الخميس، 2 سبتمبر 2021

الملائكة الساقطة.. سينما الاغتراب في مدينة صاخبة

إن المُتابع لما يقدمه المُخرج الصيني Wong Kar- Wai
بوستر الفيلم
وونج كار واي من أفلام سينمائية تحمل في طياتها أسلوبيتها الخاصة جدا والمُختلفة عما يقدمه غيره من مخرجي السينما في العالم؛ يتأكد له أنه مُخرج صاحب رؤية وموقف من الحياة، هذه الرؤية لا تخص صناعة السينما فقط من حيث التكريس لأسلوبيته التي يختلف فيها عمن سواه من صناع السينما، بل تنسحب أيضا على رؤيته للحياة من خلال منظوره وثقافته وفلسفته التي يرى من خلالها الأشياء. تنسحب على تخيله للعالم داخله، ثم إعادة إنتاجه بشكل مُغاير ومُختلف عما يراه الآخرون، أي أنه مُخرج حريص على إعادة تشكيل العالم، يعمل على هدمه وتشويهه وطمسه تماما؛ كي يعيد تشكيله مرة أخرى بالطريقة التي يراها هو، يتلاعب بالتقنيات السينمائية غير مُلتفت لشكلها التقليدي؛ من أجل تثبيت بصمته الخاصة في صناعة السينما؛ وبالتالي نرى أفلامه من خلال أسلوبيته مُختلفة تماما، وربما مُدهشة أحيانا فيما يسلكه من أساليب في الصناعة.

ثمة مُلاحظة أخرى لا يمكن تجاهلها في سينما وونج كار واي، هذه المُلاحظة تُدلل على خصوصية العالم السينمائي الذي يقدمه المُخرج؛ فمن يرى أفلام كار واي يتأكد له أنه مُخرج صاحب عالم؛ ومن ثم نستطيع القول مُطمئنين: سينما وونج كار واي، أي أن المُخرج هنا يقدم عالما واحدا ذا فلسفة تخصه ورؤية شخصية تحمل الكثير من الدلالات؛ الأمر الذي يجعلنا نرى جل أفلامه تكاد أن تكون فيلما واحدا طويلا يحاول من خلاله التنويع بأساليب وطرق مُختلفة على هذا العالم المُنشغل به- وليس أدل على ذلك من أننا نري في أفلامه العديد من الإشارات والتقاطعات بل والمواقف التي سبق أن رأيناها في أفلامه السابقة تظهر فيما تلاها من أفلام، وكأنما كل فيلم تال مُجرد تكملة لما سبقه، وليس فيلما مُنفصلا عما كان- صحيح أن أفلام كار واي من المُمكن رؤيتها مُنفصلة من دون أن ينقص ذلك من فنيتها أو من العالم الذي يقدمه فيها، لكننا إذا ما شاهدناها بشكل متتال لتأكد لنا أنه يقدم لنا عالما واحدا مُتصلا، حتى لكأنه يقدم لنا حلقات متتالية، ينبني بعضها على بعض من هذا العالم من أجل إكماله وإكسابه المزيد من الكمال الذي يسعى إليه من خلال صناعة السينما.

كار واي مُخرج يرى العالم الشديد الصخب في هونج كونج، يتأمله، يعيد إنتاجه- كمثال على المُدن الكبرى في العالم- وأثر الحياة في مثل هذه المُدن الصاخبة على الحيوات الإنسانية من إفقادها للإنسانية والمشاعر والدفء والتواصل، والخسارات المُتتالية والمتواصلة للحب والعلاقات، أي تدمير الحياة الشخصية لمن يعيشون في هذه المُدن، هي حياة تجعل الإنسان يعيش في عزلة، واغتراب دائم، وكأنما هذا هو الثمن الذي لا بد للإنسان من دفعه مُقابل الحياة في مثل هذه المُدن!

مُخرج يرى الوقت قاس وقاتل، ومُدمر لكل شيء في الحياة، وإذا لم ننتبه جيدا لخطورة الوقت؛ فإنه سيدمرنا تماما بقدرته على إنهاء صلاحية مشاعرنا، وعلاقاتنا، وحيواتنا ذاتها! إنه من المُخرجين الذين يرون الحياة مُعاناة ضخمة من الهجر، والخسران، والاحتياج إلى التواصل الذي لا يأتي بسهولة، فضلا عن توقه الدائم للحرية، أو للتحرر من كل شيء.

شاهدنا هذه الرؤية العميقة، والأسلوبية المُختلفة في العديد من الأفلام التي قدمها للسينما الصينية والعالمية، وهو مُصرّ على الاستمرار في أسلوبيته الشديدة الخصوصية في كل مشروع سينمائي جديد يبدأ في صناعته، حتى أنه لم يعد يلتفت إلى الشكل التقليدي أو الكلاسيكي للقصة داخل فيلمه؛ فهو يقدم لنا حكايات ونتف من الحكايات التي قد لا تتقاطع مع بعضها البعض، أو تتلاقى، بل تظل كل منها مُجرد جزيرة مُنعزلة عن الأخرى وإن كان كل منها يساهم في صناعة الصورة الكلية للعالم الذي يرغب في الحديث عنه، أي أنه يصنع مُنمنمات صغيرة- قد لا تتشابه مع بعضها البعض؛ الأمر الذي يجعلنا نظن أنها نشاز- لكن إذا ما نظرنا إليها نظرة عامة وشاملة وكلية سيتبين لنا أن هذا النشاز المُتفرق يصنع لنا في النهاية لوحة كلية وجمالية مُتكاملة تعبر بصدق عن رؤيته وفلسفته التي يرغب منا أن نتأملها. هو مُخرج لا يهتم بنهايات حكاياته، ولا يعنيه إغلاقها، بل يتركها في مُعظم الوقت مفتوحة لا حل لها، ولا أمل في ذلك، أي أنه لا يفكر في مصائر شخصياته، ولا في حكاياتهم بقدر ما يفكر في العالم كما يراه هو، وكما يرغب في تقديمه من أجل تأمله؛ لذلك يلجأ المُخرج إلى كتابة أفلامه التي يرغب في صناعتها؛ للتعبير عن رؤيته التي يراها، والتي لا يمكن أن يعبر عنها غيره من كتاب السيناريو.

ثمة بصمة أسلوبية لا يمكن تجاهلها في سينما وونج كار واي أيضا، لا سيما أنه يستعين، في جل أفلامه، بالمصور الأسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل القادر على إعطاء المُخرج ما يرغبه تماما من صناعة فيلمه، أي أن ثمة هارمونية بين المُخرج والمصور تجعلهما معا وكأنهما يفكران بنفس الطريقة التي تؤدي إلى نتيجة مُدهشة في أسلوبية صناعة السينما لدى المُخرج؛ حيث الكاميرا المحمولة المتوترة، والاستخدام المُفرط- عن عمد- للحركة البطيئة Slow Motion، والحركة البطيئة المُتقطعة، وأحيانا الحركة الفائقة السرعة لعرض الكادرات، والتنويع بين الأبيض والأسود والألوان، فضلا عن الاستخدام الدائم للإضاءة من خلال لمبات النيون للتعبير عن الجو الذي يرغبه المُخرج، بالإضافة إلى ارتياح المُخرج في التصوير الليلي المُمطر بغزارة، أو تفضيله لعالم الليل على عالم النهار، أيضا عشقه لاستخدام موسيقى البوب للتعبير عن العالم الذي يتحدث عنه.

أي أننا في النهاية، من خلال هذه الأمور جميعها نستطيع القول: إن المُخرج الصيني كار واي آلة سينمائية أسلوبية ذات رؤية مُستقلة بذاتها عن الصناعة السينمائية في العالم؛ لذلك فهو يقدم سينما شديدة الخصوصية، تمتلك من الجماليات ما لا تمتلكها غيرها من السينمات الأخرى.

في فيلمه Fallen Angels الملائكة الساقطة، سنُلاحظ العديد من هذه السمات التي لا يمكن لها أن تخفى علينا لا سيما العالم السينمائي، أو الفيلمي المُتصل الذي لا يمكن له الانفصال عما سبق أن قدمه من قبل؛ فالمشاهد لفيلم وونج كار واي السابق Chungking Express لا يمكن أن تفوته العديد من التقاطعات بينه وبين هذا الفيلم التالي له- وهو ما نلاحظه في عالمه الفيلمي بالكامل من خلال أفلامه المُتعددة، لكن لم لا نقتصر هنا على الفيلمين التاليين لبعضهما البعض رغم أنهما ليسا جزئين مُتتالين، بمعنى أن كل فيلم منهما من المُمكن لنا اعتباره وحدة مُستقلة، لكننا من زاوية أخرى من المُمكن لنا اعتباره عالما مُتكاملا وكأنهما وحدة واحدة إذا ما نظرنا إلى العالم الذي يخصه نظرة أكثر اتساعا وشمولا- ففي الفيلمين ثمة قصص لا رابط بينها بالمعنى التقليدي للرواية، أو الحكاية، وفي الفيلمين يترك المُخرج هذه القصص من دون الاهتمام بإغلاقها أو معرفة مصائر الشخصيات في النهاية، كما نلاحظ دائما اهتمامه القلق بالوقت وأثره على الجميع من خلال تركيزه على الساعات والتواريخ، كما أن علاقات الحب دائما ما لا تكتمل، بل هي عرضة للتحطم والخسارة والخذلان والحرمان الدائم، وجميع الشخصيات تشعر بالغربة والوحدة رغم الصخب الدائر من حولها، فضلا عن رغبتها العارمة في التواصل الإنساني وهو التواصل الذي دائما ما لا يحدث، أو يفشلون في تحقيقه.

