الخميس، 17 ديسمبر 2020

سرير بنت الملك: دور المفارقة في بناء العالم القصصي

 

ثمة صعوبة تقف أمام العديدين من كتاب القصة القصيرة تجعل صياغة العالم من خلالها- القصة- من الأمور الصعبة التي لا تتأتى للكثيرين منهم؛ الأمر الذي يدفع بالبعض إلى كتابة الرواية بعالمها المتسع، الفضفاض الذي يحتمل الكثير مما لا يحتمله السرد في القصة القصيرة الأميل إلى التقشف الشديد سواء على مستوى اللغة، أو مستوى الحدث الذي يدور فيه العالم الذي يلجأ الكاتب إلى صياغته، أي أن الإيجاز الفني، والتقشف الشديد في اللغة والحدث من أهم سمات السرد القصصي التي قد لا يمتلكها بعض الكتاب، فضلا عن ميزة تُعد من أهم مميزات السرد القصصي، وهي الميزة التي تجعل من فن القصة القصيرة فنا مختلفا عن غيره من الفنون السردية الأخرى، وهي ما نُطلق عليه "المفارقة" التي تأتي غالبا في نهاية السرد ليختتم بها السارد قصته كمفاجأة؛ تجعل القارئ في حالة من حالات الصدمة، أو المتعة التي ترغمه على العودة مرة أخرى لبداية القصة؛ كي يستوعبها بشكلها الجديد والمختلف عما كان في ذهنه منذ البداية، بعدما كشف له القاص حقيقة العالم الذي صاغه في السطور القليلة الأخيرة من هذا السرد القصصي.

هذه المفارقة هي ما نُطلق عليها في عالم السينما "التويست"، أو "الانقلاب"- الانقلاب الدرامي المفاجئ-  أي انقلاب الحدث السينمائي وأخذه مسارا، وحقيقة جديدة لم يكونا في ذهن المشاهد، ولا تمهد لهما الأحداث السابقة؛ فيبدأ المشاهد في إكمال متابعته للفيلم من خلال معطيات جديدة لم تكن واردة في ذهنه أو يظنها من قبل؛ وبالتالي تكتسب أحداث الفيلم معنى آخر جديدا لم يكن واردا في الذهن، مما يجعله متابعا شغوفا لما يدور أمامه على شاشة العرض حتى اللقطات الأخيرة من الفيلم.

ربما كان الفارق الوحيد في المفارقة/ الانقلاب بين عالمي القصة القصيرة، والفيلم السينمائي يعود إلى أن المفارقة في القصة تحدث مرة واحدة تكون في الأعم والأغلب منها في نهاية القصة أو ختامها فقط؛ بحيث تكشف العالم القصصي بالكامل للقارئ الذي يبدأ تلقيه للعمل، بعد الانتهاء منه، يختلف تماما بناء على المعطيات الجديدة التي ساقها إليه الكاتب في شكل قد يقرب من الصدمة، أما في الفيلم السينمائي فالانقلاب من الممكن للسيناريست أو المخرج أن يستخدمه غير مرة أثناء مدة الفيلم الواحد، وإن كان أغلب السينمائيين يميلون إلى أن يكون الانقلاب في الفيلم لا يزيد عن انقلابين فقط، رغم أن هناك بعض المخرجين يميلون إلى أكثر من ذلك، أو أقل- فالأمر ليس بقاعدة مُتعارف عليها بشكل لا يمكن مخالفته-.

 إذن، نستطيع القول: إن القصة القصيرة وعالمها، المختلف عن عالم الرواية، من حيث سمات كل منهما، تكاد أن تتميز بمفارقتها التي تأتي في نهايتها؛ لتعيد صياغة العالم مرة أخرى بناء على مفارقتها أو مفاجأتها التي يسوقها القاص في نهاية العمل، فضلا عن غيرها من المميزات الأخرى التي تميز فن القصة عن غيرها من فنون السرد المختلفة.

في المجموعة القصصية "سرير بنت الملك" للقاصة السورية شهلا العجيلي تتجلى أمامنا مقدرتها على تطويع المفارقة في جل قصصها؛ الأمر الذي يُكسبها ميزة الاقتراب من الاكتمال؛ ومن ثم رغبة العودة مرة أخرى لقراءة كل قصة على حدة كلما انتهينا من إحدى قصصها.

في قصتها "مذكرات حذاء سندريلا" نكتشف أن المفارقة عندها لم تقتصر على مفارقة نهاية النص فقط، وهي المفارقة الكاشفة التي نعرفها دائما في معظم السرد القصصي، بل تأتي المفارقة بعد المقطع الافتتاحي الذي افتتحت به القاصة قصتها. تبدأ شهلا قصتها بشكل كلاسيكي يعهده القارئ عن قصة سندريلا الراسخة في أذهان الكثيرين منا: "تقدم المجند بلباسه الرسمي، يحمل على وسادة صغيرة من القطيفة الوردية بين يديه، فردة حذاء نسائي، كان الحذاء حائل اللون، وقد تمدد في جزء منه، وتمزق جلده في جزء آخر، حتى إن كعبه قد كُسر، وانفصل بعض نعله عن بعض هيكله، ولم تفلح محاولات الترميم الواضحة كلها في إعادته إلى سابق عهده. كان المجند ووراءه فرقة الخيالة، يطوف بين بيوت المدينة باحثا عن قدم المرأة التي ستناسبها فردة الحذاء، والذي كان في الحقيقة، لفتاة في أواسط العشرينيات من عمرها، جميلة وبهية، واسمها سندريلا"، إذا ما تأملنا السرد الذي افتتحت به القاصة قصتها حتى الآن سنتأكد أنه لا يختلف أي اختلاف عن قصة سندريلا التي نعرفها، بل سندرك مدى كلاسيكيته التي لا تختلف في شيء عن القصة القديمة، أي أن القاصة هنا تعمل على إعادة تشكيل نفس العالم بنفس مفرداته من دون أي تميز أو اختلاف. إذن، فما الجديد الذي من الممكن أن يقدمه لنا السرد القصصي هنا؟

إذا ما انتهينا من المقطع السابق الذي مثل مفتتح القصة، واستمررنا في متابعة السرد القصصي؛ سنلاحظ أن القاصة تعمل على قلب الحدث القصصي- الراسخ في مخيلتنا القديمة- وإعادة تشكيل العالم بشكل عصري ومدهش للقارئ في آن: "كان، في الحقيقة لفتاة في أواسط العشرينيات من عمرها، جميلة وبهية، واسمها سندريلا، اشترته منذ أيام من أحد محلات وسط البلد، أسود لامعا مدور المقدمة، وبكعب عال وبلا تفاصيل أخرى، وقد دخل في قدمها الأنيقة، ذات القياس سبعة وثلاثين بيسر، وأمسك بها إمساكا، وكأنه مُفصل على مقاسها. لبسته سندريلا في اليوم التالي، وانطلقت إلى موعد مقابلة كانت قد ضربته مسبقا مع إحدى الشركات؛ لتحصل على وظيفة فيها". إن الانقلاب الحقيقي والحرص على إثارة دهشة القارئ تأتي من أن القارئ قد هيأ نفسه لاستمرار القاصة في سرد أحداث سندريلا بنفس الشكل والحدث الكلاسيكي المُستقر في الذهن، لا سيما أنها بدأت القصة بنفس الشكل الذي نعرفه، أي أننا كنا في انتظار أخذ سندريلا للملك بمجرد ما تأكد المجندون بأنها صاحبة هذا الحذاء، لكن القاصة، في مفارقة أولى منها، عملت على قلب الحدث بعصرنته، أي أنها جعلت سندريلا تشتري الحذاء من وسط البلد أولا، ثم أنها ارتدته في اليوم التالي للذهاب إلى موعد عمل مُسبق، ستحصل فيه على عمل لها. هنا لا بد من توقف القارئ لاستيعاب المفاجأة التي أدى إليها تطور السرد الذي اختارته شهلا من أجل صياغة عالمها المختلف تماما عن العالم المعهود لدينا من تراث قصة سندريلا.

تتجه سندريلا في اليوم التالي إلى موعد عملها، لكن مجموعة من الرجال يحيطون بها محاولين السطو عليها، وبالفعل ينجح أحدهم في جذب حقيبتها التي تبعثرت محتوياتها على الأرض، وأصرّ على سرقتها، لكنها أمسكت إحدى فردتي حذائها لتنهال بها على رأسه وجسده حتى كاد أن يموت بين يديها إلى أن أنقذه منها المارة! تتجه سندريلا إلى موعدها في إحدى الشركات بعد أن تشوه شكل الحذاء إلى حد ما، تحاول دخول المصعد الذي كان ينتظره أحد الرجال الملتحين الذي يرتدي جلبابا قصيرا، حينما يصل المصعد يحاول الرجل الانفراد به للصعود من دون أن يسمح لها بالدخول معه، لكنها تصر على الصعود، وأثناء وجودهما في المصعد يتعامل الرجل معها باعتبارها شيطان؛ فيبسمل ويحوقل بينما يختلس النظر إليها. تندهش سندريلا وحينما تنظر إلى نفسها في مرآة المصعد تتأكد أنها محتشمة تماما. تصل سندريلا إلى قمة غضبها من معاملة الرجل لها؛ الأمر الذي يجعلها- بمجرد توقف المصعد للخروج منه- تعاود الضغط على الرقم صفر؛ فينغلق عليهما مرة أخرى، وتنهال بفردة حذائها على رأس الرجل الملتحي الذي أوصلها لهذه الدرجة من الغضب.

تدخل سندريلا إلى مقر الشركة غاضبة، لكن مقابلتها للمدير الستيني المنتمي إلى إحدى الجماعات التقدمية وترحيبه بها يجعلها تهدأ مرة أخرى، إلا أن الرجل يجلس قبالتها ويحاول التحرش بها؛ فتتناول فردة حذائها التي تهالكت؛ لتنهال بها على وجهه، ورأسه وجسده إلى أن يخلصه منها موظفوه، لكنها أثناء عودتها إلى منزلها متأملة لأحداث يومها الطويل الغريب ترى عجوزا تفترش الشارع لبيع الخضار. تتوقف إحدى السيارات الفارهة فجأة، ويمنع حراسها عبور المارة في الشارع ويطيحون بسلة الخضروات التي تخص المرأة العجوز؛ لتنزل امرأة جميلة من السيارة تقوم سندريلا بصفعها على وجهها بفردة حذائها التي تهالكت وتفر هاربة.

ربما نلاحظ هنا مقدرة شهلا على جعل الدهشة مجرد تيار متصاعد لدى القارئ كلما استمرت في السرد؛ نتيجة أحداث قصتها غير الطبيعية الحادثة مع سندريلا، كما أننا لا يمكن لنا تجاهل ما تقصده الساردة التي اعتمدت على ميراث قصة سندريلا القديم الذي كان يؤكد لنا استكانتها وطاعتها وقلة حيلتها، لكننا هنا نرى سندريلا غاضبة متمردة متأهبة للرد على أي عدوان يقع عليها في لحظته، وهو ما يعني أنها تقصد "بسندريلا" كل فتاة عصرية تشعر بالغضب من الظلم الاجتماعي الواقع عليها، لكننا نفاجأ بأن مفاجآتها السردية لم تكن قد انتهت بعد، بل تأتي بمفارقتها الأخيرة التي أغلقت بها قصتها؛ لتعطيها المزيد من الدهشة الطازجة حينما تكتب: "مشت سندريلا في شوارع المدينة على غير هدى حتى هبط الظلام، فلاح لها من بعيد مشاعل، تبعت الضوء لتستطلع الأمر؛ فانتهت إلى تظاهرة عظيمة قائمة في الشارع المؤدي إلى القصر الكبير، فيها خلق عصيّ على العد، يهتف بحياة الحاكم الذي كان يخطب على منصة في صدر المكان، ومن زاوية بعيدة سمعت أصواتا مناوئة لمجموعة من الشباب، كانوا يسقطون الحاكم بهتاف مضاد، لكن قبل أن يتموا عباراتهم الحارة رأتهم سندريلا جثثا هامدة في بركة دم، في حين راح صوت الحاكم يعلو بمفردات ملتبسة بين حرية، وعدالة، ومساواة، وثوابت. سندريلا التي كانت فزعة، ومروعة، اكتشفت قروحا في قدمها ذات الحذاء المهلهل؛ فخلعت الفردة، وقذفتها في الهواء بما بقي لديها من طاقة؛ فطارت واستقرت على الأرض، لكن الكعب الذي كان قد انفصل عن الهيكل بشكل نهائي نقر بنهايته المسمارية أنف الحاكم على المنصة؛ فأدماه، وبالطبع كان الليل قد انتصف، ودقت الساعة الثانية عشرة، واختفت سندريلا"!

هنا يتأكد لنا أن شهلا العجيلي تمتلك من الوعي بكيفية كتابة القصة القصيرة ما يجعلها تعمل على المزج بين القصة القديمة، المعهودة لدينا، وبين قصة سندريلا الحديثة التي تعمل على تفريغ الغضب في كل مواقفها التي تؤدي إلى شحنها إلى درجة الانفجار، كما نلاحظ أنها كانت تمتلك من الحرص ما جعلها تصر على مفارقتها الأخيرة في نهاية قصتها، وهي المفارقة التي أكسبت عالمها قدرا أكبر من المفاجأة والدهشة والفنية التي تجعل من السرد شكلا فنيا خالصا يخص كاتبته فقط؛ فلقد كان من الممكن للقاصة الاكتفاء بعصرنة القصة بعد بدايتها الكلاسيكية، كما كان من السهل لها أن تجعل سندريلا تلقي بالحذاء للتخلص منه بعد يومها السيئ، لكنها لم ترتكن إلى النهاية التقليدية، ربما بسبب عدم تقليدية السرد، بل أصرت أن تُعيد الحاكم في شكله الكلاسيكي إلى عالم قصتها مرة أخرى؛ لتتخلص منه، أو تصب عليه جام غضبها بالنعل المسماري الذي طار إلى أنفه لينقره، وفي رغبة واعية منها للتخلص من أسطورية الحكاية أولا، ثم تفريغ شحنتها الغاضبة من الحاكم الذي يقتل المواطنين ثانيا، ثم لإعطاء سردها طزاجة مختلفة ثالثا؛ حيث تختتم السرد بالفكرة القديمة التي تجعلها تختفي مع انتصاف الليل!

ربما كان الوعي بآليات كتابة القصة القصيرة لدى شهلا العجيلي هو ما جعلها تهتم بلغتها السردية التي لا بد لها أن تتناسب مع القصة القصيرة التي تعتمد اعتمادا أساسيا على اللغة البرقية، السريعة، الموجزة، المتقشفة من الزيادات؛ فالقصة لا يمكن لها احتمال الثرثرات، ولا تكرار المفردات التي تتقارب في معانيها، أو المفردات المترادفة، كما أنها تحتاج إلى وصف الحدث من أقصر الطرق، وأكثرها إيجازا، وهذا ما رأيناه لدى القاصة حينما تكتب، على سبيل المثال: "طلعت الشمس، وهم على خشية من فتح عيونهم. بدأ شعور بالفقدان يتسلل إليهم، لكنهم كانوا يطردونه بإصرار. صبيحة العيد كانت الأم تصطنع الفرح. قالت: ميلاد مجيد، والعبرات تخنقها! الأطفال حينما رأوها مروا بلحظة نضج، لم يبكوا، لم يبحثوا عن الهدايا، تسابقوا لتقبيلها ومعايدتها". نلاحظ من خلال هذه الفقرة أن الجمل شديدة القصر، موغلة في الإيجاز، تؤدي المعنى المراد من أقصر الطرق إليه، سريعة لاهثة، وهو الأسلوب السردي الذي يتجانس أكثر مع فن القصة، أي أن القاصة كانت تعي ما تفعله؛ ومن ثم نجحت في صياغة قصصية نموذجية إلى حد بعيد.

في قصة "أم الغيث" تعمل القاصة على تأمل شكل من أشكال الصدام الحضاري والثقافي بين معتقدات الآباء والأجداد، وبين أبنائهم الذين أخذوا بأسباب التقدم التكنولوجي الذي لم يعد يترك شيئا للمصادفة البحتة، وألغى الإيمان بالخوارق أو المعجزات السماوية؛ لذا نراها تتحدث، في شكل قصصي، عن الفارق الشاسع بين القديم والحديث، بين ما كان يحدث في الماضي من التواكل على قوى غيبية غير مرئية، وبين الاعتماد الحالي على أسباب العلم وظواهره، ومقدماته ونتائجه؛ فتتحدث عن الشيخ الذي كان يلجأ إلى الصلوات والابتهالات هو وأبنائه حينما يتأخر هطول المطر فيذهب إلى التلة مبتهلا إلى أن ترضى عنهم السماء ليبتهلوا لها، لكن الجيل الجديد لم يعد يؤمن بهذا الفعل، بل اعتمدوا اعتمادا كليا على الأخذ بأسباب الحضارة والعلم التي تجعلهم يطلعون على ما تقوله الأرصاد، وما تؤكده عما إذا كان الجو سيمطر أم لا. تقول العجيلي في بداية قصتها: "راح الشيخ في طريقه إلى التلة القريبة، يتابع صور أولاده وبناته القادمة من عهد الطفولة، ففي الأيام الشبيهة بمثل هذا اليوم الأعجف، الذي تضن غيومه بماء يغيث الزرع والضرع، كانوا يتجمعون في ساحة الحي مع الأهل والأقران، حاملين دفوفا صغيرة، أو علب صفيح صدئة، يقرعونها، وهم يسيرون خلف كبارهم، يهزجون أهازيجهم بأصوات ملؤها الشجن، متضرعين إلى السماء"، تصف الكاتبة كيف أن السماء كانت حينما تستجيب لهم وتجود بمائها كانوا يحتفلون تحت ماء المطر، وتحل الفتيات ضفائرهن ويمنحنها لماء السماء؛ كي تغدو أطول وأبهى، لكنها في المقطع التالي تختلف الحالة تماما: "كبر الصغار، والمطر ما زال يقبل سنة، ويغيب أخرى، ولم يبرح الشيخ عاداته، فيدعو الأهل والأبناء لمرافقته. يتجه إلى التلة القريبة، ويبتهل إلى الله تعالى أن يسقي العطاش، لكن الأبناء ما عادوا يملكون دفوفهم وعلب صفيحهم، صار كل منهم يفتح حاسوبه المحمول، ينظر في النشرة الجوية، ويبحث في توقعات حالة الطقس للساعات المقبلة؛ ليخبر أباه الشيخ بأنها ستمطر، أو أنها لن تمطر. وكانت البنات بناء على تلك الأخبار، يحددن ما يردن إرتداءه، وإذا ما كن سيحملن المظلة التي ستقي شعورهن من البلل، أم سيتركنها في البيت".

نلاحظ في المقطع الثاني من القصة المفارقة التي حدثت مع تغير الزمن، وتغير مفردات العصر واختلافها اختلافا بينا، وهو الاختلاف الذي يُدلل على وجود تصادم كبير بين الجيلين في معتقديهما وثقافتيهما، لكن هل اكتفت القاصة بمثل هذه المفارقة التي تبدو واضحة بينة للقارئ؟

لم تكتف العجيلي بمثل هذه المفارقة التي انبنت عليها القصة، بل عمدت إلى مفارقة أخرى أكثر عمقا؛ لتجعل القارئ يقف أمامها متأملا مفكرا حينما كتبت: "لن تمطر هذه الأيام، أجمع الأولاد على كلمتهم؛ فدائرة الأرصاد أعلنت ذلك، فلا منخفضات جوية، ولا رياح رطبة، إلا أن الأب الشيخ توضأ، وسار وحيدا نحو التلة، أقام صلاته وابتهل، وما كاد ينحدر، حتى أقبلت أم الغيث!". أي أن القاصة انتصرت في نهاية الأمر للشيخ الأب الذي يعتمد على ابتهالاته وصلواته للسماء، وهي الابتهالات التي لا تأخذ بأسباب العلم الواضحة واليقينية، بل تأخذ بالاعتماد على ما هو غيبي غير مُدرك، وغير موثوق منه، وفي هذا الانتصار لما هو قديم ما يضفي على القصة المزيد من المفارقة؛ لأنه رغم تأكيد هيئة الأرصاد الممثلة للعلم والأخذ بأسباب المنطق بأنها لن تُمطر، إلا أنها أمطرت؛ لأن الشيخ ابتهل للسماء- حسب وجهة نظره وثقافته التي تخصه.

هذا الصدام بين الخرافة والعلم، أو القديم والجديد، أو الأجيال، أو ما هو غيبي وما هو ملموس نراه مرة أخرى من خلال تنويعة مختلفة في قصتها "دار الست نجمية"، وهي القصة التي تخلص منها القاصة بفائدة تريد أن تقول فيها: إن وجود المفهوم الأسطوري أو الخرافي أحيانا ما يكون له وهجه ودفئه، وإن معرفة الحقيقة قد تُفقد الروح الكثير من دفئها، وطمئنينتها، والأكثر من الخيال الذي يحتاجه الإنسان لاكتمال عالمه حتى لو كان هذا الاكتمال من خلال ما هو أسطوري.

تتحدث القاصة عن ليلى التي لم يكن يستهويها ما يفعله أقرانها من الصغار من ألعاب مختلفة وبدائية تسعدهم أيما سعادة، لكنها كانت تصب اهتمامها على دار الست نجمية التي هي ملكة من بنات الجن يحكي عنها جميع أبناء الحارة بما فيهم الآباء والأجداد؛ لذلك كان الجميع يخشون الاقتراب من هذه الدار، بل ويردون أي حدث من الأحداث التي تحدث داخل الحارة إلى الست نجمية الجنية التي تسكن معهم في أحد البيوت المهجورة: "لم تكن الأُلهيات تجذب ليلى بقدر ما كان يجذبها السور الفاصل بين دارهم ودار الست نجمية. سور تجلله دوالي العنب بحيث لا يرى الناظر أي أثر للفخار الذي يشكله. منذ أن وعى الناس الدنيا في هذه الحارة وهم يلوكون قصة نجمية بنت ملك الجن الأحمر التي باغتت يوما مريم صاحبة الدار، وهي تغسل في الليل فوط أطفالها، وتصب الماء النجس الحار في مصرف الحمام. ويقسم كل من في الحارة على أن مريم شاهدت نجمية بأم عينيها، وكلمتها بلسانها الذي أكله الدود منذ زمن. لقد كانت نجمية أميرة حقيقية كأميرات بني البشر، لكن كفيها وقدميها كانت عبارة عن كتل لحم بلا أصابع أو أظافر. قالت نجمية لمريم: أنت امرأة طيبة ومستقيمة، وأنا أحببتك وأريد أن أؤاخيك، إنني ابنة الملك الوحيدة، وليس لي إخوة أو أخوات يبددون عزلتي، ولقاء أُخوّتنا سأغنيك إلى ولد ولدك، وإليك أول هداياي". تحاول هنا شهلا صياغة العالم بناء على مفرداته الثقافية التي اختارتها لبناء قصتها؛ وبالتالي يضحى ما هو أسطوري واقعيا، ثقيل الوطأة في ضمير جميع سكان الحارة يقرب من اليقين، في حين أن ما هو واقعي يتلاشى منزويا وكأنه غير حقيقي؛ لذلك كان جميع سكان الحارة مقتنعين بوجود الست نجمية التي وهبت مريم الكثير من الجرار الذهبية كهدية لها، وهو الذهب الذي أخذته الشرطة باعتباره حق الدولة ظنا منهم أن مريم وأسرتها قد عثروا على كنز، ومنذ أن غادرت مريم وأسرتها المنزل لم يعد يسكنه سوى الجن. إن هذه الأسطورة الشائعة بين الجميع كانت تجعل الكل خائفا من الاقتراب من هذا المنزل حتى لا تظهر لهم الست نجمية، وهو ما كان يخيف مريم كثيرا، لكنها لم تستسلم لمثل هذا الخوف، وكانت تريد أن تعرف الحقيقة؛ الأمر الذي دفعها ذات مرة، وبعد الكثير من التفكير والتردد، إلى الصعود لسطح بيتها المجاور لبيت الست نجمية لمواجهتها: "في ليلة من الليالي قررت الصعود. لم تفكر في لحظة الاقتحام، فكرت فقط فيما بعدها، فهي إما أن تبقى جبانة، وإما أن تنتصر إلى الأبد. صعدت السطح. اقتربت من الجدار مغمضة ومسرعة، وكأنها تهرب من خوفها، ثم جاءت اللحظة الحاسمة. وضعت يديها على السور، وثقلت قدميها على الأرض وهي تقرأ ما حفظته من قصار السور، وتستعيذ بالله من شرور الشياطين، وفتحت في لحظة عينيها. كان القمر يضيء المكان، شاهدت الغرف المهجورة المحيطة بأشجار الفاكهة التي تنوء بحملها، اخترق نظرها نوافذ الغرف ذات الزجاج المكسر، فلم تجد الجنيات يطبخن أو يغسلن أو يقمن بأعمالهن الشريرة. لم يكن ثمة أحد، وحين تحمست أكثر؛ صاحت بملء صوتها: نجمية، تعالي إليّ يا نجمية! فلم يبد أي أحد أية حركة، قضت ليلى الوقت تراقب حتى شقشق الفجر؛ فنزلت بهدوء، ومشت بجوار السور واثقة، ومن يومها لم تعد تخشى الصعود لنشر الغسيل، أو مراقبة مربى المشمش ليلا أو نهارا"، أي أن ليلى نجت في تخطي الأسطورة والكفر بها وحدها خلافا لجميع أبناء الحارة، ولكن، هل كان كسر إطار الأسطورة ورهابها المتضافر مع الخيال الذي يزيد من تأثيرها هو الأفضل، أم الاستكانة إليها والغرق في تفاصيلها؟

إن خروج ليلى من إطار الأسطورة التي أجمع عليها جميع أبناء الحارة جعلها عقلانية، منطقية، شديدة الاستقلال؛ مما دفعها للإعراض عن سماع حكايات الجدات التي كانت تستهويها، كما لم تعد تشارك أقرانها في لعبهم وخوفهم السابق، لكنها شعرت شعورا عميقا بفقدانها لشيء آخر حميم لم تكن تفهمه جيدا، وهو الخيال؛ لذلك ختمت القاصة قصتها بما يشبه المفارقة التي تؤكد أن الأسطورة لها سحر أفضل من الواقع اليقيني: "غادرت ليلى الحارة، وطارت إلى بلاد بعيدة؛ لتتابع دراستها، ولم يكن للجنيات يد في ذلك، وحينما عادت كانت دار الست نجمية على حالها، وكانت أسرارها لا تزال محرك حياة الأطفال والكبار، ظلت تقف طويلا عند السور، وفي كل ليلة تستجدي نجمية لتظهر لها، لا من أجل أن تمنحها الذهب، بل لتعيد إليها تلك الرعدة اللذيذة في الروح التي فقدتها منذ زمن طويل"، أي أن ليلى الموقنة من عدم وجود الجنية، والكافرة بالخرافة، كانت في أعماقها تتمنى أن تظهر لها نجمية بالفعل من أجل أن يعود إليها إيمانها بالخرافة، ومن ثم الإيمان بالخيال المفتقد حينما اكتشفت الحقيقة.

في قصة فريدة تصوغ القاصة قصتها "ليلة انهار البناء" التي تؤكد فيها أن ثمة أحداث قد تبدو في ظاهرها مجرد أحداث عادية ويومية ومستهلكة، وغير لافتة للنظر، لكننا إذا ما تأملناها بعمق؛ لاتضح لنا أن عاديتها الظاهرية التي تبدو أمام الجميع تحمل في عمقها عدة كوارث قد تؤدي إلى الكثير من الفضائح للكثيرين؛ ففي القصة ثمة بناء ما قد انهار، وهو أمر طبيعي قد يحدث كثيرا، لكن هذا الانهيار فضح الكثيرين ممن كانوا فيه من خلال تقرير مختار الحي: "ليلة انهار البناء خرجت المرأة التي تقطن في الطابق الثاني في وقت متأخر، قالت: إنها ذهبت إلى منزل أهلها في الشارع الخلفي؛ لتأتي برغيف خبز، فزوجها الذي سافر فجأة في ذلك اليوم لم يتسن له إحضار متطلبات البيت. حين عادت المرأة مع الفجر، وجدت بيتها كومة حجر، وتحتها طفلاها النائمان ميتين. فيما بعد، تبين أنها كانت عند أحدهم، ذلك الرجل الذي يقطن في نهاية الشارع. وليلة انهار البناء، غادر الرجل مكتبه حوالي الحادية عشرة مساء، لم يتجه إلى البيت. زعم أن عملا كثيرا لديه، مناوبة، أو ما أشبه، صرف سائقه، وقاد السيارة بنفسه، توقف أمام "سوبر ماركت"، اشترى طعاما وشرابا ومضى. مع الفجر، أخلى رجال الدفاع المدني جثة ضابط كبير كان في منزل فتاة، فتاة ليل، تقطن في الطابق الرابع، وليلة انهار البناء، غادرت الحماة منزلها، ومعها ابنتها؛ لتقضي الليلة في بيت ابنها الذي يقطن في الطابق الثالث، ويعمل في دولة عربية، مستغلة غياب زوجته. كانت تلك عادتها كلما سافرت الكنة لتزور أهلها في المدينة المجاورة. اقتحمت الحماة منزلها؛ لتفتش، وتطّلع، وتأخذ. ليلتئذ، استدعيت الكنة؛ لتتعرف على حماتها، وبنت حميها اللتين خرجتا جثتين هامدتين من تحت الأنقاض"، أي أن العجيلي كانت حريصة على إعادة صياغة العالم الطبيعي، الذي يبدو أمام الناس عاديا، من خلال نظرتها الأعمق خلف هذا الحدث العادي؛ فخلف ما هو مألوف تكمن العديد من الحكايات التي لم يكن يتصورها أحد، وهي الحكايات التي ما كان لأحد أن يدري بها أو يعرف عنها شيئا، لولا هذا الحدث العادي- انهيار البناء- الذي فضح الجميع من خلال تقرير المختار الذي كتبه؛ ومن ثم أدان الجميع- الزوجة، والضابط الكبير، والحماة المتجسسة على زوجة ابنها- تنجح شهلا في سوق هذه الحكايات من خلال مقاطعها التي تزخر بالمفارقات المتعددة التي تُكسب القصة المزيد من العمق والطرافة.

شهلا العجيلي

هذه الطرافة التي لاحظناها في القصة السابقة نلاحظها مرة أخرى في قصتها "المغلف الأزرق"، وهي القصة التي تحاول من خلالها شهلا السخرية من المجتمع الثقافي العربي وما يدور فيه من زيف، وادعاء يؤدي إلى صعود أنصاف المواهب إلى درجات عالية من المجد، في حين أن أصحاب المواهب الحقيقية يظلون في الظل لا يدري عنهم أحد شيئا؛ فالقاصة التي لم تصدر سوى مجموعتين قصصيتين لم يهتم بهما أحد- في قصتها- تُفاجأ بفوزها في مسابقة كبرى عن ديوان شعر لها لم تكتبه في حقيقة الأمر ولا تعرف عنه شيئا: "فوجئت القاصة التي كانت تشق طريقها بتؤدة نحو عالم الإبداع برسالة بريدية تخبرها بأنها فازت بالمرتبة الأولى في إحدى أهم الجوائز العربية، وذلك في فئة الشعر، عن ديوانها (عواصف الحنين) الذي اقترحت لجنة الجائزة تغيير اسمه إلى (نجنا من الشرير)! لكن الشاعرة التي لم تصدر سوى مجموعتين قصصيتين، ولم تفكر يوما في أن تتقدم إلى أية مسابقة، لا تكتب الشعر، بل تكتب على استحياء ما يسمى تجاوزا نثرا شعريا، وتلقيه في درج مكتبها، إذ تحولت بعد يقينها من ضعف كفاءتها الشعرية إلى كتابة القصة. أيكون هو زوجها السابق قد جمع مكتوباتها، وأرسلها إلى المسابقة قبل انفصالهما؟! ربما يكون هو، وها قد عاقبه الله بالفوز، ولكن من أين جاءت "عواصف الحنين"هذه؟ لا بد من أنه هو قد اختار العنوان أيضا!". إذن، فنحن منذ بداية القصة أمام قاصة لا تكتب الشعر قد فازت في إحدى أهم الجوائز العربية المتخصصة في الشعر، وهي لا تعرف شيئا لا عن المسابقة، ولا عمن كتب هذا الديوان الشعري الذي فازت به، لكنها يستهويها الأمر ولا تهتم بمعرفة الحقيقة؛ لأنها قد استحقت الآن مبلغا ضخما من المال، كما أن هذه الجائزة سوف تفتح أمامها آفاقا عظمى من الشهرة، والاهتمام بأعمالها التي لا يهتم بها أحد. تشتري الشاعرة/ القاصة سيارة فارهة، وتستمتع أيما استمتاع بأموال الجائزة الضخمة، وتتغير معاملة الجميع لها باعتبارها كاتبة مشهورة، ولها مكانتها الاجتماعية بعد الجائزة، بل وتكتب روايتها الأولى التي تذهب بها إلى دار النشر التي نشرت لها مجموعتيها السابقتين، وهناك حينما تجلس أمام الشاب العشريني الذي يصف نصوص الدار ويعمل على تنضيدها يخبرها أنها في آخر مرة ذهبت إليه منذ زمن ربما يعود إلى أربع سنوات نسيت على مكتبه مغلفا ورقيا أزرق عليه اسمها وعنوانها، ولأنه كان فارغا لم يهتم بإرساله لها، لكنه استخدم هذا المغلف الأنيق بأن وضع فيه قصائده؛ ليشترك بها في الجائزة العربية الكبرى التي فازت فيها عن ديوانها "نجنا من الشرير"، هنا يصفر وجهها، وتُدرك أنه هو من كتب الديوان الذي فازت به: "بادرته بوجه أصفر، ولسان متلجلج: لا بد من أنك نسيت أن تضع على المغلف الأزرق عنوانك! قال: كأنك كنت معي، لقد خامرني الشك بعد أن أرسلت المغلف بأنني كتبت عنوان المرسل إليه، ونسيت أن أكتب اسمي وعنواني، لكن حتى لو نسيت فمن المؤكد أنهم سيبحثون عني في حالة فوز ديواني (عواصف الحنين)، إلا أن (نجنا من الشرير) هو الذي فاز، وشتان بين القلمين أيتها المبدعة!". أي أن العجيلي قادرة من خلال المفارقة التي اعتمدتها كأساس لقصتها على السخرية من المجتمع الثقافي وما يدور فيها من مصادفات تجعل من غير ذوي الموهبة كتابا كبارا.

في قصتها "حالة إغماء" التي تتحدث عن ساكن جديد وصل إحدى البنايات ليقطن فيها، تصف القاصة حالة البنات اللاتي يقطن في الجوار، والبناية نفسها، حينما حاولن جاهدات لفت نظر الشاب العشريني الوسيم صاحب البنية الضخمة والمظهر الأنيق، والذي لا يخرج سوى في مواعيد ثابتة لينزه كلبه الأسود الضخم، وهنا تحاول الجارة غير مرة أن تلتقي به لتوقعه في شباكها بنظراتها، أو تأمله لجمالها رغم كراهيتها ومخافتها الكبيرة من الكلاب، لكنها تصرّ ذات مرة أن تعترض طريقه؛ للنظر في عينيه مباشرة وإيقاعه في حبائلها، لكن سلسلة الكلب الذي يغرس أنيابه الحادة في ساقها تنفلت من يديه. لعل أهم ما في هذه القصة مقدرة الكاتبة على الكتابة بأسلوب سينمائي يكاد أن يكون بصريا من خلال السرد، حتى أننا نرى السرد في حركة التصوير البطئ Slow Motion وكأننا بالفعل أمام مشهد سينمائي تم تصويره: "شحذت كل رغبة واستقلت المصعد إلى طابقه، قبيل توقيت خروجه من بيته بلحظات، أبقت باب المصعد مفتوحا، وهي داخل الحجرة لينضم إليها، سمعت صوت اقترابه من الباب؛ فهبط قلبها. فتح الباب، خرج وكلبه، أغلق الباب، ثم وضع المفتاح في القفل ليحكم الإغلاق، انفلتت السلسلة من يده؛ فاندفع الكلب إلى حجرة المصعد التي أُغلق بابها بمجرد دخوله. تسمرت، واختلط نباحه بصياحها. كانت آخر صورة بدت لناظريها: أنياب حادة، ولسان أحمر متدل، ولعاب، فبعدها راحت في حالة إغماء، نتيجة خوف شديد، وعضة في الساق"، مع تأمل المقطع السردي السابق يتضح لنا أن تقطيع المقطع إلى جمل شديدة القصر فيها الكثير من التركيز يؤكد أن القاصة تعي أسلوب الحركة البطيئة سينمائيا، وهو ما حاولت استغلاله سرديا بتقطيع الجمل والتركيز على أفعال البطل حتى انفلات الكلب من يده لتكون نهاية القصة التي انتهت باغماءتها وعضها، ولنتأمل: "فتح الباب، خرج وكلبه، أغلق الباب، ثم وضع المفتاح في القفل ليحكم الإغلاق، انفلتت السلسلة من يده؛ فاندفع الكلب إلى حجرة المصعد التي أُغلق بابها بمجرد دخوله". إن كتابة الكاتبة: "فتح الباب، خرج وكلبه، أغلق الباب"، وما يليه من سرد لم يكن من قبيل التكرار، أو مجرد ترهل في السرد بقدر ما كان رغبة من الكاتبة في التركيز ولفت انتباه القارئ على الأفعال الواحد تلو الآخر ببطء شديد مستخدمة تقنية السينما في العرض البطيء؛ نظرا لأهمية المشهد التالي الذي أدى إلى الإغماء.

هذه الاستفادة من تقنيات السينما واستعارتها في السرد القصصي هو ما نراه مرة أخرى من خلال تقنية جديدة في قصة "سرير بنت الملك"؛ حيث استخدمت العجيلي تقنية المونتاج المتوازي Cross Cutting لبناء قصتها وصياغة العالم القصصي الخاص بهذه القصة؛ فالقصة عبارة عن قصتين تتقاطعان، وتتبادلان السرد بشكل متتال إلى أن تلتقيا في المقطع الأخير منها. ثمة حكاية أسطورية عن ابنة السلطان التي تؤكد العرافة لأبيها أنها ستموت في العشرين بعدما يلدغها عقرب؛ لذلك يأمر السلطان بسرير لها، معلق في الهواء على أقصى ارتفاع من الممكن أن يصل إليه أمهر البنائين، ثم تنتقل العجيلي إلى الرجل المُعذب بغرام إحدى الكاتبات التي تملأ كل وسائل الإعلام بكتاباتها وأخبارها، وهو الرجل الذي حاول ألا يتابع أخبارها والاستغناء عنها بمقاطعته لوسائل الإعلام أو القراءة؛ حتى لا يرى أي شيء يخصها أمامه، وينجح في ذلك، لتعود العجيلي إلى بنت السلطان التي تعيش في الهواء وتصل إليها احتياجاتها عن طريق حبال ترفع لها ما تريده، وفي عامها العشرين يكاد أن ينتهي اليوم بخير، لكن العبيد يرفعون إليها أجود أنواع الفاكهة التي تسرب إلى عنقود العنب فيها أحد العقارب خفية، وما أن تمد يدها إليه حتى يلدغها. هنا تعود العجيلي إلى الرجل المُعذب لتربط الحكايتين مع بعضهما البعض لتكتب: "هناك، في الحي البعيد الذي يقع عند أطراف المدينة، جلس في هدأة المساء الرجل الذي قاطع أخبار المرأة الكاتبة ليتناول طعامه، وقبل أن يرمي بالورقة التي لفت بها الشطيرة، والمُجتثة من أصل مجلة، قرأ فيها الحكاية التي عنوانها (سرير بنت الملك)، أما الحكاية فقد كانت موقعة باسم الكاتبة التي قرر الرجل أن يهرب منها!"، أي أن العجيلي نجحت في استخدام أسلوب المونتاج المتوازي في السرد الذي جعل الحكايتين تسيران في خطين مستقيمين على امتداد كل منهما، إلى أن تلتقيا معا في المقطع الأخير الكاشف/ المفارقة الذي يؤكد لنا أن الحكاية الأولى عن بنت الملك، كان لها علاقة وثيقة بالكاتبة التي يحاول الرجل المُعذب أن يهرب من سطوتها عليه، لكنه يقرأ قصتها بالمُصادفة في نهاية الأمر.


لكن، رغم امتلاك شهلا العجيلي لأدواتها السردية القصصية، ورغم وعيها بأسلوبية الكتابة القصصية، وامتلاكها للغتها الخاصة، ومقدرتها على استعارة التقنيات السينمائية؛ لتطويعها في النص القصصي نلاحظ أنها في قصة "حدث في البلدة" تنطلق من حدث قصصي يمتلك الأسلوبية والحدث، لكن القاصة تفشل في إغلاق العالم الذي بدأته؛ وبالتالي تكون النهاية التي ساقتها غير منطقية أو مقنعة لبناء هذا العالم الذي بدأت به، أي أن القاصة بدأت عالما قصصيا جيدا انتهت منه إلى الفراغ الذي يجعلنا نتساءل: لم كتبت القاصة هذه القصة، أو هل انتابتها رغبة ما في كتابة قصة، أي قصة؛ الأمر الذي أدى بها إلى هذه النهاية غير الفنية؛ نتيجة لأنها منذ بداية القص لا تحمل فكرة حقيقية وثرية في ذهنها؟!

تبدأ العجيلي قصتها بالعديد من المظاهر الغريبة التي انتابت إحدى البلدات فجأة؛ فالبيوت بالكامل قد تم طلائها باللون الترابي؛ الأمر الذي أكسب البلدة بالكامل اللون الأصفر، كما أن جميع أبناء القرية قد ارتدوا ملابس تتميز باللون الأزرق القاتم الذي لا يتناسب مع بشرتهم القاتمة التي لوحتها أشعة الشمس الحارقة، كما أن هنالك حالة من الإسهال العامة التي انتشرت بين جميع أهل القرية؛ نتيجة استخدامهم لزيت الخروع الذي أكدت لهم الدعاية عنه أنه يعمل على تقوية الشعر والأظافر، وإذابة الشحوم، وتنعيم الجلد، وزيادة الذكاء. ربما كان هذا العالم الذي عملت العجيلي على بنائه يحمل من الثراء ما يمكن لها من خلاله أن تعمل على تعميقه وبناء قصة جيدة، لكنها بعدما استعرضت هذه الأمور الغريبة التي حدثت ذات صباح في البلدة نُفاجأ بخاتمة القصة غير الفنية، أو المنطقية: "في الحقيقة، لم يكن وراء تلك الظواهر الغريبة في البلدة سوى العمدة الذي ساهم في صفقة طلاء كسد فيها اللون الترابي، ثم أبرم ابنه صفقة قماش؛ فبارت تجارته في اللون الأزرق القاتم، وأخيرا وليس آخرا، جاءت صفقة زيت الخروع!".

إن المقطع السابق الذي أنهت به القاصة قصتها أدى إلى تحويل السرد القصصي الذي افتتحت به، وما يحمله من لغة وإحالات قصصية، إلى مجرد تقرير صحفي يبتعد تماما عن العالم الإبداعي للقصة القصيرة، فكأنما القاصة قالت: حدث كذا وكذا في البلدة، وكان السبب في ذلك هو فساد العمدة، أي أن الكاتبة تقدم لنا تقريرها الصحفي عن الفساد الذي يعم أغلب المنطقة العربية من دون وجود أي فنيات في العمل، كما أن ختام القصة يبتعد كثيرا عن المفارقة التي تتميز بها جل قصصها في المجموعة.

في قصة "أمن بيئي" تقع القاصة في نفس المشكلة السابقة حينما تبدأ عالما قصصيا، وسردا جيدا يفضي بها وبالقارئ إلى الفراغ الذي يجعلنا نتساءل: وماذا بعد؟! لم كتبت القاصة هذه القصة وماذا قدمت لنا؟!

إن هذا التساؤل لا بد أن يتشكل في الذهن دائما حينما تحاول القاصة إغلاق العالم الذي بدأته، لكنها لا تجد ما يتناسب مع العالم؛ فتحاول إنهائه بأي شكل، سواء كان منطقيا أو غير منطقي، فنيا أو غير فني. تكتب العجيلي: "الطالب الذي قدم من منطقة نائية، والذي ابتعثته الجامعة لمتابعة دراسته في فرنسا، أقدم على قتل عشيقته التي رآها بصحبة زميل فرنسي. عندها قررت الجامعات الفرنسية أن تطلب مع أوراق الإيفاد وثيقة تصادق فيها الجامعة الأصلية على أن البيئة التي ينتمي إليها الطالب الموفد، بيئة صحية، تؤهله للعيش في فرنسا. وقع القائمون على الأمر في حيص بيص، ولم يتمكن حتى الرجل الرشيد فيهم من الوصول إلى طرف مؤهل لمنح مثل هذه الوثيقة، فهذا الذي اقترح أن تمنح من قبل وزارة التعليم، وذلك الذي أصر على أن الوثيقة من اختصاص وزارة الزراعة، والآخر أدلى بدلوه المتضمن أن المسؤول عن الأمر وزارة الصحة. ومنذ ذلك الحين صار الطلاب الموفدون يحصلون على وثيقتهم تلك من دائرة الأرصاد الجوية إلى أن أُحدثت وزارة البيئة".

حرصنا هنا على سوق القصة بالكامل كما كتبتها العجيلي لبيان أنها قد بدأت من حدث قد يكون مدهشا، وصالحا لصياغة عالم قصصي والمضي قدما فيه، لكنها لم تستطع الاستمرار في هذا العالم، والعمل على تعميقه، أو اللجوء إلى مفارقة تستطيع من خلالها إغلاق الدائرة القصصية بما يعمل على إثراءها وتعميقها، بل أدت نهاية القصة فيما بعد- وهي القصة التي لم نر فيها أي تطور أو قص حقيقي بعد المقطع الأول- إلى تسطيحها، وجعلها شديدة المباشرة، ومثيرة للتساؤل: ماذا تريد القاصة أن تقدم لنا؟!

لكن رغم مهارة العجيلي في سردها القصصي، ورغم أهمية مجموعتها القصصية نلاحظ ثمة أخطاء لغوية تقع فيها الكاتبة، وإن كانت القليل من الأخطاء؛ لتختلف في ذلك عن غيرها من كتاب العربية الذين تغص أعمالهم بجرائم لغوية؛ فنرى لديها مثلا: "رغما منه" بدلا من "رغما عنه"، و"يشعر به أحدا" بدلا من "يشعر به أحد" لأن "أحد" هنا فاعل مرفوع بالضمة ولا يمكن أن يكون منصوبا، وقولها: "على أسطحة المنازل" بدلا من "أسطح المنازل"، وكتابتها: "يُعمّر لها سرير معلق في الهواء"، وتصحيح الجملة هو: "يعمر لها سريرا معلقا في الهواء، وكتابتها: "شاهدت نجمية بأم عينها"، والصحيح هو "بأم عينيها" لأن مريم التي شاهدت بالتأكيد لها عينين وليس عينا واحدة فقط.

تأتي المجموعة القصصية "سرير بنت الملك" للقاصة السورية شهلا العجيلي باعتبارها من المجموعات القصصية المهمة التي تضع نصب عينيها أهمية التقنيات القصصية، وامتلاك كاتبتها لهذه التقنيات، بل والتلاعب بها، لا سيما أسلوب المفارقة الذي تعتمده الكاتبة كأسلوب في القص من خلال جل قصص المجموعة التي اكتسبت قصصها أهميتها من هذا الاعتماد الكامل عليها، ليس في نهاية السرد فقط كإغلاق للعالم القصصي، بل كانت المفارقة في العديد من القصص التي تبدأ بها، وتنتهي بهذه المفارقة، أي أن العالم القصصي لديها زاخر بالأحداث التي لا يمكن أن تؤدي بالقارئ سوى إلى الدهشة التي هي من أهم ما يمكن أن يمتلكه الكاتب كي يثير اهتمام قارئه والامساك بتلابيبه حتى السطر الأخير مما كتبه.

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عدد أكتوبر 2020م.

 

الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

البروفيسور والمجنون: رجل دءوب وآخر بائس يجمعهما إطار من الملل!

 


كثيرا ما تكمن مشكلة سينما السيرة الذاتية في انسياق المخرج وصناع الفيلم- معه- إلى الالتزام بسيرة الشخص الذي يتحدث عنه، أو يقدم حكايته. أي أن المخرج في معظم الوقت يعمل على تقييد نفسه، مانعا ذهنه وذهن السيناريست من التحليق في الخيال وتقديم ما يلائم صناعة السينما المحلقة دائما؛ وبالتالي تسود أفلام السيرة الذاتية في معظم الوقت الحكاية المملة التي تُشعر المشاهدة بالرغبة في عدم إكمال الفيلم الذي أمامه، أو شعوره بالطول المُبالغ فيه فيما يشاهده. هذا الطول في حقيقته لا يعود إلى مشاكل في المونتاج بشكل مباشر بقدر ما يعود إلى محاولة المخرج الالتزام بالتاريخ والسيرة التزاما حرفيا، حتى لو كانت الأحداث التي يلتزم بها والحكاية يحملان داخلهما الكثير من السقم، لكنه يُصرّ على فعل ذلك، رغم أن خيانة الحكاية الأصلية قد تدفع بالفيلم في النهاية إلى آفاق أكثر رحابة من الالتزام بالأصل.

إذن، فصناعة سينما السيرة الذاتية تعاني فعليا من فقر وجفاف الخيال، والحيوية، والانطلاق، وتدفق الحدث، والمشاهد اللاهثة في الغالب منها؛ بسبب خوف صانع السينما من خيانة الأصل، وهو ما نراه في الكثير من أفلام هذه النوعية السينمائية.

في الفيلم الأيرلندي The Professor and the Madman البروفيسور والمجنون، أو Profesorius ir Pamiselis تبعا للاسم الأصلي للفيلم يحاول المخرج الإيراني الأصل الأمريكي الجنسية فرهاد صافينيا Farhad Safinia تقديم فيلم يتناول فيه السيرة الذاتية للرجل الذي كتب قاموس إكسفورد الذي اعتمد فيه على التطور التاريخي لكل كلمة في اللغة الإنجليزية منذ نشأتها وتطورها حتى لحظته الراهنة في 1872م وهو تاريخ بداية أحداث الفيلم.


اعتمد المخرج في فيلمه على رواية كتبها الروائي البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية سيمون وينشيستر
Simon Winchester وهي رواية جرّاح كروثورن The Surgeon of Crowthorne، ورغم أننا نلاحظ من عنوان الرواية أنها تهتم بجراح ما في منطقة ما، ورغم أن عنوان الرواية هو الاسم الذي يُطلق على الفيلم في كل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية؛ مما يُدلل على أن قصة هذا الجراح هي الأهم في الفيلم، إلا أن المخرج فرهاد صافينيا قرر أن يكون اسم الفيلم هو "البروفيسور والمجنون" في إحالة مباشرة ومبكرة منه إلى أن السيرة الذاتية لكاتب قاموس إكسفورد هي الأهم لديه من حكاية الطبيب المجنون الذي تتحدث عنه الرواية، أي أنه وضع قصة حياة كاتب القاموس في المقدمة على الطبيب.

منذ بداية الفيلم يسير السيناريو في خطين متوازيين لا علاقة لبعضهما البعض من خلالهما؛ فنحن أمام حياتين مختلفتين تماما: حياة الطبيب الأمريكي المتقاعد من الجيش النقيب جراح ويليام مانيور الذي قام بأداء دوره ببراعة الممثل الأمريكي شون بن Sean Penn، وهو الطبيب العسكري المضطرب نفسيا واللاجئ إلى بريطانيا العظمى خوفا مما رآه وحدث معه في الحرب الأهلية الأمريكية؛ حيث يتخيل دائما أن ضحاياه يطاردونه من أجل قتله، ويذهبون إلى منزله في الليل لفعل ذلك؛ الأمر الذي يصيبه بالكثير من الهلاوس مما يفضي إلى قتله لأحد الرجال الذين لا يعرفهم ظنا منه أنه أحد المطاردين له؛ ومن ثم يُحكم عليه بالإيداع في أحد المحصات النفسية ليكون تحت الملاحظة الدائمة؛ لأن وجوده في المجتمع يمثل خطرا على المجتمع فضلا عن خطره على نفسه، وفي مقابل هذا الخط نشاهد خطا آخر يسير متوازيا معه تماما وهو قصة جيمس موري الذي قام بأداء دوره الممثل ميل جيبسون Mel Gibson وهو الرجل الذي لم يحصل على شهادة جامعية؛ حيث ترك التعليم في فترة مبكرة من حياته من أجل الإنفاق على نفسه، لكنه اعتمد على التعلم الذاتي؛ الأمر الذي جعله يتقن الكثير جدا من اللغات، بل ويعد أطروحات لغوية في الكثير من فروع اللغة؛ الأمر الذي يجعل علماء جامعة إكسفورد ينظرون إليه بتعال ويرون أنه غير صالح لمهمة الانكباب على كتابة قاموس إكسفورد الذي يعتمد على التطور التاريخي للمفردات الإنجليزية، ولكن من خلال مساندة البروفيسور "فريدي" له، ينجح في إقناع مجلس العلماء في الجامعة على منح جيمس مهمة البحث وكتابة هذا القاموس الذي يحتاج إلى فريق ضخم من الباحثين ومدة زمنية قد تصل إلى قرن من الزمان، لكن جيمس كان من الذكاء ما جعله يطوع كل من يكتبون ويتحدثون بالإنجليزية جاعلا منهم فريقا بحثيا مساعدا له من خلال رسالة كتبها لأبناء اللغة الإنجليزية يطلب منهم فيها أن يقوموا بإرسال أي مفردة لغوية والشاهد الأدبي أو الديني عليها من خلال قراءاتهم اليومية، وهو الأمر الذي ساعده كثيرا في إنجاز هذا القاموس الضخم الذي كان بمثابة المغامرة الطموحة التي لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع.

إذن، فالسيناريو يسير من خلال خطين متوازيين لقصتين وعالمين مختلفين لكل من البروفيسور والطبيب المضطرب نفسيا، إلى أن يلتقيا في منتصف الفيلم ويسير السيناريو فيما بعد في خط واحد تقريبا.

نلاحظ منذ بداية الفيلم برودة الأحداث التي يقدمها من خلال متابعة قصة البروفيسور جيمس موري سواء في حياته الشخصية مع أسرته، أو مع فريق العلماء والباحثين في جامعة إكسفورد. هذه البرودة في الأحداث تجعلنا نشعر بالكثير من الملل وافتقاد الروح، ولولا أن القصة الموازية للطبيب الأمريكي المضطرب نفسيا كان فيها القليل من التشويق لما استطاع المشاهد الاستمرار في مشاهدة الفيلم الذي استمرت أحداثه ساعتين كاملتين من الصقيع البارد الذي لا يمكن لأحد أن يحتمله؛ فثمة شعور منذ البداية بأن المخرج لا يعرف ما يجب عليه أن يقدمه أو يقوله، أو أنه لديه قصة ما لكنه لم يقف على الشكل المناسب لها من أجل تقديمها في شكل سينمائي جذاب وحيوي؛ الأمر الذي أكسب الفيلم الكثير من الترهل والبرودة والصنعة المتكلفة رغم أهمية الموضوع الذي يتحدث فيه، لكن حياة جيمس موري نفسها لم يكن فيها شيئا مهما من الممكن تقديمه، وهذا هو الخطأ الأساس الذي وقع فيه الفيلم باعتباره من أفلام السيرة الذاتية، فهو يريد متابعة حياة البروفيسور جيمس التي لا يوجد فيها ما يمكن أن يكون جاذبا للمشاهد، في حين أنه لو كان قد ركز بشكل أكبر على قصة الطبيب الأمريكي المضطرب لجعل الفيلم أكثر جاذبية وتشويقا للمشاهد.

الروائي الإنجليزي الأصل سيمون وينشستر
صحيح أنه قدم لنا حياة البروفيسور جيمس في شكل يؤكد فيه على رجل جسور وقوي وحالم، شديد الدأب في مسعاه تجاه حلمه العلمي وتقديم أهم قاموس في تاريخ اللغات وحده، لكن القصة كانت مُفتقدة للكثير من الحيوية، بالإضافة إلى ازدحام الشخصيات في السيناريو، وهي الشخصيات التي لم يكن لها أي دور أو معنى في تصاعد الأحداث؛ الأمر الذي جعلنا كثيرا ما نتساءل: ما هو دور زوجة جيمس "إدا" في الفيلم؟ لقد منحها السيناريو مساحة كبيرة لا داعي لها، بل لم يكن هناك أي داع لوجود الزوجة في الفيلم بالكامل؛ فنحن طوال الوقت نراها صامتة متأملة، يشوب ملامحها الكثير من الحزن غير المبرر من قبل صناع الفيلم. فلِمَ تبدو هذه الزوجة بهذا الحزن الدائم رغم المعاملة الحسنة والجيدة جدا من قبل زوجها لها، وما هو الدور المهم الذي لعبته في أحداث الفيلم البطيئة التي بدت لنا وكأنها أبدية؟ إنها لم تُساهم بأي شكل في تطور السيناريو وتنامي الأحداث، بل كانت عاملا مُعطلا لها فضلا عن ازدحام الفيلم بشخصيات لا ضرورة لها.

الممثلة الإنجليزية ناتالي درومر
في الجانب الآخر حينما يُودع الطبيب الأمريكي وليام في المصحة النفسية يستطيع أن ينقذ أحد الجنود من الموت بعدما تقع البوابة الحديدية الضخمة على ساقه؛ وهو الأمر الذي جعل الطبيب الملاحظ له يمنحه الكثير من الامتيازات داخل سجنه، منها وجود مكتبة ضخمة في زنزانته، والسماح له بالأقلام والحبر والأوراق من أجل الكتابة والرسم. في هذه الأثناء يدفع شعور الندم الشديد الذي يشعر به الطبيب الأمريكي إلى أن يطلب من المشرفين عليه أن يُمنح كل معاشه التقاعدي من الجيش الأمريكي إلى أسرة الرجل الذي قتله بالخطأ ظنا منه أنه أحد من يطاردونه، لكن الأرملة إليزا ميريت التي قامت بدورها الممثلة الإنجليزية Natalie Dormer ناتالي دورمر ترفض هذه المساعدة من قاتل زوجها في بداية الأمر، إلا أن جوع أبنائها أمامها يجعلها ترضخ في نهاية الأمر لقبول هذا العرض؛ الأمر الذي يدفعها إلى الذهاب للمصحة من أجل رؤية الطبيب؛ كي تعمق من شعور الكراهية داخلها، وتتشفى فيه وهي تراه في هذا الوضع، لكنها شيئا فشيئا تبدأ في تناسي حقدها عليه، بل وتكون بينهما صداقة تؤدي في النهاية إلى شعور بالحب العميق يكنه كل من الطرفين للآخر.

الممثل الأمريكي ميل جيبسون
هذا الارتياح والشعور بالحب العميق من قبل الطبيب وليام يترجمه في رسم صورة إليزا ميريت لتظل أمامه في زنزانته طوال الوقت معتبرا أن هذا الشكل من الحب هو المستحيل الدائم، في حين أنها تترجم هذه العاطفة بجلب أبنائها من أجل التعرف على الطبيب باعتباره صديقا للأم، لكن الابنة الكبرى التي رأت مقتل أبيها على يد وليام لم تستطع الشعور بالتسامح، وما أن اقترب منها لمصافحتها إلا وصفعته بقوة على وجهه وبدأت تضربه في كل مكان في حالة انهيار تام.

إن مشهد صفع الشابة "كلير" للطبيب كان من أهم المشاهد التعبيرية في هذا الفيلم؛ حيث ركزت الكاميرا على اختلاجات وجه الطبيب من خلال استخدام اللقطة الكبيرة، التي لاحظنا من خلالها مدى دقة ونجاح الممثل شون بن في إعطاء رد الفعل المطلوب والمناسب من رجل يشعر بشعورين متناقضين: الإهانة، والندم على ما سبق أن بدر منه تجاه هذه الفتاة التي قتل أبيها. إن المقدرة التمثيلية التي قدمها الممثل الأمريكي شون بن من خلال هذا الدور تُدلل على ممثل قادر على إعطاء أي خلجات أو ملامح من الممكن أن تتطلبها الشخصية التي يؤديها، وهو ما رأيناه في بداية الفيلم أيضا حينما حاول محاميه الدفاع عنه في قاعة المحاكمة باتهامه بالجنون. في هذا المشهد تركز الكاميرا على الممثل الذي يؤكد من خلال حركات جسده، ورأسه ونظراته ويديه مقدرته الهائلة على الأداء؛ حيث رفض اتهامه بالجنون رغم أنه الأمر الوحيد الذي من الممكن أن ينقذه وحاول التأكيد على أنه عاقل، رغم أن حركاته الجسدية بالكامل مع نظراته تؤكدان على أن ثمة اضطراب نفسي يعاني منه هذا الطبيب، ولعل هذا الأداء من شون بن كان من أكثر العوامل التي جعلت أداء ميل جيبسون يبدو أمامه باردا إلى حد كبير في أداء دور البروفيسور جيمس وإن كان قد حاول الاجتهاد في أدائه أمام بن.

الممثل الأمريكي شون بن
يقرأ الطبيب الأمريكي وليام الرسالة التي وجهها جيمس إلى جميع الناطقين باللغة الإنجليزية؛ وهو الأمر الذي يجعله ينغمس تماما في قراءة أعداد هائلة من الكتب بشكل أقرب إلى الجنون، ومن خلال هذه الكتب ينجح في استخلاص 1000 كلمة من اللغة الإنجليزية ومتابعة تطورها التاريخي من خلال الشواهد الأدبية وغيرها وحده، أي أنه كان يقوم بدور كتيبة كاملة من الباحثين من خلال تفرغه المجنون للبحث عن أصول الكلمات تاريخيا.

لم يكن هذا الاهتمام بمساعدة جيمس لمجرد أنه يريد أن يساهم في هذه المهمة العلمية البحثية، بل لأنه- الطبيب- كان يحاول دائما الهروب من حياته، وخيالاته وتوجساته، والأهم محاولة هروبة من الشعور الدائم بالذنب نتيجة قتل الرجل الذي لا يعرفه؛ فضلا عن تعمق هذا الشعور بالذنب حينما شعر بالحب تجاه أرملة القتيل؛ الأمر الذي كان يُشعره في قرارة نفسه بالألم والخيانة، والإمعان في قتل الرجل بسرقة أرملته منه بعد قتله.

المخرج الإيراني الأصل فرهاد صفي ينا
أي أن الطبيب كان يستمد ثباته النفسي الدائم واتزانه من الإحساس بأن هناك ثمة من يكرهه على أفعاله التي اقترفها- الأرملة وأبناء القتيل- لكنه حينما شعر بالحب ممن كانوا يكنون له الكثير من الكراهية بدأت حياته ترتبك، ويفقد الكثير من اتزانه النفسي؛ ومن ثم بدأت مقدرته البحثية عن أصول الكلمات في بطون الكتب تخفت وتضعف تماما؛ الأمر الذي انعكس على بداية ندرة الرسائل التي يرسلها للبروفيسور جيمس.

يتعارف الطبيب والبروفيسور بعد صدور الجزء الأول من قاموس إكسفورد، وهو الجزء الذي ساهم فيه الطبيب بجزء كبير؛ فيذهب البروفيسور للمشفى النفسي لإهداء نسخة للطبيب وهناك يكتشف أنه سجين تحت الملاحظة الطبية، وأنه قد ارتكب جريمة قتل، ولكن البروفيسور يميل إلى التعاطف مع وليام من منطلق إنساني تماما، وباعتبار أن كل إنسان لا بد أن نعطيه الفرصة من أجل التوبة عن أخطائه، وبالتالي يكون التسامح عماد الحياة.

يعمل الطبيب وليام على تعليم إليزا ميريت أرملة القتيل الكتابة والقراءة حينما يكتشف أنها تجهلهما، كما تعترف له بحبها له وتقوم بتقبيله ذات مرة؛ الأمر الذي يؤدي إلى سوء حالته النفسية وتدهورها تماما، بل والوصول بحالته إلى الحضيض بعدما كان يستجيب للعلاج بصورة ملحوظة.

رغم حب الطبيب للأرملة، وهو الحب الذي لم يعترف لها به، إلا أنها بمجرد اعترافها بحبها له دخل حالة عميقة وسوداوية من عدم الاتزان النفسي والشعور بالذنب والبكاء والألم؛ لدرجة تجعله يبكي في زنزانته قائلا لنفسه: لقد قتلته ثانية، ولعل هذا المشهد كان من المشاهد المهمة القليلة المُعبرة في الفيلم حيث ينتقل المخرج من خلال المونتاج المتوازي Cross Cutting بين الطبيب الذي يبكي مرتعشا، وبين الزوج القتيل ينظر إليه باكيا ليقول للطبيب: الذنب ذنبك. هذا الشعور العميق من الذنب والألم يجعلان الطبيب يقوم مباشرة بإخصاء نفسه؛ حتى لا يكون ثمة أمل لأي علاقة بينه وبين الأرملة، أي أنه يرى في الإيذاء الجسدي لنفسه ثمنا لا بد من دفعه بسبب قتله الخاطئ للزوج.

هذا الشعور العميق بالذنب يرى في جوهره أن حياته لا بد أن تكون في مقابل حياة القتيل، أي أن سوء حالته النفسية يدفعه باستمرار إلى الإيذاء الجسدي كي يقتل نفسه في نهاية الأمر بسبب خطأه، وهو ما جعله يقول لصديقه البروفيسور في إحدى زياراته له بينما ترتسم على وجهه الكثير من مشاعر الخزي والألم: لقد سرقتها من الميت.

كان من الممكن جدا للطبيب أن يشفى من اضطرابه النفسي الذي يشعر به؛ بسبب الكثير من الجرائم التي ساهم فيها في الحرب الأهلية الأمريكية، فضلا عن قتل رجل برئ لا ذنب له ظنا منه أنه من ضحاياه الذين يطاردونه، لكن دخوله في حالة من الحب مع أرملة القتيل قد أدت به إلى الانهيار النفسي الكامل الذي تركه على شفا الجنون، حتى أنه قد آذى نفسه بالإخصاء والامتناع عن مقابلة الأرملة أو البروفيسور.

هنا يستغل المعالج النفسي المشرف على حالة الطبيب ما وصل إليه من حالة نفسية ويتفق معه على إجراء العديد من التجارب الطبية عليه وبموافقته، وبما أن الطبيب وليام يميل في حالته هذه إلى الإيذاء الجسدي لنفسه، والرغبة العميقة في التخلص من حياته بسبب إحساسه الهائل بالذنب والأذى المُضاعف للقتيل الذي يشعر بأنه سرق زوجته؛ فهو يوافق على أن يكون فأر تجارب للطبيب المشرف عليه؛ الأمر الذي يصيبه بحالة دائمة من التخشب والتدهور الصحي الكامل المُفضي إلى الموت، والانفصال الكامل عما يحيطه وكأنه يحيا في عالم يخصه فقط، لكن الحارس الذي يكن له الكثير من الاحترام يخبر البروفيسور جيمس والأرملة بما آل إليه الأمر؛ مما يجعلهما يتحركان من أجل إنقاذه، وبالفعل ينجح البروفيسور من خلال إعادة المحاكمة واللجوء إلى ونيستون تشرشل إلى استصدار حكما جديدا على الطبيب يعمل على ترحيله إلى أمريكا قائلا: دع أمريكا تتول أمر ابنها الضال؛ لأن الإفراج عنه في بريطانيا كان سيؤدي إلى ثورة اجتماعية عارمة ورفض من الجميع، وبما أن تشرشل تفهم الأمر والحالة النفسية التي يمر بها الطبيب، وأنه لم يكن يقصد هذا القتل؛ فلقد كان الحل الوحيد هو الإفراج عنه من أجل ترحيله إلى بلده.

ينجح البروفيسور فيما أراده من إنقاذ صديقه الطبيب المضطرب نفسيا، كما ينجح في أن يتولى أمر قاموس إكسفورد وحده مدى الحياة بأمر ملكي من الملكة؛ وبالتالي تتوقف جماعة الباحثين عن محاربته، وينتهي الفيلم نهاية باردة لا معنى لها حينما نرى ميل جيبسون يجلس في غرفة بحثه متأملا للزوجة والأطفال في الخارج، وفي اللقطة التالية مباشرة يكون في نفس المشهد متأملا الزوجة والأولاد ولكن بعد مرور الكثير من السنوات وبعدما يصبح الأطفال كبارا وقد أنجبوا أولادهم.

هنا يجد المخرج نفسه في ورطة كيفية إنهاء الفيلم الذي كانت أحداثه بمثابة الحجر الثقيل على صدورنا بسبب عدم ديناميكيتها أو تدفقها، أي أنها مجرد أحداث فاقدة للروح؛ فيضطر إلى الكتابة على الشاشة بأن البروفيسور قد أنهى القاموس بعد سنوات طويلة جدا، وأنه قد مات بعد إصابته بمرض رئوي، كما يكتب أيضا بأن الطبيب جيمس قد تلقى علاجه في أمريكا، وعاش فترة طويلة كما ساهم بقدر لا يمكن تجاهله في قاموس إكسفورد للغة الإنجليزية.

لا يمكن نسيان الموسيقى التصويرية الأوبرالية التي اعتمدها الفيلم؛ حيث كانت تُكسب الكثير من المشاهد صبغة الملحمية فيما يحدث، وتعمل على تعميق الإحساس بما يحدث مع الطبيب الأمريكي.

يعد الفيلم الأيرلندي "البروفيسور والمجنون" من أفلام السيرة الذاتية المُفتقدة للروح تماما، الأمر الذي مال به إلى الكثير من الملل والإحساس بالطول؛ نتيجة لأن الأحداث لم يكن فيها ما يهم، كما أن هناك العديد من الشخصيات التي لم يكن لها داع، وأدت إلى الازدحام من دون ضرورة. لكن المشكلة الكبرى أن الفيلم أراد تقديم سيرة ذاتية للبروفيسور جيمس موري صانع قاموس إكسفورد في حين أن القصة الموازية للطبيب الأمريكي كانت أكثر حيوية من قصة البروفيسور بشكل جعلها تلتهم قصة جيمس وتبدو هي الأقوى والأهم لإنسانيتها وتعقدها؛ الأمر الذي جعل المشاهد يهتم بالطبيب أكثر من اهتمامه بالبروفيسور، فضلا عن أن أداء الممثل شون بن كان من العمق والإحساس الصادق ما جعل أداء ميل جيبسون أمامه أداء باردا؛ ففقدت السيرة الذاتية للبروفيسور أهميتها في مقابل قصة الطبيب وأداء الممثل.

 

محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة

عدد ديسمبر 2020م.














 

الجمعة، 2 أكتوبر 2020

مرايا قصصية.. تجربة السرد النسائي القصصي في العالم العربي

 أن يتم جمع سبع وسبعين قصة لسبع وسبعين قاصة من جميع أقطار الدول الناطقة بالعربية بين دفتي كتاب واحد لهو مجهود كبير وشاق يحتاج للكثير من الجهد والدأب والإصرار والتواصل، فضلا عن فترة زمنية طويلة تقتضي جمع هذه القصص وأخذ موافقات كتابها لينضموا إلى هذا الكتاب، فإذا ما أضفنا إلى هذه القصص عددا ضخما من اللوحات التشكيلية التي أبدعتها نساء أيضا من جميع أقطار المنطقة العربية؛ لتبدى لنا المجهود الحقيقي في جمع هذه المادة المُرهقة، وهو ما تتحدث عنه الكاتبة أنعام القرشي واصفة إياه: "في كثير من الأوقات كنت أتراجع عن فكرة المشروع؛ لصعوبة التواصل مع الكاتبات، أو عدم الاهتمام بالفكرة، أو رفض بعض الكاتبات المُشاركة إلا بشرط تواجد كاتبات مشهورات ضمن الكتاب، أو صعوبة الحصول على عناوين لهن"!

لكن، ثمة سؤال مُهم لا بد له من طرح نفسه على من يقرأ كتاب "مرايا قصصية" الذي قامت بجمعه الكاتبة الأردنية أنعام القرشي، وهو: ما الداعي لمثل هذا المجهود الضخم من أجل جمع هذه المادة القصصية الكبيرة لكاتبات عربيات من جميع أقطار المنطقة العربية في كتاب واحد؟

تقول الكاتبة أنعام القرشي في مُقدمة كتابها: "لم تكن فكرة مشروع هذا الكتاب وليدة لحظة طارئة أو عرضية، بل كانت دفينة وعميقة ترسخت في عقولنا ونحن أطفال صغار، نلعب بين جلسات الكبار وهم يتحدثون عن همّ الوحدة العربية باختلاف مواقفهم السياسية ومُعتقداتهم ومذاهبهم"، ثم تكمل حديثها مُسترسلة: "مشروع كتابي هذا بُني على نفس فكرة الوحدة العربية، حيث أرتأيت أن أقوم بعمل مشروع كتاب يتضمن قصصا قصيرة لكاتبات من جميع دول الوطن العربي الواحد والعشرين الناطقة باللغة العربية العظيمة، وأن تُشارك الكاتبات بقصة قصيرة واحدة".

إذن، فالكاتبة كان هدفها من كتابها- كما تقول- مجرد هدف قومي، أو ما نُطلق عليه اسم الوحدة العربية- لكنها هنا في مجال الأدب وليست في مجال السياسة- وإن كانت تأتي أهمية الكتاب في حقيقة الأمر بعيدة تماما عن هدف الوحدة التي تريدها الكاتبة؛ فوجود سبع وسبعين قاصة-امرأة - من جميع أقطار المنطقة العربية هو أمر من الأهمية بمكان ما يجعلنا ننتبه إلى مثل هذا الكتاب الذي استطاع جمع كل هذا العدد من الكاتبات بين دفتي كتاب واحد، فضلا عن تعريفه للقارئ بعدد لا يستهان به من الكاتبات اللاتي لم يكن يعرفهن الكثيرون من القراء، لا سيما كاتبات الصومال، وموريتانيا، وجيبوتي، والسودان، وغيرهن في معظم أقطار الوطن العربي- نظرا لصعوبة التواصل وتبادل الكتب بين الدول وبعضها-فالكاتبة هنا لم تعتمد على الأسماء المشهورة من الكاتبات فقط كي يشاركن بقصصهن، بل شارك في المجموعة عدد لا يستهان به من الكاتبات غير المعروفات واللاتي أثبتن بما قدمنه من قصص أنهن لديهن الكثير من الموهبة السردية والأكثر من الزخم الفني اللذين يحتاجان، فقط، إلى الانتشار أو الالتفات إليهما، أو الكتابة النقدية عنهما، أي أن هذه المجموعة من المُختارات القصصية ذات أهمية حقيقية للباحث/ الناقد في مجال القصة القصيرة، تُتيح له الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تكتب بالعربية لا سيما كتابة المرأة التي أثبتت في هذه المجموعة أنها لديها عالما سرديا مُهما حري بأن نتوقف أمامه ونتناوله بالتحليل والنقد؛ حيث غلبت الجودة السردية على أغلب قصص المُختارات مما أعطاها أهميتها الخاصة.

لا يمكن إنكار التفاوت السردي بين دفتي هذه المجموعة ما بين صعود وهبوط- وهو أمر طبيعي ووارد- فليست جميع الكاتبات على المستوى السردي الجيد أو السيئ، أو بين المنزلتين، لكننا نؤكد أن القصص الجيدة والخيال الغني كان هو الأغلب في نهاية الأمر، كما نلاحظ هذا التفاوت أيضا في إجادة اللغة التي تكتب بها الكاتبات؛ فمنهن من لا تتقن لغتها، وهناك أخريات يتقن اللغة إتقانا جيدا، لا سيما أن الكاتبة أنعام القرشي لم تلجأ إلى تصحيح القصص التي وصلتها على المستوى اللغوي؛ الأمر الذي جعلنا نُدرك مدى إتقان كل كاتبة للغتها من عدمه في نهاية الأمر، ولعل عدم اللجوء إلى تصحيح القصص كان هو الأفضل والأكثر أمانة؛ كي يستطيع الدارس معرفة لغة كل كاتبة ومدى إتقانها لأداتها الأولى في الكتابة وإيصال أفكارها.

نلاحظ أن تقديم الكاتبة أنعام القرشي لكتابها يليه كلمة للدكتور العراقي عزمي الصالحي- على سبيل التقديم- وهي الكلمة التي لم تتعد صفحة واحدة من الكتاب، لكننا لم نفهم منها ما الذي يرغب في قوله، أو الهدف من كتابتها؛ فهو لم يتطرق إلى المشروع أو محتوى الكتاب قط، بل ظل يهوم في أن الشعر كان هو الأهم قديما والآن بات السرد هو المُهم، أي أن الكاتبة رغبت في أن تعتمد على كلمة الدكتور عزمي من أجل تقديم الكتاب- ربما لظنها أن وجود اسم شهير من المُمكن أن يضيف للكتاب أهمية وثقلا- لكن ما كتبه لم يضف للكتاب أي شيء يُذكر؛ ومن ثم كانت كلمته مجرد فراغ لم يؤد بنا إلا للمزيد من الفراغ، وهو من الأمور المُدهشة التي تجعل الكثيرين من الكتاب يعتمدون على غيرهم من أجل تقديمهم للقارئ أو ظنا منهم أن اسم فلان إذا ما اقترن بما يقدمه؛ فهو بالضرورة سوف يضفي على العمل أهمية مُضافة.

إذا ما كانت القصص داخل المجموعة مُتفاوتة بتفاوت كاتباتها ما بين الجودة والرداءة، أو الوقوف في منزلة بين المنزلتين؛ فهذا يعني أننا لا بد لنا من التوقف أمام العديد من القصص لبيان ذلك، ففي قصة "خطوط مائلة ولكن" للكاتبة الأردنية صباح المدني ثمة فراغ تدور فيه الكاتبة لا تعرف إلام من المُمكن له أن يوصلها؛ فالكاتبة منذ البداية تسيطر عليها الفكرة التي تريد الكتابة فيها، وتحاول جاهدة التعبير عن هذه الفكرة بالكتابة القصصية التي لا تمهلها وتساعدها في إيصال ما ترغب قوله، ربما لضعف الفكرة، أو عدم وجود خيال كافٍ لدى الكاتبة من أجل التعبير عن أفكارها.

تتناول القصة فكرة سيطرة الأب منذ الصغر وصرامته في التربية، هذه الصرامة التي قد تجعل الطفل غير قادر على استيعاب ما يطلبه منه الكبار، وإذا ما حاول إطاعتهم فيما يريدونه يجد نفسه يخطئ ويُلام مرة أخرى على ما فعله رغم أنه يهدف من وراء فعله إرضائهم. هذه الفكرة نلاحظها في قولها: "الكل يؤكد أنها مُعقدة، لكنها تتماسك وتعد على أصابعها وصايا والدها. الاستقامة، الوضوح، الصدق، إلى آخر سلسلة الوصايا التي تطرق مسامعها كل لحظة، رحم الله والدها، لقد مات، غير أن نصائحه بقيت في داخلها حملا ثقيلا"، في موضع آخر من القصة تحاول الكاتبة التأكيد على فكرتها بقولها: "تساءلت: هل هي فتاة حقا؟ لم تشعر بذلك أبدا، إنها كما عودوها رجل البيت، إذن هي صبي وليست فتاة، حتى أن ملامح الأنوثة الواضحة لم تكن سوى قشور، فبداخلها ولد عنيد شرس، تذكرت حينما كانت طفلة تلعب في حديقة المنزل مع ابن الجيران، وحينما رآها والدها أنبها وصفعها مُذكرا إياها أن اللعب مع الصبية عيب، ولما لعبت مع ابنة الجيران ضربها أيضا؛ لأنها لم تكن تلعب مع الفتاة بل كانت تلعب بها، والفتاة كانت تصرخ وتستنجد بالآخرين، لقد كانت قاسية على كل ما ومن وحولها، حتى أن أزهار الحديقة لم تسلم من قسوة يديها".

القاصة الأردنية إنعام القرشي

ربما نلاحظ من خلال هذين الاقتباسين أن ثمة فكرة تتردد أصداؤها على ذهن الكاتبة وتلح عليها بقسوة من أجل محاولة التعبير السردي والقصصي عنها، لكن هل يعني وجود الفكرة بقوة واضحة في ذهن الكاتب أن ثمة قصة فنية جيدة تتشكل لا بد من التعبير الفني عنها؟

على المستوى النظري سيكون الأمر مقبولا بالتأكيد، لكن على المستوى العملي؛ فالأمر يتوقف برمته على خيال الكاتب وامتلاكه لأدوات القص ومدى هيمنته عليها، وامتلاكه للغة التي يستطيع من خلالها التعبير عما يفكر فيه. هنا في هذه القصة يتبدى لنا أن ثمة فقر في الخيال يجعل الكاتبة عاجزة عن التعبير عما يجول بخاطرها، وهو الفقر الذي دفعها للتعبير عن هذه الفكرة بالخطوط المُستقيمة، وغيرها من الخطوط المُنحينة، أي أنها رأت في هذه الخطوط المُعادل الرمزي الذي تستطيع التعبير به عما ترغب في قوله؛ فنقرأ قولها: "كانت تكره دائما الخطوط المائلة، تجعلها تشعر بالغثيان، وأحيانا بالاشمئزاز، لكنها كلما خلت إلى نفسها تبدأ يداها بحركة عفوية لا إرادية تخط على الورقة دوائر مُتشابكة وخطوطا مُتعرجة ومائلة. تذكرت أنها تشكو دائما خيبة الأمل، وحياتها المُعقدة؛ لذلك لا تتساقط عفويتها على الورق إلا في حالة اللاوعي والانفراد الدائم مع نفسها، الكل يؤكد أنها معقدة"، إذن فهذه الخطوط المائلة والمُنحنية التي تكرهها الشخصية القصصية والتي تسعى إليها في حالات اللاوعي هي التعبير عن الرغبة في الانفلات من إسار الهيمنة الأبوية الشديدة عليها- من المُمكن قبول ذلك على المستوى الرمزي- لكن لا يمكن اعتبار وجود هذه الخطوط بشكل منحنٍ أو مائل بمثابة الخروج على القواعد الأخلاقية التي وضعها لها الأب- الاستقامة، الوضوح، الصدق- فما علاقة انحناء الخطوط المرسومة على الورقة بهذه القواعد التي وضعها أبوها، إن العلاقة الوحيدة التي قد نراها هي التضاد في المعنى الذي تؤدي إلى المُرادفات فقط- الاستقامة التي تتضاد مع الانحناء- لكن إذا ما كان الأمر من خلال هذا المفهوم؛ فهو مجرد مفهوم ساذج لا يمكن الاعتماد السردي عليه؛ ومن ثم فالكاتبة تظل تهوم حول فكرتها غير قادرة على القبض عليها وصياغتها في سرد قصصي فني.

هذه السذاجة نلاحظها في تساؤلها: "لماذا هذه الخطوط مائلة ومتعرجة ومتشابكة؟ لماذا لا تكون مُستقيمة كما علمني والدي؟"، الحقيقة أن أباها لم يعلمها استقامة الخطوط، بل علمها الاستقامة في الأخلاق، ولا يمكن هنا التسليم بالمُعادل الرمزي الذي تميل إليه الساردة من أجل إكمال قصتها، وهو المُعادل الذي تؤكد عليه بقولها: "أمسكت برأسها الذي تورم من ثقل الأفكار، وتكومت كعادتها في الركن الصامت تمسك بالورقة البالية الخطوط السابقة نفسها، حاولت قصارى جهدها ألا تكون مائلة بل مُستقيمة، وتعد على أصابعها بين الفينة والأخرى وصايا والدها، وتنظر إلى الخطوط التي تسطرها تجدها مرة مُستقيمة ومرات عدة مائلة وتهتف في تحد: إنها استقامة الخطوط المائلة"، أي أنها ترغب في الثورة على السيطرة الأبوية.

في هذه القصة يتضح لنا أن ثمة فكرة تأخذ وعي الساردة وتسيطر عليه، لكنها تظل تهوم في الفراغ والمُعادلات الرمزية التي لا يمكن لها أن تصنع قصة أدبية جيدة، بل مجرد تهويمات حول الفكرة لا يمكن لها أن تفيد السرد، كما نلاحظ أن الكاتبة على طول سردها لا تحترم- أو بالأحرى- تجهل وجود الهمزات في اللغة العربية؛ مما جعلها تحذف الهمزات دائما باعتبارها لا قيمة أو أهمية لها في اللغة؛ فنقرأ: "احيانا، الى، ارادية، الا، انها، اصابعها، امسكت، القتها، ابجديات، اكثر، اصبحت، اخذت"، وغيرها الكثير من المُفردات التي لا بد من وجود الهمزة فيها، كذلك الخلط بين مفهوم لفظتي "الرؤيا، والرؤية"، فهي تكتب: "كان عليها أن تجتاز ذلك السور الشائك المُمتد على حدود الرؤيا بينها وبين نفسها حتى تصل إلى أبعادها الدفينة.."، والمعروف في اللغة أن الرؤية هي النظر بالعين الحقيقية وبالقلب مجازا وتجمع على رؤى من غير تنوين، بينما الرؤيا هي ما يراه المرء في النوم، أي أن المؤلفة هنا بادلت بين المُفردتين مما أدى إلى تغيير المعنى الذي ترغب في قوله.

رغم هذا التهويم السردي الذي قرأناه في القصة السابقة فهناك قصص أخرى أكثر تماسكا وإدراكا للفكرة والمعنى؛ ففي قصة "الروح الرياضية العالية للفولكسفاغن" للقاصة الليبية نجوى بن شتوان ثمة سخرية لاذعة ومريرة ومُباشرة وواضحة وجارحة تجاه ما يُسمى مُساندة القضية الفلسطينية عربيا، إنها السخرية المُوغلة في القسوة والإيلام حول ما يدور في منطقتنا العربية وكثرة التشدق بالقضية التي لا تنتهي ولا تتقدم قيد أنملة للأمام. وفي الوقت الذي تزداد فيه إسرائيل ثباتا واستقرارا وهناءة تزداد فيه الشعوب العربية- وليست الحكومات- توترا وانفعالا وانسحاقا تحت وهم النضال الذي لا يمكن خروجه من دائرة العبث الأبدي!

تتحدث الكاتبة عن قرية مجهولة تضامنت مع ثورة الحجارة؛ فخصصت أياما دراسية كمهرجانات للخطابة، وهي المهرجانات التي قام فيها الطلاب بتكسير مقاعد الدراسة على رأس إسرائيل، لكن رئيس الشعبية قد اهتدى إلى فكرة عبقرية من أجل التضامن مع القضية تتمثل في إقامة ماراثون سباق يجري فيه جميع أهالي القرية من بدايتها حتى نهايتها، ويشارك فيه جميع الكائنات حتى الكلاب، لتنقله جميع وسائل الإعلام في نشراتها اليومية ويراه العالم كشكل من أشكال التضامن مع ثورة الحجارة.

ربما نلاحظ منذ بداية السرد حتى نهايته سيطرة مسحة السخرية الشديدة من العبثية التي يتضامن بها العرب مع القضية، نرى ذلك على سبيل المثال في: "تضامنت بلدتنا مع ثورة الحجارة في فلسطين المُحتلة؛ فخصصت أياما دراسية كمهرجانات للخطابة، كسرت فيها الحماسة ما تبقى من مقاعد سليمة على رأس إسرائيل، التي دُرسنا كرهها عليها. عند عودة جمهور الخطابة للمنازل، كان على النساء- كرم الله وجودهن- مُعالجة مخرجات المهرجان من العرق والإجهاد بكثير من الصبر والتحامل على الذات"، ربما نلاحظ في هذا الاقتباس السخرية الشديد من تكسير المقاعد على رأس إسرائيل وكأنما الأمر لا يعدو مجرد إخراج طاقات كامنة داخل هؤلاء الأشخاص من أجل المزيد من السلام النفسي بعد هذا التكسير، كما أن الأمر يكاد أن يبدو إعلان عن الوجود للآخرين، وهو ما تؤكده الساردة في: "كان ضروريا أن نشعر نحن، حتى وإن لم يشعر بنا أحد، أو لم يعلم بوجودنا في نفس الكوكب سكان الأرض المُحتلة المنهمكون في قذف الحجارة طيلة اليوم".

إن الاقتباس الأخير يكاد أن يكون مُغرقا في السخرية والعبثية الحقيقية؛ فهؤلاء المتضامنون يرغبون في إعلان ذواتهم للعالم، وأن يصل صوتهم إلى الجميع بأنهم هنا ويتضامنون مع القضية، كما أنهم في ذات الوقت لديهم فكرة عبثية واهمة بأن سكان الأرض المُحتلة منهمكون طيلة اليوم في قذف الحجارة وكأن هذا هو شغلهم الشاغل، أي أن الفكرة هنا تتنافى تماما مع الحقيقية بهدف سخرية المؤلفة من الفكرة في حد ذاتها، إنها السخرية التي تصيب الذات القومية بالكامل في مقتل لتعمل على تعريتها أمام ذاتها.

القاصة الليبية نجوى بن شتوان

إذن، فماذا يفعل المتضامنون أكثر من تكسير المقاعد في مهرجانات الخطابة؟ إنهم يحرقون الإطارات أيضا: "صار الاكتفاء بحرق الإطارات القديمة وقميص مطبوع عليه علم أمريكا متى توفر، أيسر من الدخول في معركة الرؤوس تلك، الواقع يحتم عدم فتح جبهات أخرى ما لم نتخلص من إسرائيل". هنا كان لا بد لهم من التفكير في فكرة المارثون؛ كي يستطيعوا لفت أنظار العالم كله إليهم وإلى تضامنهم القومي: "هو حفلة جري شعبية باسم فلسطين، يشارك فيها الجميع وينقلها التليفزيون الرسمي في نشرة الأخبار، أي سيأتي مصور يصورنا بينما نجري، وسيجري بالطبع معنا وإلا فإنه لن يجد ما يصوره عدا قطعان الماعز هنا وهناك. نعم إنها فرصتنا لإيصال صورتنا للعالم بدون صوت (غالبا في النشرة يكتمون الأصوات المُصاحبة)".

ألا نلاحظ عبثية أسلوب الساردة التي تهدف من وراء كتابتها السخرية من فكرة التضامن في حد ذاتها؟ إنها السخرية المُوجعة من أحوال العرب الذين لا يفعلون سوى التضامن الرمزي الذي لا معنى له، والبعيد كل البُعد عن التضامن الحقيقي والفعلي، إنه مُجرد تضامن الرفاهية، ومن يرغبون في الظهور بمظهر حسن فقط أمام الآخرين.

سُمح في المارثوان أن يُشارك فيه كل شيء، البشر، والحيوانات، وسيارات الشرطة، والإسعاف، وكل ما يمكن له أن يتحرك؛ لذلك تزداد السخرية في: "كذلك الميت الذي حملته سيارة إسعاف وعبرت به البلدة بصعوبة وسط الناس، بدا أنها تُشارك في الماراثون في التسجيل التليفزيوني، لكنها في الواقع كانت تسلك طريقها الوحيد نحو قرية المتوفي، لمواراته الثرى هناك، لم يكن في نيتها فلسطين على الإطلاق كما بينتها نشرة الأخبار".

إلا أن العم عقيلة صاحب السيارة الفولكسفاغن بيتيل القديمة جدا، والمُهترئة والموجودة في الشارع غير مُستخدمة منذ سنوات طويلة؛ حتى أنها كانت مرفوعة على مجموعة من الأحجار، وقد خلت من مقاعدها لتكون مرتعا للأطفال يلعبون فيها ويتخيلون أنهم يقودنها، كما دُفن نصفها السفلى بالكامل في التراب أسفلها. نقول: إن العم عقيلة قد اضطر إلى تركيب عجلات سيارته مرة أخرى ووضع القليل من الوقود فيها وتحريكها من أجل المُشاركة في الماراثون واللحاق بأبنائه وإنقاذهم من الحر الشديد حتى لا يُصابوا بضربة شمس؛ ومن ثم رأى أن يحملهم في سيارته إلى ما قبل انتهاء الماراثون بقليل فينزلون ويكملون العدو!

تكتب الساردة: "حدثنا فيما حدثنا العم عقيلة عن تجربته مع الفولكسفاغن التي دخل بها تاريخ الصراع السياسي العربي الإسرائيلي، بأن الوقود كان أحدث ما فيها، وبأنه لم يك يملك الدافع لزحزحتها من مكانها بحق، لولا دفع زوجته له من أجل الأبناء، حيث من وجهة نظرها لا ينبغي أن يموت أولادها من العدو في القبلي والحر بعد أن قاموا بالواجب تجاه فلسطين وكسروا مقاعد المدرسة، فيما إسرائيل تقبع هناك بكامل الراحة لا يحدث لها سوء، إنه منطق لا يرضي الله"!

بالفعل يفوز أبناء العم عقيلة في المراتب الثلاثة الأولى من الماراثون، وهو الماراثون الذي استمر فيما بعد لأعوام طويلة من أجل التضامن مع فلسطين والقضاء على إسرائيل: "فعليا، كان ذلك أول ماراثون للسيارات القديمة في بلدتنا تسببت به فلسطين المُحتلة وقادته الفولكسفاغن بشجاعة ونُبل (سيارة أهل الفائزين الأول والثاني والثالث). لم يتوقف الناس عن إحيائه منذ تلك الشرارة الثورية للمُحركات، رغم أن ثورة الحجارة انتهت إلى كونها مجرد طريقة مثلى لنقل الحجارة من مكان لمكان، وإسرائيل كما هي بنت كلب يتقاطر عليه الدعاء صباحا مساء من الجامع، دون استجابة من السماء. أما على المستوى التقني، فالفولكس بيتيل ما زالت تُدرب أجيالا من الناشئين على حلم القيادة واجتياز المُستحيل نحو المُستقبل، فيما الشركة الألمانية المُصنعة طورت غشها بشأن نظام الأمان البيئي، بينما رقتنا الحكومة في إحدى تحديثاتها من مستوى كمونة إلى مستوى دولة. وهذا اختصار ما حدث للقضية"!

القاصة الإماراتية فاطمة المزروعي

ربما كانت الجملة الأخيرة التي ختمت بها القاصة الليبية قصتها تحمل من البلاغة والسخرية الكافيين ما يجعلنا غير قادرين على التعليق عليها، بل التوقف أمامها مُندهشين فقط. أي أن نجوى بن شتوان كانت تمتلك في قصتها القصيرة من السخرية والبلاغة السرديين ما جعلها تلخص حال التضامن العربي مع القضية الفلسطينية بشكل يجعل حال الضحك هنا كالبكاء، لكنه الضحك الشاعر بالمهانة على الذات، وهو ما يُدلل على أن القاصة تمتلك الفكرة بشكل واضح ونجحت في التعبير الفني عنها بشكل جعل منها قصة مُتكاملة وجيدة تؤكد على عبثية ما نُطلق عليه مُساندة القضية.

في قصة "ركلة قدم" للقاصة العراقية رغد السهيل ثمة عذوبة وسلاسة وجمال سردي يميز قصتها عن الكثيرات من الساردات في المجموعة القصصية، وهي السلاسة التي تعبر فيها عن فكرتها التي تتميز بالخيال الطفولي البرئ المُمتزج بالعديد من التفسيرات الميتافيزيقية التي لا يمكن استيعابها وإن كان الارتكان إليها يجعل صاحبه في حالة من الهدوء والسلام النفسي الذي هو في حاجة ماسة إليهما.

تبدأ القاصة قصتها من قلب الحدث لتقبض عليه بشراسة مُؤكدة مقدرتها على استيعاب الفكرة التي تتبناها من دون الدخول في أي تفاصيل أو ثرثرات لا داعي لها: "ليس للملائكة أو الشياطين دور، ولا للجن أو العفاريت علاقة، كل ما في الأمر هناك قدمان تلاحقانني وتركلانني، تبرزان من جوف الأرض، ما يدفعني إلى العدو، كأني في مضمار سباق متواصل، أكون دائما في المُقدمة، والقدمان في المُؤخرة، وإن أصابتني ركلة؛ شعرت بدغدغة"، إن الكاتبة هنا تبدأ قصتها مُباشرة لتصف الحالة التي تشعر بها منذ ولادتها حتى نهايات عمرها، وتؤكد أن ثمة قدمين تطاردانها وتجعلانها تعدو لاهثة طول الوقت غير قادرة على أخذ أنفاسها اللاهثة؛ ومن ثم فهي لا سبيل لها لاجتناب هاتين القدمين سوى البقاء في منزلها لا تخرج منه، أو العدو الدائم واللاهث أمامهما!

ربما نلاحظ الدقة الوصفية لدى الكاتبة، وهو ما يُدلل على بلاغة السرد لديها، في: "كلما غادرت بيتي وتدفأت الأرض تحت قدمي تفتقت وانشقت، وشعرت بركلة من خلفي، تارة يمينا وتارة يسارا، التفتّ مرة لأرى ما يحدث، فوجدت قدمين حافيتين تمزقان جوف الأرض، تظهران سريعا بزاوية مائلة، إبهامهما حاد، ظفره أشبه بناب، يرتفعان ويركلانني! وما أن تبرز القدم الأولى حتى تلم الأرض مكان بزوغه، ليعود يدخل إلى باطنها من شق جديد ثم يختفي، فتبزغ القدم الثانية من شق تالٍ، وهكذا دواليك، تتشقق الأرض وتلم الشق السابق بنفسها، بلا معونة أحد، أشبه بماكينة خياطة تسرع بريافة فتحات القماش، وكلما خاطت فتحة فتحت أخرى بعدها، تلك هي المرة الوحيدة التي رأيتهما، ولم أعد المحاولة، فلست ممن يضيعون الوقت بالالتفات خلفهم، ولست مُضطرة للتوضيح لأحد نظرية ركل الأقدام".

ألا نلاحظ في هذا الاقتباس السابق دقة الوصف لدى الكاتبة، وهي الدقة والاهتمام بالتفاصيل الوصفية الدقيقة اللتين تحملان الكثير من السلاسة النابعة من امتلاكها للغتها الوصفية؟ لا يمكن إنكار أن السلاسة الوصفية لدى الكاتب هي من أهم الأدوات التي تستطيع إيصال المعنى بسهولة، بل وتجعل القارئ مُنجذبا للنص الأدبي الذي يقرأه غير قادر على الفكاك منه إلا حينما ينتهي تماما، وهو ما نجحت الكاتبة العراقية فيه.

تنتقل رغد السهيل إلى الحديث عن حياتها حينما كانت لم تزل في بطن أمها جنينا يسبح مُطمئنا للعالم الذي يحيطه، ثم تتحدث عن المرأة التي جاءت من أجل توليد أمها، وكيف أنها أزعجتها كثيرا راغبة منها في أن تنام على رأسها بدلا من قدميها؛ الأمر الذي جعلها تركلها عدة ركلات راغبة أن تصيبها في وجهها لتبعدها عنها، لكن الركلات أصابت بطن أمها التي توجعت؛ مما جعلها تكف عن الركل، لكنها حينما نامت قليلا واستيقظت وجدت نفسها قد خرجت من بطن أمها، ولعل الحديث عن حياتها كجنين في بطن أمها كان حديثا يحمل الكثير من الذكاء، وعدم الانفصال عن النص الذي كان يفضي كل سطر فيه إلى ما يليه، أي أن الحديث عن حياتها في بطن أمها كان ضرورة لا بد منها أفضى إليها حديثها السابق عليه: "كثيرا ما تساءلت: لماذا تطاردني هاتان القدمان، ماذا تريدان مني؟ وهل الأرض حبلى بكائن مقلوب يظل يركل بطن أمه كما فعلت يوما ببطن أمي؟ وهل هذا الكائن مقلوب حقا أم يعتمد على موقع الناظر؟".

إذن، فحديثها عن القدمين اللتين تخرجان من باطن الأرض وتخيلها بأنها جنين في بطن أمه كان داعيا موضوعيا للانتقال والحديث عن حياتها هي في بطن أمها وركلها لبطن الأم حينما كانت في عالمها الذي يخصها، وهو ما يُدلل على سلاسة الانتقال السردي وذكائه حينما ينتقل السارد من موضوع إلى آخر من دون وجود أي انفصال موضوعي أو سردي بين الفقرات والأفكار.

تمر السنوات وتكبر الساردة في القصة ولم تعد تحتمل ركلات القدمين اللتين تركلانها؛ الأمر الذي جعلها تلتزم بيتها لا تخرج منه، لكنها في يوم شعرت بالاشتياق للخروج إلا أن الأرض كانت تنفتح على العديد من الأقدام وكأنها تحولت إلى أخطبوط هذه المرة: "ما أن خطوت خارج بيتي حتى تفتقت الأرض ثم تصدعت خلفي، وتوالت عليّ الركلات واحدة تلو الأخرى، لم أتمكن من إحصائها، في المرآة بدت أشبه بأذرع أخطبوط، أخطبوط لعل رأسه في جوف الأرض، وتمتد أذرعه وتتعدد خارجها، وكل ذراع يركلني!". هنا تقرر الساردة البقاء في منزلها وعدم الخروج مرة أخرى، لكنها توصي الجميع ألا يدفنونها خارج المنزل؛ حتى لا تركلها الأرض كالعادة، بل تطلب منهم أن يدفنونها في الداخل؛ كي تظل هي التي تركل بقدميها مثلما كانت تفعل في بطن أمها.

القاصة السورية عبير خالد يحيى

إذن، فالكاتبة تحمل قدرا لا يُستهان به من الثراء الخيالي، وهو الخيال الطفولي الذي جعلها تصوغ قصتها بشكل فيه من السلاسة والإقناع- رغم عدم عقلانية الحدث- ما يجعل القارئ مُنجذبا إليها حتى اللحظة التي تختتم فيها قصتها.

في قصة "رحلة" للقاصة السورية عبير خالد يحيى ثمة إيهام تحرص عليه الكاتبة منذ اللحظة الأولى في قصتها ولا تحاول فك ألغاز هذا الإيهام وإيضاحه إلا مع الجملة الأخيرة من قصتها، أي أن الساردة هنا تتلاعب بالقارئ وتوغل في إيهامه بالرحلة التي اختارتها عنوانا لقصتها؛ ليتبين لنا في النهاية أنها لم تكن رحلة بل مُجرد لعبة في مدينة الملاهي.

منذ الجملة الأولى في القصة التي تدخلها القاصة مُباشرة؛ مُختصرة الكثير من الثرثرة ببلاغة السرد والحذف يسيطر على القارئ اعتقاد بأن ما تقصه القاصة مجرد رحلة في مركب ما لأم وابنتها تحاولان الهروب من شيء ما، ربما الحرب- بما أن القاصة سورية- فتكتب مع افتتاح قصتها: "خائفة؟ سألتها باذلة جهدا كبيرا لأخفي رجفان لساني كيلا يفضح رعبا ملأ نفسي. تلفتت إليّ محاولة رسم ابتسامة بدا واضحا أنها قناع واقٍ تخفي به أعراض الهلع، أنا أصلا أخاف من الأقنعة مهما كانت مُنمقة! لا أبدا، أجابت باقتضاب، أمام نظرتي غير المُصدقة استأنفت: نعم خائفة قليلا مثلك، لكن سنخوض التجربة، إن لم نُجرب الخوض فيما نخاف منه سنبقى خائفين من مجهول إلى الأبد! صدمتني بقولها! أعرفها عميقة رغم صغر سنها، لكن تدهشني دائما ألفاظها"، إذن فنحن هنا أمام أمر ما ستقبل عليه كل من الأم والفتاة. تستطرد الكاتبة هنا في وصف المركب الذي يركبونه، والخوف البادي على الجميع من رجال ونساء وأطفال، واستعدادهم للرحلة المُخيفة التي لا يعرفون هل سيخرجون منها أحياء أم لا؛ لذلك توغل في وصف المشهد: "حركة هبوط مُباغتة جعلتني أصرخ: هذا جنوووون، ما أقدمنا عليه ضرب من الجنون"، ومن ثم تسترسل في وصف آخر: "تواتر المركب بين صعود وهبوط مُتأرجحا بنشوة على أنغام صيحات الركاب، أظن أن حنجرتي أطلقت أقوى أصواتها مودعة عهدها بالحياة، أنا التي لم تصرخ حتى أثناء الولادة، باعتقاد سخيف بأن ذلك عيب! أغمضت عيني كي أركز كل قواي بمنطقة واحدة- حبالي الصوتية- الله".

ناهيك عن الجملة الغريبة التي لا يمكن تفسيرها منطقيا في الاقتباس السابق- أنا التي لم تصرخ حتى أثناء الولادة، باعتقاد سخيف بأن ذلك عيب!- فمن أين عرفت الساردة أنها لم تصرخ أثناء الولادة، وهل كانت تعرف حينما ولدت أن الصراخ عيب كي تعتقده؟ نقول: ناهيك عن هذه الجملة فالكاتبة تعمل على التأصيل للرحلة الخطرة في المركب مع ابنتها وتوغل في تفاصيلها المُرعبة التي تأخذ بأنفاس القارئ الذي يلهث خلفها؛ لذلك حينما تنجوان من هذه الرحلة وتصلان إلى بر الأمان، كان عليهما إكمالها بالركوب في قطار: "علينا أن نتابع، القطار هو وسيلتنا الثانية، انطلق بسرعة البرق، لم نعتد في بلدنا على ركوب القطار؛ فهو ليس من وسائل المواصلات المُنتشرة".

إذن، فنحن هنا أمام رحلة أم وابنتها في رحلة من الهروب الدائم ربما من ويلات الحروب ودمائها؛ الأمر الذي يجعلهما يستقلان العديد من وسائل المواصلات التي يريانها مُخيفة، وهو الخوف الذي تحرص على وصفه وتأكيده في العديد من المشاهد السردية حينما يدخل القطار نفقا مُظلما مُغلقا وتصعد منه فتاة عشرينية مُهترئة الملابس وقد غطاها الكثير من التراب. حينها تلتفت إليها الأم باهتمام: "بادرتها: منذ متى أنت هنا، وماذا تفعلين؟ من أنت؟ لم ترد على سؤالي بل أشارت بإصبعها إليّ وكأنها تقول لي باتهام صريح: أنت. نكزتني ابنتي نكزات مُتكررة أوجعتني: هيا أمي، Game is Over خبرنا الخوف وواجهناه، في المرة القادمة سنجرب ألعابا أخرى، كم حرمت نفسي من مُتعة اللعب بمدينة الملاهي!".

العراقي الدكتور عزمي الصالحي

إن المقطع السابق الذي أنهت به القاصة السورية قصتها يحمل من المُفاجأة القوية للقارئ ما يجعله يتخلى عن جميع أفكاره وظنونه التي وردت إلى ذهنه أثناء القراءة؛ ليعود للقراءة من البداية مرة جديدة وقد ارتكن إلى أفكار مُختلفة عرف من خلالها أنها قصة لأم وابنتها في الملاهي، وبالتالي سيكون تركيزه هذه المرة على وصف الكاتبة للحدث ومدى مصداقيته، حيث كان تركيزه السابق في المرة الأولى على الحدث المُرعب نفسه الذي تمر به الأم وابنتها من أجل فرارهما من شيء ما غامض.

في قصة "دولاب مُعتم" للقاصة المصرية نهلة كرم يتجلى لنا ثراء الخيال السردي ومقدرته على تشييء الأشياء وأنسنتها وإلباسها ثوب الحياة لتنطق وتتحدث وتشعر- رغم عدم منطقية ذلك- وتدلو برأيها فيما حولها رغم أن الكاتبة تعتمد على حدث استاتيكي لا حركة فيه، أي أنها تتوقف بفكرتها عند درجة الصفر لا يمكن لها أن تتعداها، ورغم صفرية الحدث- إذا جاز لنا التعبير- فإنها برعت في تحريكه وإنطاقه وبناء عالم سردي من وحوله لجعله مُتحركا مُفعما بالكثير من الحياة.

يبدأ الحدث القصصي على فتاة تفتح دولاب ملابسها لانتقاء ثوب وارتدائه، لكن هاتفها المحمول يعلو صوته؛ فتسرع إليه تاركة دولاب ملابسها مفتوحا، وهنا يدور حوار طويل ومُتذمر من جميع قطع الملابس المُعلقة داخل الدولاب، لتشكو كل قطعة منها من إهمالها لها وتوضيح آخر مرة قد رأت فيها الضوء منذ آخر مرة ارتدتها فيها صاحبتها فنقرأ: "فتحت الفتاة دولابها ووقفت تنظر لملابسها قليلا، قبل أن يرن هاتفها ذهبت لتحضره من خارج الغرفة دون أن تسمع الأصوات المُتهامسة التي كانت تتصارع خلفها، صرخ المعطف: هذا يومي، لم أر الشارع منذ فترة طويلة جدا. قاطعه الجاكيت: كلانا أبيض، فلماذا ترتديك وتتركني؟ قالت الجيبة القصيرة في حسرة: أناسب كليكما، ومُستعدة أن أخرج مع أي منكما، لكنها لم تعد ترتديني كثيرا، تقول: إنني أصلح فقط في بعض الأماكن النظيفة، ويبدو أنها لم تعد تذهب إلا إلى هذه الأماكن التي ترفضني، فلماذا لا ترتديني ثم تغسلني حين أتسخ؟ أجابها السروال: تفضلني عنك، لأنك تتسببين في أن يمسها بعض الرجال بأيديهم المُتسخة كلما ارتدتك، أما أنا فأحميها منهم. استفزها رد السروال؛ فقالت له: لكنك تتسخ أيضا، فلماذا لا تغلسني مثلما تغسلك؟ نطق الجاكيت ليفصل بينهما: ربما بقع تلك الأيدي لا تُنظف بسهولة مثل البقع الأخرى".

تستمر نهلة كرم في استنطاق ملابسها وجعلها تشعر وتحزن وتبدي اعتراضها؛ فيتحدث البلوفر الذي ثقبه أحد المسامير، وسروال آخر قد ضاق على خصرها، ويؤكد أنها هي المُخطئة لأنه لم يتغير منذ تم تخييطه، بل هي التي باتت سمينة، إلى أن يتحدث الفستان الأحمر متأثرا: "جميعكم تتذمرون رغم أنكم خرجتم كثيرا، أما أنا فلم أذهب إلى الخارج ولو مرة واحدة منذ أن جئت إلى هنا، كانت سعيدة وهي تقيسني في بروفة المحل، أخبرت صديقتها أنها ستشتريني حتى ترتديني حين تخرج في سهرة معه، لكني لم أر الشارع مرة واحدة بعدها، ولم أر حتى هذا الذي اشترتني من أجله. أتت بي من فوق المانيكان التي أحببتها، والتي طالما تندرت معها على السائرين أمام زجاج المحل طوال اليوم لتلقي بي هنا داخل هذا الدولاب المُعتم".

ألا نلاحظ هنا أن السرد قادر على خلق عالم مُتكامل من الحياة رغم أن الشخصيات جميعها مجرد مجموعة من قطع الملابس؟ ورغم أنه لا يوجد حدث فعلي في القصة إلا أن حديث الملابس يصنع العديد من الأحداث التي لم نكن نعرفها ولا مجال لمعرفتها إلا من خلالهم؛ فمن خلال الحديث عرفنا أنها قد باتت بدينة، وأنها كانت تمارس الرياضة لكنها توقفت عن ذلك، وأنها كانت لديها علاقة عاطفية مع أحدهم ولكن يبدو أنهما قد افترقا، وأن ثمة حزن ما وكبير في حياتها حينما نقرأ خاتمة قصتها: "وحده المعطف الذي لم ينطق بكلمة طوال الحديث السابق، كان يعرف لماذا صارت الفتاة ترتديه في الآونة الأخيرة، لكنه لم يخبرهم حتى يظل مُتباهيا أمامهم بتفضيلها له عليهم، سيحتفظ بالحقيقة التي يعرفها حتى بعد أن تتوقف عن ارتدائه وتعود مرة أخرى لارتداء باقي الثياب، أبدا لن يقول لهم: إن ألوانهم لا تصلح الآن لحزن بحجم الموت، ولن يبشر السروال الذي ضاق بأنها سوف تعود لارتدائه بعد أن صغر خصرها مرة أخرى، منذ أن فقدت شهيتها، كما لن يخبر الفستان الأحمر أنه لن يرى هذا الشخص الذي جاء من أجله.. أبدا".

القاصة العراقية رغد السهيل

إذن، فالقاصة نهلة كرم تُدرك جيدا وبمهارة كيف تبني قصتها التي لا حدث فيها وتكسبها الكثير من الأحداث من خلال أنسنة الأشياء واستنطاقها وجعلها تتذمر وتعترض وتشعر، وهو ما جعل هذه القصة القصيرة التي لا حدث فيها من القصص المُكتملة والنموذجية؛ لمقدرتها السردية وخيالها الثري اللذين أتاحا لها مثل هذا اللون من أشكال السرد القصصي.

في قصة "وجه أرملة فاتنة" للقاصة الإماراتية فاطمة المزروعي نلاحظ اهتمام القاصة بالأفكار الاجتماعية المُتعفنة التي تسيطر على المنطقة العربية بالكامل، واعتقاد الجميع بأن المرأة الوحيدة، أو المُطلقة، أو الأرملة هي مجرد خاطفة للرجال؛ الأمر الذي يجعل الرجال طامعين فيها بأي شكل باعتبارها امرأة مُنفلتة اجتماعيا وأخلاقيا، في حين تراها النساء راغبة دائما في خطف أزواجهن وأن تكون محلهن في علاقتها برجالهن؛ ومن ثم يناصبنها الكثير من العداء والحقد، والرغبة في التخلص منها.

تعبر القاصة عن فكرتها بسلاسة لغوية عذبة، واقتحام السرد منذ السطر السردي الأول حينما تكتب: "منذ الصباح الباكر تفتح باب شقتها، تمسك بيديّ الطفلتين بكل حب، تترصدها بمزيج من الحسد والضيق، كل شيء فيها يفتن، إذا كنت، وأنا امرأة، أقف حائرة أمام تمايل هذا الجسد الطري، والنهدين، آه، إنهما يتحركان بتناسق غريب، جميل، فيهما الكثير من الإغراء، لا أدري سبب ارتفاعهما بهذه الطريقة، ربما لأنها ترتدي نوعية جيدة من "الستيانات" التي تغري بها الرجال".

ربما نلمح في الاقتباس الذي افتتحت به القاصة قصتها أن هذا التغزل بالأرملة التي تقطن البناية يأتي من قبل امرأة مثلها، أي أنها تركز على جمالها، وفتنتها، وجسدها، ونهديها، بل هي تتابعها في كل تحركاتها وسكناتها. حينما تخرج، وحينما تعود من عملها، وتبدأ في تخيل لقاء الأرملة على السلم مع زوجها الذي تقترب منه بصدرها العالي المثير؛ الأمر الذي يجعلها تخرج إلى السلم لمُراقبة الأرملة خوفا من أن تخطف منها زوجها. لا يتوقف الأمر على ذلك فقط بل تتخيل المرأة- المُراقبة- أن ثمة علاقة ما قد نشأت بين الأرملة وبين طالب الثانوي الذي يسكن في البناية المُجاورة، حتى أنها تخبر زوجها بذلك؛ فيبدأ في لومها من تلصصها على المرأة مُؤكدا لها أن طالب الثانوي في البناية المجاورة من أصل طيب وأخلاق عالية، لكن الكلام والتخيلات لا يظلان داخل شقة المرأة المُتلصصة، بل يبدأ تداوله بين جميع نساء البناية؛ الأمر الذي يجعل المُطلقة مجرد موضوع يلوكونه ليل نهار. هنا تتخيل المرأة المُتلصصة بأن ثمة علاقة فعلية قد نشأت بين طالب الثانوي والمُطلقة حتى أنها تراهما عاريين مُتعانقين من خلال نافذته، وهو الأمر الذي يجعل جميع نساء البناية يتلصصن عليهما وعلى علاقتهما الجسدية الناشئة.

هذه الظنون التي تدور في أذهان النساء تجاه غيرهن من الوحيدات تجعلهن دائما في موضع الاتهام وكأن وحدتهن محض جريمة لا بد أن يحاسبن عليها، وهو الأمر الذي برعت فيه المزروعي حينما وصفته وعملت جاهدة على تعميقه ببلاغة سردية ووصفية فنية عالية؛ لتقول في نهاية قصتها: "وفي ليلة صيفية، فوجئنا بجارتنا الأرملة ذات الوجه الفاتن تجرجر طفلتيها، وفي يدها حقيبة سوداء كبيرة، وتوقف سيارة أجرة تستقلها، وهي تُطلق سبابا عاليا. تركت رأسي على المقعد، ارتشفت القهوة في عصبية، وبطرف عيني لمحت ظل الجسدين المُتعانقين"!

إن الاقتباس الذي أنهت به القاصة قصتها هنا يحمل الكثير من الإحكام والبلاغة السردية، أو ما يمكن أن نُطلق عليه المُعادل الموضوعي في القصة القصيرة؛ فها هي المرأة المُطلقة المُتهمة من قبل الجميع لدرجة أنها لم تعد تخرج من باب شقتها بسبب توجيه العديد من الاتهامات لها وقذفها بالكثير من الكلمات بشكل علني قد ضاقت بما يدور من حولها، وكرهت أن تكون دائما موضع الشكوك الأخلاقية والاجتماعية؛ الأمر الذي دفعها لمُغادرة البناية، ولكن رغم رحيلها فإن المرأة المُتلصصة، التي كانت السبب في كل ما حدث، ترى من خلال النافذة نفس الجسدين المُتعانقين في بناية طالب الثانوية؛ مما يؤكد شيئا من اثنين، إما أن المرأة المُتلصصة تتجلى أمامها ظنونها وهلوساتها الدائمة بشكل واقعي، وهذا هو الأرجح، أو أن الطالب لديه علاقة بامرأة ما لا علاقة لها بالمرأة المُطلقة، لكن المرأة المُتلصصة التي تشعر بالغيرة والحسد منها تظن أن علاقة الطالب لا بد أن تكون بالمرأة الوحيدة المُطلقة.

لا تهم الظنون كثيرا في هذه القصة المُحكمة والبديعة بقدر مقدرة الكاتبة من خلال لغة عذبة وسلسلة، وخيال خصب على تجسيد الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها مُجتمعاتنا العربية والتي ترى دائما في أي امرأة وحيدة مُجرد امرأة سيئة السُمعة.

القاصة العُمانية هدى بنت حمد

في قصة "حبة الرمان" للقاصة العُمانية هدى بنت حمد تبرع القاصة فنيا في إيضاح أن التقاليد الاجتماعية والأفكار المُسيطرة على العوام من الناس من المُمكن لها أن تؤدي بهم في النهاية إلى التجني على حياة أقرب الناس إليهم بسبب أفكارهم ومُعتقداتهم البالية الغارقة في الأسطورة والوهم والجهل.

فثمة فتاة في الرابعة عشر من عمرها استيقظت ذات صباح لتُفاجأ بحبة حمراء على شفتها السفلى في حجم وشكل حبة الرمان، وأن هذه الحبة تشعرها بالكثير من الثقل وكأنها ذبابة تستقر على شفتها. تقلق الأم قلقا كبيرا وتنقل قلقها لزوجها الذي يصرّ على الذهاب بابنته إلى العالم الذي يعرف شيئا عن كل شيء، لكن الزوجة ترغب في الذهاب بابنتها إلى الطبيب، وهناك يؤكد الطبيب أنها تبدو وكأنها وُلدت بها وأن الأمر غريب؛ مما دفع الأم للرضوخ لرغبة الأب في الذهاب بالفتاة إلى العالم الذي يعلم شيئا عن كل شيء، وهناك تكون فاجعة الأفكار والهلاوس الاجتماعية: "بعد فحص طويل لحبة الرمان قال العالم: الأمر خطير، خطير للغاية. فزع الأب، وطار عقل الأم، وتنهدت البنت في مكانها. قال العالم من دون أن يرفع بصره إليهما: لا تظهر هذه الحبة على شفة أي فتاة إلا إذا.. إلا إذا كان هنالك من يشتهي تقبيلها من أهل الإنس أو الجن. نفض العالم رأسه أكثر من مرة: أعوذ بالله، أعوذ بالله. انتشرت القصة في القرية، تداول الناس حكاية حبة الرمان والقُبلة، وحبس الفتاة في الغرفة. لم يتمكن الأم والأب من مُغادرة البيت لقضاء حاجياتهما المُعتادة. فهذا يلكز بكلمة، وتلك تشير بغمزة ماكرة، والبعض الآخر كانوا أكثر خبثا إذ نشخ حبات الرمان أمام باب بيتهما. تفتح الأم الباب على ابنتها، تراقب حبة الرمان التي تزداد حُمرة كل يوم ولا أمل يلوح بزوالها، يدخل الأب في ساعات الظهيرة ويشبعها ضربا: قولي لي، هل هنالك من رغب في تقبيلك حقا، من هو، من؟ تدمع عين البنت، وتنتفض في مكانها ولا تنبس بكلمة".

نلاحظ من خلال الاقتباس السابق مقدرة القاصة البديعة على توصيف الحالة الاجتماعية الأسطورية التي يعيش فيها أبناء القرية الذين يصدقون أحد الرجال المشعوذين بأن ثمة من يرغب في تقبيل الفتاة؛ الأمر الذي يجعل جميع أهل القرية يتحدثون عن الفتاة بالسوء والنظر إليها نظرة شائنة أخلاقيا هي وأبويها، بل إن موقف الأبوين مما أصاب ابنتهما لا يمكن تصديقه حينما حبساها في غرفتها، بل وبات أبوها يضربها يوميا للاعتراف على ذنب لا تعرف عنه شيئا.

تصف القاصة حالة البنت التي كانت ترى رفيقاتها من البنات يلعبن في الخارج فتبكي محسورة على أمرها، وتمنيها أن تتحول إلى دودة لتستطيع الهروب من الغرفة. لكن الأب لا يكتفي بضرب الفتاة بل يدخل غرفتها وفي يده موس حلاقة راغبا في قطع حبة الرمان من شفة ابنته السفلى؛ ليتخلص من العار الذي حلّ بهم بسببها؛ فتستسلم الزوجة والفتاة لرغبته صامتتين وتبدأ الفتاة في النزيف الغزير، لكنه يؤكد أنها في الصباح ستكون بصحة جيدة وسينتهي كل هذا الكابوس الذي يعيشون فيه. هنا تكتب القاصة: "يدان دافئتان تمسكان بيدي البنت في الظلمة، فتحت عينيها ببطء، كان ثمة وجه شاب ضاج بالحياة قبالة وجهها، لم تتبين ملامحه جيدا، لم يُفلت يديها من يديه، رفع جذعها إليه، جلس في الجهة المُقابلة لها تماما، غرس شفتيه في شفتيها، عض حبة الرمان التي عاودت الالتئام بعد شطرها بموس الحلاقة، عضها بقوة، ولم تشعر البنت بالألم، كان كمن يمتص دم الذبابة الضخمة الماكثة دون حراك فوق شفتها، لم يمسسها الشاب بسوء، ترك يديها، اكتفى بقبلته وغادر الغرفة. مررت البنت طرف سبابتها فوق الشفة السفلى، لم تكن هنالك حبة رمان هذه المرة. في صباح اليوم التالي عادت الحياة كما كانت، الشمس ساطعة، المارة يلقون التحية بمحبة، كل شيء كما هو باستثناء البنت التي لم تعاود الصحو مرة أخرى!".

إن القاصة العُمانية هدى بنت حمد كان لديها من الموهبة والإحكام ما جعلها تستغرق في توصيف الجهل والأسطورة اللذين يحيا فيهما مُجتمعها، وهي الأسطورة التي جعلت الأب يقتل ابنته بما فعله باستخدام موس الحلاقة ظنا منه أن هذا الفعل من المُمكن له أن يخلصه من العار الذي أحاط به وبابنته، رغم أن الفتاة لم تفعل أي شيء مما يستحق العقاب، أو الحبس والعار الذي يشعر بهم.

القاصة المصرية نهلة كرم

إن المُختارات القصصية التي قامت بجمعها الكاتبة الأردنية أنعام القرشي تستحق الكثير من التأمل والتحليل، لا سيما أن الغالبية العظمى من قصص المجموعة تتميز بالكثير من الخيال الجيد، واللغة السردية المُتمكنة والمُحكمة من قبل العديد من الكاتبات اللاتي بلغن في عددهن 77 قاصة من جميع الدول الناطقة بالعربية. صحيح أن مُعظم هذه الكاتبات غير مشهورات، لكن الموهبة، في الغالب الأعم، لا علاقة لها بشهرة صاحبها؛ فثمة الكثيرين من المشهورين في جميع أقطار المنطقة العربية وهم لا يستحقون هذه الشهرة، ولا يمتلكون شيئا بسيطا من هذه الموهبة التي تتميز بها الكثيرات من الكاتبات اللاتي هن في حاجة ماسة من أجل تسليط الضوء النقدي والإعلامي عليهن لإعطائهن فرصتهن الحقيقية ولجعلهن يتصدرن الساحة الأدبية ويقدمن إنتاجهن الفني الجيد بدلا من العديد من الأسماء التي تم تكريسها رغم فراغها وخوائها الكامل من الموهبة بسبب الكثير من الفساد الثقافي الذي نعيشه.

صحيح أن ثمة قاصات في هذه المجموعة تتميز قصصهن بالرداءة، وأخريات يقفن في منزلة وسطى بين الرداءة والجودة، لكن كاتبات المجموعة في الغالب الأعم منها يتميزن بالثراء الخيالي والموهبة الحقيقية التي لا بد من الالتفات إليها، ولولا العدد الضخم الذي ضمه الكتاب من الكاتبات وقصصهن لكان من الأحرى بنا التوقف أمام قصصهن جميعا بالتحليل والنقد والتقديم.

إذن، فالمجموعة القصصية "مرايا قصصية" التي قامت بتجميعها الكاتبة أنعام القرشي تستحق الكثير من الدراسة النقدية؛ لأنها تضم بين دفتيها كنزا أدبيا حقيقيا يخص النساء الكاتبات في المنطقة العربية، وهو الكنز الذي لو تم تسليط الضوء على كاتباته لتغير وجه الأدب العربي كثيرا نحو الأفضل بدلا من المُستنقع الثقافي الذي نحيا فيه منذ فترة طويلة.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عدد سبتمبر 2020م.