الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

البروفيسور والمجنون: رجل دءوب وآخر بائس يجمعهما إطار من الملل!

 


كثيرا ما تكمن مشكلة سينما السيرة الذاتية في انسياق المخرج وصناع الفيلم- معه- إلى الالتزام بسيرة الشخص الذي يتحدث عنه، أو يقدم حكايته. أي أن المخرج في معظم الوقت يعمل على تقييد نفسه، مانعا ذهنه وذهن السيناريست من التحليق في الخيال وتقديم ما يلائم صناعة السينما المحلقة دائما؛ وبالتالي تسود أفلام السيرة الذاتية في معظم الوقت الحكاية المملة التي تُشعر المشاهدة بالرغبة في عدم إكمال الفيلم الذي أمامه، أو شعوره بالطول المُبالغ فيه فيما يشاهده. هذا الطول في حقيقته لا يعود إلى مشاكل في المونتاج بشكل مباشر بقدر ما يعود إلى محاولة المخرج الالتزام بالتاريخ والسيرة التزاما حرفيا، حتى لو كانت الأحداث التي يلتزم بها والحكاية يحملان داخلهما الكثير من السقم، لكنه يُصرّ على فعل ذلك، رغم أن خيانة الحكاية الأصلية قد تدفع بالفيلم في النهاية إلى آفاق أكثر رحابة من الالتزام بالأصل.

إذن، فصناعة سينما السيرة الذاتية تعاني فعليا من فقر وجفاف الخيال، والحيوية، والانطلاق، وتدفق الحدث، والمشاهد اللاهثة في الغالب منها؛ بسبب خوف صانع السينما من خيانة الأصل، وهو ما نراه في الكثير من أفلام هذه النوعية السينمائية.

في الفيلم الأيرلندي The Professor and the Madman البروفيسور والمجنون، أو Profesorius ir Pamiselis تبعا للاسم الأصلي للفيلم يحاول المخرج الإيراني الأصل الأمريكي الجنسية فرهاد صافينيا Farhad Safinia تقديم فيلم يتناول فيه السيرة الذاتية للرجل الذي كتب قاموس إكسفورد الذي اعتمد فيه على التطور التاريخي لكل كلمة في اللغة الإنجليزية منذ نشأتها وتطورها حتى لحظته الراهنة في 1872م وهو تاريخ بداية أحداث الفيلم.


اعتمد المخرج في فيلمه على رواية كتبها الروائي البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية سيمون وينشيستر
Simon Winchester وهي رواية جرّاح كروثورن The Surgeon of Crowthorne، ورغم أننا نلاحظ من عنوان الرواية أنها تهتم بجراح ما في منطقة ما، ورغم أن عنوان الرواية هو الاسم الذي يُطلق على الفيلم في كل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية؛ مما يُدلل على أن قصة هذا الجراح هي الأهم في الفيلم، إلا أن المخرج فرهاد صافينيا قرر أن يكون اسم الفيلم هو "البروفيسور والمجنون" في إحالة مباشرة ومبكرة منه إلى أن السيرة الذاتية لكاتب قاموس إكسفورد هي الأهم لديه من حكاية الطبيب المجنون الذي تتحدث عنه الرواية، أي أنه وضع قصة حياة كاتب القاموس في المقدمة على الطبيب.

منذ بداية الفيلم يسير السيناريو في خطين متوازيين لا علاقة لبعضهما البعض من خلالهما؛ فنحن أمام حياتين مختلفتين تماما: حياة الطبيب الأمريكي المتقاعد من الجيش النقيب جراح ويليام مانيور الذي قام بأداء دوره ببراعة الممثل الأمريكي شون بن Sean Penn، وهو الطبيب العسكري المضطرب نفسيا واللاجئ إلى بريطانيا العظمى خوفا مما رآه وحدث معه في الحرب الأهلية الأمريكية؛ حيث يتخيل دائما أن ضحاياه يطاردونه من أجل قتله، ويذهبون إلى منزله في الليل لفعل ذلك؛ الأمر الذي يصيبه بالكثير من الهلاوس مما يفضي إلى قتله لأحد الرجال الذين لا يعرفهم ظنا منه أنه أحد المطاردين له؛ ومن ثم يُحكم عليه بالإيداع في أحد المحصات النفسية ليكون تحت الملاحظة الدائمة؛ لأن وجوده في المجتمع يمثل خطرا على المجتمع فضلا عن خطره على نفسه، وفي مقابل هذا الخط نشاهد خطا آخر يسير متوازيا معه تماما وهو قصة جيمس موري الذي قام بأداء دوره الممثل ميل جيبسون Mel Gibson وهو الرجل الذي لم يحصل على شهادة جامعية؛ حيث ترك التعليم في فترة مبكرة من حياته من أجل الإنفاق على نفسه، لكنه اعتمد على التعلم الذاتي؛ الأمر الذي جعله يتقن الكثير جدا من اللغات، بل ويعد أطروحات لغوية في الكثير من فروع اللغة؛ الأمر الذي يجعل علماء جامعة إكسفورد ينظرون إليه بتعال ويرون أنه غير صالح لمهمة الانكباب على كتابة قاموس إكسفورد الذي يعتمد على التطور التاريخي للمفردات الإنجليزية، ولكن من خلال مساندة البروفيسور "فريدي" له، ينجح في إقناع مجلس العلماء في الجامعة على منح جيمس مهمة البحث وكتابة هذا القاموس الذي يحتاج إلى فريق ضخم من الباحثين ومدة زمنية قد تصل إلى قرن من الزمان، لكن جيمس كان من الذكاء ما جعله يطوع كل من يكتبون ويتحدثون بالإنجليزية جاعلا منهم فريقا بحثيا مساعدا له من خلال رسالة كتبها لأبناء اللغة الإنجليزية يطلب منهم فيها أن يقوموا بإرسال أي مفردة لغوية والشاهد الأدبي أو الديني عليها من خلال قراءاتهم اليومية، وهو الأمر الذي ساعده كثيرا في إنجاز هذا القاموس الضخم الذي كان بمثابة المغامرة الطموحة التي لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع.

إذن، فالسيناريو يسير من خلال خطين متوازيين لقصتين وعالمين مختلفين لكل من البروفيسور والطبيب المضطرب نفسيا، إلى أن يلتقيا في منتصف الفيلم ويسير السيناريو فيما بعد في خط واحد تقريبا.

نلاحظ منذ بداية الفيلم برودة الأحداث التي يقدمها من خلال متابعة قصة البروفيسور جيمس موري سواء في حياته الشخصية مع أسرته، أو مع فريق العلماء والباحثين في جامعة إكسفورد. هذه البرودة في الأحداث تجعلنا نشعر بالكثير من الملل وافتقاد الروح، ولولا أن القصة الموازية للطبيب الأمريكي المضطرب نفسيا كان فيها القليل من التشويق لما استطاع المشاهد الاستمرار في مشاهدة الفيلم الذي استمرت أحداثه ساعتين كاملتين من الصقيع البارد الذي لا يمكن لأحد أن يحتمله؛ فثمة شعور منذ البداية بأن المخرج لا يعرف ما يجب عليه أن يقدمه أو يقوله، أو أنه لديه قصة ما لكنه لم يقف على الشكل المناسب لها من أجل تقديمها في شكل سينمائي جذاب وحيوي؛ الأمر الذي أكسب الفيلم الكثير من الترهل والبرودة والصنعة المتكلفة رغم أهمية الموضوع الذي يتحدث فيه، لكن حياة جيمس موري نفسها لم يكن فيها شيئا مهما من الممكن تقديمه، وهذا هو الخطأ الأساس الذي وقع فيه الفيلم باعتباره من أفلام السيرة الذاتية، فهو يريد متابعة حياة البروفيسور جيمس التي لا يوجد فيها ما يمكن أن يكون جاذبا للمشاهد، في حين أنه لو كان قد ركز بشكل أكبر على قصة الطبيب الأمريكي المضطرب لجعل الفيلم أكثر جاذبية وتشويقا للمشاهد.

