ربما كان هناك العديدون من
الساردين الذين تتملكهم شهوة الرغبة- التي لا يمكن مقاومتها- في السرد؛ فيبدأون في
الكتابة السردية حتى لو لم تكن في أذهانهم الفكرة السردية المكتملة أو الناضجة،
وكأنما الأمر يشبه حالة من الفيضان الذي لا ينتهي لدى السارد، ورغم أن هذا السارد
يمتلك الكثير من مقومات الكتابة الإبداعية من لغة، وعالم إبداعي، وأسلوبية، وبناء،
إلا أن كتابته قد تؤدي به في النهاية إلى الفراغ الذي يجعلنا نتوقف كثيرا بعد
الانتهاء من قراءة العمل لنتساءل: ما الذي رغب الكاتب هنا قوله، ولم كان كل هذا
المجهود، أو هذه الرغبة في الكتابة التي أدت بنا في نهاية الأمر إلى الفراغ؛
لتتركنا في حالة حقيقية من الدهشة غير قادرين على اتهام الكاتب بأنه خال من
الموهبة، أو غير قادر على بناء عالم إبداعي حقيقي، لكننا في نفس الوقت غير قادرين
على التأكيد بأن هذا العمل الذي قرأناه بمثابة عمل إبداعي متكامل أو جيد.
في قصة "حفرة
السيوف" ثمة مشهد قصصي نسجه الكاتب بمهارة لا يمكن إنكارها، أي أن الكاتب
امتلك العالم القصصي الذي أراد أن ينسجه، وهو بالفعل نجح في نسج هذا العالم، لكننا
نلاحظ أنه فشل في إغلاقه، أي أنه ليس لديه حسن التخلص مما بدأه فكان الأمر بمثابة
مشهد لا عمق فيه، حيث تتحدث القصة عن امرأة ترغب في بناء مسجد في قرية، وهو ما
يجعل أهل القرية يعرضون على عمال البناء الطعام والشراب والمساعدة، ولكن أهل
القرية يغضبون من العمال نتيجة وجود الكثير من زجاجات الويسكي الفارغة "تبرز
من خصرها صورة باهتة لسيفين متقاطعين"، ويتهمون العمال بأنهم يحتسون الويسكي
في الحين الذي يبنون فيه مسجدا، إلا أن رئيس العمال يؤكد لهم أن هذه الزجاجات
الكثيرة يجدها العمال أثناء الحفر وهو يأمرهم بإعادة دفنها مرة أخرى، ويحدث أن
يذهب إلى مكان العمل رجل كبير في العمر ليخبر رئيس العمال أن هذا المكان الذي
يحفرون فيه كان عبارة عن مقبرة لزجاجات الويسكي منذ زمن بعيد وأنه كان شاهدا على
ذلك، وأن معظم من شاركوا في هذا قد تابوا أو توفاهم الله، لكن السيدة التي تنفق
على بناء المسجد تعلم بالأمر وتأمر بتوقف البناء في هذا المكان والبحث عن مكان آخر
للبناء فيه.
محمود الغيطاني
أي أن هذه الحالة من الفيض
السردي تترك العمل الإبداعي في نهاية الأمر في منطقة وسيطة بين الجودة والاكتمال
من جهة، وبين الفراغ الذي لا يمكن أن نُطلق عليه ضعفا فنيا بقدر ما يمكن أن نُسميه
عدم الاكتمال.
مثل هذا الكاتب في حقيقة أمره
هو مبدع حقيقي، قادر على بناء العالم الفني الذي يريده، ويمتلك من أدوات الكتابة
ما يساعده على الكثير من الإبداع، لكنه تتملكه حالة من الرغبة في الكتابة فقط، حتى
لو لم يكن يمتلك عالمه الإبداعي الذي بدأ فيه بشكل كامل؛ مما يؤدي به في النهاية
إلى مثل هذه الحالة التي تحدثنا عنها، وهي حالة من الممكن أن نُطلق عليها تجاوزا:
حالة البين بين، أي أنه في المنطقة المتوسطة التي تجعلنا في حالة عدم اليقين من اكتمال
العمل أو نقصانه؛ فثمة شعور مقلق ينتابنا دائما تجاه عمله يؤكد لنا أن هذا العمل
ينقصه شيء ما رغم وجود أدوات السرد الإبداعي.
هذه الحالة من الكتابة
الشهوية –إذا جاز لنا التعبير- هي ما يمكن أن نلاحظه في المجموعة القصصية "لم
يكن ضحكا فحسب" للقاص العُماني محمود الرحبي؛ فثمة حكاية غير مكتملة معظم
الوقت حتى أننا بمجرد انتهائنا من قراءة كل قصة من قصص المجموعة نعود إليها مرة
أخرى للتأكد من أن شيئا لم يفوتنا فأدى بنا إلى هذا الفراغ أو الشعور بعدم
الاكتمال.
إذا ما تأملنا القصة التي
تحمل اسم المجموعة سيتأكد لنا أن هناك عالما قصصيا بالفعل لا يمكن أن ينكره أحد،
كما أن القاص هنا يمتلك أسلوبيته ولغته التي تخصه من خلال عرض الراوي لماضي أحد
الشعراء الذي طلب أن يقابله كي يهديه ديوانه الوحيد في الشعر العمودي، ومن خلال
عبارة "سجن الجلالي" التي قرأها الراوي مذيلة في نهاية إحدى القصائد
ينطلق السرد إلى الماضي من خلال حكي الشاعر للسارد عن ماضيه الذي قضى منه فترة
طويلة من عمره في هذا السجن المرعب الذي كان يخافه الجميع بسبب حكايات التعذيب
فيه: "حيث كان يُنسى المسجونون معلقين على حافة هاوية؛ سنين طويلة يتوقف فيها
الزمن في الظلام ويمحى الكلام، ويتحول اليوم الواحد إلى ألف ساعة سوداء لا بريق
يلوح في نهايتها، وأيام من الضجر يُشكل فيها عبور صرصار محمولا على أكتاف حشد من
النمل حدثا لا يُنسى".
يتحدث الشاعر عن الويلات التي
لاقاها في سجن الجلالي ويصف الحياة فيه: "كان سجنا رهيبا، حتى إن ابتكار نكتة
أو طرفة يكلفك غاليا؛ فذات يوم صرخت على أحد الجنود، من باب الدعابة، بعبارة
يكرهها "ديك مزة"، ولكن ما إن طرقت أذنيه حتى أخبر الضابط، الذي أمر
بحجزي في زنزانة منفردة من القلعة، فعشت أياما وأنا أسبح في ظلام مطبق، إذ إن
الزنزانة لا يصلها الضوء؛ وإذا قُتح الباب فإن بصيصا منه يتسلل وبالكاد يصل إلى
حافتها"، ثم يتحدث عن ذكرياته حينما تم نقله هو وزملاءه إلى السجن المركزي
بالرميس بعد سنوات وكيف كانت المداخل والمخارج الواسعة والنظيفة لهذا السجن تصيبهم
بالضجر؛ حيث كانت الأقبية متباعدة؛ مما جعل لقاءات المساجين متباعدة.
يتحدث الشاعر فيما بعد عن
حالته حينما خرج من السجن وبدأ في رحلة البحث عن عمل: "واجهت صعوبة. كنت
أُورفض بمجرد ما تُسمع سيرتي، وقد مر وقت طويل قبل أن أجد عملا في غرفة التجارة
والصناعة. ثم تم الاستغناء عني، لأجدني أعاود البحث. وفي وزارة الإعلام لم أمكث
سوى شهور قليلة قبل أن يتم تسريحي لدواعي أمنية. وذات يوم كتبت رسالة إلى وزارة
الداخلية أطلب فيها عملا. تركت في ذيل الرسالة عنوان سكني في منطقة "دار
سيت" حيث استأجرت غرفة"، لتنتهي حكايته بقوله: "وهكذا ظللت أعمل في
وزارة الداخلية حتى تمت إحالتي إلى التقاعد".
قد نلاحظ من خلال هذه القصة
شيئا من السخرية المريرة التي يرغب الرحبي في نقلها لنا، حيث لاقي الشاعر الكثير
من العذاب والهوان في العديد من السجون على يد الداخلية، لكن السخرية تتضح في أنه
لم يستقر في عمل من الأعمال إلا من خلال وزارة الداخلية والعمل فيها، أي أن الجلاد
هو من ساعده على الحياة فيما بعد، ولكن أين يكمن النقص هنا؟
إذا ما كان الرحبي قد اكتفى
من السرد بذلك، أي سرد الماضي لهذا الشاعر ومعاناته ثم تكون النهاية هي المفارقة
في عمله في وزارة الداخلية لكانت القصة هنا مكتملة؛ فالقصة فيها الكثير من
الإنسانية ورغبة الشاعر في التغلب على ماضيه القاسي، لكن المؤلف أكد غير مرة على
أن الشاعر حينما كان يحكي، أو ينتقل من مرحلة زمنية إلى أخرى كان يفصل ذلك بفاصل
من الضحك غير المبرر، فحينما قال له الراوي: "ما كنت أعرف أنك سجين قلعة
الجلالي"، كتب الرحبي: "استجابة لجملتي، أرسل عدة قهقهات من صدره متبوعة
بسعال"، وسنلاحظ هنا أن الضحك لا مبرر له، ولكن من الممكن أن نتجاوزه بدعوى
أنه احتار في شرح الأمر فتغلب على حيرته بهذا الضحك، لكنه عاد في مقطع آخر ليكتب:
"بعد أن هدأت سعلاته، أخرج حروف كلماته ممزوجة بالضحك. وكأن الحديث عن الماضي
لا يستقيم بدون هذا الشعور، فعبث المصير القاسي لا يمكن استدعاؤه بالحسرة وحدها،
وإنما بالسلاح الأكثر فاعلية.. الضحك"، ثم يقول مرة ثالثة حينما يخبره الشاعر
بأنه كان يعمل في وزارة الداخلية: "ختم عبارته الأخيرة (التي لا أظن أن فيها
ما يمكن أن يُضحك) بضحكة مديدة أطالتها دفقات سعاله".
لا يمكن إنكار أن السارد حرص
على تأكيده على الضحك هنا أكثر من مرة، وهو ما كان من الممكن أن يستغني عنه وتظل
الحكاية مكتملة بالمفارقة في النهاية، إلا أننا نستطيع تبرير التركيز على الضحك
باعتباره مرارة كالعلقم يشعر بها الشاعر، وهو ما يجعله يضحك على ماضية البائس غير
المضحك، لكن الكارثة التي افتعلها الرحبي هنا أنه أفسد القصة بالكامل واتجه بها
نحو المباشرة والكشف وكأنه كان يشرحها للقارئ مفسرا لها في النهاية، أي أنه تحول
بها إلى التلقينية، أو محاولة اكتساب العبرة حينما كتب: "واتتني رغبة ملحة في
الكتابة، وتحديدا عن المعاني التي يمكن أن تخفيها تلك الضحكات التي كان يبثها بين
الجمل ويقطع بها مراحل الزمن برشاقة. فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت
أصابعي تنقر الحروف ببطء: لم يكن ضحكا فقط، إنما الزمن وهو يقفز برشاقة بين القيود
والجدران، لم يكن ضحكا فقط، إنما السخرية من سنين ظلت تكرّ معزولة خارج تقويم
الأيام، لم يكن ضحكا فقط، وإنما مقصا ماهرا يشذب ما علق في الذاكرة من أشواك، لم
يكن ضحكا فقط، وإنما عكازا قويا يسند أيامه الباقية كي تتقدم خفيفة في الظل".
من خلال هذه الخاتمة التي
اختتم بها الرحبي قصته يتضح لنا أنه أفسد السرد القصصي الذي كان مكتملا حينما بدأ
في مثل هذا الشرح، وهو الأمر الذي لم نكن في أي حاجة إليه لأننا انتبهنا إليه من
خلال المفارقة والسرد، ولكن يبدو أن المؤلف هنا يفترض عدم القدرة على الفهم لدى
القارئ؛ فلجأ إلى التأكيد الذي أدى إلى كشف القصة والنحو بها باتجاه المباشرة
والشرح حتى لقد بدا لنا الأمر وكأنه فيلم سينمائي دعائي يرغب من خلاله صانعه أن
يعطينا الحكمة والموعظة في النهاية فانطلق صوت في الخلفية ليلقننا هذه الحكمة
المستقاة من هذه القصة؛ ففسدت القصة والسرد الذي كان مكتملا، هذا فضلا عن التزيد
الذي لا داعي له في جملته: "فتحت جهاز حاسوبي، وعلى صفحة بيضاء بدأت أصابعي تنقر
الحروف ببطء"؛ فعبارة "على صفحة بيضاء" لا معنى لها، ولا محل لها
من الإعراب، وحذفها أوقع؛ لأنه بالتأكيد سيكتب على صفحة بيضاء، وإذا ما حذفناها
ستستقيم الجملة.
في قصة "نعمة دخول الجمل
إلى الحمام" يبدو لنا الأمر رغم تميز السرد بأنها مجرد قصة للناشئة كي يستقوا
منها الحكمة، أي أنها قصة من أجل التعلم مفادها الأمانة، أو كما قال السارد نفسه:
"سر الرزق، هو ألا يلمس مالا لا يخصه وأنه لن يتأتى لإنسان اكشاف هذا السر
بدون التسلح بسلاح القناعة"؛ حيث يحدثنا على لسان طفل عن عمه الذي كان يعمل
راعيا للأغنام لدى راع لديه ابن صغير، وحينما رغب هذا العم في الرحيل ومعه قطيع
صغير من الماعز على متن سفينة رفض ربان السفينة أن يصطحب معه هذا العم قطيعه؛
فتركه مع ابن الراعي ورحل، لكن السفينة تغرق بكل من فيها، وبعد سنوات طويلة يدخل
رجل على ظهر جمل إلى قرية "الحمّام" التي يسكن فيها الراوي ووالده،
ويعرفون من صاحب الجمل أنه ابن الراعي الذي كان يعمل لديه العم والذي ترك له قطيع
الماعز قبل أن يصعد على ظهر السفينة التي غرقت به، وأن هذا الطفل قد كبر واهتم
بقطيع العم الذي زاد عدده وبحث عن أخيه كي يسلمه أمانة الأخ الذي غرق منذ زمن، هنا
ينهي الرحبي قصته بما يلي: "أعرض أبي نهائيا عن فكرة الرحيل، وباع قطيع
الغنم، ثم قرر أن يرحل بنا إلى مطرح ليستأجر دكانا في سوقها، وهناك بدأت أكبر
لأساعده في العمل في الدكان. وفي آخر كل نهار، حين يبدأ التجار في شكر الله على
نعمائه ورزقه، كان أبي يشكره على نعمة دخول الجمل إلى الحمام، أمام اندهاش التجار
وحيرتهم".
أي أنها مجرد قصة تعليمية،
كما نلمح من خاتمتها أيضا أنها تحولت إلى مجرد طرفة لا غير من جهة أخرى حينما
يندهش التجار من الرجل الذي يشكر الله على "نعمة دخول الجمل إلى
الحمّام".
في قصة "غلام" نلمح
النقصان وعدم الاكتمال الذي يجعلنا نتساءل: لم كتب المؤلف هذه القصة من الأساس؟!
فالقصة تبدأ بالابن "غلام" الذي يقضي كل وقته في ساحة اللعب حيث يلعب
كرة القدم، وهذا ما يرفضه الأب حيث يرغب من ابنه الدراسة والعبادة فقط، ويرى أن
هذه اللعبة مجرد مضيعة للوقت، ولكن لأن الابن لديه من المهارات في اللعب ما لفت
نظر مدرب المنتخب الوطني العماني، فهو يتوجه إلى الأب كي يأخذ الإذن منه في السماح
لابنه في الانضمام إلى المنتخب، لكن الأب يرفض رفضا قاطعا قائلا: "أي كرة قدم
هذي؟ هذا جنون. شفتهم مرة يتقاتلوا على قطعة توفه ما يجي قيمتها ربع ريال. أروم
أشتري له وحد ويجلس مكانه في البيت"، لكن الكاتب يستمر في سرده قائلا:
"ضحكوا، وبرقت في ذهن المسؤول العُماني فكرة استحسنها والد غلام، إذ اقترح
عليه أن يجد عملا لغلام في مبنى الاتحاد وسيتكفل بنفسه بالتوسط له. وافق الأب
شريطة أن يصل إلى يديه راتب ابنه كل شهر".
بالتأكيد أن ما سيرد على ذهن
القارئ هنا أن المدرب الراغب رغبة حقيقية في انضمام الفتى إلى المنتخب الوطني نظرا
لمهاراته قد ادعى للأب أنه سيجد عملا لابنه في مبنى الاتحاد في حين أنه سيضمه إلى
المنتخب. هذا هو المنطقي والمعقول بعدما ساقه لنا الرحبي فيما قبل، لكننا نفاجأ
بالمؤلف يختم قصته بما يصدمنا في حقيقة الأمر ولا يمكن له أن يتسق مع القصة
ومقدماتها، أو حتى مع المنطق: "ومع مرور الأيام والأشهر، كانت تصل إلى مسامع الأب
الإنجازات التي يحققها غلام مع المنتخب وذلك المجهود الضخم الذي كان يذهب سدى
لزحزحة منتخب بلاده من مركزه الأخير، الذي ظل لا يبرحه سنين طويلة. ولكن الأب لا
يعلم أن العمل الذي أنيط لابنه في مبنى اتحاد كرة القدم لم يكن سوى طباخ للشاي
والقهوة، ومراسل في أحسن الأحوال"!!
بالطبع علامات التعجب هنا من
عندنا؛ فإذا ما كان المدرب قد قاتل في محاولة إقناع الأب لضم ابنه، لم أعطاه هذا
العمل في النهاية ولم يضمه إلى المنتخب؟ وإذا ما حاول البعض هنا القول: إن المؤلف
يقصد السخرية، فأي سخرية من الممكن أن يقصدها، وما هي المقدمات التي من الممكن أن
تدل على هذه السخرية أو المفارقة إذا ما كان يرغب في المفارقة؟ إن القصة في
النهاية تجعلنا نتساءل عن السبب الحقيقي في كتابتها، وما الذي دار في ذهن المؤلف
حينما بدأ فيها.
محمود الرحبي |
هذه هي القصة بالكامل التي لم
نفهم لم كتبها الكاتب، ولم أغلقها بهذا الشكل، وما سر السيفين المتقاطعين على
زجاجات الويسكي لاسيما وأنه ركز على السيفين أكثر من مرة، وجعلهما عنوانا لقصته،
بل وختمها بقوله: "تقدم منسحبا جهة الشاحنة التي امتلأت بالعمال، لكنه رجع
فجأة وطلب من عماله النزول وتناولوائ ما استطاعوا من زجاجات الويسكي المدفونة،
وبدأوا في كسرها. بدت السيوف التي تتعانق في الصور وكأنها تنهض عن صمتها لتُحدث
حرابها صليلا، والزجاج تطاير شظايا تحت أشعة الشمس الحارقة".
ربما كانت فكرة الكتابة
للناشئة أو كتابة القصص الوعظية التي يمكن استقاء الحكمة منها تسيطر على القاص
محمود الرحبي وهذا ما سنلاحظه مرة أخرى في قصته "ياسمين" التي يتحدث
فيها عن الفتاة الصغيرة "مريم" التي تبيع عقود الياسمين التي يزرعها
الأب وهو ما جعل الأطفال يطلقون عليها ياسمين ومن ثم طلبت منه تغيير اسمها إلى
ياسمين. فقد الأب زوجته في حادث منذ كانت ياسمين طفلة لا تتعدى ثلاث سنوات، ولم
يتزوج من أجل ابنته إلى أن أقنعه أخوه بأن الفتاة ستكبر وتتزوج لتتركه وحيدا؛
فتزوج من أرملة لها ابنتين، لكن الزوجة الجديدة لم تتعامل مع ياسمين باعتبارها
ابنتها بل كانت تعاملها معاملة سيئة وتمنع ابنتيها من اللعب معها أو الاختلاط بها،
وامتنعت الفتاة عن إخبار أبيها بالأمر إلى أن عرف ذلك ذات مرة عاد فيها مبكرا إلى
البيت ليجد الفتاة تبكي؛ الأمر الذي جعله يطلق زوجته من أجل ابنته وظل يحيا من
أجلها فقط، ولكن ياسمين كبرت وامتلكت الكثير من الجمال الذي كان يتحدث عنه الكثيرون،
وهو ما جعل العديدين يتقدمون لها من أجل الزواج لكنها كانت تشترط "أن تظل في
خدمة أبيها حتى آخر عمره، لأنه أفنى حياته من أجلها؛ وبذلك على من يرغب في
الاقتران بها أن يرضخ لهذا الشرط"، إلى أن تقدم لها شاب من عائلة ثرية برفقة
والديه "وحين سمع والده الشرط من فم ياسمين، أجالا أنظارهما في البيت
المتداعي الذي سيعيش فيه ابنهما، فأشرقت في ذهن أبي الخطيب فكرة أن يبني لهما بيتا
بطبقتين في المكان نفسه. حين بدأ البناؤون في التقويض ثم البناء، انتقلت ياسمين
وأبوها إلى بيت عمها انتظارا، كما طلب الأب من المقاول عدم المساس بأشجار النخيل
الثلاث وشجرة البيذام وبقعة الياسمين، التي غطى سياجها برداء ركين كي لا تطير
إليها ذرات الغبار وتؤذيها".
هكذا تنتهي القصة التي بدت
لنا كقصة وعظية نستقي منها الحكمة التي تفيد بأن الجزاء من جنس العمل؛ فكما ضحى
الأب بحياته وبالزوجة من أجل الابنة، كان جزاؤه رفض الابنة الزواج إلا إذا كان
أبوها معها في حياتها، وبذلك فقدت القصة فنيتها.
قد تبدو قصة "حريق
الفئران" أكثر اكتمالا من القصص السابقة حيث تتحدث عن احتراق عريشة المرأة
العمياء التي تم إنقاذها رغم احتراق عريشتها بالكامل، لكن المشكلة أنهم وجدوا في
عريشتها سبعة وثلاثون فأرا محترقا وهو ما أثار تساؤل القرية بالكامل، بل وأرسل
الوالي إلى العمدة ليسأله عن سر وجود هذا العدد من الفئران لدى المرأة، وهو ما جعل
العمدة الذي لا يعلم شيئا عن الأمر يحاول أن يتخيل حكاية لا أساس لها من الصحة كي
يُنقذ موقفه أمام الوالي؛ حيث سيرفع هذا التقرير إلى وزارة الداخلية التي من
الممكن لها أن تقيله إذا لم يُفسر سر هذا العدد من الفئران: "وفي الصباح كان
العمدة في مكتب الوالي وكانت عبارة "حرب تجار" هي ما يكرر على مسامعه.
فطلب الوالي من كاتبه أن يسجل أقوال العمدة التي سترفع في ظرف سري إلى وزارة
الداخلية: ".. وقمت بإغراء العمياء بأنها إن اعترفت بسبب وجود الفئران في
بيتها فإنه سيطلب من الوالي أن يتوسط لها عند الحكومة لبناء بيت أسمنتي وبراتب
شهري، لذلك فإني يا سعادة الوالي أطلب منكم السعي في هذا الأمر، وأن هذه المرأة
المسكينة كان مغرورا بها، وأن الأمر كله يتعلق بحرب تجار سوق الظلام في مطرح، وأود
طمأنة الحكومة بأنه لا يوجد أي هدف سياسي وراء حياة أو موت الفئران. فقد جاء أحد
تجار الجملة ذات ليل إلى العجوز وطلب منها ترك قفص فئران خشبي مغلق في بيتها مقابل
إعطائها عشرة ريالات شهريا. ولم يعرّف باسمه، كما أن المرأة، بسبب عمائها البين،
لا يمكنها أن تصفه لنا. وكان هذا الرجل يأتي في ظلام آخر كل شهر ويأخذ عددا من
الفئران ويطلقها في مخازن غرمائه من التجار.. وهذا تفسيري لسبب حرص الفاعل على ترك
باب بيت المرأة مفتوحا، لأن غرضه كان إحراق الفئران وليس البيت بمن فيه. ولكن ما
هي الأسباب الحرفية لوقوع الحريق؟ ومن هو الفاعل؟ فهذا ما لم أتمكن من الإجابة
عليه، لأنه يحتاج إلى تحقيق أوسع وأكبر من قدرتي عليه، لذلك أوكل الأمر لكم سعادة
الوالي وللحكومة الموقرة".
ربما كانت أهمية القصة هو
اكتمالها؛ فقد عرف القاص كيف ينسجها بشكل جيد، ليأتي لنا بنهاية مقنعة تصور تقصير السلطة
في متابعة عملها ومحاولة طمس الحقائق، وهو الأمر الذي يؤدي بها إلى ادعاء العديد
من الحكايات من دون وجه حق، ولا تمت للواقع بصلة لمجرد محاولة بعض رجال السلطة
الحفاظ على مواقعهم، أو حفظ ماء وجوههم لعدم اتهامهم بعدم متابعة أعمالهم، وهذا ما
نراه حولنا في العديد من المجتمعات العربية؛ حيث تدعي السلطات دائما العديد من
الحكايات الملفقة التي لا أساس لها من الصحة لمجرد الحفاظ على مكتسباتها.
تأتي قصة "ظلال البيت المهجور"
باعتبارها أكثر القصص اكتمالا في هذه المجموعة رغم بساطتها إلا أنها مكتملة
بذكريات الطفولة التي يحكيها الراوي، حيث يتأمل الراوي البيت القديم الذي ذهب
لزيارته بعد سنوات طويلة من تركه مهجورا، ويرى في كل ركن من أركانه نفسه وهو صغير
مع أقرانه وجداته، وعماته وأبيه، والكثير من الذكريات، والألعاب، والحكايات التي
كانت ترويها لهم الجدات، ويتذكر كيف كانت نساء العائلة يجتمعن من أجل الحمام
الجماعي، وكيف كن يعرفن أبنائهن من أصواتهم، وذكريات تعليمهم القرآن شفويا من خلال
الشيخ وغير ذلك من الذكريات التي ترد في شكل انسيال على ذهن السارد الذي يسرده لنا
من دون ترتيب لينهي القاص قصته بجملة دالة: "الحمّام هدم نفسه بنفسه مع
الوقت، حين هجرته الأجساد. تقدمت مبتعدا عن البيت القديم.. كان الصمت يغلف كل خطوة
أدفع بها جسدي. ولكني وقفت فجأة، وأدرت ظهري ناحية سور البيت الذي يلوح من بين
الأغصان وتساءلت: كم يا ترى مر من الوقت وأنا أتنزه في ذلك البيت؟"، وكأنه
يريد أن يقول لنا: إن هذه الجولة القصيرة التي تجولها في البيت المهجور محاولا أن
يستعيد فيها ذكرياته كانت بالنسبة له عمرا كاملا بالفعل وليس مجرد جولة قصيرة في
فترة زمنية لا تتعدى الساعات فقط.
حينما ننتهي من قراءة
المجموعة القصصية "لم يكن ضحكا فحسب" للقاص العماني محمود الرحبي يتأكد
لنا أن القاص يمتلك الكثير من الموهبة الحقيقية من أجل بناء عالم قصصي، لكن شهوة
الكتابة لديه تجعله راغبا في الكتابة فقط من دون الاهتمام بسؤال: إلام سيؤدي بنا
هذا السرد، وهذا ما جعل معظم قصص المجموعة إما أن تؤدي بنا إلى الفراغ، أو تقع في
إشكالية التوجيه والموعظة، أو عدم الاكتمال.
محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية
27 يونيو 2018م
رائع .. السرد الاجل السرد لا معنى له. بحسب كونديرا . كل مقطع يجب أن يكون بمثابة كشف عن الوجود . شكراً لك مميز كعادتك .
ردحذف