حقيقة الأمر: الأول منهما عام يخص مفهوم الصناعة السينمائية في حد ذاتها، هذه الصناعة التي تكاد أن تتوقف في الآونة الأخيرة بسبب الصعوبات الإنتاجية، والظروف الاقتصادية التي يمر بها العالم، والمدّ الأيديولوجي الديني الذي يتزايد أثره في الدول العربية بشكل مُخيف، وغير ذلك من ظروف من شأنها إيقاف دوران عجلة الصناعة السينمائية. هذه الصناعة المُهمة التي تشكل الوعي الجمالي لدى القطاع الأكبر من الجمهور في كل مكان من العالم لمقدرتها على خطاب جميع الثقافات، وكل الطبقات الاجتماعية، والتي تضم داخلها كل الفنون التي نعرفها لا بد من الاهتمام بها والبحث فيها وفي آلياتها الجمالية. وجدتُ أن هناك ثمة ظواهر كانت موجودة في تاريخ السينما المصرية، وهذه الظواهر لا بد من تحليلها وتأملها للوقوف على أسبابها السياسية والاجتماعية والثقافية، كما أن هذه الظواهر لم يتوقف أمامها النقاد بالبحث والتأمل من قبل، بل تجاهلوها وكأنها غير موجودة، أي أنهم لم يتساءلوا- والتساؤل هو الشرارة الأولى لأي بحث- فتوقفت أمامها محاولا البحث فيها، كما أن السينما المصرية صاحبة التاريخ الطويل الذي وصل إلى قرن وربع القرن هي أعرق سينما في العالم العربي، والأكثر غزارة إنتاجية، ومن ثم فهي تستحق الكثير من الاهتمام بالبحث والتحليل بعيدا عن المُؤسسات التي لا يعنيها الفن بقدر ما يعنيها السياسة والبراجماتية، صحيح إني من خلال هذا المشروع أقوم بمجهود ضخم أحرى بفريق من الباحثين القيام به، لكني مُستمتع بما أفعله وحدي؛ لأنه في النهاية سيُنسب لي فقط.

أما السبب الثاني فهو شخصي بحت، رأيت من خلال تأملي في السينما أن جل الكُتب التي تصدر في السينما ليست أكثر من كُتب تجميع للمقالات التي سبق أن كتبها النقاد في الدوريات، أي أنهم لا يتأملون ولا يبحثون في السينما، صحيح أن كتب تجميع المقالات لا يمكن التقليل من شأنها، لكننا في حاجة ماسة إلى الكتب البحثية في المجال السينمائي، وهذه الكتب نادرة إلى حد بعيد، فرأيت أن أضيف إلى رصيدي وتاريخي ما يمكن له أن يبقى فيما بعد بمشروع بحثي مُختص بالسينما المصرية وظواهرها التي رأيتها، ولا يمكن لي هنا الادعاء بامتلاك الصورة الكاملة من دون غيري، لكني أزعم إني حاولت الإحاطة- بقدر ما أستطيع- بالموضوع الخاص بالبحث، وبالتأكيد سيأتي غيري من الباحثين لاستكمال النقص الذي شاب مشروعي- إذا ما كان ثمة نقص- وهذا هو الشكل الطبيعي للبحث دائما، حيث يسير في حلقات يكمل بعضها بعضا، ويضيف دائما على ما سبقه. باختصار، هذا المشروع أصنع من خلاله مجدا يخصني في مجال الكتابة.


 

3.     صَدَرَ الجزء الأوّل من المشروع النقدي قبل عدة أسابيع بعنوان "صناعة الصخب: ستون عاماً من تاريخ السينما المصرية"(دار فضاءات) وفيه حدّدت بعض خصائص ومميّزات السينما المصرية في كون أنّ "الشكل العام للسينما المصرية كان هو الثبات والتأمّل فقط". على أيّ أساس معرفة استندت إليه والذي قادك في النهاية إلى هذا الطرح المعرفي حول حركية الفيلم المصري، رغم ما ألمّ به من تحوّلات في الآونة الأخيرة، وإنْ كُنت حقيقة مُقتنعاً بفكرتك؟