الروائي الإنجليزي الأصل سيمون وينشستر
صحيح أنه قدم لنا حياة البروفيسور جيمس في شكل يؤكد فيه على رجل جسور وقوي وحالم، شديد الدأب في مسعاه تجاه حلمه العلمي وتقديم أهم قاموس في تاريخ اللغات وحده، لكن القصة كانت مُفتقدة للكثير من الحيوية، بالإضافة إلى ازدحام الشخصيات في السيناريو، وهي الشخصيات التي لم يكن لها أي دور أو معنى في تصاعد الأحداث؛ الأمر الذي جعلنا كثيرا ما نتساءل: ما هو دور زوجة جيمس "إدا" في الفيلم؟ لقد منحها السيناريو مساحة كبيرة لا داعي لها، بل لم يكن هناك أي داع لوجود الزوجة في الفيلم بالكامل؛ فنحن طوال الوقت نراها صامتة متأملة، يشوب ملامحها الكثير من الحزن غير المبرر من قبل صناع الفيلم. فلِمَ تبدو هذه الزوجة بهذا الحزن الدائم رغم المعاملة الحسنة والجيدة جدا من قبل زوجها لها، وما هو الدور المهم الذي لعبته في أحداث الفيلم البطيئة التي بدت لنا وكأنها أبدية؟ إنها لم تُساهم بأي شكل في تطور السيناريو وتنامي الأحداث، بل كانت عاملا مُعطلا لها فضلا عن ازدحام الفيلم بشخصيات لا ضرورة لها.

الممثلة الإنجليزية ناتالي درومر
في الجانب الآخر حينما يُودع الطبيب الأمريكي وليام في المصحة النفسية يستطيع أن ينقذ أحد الجنود من الموت بعدما تقع البوابة الحديدية الضخمة على ساقه؛ وهو الأمر الذي جعل الطبيب الملاحظ له يمنحه الكثير من الامتيازات داخل سجنه، منها وجود مكتبة ضخمة في زنزانته، والسماح له بالأقلام والحبر والأوراق من أجل الكتابة والرسم. في هذه الأثناء يدفع شعور الندم الشديد الذي يشعر به الطبيب الأمريكي إلى أن يطلب من المشرفين عليه أن يُمنح كل معاشه التقاعدي من الجيش الأمريكي إلى أسرة الرجل الذي قتله بالخطأ ظنا منه أنه أحد من يطاردونه، لكن الأرملة إليزا ميريت التي قامت بدورها الممثلة الإنجليزية Natalie Dormer ناتالي دورمر ترفض هذه المساعدة من قاتل زوجها في بداية الأمر، إلا أن جوع أبنائها أمامها يجعلها ترضخ في نهاية الأمر لقبول هذا العرض؛ الأمر الذي يدفعها إلى الذهاب للمصحة من أجل رؤية الطبيب؛ كي تعمق من شعور الكراهية داخلها، وتتشفى فيه وهي تراه في هذا الوضع، لكنها شيئا فشيئا تبدأ في تناسي حقدها عليه، بل وتكون بينهما صداقة تؤدي في النهاية إلى شعور بالحب العميق يكنه كل من الطرفين للآخر.

الممثل الأمريكي ميل جيبسون
هذا الارتياح والشعور بالحب العميق من قبل الطبيب وليام يترجمه في رسم صورة إليزا ميريت لتظل أمامه في زنزانته طوال الوقت معتبرا أن هذا الشكل من الحب هو المستحيل الدائم، في حين أنها تترجم هذه العاطفة بجلب أبنائها من أجل التعرف على الطبيب باعتباره صديقا للأم، لكن الابنة الكبرى التي رأت مقتل أبيها على يد وليام لم تستطع الشعور بالتسامح، وما أن اقترب منها لمصافحتها إلا وصفعته بقوة على وجهه وبدأت تضربه في كل مكان في حالة انهيار تام.