نحن هنا أمام مُخرج لا يعنيه الجمهور كثيرا؛ فهو لا يشغل باله به، ولا يفكر فيه، ولا يتساءل كيف سيتلقى هذا الجمهور- المُستهدف الأول من صناعة السينما- فيلمه، بقدر انشغاله بالسينما ذاتها باعتبارها موضوعا جوهريا يقدم من خلالها أسلوبيته وما يفكر فيه، ورؤيته للعالم من خلالها، إنه يقدم لنا السينما كما يراها هو، وما يجب أن تكون عليه من وجهة نظره التي يؤمن بها، وليذهب ذوق الجمهور الكلاسيكي إلى الجحيم فيما بعد، ورغم ذلك فالجمهور في العالم يتلقى أفلامه تلقيا خاصا يتناسب مع أهمية ما يصنعه! هو مُخرج يحتاج إلى جمهور ذي ذائقة خاصة تعنيه صناعة السينما وجمالياتها قبل أي شيء، وبالتالي فالجمهور التقليدي الذي يبحث عن التسلية وإزجاء وقت الفراغ، والحكاية المثيرة ليس في حسبانه!

منذ المشهد الأول من الفيلم Avant Titre- الذي تم تقديمه بالأبيض والأسود- سنُلاحظ الاهتمام البيّن بالوقت وقيمته، وكأنما المُخرج لا يفتأ يدق على رؤوسنا من أجل تنبيهنا لأهمية الوقت، حينما تسأل شريكة القاتل المأجور- قامت بدورها المُمثلة الصينية Michelle Reis ميشيل ريس- هل ما زلنا شركاء؟ فيرد من خلال المونولوج الداخلي، أو التعليق الصوتي الذي يميز جميع ما يقدمه المُخرج من أفلام سينمائية: نحن شركاء عمل مُنذ 155 أسبوعا، واليوم نجلس بجانب بعضنا البعض للمرة الأولى، نادرا ما يرى أحدنا الآخر، أعلم جيدا أن الرجل بالكاد يمكنه التحكم في عاطفته، لكن لا ينبغي على الشركاء أن يرتبطوا عاطفيا.

هذا السرد الصوتي/ التعليق الصوتي الذي يحرص عليه وونج كار واي دائما- حتى أن الحوار عادة ما يكون قصيرا ونادرا ومختزلا في أفلامه- يؤكد لنا قلقه الدائم باتجاه الوقت؛ فهو يُحدد جيدا الفترة الزمنية التي ربطت بينهما كشركاء في العمل؛ مما يدل على هوس المُخرج بقيمة الوقت وأثره، وهو ما سنراه مرة أخرى في مشاهد تالية حينما تقف شريكة القاتل في غرفته وحيدة بينما تعبث بيدها بعقارب الساعة الضخمة على الجدار في إشارة لأثر الوقت، كما لا يفوتنا مشهدها وهي تمارس العادة السرية على فراشه وحيدة مُتخيلة إياه بينما تبدو عقارب الساعة في عمق الكادر، فضلا عن قول هو تشي مو- قام بدوره المُمثل الياباني الأصل التايواني الجنسية Takeshi Kaneshiro تاكيشي كانيشيرو- سمعت الناس يقولون أن لكل شيء تاريخ انتهاء صلاحية، لم أكن مُتأكدا من أن هذا ينطبق عليها هي وجوني- قاصدا حبيبته وحبيبها السابق- أي أن الوقت يترك بأثره القاسي على العلاقات العاطفية حتى أنه يجعلها مُنتهية الصلاحية لتذبل في نهاية الأمر!

إن الجملة السابقة التي قالها هو تشي مو عن حبيبته من الجمل المُهمة التي لا بد لنا من التوقف أمامها في هذا الفيلم للتدليل على ما سبق أن ذهبنا إليه حينما قلنا: إن أفلام المُخرج فيها من الإشارات والتقاطعات من أفلامه السابقة ما لا يمكن تجاهله؛ فهذه الجملة بالتحديد قد سمعناها في فيلمه السابق حينما أكد أحد بطليه بأن العلاقات العاطفية لها تاريخ صلاحية لا بد أن تنتهي عنده، أي أن المُخرج حريص على ربط عالمه السينمائي بالكامل ببعضه البعض من خلال هذه الإشارات أو التقاطعات بين أفلامه، كما أن والد هو تشي مو يدير قصر ونُزل Chungking Express وهو عنوان الفيلم السابق، وفي أحد المشاهد نرى الكاميرا تتأمل إحدى اللافتات في أحد الشوارع، وهي اللافتة المكتوب عليها Midnight Express وهو اسم مطعم التيك أواي الذي كان يلجأ إليه بطلا الفيلم السابق، كما يقول هو تشي مو في أحد المشاهد من خلال التعليق الصوتي: يقابل المرء الكثيرين من الناس كل يوم، بعض الغرباء قد يصبحون أصدقائك، أو حتى كاتمي أسرارك، وهي نفس الجملة التي سبق أن سمعناها من الشرطي الأول في الفيلم السابق حينما اصطدم بالمرأة ذات الشعر الأشقر المُستعار. ولا يفوتنا قول هو تشي كذلك: كنت ثرثارا في صغري، لكن في سن الخامسة أكلت أناناسا مُعلبا مُنتهي الصلاحية، وتوقفت عن الكلام؛ لهذا السبب لدي القليل من الأصدقاء، تبين لي أيضا أنه من الصعب العثور على وظيفة- هل نذكر الفيلم السابق حينما قرر الشرطي الأول بعدما هجرته حبيبته بأن يتناول علب الأناناس المُنتهية الصلاحية؛ لأنها كانت تحب الأناناس، حتى أنه تناول ثلاثين علبة في ليلة واحدة؟- كما لا يفوتنا أزمته في التواصل مع الآخرين، ليس لأنه فقد القدرة على النطق فقط، بل لأن جميع شخصيات المُخرج غير قادرة على التواصل الإنساني وتعجز عن تحقيقه في واقع الأمر. ثمة مشهد آخر مُهم يتقاطع مع فيلم وونج كار واي السابق حينما نرى حبيبة هو تشي تعود في نهاية الفيلم لتظهر في المطعم الذي يعمل فيه، بينما ترتدي ثياب مُضيفة طيران، لمُقابلة حبيب جديد لها ولا تتذكر هو تشي وكأنها لم تقابله من قبل. إن هذا المشهد يذكرنا بحبيبة الشرطي الثاني حينما تذهب إلى مطعم التيك أواي بعد فترة من هجرانه مرتدية ثيابها كمُضيفة من أجل أن تترك له خطاب وداعها.

إذن، فنحن- من خلال أفلام المُخرج المُتتالية- أمام عالم فيلمي مُتكامل، تتقاطع فيه الإشارات والدلالات المُختلفة التي يضعها عمدا في أفلامه من أجل الإشارة إلى عالمه، وإن كان هذا لا يعني أنه يقدم أجزاء مُتتالية أو مُتصلة لفيلم واحد؛ فالمُخرج حريص على كسر إيقاع الحكاية الاعتيادية بقصصه المتناثرة هنا وهناك، وهي القصص التي لا تكتمل، أو يحرص على عدم إغلاقها.

في فيلم Fallen Angels الملائكة الساقطة، نحن أمام قصتين مُختلفتين، لكل منهما عالمها الخاص جدا، كما أنهما لا تتقاطعان كثيرا، أي أن العالمين رغم اشتباكهما نادرا في بعض المواقف، إلا أنهما مُنفصلين تماما، فالقصة الأولى هي قصة قاتل مأجور وونج تشي- قام بدوره المُمثل الصيني Leon Lai ليون لاي- وهو قاتل لا يعنيه أي شيء في الحياة سوى عمله فقط، أي تلقي الأمر بالقتل ليقوم بتنفيذه، هو هنا لا يعنيه من يموتون، ولماذا، بل يعنيه تنفيذ عمله فقط كما ينبغي من أجل تلقي المال في مُقابل ذلك؛ لذلك فهو يقول: مهنة الشخص، غالبا، ما تحددها شخصية هذا الشخص، أفضل شيء في مهنتي، أنه لا حاجة لاتخاذ قرارات، من يموت، وأين، ومتى، كل شيء يتم ترتيبه بواسطة الآخرين، أنا شخص كسول، أحب أن يقوم الناس بترتيب الأمور لي، هذا سبب حاجتي لشريك! أي أنه شخص يبدو ظاهريا وكأنه يتحرك في الحياة من دون أي مشاعر، وإن كنا سنعرف فيما بعد أنه يمتلك الكثير من المشاعر الخاصة، والشعور بالوحدة، والاغتراب، والحاجة للتواصل الإنساني، بل والحاجة إلى التحرر- كجميع شخصيات المُخرج الشاخصة للتحرر من كل شيء.

هذا القاتل المأجور له شريكته التي لا يلتقي بها إلا نادرا؛ فهي تتلقى الأوامر من آخرين من أجل إيصالها له وتنظيم عمله فقط، لكنها رغم ذلك واقعة في عشقه؛ لذلك نراها كثيرا ما تذهب إلى غرفته التي يعيش فيها حيث تهتم بترتيبها، وتنظيفها، والعناية به في غيابه وكأنها عشيقته، أو زوجته، تعبيرا عن حبها له رغم عدم تواصلهما- يذكرنا ذلك بالفيلم السابق حينما كانت تفعل فايا نفس الفعل مع الشرطي الثاني؛ حيث كانت واقعة في حبه من طرفها فقط، وكانت تذهب إلى بيته في غيابه، ومن دون علمه من أجل تنظيفها، وتجميلها، وترتيبها، والعناية به- كما نرى الشريكة تتخيله معها في فراشه؛ فتمارس عادتها السرية وكأنه يشاركها المُتعة، وهو ما عمل المُخرج على تعميقه في مشهد تال للتدليل على الفقد، والرغبة في التواصل، والعشق غير المُكتمل، والحرمان حينما نراها تمارس عادتها السرية على فراشه في غيابه لتبدأ في البكاء بعد وصولها للأورجازم فتعبر لنا عن الشوق والحرمان من التواصل العاطفي معه.

نرى القاتل المأجور وونج تشي في عدة مشاهد ينفذ عمليات القتل التي تأتي له الأوامر بها بقلب بارد، وتماسك نفسي وكأنه يؤدي روتينا يوميا لا غرابة فيه، لكن رغم هذا البرود الذي يواجه به العالم، وكأنه من دون مشاعر ظاهريا، يزول إحساسنا به حينما يضطر إلى الصعود إلى إحدى الحافلات بعد عملية قتل جديدة له؛ فيتعرف عليه أحد الركاب الذي كان زميل دراسة له في طفولته. يخبره هذا الصديق القديم بأنه يعمل في شركة من شركات التأمين، وأنه يرغب في خدمته والتأمين عليه؛ فيقول وونج تشي من خلال التعليق الصوتي الداخلي: كثيرا ما أتساءل: إن كان أي شركة تأمين ستقبل بالتأمين على قاتل مُحترف، أود مُساعدته حقا، لكني لا أعرف اسم من سأضع كمُستفيد.

ربما كانت العبارة السابقة من الأهمية بمكان في السياق الفيلمي ما يجعلنا نتوقف أمامها هنيهة؛ فالشخصية القاتلة هنا تحمل وجها آخر فيه الكثير من السمات الإنسانية رغم ما يقوم به من أعمال، كما أنها تحمل، من وجه آخر، شعورا عارما بالوحدة، والعزلة، والاغتراب، والحاجة للتواصل وتكوين أسرة، أو مُجرد شريك عاطفي فقط؛ فهو يتساءل عمن من المُمكن أن يكون المُستفيد ببوليصة تأمينه إذا ما رغب في فعل ذلك.

إن هذا الشعور بالاغتراب الشديد سنلاحظه في نفس المشهد بشكل أكثر قسوة وعمقا حينما يسأله زميله القديم عما إذا كانت له أسرة أم لا؛ فيخرج وونج تشي صورة له مع امرأة سوداء، وأحد الأطفال الذي يتناول الآيس كريم؛ مما يجعل الزميل يظن بأنهما أسرته، لكن وونج يقول من خلال التعليق الصوتي: قبل بضع سنوات دفعت 30 دولارا لامرأة سوداء لأتصور معها؛ في حالة سألني الناس أقول: إنها زوجتي! الطفل الذي في الصورة اشتريت له آيس كريم فحسب!

المخرج الصيني وونج كار واي
إذن، فالشعور بالوحدة لديه هو شعور مُعذب، وهو ما يحمل في وجه من أوجهه شكلا من أشكال الشعور الإنساني الطبيعي، خلافا لما يبدو عليه من خلال مهنة القتل التي يمارسها ببرود لا مشاعر فيه مُطلقا. كما لا ننسى حينما قدم له زميله القديم قبل مُغادرة الحافلة دعوة لحضور حفل زفافه؛ فيقول وونج تشي لنفسه: لطالما أردت حضور حفل زفاف، لكني أعرف جيدا أنها مُناسبة لا تناسبني!

هنا تتبين لنا فلسفة ورؤية المُخرج وونج كار واي للعالم- وهي الرؤية التي يصر عليها في كل ما يقدمه- إنه الملل، والوحدة، والاغتراب، إنها شخصياته الواقعة دائما في حالة من الشوق للتواصل المُفتقد، والعجز عن تحقيقه، إنها العلاقات المُنبتة التي لا يمكن لها أن تكتمل أبدا، بل سرعان ما تذوب وكأنها لم تكن!

تسكن شريكة القاتل المأجور، بالمُصادفة، في إحدى البنايات التي يسكن فيها هو تشي مو الهارب من السجن- تقاطع بين الحكايتين وإن كان لا يمزجهما، أو يجعلهما تتداخلان، بل تظلان متوازيتين- ونعرف أن هو تشي مو يعيش مع أبيه، وأن أمه قد صدمتها إحدى سيارات الآيس كريم فماتت في صغره، وأنه قد تناول إحدى علب الأناناس المُنتهية الصلاحية ليفقد قدرته على الكلام والتواصل مع الآخرين؛ مما يجعله وحيدا لا يعرف في العالم سوى والده النادر الحديث منذ ماتت زوجته.

الممثل الصيني ليون لاي
لا يجد هو تشي مو عملا له، بل يفضل أن يعمل عملا غريبا، وهو فتح المحلات أثناء الليل بعد إغلاق أصحابها لها في نهاية اليوم؛ حيث يرى أن هذه المحلات ما دام قد تم سداد إيجارها الشهري؛ فهي لا بد من عملها طوال الوقت، لا سيما أن ثمة العديدين من الناس الذين يحتاجون للتسوق وإنهاء حاجياتهم في الليل أيضا؛ لذلك نراه يفتح محلات الجزارة من أجل بيع اللحوم ليلا، أو صالونات الحلاقة، أو محلات بيع الخضروات، أو المغاسل، أو محلات بيع الآيس كريم، كما يحرص من خلال فعل ذلك على إرغام الآخرين ممن يقعون في طريقه على الشراء أو تقبل خدماته بالقوة والإكراه حتى يدفعوا له المال في النهاية من أجل التخلص منه وإكراهه لهم!

فنراه يرغم أحدهم على غسيل شعره، أو حلاقه لحيته رغم عدم رغبته في ذلك، كما يرغم إحدى النساء على شراء الباذنجان، وهو ما ترفضه المرأة مُدعية بأنها عازبة وأن شرائها للباذنجان سيجعل الناس يتقولون عليها في إشارة لاستخدامه الجنسي، وتخبره بأنها ستأخذ البطيخ مُرغمة، وويرغم أحد الشحاذين على خلع ملابسه بالقوة والتهديد من أجل غسلها في المغسلة، ويرغم شخصا آخر على أكل كمية لا يمكن تخيلها من الآيس كريم عنوة. إن كل هؤلاء لا يتخلصون منه إلا إذا دفعوا له الكثير من المال.

يقابل هو تشي مو ذات مرة، بالمُصادفة، تشارلي يونغ- قامت بدورها المُمثلة الصينية Charlie Yeung تشارلي يونج- وهي امرأة مُتيمة برجل ما، لكنه لا يرغب بالزواج منها، بل بامرأة أخرى اسمها بلوندي- قامت بدورها المُمثلة والمُغنية الصينية Karen Mok كارين موك- لذلك نرى تشارلي يونج تتحدث في الهاتف مع الرجل، وسرعان ما تتحدث مع بلوندي لتسبها وتهددها إذا ما رغبت في الاستمرار مع حبيبها، وحينما تغلق بلوندي الخط في وجهها قاطعة الاتصال تبدأ في البكاء على صدر هو تشي مو الذي لا تعرفه ولم تقابله من قبل.

الممثل الياباني الأصل التايواني الجنسية تاكيشي كانيشيرو
إن مشهد بكاء تشارلي على صدر هو تشي مو رغم عدم معرفتهما لبعضهما البعض، فيه من التأكيد على افتقاد التواصل الإنساني، والرغبة فيه، وفي الدعم ما يؤكد رؤية المُخرج لسكان المُدن الكبرى الشاعرين بالاغتراب الشديد والوحدة القاسية؛ لذلك يقع هو تشي مو في عشقها، ويحاول تعضيدها ومُساندتها، ومُساعدتها  في الخروج من أزمتها العاطفية القاسية- خسران العلاقات والمشاعر الدائم في عالم المُخرج- فيذهب معها إلى إحدى البنايات التي تظن تشارلي أن بلوندي تسكن فيها مُمسكا بزجاجة مولوتوف، وحينما لا تعرف تشارلي الطريق للعثور عليها تبدأ بالبكاء؛ الأمر الذي يجعل هو تشي يأتي لها بدمية ذات شعر أصفر ليبدأ في ضربها بمُساعدتها، بل ويضع رأسها في طرف أحد الأبواب ليغلقه عليها!

إنها الرغبة في التواصل الحقيقي، والشعور العارم بالحب تجاهها، كما يشاركها في الذهاب إلى الاستاد من أجل مُشاهدة كرة القدم، رغم أنها ذهبت من أجل البحث عن حبيبها، أو حتى لمُجرد رؤيته لها في التلفاز!

رغم هذه المُساندة والعشق لها إلا أنها تظل لفترة مع هو تشي، وسُرعان ما تهجره لتختفي؛ الأمر الذي يجعله يقول: يقول الناس: إن الانفصال أمر مُؤلم، وهو ما يشعر به بالفعل بعد هجرانها له، أي بعد انتهاء صلاحية المشاعر التي ربطت بينهما لفترة وجيزة.

الممثلة الصينية ميشيل ريس
حينما تهجره تشارلي يبدأ في تصحيح مسار حياته؛ فيتوقف عن فتح المحلات ليلا وإرغام الناس على الشراء، ويعمل في أحد المطاعم التي يمتلكها شخص ياباني كان مُخرجا سينمائيا سابقا، وهو ما يجعله كثيرا ما يصور أفلام الفيديو لزوجته وأبنائه؛ الأمر الذي يروق لهو تشي كثيرا؛ ومن ثم يبدأ في تصوير كل شيء في حياته من خلال كاميرا الفيديو لا سيما تصوير أبيه هو يقوم بالطهو، أو النوم، أو أثناء حياته اليومية.

حينما يعود صاحب المطعم إلى اليابان، يحاول هو تشي العمل في مطعم آخر وهو المطعم الذي يلتقي فيه وونج تشي/ القاتل المأجور معه بالصدفة- لن تتقاطع الحكايتين أيضا، بل هو مُجرد لقاء- وفي هذا المشهد/ مشهد اللقاء بين بطلي الفيلم يسأله وونج/ القاتل المأجور عن تكلفة فتح مطعم مثل هذا المطعم، حيث كان قد بدأ في التفكير في التحرر من قيود عمله كقاتل مأجور والاستقرار في حياة مُستقرة لا تشوبها التهديدات والأخطار، لكنه لا يعود لهذا المطعم مرة أخرى، وإن ظلت فكرة التقاعد، وترك عمله كقاتل مُسيطرة على ذهنه لا تبارحها.

من جانب آخر يتقابل وونج/ القاتل المأجور مع إحدى الفتيات/ بلوندي ذات الشعر الأشقر المُتعطشة للحب والعلاقة العاطفية، وتشعر نحوه بالكثير من المشاعر، ويقضيان ليلة من العشق التي تجعلها مُتعلقة به، وإن لم يفعل هو. إن شعور بلوندي بالوحدة، والعزلة، والاغتراب، والحاجة القاسية يتبدى لنا من عبارتها البليغة التي قالتها له حينما ذهب معها إلى غرفتها: احذر لماذا صبغت شعري أشقرا؟ فيرد: لا أعرف. لتقول له: لأجعل نفسي غير منسية!

إنه الشعور العميق بالضياع في هذا العالم الصاخب المُتسارع الذي لا يهدأ في مدينة كبيرة مثل هونج كونج، الشعور بالضآلة والوحدة في عالم شديد الازدحام؛ حتى أنها ترغب أن تجعل من نفسها غير منسية بصباغة شعرها كي تكون مُتميزة أو لافتة للنظر بأي علامة مُختلفة عمن حولها، وكأنها تعيش في عدم كامل!

الممثلة والمغنية الصينية كارين موك
هي مثال لكل الشخصيات المُنهزمة المُتألمة الوحيدة في عالم المُخرج وونج كار واي. يخبر وونج تشي/ القاتل شريكته بأنه سيعتزل العمل في القتل، لكنها تطلب منه أن يقوم بالعملية الأخيرة من أجلها؛ فيوافق، ورغم عشقها وحبها الشديد له إلا أنها كانت تنظم لمقتله وبالفعل يقع صريعا في عمليته الأخيرة؛ لتتحطم حياتها تماما بعد موته وتنهار؛ وتقع في العدمية وعدم الرغبة في الحياة أو الاستمتاع بها، كما يموت والد هو تشي مو، ولعل المشهد الذي يجلس فيه وحيدا لمُشاهدة مقاطع الفيديو التي كان قد التقطها لوالده قبل موته تحمل الكثير من المشاعر، والإحساس بالخسارة ما نجح المُخرج في التعبير عنها بعمق. ينتقل هو تشي مو إلى مطعم جديد للعمل فيه، وهناك تدخل عليه حبيبته الأولى التي هجرته، تشارلي يونج، في ثياب مُضيفة طيران ورغم أنهما يتواجهان وتتحدث معه إلا أنها لا تتذكره ولا تعرفه كأنهما لم يلتقيا في الحياة من قبل- الإمعان في القسوة على الشخصيات- لتقوم بمُهاتفة أحدهما الذي لم يكن سوى حبيبها الجديد، ورغم محاولة هو تشي مو تعريفها بنفسه إلا أنها تظنه مجنونا وتتركه مع حبيبها مُنصرفين!

ينتهي الفيلم على مشهد مُساعدة القاتل جالسة وحيدة ذاوية مُحطمة في المطعم الذي يعمل فيه هو تشي مو، غير مُبالية بأي شيء مما يدور حولها، حتى أنها لا تلتفت إلى العراك الذي نشب فجأة داخل المطعم؛ لتطلب من هو تشي مو إيصالها إلى منزلها، ونسمعها من خلال التعليق الصوتي بينما تركب خلفه على دراجته النارية المُنطلقة بسرعة عاتية: وأنا خارجة سألته إن كان بإمكانه إيصالي للبيت، لم أركب دراجة نارية مُنذ وقت طويل، في الواقع لم أقترب من رجل هكذا مُنذ فترة، لم يكن الطريق طويلا، وكنت أعرف أني سأنزل قريبا، ولكن في تلك اللحظة شعرت بدفء شديد!

الممثلة الصينية تشارلي يونج
إن العبارة التي اختتم بها المُخرج فيلمه في مشهده الأخير تحمل في طياتها مفهوم العالم الذي يقدمه، وهو مفهوم الاغتراب والرغبة في التواصل الإنساني حتى لو كان هذا التواصل هو مُجرد الاقتراب الجسدي، أو التلامس مع جسد آخر باعتبار أن هذا التواصل قد يشعر الإنسان بالحميمية أو الاطمئنان فقط، أو مُجرد الدفء للهروب من برودة الوحدة!

في الفيلم الصيني Fallen Angels الملائكة الساقطة للمُخرج الصيني وونج كار واي ثمة مدينة ضخمة وكبرى شديدة الصخب- مثلها مثل كل العواصم في العالم- هذه المدينة الصاخبة التي نجح المُخرج في التعبير عن صخبها الذي لا يتوقف سواء من خلال تركيز الكاميرا على مشاهد حركة المترو المُتسارع، أو الطائرات في السماء، أو السيارات المارقة بسرعات كبيرة، هي مدينة طاحنة لكل من يقطنها؛ مُدمرة لهم ولمشاعرهم ورغباتهم الإنسانية حتى لو رغبوا في التحرر، مدينة قادرة على سحق كل شيء ليتكاتف معها الوقت في هذه الوطأة الساحقة مُدمرا ما تبقى في هؤلاء البشر. نجح المُخرج في التعبير عن ذلك أيما نجاح من خلال أسلوبيته التي يعتمدها دائما لا سيما من خلال التعليق الصوتي/ السرد، واستخدام موسيقى البوب المُعبرة عن عالمه، والإضاءة من خلال لمبات النيون، فضلا عن الحركة البطيئة التي يستخدمها بفنية أسلوبية عالية، أو البطيئة المُتقطعة؛ ليؤكد لنا المُخرج أنه يمتلك من الأسلوبية، والرؤية العميقة للعالم وللسينما ما يجعلانه مختلفا عن غيره من صُناع السينما.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة

عدد سبتمبر 2021م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق