السبت، 30 يونيو 2018

لم يكن ضحكا فحسب.. شهوة السرد غير المكتمل

ربما كان هناك العديدون من الساردين الذين تتملكهم شهوة الرغبة- التي لا يمكن مقاومتها- في السرد؛ فيبدأون في الكتابة السردية حتى لو لم تكن في أذهانهم الفكرة السردية المكتملة أو الناضجة، وكأنما الأمر يشبه حالة من الفيضان الذي لا ينتهي لدى السارد، ورغم أن هذا السارد يمتلك الكثير من مقومات الكتابة الإبداعية من لغة، وعالم إبداعي، وأسلوبية، وبناء، إلا أن كتابته قد تؤدي به في النهاية إلى الفراغ الذي يجعلنا نتوقف كثيرا بعد الانتهاء من قراءة العمل لنتساءل: ما الذي رغب الكاتب هنا قوله، ولم كان كل هذا المجهود، أو هذه الرغبة في الكتابة التي أدت بنا في نهاية الأمر إلى الفراغ؛ لتتركنا في حالة حقيقية من الدهشة غير قادرين على اتهام الكاتب بأنه خال من الموهبة، أو غير قادر على بناء عالم إبداعي حقيقي، لكننا في نفس الوقت غير قادرين على التأكيد بأن هذا العمل الذي قرأناه بمثابة عمل إبداعي متكامل أو جيد.
أي أن هذه الحالة من الفيض السردي تترك العمل الإبداعي في نهاية الأمر في منطقة وسيطة بين الجودة والاكتمال من جهة، وبين الفراغ الذي لا يمكن أن نُطلق عليه ضعفا فنيا بقدر ما يمكن أن نُسميه عدم الاكتمال.
مثل هذا الكاتب في حقيقة أمره هو مبدع حقيقي، قادر على بناء العالم الفني الذي يريده، ويمتلك من أدوات الكتابة ما يساعده على الكثير من الإبداع، لكنه تتملكه حالة من الرغبة في الكتابة فقط، حتى لو لم يكن يمتلك عالمه الإبداعي الذي بدأ فيه بشكل كامل؛ مما يؤدي به في النهاية إلى مثل هذه الحالة التي تحدثنا عنها، وهي حالة من الممكن أن نُطلق عليها تجاوزا: حالة البين بين، أي أنه في المنطقة المتوسطة التي تجعلنا في حالة عدم اليقين من اكتمال العمل أو نقصانه؛ فثمة شعور مقلق ينتابنا دائما تجاه عمله يؤكد لنا أن هذا العمل ينقصه شيء ما رغم وجود أدوات السرد الإبداعي.
هذه الحالة من الكتابة الشهوية –إذا جاز لنا التعبير- هي ما يمكن أن نلاحظه في المجموعة القصصية "لم يكن ضحكا فحسب" للقاص العُماني محمود الرحبي؛ فثمة حكاية غير مكتملة معظم الوقت حتى أننا بمجرد انتهائنا من قراءة كل قصة من قصص المجموعة نعود إليها مرة أخرى للتأكد من أن شيئا لم يفوتنا فأدى بنا إلى هذا الفراغ أو الشعور بعدم الاكتمال.
إذا ما تأملنا القصة التي تحمل اسم المجموعة سيتأكد لنا أن هناك عالما قصصيا بالفعل لا يمكن أن ينكره أحد، كما أن القاص هنا يمتلك أسلوبيته ولغته التي تخصه من خلال عرض الراوي لماضي أحد الشعراء الذي طلب أن يقابله كي يهديه ديوانه الوحيد في الشعر العمودي، ومن خلال عبارة "سجن الجلالي" التي قرأها الراوي مذيلة في نهاية إحدى القصائد ينطلق السرد إلى الماضي من خلال حكي الشاعر للسارد عن ماضيه الذي قضى منه فترة طويلة من عمره في هذا السجن المرعب الذي كان يخافه الجميع بسبب حكايات التعذيب فيه: "حيث كان يُنسى المسجونون معلقين على حافة هاوية؛ سنين طويلة يتوقف فيها الزمن في الظلام ويمحى الكلام، ويتحول اليوم الواحد إلى ألف ساعة سوداء لا بريق يلوح في نهايتها، وأيام من الضجر يُشكل فيها عبور صرصار محمولا على أكتاف حشد من النمل حدثا لا يُنسى".
يتحدث الشاعر عن الويلات التي لاقاها في سجن الجلالي ويصف الحياة فيه: "كان سجنا رهيبا، حتى إن ابتكار نكتة أو طرفة يكلفك غاليا؛ فذات يوم صرخت على أحد الجنود، من باب الدعابة، بعبارة يكرهها "ديك مزة"، ولكن ما إن طرقت أذنيه حتى أخبر الضابط، الذي أمر بحجزي في زنزانة منفردة من القلعة، فعشت أياما وأنا أسبح في ظلام مطبق، إذ إن الزنزانة لا يصلها الضوء؛ وإذا قُتح الباب فإن بصيصا منه يتسلل وبالكاد يصل إلى حافتها"، ثم يتحدث عن ذكرياته حينما تم نقله هو وزملاءه إلى السجن المركزي بالرميس بعد سنوات وكيف كانت المداخل والمخارج الواسعة والنظيفة لهذا السجن تصيبهم بالضجر؛ حيث كانت الأقبية متباعدة؛ مما جعل لقاءات المساجين متباعدة.
يتحدث الشاعر فيما بعد عن حالته حينما خرج من السجن وبدأ في رحلة البحث عن عمل: "واجهت صعوبة. كنت أُورفض بمجرد ما تُسمع سيرتي، وقد مر وقت طويل قبل أن أجد عملا في غرفة التجارة والصناعة. ثم تم الاستغناء عني، لأجدني أعاود البحث. وفي وزارة الإعلام لم أمكث سوى شهور قليلة قبل أن يتم تسريحي لدواعي أمنية. وذات يوم كتبت رسالة إلى وزارة الداخلية أطلب فيها عملا. تركت في ذيل الرسالة عنوان سكني في منطقة "دار سيت" حيث استأجرت غرفة"، لتنتهي حكايته بقوله: "وهكذا ظللت أعمل في وزارة الداخلية حتى تمت إحالتي إلى التقاعد".
قد نلاحظ من خلال هذه القصة شيئا من السخرية المريرة التي يرغب الرحبي في نقلها لنا، حيث لاقي الشاعر الكثير من العذاب والهوان في العديد من السجون على يد الداخلية، لكن السخرية تتضح في أنه لم يستقر في عمل من الأعمال إلا من خلال وزارة الداخلية والعمل فيها، أي أن الجلاد هو من ساعده على الحياة فيما بعد، ولكن أين يكمن النقص هنا؟
إذا ما كان الرحبي قد اكتفى من السرد بذلك، أي سرد الماضي لهذا الشاعر ومعاناته ثم تكون النهاية هي المفارقة في عمله في وزارة الداخلية لكانت القصة هنا مكتملة؛ فالقصة فيها الكثير من الإنسانية ورغبة الشاعر في التغلب على ماضيه القاسي، لكن المؤلف أكد غير مرة على أن الشاعر حينما كان يحكي، أو ينتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى كان يفصل ذلك بفاصل من الضحك غير المبرر، فحينما قال له الراوي: "ما كنت أعرف أنك سجين قلعة الجلالي"، كتب الرحبي: "استجابة لجملتي، أرسل عدة قهقهات من صدره متبوعة بسعال"، وسنلاحظ هنا أن الضحك لا مبرر له، ولكن من الممكن أن نتجاوزه بدعوى أنه احتار في شرح الأمر فتغلب على حيرته بهذا الضحك، لكنه عاد في مقطع آخر ليكتب: "بعد أن هدأت سعلاته، أخرج حروف كلماته ممزوجة بالضحك. وكأن الحديث عن الماضي لا يستقيم بدون هذا الشعور، فعبث المصير القاسي لا يمكن استدعاؤه بالحسرة وحدها، وإنما بالسلاح الأكثر فاعلية.. الضحك"، ثم يقول مرة ثالثة حينما يخبره الشاعر بأنه كان يعمل في وزارة الداخلية: "ختم عبارته الأخيرة (التي لا أظن أن فيها ما يمكن أن يُضحك) بضحكة مديدة أطالتها دفقات سعاله".
لا يمكن إنكار أن السارد حرص على تأكيده على الضحك هنا أكثر من مرة، وهو ما كان من الممكن أن يستغني عنه وتظل الحكاية مكتملة بالمفارقة في النهاية، إلا أننا نستطيع تبرير التركيز على الضحك باعتباره مرارة كالعلقم يشعر بها الشاعر، وهو ما يجعله يضحك على ماضية البائس غير المضحك، لكن الكارثة التي افتعلها الرحبي هنا أنه أفسد القصة بالكامل واتجه بها نحو المباشرة والكشف وكأنه كان يشرحها للقارئ مفسرا لها في النهاية، أي أنه تحول بها إلى التلقينية، أو محاولة اكتساب العبرة حينما كتب: "واتتني رغبة ملحة في الكتابة، وتحديدا عن المعاني التي يمكن أن تخفيها تلك الضحكات التي كان يبثها بين الجمل ويقطع بها مراحل الزمن برشاقة. فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت أصابعي تنقر الحروف ببطء: لم يكن ضحكا فقط، إنما الزمن وهو يقفز برشاقة بين القيود والجدران، لم يكن ضحكا فقط، إنما السخرية من سنين ظلت تكرّ معزولة خارج تقويم الأيام، لم يكن ضحكا فقط، وإنما مقصا ماهرا يشذب ما علق في الذاكرة من أشواك، لم يكن ضحكا فقط، وإنما عكازا قويا يسند أيامه الباقية كي تتقدم خفيفة في الظل".
من خلال هذه الخاتمة التي اختتم بها الرحبي قصته يتضح لنا أنه أفسد السرد القصصي الذي كان مكتملا حينما بدأ في مثل هذا الشرح، وهو الأمر الذي لم نكن في أي حاجة إليه لأننا انتبهنا إليه من خلال المفارقة والسرد، ولكن يبدو أن المؤلف هنا يفترض عدم القدرة على الفهم لدى القارئ؛ فلجأ إلى التأكيد الذي أدى إلى كشف القصة والنحو بها باتجاه المباشرة والشرح حتى لقد بدا لنا الأمر وكأنه فيلم سينمائي دعائي يرغب من خلاله صانعه أن يعطينا الحكمة والموعظة في النهاية فانطلق صوت في الخلفية ليلقننا هذه الحكمة المستقاة من هذه القصة؛ ففسدت القصة والسرد الذي كان مكتملا، هذا فضلا عن التزيد الذي لا داعي له في جملته: "فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت أصابعي تنقر الحروف ببطء"؛ فعبارة "على صفحة بيضاء" لا معنى لها، ولا محل لها من الإعراب، وحذفها أوقع؛ لأنه بالتأكيد سيكتب على صفحة بيضاء، وإذا ما حذفناها ستستقيم الجملة.
في قصة "نعمة دخول الجمل إلى الحمام" يبدو لنا الأمر رغم تميز السرد بأنها مجرد قصة للناشئة كي يستقوا منها الحكمة، أي أنها قصة من أجل التعلم مفادها الأمانة، أو كما قال السارد نفسه: "سر الرزق، هو ألا يلمس مالا لا يخصه وأنه لن يتأتى لإنسان اكشاف هذا السر بدون التسلح بسلاح القناعة"؛ حيث يحدثنا على لسان طفل عن عمه الذي كان يعمل راعيا للأغنام لدى راع لديه ابن صغير، وحينما رغب هذا العم في الرحيل ومعه قطيع صغير من الماعز على متن سفينة رفض ربان السفينة أن يصطحب معه هذا العم قطيعه؛ فتركه مع ابن الراعي ورحل، لكن السفينة تغرق بكل من فيها، وبعد سنوات طويلة يدخل رجل على ظهر جمل إلى قرية "الحمّام" التي يسكن فيها الراوي ووالده، ويعرفون من صاحب الجمل أنه ابن الراعي الذي كان يعمل لديه العم والذي ترك له قطيع الماعز قبل أن يصعد على ظهر السفينة التي غرقت به، وأن هذا الطفل قد كبر واهتم بقطيع العم الذي زاد عدده وبحث عن أخيه كي يسلمه أمانة الأخ الذي غرق منذ زمن، هنا ينهي الرحبي قصته بما يلي: "أعرض أبي نهائيا عن فكرة الرحيل، وباع قطيع الغنم، ثم قرر أن يرحل بنا إلى مطرح ليستأجر دكانا في سوقها، وهناك بدأت أكبر لأساعده في العمل في الدكان. وفي آخر كل نهار، حين يبدأ التجار في شكر الله على نعمائه ورزقه، كان أبي يشكره على نعمة دخول الجمل إلى الحمام، أمام اندهاش التجار وحيرتهم".
أي أنها مجرد قصة تعليمية، كما نلمح من خاتمتها أيضا أنها تحولت إلى مجرد طرفة لا غير من جهة أخرى حينما يندهش التجار من الرجل الذي يشكر الله على "نعمة دخول الجمل إلى الحمّام".
في قصة "غلام" نلمح النقصان وعدم الاكتمال الذي يجعلنا نتساءل: لم كتب المؤلف هذه القصة من الأساس؟! فالقصة تبدأ بالابن "غلام" الذي يقضي كل وقته في ساحة اللعب حيث يلعب كرة القدم، وهذا ما يرفضه الأب حيث يرغب من ابنه الدراسة والعبادة فقط، ويرى أن هذه اللعبة مجرد مضيعة للوقت، ولكن لأن الابن لديه من المهارات في اللعب ما لفت نظر مدرب المنتخب الوطني العماني، فهو يتوجه إلى الأب كي يأخذ الإذن منه في السماح لابنه في الانضمام إلى المنتخب، لكن الأب يرفض رفضا قاطعا قائلا: "أي كرة قدم هذي؟ هذا جنون. شفتهم مرة يتقاتلوا على قطعة توفه ما يجي قيمتها ربع ريال. أروم أشتري له وحد ويجلس مكانه في البيت"، لكن الكاتب يستمر في سرده قائلا: "ضحكوا، وبرقت في ذهن المسؤول العُماني فكرة استحسنها والد غلام، إذ اقترح عليه أن يجد عملا لغلام في مبنى الاتحاد وسيتكفل بنفسه بالتوسط له. وافق الأب شريطة أن يصل إلى يديه راتب ابنه كل شهر".
بالتأكيد أن ما سيرد على ذهن القارئ هنا أن المدرب الراغب رغبة حقيقية في انضمام الفتى إلى المنتخب الوطني نظرا لمهاراته قد ادعى للأب أنه سيجد عملا لابنه في مبنى الاتحاد في حين أنه سيضمه إلى المنتخب. هذا هو المنطقي والمعقول بعدما ساقه لنا الرحبي فيما قبل، لكننا نفاجأ بالمؤلف يختم قصته بما يصدمنا في حقيقة الأمر ولا يمكن له أن يتسق مع القصة ومقدماتها، أو حتى مع المنطق: "ومع مرور الأيام والأشهر، كانت تصل إلى مسامع الأب الإنجازات التي يحققها غلام مع المنتخب وذلك المجهود الضخم الذي كان يذهب سدى لزحزحة منتخب بلاده من مركزه الأخير، الذي ظل لا يبرحه سنين طويلة. ولكن الأب لا يعلم أن العمل الذي أنيط لابنه في مبنى اتحاد كرة القدم لم يكن سوى طباخ للشاي والقهوة، ومراسل في أحسن الأحوال"!!
بالطبع علامات التعجب هنا من عندنا؛ فإذا ما كان المدرب قد قاتل في محاولة إقناع الأب لضم ابنه، لم أعطاه هذا العمل في النهاية ولم يضمه إلى المنتخب؟ وإذا ما حاول البعض هنا القول: إن المؤلف يقصد السخرية، فأي سخرية من الممكن أن يقصدها، وما هي المقدمات التي من الممكن أن تدل على هذه السخرية أو المفارقة إذا ما كان يرغب في المفارقة؟ إن القصة في النهاية تجعلنا نتساءل عن السبب الحقيقي في كتابتها، وما الذي دار في ذهن المؤلف حينما بدأ فيها.
محمود الرحبي
في قصة "حفرة السيوف" ثمة مشهد قصصي نسجه الكاتب بمهارة لا يمكن إنكارها، أي أن الكاتب امتلك العالم القصصي الذي أراد أن ينسجه، وهو بالفعل نجح في نسج هذا العالم، لكننا نلاحظ أنه فشل في إغلاقه، أي أنه ليس لديه حسن التخلص مما بدأه فكان الأمر بمثابة مشهد لا عمق فيه، حيث تتحدث القصة عن امرأة ترغب في بناء مسجد في قرية، وهو ما يجعل أهل القرية يعرضون على عمال البناء الطعام والشراب والمساعدة، ولكن أهل القرية يغضبون من العمال نتيجة وجود الكثير من زجاجات الويسكي الفارغة "تبرز من خصرها صورة باهتة لسيفين متقاطعين"، ويتهمون العمال بأنهم يحتسون الويسكي في الحين الذي يبنون فيه مسجدا، إلا أن رئيس العمال يؤكد لهم أن هذه الزجاجات الكثيرة يجدها العمال أثناء الحفر وهو يأمرهم بإعادة دفنها مرة أخرى، ويحدث أن يذهب إلى مكان العمل رجل كبير في العمر ليخبر رئيس العمال أن هذا المكان الذي يحفرون فيه كان عبارة عن مقبرة لزجاجات الويسكي منذ زمن بعيد وأنه كان شاهدا على ذلك، وأن معظم من شاركوا في هذا قد تابوا أو توفاهم الله، لكن السيدة التي تنفق على بناء المسجد تعلم بالأمر وتأمر بتوقف البناء في هذا المكان والبحث عن مكان آخر للبناء فيه.
هذه هي القصة بالكامل التي لم نفهم لم كتبها الكاتب، ولم أغلقها بهذا الشكل، وما سر السيفين المتقاطعين على زجاجات الويسكي لاسيما وأنه ركز على السيفين أكثر من مرة، وجعلهما عنوانا لقصته، بل وختمها بقوله: "تقدم منسحبا جهة الشاحنة التي امتلأت بالعمال، لكنه رجع فجأة وطلب من عماله النزول وتناولوائ ما استطاعوا من زجاجات الويسكي المدفونة، وبدأوا في كسرها. بدت السيوف التي تتعانق في الصور وكأنها تنهض عن صمتها لتُحدث حرابها صليلا، والزجاج تطاير شظايا تحت أشعة الشمس الحارقة".
ربما كانت فكرة الكتابة للناشئة أو كتابة القصص الوعظية التي يمكن استقاء الحكمة منها تسيطر على القاص محمود الرحبي وهذا ما سنلاحظه مرة أخرى في قصته "ياسمين" التي يتحدث فيها عن الفتاة الصغيرة "مريم" التي تبيع عقود الياسمين التي يزرعها الأب وهو ما جعل الأطفال يطلقون عليها ياسمين ومن ثم طلبت منه تغيير اسمها إلى ياسمين. فقد الأب زوجته في حادث منذ كانت ياسمين طفلة لا تتعدى ثلاث سنوات، ولم يتزوج من أجل ابنته إلى أن أقنعه أخوه بأن الفتاة ستكبر وتتزوج لتتركه وحيدا؛ فتزوج من أرملة لها ابنتين، لكن الزوجة الجديدة لم تتعامل مع ياسمين باعتبارها ابنتها بل كانت تعاملها معاملة سيئة وتمنع ابنتيها من اللعب معها أو الاختلاط بها، وامتنعت الفتاة عن إخبار أبيها بالأمر إلى أن عرف ذلك ذات مرة عاد فيها مبكرا إلى البيت ليجد الفتاة تبكي؛ الأمر الذي جعله يطلق زوجته من أجل ابنته وظل يحيا من أجلها فقط، ولكن ياسمين كبرت وامتلكت الكثير من الجمال الذي كان يتحدث عنه الكثيرون، وهو ما جعل العديدين يتقدمون لها من أجل الزواج لكنها كانت تشترط "أن تظل في خدمة أبيها حتى آخر عمره، لأنه أفنى حياته من أجلها؛ وبذلك على من يرغب في الاقتران بها أن يرضخ لهذا الشرط"، إلى أن تقدم لها شاب من عائلة ثرية برفقة والديه "وحين سمع والده الشرط من فم ياسمين، أجالا أنظارهما في البيت المتداعي الذي سيعيش فيه ابنهما، فأشرقت في ذهن أبي الخطيب فكرة أن يبني لهما بيتا بطبقتين في المكان نفسه. حين بدأ البناؤون في التقويض ثم البناء، انتقلت ياسمين وأبوها إلى بيت عمها انتظارا، كما طلب الأب من المقاول عدم المساس بأشجار النخيل الثلاث وشجرة البيذام وبقعة الياسمين، التي غطى سياجها برداء ركين كي لا تطير إليها ذرات الغبار وتؤذيها".
هكذا تنتهي القصة التي بدت لنا كقصة وعظية نستقي منها الحكمة التي تفيد بأن الجزاء من جنس العمل؛ فكما ضحى الأب بحياته وبالزوجة من أجل الابنة، كان جزاؤه رفض الابنة الزواج إلا إذا كان أبوها معها في حياتها، وبذلك فقدت القصة فنيتها.
قد تبدو قصة "حريق الفئران" أكثر اكتمالا من القصص السابقة حيث تتحدث عن احتراق عريشة المرأة العمياء التي تم إنقاذها رغم احتراق عريشتها بالكامل، لكن المشكلة أنهم وجدوا في عريشتها سبعة وثلاثون فأرا محترقا وهو ما أثار تساؤل القرية بالكامل، بل وأرسل الوالي إلى العمدة ليسأله عن سر وجود هذا العدد من الفئران لدى المرأة، وهو ما جعل العمدة الذي لا يعلم شيئا عن الأمر يحاول أن يتخيل حكاية لا أساس لها من الصحة كي يُنقذ موقفه أمام الوالي؛ حيث سيرفع هذا التقرير إلى وزارة الداخلية التي من الممكن لها أن تقيله إذا لم يُفسر سر هذا العدد من الفئران: "وفي الصباح كان العمدة في مكتب الوالي وكانت عبارة "حرب تجار" هي ما يكرر على مسامعه. فطلب الوالي من كاتبه أن يسجل أقوال العمدة التي سترفع في ظرف سري إلى وزارة الداخلية: ".. وقمت بإغراء العمياء بأنها إن اعترفت بسبب وجود الفئران في بيتها فإنه سيطلب من الوالي أن يتوسط لها عند الحكومة لبناء بيت أسمنتي وبراتب شهري، لذلك فإني يا سعادة الوالي أطلب منكم السعي في هذا الأمر، وأن هذه المرأة المسكينة كان مغرورا بها، وأن الأمر كله يتعلق بحرب تجار سوق الظلام في مطرح، وأود طمأنة الحكومة بأنه لا يوجد أي هدف سياسي وراء حياة أو موت الفئران. فقد جاء أحد تجار الجملة ذات ليل إلى العجوز وطلب منها ترك قفص فئران خشبي مغلق في بيتها مقابل إعطائها عشرة ريالات شهريا. ولم يعرّف باسمه، كما أن المرأة، بسبب عمائها البين، لا يمكنها أن تصفه لنا. وكان هذا الرجل يأتي في ظلام آخر كل شهر ويأخذ عددا من الفئران ويطلقها في مخازن غرمائه من التجار.. وهذا تفسيري لسبب حرص الفاعل على ترك باب بيت المرأة مفتوحا، لأن غرضه كان إحراق الفئران وليس البيت بمن فيه. ولكن ما هي الأسباب الحرفية لوقوع الحريق؟ ومن هو الفاعل؟ فهذا ما لم أتمكن من الإجابة عليه، لأنه يحتاج إلى تحقيق أوسع وأكبر من قدرتي عليه، لذلك أوكل الأمر لكم سعادة الوالي وللحكومة الموقرة".