إن مشهد صفع الشابة "كلير" للطبيب كان من أهم المشاهد التعبيرية في هذا الفيلم؛ حيث ركزت الكاميرا على اختلاجات وجه الطبيب من خلال استخدام اللقطة الكبيرة، التي لاحظنا من خلالها مدى دقة ونجاح الممثل شون بن في إعطاء رد الفعل المطلوب والمناسب من رجل يشعر بشعورين متناقضين: الإهانة، والندم على ما سبق أن بدر منه تجاه هذه الفتاة التي قتل أبيها. إن المقدرة التمثيلية التي قدمها الممثل الأمريكي شون بن من خلال هذا الدور تُدلل على ممثل قادر على إعطاء أي خلجات أو ملامح من الممكن أن تتطلبها الشخصية التي يؤديها، وهو ما رأيناه في بداية الفيلم أيضا حينما حاول محاميه الدفاع عنه في قاعة المحاكمة باتهامه بالجنون. في هذا المشهد تركز الكاميرا على الممثل الذي يؤكد من خلال حركات جسده، ورأسه ونظراته ويديه مقدرته الهائلة على الأداء؛ حيث رفض اتهامه بالجنون رغم أنه الأمر الوحيد الذي من الممكن أن ينقذه وحاول التأكيد على أنه عاقل، رغم أن حركاته الجسدية بالكامل مع نظراته تؤكدان على أن ثمة اضطراب نفسي يعاني منه هذا الطبيب، ولعل هذا الأداء من شون بن كان من أكثر العوامل التي جعلت أداء ميل جيبسون يبدو أمامه باردا إلى حد كبير في أداء دور البروفيسور جيمس وإن كان قد حاول الاجتهاد في أدائه أمام بن.

الممثل الأمريكي شون بن
يقرأ الطبيب الأمريكي وليام الرسالة التي وجهها جيمس إلى جميع الناطقين باللغة الإنجليزية؛ وهو الأمر الذي يجعله ينغمس تماما في قراءة أعداد هائلة من الكتب بشكل أقرب إلى الجنون، ومن خلال هذه الكتب ينجح في استخلاص 1000 كلمة من اللغة الإنجليزية ومتابعة تطورها التاريخي من خلال الشواهد الأدبية وغيرها وحده، أي أنه كان يقوم بدور كتيبة كاملة من الباحثين من خلال تفرغه المجنون للبحث عن أصول الكلمات تاريخيا.

لم يكن هذا الاهتمام بمساعدة جيمس لمجرد أنه يريد أن يساهم في هذه المهمة العلمية البحثية، بل لأنه- الطبيب- كان يحاول دائما الهروب من حياته، وخيالاته وتوجساته، والأهم محاولة هروبة من الشعور الدائم بالذنب نتيجة قتل الرجل الذي لا يعرفه؛ فضلا عن تعمق هذا الشعور بالذنب حينما شعر بالحب تجاه أرملة القتيل؛ الأمر الذي كان يُشعره في قرارة نفسه بالألم والخيانة، والإمعان في قتل الرجل بسرقة أرملته منه بعد قتله.

المخرج الإيراني الأصل فرهاد صفي ينا
أي أن الطبيب كان يستمد ثباته النفسي الدائم واتزانه من الإحساس بأن هناك ثمة من يكرهه على أفعاله التي اقترفها- الأرملة وأبناء القتيل- لكنه حينما شعر بالحب ممن كانوا يكنون له الكثير من الكراهية بدأت حياته ترتبك، ويفقد الكثير من اتزانه النفسي؛ ومن ثم بدأت مقدرته البحثية عن أصول الكلمات في بطون الكتب تخفت وتضعف تماما؛ الأمر الذي انعكس على بداية ندرة الرسائل التي يرسلها للبروفيسور جيمس.

يتعارف الطبيب والبروفيسور بعد صدور الجزء الأول من قاموس إكسفورد، وهو الجزء الذي ساهم فيه الطبيب بجزء كبير؛ فيذهب البروفيسور للمشفى النفسي لإهداء نسخة للطبيب وهناك يكتشف أنه سجين تحت الملاحظة الطبية، وأنه قد ارتكب جريمة قتل، ولكن البروفيسور يميل إلى التعاطف مع وليام من منطلق إنساني تماما، وباعتبار أن كل إنسان لا بد أن نعطيه الفرصة من أجل التوبة عن أخطائه، وبالتالي يكون التسامح عماد الحياة.

يعمل الطبيب وليام على تعليم إليزا ميريت أرملة القتيل الكتابة والقراءة حينما يكتشف أنها تجهلهما، كما تعترف له بحبها له وتقوم بتقبيله ذات مرة؛ الأمر الذي يؤدي إلى سوء حالته النفسية وتدهورها تماما، بل والوصول بحالته إلى الحضيض بعدما كان يستجيب للعلاج بصورة ملحوظة.

رغم حب الطبيب للأرملة، وهو الحب الذي لم يعترف لها به، إلا أنها بمجرد اعترافها بحبها له دخل حالة عميقة وسوداوية من عدم الاتزان النفسي والشعور بالذنب والبكاء والألم؛ لدرجة تجعله يبكي في زنزانته قائلا لنفسه: لقد قتلته ثانية، ولعل هذا المشهد كان من المشاهد المهمة القليلة المُعبرة في الفيلم حيث ينتقل المخرج من خلال المونتاج المتوازي Cross Cutting بين الطبيب الذي يبكي مرتعشا، وبين الزوج القتيل ينظر إليه باكيا ليقول للطبيب: الذنب ذنبك. هذا الشعور العميق من الذنب والألم يجعلان الطبيب يقوم مباشرة بإخصاء نفسه؛ حتى لا يكون ثمة أمل لأي علاقة بينه وبين الأرملة، أي أنه يرى في الإيذاء الجسدي لنفسه ثمنا لا بد من دفعه بسبب قتله الخاطئ للزوج.

هذا الشعور العميق بالذنب يرى في جوهره أن حياته لا بد أن تكون في مقابل حياة القتيل، أي أن سوء حالته النفسية يدفعه باستمرار إلى الإيذاء الجسدي كي يقتل نفسه في نهاية الأمر بسبب خطأه، وهو ما جعله يقول لصديقه البروفيسور في إحدى زياراته له بينما ترتسم على وجهه الكثير من مشاعر الخزي والألم: لقد سرقتها من الميت.

كان من الممكن جدا للطبيب أن يشفى من اضطرابه النفسي الذي يشعر به؛ بسبب الكثير من الجرائم التي ساهم فيها في الحرب الأهلية الأمريكية، فضلا عن قتل رجل برئ لا ذنب له ظنا منه أنه من ضحاياه الذين يطاردونه، لكن دخوله في حالة من الحب مع أرملة القتيل قد أدت به إلى الانهيار النفسي الكامل الذي تركه على شفا الجنون، حتى أنه قد آذى نفسه بالإخصاء والامتناع عن مقابلة الأرملة أو البروفيسور.

هنا يستغل المعالج النفسي المشرف على حالة الطبيب ما وصل إليه من حالة نفسية ويتفق معه على إجراء العديد من التجارب الطبية عليه وبموافقته، وبما أن الطبيب وليام يميل في حالته هذه إلى الإيذاء الجسدي لنفسه، والرغبة العميقة في التخلص من حياته بسبب إحساسه الهائل بالذنب والأذى المُضاعف للقتيل الذي يشعر بأنه سرق زوجته؛ فهو يوافق على أن يكون فأر تجارب للطبيب المشرف عليه؛ الأمر الذي يصيبه بحالة دائمة من التخشب والتدهور الصحي الكامل المُفضي إلى الموت، والانفصال الكامل عما يحيطه وكأنه يحيا في عالم يخصه فقط، لكن الحارس الذي يكن له الكثير من الاحترام يخبر البروفيسور جيمس والأرملة بما آل إليه الأمر؛ مما يجعلهما يتحركان من أجل إنقاذه، وبالفعل ينجح البروفيسور من خلال إعادة المحاكمة واللجوء إلى ونيستون تشرشل إلى استصدار حكما جديدا على الطبيب يعمل على ترحيله إلى أمريكا قائلا: دع أمريكا تتول أمر ابنها الضال؛ لأن الإفراج عنه في بريطانيا كان سيؤدي إلى ثورة اجتماعية عارمة ورفض من الجميع، وبما أن تشرشل تفهم الأمر والحالة النفسية التي يمر بها الطبيب، وأنه لم يكن يقصد هذا القتل؛ فلقد كان الحل الوحيد هو الإفراج عنه من أجل ترحيله إلى بلده.

ينجح البروفيسور فيما أراده من إنقاذ صديقه الطبيب المضطرب نفسيا، كما ينجح في أن يتولى أمر قاموس إكسفورد وحده مدى الحياة بأمر ملكي من الملكة؛ وبالتالي تتوقف جماعة الباحثين عن محاربته، وينتهي الفيلم نهاية باردة لا معنى لها حينما نرى ميل جيبسون يجلس في غرفة بحثه متأملا للزوجة والأطفال في الخارج، وفي اللقطة التالية مباشرة يكون في نفس المشهد متأملا الزوجة والأولاد ولكن بعد مرور الكثير من السنوات وبعدما يصبح الأطفال كبارا وقد أنجبوا أولادهم.

هنا يجد المخرج نفسه في ورطة كيفية إنهاء الفيلم الذي كانت أحداثه بمثابة الحجر الثقيل على صدورنا بسبب عدم ديناميكيتها أو تدفقها، أي أنها مجرد أحداث فاقدة للروح؛ فيضطر إلى الكتابة على الشاشة بأن البروفيسور قد أنهى القاموس بعد سنوات طويلة جدا، وأنه قد مات بعد إصابته بمرض رئوي، كما يكتب أيضا بأن الطبيب جيمس قد تلقى علاجه في أمريكا، وعاش فترة طويلة كما ساهم بقدر لا يمكن تجاهله في قاموس إكسفورد للغة الإنجليزية.

لا يمكن نسيان الموسيقى التصويرية الأوبرالية التي اعتمدها الفيلم؛ حيث كانت تُكسب الكثير من المشاهد صبغة الملحمية فيما يحدث، وتعمل على تعميق الإحساس بما يحدث مع الطبيب الأمريكي.

يعد الفيلم الأيرلندي "البروفيسور والمجنون" من أفلام السيرة الذاتية المُفتقدة للروح تماما، الأمر الذي مال به إلى الكثير من الملل والإحساس بالطول؛ نتيجة لأن الأحداث لم يكن فيها ما يهم، كما أن هناك العديد من الشخصيات التي لم يكن لها داع، وأدت إلى الازدحام من دون ضرورة. لكن المشكلة الكبرى أن الفيلم أراد تقديم سيرة ذاتية للبروفيسور جيمس موري صانع قاموس إكسفورد في حين أن القصة الموازية للطبيب الأمريكي كانت أكثر حيوية من قصة البروفيسور بشكل جعلها تلتهم قصة جيمس وتبدو هي الأقوى والأهم لإنسانيتها وتعقدها؛ الأمر الذي جعل المشاهد يهتم بالطبيب أكثر من اهتمامه بالبروفيسور، فضلا عن أن أداء الممثل شون بن كان من العمق والإحساس الصادق ما جعل أداء ميل جيبسون أمامه أداء باردا؛ ففقدت السيرة الذاتية للبروفيسور أهميتها في مقابل قصة الطبيب وأداء الممثل.

 

محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة

عدد ديسمبر 2020م.














 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق