الخميس، 12 ديسمبر 2019

مطماطة.. مراهقة السرد الرومانسي

إذا ما تأملنا اتجاهات الرواية العربية عبر تاريخها كما يصفها ويصنفها التاريخ الأدبي العربي سنعرف أن هناك اتجاها روائيا أطلق عليه الباحثون في تاريخ الأدب العربي الحديث اسم "الرواية الوجدانية" أو الرومانسية، وهي الرواية التي ركزت على التفاصيل الوجدانية للشخصية التي تتناولها، أو تعمل على تحليل هذه الشخصية ومشاعرها تجاه الآخرين، والعالم. هذا الشكل من أشكال الرواية برع فيه الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله في الأربعينيات من القرن الماضي وغيره من الروائيين، لكننا نلحظ أن هذا الشكل الروائي فيه الكثير من الخصائص التي لم تعد مناسبة لتطور آليات السرد الروائي الحديث الذي نراه الآن، والذي ينحو باتجاه التجريب سواء على مستوى الشكل، أو الموضوع، أو اللغة؛ ومن ثم انتهى هذا الشكل من السرد وحل محله الكثير من أشكال السرد الأخرى التي يغلب عليها التجريب أكثر من اتجاهه نحو الكلاسيكية.
هذا السرد الرومانسي إذا ما حاولنا تناوله بالقراءة أو التحليل النقدي الآن سنجد أننا غير قادرين على الاستمرار في قراءته اللهم إلا إذا أردنا دراسة هذه الفترة الزمنية من تاريخ الأدب العربي؛ فهو شكل من السرد كان متناسبا تماما مع زمنه الذي أنتجه فقط، لكنه لم يعد مناسبا للزمن الآني الذي نعيشه، ومن ثم سنرى أنه شديد السذاجة، والإملال، والترهل، والثرثرة، والتزيد، ومحاولة التفاصح في اللغة وغير ذلك من الخصائص التي ستصرف أي قارئ عنه، بل وستجعل الباحث في تاريخ الأدب يحاول تجرعه على مضض من أجل إتمام بحثه التاريخي الأدبي فقط، أو التساؤل الساخر: كيف كان هؤلاء الكتاب يكتبون هذا السرد ويتقبله القارئ باعتباره أكمل أشكال السرد العربي التي جعلت من كتابه نجوما في عالم الرواية العربية.
هذه الفترة التاريخية من تاريخ السرد الروائي العربي، والتأمل فيها هو ما دار في ذهني أثناء قراءة رواية "مطماطة" للروائي التونسي عثمان لطرش؛ فهو حريص كل الحرص على هذه الخصائص التي لم تعد ذات قيمة في السرد الروائي اليوم، بل يبدو أن الروائي يظن أنه ما دام يلتزم بهذه الخصائص فهو هكذا قد أجاد، رغم أن هذا الظن مجرد وهم لا أدري من هو الذي أقنعه به؛ مما حدا به إلى التزام هذا الشكل الساذج من السرد منذ بداية الرواية حتى نهايتها؛ مما جعلها ثقيلة لا يمكن لها أن تنتهي نتيجة رداءة السرد، وتزيده، وتكلف الأحداث والأمور والشخصيات، بل والتكلف الشديد في اللغة؛ الأمر الذي جعل اللغة السردية في هذه الرواية من أهم عوامل هدمها تماما منذ السطر السردي الأول؛ نتيجة عدم القدرة على استساغتها أو هضمها، والشعور بأنها لغة تأتي من بطون المعاجم والتاريخ، منفصلة تماما عن الزمن الذي نعيش فيه؛ مما يؤدي بها إلى الكثير من الثرثرة والتزيد، والوصف الذي لا داعي له. أي أن الرواية كان من الممكن اختصار نصفها على الأقل لو التزم لغة حديثة تتناسب مع السرد الحديث.
تبدأ رواية "مطماطة" في قرية مطماطة في الجنوب التونسي، وهي قرية في بطون الجبال. يتحدث الروائي عن صابر المدرس الملتزم البدوي صاحب الشخصية القوية والمعارض لما يدور من فساد في عهد زين العابدين بن علي، والذي يتزوج من "ناجية" لكنه في ليلة دخلته يهجم عليه زوار الفجر أو "الغول الأبيض" كما كانوا يطلقون على ذراع السلطة  هناك، فيعتقلونه ويقومون بتعذيبه والحكم عليه بالسجن، بينما تنهار ناجية وتظل في غيبوبة لمدة أسبوع، وحينما تعود إلى وعيها تنزح إلى باريس هي وأمها وأخوها لتعيش فيها على ذكرياتها القصيرة جدا مع صابر، وتظل تجتر اللحظات القصيرة التي كانتها معه، بالإضافة إلى حزنها ورهبتها مما رأته حينما هجموا على المنزل لاعتقال زوجها. يحزن سامح على الحال الذي وصلت إليه أخته من شرود وحزن دائم؛ فيعمل على تهريب صابر من سجون "الغول الأبيض" واستقدامه إلى باريس ليزفه على شقيقته مرة أخرى. ينجح في ذلك بالفعل ويأتي صابر إلى باريس بعد ست سنوات من السجن والاعتقال والتعذيب والإهانة، وينجبا فتاة جميلة يسميها "مطماطة"؛ الأمر الذي كان يُسبب لها الكثير من الحرج في فصول دراستها؛ مما يجعلها كثيرة التساؤل عن اسمها؛ فيحكي لها والدها عن قريته التي يحبها ويرتبط بها. يعمل صابر في باريس من خلال إحدى المجلات التي تصدر بالعربية، ويكتب الكثير من المقالات المعارضة للقمع في تونس، إلى أن تقوم الثورة التونسية على بن علي، وهنا يصر صابر على العودة هو وأسرته إلى تونس مرة أخرى.
هذه هي القصة التي تدور حولها رواية "مطماطة" والتي كان من الممكن لها أن تكون أكثر حيوية ويتم سردها في حوالي 90 صفحة فقط، إلا أن إصرار الروائي على التزيد، والإسهاب، والوصف، والتعليق، والثرثرة، التي لم يكن لها أي معنى سوى إثقال السرد جعله يكتبها في 169؛ مما أكسبها الكثير من الملل، والرغبة في الانصراف عنها.
إذا ما تناولنا رواية "مطماطة" سنلحظ منذ الصفحات الأولى أن الروائي يحرص على وجود تصديرين للرواية قبل البدء في السرد الروائي، التصدير الأول يأتي بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. مطماطة التاريخ"، وهو يحرص في هذا التصدير على أن يكون من جزئين، الجزء الأول منه للتعريف بمطماطة كما تحدث عنها عبد الرحمن بن خلدون، بينما الجزء الثاني من التصدير الأول يأتي بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. مطماطة الجغرافيا"، وفيه يعرفنا على مطماطة من خلال الجغرافيا، وتضاريسها، وسكانها من العرب والبربر، وغير ذلك من الأمور.
لكننا إذا ما حاولنا أن نتقبل على مضض هذا التصدير باعتبار أن القارئ غير التونسي لا يعلم شيئا عن تاريخ مطماطة ولا جغرافيتها ولا سكانها، فإننا لا يمكن لنا تقبل التصدير الثاني مطلقا الذي جاء بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. على سبيل التمهيد"؛ لأنه في هذا التصدير لخص لنا محتوى الرواية وحكاها بالكامل في صفحتين، وقال لنا ما الذي يقصده بمطماطة في الرواية وأنها فتاة أطلق عليها أبوها هذا الاسم بسبب كذا وكذا، أي أن الروائي هنا لم يكن في حاجة إلى كتابة روايته بعد هذا التلخيص الذي قدمه للقارئ؛ مما يجعلنا نتساءل لم كتبها إذن ما دام قد لخصها لنا في صفحتين؟! وما هو الداعي أساسا لتلخيصها اللهم إلا أن الروائي لم يخرج بعد من عباءة السرد الكلاسيكي في الأربعينيات من القرن الماضي، أي أنه يعيش بذهنه وسرده هناك في الزمن الماضي بينما يعيش بجسده فقط في الوقت الآني. بل يأتي هذا التلخيص أو التصدير باعتباره يلتزم التزاما حرفيا بالفعل بهذا الشكل القديم من السرد غير قادر على الخروج منه أو التطور؛ الأمر الذي انعكس هنا على لغة السرد التي كانت ثقيلة خارجة من بطون المعاجم، وكأنها لغة قريش لم تزل طازجة خارجة من أفواههم الآن.
يقول الروائي في تصديره: "مطماطة في الرواية فتاة ولدت في باريس بعد أن هُرب أبوها من سجن تونسي، وكان قد أودع هناك بسبب نشاطه السياسي المعارض للغول الأبيض في حقبة التسعينيات. سمى صابر وزوجته ناجية المولودة مطماطة، وهو اسم قريتهما التي عشقاها حد الجنون، ومُنعا من العودة إليها ولمس ذرات ترابها. معظم شخوص هذا المتن التخييلي مُبعدون عن أوطانهم، تبرح بهم جراحات اللهفة ويستبد بهم الحنين إلى الحرية المسلوبة.. إلى الوطن السليب. الصبية مطماطة تسكنها أشواك الاسم فتنشأ منشغلة باسمها راغبة في معرفة التاريخ والجغرافيا.. ساعية إلى أن تعيش اسمها مكانا ووجدانا. صابر وناجية والثمرة الناضجة تحررهم الثورة وتمنحهم تأشيرة الحرية والكرامة؛ فتعانق مطماطة الشخصية مطماطة المكان"! هنا لابد من التوقف لنقول ما كل هذه السذاجة يا رجل، إن السرد لا يمكن له أن يكون هكذا؛ فرغم سذاجة الفكرة وفرط رومانسيتها- بمفهوم الرواية الرومانسية في الأربعينيات- إلا أن الرواية لا يمكن أن يتم تلخيصها هكذا. لقد خدعك خيالك في التجويد كثيرا حينما ظننت أنك بهذه الجريمة النكراء في التلخيص ستقدم لقارئك شيئا ذا قيمة، أو أنك ستدهشه؛ لأنك في الحقيقة جعلت القارئ راغبا في الانصراف عن الرواية وعدم قراءتها منذ الصفحات الأولى، وقبل أن يبدأ السرد.
إذا كان من الممكن لنا تقبل التصدير الأول للرواية تاريخيا وجغرافيا على مضض باعتبار أن القارئ غير التونسي يجهل ما الذي تعنيه مطماطة- رغم أننا نرى أنه لا أهمية له مطلقا-، فنحن لا يمكن لنا تقبل التصدير الثاني، أو ملخص الرواية قبل بدايتها؛ لأن الروائي هنا يفترض في قارئه الغباء والسذاجة أولا، ويعتبر نفسه وصيا عليه ثانيا، بالإضافة إلى إفقاده الرواية لجمالياتها وتشويقها، والانحباس داخل شكل تقليدي من السرد "أكل عليه الدهر وشرب"، ولعلنا استخدمنا هذه الجملة التراثية كشكل من قبيل المقاربة الساخرة التي تتلائم مع فكرة المؤلف الكلاسيكية عن الرواية، وفهمه للغة.
لعل أهم آليات الهدم في هذه الرواية، لغة السرد التي حرص عليها الروائي الكثير من الحرص حتى نهايتها، يقول الروائي منذ السطر السردي الأول في روايته: "انفتحت أجفانها بطيئة ثم انجذبت إلى دفء الفراش، تكوّرت والتفت بالغطاء وأغمضت عينيها تترشف ثمالة في أدنى كأس النوم، هي تستلذ الغفوة بعد اليقظة، كأن الوسن زلزال تعقبه رجّات ارتدادية، المنبه يصر على اغتيال اللذة بنغمات عسكرية مفزعة، أزاحت الدثار الوثير كارهة ودون شفتيها بركان غضب. هي تحب النوم بل تستأنس به، تفر إليه وتفزع فيجود عليها بما تطلب وزيادة. لأمر ما اللذاذات تشتد جاذبيتها ويتضاعف سحرها متى شارفت على النهاية، أوقفت بحركة عنيفة مدافع الهاتف وجلست حيرى سكرى كأن أمرا خطيرا يهم بها. هذا دأبها كلما أفاقت صباحا تعيش لدقائق حالة فراغ مقيتة"، أقسم أنه كتبها هكذا كما نقلتها نصا!!
الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله
ربما نلمح في هذا المقطع الأول الذي افتتح به الروائي روايته بعض الأمور التي لا يمكن لها ان تستقيم مع آليات السرد العربي المعاصر منها: الغنائية في السرد، ثم المفردات التراثية التي لا تتلائم مع السرد والتي لا يمكن للسرد الحديث استعمالها مثل " تترشف ثمالة في أدنى كأس النوم"، " تستلذ الغفوة بعد اليقظة"، "الوسن"، " الدثار الوثير"، "دأبها"، كما لابد هنا من الانتباه إلى التشبيهات التي لا معنى لها، فكأن الروائي يُشبه بما لا يستقيم التشبيه معه مثل: "المنبه يصر على اغتيال اللذة بنغمات عسكرية مفزعة"، فكيف يمكن وصف نغمات المنبه بالنغمات العسكرية المفزعة؟ التشبيه هنا غير مستساغ تماما، كما أن قوله: " أزاحت الدثار الوثير كارهة ودون شفتيها بركان غضب" يجعلنا نتساءل: ما هو السبب في "بركان غضبها"؟ بالتأكيد أنها هي من ضبطت المنبه من أجل إيقاظها، ولم يكن هناك من أرغمها على النهوض من الفراش، وما هو الفعل الذي أدى إلى رد فعلها الغاضب؟ ليس هناك في الحقيقة ما يؤدي إلى ذلك ومن ثم فالروائي هنا يلقي الكلام على عواهنه. كما نلحظ أيضا أن الروائي يحب الثرثرة والتزيدات التي لا معنى لها؛ فكل هذا المقطع كان من الممكن جدا اختصاره في سطرين فقط بدلا من كل هذه الاستطرادات التي تثقل السرد كأن يقول: "فتحت جفنيها ببطء حينما دق جرس المنبه صباحا. حاولت النهوض من فراشها، لكن رغبتها في النوم غلبتها. أوقفت رنين المنبه المزعج بينما جلست على الفراش في حالة من الفراغ، راغبة في العودة إلى النوم".
في مقطع ثان يكتب المؤلف: "يممت شطر النافذة، أزاحت الستار فانزاح ولكنها لاحظت أن لا ضوء يصفع عينيها المخدرتين، وجفنيها المثقلين، ارتابت وظنت أن المنبه قد أخطأ لحظة الرنين المناسبة، قطّبت جبينها ثم كورت شفتيها ودفعتهما إلى الأمام سؤالا وحيرة. ولما دنت أكثر استبان الأمر، المنبه على صواب. أمامها سحب سوداء قاتمة تتلاحق طبقا على طبق كثيفة تخيم هذا الشتاء على سماء باريس، تحجب الشمس، تبدد أشعتها، تصفع الأجساد الغضة، تعضدها في الفعل سياط البرد ومعازف الريح، الريح تنوح فتجرح رخام الروح. المتضادات تلتقي في الفعل.. سياط الشمس تفعل فعل سياط البرد، والثلج كالنار يحرق. حتى النفس تبكي إذا فرط عليها الفرح وإذا فرط عليها الحزن. صوت الريح يدركها صفيرا موحشا ينفذ متحديا منافذ أُحكم غلقها، ترتد النفس وتنكمش ويتكور الجسد ويرتعش. بعثت من فيها على أديم الزجاج الناعم أنفاسا حرّى فتجمعت بخارا كثيفا"، هنا لابد من التوقف أمام هذا المقطع السردي قليلا للتساؤل: لم كل هذا التزيد والتعليقات، والتأملات التي لا معنى لها، إن المقطع السردي يفيد أنها لم تر شيئا حينما فتحت النافذة بسبب وجود سحب كثيفة، أي أنه كان من الممكن له أن يكتبه: "أزاحت ستار النافذة لكنها لم تر شيئا، ظنت أن المنبه لم يرن في موعده، لكنها أيقنت أنها في الصباح حينما رأت السحب الكثيفة في سماء باريس، والتي أشعرتها بالكثير من البرودة القارسة"، فلم كان كل هذا.
إذا ما تأملنا الاقتباسين السابقين من الرواية ثم قرأنا هذا الاقتباس الأخير: "راح عبود يتقدم في خطوات مضطربة نحو النافذة وقد أخذ قلبه يخفق خفقات زاخرة بالرقة، تمد مشاعره بفيض من النشوة الحالمة التي يزيد روعتها ذلك القلق المشتهى الموار بين ضلوعه، واستمر في تقدمه ولم يعد يحس من كيانه إلا إحساسات اللذة الروحية التي تستغرقه، وتلك اللهفة التي تدفعه إلى الشباك وقد تركزت كل آماله في أن تقع عيناه عليها. إنه ينطلق إلى الشباك كلما استيقظ من نومه في الصباح وكلما عاد من عمله قبيل الغروب، تداعبه أمنية أن يختلس إليها النظر وهي غادية رائحة في غرفتها، أو وهي مطلة على الطريق تروح عن نفسها. إنها لحظات حياته تلك التي يقف فيها منزويا خلف نافذته يمد الطرف الولهان إليها، والقلب يرقص طربا، والروح تهيم في عوالم صيغت من رقة امتزجت بغيبوبة تخدر الحواس، لا يستشعرها إلا الضارب في الأحلام، فما كان في حياته الرتيبة من متعة إلا تلك اللحظات القصار التي تكتحل فيها عيناه برؤيتها، وتلك الساعات التي يخلو فيها بطيفها الزائر، يعيش معه أجمل حياة"، هل ثمة اختلاف بين هذا المقطع والمقطعين السابقين؟ بالتأكيد لا، بل ربما كان المقطع الأخير أقل وطأة لغوية وتفاصحا من المقطعيين الأولين.
إذن ماذا لو عرفنا أن المقطع الأخير من رواية "السهول البيض" للروائي عبد الحميد جودة السحار؟ هنا يتبين لنا الجريمة التي اقترفها عثمان لطرش حينما كتب هذه الرواية، وهي جريمة لا يمكن لها الاستقامة مع السرد العربي الحديث الذي نعرفه اليوم، إنه ما زال يحيا هناك في الماضي، ويظن أن هذا الشكل السردي القديم هو السرد المعاصر؛ ومن ثم كانت روايته منفصلة تماما عن ذائقة أو فهم القارئ، كما أننا لابد سنلاحظ أن الروائيين – لطرش والسحار- يكتبان بشكل متشابه تماما، حتى أن كل منهم حريص على التعليق على الحدث الروائي، فيتدخل شارحا معلقا وكأننا في فيلم تسجيلي يأتينا صوت المعلق من خلف الكاميرا التي تعرض الحدث. هنا فقط تتضح الصورة أكثر بالمقارنة بين ما كتبه الروائيان ومدى تطابق أسلوبيتهما.
حينما نقرأ: "باريس فجرا عروس تجر أثوابها القشيبة.. يغازلها العشاق بألف لسان. سامح كان واحدا من المتيمين بباريس. هو يعشق مدنا كثيرة حد الوله. يحب مدائن شتى وهوى باريس مختلف مخصوص. بعد باريس هو بالفطرة مشدود مجذوب إلى البيت العتيق وبدرجة أقل يرى نفسه كلفا بمسقط رأسه، حتما عشق الأمكنة ليس كأي عشق. الصبابة فيه حنين ينهمر، حب لا خوف فيه من العاذل ولا من الواشي.. هوى باريس يدغدغ القادم، يُبهر الزائر.. يبرح بالمقيم"، لابد أن نتساءل: لم كان هذا المقطع؟ وما الفائدة منه، وما الذي أضافه الروائي إلى روايته من خلاله؟ وما كل هذه الغنائية الكثيفة في السرد والاستطرادات والتزيدات التي تعيق انطلاق السرد واسترساله بدلا من الدخول المباشر إلى العالم الروائي وقلب الحدث فضلا عن التمهيد الذي لا معنى له؟! وهل لو حذفنا مثل هذه المقاطع الغنائية التي لا داع لها من السرد سيتأثر؟ بالتأكيد لا، ومعنى عدم تأثره يعني أن الروائي لم يكن سوى مجرد ثرثار يستعذب الثرثرة ويلوكها كثيرا.
في شكل قميء من أشكال التفاصح يقول الروائي: "طلقت المكان والزمان وانكسر في مخيلتها الزجاج وطارت تحلق بعيدا. ذاكرة أب.. ذاكرة وطن.. ذاكرة قرية.. ذاكرة الغول الأبيض.. وهل يحيا الإنسان بلا ذاكرة؟ هل يستوي الكيان من دونها؟ أيبنى الآتي بتجاهلها؟ هي كالشظايا جارحة ولكن المرء يتلذذ بها. يلوذ إليها.. لعل بين اللذة والألم وشائج. تزاحمت حولها الذكريات، تدافعت كأنها تلاميذ الصفوف الأولى يتكاتفون من أجل قيادة الصف. وقفت الصبية، فكرت وفكرت ثم اقتنصت واحدة وزجرت الأخريات فانصرفن خائبات. قصة أب عشق حد الجنون قريته النائمة بين أحضان الجبال، أدرك شعاب الحب ووهاده، تشمم حشائشه واستلذ قطرات دم نزفت من أشواكه. الصور بدت أمام ناظره متقطعة، رأى جدران الذكرى تنثلم.. الذاكرة امرأة عارمة الشهوة تبدي وتصد، تتمنع والرغبة تفور بين جنبيها. انكفأت تنتظر انهمار الغيث ورددت وجع العشق صدى يأتي من شعر محمود درويش"، ماذا يريد المؤلف هنا أن يقول سوى أنها بدأت تتذكر؟ لا شيء آخر، فلم كل هذا التفاصح والتشبيهات والتساؤلات التي لا داعي لها؟! ليس ثمة سرد هنا بل تأملات لا معنى لها ولا علاقة لها بالسرد الروائي، وهو ما نراه متجليا في: "فجأة شق طالب كالدوسر عتوّا وكالجمل هيجانا الصفوف يرغي ويزبد انفتحت له ثنية وسط الجموع، تبعته جوقة تتغنى بشعارات وتردد أناشيد دون ألحان ودون نظام، ولم تمض دقائق حتى انفجر الدوسر".
الروائي التونسي عثمان لطرش
يحرص عثمان لطرش على الاستطراد والشرح كثيرا في سرده، ولست أدري من أوهمه بذلك؛ فالإيجاز السردي بات هو منطق السرد، كما أن الاستطراد يفترض الغباء في القارئ: "كأن الزمن يهيئها للفرح.. الزمن لمن يفقه معجمه ويمتلك مفاهيمه بين أمرين إما أن ينضج الفرح للمرء فيلقاه هنيئا مريئا، وإما أن ينضج الصدمة للمنتظر فيسبح في بركة من المرارة.. لم تعد هذه الدقائق زمن ترقب بل هي لحظات لهفة مرتعشة. سافرت بعيدا، ضربت عميقا هنا وهناك، حلقت عاليا عاليا، لامست السماء، داعبت النجوم، عانقت الزهور والرياحين، قطفت ثمارا متدلية، غنيت مع الطيور، راقصت الفراش. فجأة وقد عدت إلى الفراش، دق الباب ثلاثا ودق القلب ألفا"، هنا يتحدث الروائي عن أم مطماطة ليلة دخلتها وانتظارها لزوجها صابر، وبمجرد ما تحدث عن الزمن الذي سيهيئها للفرح نسى السرد والحدث تماما وهام على وجهه في عوالم من التوصيفات والاستطرادات المتأملة الشارحة لمعنى الزمن والتي تجعل القارئ راغبا في لفظ الرواية تماما والانصراف عنها.
لم يكتف الروائي هنا بالاستطرادات والتأملات فقط، بل نراه يتدخل في السرد بشخصه كروائي ليعلق على السرد: "لطالما كان العشق الصادق كالغيمة الممطرة ينبت زرعا خصيبا في كل البساتين.. في الكلام.. في الابتسام.. في الحركات.. في السكنات.. في الإشارات.. العاشق تفضحه حركاته أنّى سار يتضوّع منه عبق الوجد وينتشر حوله فيعلم الجميع ممن درى معنى العشق ما يُضمر. ما إن يتعتّبا الباب الزوج والبنت حتى تلفها كآبة الوحدة فتستسلم لهواجس الماضي بل كأنها مع الأيام وقعت في غرام الذاكرة، تُبكيها تُدمي قلبها ولكن لا تستطيع عنها فكاكا.. تغرق في مستنقع النفس، تسافر في ثنايا الذاكرة.. ما أعسر الرحيل.. ما أشقى الزمن.. لقد عضها الدهر بنابه وأناخ عليها بكلاكله.. ما أشد سياط الظلم، ترى الذاكرة كالرحى أمام جدتها تدور وتدور فيستحيل الحب دقيقا.. الظلم أيضا رحى تسحق النفس"، ولعل الطامة الكبرى الصاعقة بالفعل حينما لمحت مفردة "كلاكله" التي يستخدمها الروائي اليوم.
كما نلاحظ أن العديد من المقاطع لا علاقة لها بالسرد الروائي بل هي صالحة لأن تكون مقاطعا من مقال ما بعيد كل البعد عن الفن الروائي: "تذكر المواعيد في الوطن.. استحضر مفهوم الزمن عند الجهلة من بني جلدته هناك في البلاد العربية الإسلامية الواسعة.. أسوأ ما يذكر بعد الغول الأبيض استهتار الناس بالوقت بل الأدهى والأمرّ أن المتأخر عن الموعد يتباهى ولا يرى في صنيعه نقيصة الرئيس والوزير والمدير والعامل والطالب. بل هم يرون في تقديس الوقت ضربا من السذاجة وبعضهم يتندر بمن يحضر في الوقت ومن يجد في احترام المواعيد. ألا يعلمون أن مفهوم الوقت محرار تقاس به درجة تحضر أمة ما؟ أنسوا أم هم يتناسون قول أجدادهم الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ هنا في باريس تصيبك العدوى. عدوى الكد والاتقان والانضباط والنظافة ووو. هي لعمري سلوكات أسلافنا الصالحين تركناها بل منحناها لغيرنا من الشعوب التي اعتنقت عقيدة البناء والفعل والجمال في حين تركنا عقيدة الإيمان والتسليم. كأنهم اقتنصوا منا هذه القيم ونحن في غفلة حضارية"، ما معنى كل هذا المقطع؟ إنه مقطع من مقال وليس سردا روائيا، بل يعلق فيه الروائي برأيه في أمر ما لا يمكن أن يثري الحدث الروائي، وهذا ما نراه في قوله: "أحيانا أرى أنه من العبث أن نميز بين شخصين من بلدين متجاورين، نقول عن هذا جزائري وعن هذا تونسي والمسافة الفاصلة بينها أمتار وأسلاك. هي لعنة الهويات المتشظية. هو فعل الغزاة وتوهم العرب أن الجزء أفضل من الكل وأن الولاء للقُطر بديل حداثي عن الولاء للأمة"، من خلال هذين الاقتباسين لابد أن ننصح الكاتب بعدم الكتابة الروائية مرة أخرى إلا بعدما يفهم ما معنى السرد الروائي؛ لأنه هنا يرتكب جريمة فادحة في حق السرد الروائي وحق نفسه، وفي حقنا نحن كقراء نتعذب معه من أجل قراءة ما يكتبه باعتباره رواية.
ثمة مباشرة فجة في السرد داخل رواية مطماطة نراها غير مرة، هذه المباشرة نلحظها في: "في مصر وتونس في.. وفي.. كلنا يا أخي في الخوف شرق، هذه الحالة تحدث عنها ميشال فوكو الفيلسوف وسماها "ميكرو فيزياء السلطة" وتعني العبارة الفرنسية السلطة الخفية وشرح هذا الفيلسوف الفذ طرائق الخوف والرهبة في الأنفس بدءا بهراوة الشرطي مرورا بما يُدس في المناهج والمقررات المدرسية انتهاء بماكينة الإعلام الذي يتنامى دوره السياسي.. وهذه الطرق تنتج بشرا ديدنهم الخوف والتردد قبل الفعل"!! بالتأكيد أن علامتي التعجب هنا من عندي؛ فبالرغم من أن هذا المقطع جاء من خلال الحوار إلا أنه شديد الإقحام والمباشرة والفجاجة والافتعال.
يكتب الروائي التونسي عثمان لطرش في روايته: "ترك سامح ركبة أمه واقترب من ناجية فقد استفزه صمتها البديع ووجومها الشامخ الرصين فمازحها وقد أوتي مهارة لم يتعلمها في المدرسة، فهو القادر على تحريك السواكن، يُجري الكلام على اللسان إذا شح ويمتص من الوجوه الوجوم ومن القلب الهموم هو زرّاع البهجة وليس له من المعاول إلا قلبا سليما ولسانا رطبا"، وهنا لابد أن نؤكد على أن الاهتمام بالتوصيف المفرط والعمل عليه هو مفسد للمعنى، وغير مجد له، كما يدعونا للتساؤل: هل يكون الوجوم شامخا ورصينا كي نصفه بهذه الأوصاف؟!
القارئ لرواية مطماطة للروائي عثمان لطرش سيلحظ أن الروائي حريص كل الحرص على التأكيد على المثل والتقاليد، والتمسك بالإسلام والعض عليه بالنواجذ- كما كانوا يقولون قديما-، لكن لعل الحرص على هذه الأمور داخل الرواية بشكل مفتعل تماما إما بالقول، أي بالتدخل بنفسه في السرد، أو بافتعال الأحداث هو مفسد للرواية تماما، بل هو محاولة للتأكيد من الكاتب على أنه يرفض ما يتحدث عنه، ورفضه للشخصيات التي يكتب عنها محاولا التبرؤ منها، ودفع تهمة موافقته على أفعالها من تهريب وأحداث روائية قد لا تتناسب مع قيمه هو كمؤلف، وهذه كارثة حقيقية أن يرفض الكاتب ما يتحدث عنه من خيال روائي –إذا كان هنا ثمة خيال في هذه الرواية-؛ فالمبدع الحقيقي لا سقف له في خياله، ولا علاقة له بالأخلاقيات والمثل حين كتابته لنصه الإبداعي. يقول لطرش: "لخضر تراوده الذكرى تخفف عليه الوخز والوجع.. تذكر سامح التونسي.. احتواه وآواه ورسم له طريق الإحسان بالإحسان، فطلق كل ما لا يرتضيه الإسلام وينهي عنه وأقبل على الدين والحياة يعب منها حلالا طيبا. وقد استقام الأمر، فالرزق اليوم وفير ولكن شوكة الوطن جارحة"!
إذا ما تأملنا مستويات الحوار في رواية مطماطة لتأكد لنا أن الروائي لا يعرف كيف يدير الحوار، أي أن مستويات الحوار لا يمكن أن تكون مقنعة بالنسبة للقارئ العادي، فيقول: "ناجية ألم تطردي الدجى عن لياليك بعد؟ ومن يُبدد عتمة حطت على أيام صابر ليل نهار.. أراد أن ينتهز الفرصة فسبقته إلى الكلام وواصلت كأنها لا تحدث أحدا. ألا أفي لزوجي؟ ألا أقاسم من أحببت مآسيه؟ أأرفل في حلل الحياة وهو يتخبط في الأوحال؟ ألا أكون زوجة مخلصة؟ فتحت له أخته طريقا لم يتوقعه وكفته مؤونة كبرى من الحديث. فغير الخطة واختصرها. حسنا حسنا أخيتي.. ألا تثقين بما أقول؟ كل الثقة يا سامح.. إن بدا لعيني شعاع فمن الله ومنك. ألم أعدك يوما بأن إرادتي تذيب حديد سلاسله؟"، من خلال هذا الحوار المفتعل لا يمكن لنا أن نتقبله، أو يستقيم السرد الروائي، أو يكون مقنعا لطفل ما زال يتعلم القراءة في مراحله الأولى؛ فكيف لشخص أن يتحدث بمثل هذا الشكل من الحوار ومثل هذا المستوى اللغوي في الوقت الذي نعيش فيه؟ ثمة انفصال حقيقي بين الشخصيات واللغة التي يستنطقها بها المؤلف؛ فاللغة هنا لا تخص الشخصيات بقدر ما تخص الكاتب نفسه الذي يتحدث بلغة عتيقة على لسان شخصياته مما يجعلها منفصلة تماما عن الواقع الذي نعيش فيه. هل من الممكن أن يقول شخص ما يعيش في بارس وفي هذا التوقيت الزمني الذي نعيش فيه "حسنا حسنا يا أخيتي"؟! من أي معجم لعين يأتي الكاتب بمثل هذه اللغة الحوارية؟! وكيف ظن أن الحوار هكذا من الممكن أن يستقيم أو يقتنع به القارئ؟!
الروائي المصري عبد الحميد جودة السحار
بل هو من خلال الحوارات في الرواية يجعل القارئ يظن بنفسه قد عاد إلى عهد دخول الإسلام لمكة وكأن قريش تتحدث أمامنا، أي أنه قد جرنا من خلال آلة الزمن السحرية إلى آل قريش يتحدثون، فنراه يكتب حينما ينجحون في تهريب صابر ووصوله إلى باريس: "قال بصوت كالهمس: لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له منه الفرج ومنه الفرح. إن بعد العسر يسرا. قال الله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" صدق الله مولانا العظيم، رآها تتمتم فعرف أنها تتلو سرا بعض من آي القرآن"، كما نراه يحاول التفاصح لأقصى درجة في حالة من عدم القدرة على الفهم بأن التفاصح في اللغة السردية والبحث عن الكلمات في بطون المعاجم لا معنى له ولا علاقة له بالسرد الروائي فيكتب: "كيف لي أن أنسى الزمن وهو الذي أناخ علي بكلكله"، حتى لكأن امرؤ القيس يتحدث إلينا من قبره، الأمر الذي يقف عائقا بين العمل السردي والمتلقي ويشتت انتباهه وتركيزه.
تبدو لنا المبالغة الحقيقة في الكتابة والتي بدت لنا كالقشة التي قصمت ظهر البعير حينما نقرأ فصلا كاملا من الرواية يحرص فيه الروائي على السجع! وكأنه لم يكفه التفاصح في اللغة فلجأ إلى السجع من أجل ترصيع اللغة وتجميلها أكثر من وجهة نظره: "قالت: حدثني أبي عن الجذورْ سافر بي إلى الأقاصي.. خذني إلى أوار الزمن الغابر.. اسمي أراه يسكن الكتب.. نسيجا في الأذهان. قال: يُحكى أن جدنا مطماط رحل من بر العربْ وصوّب نحو الغرب يضنيه جم الغضبْ. كان شديد البنيانْ يتبعه الصبيانْ وتستدنيه النسوانْ ويُغلظ له رجال العربانْ، في وجهه واحة وجنانْ وترنيم البلبل في اللسانْ.. نشأ يتيما تعضه الفاقةْ.. فلا فرسا ركب ولا ناقةْ.. الأم شكت الدهر ورفاقهْ أما الأب فليس أحد يبكي فراقهْ. بعد أيام وشهور نزل مطماط بواد غير مشهورْ حوله الجبال كالسورْ فيه نبت وطيورْ وماء ينز من الصخورْ فيدور ويدورْ ويتلوّى ثم يغورْ..."، وهكذا يستمر لطرش في سرد هذا الفصل بالكامل على هذه الشاكلة السجعية القميئة التي أفسدت كل شيء في السرد الروائي؛ فزادته فسادا على فساده.
لا ينتبه الروائي التونسي عثمان لطرش إلى منطق الأشياء أثناء كتابته روايته؛ الأمر الذي يوقعه في الكثير من المآزق الساذجة التي تنسحب بالضرورة على الروائي فضلا عن السرد الساذج؛ فحينما يروي صابر لزوجته وابنته عن سنوات السجن يقول: "ماسكي كان مشهورا في السجن، يُعرف من مسكته، كان يُدعى الشنفرى هو مثل الشنفرى الشاعر. كان يؤذي حاضرا وغائبا، هو مخيف، رهيب، قوي.. لا يتكلم إلا لماما.. أحيانا يترنم بأبيات من شعر البرغوثي في الغزل ونعت الخيل والبادية.. ربما هذه هي علة الاسم وقيل إن البعض سماه المرزوقي لما سمع ترانيمه"! ما هذا الهذر يا رجل؟! أتعتقد القارئ بمثل هذه السذاجة؟! كيف يكون أحد السجانين بمثل هذه الثقافة ليترنم بأبيات الشعر؟ وكيف يكون اسمه الشنفرى نسبة إلى الشاعر الجاهلي الشنفرى الأزدي أو ثابت بن أوس الأزدي المتوفي عام 525م والذي كان من فحول الطبقة الثانية من الشعراء الجاهليين؟! إن ما كتبه لطرش هنا يُدلل أنه لا يعنيه منطق السرد بقدر ما يعنيه منطقه الشخصي هو، أي أنه يضع في الرواية ما يروق له دون اهتمام بمنطقية ما يكتبه، ألا يدري الروائي أن الشنفرى الأزدي قد يجهله عدد ضخم من المثقفين العرب، أو من يدعون الثقافة؟ فما باله بالمسجونين، والسجان؟!
هذه اللامنطقية في السرد نراها في ختامه للرواية حينما يكتب: "آخر النازلين من الطائرة الصغيرة هي مطماطة، اضطرابها وخوفها وفرحها المبرح أخّرا نزولها أنوار الفجر لم تساعدها على تبين ملامح الجبل وهي على المدرج. أحست بدوار، تمالكت نفسها وتابعت الخطوة تلو الخطوة حتى لقيت التراب. صرعها اللقاء لم يتحمل كيانها الفائر بالأسئلة أمواج الفرح الهادرة في نفسها، أمواج قوية تتدافع، تتلاطم في نفسها، في ذهنها، تهز الكيان، تلقتها أرض مطماطة وقد تراخت أطرافها، تلقتها ذرات الوطن الدافئة وقد فتر النفس وابيض الوجه.. لقد أُغمى عليها من لفح اللقاء من زمجرة الجبال السعيدة بلقاء البنت العاشقة. من فورة العشق الفائر. أفاقت عند الظهر فعلمت أنها ترقد في حوش الحفر عمارة غريبة عجيبة.. هي تحت الأرض.. رائحة التراب تزكم أنفها الدقيق تذكرت مرويات أمها"، هنا تتجلى لامنطقية ما يكتبه لطرش حتى لكأنه يكتب لنفسه ولا يعنيه أي منطق سيحاسبه عليه المتلقي؛ فكيف له أن يظن أننا سنتقبل ما كتبه حينما وصلت مطماطة إلى قريتها لدرجة أن يغشى عليها من فرط اللقاء؟! إن الفتاة لا تعرف شيئا البتة عن تونس بالكامل وليس عن مطماطة فقط، كما أنها ولدت على أرض فرنسية، وكبرت على نفس الأرض الفرنسية، أي أن ثمة قطيعة كاملة بينها وبين تونس لولا حكايات والديها، فهل يعتقد الروائي أنه من المنطق أن يكون كل هذا العشق داخل البنت بمجرد الوصول إلى أرض الوطن الذي تجهله حتى أنها يغشى عليها؟! كان من الأجدى أن يغشى على أمها أو أبيها حينما يصلان؛ فهما من يعرفان القرية وهما من يعشقانها، أما أن يظل الأبوين على تماسكهما وكأنهما كانا هنا بالأمس بينما يغشى على الفتاة فهذا مجرد درب من السذاجة، وعدم القدرة على فهم سيكولوجية النفس البشرية، ويتنافى مع كل منطق.
رواية مطماطة للروائي التونسي عثمان لطرش رغم افتقادها لكل عناصر الرواية التي نعرفها، ورغم أنه حاول التفاصح كثيرا بالبحث عن المفردات الصعبة في بطون المعاجم، إلا أن المفارقة المضحكة فعليا أن الرواية تخلو تماما من علامات الترقيم رغم أهميتها؛ ومن ثم بدا لنا السرد متداخلا تماما؛ مما جعل الكثير من الجمل تلتبس علينا نتيجة تداخلها مع الجمل السابقة عليها، أي أنه لم يكن يهتم باللغة في حقيقة الأمر، كما أن استخدام النقطتين بين الجمل لا معنى له في اللغة العربية، وليس من علامات الترقيم، في حين أن الكاتب استخدمها كثيرا للفصل بين الجمل في الوقت الذي أراد أن يبين لنا مدى معرفته باللغة في حين أنه يجهل علامات ترقيمها.
لابد للروائي أن يفهم ما هي آليات السرد المعاصر أولا قبل الشروع في كتابة رواية؛ لأنه إذا لم يفهم كيفية كتابة الرواية سيقدم لنا في النهاية شيئا باهتا فاشلا لا يمكن لنا تصنيفه مثل ما قرأناه في هذه الرواية.







محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد ديسمبر 2019م.