ربما كانت أهمية القصة هو اكتمالها؛ فقد عرف القاص كيف ينسجها بشكل جيد، ليأتي لنا بنهاية مقنعة تصور تقصير السلطة في متابعة عملها ومحاولة طمس الحقائق، وهو الأمر الذي يؤدي بها إلى ادعاء العديد من الحكايات من دون وجه حق، ولا تمت للواقع بصلة لمجرد محاولة بعض رجال السلطة الحفاظ على مواقعهم، أو حفظ ماء وجوههم لعدم اتهامهم بعدم متابعة أعمالهم، وهذا ما نراه حولنا في العديد من المجتمعات العربية؛ حيث تدعي السلطات دائما العديد من الحكايات الملفقة التي لا أساس لها من الصحة لمجرد الحفاظ على مكتسباتها.
 تأتي قصة "ظلال البيت المهجور" باعتبارها أكثر القصص اكتمالا في هذه المجموعة رغم بساطتها إلا أنها مكتملة بذكريات الطفولة التي يحكيها الراوي، حيث يتأمل الراوي البيت القديم الذي ذهب لزيارته بعد سنوات طويلة من تركه مهجورا، ويرى في كل ركن من أركانه نفسه وهو صغير مع أقرانه وجداته، وعماته وأبيه، والكثير من الذكريات، والألعاب، والحكايات التي كانت ترويها لهم الجدات، ويتذكر كيف كانت نساء العائلة يجتمعن من أجل الحمام الجماعي، وكيف كن يعرفن أبنائهن من أصواتهم، وذكريات تعليمهم القرآن شفويا من خلال الشيخ وغير ذلك من الذكريات التي ترد في شكل انسيال على ذهن السارد الذي يسرده لنا من دون ترتيب لينهي القاص قصته بجملة دالة: "الحمّام هدم نفسه بنفسه مع الوقت، حين هجرته الأجساد. تقدمت مبتعدا عن البيت القديم.. كان الصمت يغلف كل خطوة أدفع بها جسدي. ولكني وقفت فجأة، وأدرت ظهري ناحية سور البيت الذي يلوح من بين الأغصان وتساءلت: كم يا ترى مر من الوقت وأنا أتنزه في ذلك البيت؟"، وكأنه يريد أن يقول لنا: إن هذه الجولة القصيرة التي تجولها في البيت المهجور محاولا أن يستعيد فيها ذكرياته كانت بالنسبة له عمرا كاملا بالفعل وليس مجرد جولة قصيرة في فترة زمنية لا تتعدى الساعات فقط.
حينما ننتهي من قراءة المجموعة القصصية "لم يكن ضحكا فحسب" للقاص العماني محمود الرحبي يتأكد لنا أن القاص يمتلك الكثير من الموهبة الحقيقية من أجل بناء عالم قصصي، لكن شهوة الكتابة لديه تجعله راغبا في الكتابة فقط من دون الاهتمام بسؤال: إلام سيؤدي بنا هذا السرد، وهذا ما جعل معظم قصص المجموعة إما أن تؤدي بنا إلى الفراغ، أو تقع في إشكالية التوجيه والموعظة، أو عدم الاكتمال.


محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية
27 يونيو 2018م




الاثنين، 18 يونيو 2018

خمسة وأربعون عاما.. سينما التفاصيل الدقيقة

رغب المخرج الإنجليزي أندرو هيج Andrew Haigh في تقديم فيلم يهتم بالتفاصيل الدقيقة لأثر الماضي على الحياة الحاضرة من خلال كتابته سيناريو فيلمه 45 years وإخراجه، وهو الفيلم الذي أخذه المخرج عن قصة "في بلد آخر" للقاص والشاعر الإنجليزي ديفيد قسطنطين، ولكن لأن المخرج يعلم جيدا أن قصة هذا الفيلم لا يمكن لها أن تكون فيلما جيدا إلا من خلال التفاصيل الدقيقة التي تحتاج إلى ممثلين ناضجين تماما، ويعرفان أهمية الأداء، واللفتة، ونظرة العين، أي يتقنان جيدا لغة الجسد أمام الكاميرا؛ فقد حرص على اختيار كل من الممثلين Charlotte Rampling تشارلوت رامبلينج، والممثل Tom Courtenay توم كورتيناي اللذين نجحا في تقديم التفاصيل المهمة التي يحتاجها الفيلم من خلال أداء شديد النضج والهدوء.
قد تبدو قصة الفيلم للوهلة الأولى مجرد قصة عادية جدا عن زوجين يُعدان للاحتفال بعيد زواجها الخامس والأربعين مع أصدقائهما القدامى؛ ومن ثم تبدأ أحداث الفيلم قبل أسبوع من هذا الاحتفال، ولكن بعد مرور هذا الأسبوع تنقلب حياة الزوجين- الهادئين السعيدين بحياتهما معا- رأسا على عقب بسبب رسالة وصلت إلى الزوج تكشف للزوجة الكثير من الماضي في حياة زوجها، وتدفع بزوجها إلى خارج الزمن الآني؛ حيث الماضي واجترار تفاصيله التي يبدأ في تذكرها بوضوح كامل رغم عدم قدرته على تذكر الحاضر من التفاصيل بشكل جيد.
اعتمد المخرج أندرو هيج، كما سبق أن قلنا، على قصة ديفيد قسطنطين، وهي القصة التي يؤكد قسطنطين أنها قصة واقعية عن امرأة سقطت في شق لنهر متجمد، ثم تم العثور على جثتها محفوظة تماما وبحالة جيدة بعد فترة طويلة من الزمن حينما بدأ النهر في الذوبان، هنا اعتمد المخرج على صلب القصة الأساس وهو جثة امرأة تم العثور على جثتها في نفس حالتها رغم مرور خمسين عاما على اختفائها في قلب النهر؛ ليجعل من هذه المرأة حبيبة الزوج السابقة قبل زواجه بزوجته الحالية؛ وبالتالي حينما تصله رسالة مكتوبة بالألمانية أنه قد تم العثور على قريبته المتجمدة بعد خمسين عاما في نهر بالقرب من جبال الألب في سويسرا تبدأ الذكريات في الدخول إلى حياة الزوجين كشبح ثقيل الظل؛ ومن ثم تتغير حياتهما تماما من حياة زوجية مستقرة وسعيدة كما تبدو لهما وللجميع، إلى حياة يملؤها الشك والألم من قبل الزوجة التي لا تحتمل وجود منافسة لها في زوجها، ولا قبل لها على منافستها؛ نظرا لموتها.
تشارلوت رامبلينج
يبدو الأمر هنا أن البطل الحقيقي للفيلم هو الحبيبة المتوفاة؛ حيث كانت هي المحرك الأساس لكل أحداث وتطورات الفيلم؛ فيبدأ الفيلم منذ المشهد الثاني بالرسالة الألمانية التي وصلت إلى الزوج وحينما تسأله الزوجة عما يقرأ يخبرها أنها رسالة وصلته بالألمانية؛ ولأنه نسى اللغة الألمانية التي لم يتحدثها منذ فترة طويلة يبحثان معا عن قاموس للألمانية ليعرف من خلال الرسالة أنه قد تم العثور على "كاتيا" في جبال الألب بسويسرا في نفس حالتها منذ خمسين عاما، هنا يبدأ "جيف" يشعر بأنه خارج إطار الزمن ومن ثم يتخيل جثة حبيبته "كاتيا" الباقية شابة كما هي بينما هو عجوز في أواخر العمر.
يبدأ "جيف" في رواية العديد من الذكريات عن حبيبته السابقة، وكيف أنه كان يخبر الجميع بأن "كاتيا" زوجته كي يستطيعا الحياة في شقة واحدة؛ حيث لم يكن المجتمع في الستينيات يتقبل الحياة بين اثنين من دون زواج، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل الرسالة تصله باعتباره من أقربائها؛ ومن ثم فمن حقه الذهاب إلى سويسرا لرؤية الجثة، كما يخبرها عن مغامراته السابقة مع "كاتيا" وحبهما لتسلق الجبال، وغيرته ذات مرة من المرشد الألماني الذي كان يرشدهما في تسلق الجبال، إلى أن تختفي "كاتيا" تماما بسقوطها في أحد الأنهار المتجمدة واختفائها.
