الاثنين، 30 أكتوبر 2017

جميعهن.. بؤس الفكرة والجهل بتقنيات الرواية

مما لا شك فيه أن الفكرة الأدبية التي يتحدث فيها الروائي هي أمر يخص صاحبها، بمعنى أنه لا يمكن للناقد أن يتعرض من خلال ما يتناوله من أعمال أدبية للفكرة التي يتحدث فيها المؤلف؛ لأن الأفكار لا يمكن لها الخضوع للنقد بقدر خضوع الكيفية أو الآلية التقنية التي تناول بها السارد فكرته، ولعله مع ظهور العديد من المدارس النقدية الحداثية وما بعد الحداثية، ومع ظهور العديد من تقنيات السرد الجديدة، المختلفة كليا عما كنا نعرفه فيما مضى من أساليب للسرد؛ بات من الصعب التعرض للآليات السردية الحديثة بالنقد أو إخضاعها لشكل بعينه من أشكال المدراس النقدية الكلاسيكية منها أو الحديثة، كما أنه لا يمكن إنكار أن النص الأدبي هو الذي يفرض آلياته الأدبية على الناقد ومن ثم يتولد المنهج النقدي من خلال النص المكتوب وليس العكس، ومن هنا لم يعد من الممكن إخضاع النص الأدبي لمنهج من المناهج بقدر خضوع المنهج نفسه للنص المكتوب.
لكن هل معنى ذلك أن الكاتب قد بات يتمتع بالحرية الكاملة في كتابته بأي شكل من أشكال السرد، وبالتالي يصبح الناقد خاضعا وموافقا على أي شكل سردي بدعوى المناهج الحداثية وما بعد الحداثية؟
إن الموافقة على أن الناقد لابد أن يكون خاضعا وموافقا على كل ما يأتي به السارد باعتبار أن المناهج النقدية الحديثة تتيح له ذلك سيؤدي بالضرورة إلى الفوضى الكاملة في الكتابة ومن ثم يصبح من السهل أن يكتب أي كان ما يشاء من غث ولا معنى له ثم يتبجح بأن هذا شكل كتابي لابد من قبوله. إذن فالأمر هنا ليس على إطلاقه كما قد يبدو، والنقد هنا لا يفرض على الكاتب أي شكل من أشكال القيد أثناء عملية السرد، لكنه يُقنن البديهيات فقط ثم يكون على الكاتب فيما بعد أن يختار ويُطور أشكال السرد تبعا للشكل الجمالي والفني الذي يراه مناسبا لموضوعه الذي يختاره.
فكرت كثيرا في موضوع التقنيات السردية والفكرة الفنية التي يتناولها الكاتب أثناء قراءتي لرواية "جميعهن" للروائية هناء عبد الفتاح؛ فالموضوع الذي تتحدث فيه الروائية هنا- رغم سذاجته- لا يعنيني من قريب أو بعيد كناقد سواء قبلته أو رفضته؛ لأن هذا أمر يخص كل مبدع، لكن التقنية التي يتناول بها المؤلف موضوعه هي التي تخصني، وهي التي تجعلني قادرا على هضم الفكرة سواء كانت تروق لي أم لا، وهنا كانت أزمة الروائية في روايتها.
الرواية تبدأ بحدث شيق بالنسبة للقارئ وهي فتاة ما منهارة نفسيا تتجه إلى المشفى لرؤية شخص ما في العناية المركزة بين الحياة والموت بسبب طعنه بالسكين، وفي الوقت الذي تتحايل فيه على حارس المشفى من أجل السماح لها برؤيته يرفض الرجل تماما؛ لأن الأطباء يمنعون الزيارة عنه نظرا لتحرج حالته، هنا تعرض على حارس المشفى ممارسة الجنس معها كرشوة كي يسمح لها بالزيارة ومجرد الوقوف أمام زجاج غرفة الرجل المصاب صامته، فيوافق الحارس على تمريرها لرؤيته ولكن بشرط ممارسة الجنس معها مرتين وليس مرة واحدة فقط كما عرضت.
بين هذا المشهد الافتتاحي ومشهد النهاية الذي كان هو نفس المشهد تدور الرواية بأسلوب التذكر Flash Back المستعار من تقنيات السينما، حيث يُصرّ الحارس على معرفة حكايتها وعلاقتها بالمصاب وتبدأ في الحكي لتنتهي الرواية حيث المشهد الأول الذي بدأت فيه الرواية وهي مع حارس المشفى الذي يستمع إليها بعدما مارس معها الجنس.
لكن هل وُفقت الروائية هناء عبد الفتاح في عرض هذه الحكاية ومن ثم قدمت رواية متماسكة؟
إذا ما تأملنا اللغة السردية التي تكتب بها عبد الفتاح سنلاحظ أنها لديها الكثير من القصور في لغتها الروائية التي تنحو بها باتجاه التزيد في الوصف والاستطراد بشكل يدعو إلى الملل؛ مما يجعلنا راغبين في إعادة كتابة الرواية مرة أخرى وتنقيح هذه اللغة المتزيدة التي لا داعي لها، أي أن الأداة الأولى للكاتبة –اللغة- كانت من أهم الأسباب التي تدعو القارئ للإعراض عن استكمال هذه الكتابة. يتضح ذلك من هذه الفقرة مثلا: "كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة صباحا عندما كسر صوت الرعد الموحش ظلام السماء ليعلن ليلة شتاء ماطر؛ لها من العنف والشراسة ما يربك القلوب ويصيب بالقلق والتوتر الكبير. هذه الليلة اتخذ الشتاء، والذي يجري عليه مزاج أغلبية البشر قرارات ديكتاتورية، أراد خطف النوم من عيون الناس وتحويل المتعة بالمطر إلى خوف، والبهجة بنسيمه إلى رهبة، والتأمل في أجوائه إلى ترقب، وهو ما جرى على كل سكان المدينة النائمة إلا هي"، ففي هذه الفقرة التي افتتحت بها الروائية روايتها يتضح أنها لديها رغبة قاتلة في الثرثرة التي لا معنى لها، وهي الثرثرة التي لا تُضيف إلى العمل الفني بقدر ما تأخذ منه وتضعفه، كما أن كثرة التوصيفات التي تحرص عليها لا داع لها؛ لأنها لم تعتمد على هذه التوصيفات في الإغراق في الحالة النفسية لأي من شخصيات الرواية، بل هي توصيفات من أجل التوصيفات فقط.
ربما لو كانت هذه التوصيفات المتعددة من أجل بناء حالة نفسية عميقة ومركبة تعتمد على هذا الجو العاصف الماطر؛ كان من الممكن تقبلها، لكن أن تكون التوصيفات العديدة لأن المؤلفة راغبة في ذلك فقط لاعتقادها أن هذه هي اللغة الأدبية الناجحة أو المؤثرة فهذا ما يعصف بالسرد الفني ويجعلنا نترك العمل منذ السطور الأولى لأنها لغة ساذجة سرديا تجعل القارئ يتساءل: لم لم تتوقف الكاتبة عند قولها: كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة صباحا عندما كسر صوت الرعد الموحش ظلام السماء؟ وهل كل ما جاء بعد ذلك من ثرثرة كان له داع؟ وهل إذا ما تم حذفه سيؤثر على المعنى أو السرد؟
هذا ما نراه أيضا في قولها: "لم تبال بتسلل طين الشارع إلى قدميها حتى جعلها أشبه بأقدام بشر عصور ما قبل الميلاد ومضت غير مكترثة بحالات الصخب حولها"، كان من الأجدى بها القول: "لم تبال بتسلل طين الشارع إلى قدميها غير مكترثة بما حولها"، أما أن تتزيد في الوصف كي تصف القدمين بأقدام بشر عصور ما قبل الميلاد فهو وصف لا معنى له سوى السذاجة في السرد، وهي السذاجة التي لابد أن تصرف القارئ عنها غير مكترث بهذه الكتابة غير الناضجة، كما أن هناك ركاكة واضحة في تركيب الجمل وهذا ما نلمحه في قولها: "هنا لم أستطع تمالك نفسي، فقدت التحكم في كتم ضيقي من كلامه، سيطر الغضب علي فقلت: ألا تتوقف عن إهانتي بعد؟! كلامك يُسبب لي جروحا قطعية في نفسي". هنا يبدو السرد ركيكا إلى حد بعيد، فما معنى قولها: ألا تتوقف عن إهانتي بعد؟ ولم كانت كلمة "بعد" التي اختتمت بها الجملة؟ وكيف يسبب لها الكلام جروحا قطعية في النفس لاسيما أن شخصية الراوية كما أكدت المؤلفة على طول روايتها هي مجرد شخصية غير متعلمة، من بيئة اجتماعية لا تعلم عن الحياة أي شيء سوى مقاومة الفقر الذي ينهش فيهم ليل نهار، ولم تتلق قسطا كافيا من التعليم اللهم إلا الكتابة فقط، فهل هذا يجعلها قادرة على التحدث بمثل هذا الأسلوب الذي يجعل الكلام مُسببا للجروح القطعية في النفس؟!
لكن هل توقف الأمر على سذاجة السرد فقط؟
لو كان الأمر قد توقف على سذاجة السرد لكان الأمر هينا، وجعل الرواية مقبولة إلى حد ما، لكن المؤلفة ليس لديها أي فكرة عن منطقية الأشياء، أي أن الحدث كان يتطور تبعا لرغباتها كمؤلفة –لأنها عايزة كدا- وليس لأن الحدث لابد له أن يتجه ويتنامى بهذا الشكل، ومن ثم حملت الرواية كل ما تفكر فيه الروائية من أفكار تفكر فيها من خلال لي عنق النص تبعا لما تفكر فيه وتريد مناقشته، وهو ما أدى إلى دخول صوت المؤلف ورأيه بشكل صارخ داخل العمل بشكل أفسده تماما، فبدا لنا الأمر أن السرد هنا عبارة عن مقالات أو نقاشات في قضايا بعينها تخص المرأة في المجتمع، وليس مجرد سرد روائي من المفترض أن يغلب عليه الفني في النهاية.
تتحدث الرواية عن "زهرة" الفتاة التي ذهبت لرؤية الرجل الموجود في العناية المركزة، ومن خلال التذكر والحكي نعرف أنها من عائلة تعيش فيما يشبه الخرابة بينما تعولها جدتها نتيجة لأن أبويها مصابان بالتأخر العقلي، وفي هذه الخرابة التي تعيش فيها لا يوجد سوى حمام مشترك لكل من يعيشون في هذا المكان، كما أنه لا يوجد جدران فاصلة بين الجيران سوى ملاءات؛ الأمر الذي يجعل أي همسة يسمعها الآخرون، حتى أن الجنس يسمعه الجميع، وهذا ما جعلها تشعر دائما بأنها أقل كثيرا من حيث المستوى الاجتماعي مع زميلاتها في المدرسة؛ الأمر الذي يجعلها تترك التعليم، وحينما يتقدم محمود للزواج منها وهو ابن إحدى العائلات الموسرة – من دون توضيح السبب في إقبال محمود على الزواج من فتاة بمثل هذه المأساة الاجتماعية ومن دون وجود أي سابق معرفة أو أي علاقة حب أو مقابلة سابقة- تفرح بهذا الزواج لأنه سينتشلها من الفقر الذي تعيش فيه، لكن محمود معتاد على تعاطي الحشيش حتى بات مدمنا له ولا يعنيه شيئا في حياته سواه، وهو عاطل تنفق عليه أمه، وحينما تموت هذه الأم تكتشف أن محمود قد أنفق كل ما يمتلكه على الحشيش وبالتالي عادت إلى الفقر مرة أخرى بينما هو متغيب عن العالم مع الحشيش، فتحاول أن تغير الظروف لأنها لا ترغب لابنتها أن تعيش نفس المأساة التي عاشتها من قبل، ولأنها عملت فيما قبل في العديد من الأعمال كخادمة وغيرها من الأعمال فهي لا ترغب أن تعود إلى هذه المهن الوضيعة مرة أخرى فلم تجد سوى المتاجرة بجسدها كوسيلة للحياة والإتيان بالمال معتمدة في ذلك على أن محمود لا يعنيه من أين تأتي بالمال ما دامت توفر له الملبس والمأكل والحشيش الذي يرغبه، وهنا تدعي المؤلفة أن البطلة "زهرة" تبدأ في الشعور نحوه بالمسؤولية وكأنه ابنها الذي لابد لها أن ترعاه، وهذه المسؤولية تعني أنه لا حق له في جسدها؛ فهي تشعر تجاهه بالأمومة ما دامت مسؤولة عن رعايته وهذا ما جعلها تأنف وترفض رفضا تاما أن يقترب منها جسديا مرة أخرى، ومن ثم حينما حاول ذات مرة أن يضاجعها وأصر في ذلك لم تجد أمامها سوى السكين الذي غرسته في جسده ليقع صريعا أمامها.
ربما كانت الفكرة برمتها مجرد فكرة ساذجة لا يمكن تقبلها بسهولة لاسيما موضوع أنها قتلت زوجها لأنها تشعر تجاهه بالأمومة ما دامت ترعاه وتنفق عليه، ومن هنا ينهار البناء الروائي كله- المنهار أساسا منذ البداية- هذا فضلا عن لا معقولية الكثير من الأحداث والحوارات التي جاءت في متن السرد.
بعد مرور صفحتين من بداية الرواية تحدثت فيها عن المرأة الذاهلة التي تتجه إلى المشفى تكتب: "إنها زهرة، زهرة في العقد الثالث من العمر، وما أغرب حكايات الزهور!! ما أفقر الخيال وما أضأله! عندما يُقارن بواقع أغنى من الدخول معه في مقارنة أصلا! نساء المدن في كل بقاع الأرض عادة يحملن رسالات شديدة اللهجة لأي خيال يقترب من الحديث عنهن.. واقعهن أكبر من أن يُختزل في مجرد اجتهادات شطح الخيال يوما لوصفه. كل نساء المدن زهور طرحت في الحديقة، كلهن يحملن عطرا لا تخطئه أنف متذوق بشرط أن يكون متذوقا فعلا لا مدعيا، كلهن شريكات في قواسم لا تتغير مهما تغير اللون والشكل والجنسية والأرض التي نبتت فيها، كلهن شريكات في أرض السعادة العابرة والأحلام المؤجلة والمضغوطة وربما المتبخرة!! الزهرة هنا قصيرة القامة.. سمراء البشرة.. بالية الأوراق"، نلاحظ هنا أن صوت المؤلفة يدخل بضجيج لا يمكن احتماله حينما تكتب: "إنها زهرة"، مجرد هذه الجملة فقط تخرجنا مباشرة من الحكي الروائي إلى الانتباه لصوت المؤلف الخارجي، ثم لا نلبث أن ننتبه إلى كل ما جاء بعد "إنها زهرة" من ثرثرة لا معنى لها سوى أن المؤلفة اعتمدت على لغة غنائية لا معنى لها لتتفلسف من خلالها في الحديث عن نساء المدن والواقع والخيال الذي لا علاقة له بالموضوع.
كما أن الحديث الذي وضعته على لسان الشخصيات كان فيه من الاصطناع والافتعال ما لا يمكن احتماله في أي سرد روائي؛ فبعدما مارس معها الحارس الجنس الذي قدمته له كرشوة جنسية تكتب: "قال بصوت مجهد وهو مسجى على الأرض.. من أين أتيت؟! أنا بلقائك هذا جالست جميع النساء، شربت من شهدهن جميعا ما يكفيني، أنت منظومة النساء، أنت القوة والضعف، والشرف والعهر، والثورة والعبودية، أنت أعلى سقف يفكر رجل في الوصول إليه.. تعالي ندخن سيجارة معا"، هل من الممكن تقبل هذا الحديث من حارس لمشفى، وهل من الممكن توجيه هذا الحديث لداعرة؟! الأمر هنا لا يعدو أكثر من حوار ذهني سيطرت فيه ذهنية المؤلفة على الشخصيات فاستنطقتها بلغتها هي كمؤلفة ومن ثم لم يتحدثوا بلسانهم أو لغتهم؛ فالرجل هنا يبدو شاعرا أو مثقفا ثوريا وليس مجرد حارس على باب مشفى، ومن هنا تبدأ العديد من الحوائل بين العمل والقارئ في النشوء لتعمل على الحيلولة الكاملة بين القارئ وتلقي العمل المصطنع غير الخاضع لأي تقنية سردية اللهم إلا لذهن المؤلفة التي تضع ما يحلو لها على لسان شخصياتها بشكل ساذج.
نلاحظ أيضا عدم القدرة على فهم سيكولوجية الشخصية التي تتحدث عنها ومن ثم يبدو لنا الحدث شديد الاعتباطية؛ نظرا لأنه لا يعتمد على فهم الحالة النفسية لدى الشخصيات، فبعدما ضاجعها الحارس مباشرة بشكل فيه الكثير من الحيوانية والاستغلال؛ ومن ثم سمح لها بالصعود لغرفة العناية المركزة تكتب: "أمام دائرة زجاجية سميكة موجودة أعلى باب الغرفة الراقد فيها محمود، وقفت تضرب بعينيها وتطوف الغرفة كلها من الداخل حتى وقع نظرها عليه نائما والأجهزة الطبية متصلة بفتحتين في جسده.. تحول وجهها إلى العبوس وعادت الدموع في عينيها تدفع بعضها بعضا من جديد.. عادت لها الرعشة نفسها والخوف نفسه، عادت منفصلة عن كل ما حولها وبدأت شفتاها تردد في هدوء "محمود".. "محمود"، ثم صمتت! تأثر صابر بخوفها عليه، رعشتها أمامه، شعر هنا أن امرأة بتلك القوة عندما تنهار بهذا الشكل لابد أن يكون الوجع فاق كل الحدود.. اقترب منها هامسا: لا تتخلي عن أملك في أن يعيش مثيلاتك يأبى اليأس أن يتسلل لنفوسهن.. اصبري يا حلوة واستدعي قوتك وأنا على يقين أنها ستنصفك"، هنا تتبدى لنا لا منطقية السرد بشكل فادح فيه الكثير من الضجيج؛ فالحارس الذي ضاجعها منذ دقائق في مقابل رؤية زوجها لا يمكن له أن يتحدث بمثل هذا الشكل، ولا يمكن له أن يتعاطف معها؛ لاسيما وأنه بعد هذا المشهد يطلب منها أن ترافقه كحبيب في مقابل أن يسمح لها دائما في رؤية الزوج، فمن أين أتى مثل هذا الشكل من التعاطف؟ ومن أين عرف عنها هذه القوة التي يتحدث عنها؟ وكيف نبع كل هذا التقدير والاحترام داخله تجاه عاهرة ضاجعها مرتين قبل السماح لها بالدخول إلى المشفى؟! كما أننا لابد لنا من الانتباه إلى جملة: "وقفت تضرب بعينيها وتطوف الغرفة كلها من الداخل حتى وقع نظرها عليه نائما والأجهزة الطبية متصلة بفتحتين في جسده"، لم كانت الجملة بمثل هذا الشكل؟ هل من المعقول أن الغرفة بمثل هذه المساحة الشاسعة التي تجعلها غير قادرة على تمييز وجوده مباشرة ومن ثم كان لابد أن تجول بنظرها في أنحائها حتى تراه؟ إنها السذاجة الفعلية في السرد الروائي.
هل ثمة من يذكر ما قاله الخطيب القزويني في كتابه المهم "الإيضاح" حينما تعرض لتعريف البلاغة بقوله: "إنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال؟"، لابد من العودة إلى هذا التعريف دائما لكل من يرغب في كتابة القصة أو الرواية ليعرف كيف يسوق الكلام على لسان الشخصيات الروائية أو القصصية التي يكتب عنها، وإلا سيكون الكلام على لسان الشخصيات مجرد كلام في الفراغ الطلق يسوقه المؤلف كيفما شاء بلغته هو وليس من خلال لغة الشخصيات التي يكتبها، وهذا ما نراه في رواية "جميعهن" للروائية هناء عبد الفتاح التي تتحدث على لسان شخصياتها بشكل لا يمكن أن يستقيم مع الحكاية التي تتحدث عنها فنراها تتحدث على لسان زهرة التي تحكي للحارس عن عملية ختانها بشكل جماعي مع غيرها من الفتيات بقولها: "أفقت.. رأيتنا متكدسات على سرير الغرفة في وضع تبادل كالفراخ، وتأتيني من الخارج أصوات الاحتفال بما فعلنه معنا ورائحة سلق لحم الماعز، وقعت عيناي على ذراعي الملفوف عليه ما قطع مني فخلعته وأنا أبكي، رأيتها منكمشة ويكسوها الملح متلونا بلون دمي الأحمر فحدثتها وكأنها ستجيب علي: ماذا فعلتِ لتشعر ستي وجيران الحي أنك مشكلة ويجب الخلاص منكِ؟ لماذا قطعوك مني.. ومنا جميعا؟ هل أنتِ خطر عليّ وكنتِ ستؤذينني؟"، ثم تقول بعدما توفيت إحدى الفتيات نتيجة مضاعفات الختان ورؤيتها لأم الفتاة تبكي: "قلت لها في نفسي وأنا أبكي: آه يا فاجرة يا مجرمة.. تلومينها؛ لأن جسمها لم يتحمل أن تلقي عليها وساخات رأسك.. أنتِ سلمتها لستي وهي التي قتلتها وقتلتنا جميعا دون أي سبب أو ذنب.. حريق القلب يليق بك.. ذوقي!!"، هل من الممكن أن يكون هذا حديث طفلة في العاشرة من عمرها؟ وهل ستتساءل الطفلة مثل هذه التساؤلات وتعرف أن سبب الختان هو وساخات في رأس الجميع؟! إن الحديث هنا لا يمكن أن يستقيم مع الواقع، بل هو حديث المؤلفة نفسها.
عدم القدرة على استنطاق الشخصيات أدى إلى وقوع المؤلفة في التقريرية وكتابة أجزاء كبيرة تعرض فيها رأيها في قضية الختان في شكل مقالي وليس شكل روائي فتقول على لسان زهرة التي تحكي لصابر الحارس: "لم يكن عقلي وقتها مهيئا لفهم أي أسباب لما جرى، لم أكن أفهم أن قطع جزء من مهبل الأنثى هو عادة أجازتها العقول في المجتمعات الشرقية لمنع تفاعلها مع غريزة الجنس! يفترضون فيها العهر منذ طفولتها فيحكمون عليها بإعدام الغريزة دون أي حيثيات منطقية تذكر، دون أن يسمعوا الدفاع، دون حتى أن يقبلوا الاستئناف.. في شرق أرض الله متاح للأنثى أن تتحرك فيها كل الغرائز الطبيعية التي خلقها الله إلا الجنس؟! متاح لها الشعور بالجوع.. بالعطش.. بالنوم.. بالألم.. متاح لها البكاء كما تشاء عندما تُقهر وتُصدم وتُخذل وتحتاج وتئن.. متاح تجرع كميات من البؤس بلا حساب، ولاانسحاق في كل تفاصيل الوجع والضجر بلا حدود، متاح الانكسار ومقبولة جدا المذلة، أما الجنس فليس من حقها.. يحرمونها من الشعور به، أو تشعر به مشوها حتى بعد أن تتزوج ويصبح من حقها شرعا وقانونا، يحولونها إلى كائن بارد لا يتجاوب، لا يحس ولا يستجيب بقصف بوابتها الرئيسية بشفراتهم الحادة منذ نعومة أظفارها..! كيف تستقبل أجسامنا الشعور به بعد ذلك؟! حولتمونا لدمي ونحن من خلقنا الله بشرا، يا لوقاحتكم أيها الظلمة المتخلفون؟! كيف تتجرءون على أجسامنا بكل هذه الوقاحة؟! ومن أعطاكم الحق في هذا؟! أي مجتمع هذا الذي يعدم مشاعر طبيعية في الأنثى وتكون هي نفسها متاحة للرجل ومغفور له مقدما أن يمارسها مثلما يتنفس؟! أي مجتمع أوقح من المجتمع الذي يقبل هذا؟!!".
هل من الممكن أن يتقبل عاقل هذا الحديث باعتباره سردا روائيا في سياق روائي؟! إنه مجرد مقال رأي في قضية الختان، كما أنه مقال لا جديد فيه ولا يخرج عن إطار مشكلات المرأة في العالم الثالث التي تعاني منها وستظل تجترها للأبد غير قادرة على الخروج والتخلص من أسرها.
هناء عبد الفتاح
نلاحظ من خلال هذه الرواية أن المؤلفة تعاني- مثلها في ذلك مثل جل إناث المجتمعات الشرقية- العديد من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يفرضها عليها المجتمع؛ ومن ثم كانت هذه الرواية من أجل إبداء رأيها في هذه المشكلات فقط، وسوق هذا الرأي على لسان شخصياتها في شكل تقريري، وهو ما نراه مر أخرى حينما تتحدث عن مشكلة العذرية بعد حديثها عن الختان، فتقول حينما تذكر أن جدتها كانت مختصة أيضا في فض عذرية العروس ليلة دخلتها: "في الغرفة تكون ستي وأنا وأم العروس وزوجها فقط، ممنوع دخول أي شخص آخر، الوضع مهين لأبعد الحدود، قاتل للكرامة وخال من أي آدمية.. الزوج وأم زوجته يقبضان عليها ويمنعانها من المقاومة يفتحان رجليها ويقومان بشل حركتها بشكل كامل دون أي مبالاة بصراخها وتوسلاتها وتلف ستي فوطة بيضاء على سبابة يدها اليمنى وتذكر اسم الله ثم تخرق مهبلها وتظل تعبث به حتى تتحول الفوطة كلها للون الأحمر! لا أدري أين الداعي هنا لذكر اسم الله؟!! هل لأنها في عيونهم تكون مثل الذبيحة التي تنحر صباح عيد الأضحى وعدم ذكر اسم الله يتعارض مع ذبحها طبقا للشريعة الإسلامية؟! أم لأنهم يبتغون مباركة الله لهذا الفعل الفاجع؟! أم لأنها حلقة من حلقات مسلسل الجهل المتفشي في عقولهم ويزين لهم أنه بدون اسم الله لن تجري العملية بنجاح؟!".
إذا ما تأملنا الفقرة السابقة التي تحكي فيها زهرة غير المتعلمة لصابر الحارس في المشفى سنلاحظ أن السرد على لسان زهرة مفتعل بشكل حقيقي وفيه الكثير من المباشرة ولا يمكن له أن يصلح سوى كمقال ركيك لكاتبة ركيكة، ومن ثم لا يمكن قبوله كسرد فني في عمل روائي، كما أننا نراها تتفلسف على لسان زهرة في أكثر من موضع فتقول: "الرجل الذي يسمح بأن تقوم بدوره ليلة الزفاف امرأة، عليه ألا يفكر أبدا في أن تراه زوجته رجلا بعد ذلك! لا يعلمون هؤلاء الجهلة أن بذرة المودة والرحمة لا تنمو إلا في أرض خصوبتها من دفء وحنان، وأن التفاصيل المفجعة في هذا المشهد لن تمحوها الأيام والشهور والسنين مهما مرت.. في بلادنا ينساقون وراء العادات والتقاليد المتراكم عليها أكوام الصدأ دون أن يستدعوا نعمة العقل ولو لحظة ليفهموا أن في هذا اليوم بالذات يتحدد الإطار العام الذي تسير فيه العلاقة الزوجية مستقبلا حتى تنتهي بالوفاة أو بالانفصال"، هنا لابد لنا من التوقف لنؤكد مقولة القزويني عن البلاغة ومطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ فما نقرأه هنا على لسان زهرة لا هو بالسرد الروائي، ولا هو بالمقال، وليس أكثر من مجرد رأي تسوقه المؤلفة على لسان الشخصية، كما أنه غير متناسب مع الشخصية غير المتعلمة؛ فكيف لها أن تتحدث عن "الإطار العام"، و"هؤلاء الجهلة" من أهلها الذين تتحدث عنهم؟ يبدو الأمر وكأنما شخصية زهرة شخصية منبتة الصلة بالواقع الذي تعيش فيه وقد عادت إليه بعدما باتت مثقفة ومتعلمة كي تنتقد هذا الواقع المنغمسة فيه تماما.
تحاول هناء عبد الفتاح إتخام روايتها بالكثير جدا من التجارب الحياتية التي جعلت زهرة تتعرض لها، وبالتالي كانت هذه الخبرات والتجارب سببا رئيسا في فشل الرواية وميلها باتجاه التقريرية والافتعال والتصنع واللارواية في نهاية الأمر؛ فحينما تتحدث عن خدمتها لامرأة مسنة تقول: "طلبت من الله ألا يطيل في عمري أكثر من اللازم، فعندما يمر كأس الموت على أصدقائك وبني جيلك فيغادرون ويستثنيك أنت فقط، سيقتلك الشعور بالغربة والغرابة في اليوم ألف مرة، وصعب أن تجد لغة حوار مشتركة بينك وبين أحد من محيطك الجديد بسبب الفجوة العمرية الفسيحة.. لا داعي أن يستمر عمر أحد بعد السبعين"، وهل من الممكن أن تقول شخصية مثل زهرة: "أما أعجب بيت خدمت فيه فكان لأسرة مكونة من سبعة أفراد، رأيت فيهم فاشية التعصب الديني، حرموا عليّ حياتي كلها"؟ هل من الممكن لنا تقبل أن تفهم زهرة بصفاتها الموجودة في الرواية معنى مصطلح "الفاشية" الذي قد لا يفهمه البعض ممن يدعون الثقافة؟ وهل سيفهمه حارس المشفى؟ إن الحديث هنا حديث اثنين من المثقفين وليس حديث حارس وعاهرة.
هذه هي نفس حالة التثاقف التي نراها حينما ترفض ممارسة الجنس مع رجل مسيحي لمجرد أنها مسلمة فتقول: "فزاعة الذنب ليست المشكلة الحقيقية، فالذنب في كل الأحوال واحد سواء كانت العلاقة مع مسلم أو مسيحي أو يهودي أو حتى عابد للبقر، المشكلة الحقيقية في شحن العقول الصغيرة عند الجانبين المسلم والمسيحي بفزاعات التمييز والدونية فتكبر مشبعة بحساسية مفرطة تترجم في معاملات بعيدة كل البعد عن شعارات المحبة والأخوة التي يتشدق بها الطرفان في المحافل العامة، المشكلة الحقيقية في أن سلامة الوحدة الوطنية هي مجرد محض ادعاء"، هنا تسقط الرواية بالكامل؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست رواية، بل هي مجرد مجموعة من الآراء المباشرة المفتعلة التي تسوقها هناء عبد الفتاح على لسان الشخصيات، فالمؤلفة هنا لا تعرف كيف تبني الشخصيات، وتجهل كيف تطورها، وتجلعها تنطق بما لا يمكن أن تنطق به، بل كان وجود المؤلفة داخل العمل واضحا تماما لأي جاهل بسرديات العمل الأدبي، ومن هنا كان هذا السرد لا معنى له.
الكارثة التي نلاحظها فيما تُصدره دور النشر يوما بعد آخر هي فقر الخيال لدى من يكتبون، وانهيار اللغة السردية لديهم، وعدم فهمهم لآليات السرد الأدبي الذي يكتبون فيه، بل والأفدح أن يجد من يكتبون هذا اللغو الذي لا معنى له من ينشرون لهم، ومن يقرأ هذا المستوى المبتذل من الكتابة، وهو ما سيؤدي إلى انزياح الجيد بسهولة لتسود هذه اللاكتابة في نهاية الأمر.

محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد أغسطس 2017م





































































الجمعة، 27 أكتوبر 2017

حكايات برية.. العنف الكامن فينا


هل ثمة من يستطيع إنكار وجود شكل من أشكال العنف، والدموية، والتوحش الكامن مستترا في نفوسنا؟
في الحقيقة يوجد داخل كل منا هذا الشكل من أشكال العنف، وإن كان الأخذ بأسباب التقدم والمدنية يعملان على إخفائه تماما؛ حتى لا يخرج للمجتمع لينفجر فيه، ولكن رغم محاولاتنا الدائمة إخفاء هذه الرغبات الدموية إلا أنها تخرج رغما عن الجميع أحيانا في لحظة من اللحظات التي يكون فيه الضغط الاجتماعي أكبر مما يحتمله المرء؛ فينفجر فجأة كبركان عنيف متوحش في شكل لم نكن نتخيله من الشخص الذي أمامنا، أي أن من نعرف عنه هدوئه الكامل وعدم ميله للعنف، يتحول إلى إنسان آخر لا يمكن لنا أن نعرفه بسبب الضغوط من حوله.
هذه الضغوط تؤدي بالضرورة إلى الانفجار الذي يكون نتيجته الكثير من التدمير والقتل بشكل عنيف لم يكن ينتظره أحد- لعلها الفكرة التي يحاول التعبير عنها دائما المخرج "كوينتن تارانتينو"، وإن كان تارانتينو أكثر دموية وعنفا. فكرة العنف الاجتماعي الذي قد لا يكون له أي مبرر واضح وصريح، وإن كان نتيجة تراكم الكثير من الضغوط الاجتماعية- إنها الفكرة التي أراد العمل عليها المخرج الأرجنتيني Damián Szifron من خلال فيلمه المهم Wild Tales أو حكايات برية، ولعل الفكرة لدى المخرج كانت هي الأهم من أي شيء آخر؛ لذلك لجأ المخرج، الذي كتب السيناريو أيضا، إلى التنويع على فكرته من خلال العديد من الحكايات التي تؤدي جميعها إلى نفس المنطق الذي يريده، أي أن السيناريو في الفيلم كان هو المحرك الأساس منذ البداية اعتمادا على فكرة العنف الدموي في المجتمع؛ فقدم لنا المخرج ست حكايات، عبارة عن ستة أفلام روائية قصيرة داخل فيلمه، تدور كلها حول نفس المفهوم الذي يريد التركيز عليه.
يؤكد المخرج من خلال فيلمه أن ثمة وحوش حقيقية داخل كل منا وإن كانت كامنة، تتحين الفرصة للخروج، ولعله أراد التأكيد على ذلك أثناء نزول تيترات البداية؛ فلقد كانت خلفية التيترات مجموعة كبيرة من الصور للحياة البرية في الغابة، تمثل الكثير من الوحوش، أي أنه يريد القول: كلنا لا نختلف عن هذه الوحوش في دمويتها وبريتها وعنفها، لكن الفارق بيننا وبينهم أنهم ليست لديهم الرغبة في الانتقام، بل السلوك من أجل الحياة، بينما الإنسان قد تسيطر عليه هذه الرغبة الانتقامية التي تؤدي إلى تدمير كل ما يدور حولنا.
في مشاهد ما قبل التيترات Avant titre يقدم لنا المخرج حكايته الأولى؛ فنرى العديد من الركاب على متن طائرة تستعد للإقلاع بينما يدور حديث بين أحدهم الذي سنعرف فيما بعد أنه ناقد موسيقي وبين راكبة أخرى هي عارضة أزياء، لكنها حينما تعرف علاقته بالموسيقى ستخبره أن حبيبها السابق كان عازفا يدرس الموسيقى؛ فيسألها عن اسمه لتقول: إنه لم يكن مشهورا ثم تخبره أن اسمه غابرييل باسترناك، هنا يخبرها الناقد متأسفا: إنه لا يمكن له نسيان هذا الاسم؛ فلقد قدم في مسابقة من قبل كان هو رئيسا للجنة التحكيم فيها وقد قام بطرده منها؛ فهو لا يفهم أي شيء في الموسيقى، ويبرر فعله بقوله: أحيانا يجب عليّ أن أؤذي وأكون شريرا؛ لحماية الناس ممن لا موهبة لهم، هنا تتدخل راكبة أخرى استمعت لحديثهم لتخبرهم أنها كانت معلمته التي تعلمه الموسيقى وقد عانت معه كثيرا كي تخبره أنه راسب ولا أمل في تعلمه، فيتدخل راكب جديد كان طالبا لدى نفس المعلمة وزميلا لباسترناك الذي يؤكد بدوره أن غابرييل كان فاشلا في كل شيء، فيتدخل أحد الركاب ليؤكد أنه كان مديرا في أحد الفنادق التي يقيم فيها باسترناك، وأنه قام بطرده من الفندق بعد الكثير من المشكلات التي افتعلها، ليتبين لنا أن جميع من في الطائرة كانوا على علاقة بالشخص وأنهم مروا بمواقف معه، هنا نعرف أن التذاكر قد جاءت للجميع بشكل غامض إما عن طريق الفوز بها، أو عن طريق مهام عمل غير محددة، فتتدخل المضيفة لتقول: إن قائد الطائرة هو غابرييل باسترناك وأنهما قد تدربا معا وأصبحا أصدقاء، وعندما قام بدعوتها للعشاء، رفضت دعوته مما جعله يتغير اتجاهها؛ فتعترف صديقته السابقة أنها خانته مع أعز أصدقائه، فيندفع أحدهم لطرق باب كابينة القيادة الذي نعرف أنه كان طبيبه النفسي الذي رفع سعر الجلسات في إحدى المرات مما أغضب باسترناك ولم يذهب إليه مرة أخرى.
أي أن باسترناك قد جمع كل من يرى أنهم قد أساءوا له في حياته من قبل على متن طائرة واحدة يقودها هو من أجل الانتقام منهم جميعا، وهذا ما يُدلل على أن الضغط الاجتماعي قد يدفع الإنسان في النهاية إلى التفكير بشكل لا علاقة له بالعقل بل بالرغبة في الانتقام والدموية فقط ومن ثم يخرج الوحش الكامن داخلنا، وهذا ما فعله باسترناك حينما جمعهم من أجل الموت معهم على متن نفس الطائرة، ولعل مشهد هبوط الطائرة بمقدمتها في حديقة زوجين عجوزين بينما يقفان في مقدمة الكادر مندهشين من الطائرة المتوجهة إليهما في خلفية الكادر كان من المشاهد المعبرة والدموية في آن لتؤكد دموية خروج الوحش الكامن داخلنا.
في القصة التالية يكون العنف والدموية أكثر تبريرا حينما يدخل أحد الأشخاص في ليلة ماطرة إلى أحد المطاعم في منطقة نائية لتسأله النادلة عما يرغبه من طعام، ومن ثم تكتشف إنه الرجل الذي بسببه تركت بلدتها، فهو سياسي فاسد قام ببيع منزلها رغما عن والديها؛ مما أدى بوالدها للانتحار، لكنه لم يكتف بذلك؛ فبعد أسبوعين من انتحار الأب حاول الرجل بضرب أمها وملاحقتها؛ مما جعلها تنتقل مع والدتها إلى هذه البلدة التي تعمل فيها.
هنا يقدم المخرج القصة بحرفية عالية حيث تقف الفتاة في المطبخ لا تعرف كيف تتصرف، وحينما تعرف صاحبة المطعم بتفاصيل الأمر تعرض على الفتاة أن تضع له سم الفئران في الطعام لتخليص المجتمع من فساده، وللانتقام منه، لكن الفتاة ترفض فعل ذلك، فما كان من صاحبة المطعم إلا أن وضعت السم ووقفت تتأمل من نافذة المطبخ بينما الرجل يتناول طعامه. تحاول الفتاة أخذ الطعام من أمامه مرة أخرى بعدما عرفت بوجود السم لكنه يرفض، ولكن حينما يصل ابنه المراهق ويبدأ في تناول الطعام معه تُصر الفتاة على أخذ الطعام من أمامهما بحجة إعادة تسخينه فيرفض تماما مما يجعلها تلقي بالطبق ومحتوياته في وجهه، هنا يقف الرجل للاعتداء عليها ويطرحها أرضا مما يجعل صاحبة المطعم تطعنه الكثير من الطعنات قائلة بغل وكراهية: سأقوم بتقطيع كبدك كالدجاجة.
ربما كان مبرر العنف هنا قد ساقه المخرج من خلال قول صاحبة المطعم التي أدت دورها باتقان Rita Cortese: حتى لو تسمم ابنه معه فسوف نخلص المجتمع من فساده؛ لأنه سيكبر ويكون فاسدا مثل أبيه. هنا كان الفساد السياسي والظلم الاجتماعي سببان وجيهان لخروج الوحش بهذا الشكل العنيف، فكلا المرأتين تعانيان من الضغوط. صاحبة المطعم الفقير تعاني من فساد السلطة والمجتمع اللذين أديا بها إلى هذا الفقر، والفتاة تعاني مما حدث لها ولأبيها.
في القصة الثالثة يؤكد المخرج أن بعض اللهو قد يؤدي إلى عنف دموي حقيقي وكارثي، ولعل المخرج كان بارعا في تصوير هذه القصة حينما كانت الإضاءة بطلا حقيقيا في الفيلم حيث صور لنا الطبيعة من خلال إضاءة مشرقة مركزا على جماليات الطبيعة؛ ليدلل على أن هذا الجمال الذي نراه في الحياة من الممكن أن نخسره بسهولة بسبب شيء من اللهو الذي يُخرج الوحش الكامن داخلنا، فنرى أحدهم يقود سيارته الجديدة على إحدى الطرق وهو الدور الذي قدمه باتقان الممثل Leonardo Sbaraglia، لكنه يفاجأ بسيارة قديمة متهالكة أمامه لا يسمح قائدها له بتخطيه، يحاول غير مرة مع السائق إلى أن ينجح في المرور من خلفه لكنه حينما يمر بجانبه يفتح نافذته ليسبه ثم ينطلق. بعد عدة كيلومترات ينفجر الإطار الخلفي ويحاول الاتصال بخدمة السيارات لعدم قدرته على تركيب الإطار، لكنهم حينما يتأخرون يحاول في ذلك إلى أن يضع الإطار الجديد وحينما يربط مسمارين فقط يلاحظ أن الرجل الذي سبق أن منعه من المرور قد وصل؛ فيسارع بدخول سيارته وإحكام إغلاقها. يتوقف الرجل بسيارته المتهالكة أمامه ويحطم له زجاج السيارة ثم يصعد على مقدمتها ويبول ويتبرز عليها. هنا كانت القشة التي أخرجت الوحش الكامن داخل صاحب السيارة. فحينما يتجه صاحب السيارة المتهالكة إليها للرحيل يشغل صاحب السيارة الجديدة سيارته ثم يدفع القديمة بكل عنف نحو منحدر يفضي إلى النهر ليسقطها فيه، ثم يحاول إكمال ربط مسامير إطار السيارة لكنه يستمع إلى صاحب السيارة القديمة يحاول الخروج منها فيهرب سريعا بسيارته. هنا نظن أن الفيلم قد انتهى، لكن صاحب السيارة الجديدة ونتيجة للعنف الذي اعتمل داخله يعود أدراجه راغبا في دهس صاحب السيارة القديمة الذي أهانه ودمر سيارته، وأثناء اتجاهه نحوه بسرعة يفلت الإطار الخلفي الذي لم يكن قد أحكم ربطه لتسقط السيارة في نفس المنحدر فوق السيارة الأخرى.
يسرع صاحب السيارة القديمة إليه راغبا في قتله، ويدخل إليه من خلال حقيبة السيارة الخلفية ليتعاركا بشكل دموي داخل السيارة ويتركه صاحب السيارة القديمة وقد شنقه بحزام الأمان بعدما تعلقت السيارة في الهواء، ويخرج كي يشعل النار في خزان الوقود، لكن صاحب السيارة الجديدة يحاول الصعود إلى سيارته مرة أخرى وينجح في ذلك ليجذب الرجل داخل السيارة مرة أخرى بعد أن يكون قد أشعل النار في خزان الوقود بالفعل لتنفجر بهما السيارة معا، ويعتقد المحقق أنها كانت مجرد جريمة شهوة؛ حيث نرى الجثتين المتفحمتين تحتضنان بعضهما البعض.
ربما كانت القصة الرابعة من أهم قصص الفيلم حيث تركز على الفساد الحكومي الذي يدفع بالمواطن إلى الانفجار في نهاية الأمر من خلال مهندس تفجيرات يعمل في شركة كبرى. يقوم المهندس بتفجير إحدى البنايات لتتصل به زوجته مؤكدة عليه أن يعود للبيت مبكرا من أجل عيد ميلاد ابنته فيؤكد لها أنه سيعود في الخامسة. يذهب المهندس لشراء "تورتة" عيد الميلاد لكنه حينما يخرج لا يجد سيارته بينما في مكانها قد تم إلصاق ما يدل على أن المرور قد أخذها باعتبارها تقف في منطقة ممنوع الوقوف فيها. يذهب المهندس من أجل استرداد سيارته، ويخبر الموظف أنه لم يكن في واقفا في منطقة محظور الوقوف فيها، وأنه لا يوجد أي إشارة تدل على أن المكان ممنوع التوقف فيه، لكنه لا يستمع إليه ويقول له: ستكلفك المخالفة 430 وسنقوم بأخذ مبلغ في حالة وقوفها أكثر هنا. فيحاول شرح الأمر مرة أخرى وأنه لم يرتكب أي مخالفة لكن الموظف يقول له: إن المخالفة التي حررها المرور دليل كاف حتى لو لم توجد لوحة تشير إلى أنه ممنوع التوقف. يدفع المهندس النقود صاغرا ليقول له: أنت مجرم، مجرد عامل حكومي بائس يعمل في نظام فاسد.
يعود المهندس إلى البيت ليجد زوجته وابنته غاضبتين، بل تتهمه الزوجة بأنه لا يهتم بها وبابنته الصغيرة، وأن عمله بالنسبة له أهم منهما، وأنه دائما ما يلقي بالذنب على المجتمع المخطئ في حين أن المجتمع لن يتغير في شيء، يذهب المهندس في اليوم التالي إلى المرور محاولا إفهامهم أنه لم يرتكب أي مخالفة لكنهم لا يستمعون إليه فيحمل طفاية الحريق حينما يحتد النقاش بينه وبين الموظف ويحطم بها الزجاج الذي يتحدث من خلفه موظف المرور. تحتجزه الشرطة وترسل الشركة التي يعمل فيها محاميا من أجله لكنه حينما يخرج يخبره صديقه وزميله في العمل أن الشركة قد استغنت عنه نهائيا بسبب ما فعله لاسيما أن الحكومة من أهم عملاء الشركة وهم لا يرغبون في خسارة الحكومة كعميل مهم للشركة، وفي نفس الوقت تقوم الزوجة بمقاضاته حيث لم يعد لديه عمل؛ فتطالب بوصايتها على البنت وحدها لاسيما وأنها لديها عمل، متعللة بأن ذلك في مصلحة البنت.
ربما نلاحظ هنا اعتماد المخرج على أسلوب التصعيد التدريجي الذي يصل بالشخص في النهاية إلى الذروة ودرجة الغليان فلا يبقى أمامه سوى الانفجار الحقيقي الذي يدمر كل شيء، نلاحظ ذلك أكثر حينما يتجه المهندس إلى إحدى الشركات للتقديم على وظيفة بعدما أخذ موعدا مع صاحب الشركة، وحينما يصل لا يجد السكرتيرة التي سيقدم لها أوراقه بينما تقول له موظفة الاستقبال: إن السكرتيرة في الغداء رغم أن الساعة الرابعة ظهرا ولا يوجد غداء في مثل هذا الموعد، فيسبهم جميعا ويخرج رافضا ترك أوراقه، لكنه حينما يخرج لا يجد سيارته ليخبره صاحب المحل أن المرور قد سحبها باعتبارها مخالفة مرة أخرى. هنا لابد من تأمل أسلوب المخرج الذي قدم هذا المشهد للتدليل على براعته في تصوير كيف ينفجر العنف؛ حيث يذهب المهندس لسحب نقود من ماكينة سحب النقود، ويتجه إلى المرور ليدفع الغرامة صاغرا من دون أي نقاش بينما ينظر للموظفة بكراهية ومقت شديد غير مهتم بما في يده من أموال حيث قدم المخرج المشهد من خلال Slow Motion، ولعل الممثل Ricardo Darin كان من الإتقان ما جعله يبدو فعليا في هذا المشهد في صورة حيوان بري يستعد للانقضاض الدموي الذي يدمر كل من حوله، حيث أخذ سيارته بهدوء وذهب بها إلى أحد الشوارع الخالية وركب في حقيبتها الخلفية شبكة تفجير كاملة وسرعان ما اتجه إلى أحد المطاعم حيث وضع سيارته هذه المرة أمام لوحة مكتوب عليها ممنوع الوقوف وجلس في المطعم المقابل يتناول إفطاره بهدوء وارتياح بينما تظهر على وجهه ابتسامة ساخرة فيها الكثير من الرضى. يأتي المرور ليسحب السيارة أمام عينيه؛ فيبتسم، وبمجرد وصول السيارة إلى جراج المرور تنفجر في الجميع مخلفة دمارا وفوضى لا يمكن احتمالهما. يتم اعتقال المهندس بينما يؤكد النائب العام أنه لا ذنب له وغير مسؤول عن الانفجار، وتحاول العديد من الجهات إلقاء المسؤولية عليه، ويطالبه أحد المواطنين على الفيس بوك بتفجير مبنى الضرائب، ويطلق عليه الجميع لقب المُفجر. بينما تذهب إليه الزوجة والابنة في عيد ميلاده إلى السجن للاحتفال معه في الوقت الذي يحتفل به كل المسجونين باعتباره بطلا شعبيا.
تُعد هذه القصة من أهم القصص التي تناولها المخرج حيث الضغوط من الجميع تبدأ في التصاعد لتكون مبررا حقيقيا للانفجار في نهاية الأمر، في القصة الخامسة ورغم عدم أخلاقيتها كما قد يبدو للوهلة الأولى إلا أنها تسير في نفس السياق الذي قد يؤدي إلى الانفجار؛ فهناك ابن ملياردير صدم سيدة حامل بسيارته مما أدى إلى موتها، ويسرع بالهرب ليوقظ والديه ويخبرهما بالأمر. يتابع الأب الأمر عبر التلفاز بينما يطلب المحامي الذي يطمئنهما. يفكر الأب في عرض صفقة على عامل الحديقة الذي يعمل لديه منذ سنوات طويلة ويعرض عليه 500 ألف دولار في مقابل الاعتراف بأنه من كان يقود السيارة لفداء ابنه، يوافق العامل ولكن حينما يأتي المحقق يكتشف أن العامل لم يكن هو من يقود السيارة؛ فيبدأ المحامي في صفقة مع المحقق ويخبر الأب أن المحقق يطلب مليون دولار، بينما هو يريد 500 ألف دولار له، يندهش الأب ليقول له: إنني أدفع مبالغ طائلة لشركتك كل عام، فيرد عليه: لكنها لقضايا عادية مختلفة. يوافق الأب صاغرا من أجل ابنه، فيدخل عليه العامل ليطلب بالإضافة للمبلغ المتفق عليه شقة على الشاطئ؛ فيوافق الأب من أجل الابن، وحينما يدخل جميع أطراف الصفقة إلى المكتب للنقاش يقول المحقق: سأحتاج للمزيد من النقود من أجل المصروفات التي قد أضطر لدفعها 130 ألف دولار! هنا يرفض الأب مُطالبا المحامي دفعها من حصته أو أن يدفعها المحقق من المليون دولار التي سيحصل عليها، لكن الرجل هنا يكتشف أن المحقق لم يطلب مليون دولار، وأنه فوجئ حينما سمع الرقم الآن من فم الملياردير، أي أن المحامي كان ينصب على الرجل. هنا قال الرجل بهدوء وإن بدا على وجهه مدى العنف الذي يعتمل داخله: انتهت الصفقة، لا أحد منكم سيحصل على المال وابني لابد أن يقوم بتسليم نفسه. يحاول المحامي التفاوض معه مرة أخرى لكنه يرفض تماما، ليعود إليه غير مرة وقد توصلوا جميعا إلى أن كل واحد منهم راض بـ500 ألف دولار فيقول لهم بصرامة: مليون دولار لكم جميعا ولو عدت للحديث معي مرة أخرى سأتهمك بالابتزاز. هنا يوافق الجميع على المبلغ ويسلم عامل الحديقة نفسه. صحيح أن القصة قد تبدو لاأخلاقية، لكن المخرج يعمل على التركيز على الابتزاز واستغلال ظروف الرجل الملياردير؛ حيث حاول الجميع أخذ أمواله بسبب المأزق الذي يعيش فيه؛ الأمر الذي دفعه للإطاحة بكل شيء في النهاية ورغبته في تسليم ابنه.
في القصة الأخيرة وهي القصة التي كانت الحلقة الأضعف في الفيلم نشاهد عروسان يوم زفافهما وقد بدت الفرحة عليهما لكن أثناء سؤال أحد الأقارب عن المعزومين تلاحظ العروس أن المنضدة التي فيها زملاء الزوج تضم فتاة يتحدث معها الزوج بحميمية غير طبيعية. تحاول العروس الاتصال برقم ما من هاتفها فترد عليها نفس الفتاة الموجودة في الحفل؛ مما يجعلها تسأل الزوج أثناء رقصهما عن اسمها، وما علاقتها باسم أستاذ الجيتار الخاص به؛ حيث سجل رقمها باسم أستاذ الجيتار إلى أن يعترف لها بأنه سبق له أن ضاجعها وأنهما كانا على علاقة.
تترك العروس الحفل باكية وتتجه إلى سطح الفندق، وتحاول الانتحار، ولكن أحد عمال الفندق يحاول تهدئتها؛ فتقبله بحميمية وكأنها تنتقم من فعل زوجها، يبدأ الزوج والأصدقاء في البحث عنها إلى أن يصعد على سطح الفندق ويراها تضاجع العامل، بل وتنفجر في وجهه قائلة: سأكرس حياتي في مضاجعة كل شخص تقع عليه عيني، وسأحصل على كل أموالك بما أننا زوجين رسميين، وسأجعلك في النهاية تنتحر. يعود الزوجان إلى الحفل ليبدأ كل منهما يتصرف تصرفات فيها الكثير من العنف حتى ينهارا نفسيا ويأتي الأطباء لإنقاذهما، لكن الزوج ينهض فجأة ليمد يده للعروس التي تنهض معه ويبدآن في الرقص ثم يقبلان بعضهما بعنف ويمارسان الجنس أمام ضيوف الحفل.
ربما كانت هذه القصة من أضعف القصص التي قدمها المخرج، لكن من خلال الفيلم يتضح لنا أن الكثير من الضغوط على الإنسان لابد لها أن تُخرج الوحش الدموي الكامن داخله في نهاية الأمر، كما لا يمكن أن يفوتنا الدور الحيوي الذي لعبته الموسيقى في هذا الفيلم؛ فمن خلال الموسيقى التي كتبها Gustaro Santaolalla نلاحظ أنها كانت متصاعدة، قلقة، منبئة بما سيحدث من انفجار دموي في وجه الجميع؛ لذلك لعبت الموسيقى دورا لا يمكن الاستهانة به.




محمود الغيطاني
جريدة الأهرام
عدد 27 أكتوبر 2017م