كي تصل إلى مثل هذه النتيجة- ثبات السينما المصرية، أو استاتيكيتها- عليك تأمل تاريخ السينما المصرية مُنذ بدايتها، كيف بدأت، وكيف تشكلت، وكيف سارت، وإلام وصلت، إن المُتتبع لتاريخ السينما المصرية منذ بدايتها قد يلحظ أنها تكاد أن تكون سينما استاتيكية- باستخدام مُصطلحات الفيزياء- أي أنها تكاد أن تكون سينما ثابتة، غير مُتحركة، راكنة في مكانها، راكدة بشكل ظاهري، ورغم أن هذه المُلاحظة لا يمكن أخذها بشكل مُطلق، أي أنها ليست يقينية الثبات أو الركود- فثمة حركة فيها، لكنها لبطئها لا يمكن مُلاحظتها بسهولة، وإن كانت تعمل على تشكيلها- إلا أن الشكل العام للسينما المصرية كان هو الثبات والتأمل فقط. وبما أن السينما هي أكثر الفنون تأثرا بما يحيطها، لما تتميز به من حساسية شديدة تجعلها هي الأقدر والأسرع على التعبير عما يمور داخل المُجتمعات، أي أنها المرآة الأنصع للمُجتمع؛ فلقد كانت سريعة التأثر بما يحدث من حولها من تغيرات سواء على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو السياسي- لا سيما الاهتزازات السياسية- وهذا يعني أن حركتها وديناميكيتها لا تتأتى لها إلا من خلال مؤثر خارجي. وبما أن السينما المصرية تكاد أن تكون استاتيكية، أي أنها ليس لديها من الطموح الكبير ما يجعلها تنطلق فجأة من دون مؤثر خارجي، وبالتالي تكتفي بنقل ما يدور من حولها من أمور؛ فلقد كانت مُعظم الأفلام التي قدمتها مُجرد أفلام تتحدث عن قصص الحُب، والفوارق الاجتماعية بين أولاد الذوات، أو الباشوات، وبين المخدومين في قصورهم- كان يطلق عليها سينما التليفونات البيضاء- فرأينا "أولاد الفقراء" 1942م للمُخرج يوسف بك وهبي، و"بنت ذوات" في نفس العام لنفس المُخرج، أي أنها لم تخرج كثيرا عن إطار القصور وحياة الرفاهية، أو الأفلام الهزلية في هذه الفترة، صحيح أن ثمة أفلام مُختلفة عن هذا السياق العام ظهرت في هذه الآونة مثل فيلم "العزيمة" 1939م للمُخرج كمال سليم، و"العامل" 1943م للمُخرج أحمد كامل مُرسي، و"السوق السوداء" 1945م للمُخرج كامل التلمساني لكنها كانت من قبيل الأفلام القليلة التي تتأثر بما يدور من حولها، لتعود السينما مرة أخرى إلى الركود والثبات فيما تقدمه؛ فلقد تأثر كامل التلمساني على سبيل المثال بالحرب العالمية الثانية وما يحدث فيها، وأثر ذلك على المُجتمع المصري؛ ما حدا به إلى صناعة فيلمه المُختلف عن السياق العام للسينما المصرية. حتى بعد حدوث الانقلاب العسكري المصري في 1952م ظلت السينما المصرية لفترة شاخصة مُتأملة مُراقبة حذرة مُتحسسة لخطاها تجاه الحدث الجلل الذي هز أركان المُجتمع المصري إلى أن بدأت بالتفاعل معه والتعبير عنه- سواء بالإيجاب أم بالسلب- فثمة الكثير من الأفلام التي بدأت بالتفاعل مع الانقلاب تخوفا وخشية وتملقا، وغيرها من الأفلام تفاعلت اقتناعا وتفسيرا وتأملا ونقدا. أي أن الوصول إلى هذه النتيجة- استاتيكية السينما المصرية- لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تأمل تاريخها مُنذ بدايتها مع أول فيلم روائي طويل "ليلى" 1927م، مرورا بتطورها وتشكلها فيما بعد لنتأكد من هذا الثبات الذي لا يتحرك إلا مع الاهتزازات الخارجية الكبرى، لا سيما السياسية منها.

 

4.     في عنوان الكتاب ورد مفهوم "تاريخ" ويبدو ذلك مُغايراً لطبيعة الكتابة النقدية العربيّة المُغيّبة ذات الهاجس الحفري، عوض النقدي فقط، بحكم ما تُعانيه السينما من توثيق وتأريخ. على هذا الأساس، هل يُمكن أنْ نقول أنّ الكتاب يُمكن اعتباره مدخلاً لكتابة تاريخ للسينما المصرية، خاصّة وأنّه عبارة عن عدّة أجزاء؟

بالتأكيد لا، لم ألجأ في مثل هذا البحث الطويل إلى التأريخ للسينما المصرية، ولا أدعي إني أقوم بمهمة تأريخية، فهذا مجال له من يكتب فيه، وإن كانوا قلائل جدا، وكتابي بعيد عنه كل البُعد، لكني قصدت من العنوان إني أتناول فترة تاريخية من تاريخ السينما المصرية، وهي فترة الستون عاما من 1959م حتى 2019م، هذا القطاع التاريخي في السينما المصرية رأيت أنه الفترة التي تعبر بصدق ووضوح عن صناعة الصخب الذي قصدته في السينما المصرية، ومن هنا بدأت في تعريف ماهية الصخب السينمائي الذي رأيته، وقمت بتعريفه ووضع أسسه، والتوقف أمامه بالبحث والتحليل محاولا إحاطته من جميع جوانبه، والمُؤثرات التي أدت إلى مثل هذا الصخب في الصناعة، وهنا لا يمكن إنكار أن التغيرات السياسية المصرية- ما بين مد وجزر- قد تركت بالأثر الأكبر على صناعة السينما؛ وبالتالي كانت السياسة هي المُحرك الأول لهذه الصناعة سواء بالإيجاب أم بالسلب، أي أنها دائما ما تترك بأثرها على الصناعة، وتؤدي إلى المزيد من صخبها الذي تناولناه بالبحث.

 

5.     ماذا عن طبيعة الأفلام التي احتكمت إليها في تأليف للكتاب. هل ثمّة أفلام مصرية بعينها لامست شغفك وقادتك إلى اجتراح أفق نقدي مُغاير؟

بما أن طبيعة الكتاب تم تقسيمها إلى حقب تاريخية، أي تناول كل عشر سنوات مُنفصلة والنظر إلى ما كان فيها بالبحث والتحليل- مع عدم إهمال أن كل حقبة كان لها تأثيرها على ما يليها، أي أنه لا يمكن الفصل بين تلك الحقب التاريخية بشكل حاد وباتر بل كان ثمة تداخل بينها- فلقد رأيت أنه كان لزاما عليَ تناول عشرة أفلام في نهاية كل حقبة بالدراسة النقدية التطبيقية- يمثل كل فيلم منها عاما من هذه الحقبة- وإعادة النظر في جماليات هذه الأفلام، أو إعادة استخراج الجماليات السينمائية في أفلام كل حقبة من هذه الحقب؛ فالأفلام السينمائية القديمة في حاجة ماسة إلى إعادة التأويل والتفسير النقدي، ومن هنا كنت أختار- بعد انتهاء الجانب البحثي الذي يخص كل حقبة- فيلما واحدا من كل عام خاص بهذه الحقبة، وهذه الأفلام لها علاقة وطيدة بجوانب البحث النظري الذي سبق الحديث عنها، وما تحدثت فيه وقمت بتحليله، أي أن الأفلام التي قمت بالتطبيق عليها كانت أفلاما تخص ما ذكرته في البحث من ظواهر حدثت في السينما المصرية، ولا بد من التطبيق النقدي عليها كنماذج.

 

6.     السينما المصرية كنزٌ لا يُنضب بالنسبة للنقاد، لا سيما داخل سينما يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وغيرهم. وهي موجة كان لها بالغ الأثر في تأجيج لهيب السينما المصرية وتغذيتها وموضعتها داخل سياق عالمي. استناداً على عالم الكتاب، إلى أيّ حد في نظرك حظيت السينما المصرية بالمُتابعة النقدية الحصيفة بالعالم العربي والمُستندة على المَعارف والسياقات والمناهج المعاصرة وتوليفها مع الفيلموغرافية الجديدة المُنتجة في مصر أو خارجها؟

دعنا نتفق أولا أن عدد النقاد السينمائيين الواعين لآليات صناعة السينما وطبيعتها الخاصة، والقادرين على التحليل النقدي للفيلم السينمائي بجدية، واستخراج جمالياته الأسلوبية، ومفرداته البصرية في المنطقة العربية، لو حاولنا عمل حصر عددي لهم لن يتجاوزوا العشرين ناقدا على أكثر تقدير- وربما أكون مُبالغا في هذا الرقم كثيرا- أي أن ثمة أزمة نقدية سينمائية حقيقية في المنطقة العربية، هذه الأزمة المُتفاقمة سنُلاحظها فيما أُطلق عليه أنا الفوضى النقدية- إذا ما جاز لنا التوصيف- والتي تعني أن كل من يكتب تلخيصا لأحداث الفيلم السينمائي- لا سيما من صحفيي الفن في الصحف- يطلق على نفسه ناقدا، رغم أنه لم يكتب نقدا للفيلم، أو تحليلا لجمالياته، بل مُجرد تلخيص لأحداثه؛ فدور الناقد السينمائي ليس تلخيص أحداث الفيلم، بقدر الحديث عن أسلوبيته، وجمالياته الفنية، وأسباب لجوء المُخرج أو المونتير أو المصور أو غيرهم إلى استخدام أمر ما في فيلمه، فثمة مُخرج، مثلا، يفضل استخدام المصور للكاميرا المحمولة على الكتف؛ ومن ثم تكون الصورة مُهتزة وغير ثابتة، هنا لا بد للناقد من تفسير الأمر للمُشاهد ومعنى استخدام هذا النوع من الكاميرات بأن يفسر له أن المُخرج إنما يرغب في إشعار المُشاهد معه بالقلق والتوتر وعدم الارتياح، أو أنه يحاول إكساب المشهد، أو إيهام المُشاهد بتسجيلية الحدث، وهناك بعض المُخرجين قد يلجأون للتصوير بالأبيض والأسود، ولكن ثمة عناصر أخرى داخل إطار الكادر بالألوان رغم أنها مُحاطة بالأبيض والأسود مثلما فعل المُخرج الدانماركي لارس فون ترير في فيلمه المُهم Europa أوروبا 1991م

، فعلى الناقد، هنا، تفسير السبب الذي دفع المُخرج لذلك، وهل كان الأمر في محله أم لا، وهي من الأمور المُهمة التي يقوم بها النقد، أي أن دور الناقد هو أن يكون جسرا بين صانع الفيلم ومُشاهده؛ فثمة أفلام عديدة تكون عصية على الجمهور، وهنا يأتي دور الناقد في التقريب بين العمل ومُتلقيه. أما عن التناول النقدي، والمُتابعات الصحفية للأفلام المصرية على طول تاريخها، فلقد كان لها نصيب الأسد، ليس لأن السينما المصرية هي الأفضل، بل لأنها الأقدم تاريخيا، والأغزر إنتاجا من حيث الوفرة العددية. صحيح أننا لا نستطيع التأكيد أو الجزم بأن كل المُتابعات المكتوبة عن السينما المصرية هي مُتابعات قيمة، أو قادرة على فهم وتحليل الفيلم- موضوع المُتابعة- لكننا في ذات الوقت لا يمكن لنا إنكار وجود العديدين من النقاد لا سيما اللبنانيين والمغاربة الذين يفهمون في صناعة السينما وكيفية تناولها نقديا بشكل جيد. إذن، فالسينما المصرية لاقت الكثير من الاهتمام النقدي، سواء كانت الكتابة عنها نقدا مُتخصصا واعيا، أو مُجرد مُتابعات صحفية، وهو ما يؤكده كتاب "صناعة الصخب"؛ حيث لجأت إلى ما كتبه العديدون من النقاد العرب باعتبارهم مصادر في الكتاب.

 

7.     ما المنهج المُعتمد في تأليف الكتاب، خاصّة وأنّ طبيعة النقد المُتعارف عليه منذ السبعينيات يبدو غير قادر على فك تلابيب الفيلم وتشريح أفقه البصريّ، بسبب التحوّلات الأنطولوجية التي شهدها الفيلم بالعالم العربي في الآونة الأخيرة، والذي يجعل من الكتابة النقدية تبقَ عاجزة إذا ما لم تنفتح عن مناهج معاصرة وعلى معارف برانية عن المجال السينمائي ككلّ؟

اعتمدنا في الكتاب على منهج بحثي يُحدد الظاهرة، ويقوم بتعريفها، وأسبابها التي أدت إليها، وتحليل هذه الأسباب سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، مع الحرص على ذكر الخلافات في بعض السياقات والركون إلى أكثرها توثيقا، ثم التطبيق النقدي على هذه الظواهر من خلال أفلام الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، أي أن الكتاب ينقسم إلى قسمين: بحثي، وتطبيقي، ونحاول من خلال هذين الجانبين الإحاطة- قدر المُستطاع- بالأسباب والنتائج التي أدت إليها. وأنا معك في أن الكتابة النقدية بالفعل ستظل عاجزة إذا لم تنفتح على مناهج مُعاصرة ومعارف أخرى بعيدة عن المجال السينمائي؛ فالناقد السينمائي من المُفترض أن يكون في حقيقته مثقفا موسوعيا؛ لأن السينما تحتوي على كافة أشكال الفنون والمعارف التي لا بد من أن يعيها الناقد بشكل كامل وجيد، ولعل إطار الصورة في حد ذاته- على سبيل المثال- يُعد في جوهره لوحة تشكيلية وعلى الناقد فك رموزها، ولا يعني ذلك أن يكون مُتخصصا في النقد التشكيلي، لكن عليه أن يكون على دراية ما بشيء من الفنون والمعارف الأخرى؛ كي يستطيع تفسير الإطار البصري؛ فبعض المُخرجين، مثلا، مثل المُخرج الصيني وونج كار واي في جل أفلامه لا يصنع مُجرد صورة بصرية، بل لوحة تشكيلية لها جمالياتها وأسلوبيتها الخاصة التي لا بد للناقد أن يعيها جيدا. حتى أننا نستطيع أن نُطلق على وونج كار واي- من خلال أفلامه- هذا مُخرج للوحات التشكيلية؛ حيث يقدم في كل كادر لوحة حقيقية.


8.     من الظواهر السينمائية المُثيرة للانتباه داخل السينما المصرية، تتمثّل في حرص بعض المهرجانات على اصدار كتب فنيّة حول شخصيات سينمائية من ممثلين ومخرجين وكُتّاب سيناريو، رغم أنّ كتابتها تظلّ مرتبكة ويغلب عليها النقد الصحفي الاشهاري الذي يتعامل مع الفيلم كماّدة بصرية تخلق متعة، عوض التفكير والتأمّل في خصوصية الفيلم وتأثيره داخل سياقات مُحدّدة كما فعلت في كتابه وأنت تُقسّمه إلى سياقات تاريخيّة؟

هي ظاهرة فيها الكثير من التسرع والعجلة بالفعل، كما أنها في أغلبها مُجرد كتب احتفائية بمجموعة من الشخصيات السينمائية، ومُعظم هذه الكتب تكون غير ذات قيمة نقدية أو فنية، وسبق لي أن اشتركت في هذه الظاهرة بكتابي "غسان عبد الخالق: سيرة سينمائية" 2014م في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في الدورة التي رأسها الناقد الراحل سمير فريد، ولقد طُلب مني الأمر قبل بداية دورة المهرجان بشهرين فقط، وكان عليّ إنجاز الكتاب في هذه الفترة القصيرة، وبالفعل أنجزته، لكني أوافقك أن هذه الكتب المُتعجلة لا تحمل في باطنها أي شكل من أشكال العمق، ولا علاقة لها بالنقد، وأغلبها لا يستحق الورق الذي طُبع عليه، وهناك الكثير منها الذي يعتمد على تجميع أرشيف صحفي عن أحد الشخصيات الذي يتم الاحتفاء بها، أي أن المؤلف لا يبذل أي مجهود في الكتاب سوى تجميع المادة التي كتبها الآخرون، وأرى أنه لا بد من التوقف عن هذه الظاهرة، وإذا ما رغب أي مهرجان في إصدار كتب مطبوعة فعليهم الاتفاق مع الناقد على كتابته بفترة كافية كي يقدم كتابا مُحترما يليق باسمه، ويليق بالمهرجان.


9.     بما أنّ تكتب القصّة والرواية، ما نصيب الأدب في علاقته بالسينما داخل كتابك هذا، لا سيما وأنّ مرحلة الستينيات والسبعينيات بدت وكأنّها سيناريوهاتها عبارة عن كتب أدبية في الأصل؟

هناك علاقة وثيقة بين الأدب والسينما في كتاب "صناعة الصخب" لا سيما في الجزء الأول من الكتاب، حيث كانت فترة الستينيات هي الفترة الزمنية الذهبية في تاريخ السينما المصرية التي نهلت فيها من الأدب وتحويله إلى الوسيط السينمائي. في هذه الفترة تم تحويل المئات من الأعمال الروائية إلى أفلام سينمائية، وهو الأمر الذي جعلني أضع الكثير من الجداول داخل هذا الجزء، بل ووضعت قائمة طويلة- حاولت فيها الإحاطة على قدر استطاعتي بالأعمال الروائية التي تم تحويلها إلى أفلام سينمائية- بلغت 394 فيلما سينمائيا مأخوذا من أصول أدبية، صحيح إني لا يمكن لي الادعاء بأن هذه القائمة قد تكون نهائية، لكن هذا ما استطعت التوصل إليه أثناء عملي في هذا البحث، وهو ما جعلني أنبه القارئ إلى ذلك بكتابتي: "قائمة تُمثل ما أمكن لنا حصره من الأفلام السينمائية المأخوذة عن أصول أدبية"، كي أكون أكثر أمانة مع من يتلقى الكتاب، وحتى لا يظن أحدهم إني أدعي بأن هذه الأفلام فقط هي ما تم تحويلها إلى السينما من الأصول الأدبية.

 

موقع ضفة ثالثة.

8 سبتمبر 2021م.