تبدأ الزوجة "كيت" في الانتباه إلى بعض التفاصيل والأمور الصغيرة التي قد تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية، وإن كانت تؤدي بحياتها إلى التغير الكامل، فهناك تشابه بين اسمي الزوجتين، كما أن العطر الذي كان الزوج حريصا على أن يأتي به لزوجته هو ذات العطر الذي كانت تستخدمه "كاتيا"، هذا فضلا عن أنه تزوج "بكيت" بعد فترة قصيرة جدا من اختفاء الحبيبة السابقة، وغير ذلك من التفاصيل الكثيرة التي تجعلها تعيش في حالة نفسية غير مستقرة، لا تخبر الزوج بها بينما تبدو على تصرفاتها من إصابتها بشيء من الاكتئاب وشرودها الدائم.
أفيش الفيلم
يدخل الزوج أيضا في حالة طويلة من التذكر للماضي بوضوح جلي، ويعود للتدخين مرة أخرى رغم أنه ممنوع عنه بعد إجراء جراحة في قلبه منذ خمس سنوات، كما يتحدث مع زوجته عن هذا الماضي ليحكيه لها بينما هي تستمع متألمة، وتنتبه أكثر من مرة أنه يستيقظ من نومه ليذهب إلى الخزانة العلوية التي يحتفظ فيها بذكرياته، إلى أن ترى صورتها وتلاحظ التشابه الكبير بينهما في الشكل؛ الأمر الذي يزيد من حالتها النفسية السيئة؛ فالزوج بهذا الشكل لم يكن يحبها هي، ولم يكن يعيش معها بقدر ما كان يعيش مع ماضيه وامرأته السابقة التي ماتت، أي أن الحياة الزوجية الهادئة المستقرة السعيدة منذ خمسة وأربعين عاما، لم تكن كما تظنها هي، بل كانت وهما كشفه له عبء شبح الماضي الذي ظهر بينهما فجأة.
لعل حالة الألم الحقيقي للزوجة تتضح لنا حينما تسأله ذات ليلة: "أريد أن أسألك سؤالا قبل خلودك إلى النوم، لو لم تكن قد ماتت ووصلتما إلى إيطاليا، هل كنت ستتزوجها حقا؟"، فيرد عليها الزوج بصدق:"أجل، كنا سنتزوج"، هنا تخبره "كيت"/ الزوجة بصرامة: أعتقد أني لا أستطيع الحديث عنها بعد الآن".
هذا الانتباه للتفاصيل من قبل الزوجة يتضح لنا في المشهد المهم الذي رغب فيه الزوج في مضاجعة زوجته، وبينما هما منهمكان في حبهما تلحظ أنه يغلق عينيه؛ فتطلب منه أن يفتحهما؛ ومن ثم يفقد انتصابه معها؛ الأمر الذي يؤكد لها أنه يعيش مع حبيبته التي ماتت وليس معها هي؛ ومن ثم فهو بالتأكيد كان يتخيل الأخرى؛ الأمر الذي أفقده انتصابه بمجرد خروجه من الخيال.
يرغب المخرج أندرو هيج التأكيد على أن السعادة الزوجية بين كل من جيف، وكيت التي يراها الجميع كانت مجرد سعادة ظاهرية فقط، بينما هما في الحقيقة لا يربطهما أي شيء، أي أنهما متباعدان تماما عن بعضهما البعض؛ لذلك جعلهما لا يمتلكان أي صور شخصية تجمعهما معا رغم حياتهما كل هذا العمر، كما أنهما لم ينجبا، أي أنهما يكادا يكونا منفصلين في حقيقة الأمر.
تحاول "كيت" ذات مرة الصعود إلى الخزانة العلوية لمعرفة المزيد عن ذكريات زوجها، وهناك تجده يحتفظ بالزهور الذابلة التي كانت تحبها "كاتيا"، كما تجد العديد من الصور لها لتكتشف أنها كانت حاملا قبل اختفائها في عمق النهر المتجمد، وهو ما لم يخبرها به زوجها من قبل، أي أنها عاشت معه حياة طويلة كغريبة لا تعرف شيئا عن ماضيه الذي بدأ يجثم عليهما كشبح ثقيل الظل قبل الاحتفال بعيد زواجهما بأيام.
تحاول "كيت" التماسك والاستمرار في التحضير لعيد زواجهما، واختيار الأغنيات التي ستكون في هذه المناسبة بينما ترى تحولات زوجها السريعة منذ جاءه هذا الخطاب، وحياته معظم الوقت شاردا في الكثير من الذكريات، إلا أن النقطة الفاصلة بالنسبة للزوجة حينما ذهبت إلى مكتب السفريات في المدينة لتكتشف هناك أن زوجها سأل عن إمكانية سفره إلى سويسرا، أي أنه كان يفكر جديا في السفر من أجل رؤية جثمان "كاتيا"، وهو الأمر الذي جعلها تنفصل عنه نفسيا انفصالا حقيقيا، ومواجهته بأنه لم يكن يعيش معها، بل يعيش مع حبيبته السابقة، ومن ثم عددت له الكثير من التفاصيل التي كانت تظنها حقيقية ومعبرة عن حبه لها بينما كانت هذه التفاصيل في حقيقتها معبرة عن حبه لحبيبته السابقة، أي أنه كان يحيا معها خمسة وأربعين عاما من الكذب والتضليل.
يؤكد "جيف" لزوجته أنهما سيبدآن حياتهما من جديد معا، وأنه يحبها كثيرا، وبالفعل في اليوم الثاني يُعد لها إفطارها بينما هي في الفراش، ويبدآن في الاستعداد لحفل زواجهما الخامس والأربعين، وأثناء قوله كلمته في الحفل يؤكد لجميع أصدقائهما أن القرار الصائب الوحيد الذي اتخذه في حياته هو قدرته على إقناع "كيت" بالزواج منه، ويخبرها أنه يحبها كثيرا، ويبكي أمام الجميع متأثرا باعترافه وحبه لها.
تشعر الزوجة بالكثير من التأثر، ويقومان من أجل الرقص، لكننا نلاحظ أنه في الوقت الذي كان فيه "جيف" سعيدا سعادة جمة، وقد عادت إليه الحيوية بينما يرقص مع زوجته بابتهاج، يهتم المخرج بالتركيز على تفاصيل ملامح الزوجة التي ترقص معه من الخارج، أي أنها لا تعيش معه، بل تتأمله من الخارج بنظرات طويلة عميقة وكأنه غريب عنها لا تربطها به أي علاقة سابقة.
هنا فقدت الزوجة تماما الارتباط النفسي الذي يربطها بزوجها الذي يرغب في العودة إليها ليعيشا حياة حقيقية وسعيدة، بينما هي غير قادرة على التكيف معه، وتراه غريبا عنها.
ربما كان أهم ما يميز فيلم 45 years انتباه مخرجه- الذي كتب السيناريو أيضا- أندرو هيج إلى الكثير من التفاصيل الصغيرة التي قد لا ينتبه إليها الكثيرون باعتبارها غير مهمة في تطور السيناريو رغم أنها من أهم ما يحرك الحدث الفيلمي، منها الاهتمام الجم من قبل "كيت" بزوجها؛ فنراها تتعامل معه كل الوقت بحنان واهتمام سابغ وكأنه طفلها، كأن تطلب منه الانتظار قبل هبوطه من السيارة؛ لتصفف له شعره بأصابعها ويبدو بشكل جيد، أو الاهتمام بجرح إصبعه وعنايتها به، أو سؤاله حينما عاد من خارج البيت عن تناوله لأدويته اليومية- رغم أنها كانت قد عرفت لتوها أنه قد ذهب لمكتب السفريات للسؤال عن إمكانية السفر إلى سويسرا-، كل هذه التفاصيل الصغيرة والمهمة في الفيلم كانت من أهم عوامل نجاحه، بالإضافة إلى التفاصيل الأخرى التي أكدت لها أن الحقائق بينها وبين زوجها لم تكن في جوهرها حقائق تُعبر عن حبه لها بقدر ما كانت تُعبر عن حبه لحبيبته السابقة فيها.
يُعد الفيلم الإنجليزي 45 years من الأفلام التي تُراهن على المشاهد ذي الحساسية الفائقة؛ نظرا لأن الفيلم قد يبدو للمشاهد العادي مجرد فيلم عادي عن زوجين عجوزين يحتفلان بزواجهما ويتذكران بعض التفاصيل، إلا أنه من الأفلام التي تشتغل على المشاعر العميقة وأهمية التفاصيل الصغيرة في حياتنا.



محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد يونيو 2018م



السبت، 16 يونيو 2018

هيا نشتر شاعرا.. أن تحيا "كروبوت"

ما معنى أن تعيش في عالم رأسمالي لا تعنيه سوى الأرقام، ومعدلات النمو الاقتصادي، والتحرك في الحياة فقط من أجل معايير الربح والخسارة؟ وماذا لو استمر تقدم الإنسان بمثل هذه الوتيرة التي نراها حولنا يوما بعد يوم؟
لاشك أن تقدم الإنسانية على المستوى التكنولوجي يؤدي بها يوما بعد آخر إلى المزيد من الرغبة في الوحدة، والجفاء، وتجاهل المشاعر، أو السخرية منها باعتبارها غير عملية، وغير منتجة، كما يؤدي هذا التقدم الكبير إلى قطيعة في  العلاقات بالآخرين، أو تحولها إلى مجرد علاقات نفعية تعتمد على مدى الفائدة المرجوة من العلاقة، أو الإنتاجية التي ستفرزها هذه العلاقات ومدى فائدتها وغير ذلك، حتى على مستوى المشاعر ستكون محكومة في المقام الأول بالأرقام والتقارير كأن نُحدد كم مليمتر من اللعاب استهلكته حينما قبلت هذه الفتاة مثلا، أو كم مليمتر من السائل المنوي أفرزته حينما ضاجعت أخرى، وهكذا.
هذا التشيؤ لكل شيء في حياتنا هو ما يمكن أن نصل إليه إذا ما استمرت وتيرة التقدم، والانحياز للرأسمالية وعلاقات النمو والإنتاج، والطفرات التكنولوجية التي يشهدها المجتمع الإنساني التي تسير بخطوات سريعة نحو تدمير الإنسانية أكثر من إفادتها، ولعلنا نلمح ظلا من هذا المستقبل الكابوسي اليوم من خلال التقدم التكنولوجي الذي جعل الإنسان مكتفيا اكتفاءً يكاد يكون كاملا بالإنترنت أو بالهاتف المحمول في كل علاقاته بالبشرية، حتى مع أسرته التي قد يحادثها من خلال الإنترنت وبرامج الاتصال الجديدة رغم أنه يعيش بينهم وعلى بُعد عدة خطوات قليلة منهم قد لا تتجاوز الخمس خطوات، لكنه يُفضل الاتصال بمن هم حوله من خلال وسائل الاتصال الحديثة مستغنيا في ذلك عن العلاقات الحميمة والجلوس معهم، أو التعامل المباشر.
ربما إذا ما فكرنا مليا بما سوف تؤدي إليه هذه الطفرات في التقدم سنتخيل عالما كابوسيا لم يكن ليتخيله كتاب الخيال العلمي من قبل، أو بالأحرى أن العالم الذي نحياه الآن وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل إذا ما كان أحد الكتاب قد صوره من قبل لقلنا أنه يتمتع بخيال فائق، وأنه يستحق جائزة على هذا الخيال الذي ينقلنا إلى هذا العالم الشديد البرودة والاصطناع والجفاف، لكن الحقيقة أننا بالفعل دخلنا إلى هذا العالم ونجتاز فيه مسافات شاسعة كل يوم.
لعل التفكير في مثل هذا العالم المتحول هو ما دفع الروائي البرتغالي أفونسو كروش إلى كتابة روايته "هيا نشتر شاعرا" التي ترجمها للعربية المترجم عبد الجليل العربي، والتي صدرت عن دار مسكلياني التونسية، لكننا نلمح أن الرواية رغم طرافتها الفعلية، ورغم أنها تأتي كصرخة تحذيرية من المأزق الذي دخلت إليه الإنسانية وتستمرئه، إلا أنها تكاد تكون رواية مصنوعة، جافة، لا روح فيها، ولا عفوية في السرد الروائي، بل هناك تقصد وتعمد كبير في الكتابة يجعل السرد أحيانا ثقيلا ومملا رغم قصر الرواية، لا بسبب العالم الجاف البارد المصنوع الذي يتحدث عنه الروائي، بل لأن المؤلف تأمل الكارثة التي تسير باتجاهها البشرية ثم أراد أن يُعبر عن هذه الكارثة روائيا؛ فكتب هذه الرواية الطريفة التحذيرية التي اكتسبت جفافها من جفاف عمدية الكتابة وليس من جفاف العالم الذي يتحدث فيه الروائي.
العالم الروائي في المطلق لا يمكن أن يكون عالما قصديا متكلفا، بل لابد من أن يكون فيه قدر كبير من العفوية السردية؛ وهذه العفوية هي التي تُكسب العالم الروائي جدته وطرافته، وحميميته، وصدقه، فإذا ما فقد السرد الروائي عفويته وبدأ من تعمد الكتابة، أي بدأ من سيطرة الفكرة المجردة على ذهن الروائي؛ الأمر الذي يجعله يقول: لابد من صياغة رواية تُعبر عن هذه الفكرة، هنا تسقط الرواية تماما في السطحية، والجفاف، وصعوبة السرد، وعدم قدرة المتلقي على التعاطي مع عالمها مهما كان طريفا. وهذا ما فعله أفونسو كروش في روايته التي كان من الممكن لها أن تكون من أجود الروايات، إلا أن الصنعة والعمدية في السرد كانت واضحة كثيرا؛ مما أفقدها الكثير من الخصوصية والحميمية التي يشعرها القارئ مع العمل الروائي، لاسيما أن هذه الصنعة أدت إلى صعوبة إغلاق السرد، أي أن الروائي وجد صعوبة في وضع نهاية حقيقية لهذا العالم الذي صنعه ودخله متعمدا؛ فلم يجد سوى مجموعة من التقارير والمقالات التي تتحدث في الموضوع الذي يكتب عنه كي يُثبت من خلال هذه التقارير أهمية الثقافة في صناعة المجتمعات، وأهمية الاستثمار في الثقافة معتمدا في ذلك على التجربة البرتغالية التي كان استثمارها في الثقافة مفيدا ومربحا كثيرا في رغبة من الروائي أن يقول: إن تهميش الثقافة باعتبارها غير منتجة هي فكرة غير صحيحة؛ لأنها إذا ما تم الاستثمار فيها سوف تقدم الكثير من المردود.
إن تشيئ كل مفردات المجتمع يؤدي إلى تقطع أواصر الصلة بين الجميع، لدرجة أن المجاز في الحديث، أي الاستعارات، والتشبيهات، والكنايات وغير ذلك من الأدوات التي تؤدي إلى تشكيل الصور في اللغة والحديث تبدأ في الزوال الكامل؛ لتغدو العلاقات التي تربط المجتمع هي علاقات النمو والإنتاجية فقط، ولعل زوال الاستعارات والتشبيهات تماما من حياتنا هو ما يجعل المجتمع ينظر إلى الشعراء، والفنانين، والكتاب باعتبارهم كائنات لا ضرورة لها؛ لأنهم لا ينتجون شيئا ماديا ملموسا يؤدي إلى المزيد من النمو الاقتصادي، بل إن إنتاجهم غير ملموس وبالتالي لا قيمة له. هنا يتحول المفكرون والفنانون، والشعراء، والكتاب وغيرهم إلى عبء لا ضرورة له في المجتمعات؛ لأنهم غير فاعلين فيه من خلال علاقات الإنتاج، وهذا ما يريد الروائي التعبير عنه في روايته، أي نظرة المجتمع إليهم؛ ومن ثم طلبت الفتاة المراهقة الصغيرة من والديها أن يشتريا لها شاعرا: "أود أن يكون لي شاعر. هل يمكن أن نشتري واحدا؟ أمي لم تقل شيئا، انشغلتْ بجمع الأطباق؛ أربعة صحون شوربة، أربع ملاعق شوربة، ثم أعلمتْ الحضور بأن تقديم اللحم سيكون خلال ثلاثين ثانية. أما أبي فما إن انتهى من مضغ قليل من الخبز، حوالي ثلاثة عشر جراما. حتى حرك فكيه خمس مرات ثم أجاب: ولماذا لا يكون رساما؟ قالت أمي: هذا مستحيل، إنهم يخلفون كثيرا من الأوساخ، فالسيدة 5638,2 لديها واحد منهم ويلزمها ما بين ثلاث ساعات إلى أربع لتنظيف الوسخ الناجم عن استعماله الألوان في تلك الأشياء البيضاء"، ربما نلاحظ هنا أن سيطرة علاقات الإنتاج على المجتمع الرأسمالي قد دفعت هذ المجتمع إلى التسمي بمجموعة من الأرقام مثل السيدة 5638,2، وهذا ما سنراه مع جميع شخصيات الرواية، فلم تكن هناك شخصية واحدة لها اسما طبيعيا، بل مجموعة من الأرقام فقط، ربما تدل على مدى إنتاجية صاحب الرقم من عدمه، ومدى فائدته لمجتمعه، كما نلاحظ أيضا أن المجتمع بدأ يُفاضل بين الفنان والشاعر والنحات وغيرهم باعتبارهم مجرد "حيوانات داجنة وأليفة" من الممكن أن توضع في المنازل كديكور أو لتزجية أوقات الفراغ والاعتناء بهم كالببغاء، وأسماك الزينة وغير ذلك.
هذا التعامل مع الكتاب باعتبارهم ديكور أو زينة نلاحظه في: "أشار أبي إلى الشاعر الأخنف الذي تفتقر ملابسه إلى أسماء ماركات راعية، وسأله إن كانت تلك النسخة مُخربة. وهي الخاصية الأكثر شيوعا بين الشعراء وتضاهي العنف لدى الكلاب. أجاب صاحب المحل: أقل من اثنين في المائة. من الضروري دائما أن يكون لديهم قليل من التخريب وإلا فإن القيمة الشعرية لديهم تنزل كثيرا ولا تُحقق أرباحا، فلا يشتريهم أحد، وينتهي بهم الأمر إلى راقصين أو هامسترز. وماذا يأكل؟ أي شيء. ليسوا متطلبين كثيرا. في أغلب الأحيان، وبعد مرورهم بثلاث حالات خاصة بهم أو أربع في الأسبوع، يصلون إلى درجة نسيان الأكل تماما. بعضهم يغادر الطعام عند المنتصف ويهيم من دون وجهة. يحدث لهم ذلك كثيرا عند غروب الشمس أو ظهور القمر أو الضباب، وهذا سلوك معهود وتقليدي لديهم. لا تستغربوا إن رأيتموهم واقفين لمدة طويلة وكأنهم يقومون بحسابات ما. لا، ليسوا كذلك، فهم أبسط من أن يقدروا على عملية حسابية بسيطة. تلك الوقفات هي بالضبط اللحظات التي يبدأون فيها بخلق القصائد في أذهانهم. إنها عملية باهرة. لن تندموا إن اشتريتم شاعرا، فضلا عن أنهم أكثر نظافة من الرسامين"، فصاحب المتجر هنا لا يتحدث عن إنسان بقدر حديثه عن شيء يبيعه لا علاقة له بالحياة أو الإنسانية.
بسبب هذه النظرة إلى الفنانين والكتاب الذين لا ينتجون ما هو ملموس بالنسبة للمجتمعات الرأسمالية التي لا يهمها سوى الإنتاج والنمو المادي؛ تحول الإنسان إلى مجرد روبوت لا مشاعر فيه، ولا يعترف بها، بل يراها مجرد ترهات لا معنى لها، وأصبح كل ما يعنيه في حياته هو الأرقام التي يمكن له أن يحققها كإفادة له وللمجتمع المحيط به؛ ولعل هذا ما جعله ينظر إلى الكائنات الطبيعية كالكتاب والفنانين وكأنهم كائنات مندثرة منذ قرون أو أنها كائنات هبطت إلى الأرض من كوكب آخر. نلاحظ هذا الاهتمام الشديد بالأرقام في: "قطعنا ثلاثمائة واثنتين وأربعين خطوة من المحل حتى البيت. أنا وأبي والشاعر"، و"وضعتْ أمي الشراشف، وهي برعاية شركة لتصدير الخضار والفواكة. دارت حوالي أربعين درجة أو خمسين، انحنت قليلا، ضربت السرير ثلاث مرات بيدها اليمنى وهي تبتسم للشاعر"، كذلك الدقة التامة في: "جلسنا حول المائدة. وكانت من خشب الماجنو، وفوقها ثريتان من القصدير، وشمعتان موقدتان، وغطاء برعاية عطور فراغنس تراي تراي أوريانتال  Fragance tres tres oriental 2.1، وصحون وملاعق ومناديل لأحد عشر شخصا وللتفصيل: أمي، وأبي، والشاعر، وأخي، وستة ضيوف سأقدمهم حسب توقيت وصولهم أو بالأحرى، الضيف 1، الضيف 2، الضيف 3، إلخ.. ترتيب عددي إذن. جنس الضيوف غير مهم؛ لذلك لن أشير إليه. يتكون العشاء من مقبلات (مائة جرام من عجين الكبد، وخمس عشرة قطعة خبز متنوعة بحوالي 30 جراما لكل قطعة)، شوربة قرنبيط، حوالي مائتي مليمتر في كل صحن، وسمك السالمون طبقا رئيسيا، قطع من مائة وخمسين جراما من السمك المربى مع خضار سوتيه في زيت السوجا (حوالي عشرين مليمترا من الدهون غير المشبعة)، سِنّا ثوم، وفلفل وملح"، من خلال هذا الاقتباس يتأكد لنا أن الحياة في مجتمعات الإنتاج الرأسمالي ليست سوى حياة لا معنى لها سوى الأرقام، أي أنها حياة جافة، باردة، ميتة تماما.
أفونسو كروش
هذه البرجماتية التي تنشأ في المجتمعات الرأسمالية وتقتل في الإنسان كل معاني الإنسانية، هي ما تجعله يبتعد رويدا عن المجاز، والتشبيهات، والاستعارات، والمشاعر باعتبارها أمور غير ملموسة؛ ومن ثم فهي لا فائدة منها ما دامت غير مادية؛ لأنها لن تُغير في علاقات الإنتاج المادي والنمو الاقتصادي، هنا تصبح هذه الأمور مجرد آثار مندثرة، وبابتعاد الإنسان عنها تماما تفقد التشبيهات والاستعارات معناها؛ حتى إنها إذا ما ذُكرت أمام أي فرد من أفراد هذا المجتمع الجديد لا يستطيع فهمها أو تفسيرها؛ فهو اعتاد الأمور المباشرة الواضحة التي لا تحتمل أكثر من معناها، أما ما يمكن له أن يحمل معنيين فلا يعول عليه؛ لذلك حينما مرّ والد الفتاة التي اشترت شاعرا بضائقة مالية أراد أن يعرض الأمر على أسرته ويوضح لهم أن مصنعه يتعرض للكثير من الخسارات؛ ولذلك لابد لهم من ممارسة سياسة تقشفية؛ فقال لهم: "علينا أن نبدأ إجراءات شد الحزام، صرح أبي. لم أفهم البتة ما معنى هذا، قال أخي. ماذا؟ شد الحزام. يعني علينا ألا نفرط في المشتريات، وعلينا أيضا أن نقتصد، وندخر، ونخفض المصاريف"، ولكن لأن المجتمع لم يعد يستخدم الاستعارات والتشبيهات في مجتمع لا يعنيه سوى الأرقام المباشرة؛ ومن ثم استغنى عن المجاز، هنا لم تفهم الفتاة أو أخوها ماذا تعني جملة "شد الحزام"؛ لذلك تسأل والدها: "أعرف ذلك، ولكن ما دخل الحزام في الموضوع؟ أليست وظيفته شد السروال؟"، هنا نلاحظ أن المجاز انتهى تماما من حياة هذه المجتمعات باتجاه المباشرة التامة، رغم أن المجاز هو الذي يخلق الحياة والخيال، أي أن المجتمع بات مجتمعا من دون خيال أو تصورات تماما؛ لذلك يرد عليها والدها: "إنه لفظ أثري. ربما، في قديم الزمان، كان الحزام صالحا لمنع الاستهلاك"، ورغم إجابة الأب لابنته إلا أنها لم تكن إجابة شافية، أو موضحة، أو كاملة؛ فهو لم يبحث في الأمر من قبل كي يعرف سببه، هو مجرد "لفظ أثري" بالنسبة له، ولم يعنه أن يعرف ما هو سببه، أو كيف نشأ.
هذا الاهتمام الجم بعلاقات رأس المال هو ما جعل الفنون والمشاعر مجرد أشياء لا قيمة لها، أو أثرية، في مجتمعات اعتادت على الجفاف ولم تعد قادرة على استيعاب الفن والمجاز، وهو ما جعل الفتاة وغيرها من أفراد المجتمع حريصين على اقتناء الفنانين باعتبارهم وسيلة مهمة لاعتدال مزاجهم، وهذا ما تؤكده الفتاة: "أريد أن يكون لدي شاعر، فما المشكلة؟ هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسام، أو راقص، أو ممثل، أو حتى شاعر، يساعد على مقاومة الضغط، ويخفض من الكوليسترول، وهو ما يجعلنا مواطنين وموظفين أكثر إنتاجية وأكفاء ومركّزين".
إن عدم الاعتداد بالمجاز هو ما يجعل الفتاة والمجتمع يرون في مجاز الشعراء مجرد كذب: "منذ قليل بدأت أفهم ماذا كان الشاعر يقول، ولم أجد في ذلك أي رطانة، بل سمعت كلاما حقيقيا. ولكن مرّ وقت طويل لأفهم تلك الأكاذيب"، لذلك حينما يؤكد لها الشاعر أن هذا مجرد مجاز تندهش لترد عليه: "آسفة، ولكن الحذاء ليس قفازا عاشقا للأيدي الخطأ. في العالم الذي نعيش فيه كلنا يسمي ذلك كذبا ويعتبره شيئا قبيحا جدا، وقد تُسحب منا نقاط كثيرة من السيرة الأخلاقية".
لكن المفاجأة هي أن تتأثر الفتاة بالشاعر وتبدأ تتحدث بالمجاز مثله، وهو الأمر الذي سيجعلها غريبة على مجتمعها ويعرضها للكثير من السخرية، وإن كان مجاز الشاعر سيؤثر على الأسرة بالكامل؛ فتبدأ الزوجة تشعر بضرورة أن يكون لها رأي وموقف بعدما كانت مستسلمة تماما لرغبات زوجها فقط مطيعة له، وهنا ستطلب منه الطلاق، كذلك الزوج الذي يمر بمشاكل مادية حقيقية في مصنعه أثرت على الإنتاج وأدت للكثير من الخسائر سيتأثر بالشاعر ويستعمل التدفئة داخل المصنع؛ مما يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمال الذين كانوا يعملون تحت درجات حرارة منخفضة أثرت على إنتاجيتهم، كما أن شقيق الفتاة جعل الفتاة التي يحبها تهتم به من خلال عبارات مجازية أملاها له الشاعر؛ فأعجبت بها الفتاة ومن ثم اهتمت بالفتى، كل هذه التغيرات نحو الأفضل كان مجاز الشاعر هو السبب فيها، رغم أنه حينما رسم نافذة على الجدار فوق سريره، وأكد لهم أنه يرى من خلالها البحر ويشم نسيمه؛ اعتبروه مجنونا وكل ما فعله أنه أوسخ الحائط بما فعله، في حين أنه كان يتغلب على جفاف الواقع من خلال خياله الذي يجعله يرى البحر في نافذته التي يراها بخياله، وهذا الخيال هو القاسم الأساس الذي يجعل الفنانين دائما ما يتغلبون على مشكلاتهم الكبيرة؛ فحينما أكد لهم الوالد أنه لابد من التقشف حاول الشاعر استعمال خياله من أجل الفتاة التي تقتنيه: "بدأ الشاعر في تجسيم بيت شعري بالسباجيتي. فقسم بأصابعه العجين وفصله حتى كوّن كلمة. قرأت: محار. تفضلي بالأكل آنستي، قال مشيرا إلى "المحار". لا. شكرا. ثم شرع في تفصيل السباجيتي حتى كوّن كلمة "لحم": هل تفضلين لحما؟".
هذا الخيال الناجح هو ما جعل الوالد يتغلب على مشكلاته المادية والخسارات الفادحة في الإنتاج لمصنعه حينما استعان بخيال الشاعر دون وعي، أي أن خيال الشاعر كان هو السبب الأساس في إنقاذ المصنع: "فتشتُ مكتبه بحثا عن آثار تُفسر تلك الطريقة المبتكرة في حل مشكلة اقتصادية عويصة. وجدتُ في أحد جيوب أبي، المليئة بالحسابات والأرقام، كتابة بقلم رصاص على منديل ورقي: "القبلة هي الأنجع لحرارة الجسم". ذلك هو السبب. نعم، أنا متأكدة. قال الشاعر هذا البيت لأبي، وربما كتبه هو بنفسه، وفجأة ظهرت الفكرة فتفاعل الاقتصاد معها إيجابا. واليوم، في كل أنحاء البلد هناك متصرفون واقتصاديون يستعملون التقنية نفسها: إذا كان العمال يعملون تحت درجة حرارة لطيفة ومناسبة فإنهم ينتجون أكثر. وها هم الآن يستعملون التدفئة في كل مكان. كل الدراسات تُجمع على أن وفرة الإنتاج تغطي تكاليف الاستثمار في التدفئة وما يتبعها من استهلاك يومي للطاقة".
لكن رغم تأثر حياة الأسرة بالكامل بالشاعر واستفادتها منه إلا أن الوالد يُصرّ على التخلص منه تماما وتركه في أحد الحدائق، لكن المشكلة الحقيقية التي ظهرت للروائي البرتغالي أفونسو كروش حينما نسج عالمه الروائي المصنوع من أجل التحذير من خطر الرأسمالية وعلاقات الإنتاج، والتقدم. وبعدما أوصل الروائي رسالته التي يرغب في إيصالها، أي التحذير من هذا العالم، وقع في كيفية إغلاق هذا العالم الذي بدأه؛ فلم يستطع أن ينهيه روائيا، ولعل هذا ما يؤكد لنا أن الفن حينما يكون سبيلا لإيصال رسالة بشكل عمدي يتحول إلى شيء فاشل، أو فني تلقيني، أو مصنوع ومن ثم يفقد جمالياته التي يتميز بها، وهنا لجأ الروائي إلى كتابة فصل بعنوان "ما يشبه الخاتمة" لم يكن له أي علاقة بالسرد الروائي، أو بالرواية كلها إلا من حيث الفكرة؛ فالروائي لجأ إلى مجموعة كبيرة من الأخبار والتقارير والتجارب التي تؤكد أهمية الاستثمار في الثقافة، وأن الثقافة رغم أنها لا تنتج شيئا ماديا من الممكن لمسه إلا أنها إذا ما تم الاستثمار فيها فإنها تكون مربحة كثيرا كما تؤكد التجربة في البرتغال، ولعل هذا الفصل الأخير ما يُدلل على أن الفن المصنوع لا يمكن أن يكون فنا أصيلا؛ ومن ثم يفقد سحره، كما أنه أثر بالسلب على العمل ككل رغم طرافته.


محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد إبريل 2018م