السبت، 31 يوليو 2021

إحسان عبد القدوس.. كاتبٌ عابر للطبقات!

إحسان عبد القدوس
لم يكن إحسان عبد القدوس مُجرد روائي مر في تاريخ الرواية العربية، وانبتّ أثره بمُجرد رحيله كما يحدث مع الكثيرين من الروائيين الذين، بمُجرد رحيلهم، يتناساهم القراء وكأنهم لم يكونوا بيننا يوما، بل ترك عبد القدوس بأثره الروائي على العديد من الأجيال التي عاصرته، والتالية له، حتى أن أعماله الروائية والقصصية ما زالت تُطبع حتى اليوم وتتسابق دور النشر على امتلاك حقوق نشرها؛ نظرا لما تحققه من إقبال كبير من قبل القراء الذين ما زالوا يرون فيما كتبه من أعمال قصصية وروائية طزاجة تجعلنا نظن فيها وكأنما الروائي قد انتهى منها لتوه!

لكن، هل كان الأثر الروائي الذي تركه عبد القدوس يستحق أن يخلده بمثل هذا الشكل حتى الآن لدرجة أن تُقبل عليه أجيال جديدة مُختلفة في الثقافة، والرؤية تجاه الحياة؟

انشغل إحسان عبد القدوس بعوالمه الروائية باكرا، ولم يكن يعنيه سواها، حتى أنه قد اختلف مع أمه، فاطمة اليوسف؛ التي كانت ترغب له في أن يكون صحفيا، ويدير مُؤسسة "روز اليوسف"- أشهر المُؤسسات الصحفية المُستقلة المصرية التي قامت بإنشائها- في حين أنه كان مُنجذبا إلى الكتابة الأدبية. لكن رغم هذا الخلاف بينهما حرص عبد القدوس على التوفيق بين ما يجتذبه، ويرغبه، وبين رغبة أمه في أن يكون صحفيا، وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد، بل لا ننكر أن الكتابة للصحافة قد تركت بأثرها إلى حد ما على كتابته الأدبية التي مالت إلى سهولة التلقي، واللغة البسيطة التي من المُمكن أن يفهمها أي قارئ مهما كانت درجة تعليمه، وهو ما اجتذب الشريحة الأكبر من القراء.

لكن، ليس معنى تأثير اللغة الصحفية على الأعمال الروائية التي كتبها إحسان عبد القدوس، أن أعماله الروائية كانت ساذجة، أو ذات لغة سطحية؛ فهو نفسه قد عمد إلى تبسيط لغته كي تصل إلى القطاع الأكبر من القراء، أي أنه كان يكتب وعينه على الجماهيرية الواسعة كي تصل كتابته لأكبر شريحة من شرائح المُجتمع، وهو المُجتمع الذي كان يعمل الروائي على تأمله بعمق، لاجئا إلى تشريحه نفسيا واجتماعيا، واضعا يده على انهياراته، ومُشكلاته المُتفشية فيه، وسُرعان ما يصوغ رؤيته تجاهه في رواية جديدة كاشفة، صادمة، حريصة على تعرية ما يدور في المُجتمع من حوله، وكأنه يُطلق بوق الإنذار بأن ثمة خلل ما هنا لا بد من الانتباه إليه والعمل على إصلاحه.

لا يمكن إنكار الأثر العظيم الذي تركه إحسان عبد القدوس على أجيال سابقة لنا، وتالية علينا كذلك، فهو من الكتاب الذين امتلكوا أدواتهم الفنية؛ الأمر الذي جعله يكتب بانسيابية وثقة مُطلقة حتى لكأنه يتحدى ذاته، أو يضع موهبته الروائية على المحك والاختبار الدائم، لذلك نراه يذكر في أحد حواراته مع الصحفية ماجدة الجندي بأنه كان يستكمل كتابة الرواية أثناء نشرها بشكل مُسلسل في الصحافة؛ الأمر الذي يُدلل على مدى ثقته في موهبته التي لن تخذله في أي لحظة، ولنتأمل سؤال الجندي له: صحيح يا أستاذ إحسان، كنت بتكتب رواياتك حلقة بحلقة أثناء نشرها؟ فيرد عليها: زمان من كُتر ثقتي بنفسي كنت بعمل كدا، الأول أفكر في القصة، تفكيري دا مُمكن ياخد سنة، بعدين أسجل القصة على شكل نقط قصيرة على ورق، ثم أبدأ في الكتابة، وعلشان روز اليوسف كانت دايما محتاجة لمواد، كنت بعد رابع فصل في القصة أبدأ في نشرها، يعني أكتب الفصل الخامس مع نشر الفصل الأول، وهكذا"!

إن هذه الثقة المُفرطة في الموهبة، أو المقدرة على الكتابة الإبداعية لا يمكن لها أن تتأتى من فراغ، فهو يُدرك جيدا ما يفعله، ويثق تمام الثقة في كتابته حتى أنه كان يضعها في اختبار دائم، وهو الاختبار الذي أكد فيه لنفسه المقدرة على الفعل والاستمرار. إذن، فالرجل كان في تحدي دائم لنفسه- مُتجاهلا تحديه للآخرين- وهو ما جعله يستمر في عالمه الخاص، المُغلق في معنى من معانيه، على مفاهيم الحرية، والمرأة، والمُشكلات التي تعاني منها الطبقات، لا سيما الطبقة البرجوازية، والبرجوازية الصاعدة، وصولا إلى الطبقة الأرستقراطية التي نشأ فيها.

لكن، هل معنى ذلك أن عبد القدوس لم يكتب سوى عن طبقته التي يعرفها وعاش فيها فقط؟

إن تأمل العالم الإبداعي الذي قدمه إحسان عبد القدوس يؤكد لنا أنه كان روائيا عابرا للطبقات، بمعنى أنه قد تأمل جميع الطبقات الاجتماعية المصرية وعمل على تفكيكها بمفهومه الفني؛ الأمر الذي جعله يتناول مُشكلات هذه الطبقات كافة، مُنبها إلى خطورة ما يتحدث عنه في كل طبقة منها، وهو ما أكد عليه الروائي عينه في حواره مع ماجدة الجندي في قوله: "أنا أحب أعايش البشر في كل المُجتمعات، والقصة أنا اكتسبت فن كتابتها من اجتماعي بالناس في كل الطبقات والأوساط مُنذ صغري، بمعنى إن أنا مليش شلة أقعد معاها، دا أنا يوم في الحسين، ويوم تلاقيني في سميراميس مع أولاد الذوات، أدرس دول، وأدرس دول، دي هواية، هوايتي أشوف دول عايشين ازاي، ودول عايشين ازاي، حتى لما كنت أروح أوروبا، مكنتش أروح رسمي وأقابل مسؤولين وأعمل أحاديث، لا، أنا مش بتاع الكلام دا، أنا أحب اتعرف على الناس، وأمشي في الشوارع، وأقعد على القهاوي، أشوف الناس ازاي عايشين، يعني أول مرة سافرت باريس كنت أنام ساعتين اثنين كل 48 ساعة، وبقية الوقت بشوف وأعيش، ونتيجة دا كله تخطر أفكار".

لعله في الأعمال الروائية التي قدمها عبد القدوس ما يُدلل على صدق حديثه الذي جعله الروائي العابر للطبقات، والقادر على التعبير عنها جميعا من دون الانغلاق على طبقته الأرستقراطية فقط التي نشأ فيها، ولنتأمل "في بيتنا رجل" التي تحدث فيها عن الطبقة المتوسطة، ثم "لا أنام" المُعبرة عن الطبقة الأرستقراطية، بل لم يقتصر تأمله للمُجتمعات البشرية وما تعاني منه من مُشكلات خطيرة قد تعصف بها على المُجتمع المصري فقط، بل تعدى ذلك إلى المُجتمع الأوروبي، والمُجتمع الإفريقي في "ثقوب في الثوب الأسود"، أي أن عبد القدوس كان الروائي القادر على التعبير عن العديد من المُجتمعات المُختلفة، والطبقات المُتباينة، ساعده في ذلك اعتماده على اللغة الوصفية الدقيقة التي تهتم بدقائق الأمور، فضلا عن اهتمامه بالتحليل النفسي لشخصياته حتى أنه يتعمق داخل كل شخصية لاستخراج تناقضاتها الكامنة فيها واستعراضها للقارئ.

هذه التناقضات التي كان حريصا على بيانها داخل شخصياته، والتي تترتب عليها ردود أفعالهم في الحياة ليست بعيدة عن الروائي ذاته الذي كان من المُمكن لنا أن نُطلق عليه- ظاهريا- ملك التناقضات!

فلقد نشأ إحسان عبد القدوس بين أب مصري يعمل مُمثلا في مجال المسرح ويكتب له أيضا، وبين أم لبنانية تعمل أيضا في مجال المسرح، لكنها لم تلبث أن استشعرت بأن مجال المسرح غير مُناسب لها، أو أنها زهدته، وسُرعان ما اتجهت إلى عالم الصحافة والثقافة الواسعين، كما أنه تربى في بيت جده العالم الأزهري المُتشدد للتقاليد ومفاهيم العيب والحرام، وفي نفس الوقت كان يذهب إلى المجالس الثقافية التي تعقدها أمه فيرى الكثير من الفكر والليبرالية، والتقدمية المُختلفة تماما عما يراه في بيت جده الأزهري، وهو ما ترك بأثره على إحسان نفسه، وبدت لنا حياته من حيث الشكل الظاهري مُتناقضة؛ فالروائي الأكثر تحررا وتقدمية وليبرالية، في التوقيت الذي عاش فيه، والمُنادي دائما بضرورة حرية المرأة واكتسابها إرداتها الحرة- كما كتب دائما في كل ما قدمه- لم يكن نصيرا للمرأة العاملة؛ لأنه كان يرى أن المرأة مكانها البيت من أجل تربية أبنائها، والاهتمام بهم وبزوجها وتوفير كل أسباب الراحة لهم!

لكن، إذا ما تأملنا حياة عبد القدوس بروية لاستطعنا فهم السبب وراء ذلك، إن ارتباط إحسان القوي بأمه- روز اليوسف- وحبه الجم لها؛ جعلاه يراها دائمة الانشغال عنه رغم حاجته إليها، ورغم أنه كان يراها امرأة قوية وأسطورية، لكنه كان يشعر بافتقادها كأم؛ لانشغالها الدائم في عملها الصحفي، وهو الأمر الذي جعله يرى أن الزوجة مكانها البيت، أي أنه كان يقوم بعملية تعويض حينما رأى أن زوجته- لولا- لا بد لها أن تكون ربة منزل لترعاه وترعى أطفالهما، حتى لا يعاني أولادهما مما عاناه من إحساس الحرمان من اهتمام ورعاية الأم، ومن هنا لا يمكن لنا القول بأنه كان مُتناقضا فيما يدعو إليه في كتاباته في مُقابل حياته الواقعية.

أخلص عبد القدوس كثيرا لما يقدمه من فن روائي تبعا لرؤيته الفنية والاجتماعية والثقافية التي يستند إليها، وهو ما جعله يصطدم بالرئيس جمال عبد الناصر بسبب مجموعته القصصية "البنات والصيف" التي كانت تُعبر عن العديد من الحكايات الخاصة بالفتيات، والتي تُعد بمثابة التفسخ الاجتماعي للعديد من الطبقات، لكن عبد القدوس أكد له أن الواقع فيه أكثر مما ذكره هو في مجموعته، وأن الواقع الفني لا يمكن له أن يتغير إلا بتغير الواقع الاجتماعي الفعلي، أي أن الواقع الفني هو المرآة الحقيقية لما يدور في المُجتمع، وعليه فليس من المنطقي مُطالبة الواقع الفني بالتغير في حين أن الواقع الاجتماعي الذي يعبر عنه الفن ما زال كما هو، وإلا سيكون الأمر بمثابة الانفصال الحقيقي بين الفن وما يدور في الواقع.

فاطمة اليوسف
إن هذا الإخلاص للفن الذي يكتبه عبد القدوس قد جعله مثار النقد الدائم سواء من قبل السُلطة، أو من قبل رجال الدين، أو حتى المُجتمع المُحيط به؛ فالجميع يرونه جرئيا فيما يقدمه، خارجا عن الأطر الاجتماعية، ولا يعنيه سوى الجنس، والتفسخات الاجتماعية التي يحرص على التعبير عنها، حتى أن الكاتب عباس محمود العقاد قد أطلق على ما يقدمه عبد القدوس توصيف "أدب الفراش"!

لكننا نستطيع فهم انحياز الروائي هنا إلى المرأة في كل ما يكتبه، ومن ثم فهو لا يعبر فيما يذهب إليه سوى عن عالمها ومشاعرها، ورغباتها، حتى لكأنه يفكر بالنيابة عنها، ويشعر بدلا منها. يعود الأمر في ذلك إلى أن إحسان قد نشأ في بيئة تغلب عليها النساء، كما أنه قد تأثر تأثرا كبيرا بحبه الجم لأمه روز اليوسف، وعمته كذلك، ولقد كان لكل منهما أكبر الأثر عليه في حياته؛ الأمر الذي جعله مُنحازا إلى عالم المرأة ومُشكلاتها، وما تعاني منه في المُجتمع المُحيط بها.

إن جرأة إحسان وصراحته فيما يتناوله من مُشكلات في أعماله الروائية، لم تقتصر على الأدب فقط، بل انسحبت بدورها على الصحافة التي برع فيها حتى أنه أسس مدرسة صحفية تخصه- خاصة في روز اليوسف، وصباح الخير- كما رفع مبيعات جريدة الأخبار إلى المليون نسخة، يوميا، حينما تولى رئاسة تحريرها. هذه الصراحة المُطلقة هي ما رأيناه في كتاباته الصحفية السياسية التي جمعها فيما بعد في كتابه "على مقهى في الشارع السياسي".

كتب عبد القدوس بطلاقة في الشأن السياسي، ولم يكن يعنيه سوى الإصلاح فقط، فإذا ما كانت كتاباته الروائية التي تتعمق في عالم المرأة كان هدفها الحقيقي هو الإصلاح الاجتماعي، فلقد كانت كتاباته السياسية هدفها الأهم هو الإصلاح السياسي، وهو ما جعله يصطدم اصطداما قويا مع القصر الملكي حينما كتب عن قضية الأسلحة الفاسدة في حرب 1948م؛ الأمر الذي كشف القصر، والكثيرين من ضباط الجيش الذين تعاقدوا على هذه الصفقة؛ مما وضع الجميع في حرج!

لكن، لم يتوقف الأمر هنا على الاصطدام بالقصر الملكي فقط، بل تعداه إلى الاصطدام الحقيقي مع مجلس قيادة الثورة بعد 1952م. صحيح أن عبد القدوس كان مُقربا من السُلطة السياسية بعد الثورة، حتى أن جمال عبد الناصر كان يستشيره في العديد من الأمور، وهو ما جعل إحسان يطلب من الرئيس عبد الناصر الحفاظ على حياة الملك فاروق وعدم الإضرار به. وصحيح أن قربه الشديد من الرئيس عبد الناصر كان يجعله ينادي الرئيس بقوله: "جيمي" إلا أن هذا القرب كان مُجرد قرب ظاهري فقط، سُرعان ما انهار وكأنه لم يكن بمُجرد ما انتقد إحسان عبد القدوس النظام السياسي، وكتب مُطالبا بعودة الجيش إلى ثكناته وترك الحياة السياسية، هنا انقلب عبد الناصر عليه وكأنه لم يكن يعرفه من قبل، وتم اعتقال إحسان عبد القدوس، وتحول "جيمي" إلى سيادة الرئيس، ليتأكد إحسان بأنه لا يمكن أن تكون هناك ثمة صداقة مع السُلطة؛ فهي سُرعان ما تنقلب تبعا لمصالحها واهتماماتها!

إن صدق إحسان فيما كتبه في المجال السياسي عرضه غير مرة للاعتقال، بل وتعرض أيضا لمحاولات الاغتيال التي نجا منها!

ثمة سؤال لا بد من وروده على ذهن من يتابع إحسان عبد القدوس، وهو: لم انخرط الرجل في كتابة القصة القصيرة والرواية، والعمل في الصحافة فقط؟ ألم يكن من الأحرى به الكتابة للمسرح لا سيما وأنه قد نشأ بين أبوين يعملان في هذا المجال؟

إذا ما تأملنا كل الرصيد الإبداعي الذي تركه إحسان عبد القدوس سيتبين لنا أنه لم يكتب في مجال المسرح سوى "لا أستطيع أن أفكر وأنا أرقص" فقط، ورغم أنه كان راغبا في أن تكون مُنتمية إلى مجال المسرح إلا أنه كان مُتشككا فيما كتبه، غير قادر على التأكيد بأنها مسرحية. يؤكد ذلك ما كتبه في مُقدمة هذا الكتاب: "هذه هي أول قصة في قالب مسرحي أجرؤ على نشرها، ربما لأني وُلدت في المسرح من أم وأب من أهل المسرح، وقضيت طفولتي وصباي بين كواليس المسارح، ونشأ في نفسي نوع من الرهبة من الإقدام على أي عمل مسرحي، رغم كثرة ما خطر على بالي من عبور مسرحية، ولا أدري أي نوع من المسرحيات هذه التي أقدمها اليوم، هل هي مسرحية استعراضية، أو فكرية، وهل هي دراما، أو كوميدية مُضحكة. كل ما أعلمه أن الذي حرك إحساسي بها ليس وضعا مُحددا نعيش فيه، ولكنها صورة للتاريخ  كله كما يمكن أن يوحي بها التاريخ، وإذا كان فيما رسمته من مشاهد بعض الغرابة، فهي لا تصل إلى غرابة مسرحيات بيكيت أو باقي كتاب المسرح الحديث، أو ما يُسمى اللامعقول، بل لا أدري، هل هذه مسرحية؟"!

لعل هذا التشكك فيما كتبه عبد القدوس، والعجز عن تجنيس هذه الكتابة هو ما جعل جل الناشرين ينشرونها تحت عنوان مجموعة قصصية، وليس مسرحية؛ فالكاتب نفسه لم يكن يعرف تصنيف هذه الكتابة، كما أنه امتلك خشية كبيرة من الكتابة المسرحية؛ لأنه نشأ بين الكواليس، وخبرها جيدا، وفهم أسرارها؛ الأمر الذي أكسبه الرهبة من الكتابة المسرحية.

لكن، هل اقتصر إبداع عبد القدوس على مجالي الرواية والصحافة فقط؟

إن الأثر الإبداعي الواسع لإحسان عبد القدوس امتد به إلى مجال الكتابة السينمائية كسيناريست للكثير من الأفلام، وإذا ما كنا قد ذهبنا إلى القول: بأن عبد القدوس هو الروائي العابر للطبقات حينما حرص على تشريح جميع الطبقات الاجتماعية وما تعاني منه من مُشكلات، فهو أيضا الكاتب العابر للفنون؛ حيث كتب في الرواية والقصة القصيرة، والسينما، بل لا يخفى علينا بأن عبد القدوس قد كتب الكثير من السيناريوهات للشاشة مُباشرة، حيث كان فيلم "الله معنا" للمُخرج أحمد بدرخان 1955م من أول السيناريوهات التي كتبها الروائي للشاشة من دون الاعتماد على أي عمل أدبي، وهو الفيلم الذي كتب مُخرجه على أفيشاته: "تمشيا مع العهد الجديد"، قاصدا به عهد الثورة!

جمال عبد الناصر
تحولت الكثير من الأعمال الروائية التي كتبها إحسان إلى السينما، ولعله لا يمكن لنا إنكار فضل السينما على ما كتبه الروائي؛ حيث عرفته قاعدة عريضة وأوسع من الجمهور، كما لا يخفى علينا أن الأعمال الروائية التي كتبها الروائي كانت أقرب إلى التصوير السينمائي، وكأنما الروائي كان يكتب أعمالا روائية بتقنية السينما؛ الأمر الذي سهل انتقالها من وسيط إلى وسيط آخر بسهولة، وهو ما جعل المُخرجين يقبلون على ما يقدمه من أعمال روائية حتى أنه لم ينافسه في هذا المجال- تحويل أعماله الروائية إلى أعمال سينمائية- إلا نجيب محفوظ من حيث الكثرة العددية.

يذكر الناقد محمود قاسم في كتابه "السينما والأدب في مصر 1927- 2000م" إلى أن قائمة الأفلام المأخوذة عن أعمال إحسان عبد القدوس الروائية قد بلغت 43 فيلما فقط، ولكن بالبحث اتضح لنا أن قائمة الأفلام السينمائية المأخوذة عن أعمال إحسان عبد القدوس السينمائية بلغت 59 فيلما منها ما هو من إنتاج التليفزيون، ومنها ما هو مُنتج سينمائيا.

أي أن عبد القدوس كان الأغزر، من حيث الوفرة العددية، في تحويل أعماله الروائية إلى أعمال سينمائية، كما كان يمتلك من الجرأة والشجاعة على تحويل أعماله الروائية إلى الوسيط السينمائي بنفسه، أي أنه لم يخش كتابة السيناريوهات، أو الحوارات لأعماله الروائية- رغم اقتناعنا أن تحويل العمل الروائي إلى الوسيط السينمائي قد يؤدي إلى تشويه الأصل وتغييره بالإضافة إليه والحذف منه- فكان عبد القدوس يعمل على هذا التغيير بنفسه مُختلفا في ذلك عن نجيب محفوظ الذي كان يرفض رفضا تاما كتابة أعماله الروائية كسيناريست، ويكتفي بكتابة سيناريوهات لروايات غيره من الروائيين.

لعل هذه الجرأة التي تميز بها عبد القدوس في تشويه أعماله الإبداعية من أجل انتقالها للوسيط السينمائي كانت من الأمور التي أحجم عنها الكثيرون من الروائيين؛ مما يُدلل على فرط ثقته فيما يكتبه، ويقدمه، بل ومقدرته على إعادة إنتاج ما سبق أن كتبه بشكل آخر قد يختلف كثيرا، أو قليلا عما كان.

إن فضل، وأهمية ما كتبه إحسان عبد القدوس في تاريخ الثقافة المصرية والعربية سواء على المستوى الإبداعي، أو الصحفي، أو السينمائي لا يمكن إنكاره على الكثير من الأجيال، ومنها الأجيال الجديدة الناشئة، ولعل الأفلام السينمائية المأخوذة عن أصوله الأدبية لا زالت من أهم كلاسيكيات السينما المصرية والعربية حتى اليوم؛ مما يُدلل على أهمية وقيمة الرجل في التاريخ الثقافي العربي، وهو ما يجعلنا نطلق التوصيف على مداه لنقول: إنه الكاتب العابر للأجيال!

 

 

محمود الغيطاني

 النص العربي للمقال المنشور بالإنجليزية في مجلة "بانيبال" اللندنية

العدد 71- صيف 2021م



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق