الاثنين، 23 أكتوبر 2017

الناقد بداخل الكاتب يجعله كثير الهدم والتشكك.. محمود الغيطاني: المبدع يجب أن يكون مثقفا



من يتابعه سيعرف أنه أديب حذر يحسب خطواته جيدا.. وناقد جسور لا يتورع أن يُهاجم أي عمل يراه هزيلا! يكتب القصة والرواية بتؤدة، وبمراعاة للاشتراطات الفنية، لذا يبدو إبداعه أقل من طموحه بكثير! بينما تبدو تناولاته النقدية غزيرة، ودؤوبة، وتلاحق إبداعات الأدباء العرب والمصريين بحرص ويقظة، وهذا يصنع له إشكالين دائمين!! فالناقد بداخله لا يترك المبدع في حاله، بل يشاكسه، ويذكره عادة بالمعايير الفنية في أثناء الكتابة وبعدها، فيُحيل حالة الإبداع إلى مشقة متكررة، والإشكال الثاني هو عدم تقبل الناس لصراحته النقدية في أغلب الأحوال، واعتبارها هجوما شخصيا؛ ما يُفسد عليه بعض الصداقات. والعجيب أنه يُصرّ بصرامة على عدم المجاملة في النقد، حتى لو اعتبره الناس صداميا.

حوار: أسامة الرحيمي

-        هل يمثل النقد عائقا أحيانا للمبدع أم يضيف للمستوى الأدبي للعمل؟
المبدع الذي يتعاطى النقد، أو ما يمكن أن نُطلق عليه المبدع الناقد يكون صاحب ذائقة خاصة تختلف اختلافا بينا عن غيره من المبدعين؛ لأن مستوى وعيه الحاد بعملية الكتابة، وما يجب أن تكون عليه، وقدرتها على التغيير في أنماطها وأشكالها، أي قدرتها على التجريب والتجديد والتحليق، والتشكل، والمزج بين العديد من الفنون الإبداعية، كل هذا يجعله صاحب تجاه خاص في الكتابة. صحيح أن النقد لا يمكن أن يمثل بالنسبة له هنا عائقا على المستوى النظري؛ نتيجة وعيه، لكنه من الناحية العملية يكون بمثابة الكابح الذي يجعل المبدع كثير التردد، أو فلنقل غير راض عن الكثير مما يكتبه؛ وبالتالي كلما كتب شيئا وأعاد قراءته يؤكد لنفسه أن هناك ما هو أفضل، وأن ما قام بصياغته فنيا أقل مما يجب؛ ومن ثم يعود للكتابة من جديد، أي أن العالم الذي صاغه وبناه في شكل فني يكون من السهل عليه جدا أن يهدمه تماما وكأنه لم يكن ليظل أمام أوراقه يُعيد فيها تشكيل العالم غير مرة. هنا يرى البعض- ممن يرون أن المبدع لا يكون مبدعا إلا من خلال التراكم- أن النقد داخل المبدع هو عائق حقيقي للإبداع، في حين أن النظرة الأعمق للعملية الإبداعية- ممن يرى أن الإبداع نوعي وليس تراكميا- ترى أن النقد داخل المبدع أكثر فائدة للإبداع وأكثر عمقا مما لو كان المبدع لا يفهم في النقد؛ وبالتالي يُضيف الكثير من التجربة النوعية لعمله الأدبي.
لكن، هذا الكلام لا يمكن أخذه على إطلاقه؛ صحيح أن الكيف هو الأبقى والأهم من الكم، وصحيح أن هناك العديد من الروائيين الخالدين في الثقافة العربية والعالمية الذين لم تتعد أعمالهم أكثر من رواية أو روايتين، وهذا ما يُدلل على أهمية الكيف في مقابل الكم، ولكن الناقد داخل المبدع يجعله كثير الهدم، كثير التشكك، قليل الرضى مما يُقلل من أعماله الإبداعية، ولكن هذه القلة تكون في صالح العمل الإبداعي في نهاية الأمر؛ فهناك الكثيرون جدا من المبدعين الذين تميزوا بالغزارة في الإنتاج في حين أن إبداعهم الحقيقي الذي يمكن أن يُعتد به لا يتعدى ثلث ما أنتجوه بينما الثلثين الأخيرين من إنتاجهم لا يليق بسلة المهملات؛ نظرا لما تتميز به هذه الأعمال من ثرثرة وتزيد وضعف في المستوى الإبداعي.

-        متى يكون النقد عبئا على المبدع وأعماله؟
في حالة زيادة الوعي أكثر مما ينبغي لدى المبدع يتوقف عن الإبداع؛ فإما يصاب بسكتة إبداعية حقيقية- والمقصود بالإبداع هنا هو الكتابة الروائية أو القصصية-، أو يكون نادر الإنتاج، وفي الحالة الأخيرة سنلمح في إبداعه عملية الصنعة والتكلف وافتقاد البساطة والتلقائية؛ لأنه حينما أخرج إبداعه في حالته الأخيرة أخرجه بينما عينه على النقد وما يجب أن يكون، ولم تكن عينه على الإبداع الذي يتشابه مع الحياة بكل مفرداتها من عفوية، وأخطاء، وصُدف، وإعادة تجريب، وتعديل للمسار. إذن فالنقد هنا داخل المبدع يمثل عائقا كبيرا وحقيقيا للإبداع؛ لأن الناقد تكون ملاحظته ووعيه بالعملية الإبداعية أكثر عمقا واتساعا وإدراكا من المبدع نفسه. الفارق بين الاثنين هو أن الناقد يُعمل نظرته العقلانية الخاضعة لمنطقية الأمور، بينما المبدع لا يعتمد على هذه النظرة بقدر اعتماده على مشاعره وجنونه وانفلاته، وجموحه، ولنقل شهواته أيضا، وأحلامه، ورغباته، وشطحاته ما يتقبلها العقل وما لا يمكن أن يتقبله منها. إذن فهناك طرفي نقيض يتجاذبان الناقد والمبدع. هنا لابد أن يكون الغلبة لأحدهما على الآخر، وكما قلت إذا زاد مستوى الوعي داخل المبدع سيكون لصالح الناقد على حساب الإبداع، والعكس صحيح بالضرورة، وليس معنى ما قلته أن المبدع لابد أن يكون مستوى وعيه منحطا أو قليلا، فالوعي المقصود هنا هو الوعي الخاص بالعملية الإبداعية والنقدية، أي ما يجب أن يكون عليه الإبداع.

-        هل ثقافة المبدع تُشكل خطورة على إبداعه بشكل ما؟
لابد من الاتفاق على أن المبدع يجب أن يكون مثقفا؛ لأنه مهما كانت درجة موهبته بينما لا يقرأ ولا يحاول التقدم ثقافيا سيمثل هذا بالنسبة له حجر عثرة كبير في عمليته الإبداعية ومن ثم سيكون هناك الكثير جدا من الفجوات في العملية الإبداعية ذاتها لا يمكن أن يدركها هذا المبدع؛ فيقع في عدد لا يحصى من الأخطاء التي تؤدي إلى سقوط عمله الإبداعي، لكن الثقافة العميقة بشكل كبير هي خطوة شديدة الخطورة بالفعل بالنسبة للمبدع؛ لأنها ستكون أيضا حجر عثرة ثان أمامه في كتابته، وكم من مبدعين مثقفين رأينا أنهم يحاولون حشو أعمالهم الإبداعية بمعارفهم الواسعة في شتى المجالات، أو يحاولون استعراض هذه المعارف من خلال أعمالهم الإبداعية، وهذا الاستعراض الثقافي-في حقيقته- يُمثل عبئا لا يمكن أن تحتمله العملية الإبداعية، سواء كانت هذه المعارف أيديولوجية كما رأينا في رواية "الطلياني" للروائي التونسي شكري المبخوت والتي كانت مثقلة بالأيديولوجيا، أو المعارف الفلسفية مما يؤدي بالمبدع إلى الإغراق في التهويمات التي لا معنى لها والتي لا يمكن أن يفهمها سواه، أو غير ذلك، ولكن إذا رأينا أن الثقافة العميقة تكون معطلا للإبداع وتمثل بالفعل خطورة على العملية الإبداعية، فهناك الجانب الآخر وهو المبدع الذي لا يقرأ أو غير المُحمل بالقدر الكافي من الثقافة، وهذا النموذج نراه اليوم بوفرة لا يمكن احتمالها مما يؤدي إلى تسطيح العملية الإبداعية تماما ودفعها باتجاه السذاجة، والمراهقة، واللامعنى، والثرثرة، بل والأخطاء الفادحة فيما قد يسوقه المبدع من معلومات مغلوطة نتيجة سطحية ثقافته، واعتماده على شبكة المعلومات الإليكترونية التي تغص بالمعلومات المغلوطة، ولعلنا نرى اليوم سيلا لا ينتهي من الروايات التي لا معنى لها، ولا قيمة بسبب جهل الكاتب الذي لا تعنيه الثقافة أو العمل على الاهتمام بها.
إذن فليس مطلوبا من المبدع أن يكون علاّمة عصره في المعارف والثقافة، لكن المطلوب منه أن يكون على قدر يسير من هذه الثقافة على الأقل في مجاله الإبداعي، واللغة التي يكتب بها؛ لأنها الوسيط الأول والأساس المنوط به قيام العملية الإبداعية، وإذا كنت فاقدا لأداتك الأولى والأهم ووسيطك الأوحد سيكون هذا عائقا أيضا يمثل خطورة أكبر على الإبداع.

-        كيف يمكن فض الاشتباك بين المبدع والناقد داخل الكاتب الواحد، وكيف يمكن استثمار وجودهما معا، أو المصالحة بينهما؟
فض الاشتباك بينهما من الأمور التي لا يمكن لها أن تتأتى بسهولة؛ فالشخص هنا يكون على طرفي نقيض كل منهما يجذبه إلى منطقته ويستولي عليه. هناك ناقد مبدع يعتمد على أمور عقلية ومنطقية تماما، بينما يقابله في داخلي مبدع مجنون لا يمكن أن يخضع لأي منطقية بل للشطحات والتحليق فيما لا يمكن التحليق فيه، هنا أجد أنه كلما أطلقت العنان للمبدع؛ يكبحه الناقد الذي يؤكد له أن بعض ما كتبه لا يمكن أن يكون في العملية الإبداعية. ولنأخذ مثالا: هناك بعض المواقف في الأعمال الإبداعية التي تكون في حاجة ماسة وحقيقية للثرثرة، ورغم كونها مجرد ثرثرة إلا أنها تكون مفيدة للعمل الفني أحيانا، لكن الناقد سرعان ما يخرج ليؤكد أنها تمثل عبئا وتزيدا وترهلا في هذا العمل. هنا يتوقف المبدع أمام الناقد عاجزا غير قادر على التصرف بحرية، ولكن ليس معنى وجود الناقد داخل هذا المبدع أنه يمثل عائقا دائما له عن المضي قدما في إبداعه، بل كثيرا ما يكون الناقد الكامن داخل المبدع مفيدا كثيرا للإبداع؛ حيث يكون المبدع هنا على بصيرة بما يفعله، ويُعيد الكتابة أكثر من مرة بما لا يدع مجالا لأي ثغرة فنية في عمله الفني. إذن يمكن المصالحة بين الاثنين داخلي حينما أخضع لما تتطلبه العملية الإبداعية كروائي ومبدع، ثم يخرج الناقد فيما بعد لتهذيب ما سبق أن فعله الروائي. أي لابد من الفصل بين الاثنين ليتخذ كل منهما دوره ومكانه اللائق به؛ فيتقدم المبدع خطوتين أثناء الكتابة منحيا للناقد، وبعد عملية الكتابة يأتي دور الناقد الذي يعمل على اكتمال العمل بما لا يجعله مليئا بالثقوب والثغرات الفنية.
 
-        هل يكفيك أنت أن تكتب مقالات نقدية في السينما والأدب فقط؟
بالتأكيد لا يكفيني ذلك، فأنا روائي وقاص مثلما أنا ناقد في المجالين، لكن لابد من التأكيد على مفهوم مهم هنا، وهو أن النقد في حد ذاته عملية إبداعية لا يمكن أن تقل عن الإبداع الروائي أو القصصي؛ وللتدليل على ذلك هناك الكثيرون جدا من النقاد الذين افتعلوا قطيعة وفجوة حقيقية بين القارئ والنقد؛ ومن ثم انصرف القارئ عن قراءة النقد تماما؛ نظرا لصعوبته وتهويمه، واصطلاحاته، وتقعره، واستعلائه، وجفافه لدى الكثيرين من النقاد، وهذا ما عانينا منه كثيرا في فترة من الفترات؛ ومن ثم بدا لنا النص النقدي، أو الكتاب النقدي شيئا مستغلقا لا يمكن أن يفضي لقارئه بما يريد أن يقوله كاتبه، أو أنه كان مجرد كتابة مملة تؤدي للكثير من الضجر، في حين أن هناك نقاد آخرين على الطرف الآخر نجحوا فعليا في إنهاء هذه الحالة من القطيعة بين النقد والقارئ؛ فتحول النص النقدي إلى عملية إبداعية حقيقية يُقبل عليها القارئ، ويستمتع بها، وينتظرها بشغف مثلما يتعامل تماما مع الرواية أو القصة أو الفيلم السينمائي، وهذا ما قمت به. هنا نستطيع القول أن العملية النقدية هي عملية إبداعية حقيقية لا تقل أهمية عن العملية الإبداعية في الراواية أو القصة. وما يُدلل على ذلك هي الكتابات النقدية التي اكتسبت القارئ مرة أخرى في الوقت الذي لم تفتقر فيه للعمق فيما تتناوله.
لهذا السبب لا يقلقني أن إنتاجي الإبداعي- الروائي والقصصي- قليل في مقابل إنتاجي النقدي سواء في الأدب أو السينما؛ لأني في كلتا الحالتين أمارس عملية إبداعية حقيقية، ولكن كل حالة منها تخضع لمنطقها المختلف عن الأخرى.

-        هل كتابة النقد لديك هروب من مشقة الأدب؟
لا يمكنني إنكار أن هناك مشقة أكبر في الكتابة الأدبية؛ فهي حالة ولادة مستعصية في كل مرة، وفيها من القلق والاضطراب ما لا يمكن احتماله، ولكن من يستطيع القول أن الكتابة النقدية لا تحتمل نفس حالة المشقة والاستعصاء التي أواجهها حينما أكتب الأدب؟ في كل مرة أكتب فيها مقالا نقديا جديدا أجد نفسي في مأزق من يكتب للمرة الأولى؛ فهناك جبل ضخم أمامي لابد من تفكيكه وإعادته إلى عناصره الأولى. أثناء كتابة المقال تواجهني الكثير من المشاكل والصعوبات التي تواجهني في كتابة الرواية، فكيف سيكون المدخل الذي لابد أن يجذب القارئ ويأخذه من تلابيبه حتى نهاية المقال، وكيف سيكون المقال رشيقا جاذبا سلسلا وخال من الترهلات والتزيدات التي نعاني منها في كتابة الرواية، وكيف ستكون لغته، وهل سأنجح في إرغام القارئ على القراءة حتى النهاية رغم طول ما أكتبه من مقالات نقدية أم لا؟
هنا أنا أواجه مشقة حقيقية لا تقل عن المشقة في كتابة الأدب حينما أتفرغ لكتابة رواية أو قصة، وهذا ما يؤكد أن العملية النقدية هي عملية إبداع حقيقي لا يمكن نفيه؛ إذن فأنا لم أهرب من الأدب إلى النقد بسبب ما يمكن أن نُطلق عليه مشقة الكتابة؛ فكلاهما شاق. كما أني لم أتوقف عن كتابة الإبداع الروائي أو القصصي؛ فلدي رواية أعمل عليها منذ عدة سنوات ومنتهية لكنها في حاجة إلى إعادة كتابة مرة أخرى، وهي مرهقة لطولها المبالغ فيه- ما يقارب الألف صفحة-، ولدي أيضا مجموعة قصصية لم أدفع بها إلى النشر.
لكن لابد من التأكيد على شيء آخر أكثر أهمية وهو: إذا لم يكن لدي جديدا من الممكن أن أُضيفه إلى العملية الإبداعية فأنا لابد لي من التوقف التام احتراما لما سبق أن قدمته، وحتى لا أكون مساهما في الغث والرديء الذي نراه كل يوم في آلاف الكتب والروايات التي تدفع بها المطابع يوميا. وأنا أؤكد هنا أن روايتي التي أعمل عليها منذ سنوات إذا استشعرت فيها للحظة واحدة أنها لن تكون إضافة جيدة؛ سأتخلى عنها تماما ولن تخرج وسأكتفي بما سبق أن أصدرته؛ فأن تُصدر عملا إبداعيا جديدا يعني أن تُضيف ما يستحق، لا أن تزيد الواقع الثقافي غثاثة ورداءة مثلما نرى الآن.

-        كيف تُصنف نفسك.. كاتب يصلح لكتابة كل شيء، أم مبدع متخصص في الأدب، أم ناقد.. شيء محير.
ليس في الأمر ما يدعو إلى الحيرة، المشكلة أننا لم نعتد منذ زمن بعيد على وجود من يكتب في الكثير من الأنواع الكتابية ويُجيد فيها جميعا. أنا نجحت فعليا في أن أكتب في جميع هذه المجالات بإجادة وعمق وجدية حقيقية، وهنا مثار الدهشة لدى البعض. من يستطيع إنكار أن ما قدمته من أعمال روائية لا تمثل قيمة وفرادة في مجال الرواية؟ ومن يستطيع القول أن ما أقدمه في مجال الدراسات النقدية سواء الأدبية منها أو السينمائية لا قيمة له، أو لا جدية فيه؟ الكتابة هي حالة تُسيطر على صاحبها، وأنا في النهاية أكتب من أجل المتعة التي أستشعرها من الكتابة؛ ومن ثم أستطيع القول: إني كاتب فقط من دون أي تصنيفات أخرى. لماذا تحاول بوتقتي داخل تصنيف معين، أو وصفي بوصف محدد؟ أنا كاتب قادر على تناول العديد من أشكال الكتابة والإجادة فيها بما يليق باسمي في النهاية.

-        الكتابات التي تناولت أعمالك الروائية هل أعجبتك، وأرضت ذائقتك النقدية؟
في الحقيقة معظم الكتابات النقدية عن أعمالي لا يمكن اعتبارها أعمالا نقدية، بل هي تهريج ومجاملات نقدية لي كمحمود الغيطاني، ومنها ما هو مجرد عرض للعمل "ريفيو" لا علاقة له بالنقد ويظن كاتبه أنه نقد، وسأعطيك مثالا على ذلك: صدرت روايتي الأولى "كائن العزلة" في 2006م، وفي عام 2008م صدرت المجموعة القصصية "لحظات صالحة للقتل"، لكن ما أدهشني حقا أن يقول ناقد ملئ السمع والبصر عن مجموعتي القصصية في ذلك الوقت: لقد حدث تقدم في لغة محمود الغيطاني الإبداعية عما كان عليه في روايته الأولى، وهذا دليل على قدرته الإبداعية في التطور.
هنا لابد أن أتوقف للضحك ملئ فمي وبسخرية مما يدور في العالم الثقافي والنقدي؛ فهذه المجموعة التي أتحدث عنها كتبتها فعليا قبل كتابة روايتي الأولى، ولكن الرواية التي كتبتها بعد هذه المجموعة هي التي صدرت أولا. هنا لابد أن أتساءل: كيف حدث تطور في لغتي الإبداعية رغم أن كتابة المجموعة سابقة على كتابة الرواية؟ هذا يعني في حقيقة الأمر أن النقاد يطلقون الكلام على عواهنه، أي كلام فض مجالس، أي أنه كان يجاملني، أو لا يجد ما يستطيع قوله فبدأ في التوهمات التي لا يراها سواه. هل تعتقد أن هذا من الممكن أن يكون نقدا، أو ناقدا؟ هو مجرد مدعي وكاذب ومدلس للحقائق فقط؛ لذلك قاطعت تماما منذ فترة طويلة نقاش ما أصدره من كتب، أو حتى إقامة حفلات توقيع داخل مصر؛ فالوسط الثقافي هنا يسوده الكثير من الزيف والاستسهال، واللامعنى؛ لذلك لا أعتبر معظم ما كُتب عن أعمالي كتابات نقدية، بل ترهات نقدية. لم يستطع ناقد من النقاد أن يمسك النص الروائي الذي قدمته من عنقه سوى الناقد الراحل الدكتور عبد المنعم تليمة في روايتي "كادرات بصرية" هذا هو الوحيد الذي أستطيع أن أطلق عليه توصيف ناقد وأنا مرتاح البال، وواثق من توصيفي، وهو القادر على تفكيك العمل والحديث عنه. أما من نراهم اليوم فنادرا ما تستطيع توصيفهم بالنقاد. هم مجرد "أرزقية" يدعون النقد ولا يفهمون فيه؛ لذلك لم تعنني كثيرا الكتابات التي تناولت ما كتبته من أعمال، ولم ألتفت إليها يوما، ولم ترقني.

-        هل بداخلك رهبة من الأدب أو خوف من مشقته ومتطلبات الكتابة من قراءة وبحث وتدقيق؟ ألا تشعر أنك تريد الهرب من تلك المسؤولية إلى النقد؟
لا يوجد أي شكل من أشكال الرهبة مطلقا من الكتابة الأدبية، فالكتابة بكل أشكالها تُمثل متعة لا تُضاهيها متعة بالنسبة لي، وكما أن الكتابة الأدبية في حاجة للقراءة والبحث والتدقيق، وهذ بالفعل ما فعلته في "كائن العزلة" التي كتبت فيها فصلا كاملا بعنوان "توق" عن القاهرة الإسماعيلية من خلال رحلة "زمكانية" قام بها الراوي في هذا الزمن؛ مما جعلني أقرأ وأبحث كثيرا في هذه الفترة التاريخية قبل كتابة هذا الفصل، وهو ما فعلته أيضا في رواية "كادرات بصرية" التي اعتمدت فيها على قدر غير هين من التوثيق التاريخي لعدة فترات تاريخية، فضلا عن التوثيق لما حدث في سجن أبو غريب في العراق، وهذا ما فعلته أيضا في روايتي الجديدة التي أكتبها والتي رجعت فيها لكل ما كتبه ابن حزم الأندلسي، ومعظم ما كُتب عنه.
أريد أن أقول إذا كانت كتابة الرواية جعلتني أقرأ في أمور بعينها من أجل الكتابة، وهذه بمثابة مشقة، فأنا منذ سنوات طويلة مضت أقرأ كتابا بشكل يومي، وأشاهد فيلما سينمائيا بشكل يومي، وأكتب أيضا بشكل يومي، أليست هذه المشقة التي أفعلها أكبر بكثير من المشقة التي أعانيها في كتابة الرواية؟ لكن الأمر بالنسبة لي ليس مشقة بل بات واجبا يوميا لا يمكن الاستغناء عنه، أي أنه أصبح أسلوبا حياتيا أشعر بالقلق في اليوم الذي لا أفعله فيه وأني قصرت كثيرا في حق نفسي.
هنا أنا لا أهرب من الإبداع إلى النقد؛ لأن النقد في حاجة إلى ثقافة وانكباب وبحث وقراءة أعمق بكثير من تلك التي يحتاجها المبدع للكتابة عن أمر ما في فترة معينة فقط. لكني سأقول لك شيئا مهما: أنا بدأت حياتي العملية كناقد سينمائي في عام 2000م، أي أن بدايتي هي النقد، ثم قدمت روايتي الأولى في 2006م، هنا النقد سابق على الإبداع، ولعل انعطافي للنقد الأدبي يعود إلى الفترة التي عملت فيها رئيسا لقسم الثقافة في جريدة "البوابة" هنا رأيت أنه لا معنى لما يمكن أن نُطلق عليه "ريفيو" لأنه بالنسبة لي مجرد تلخيص للعمل الأدبي فقط، وهذا ليس بثقافة حقيقية، أي أننا لا نستطيع البناء عليه في العملية الثقافية، هنا قررت ألا يكون هناك "ريفيوهات" في الصحيفة، بل نقدا حقيقيا لأي عمل من الممكن أن أتناوله. كما لا أنكر أن النقد رفع اسمي أكثر وجعل له سعرا أكثر من كتابة الرواية، لكنه لم يكن مبررا أو تكؤة من أجل كتابته.

-        هل تحتمل التناولات الصارمة لأعمالك بالطريقة ذاتها التي تتناول بها أعمال غيرك؟
أتمنى أن يكون هناك نقاد حقيقيين يخلصون للعملية النقدية ويتناولون جميع الأعمال الإبداعية بالصرامة التي يجب أن تكون عليها العملية النقدية، لكننا للأسف لا نشاهد حولنا سوى نقاد "الزمن الرخو"، كما كان يقول الناقد الراحل فاروق عبد القادر في توصيفه للمثقفين، كما أني لا تعنيني الكتابات عن أعمالي؛ لأنها في النهاية مجاملات لا علاقة لها بالنقد. أما عن الصرامة في تناول الأعمال فهي مطلوبة وضروية في النقد لكن من من النقاد اليوم يستطيع فعلا ذلك ويجرؤ على خسارة جميع علاقاته بالجميع؟! لا يوجد.

-        لماذا تُصدر للناس إحساس بأنك صادم، أو لديك ميل جاهز للهجوم؟
لدي فعليا ميلا جاهزا للهجوم على جميع الأعمال الإبداعية التافهة والفارغة، والغثة التي نراها حولنا يوميا بينما يصفق لها الكثيرون في عملية تزييف حقيقي للواقع الثقافي العربي. هذا التزييف لم يُساهم فيه النقاد فقط رغم أسماء بعضهم المهمة، بل ساهم فيه الكثيرون بتواطؤ لا يمكن احتماله حتى في الجوائز العربية، فتجد عملا لا يليق أن يقدمه طالب في المرحلة الثانوية بينما يحتفي به النقاد، وأشباههم، وغيرهم من اللوبيات الضخمة والفاسدة في ثقافتنا العربية، بل تحصل هذه الأعمال على جوائز مهمة رغم غثاثتها، وركاكتها التي لا تُحتمل. هنا أنا لست مجرد صادم أو جاهز للهجوم فقط، أنا هنا أنفجر في وجه الجميع لأقول لهم: كفى تسطيحا وقتلا وكذبا وتدليسا وتزييفا وتنميطا للثقافة العربية، أنا هنا أواجه منطقة عربية بالكامل معظمها يعمل على التزييف من أجل علاقاته ومصالحه ومكتسباته مهملا في ذلك التاريخ الثقافي، والإطاحة بثقافة عربية يسعون بها إلى التنميط. أنا هنا أقوم بدور صعب وحقيقي في إعادة هذه الثقافة إلى مسارها الجاد والحقيقي، أعرف أني وحدي في مواجهة قطيع بعضه جاهل يسوقه أصحاب المصالح، والبعض الآخر لا تعنيه سوى مصالحه، لكني في النهاية أفعل ما يرضاه ضميري الثقافي والنقدي فقط، وربما يكون هناك القلائل ممن يفعلون مثلي.


أسامة الرحيمي
جريدة الأهرام

عدد 24 أكتوبر 2017م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق