الاثنين، 16 مايو 2022

سوسطارة.. لا مجال لنزول النهر مرتين!

هل من المُمكن لنا بناء عالم إبداعي يقوم على الذاكرة فقط بحيث تتحول كل مُفرداته إلى مُجرد اجترار للذكريات فيه؛ ومن ثم تتحول هذه الذاكرة إلى معول هدم لذواتنا، وتعذيب لنفوسنا لا طائل من ورائه سوى المزيد من الإيلام النفسي على الفرص التي ضاعت منا، والتي كانت بمثابة الفردوس لنا ذات يوم؟

وهل يظل المرء يلوم حاله، دائما، على الفرص التي أُتيحت له، لكنه لم يستثمرها، أو ينتهز مروره بها ذات مرة؟

إن الحياة داخل الذاكرة، والذكريات يضحى، هنا، بمثابة الجحيم النفسي الذي يحيا داخله صاحبه؛ فهو لا يفتأ يُذكّر نفسه بما كان بينه وبين الآخرين، لا سيما من أحبهم وأساء إليهم مما أدى إلى خُسرانهم خسارة أبدية، وبالتالي تتحول الحياة بالنسبة إليه إلى مُجرد جلد للذات حتى لو كان لديه كل الحق، فيما سبق، في قراره الذي أدى به إلى ما فعله، لكنه سيظل دوما يشعر بالندم على هذا القرار الذي اتخذه؛ لأن الذاكرة شاخصة أمامه طوال الوقت، ماثلة، حية، مُمسكة بتلابيب حياته وتفاصيلها، مُتشبثة به، غير راغبة في مُغادرته، تحتل كيانه؛ فيكون كمن دفن نفسه داخلها، غير قادر على التعاطي مع مُفردات الحياة المُتسارعة من حوله مرة أخرى، بينما يظل هو ساكنا في ذكرياته التي لن تنتهي، ولن تسمح له بالتحرر منها إلا بالموت الذي يتحول إلى المُنقذ الوحيد له مما سبق له أن مر به!

ثمة مقولة ربما يذكرها من شاهد الفيلم الصيني Ashes of Time رماد الوقت 1994م للمُخرج Wong Kar Wai وونج كار واي جاءت على لسان بطل الفيلم حينما قال: يُقال: إن الذاكرة هي أصل مُشكلة الإنسان. هذه المقولة إنما تُعبر تعبيرا صادقا عن المرء الذي ينحبس داخل ذاكرته؛ لأنه يظل يجتر ذكرياته طوال الوقت إلى أن تنتهي به الحياة، فالخلاص الوحيد لمن يعيش داخل ذاكرته أو ذكرياته هو الموت؛ لأنها لن تتركه ينعم بالحياة بسبب تعذيبها الدائم له، ودفعه للندم على الفرص الضائعة.

هذه الأفكار هي ما كانت تدور في ذهننا أثناء قراءة رواية "سوسطارة" للروائية الجزائرية حنان بوخلالة، وهي الرواية التي لا تنفك بطلتها/ زينب تستعيد حياتها الماضية سواء مع أبيها، أو حبيبها وزوجها، الذي أضحى طليقها يوسف حتى أنها باتت تعيش داخل الذكريات التي تحركها في حياتها، غير قادرة على التخلص من سطوتها عليها، أو التملص منها، نادمة طوال الوقت على الفرص، مُتسائلة دوما: ماذا لو لم أفعل ما فعلت؟ ماذا لو كنت قد صبرت مع يوسف ونعمت بوجودي إلى جانبه؟ والكثير من أدوات الاستفهام التي تجلب غيرها في مُتتالية عددية لا يمكن لها أن تنتهي؛ لتتحول حياتها إلى مجموعة من الأسئلة التي لم يعد لها معنى؛ لأن الحقيقة دائما ما تؤكد لنا بأن الإنسان لا يمكن له نزول النهر مرتين، وأن ما انتهى لا يمكن له العودة مرة أخرى كما كان، ولو عاد سيعود مشوها، كريها وليس كما تمنينا!

تحاول بوخلالة بناء عالمها الروائي- القائم على الذاكرة- من خلال الاعتماد على تعدد الأصوات الروائية؛ فتارة تحكي زينب عن مشاعرها ورؤيتها للأمر من زاويتها بالتوجه بحديثها إلى شخص لا تعرفه، أطلقت عليه اسم عليلو، من خلال رسائلها له على شبكة التواصل الاجتماعي، أي أنها تبوح لمن لا تعرفه ولا يعرفها بما تنوء به، بينما سنعرف فيما بعد أن عليلو هذا هو شاب مسؤول عن "سايبر" إنترنت حيث يعاني من بكمه وصممه أيضا، أي أنه مُنعزل تماما عن البشر في عالمه الخاص بسبب إعاقته، لكنه يراقبهم دائما مُتأملا لحيواتهم. وتارة أخرى يحكي عليلو/ فتى السايبر عن حياته ومُعاناته التي يعيشها متوجها بحديثه إلى فتاة لا يعرفها، أطلق عليها اسم" لا أحد"، من خلال رسائله لها على الإنترنت، وسنعرف أن "لا أحد" هي في حقيقتها زينب التي تحكي له عنه نفسها، أي أن كل منهما يبوح للآخر بما يعانيه في حياته وكأنهما يتخففان من عبء هذه الحياة بإلقائها في كنف الآخر؛ الأمر الذي يُدلل على الوحدة العميقة والحاجة الماسة للتواصل الإنساني مع أي إنسان حتى لو كنا لا نعرفه، كما يعبر، من جهة أخرى، عن أن الإنسان يكون قادرا على التعري التام، بل والاعتراف بأخطائه، التي ينكرها أمام الجميع، إذا ما سنحت له الفرصة للبوح بها لمن لا يعرفه، ولن يراه، ولن يقابله في حياته الواقعية أبدا! وتارة ثالثة تكتب الروائية بضمير الراوي العليم وهو السرد الذي يخص يوسف مصورا مُعاناته، وحياته بدوره داخل الذاكرة بعدما انفصل عن زينب بالطلاق. أي أننا أمام مجموعة من الشخصيات التي تُعاني جميعها من وطأة ذاكرتها التي تكاد أن تقضي على حيواتهم بسبب سيطرتها عليهم جميعا.

الروائية الجزائرية حنان بوخلالة

من خلال سرد هذه الحكايات الثلاث المُتداخلة لا يفوت الروائية حنان بوخلالة استعراض العديد من النماذج الإنسانية المُنسحقة العائشة في ذكرياتها أيضا داخل الحي/ الحومة التي تعيش فيها، سوسطارة، وكأنها تنظر إلى الحي وكائناته نظرة بانورامية شاملة من خلال حكايتها التي تُشكل لُب العمل الروائي بالكامل، فنراها تُحدثنا عن ميمي السحارة- على سبيل المثال- على لسان زينب المُتأملة لما يدور من حولها: "ميمي السحارة، كان الأطفال يتجمعون حولها مُرددين تلك الهتافات كلما نزلت إلى "الحومة"، كانوا واثقين من قواها الشريرة التي يمكن أن تسخطهم حشرات أو زواحف إذا وفقت في إصابتهم بقذائف البيض، لهذا كانوا يهربون من أمامها بسرعة الضوء، هكذا يتعلم الصغار أول درس في الجبن، افعل ما تشاء، اعرف فقط كيف تهرب في الوقت المُناسب دون أن تنال عقابك. عززت أزياؤها ومكياجها الصارخ اعتقادهم الواضح أنها كانت مُغرمة بموضة السبعينيات، ولم تستطع التخلي عن الألوان الزاهية، والأقمشة المُطبعة، والكعوب العالية المصنوعة من الفلين وحبائل القش. لم تستطع الاختلاط بالناس أيضا، لهذا لم يبادر أحد لرد عدوان الأطفال على ميمي. أشفقت عليها كثيرا عندما كبرت، عرفت أنها لم تكن أكثر من امرأة مُنكسرة وحزينة تتزين بذاكرة أيامها الأجمل التي قضتها مع رجل حياتها. ثمة أناس لا يمكن تخطيهم، زمننا يتوقف عند لقائنا بهم، نأبى التقدم خطوة بعدهم. غريب أني لم أخبره يوما عن ميمي السحارة. حكايتي معه بدأت خوفا منها"، سنُلاحظ في الاقتباس السابق ما يؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه في أن الروائية حريصة على استعراض العديد من الشخصيات الروائية/ الثانوية داخل روايتها، والتي تتواشج مع حكايتها فقط من حيث الحياة داخل الذاكرة والذكريات؛ فميمي السحارة حينما لم تستطع الخروج من ذاكرتها التي عاشتها مع رجل حياتها تحولت إلى امرأة تبدو غائبة عن العالم، وكأنها مجنونة، أو كما يراها الأطفال، مُجرد امرأة سحارة، في حين أنها في حقيقة أمرها مُجرد امرأة مُنكسرة تعيش داخل ذكرياتها فتحول العالم لديها إلى مجموعة من الذكريات التي أدت إلى انفصالها الكامل عن العالم الواقعي المعيش الذي يدور من حولها، كما لا يفوتنا أن زينب تحاول الربط بين هذه النماذج الإنسانية المُنكسرة وبين روايتها المُعتمدة على حياتها بدورها داخل ذاكرتها، وهو ما يتبين لنا بوضوح من قولها: "غريب أني لم أخبره يوما عن ميمي السحارة. حكايتي معه بدأت خوفا منها"، أي أنها حريصة تماما على ربط جميع مُفردات العالم الروائي لديها ببعضه البعض؛ حتى لا يكون هناك مجال للمُصادفة، أو التزيد السردي.

هذه النماذج الإنسانية المُثيرة للكثير من الشفقة؛ لوحدتها، وانصراف الآخرين عنهم نراه مرة أخرى في شخصية بشير الذي تتعاطف معه زينب رغم رفض الجميع له في حومتها: "تذكرت شخصا أحوج من عمار لبركة العيد، بشير ابن خالتي عويشة، المطرود إلى قبو العمارة، حيث يُمارس شذوذه وتخنثه بعيدا عن لعنات أسرته، وعبء التبرؤ منه. أنزل خلسة، ستقيم أمي الدنيا إذا عرفت، توبخني دائما عندما تجدني أكلمه على الدرج، أو في مدخل العمارة: ما بقالك غير هدا تهدري معاه؟! أحاول الدفاع عنه: لماذا تكرهينه وهو لم يؤذك يوما؟ هذا قدره، لو كان عزيز مثله هل ستفرحين حين لا يكلمه أحد؟! تجيبني بحدة: بعيد الشر، وليدي سيد الرجال. ما لا تعرفه أمي عن بشير الذي يحتقره وينبذه الجميع أنه يملك أطهر قلب في العالم، قلبا يمكنه أن يحب وينصح بلا مُقابل، لقد كان أول من نبهني إلى الاهتمام بنفسي. أن أحب جسدي كما يستحق. أن أخرج من عقدة البنت العرجاء. يوم اجتيازي لشهادة البكالوريا نهض باكرا من أجل أن يتمنى لي حظا طيبا، قدم لي مُصحفا ما زلت أتفاءل به وأحمله معي. لم يبخل عليّ بنصائحه ودعواته، عندما أزوره في حجرته الحقيرة يُسرع بخجل ليخفي أزياءه الأنثوية، ربما احتراما لي؛ فيخجلني خجله مني. كيف يمكن للناس أن يكونوا قساة معه؟ البعض يبصق عليه كلما مرّ. أعتقد يقينا أنه سيدخل الجنة قبل الكثيرين منهم".

إذن، فالروائية، هنا، حريصة على استعراض العديد من النماذج الإنسانية التي تعاني من انكسارها ووحدتها. هذه النماذج إنما تُشكل مع بعضها البعض- إذا ما نظرنا للأمر نظرة كلية شاملة- لوحة كاملة للعالم الذي تخوض فيه، وهو عالم الشخصيات الوحيدة، والمُنكسرة، العائشة داخل ذكرياتها، أو مع نفسها في إحدى زوايا العالم الذي لا يتوافق معهم نتيجة العديد من الأسباب المُختلفة التي تلتقي في نهاية الأمر عند الحاجة الماسة للتواصل الإنساني من أجل إلقاء عبء حياة كل شخصية على كاهل غيرها كي يشعر الواحد منهم بالقليل من الراحة المُفتقدة في عالمه الذي يقسو عليه! أي أن الروائية تعمل على تأمل عالمها، وتشكيله على مهل ليشكل في نهاية الأمر وحدة سردية واحدة مُكتملة ومُتشابكة لا نبو فيها، ولا تزيد، بل ثمة تداخل بين العوالم المُحيطة بها، وبين عالمها الشخصي الذي يُمثل في نهاية الأمر لُب الرواية وعمودها الفقري.

بوستر الفيلم الصيني "رماد الوقت"

نقول: إن رغبة الروائية في الولوج إلى عالمها الروائي جعلها تفترض، من خلال زينب/ الراوية، وجود شخصية أخرى من المُمكن لها أن تفضي إليها بحياتها وذكرياتها التي تؤرقها؛ ومن هنا كانت شخصية عليلو الذي لا تعرفه، لكنها اطمأنت إلى مُراسلته والحكي له: "عليلو كاره من الدنيا، مُستفز كدعوة للكلام بلا صور، بلا اهتمامات، بلا هوايات، ولا مُعتقدات. فقط عليلو. الأهم كاره من الدنيا، ما السبب؟ لم يستغرق الأمر إلا مسافة بوح وضغطة زر: عزيزي عليلو: تراك تشعر بالملل مثلي، هل يؤرقك الليل الطويل والوحدة؟ ما رأيك في أن أقص عليك قصتي؟ لن يضرك ذلك، ربما وجدتها مُمتعة في النهاية، أما عن الوقت فلا تهتم لي، ثلاثة شهور من العزلة لن تنقص من عمرك أو عمري شيئا، على الأقل هذا رأيي. عندما أفكر أني ما زالت في الرابعة والعشرين فقط أُصاب بإحباط حاد، إذا كان متوسط العمر خمسا وستين سنة؛ فقد بقي لي واحدا وأربعين سنة! لأعيشها على اعتبار أنني لا أدخن، لا أتعاطى الكحول، لا أعمل، لا أغامر، لا أسافر، لا أسهر، لا أتعرض للمخاطر، لا أخرج إلا قليلا، لا مسؤوليات عليّ، ولاحظت مُؤخرا أني لا أمرض حتى. باختصار أنا لا أعيش. كيف يمكن للمرء أن ينفق واحدا وأربعين سنة في لا شيء؟! المُصيبة أنني قد أعيش أكثر. تخيل؟".

إن عليلو مُجرد شخصية مجهولة حرصت زينب على أن تفضي إليه بحكايتها لتبدأ الروائية روايتها، وهو بدوره لا يعرفها ومن ثم سيبدأ في البوح لها عن نفسه وحياته أيضا؛ الأمر الذي سيربطهما ببعضهما البعض على المستوى النفسي؛ فكل منهما في حاجة إلى الآخر لمُجرد البوح بما يعتمل داخله، وبما أنها لديها ثلاثة أشهر هم أشهر عدتها بعد طلاقها، وبما أنها تشعر بالكثير من الملل والرغبة في البوح لأي إنسان، فلقد بدأت بالتحدث إليه؛ لذلك سنعرف أن بداية خيبتها التي جعلتها سجينة ذاكرتها هي طلاقها من يوسف حيما تقول: "أما عبارة "ذات يوم" فلا تُناسبني؛ لأني ببساطة لا أعرف متى بالضبط بدأت خيبتي، لكنها باغتتني، واضحة جارحة مع حُكم الطلاق، مع عودة جهازي الذي أمضيت شهورا في اختياره، وأنا أحلم بترتيب بيت يكون لي مطبخه، ستائره، أبوابه، حيطانه التي انتقيت ألوانها، سقفه، مفاتيحه أيضا. أشعرتني الحقائب المُتجمعة باليتم لأول مرة. لا مُبرر لتكدسها هكذا، لتجاهلها رغبتي في نسيان ما جرى. عبثا حاولت إقناع الجميع أنني لن أعدل عن قراري معهم، أكاد لا أصدق أن الأمر تم بهذه السرعة، وأنني عدت! ما أصعب كلمة عدت، صرت أشعر بوقعها الآن فقط".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق على لسان زينب ثم عرفنا، فيما بعد، أنها من طلبت الطلاق وأصرت عليه بعد شهور قليلة من زواجها بيوسف الذي عشقته وعشقها كثيرا؛ لاندهشنا من ردود فعل النفس البشرية التي كثيرا ما تتخذ العديد من القرارات التي تراها في حينها صائبة، لكنها سُرعان ما تندم عليها، وتظل تجتر ذكرياتها نادمة على الفرص التي كانت مُتاحة لها، لكنها لم تُقدرها حق قدرها مُهملة إياها! إن الرواية التي بين أيدينا من هذا المُنطلق النفسي تكاد تكون رحلة تأملية في النفس البشرية المُتخمة بالتناقضات التي لا يمكن تفسيرها بشكل منطقي، وهو ما يجعل الإنسان في حالة تأزم نفسي دائم؛ لأن أفعاله- غالبا- ما لا يكون هناك أي مُبرر لها.

إن خيبة زينب/ الطلاق سجنها في ذاكرتها، وهو ما نُلاحظه في قولها: "وقعت عيوني اللحظة على فستاني البني الذي كان يقول عني كلما ارتديته: إني شيكولاطته الحزينة، تراه كان يحب الشيكولاتة فقط بطعم الحزن؟"، وهو ما نقرأه أيضا في: "لا تحزني على أمر لا يُسعدك حقا. كانت تلك أولى وصاياه. تراه عنى ما قال يومها؟ أم عرف كيف يدبر الشقاء في العبارات الجميلة؟ تدري يا عزيزي، نحن لا نتألم إلا ممن نظنهم سعادتنا. أتساءل كل يوم: أينا تسبب في ألم الآخر؟ أتمنى أن أكون أنا". أي أن زينب باتت غير قادرة على التحرر مما كان، وهو ما يحيل حياتها إلى عدم حقيقي لا معنى له.

نعرف أن زينب كانت مُتعلقة، وجدانيا، بأبيها الذي اختفى وانقطعت أخباره تماما، والذي كان يُدللها كثيرا، ويصطحبها معه أينما ذهب، بينما كانت أمها تتعامل معها بعنف يتناقض تماما مع تعامل الأب معها؛ الأمر الذي جعلها تلتصق به حتى يوم اختفائه من حياتهم، كما كانت الأم تشعر بالخجل منها لأنها قد وُلدت بعرج في ساقها، ورغم أنها قد شُفيت منه فيما بعد، إلا أن الأم ظلت تتعامل معها بنفس الطريقة وكأنها مُجرد عار لا بد من إخفائه، بينما كانت مشاعرها مع شقيقتها سامية مُختلفة تماما، وكأنهما ليستا شقيقتين؛ الأمر الذي جعل العلاقة بين زينب وأمها ليست على وفاق دائما: "طالما كانت عقدة أمي الكبيرة التي لن تُشفى منها أبدا. كانت تردد دائما: إنه كاد يغمى عليها عندما رأتني أول مرة. كنت داكنة اللون، مشعرة وعرجاء، أيضا لهذا ظلت تخفيني عن معارفها وصديقاتها اللواتي نافستهن في إنجاب أجمل الأطفال، وبقيت إلى وقت قريب تناديني "المبدولة" لأنها ظنت، وأنا صغيرة، أنني لم أكن ابنتها، وأنهم غيروني في المُستشفى. حتى بعد استقامة ساقي لم تغير من مُعاملتها لي"!

ربما كان عشق الأب الغائب هو السبب الرئيس في وقوعها في عشق يوسف الذي قابلته بالمُصادفة حينما ذهبت إلى إحدى السيدات كي ترسم لها بورتريها لصورة أبيها، وحينما أخبرتها المرأة أن أدواتها قد سُرقت ومن ضمن ما سُرق كان بورتريه الأب بدأت تبكي غير قادرة على منع دموعها المُنسالة: "بين تعاطفي معها، وعدم قدرتي على السيطرة على شعوري بالمرارة، جاء هو. كما لو أني كنت مُنذ البدء أنتظره. للرجولة عبق تشي به تلك المواقف الصغيرة التي تجعلنا نقع تحت سطوتها. وجدته يقف أمامي يمد إليّ يده بمنديل أبيض ظننته منديل قماش من المناديل التي اختفت، وحلت مكانها مناديل الورق المُعطرة. أكان عليّ التخمين يومها أن رجلا يحمل منديلا لا يُرمى هو رجل يضمر لي قدرا من الدموع؟ لم يكن وسيما جدا، ولا طويلا كما تمنيت واشتهيت، ليس شاعرا ولا رساما كما حلمت، بل ككل الناس العاديين الذين أصادف دوما، كزملائي في الجامعة، كأولاد الحومة في سوسطارة، كبائعي الكراكيب في ميسوني وساحة الشهداء، كأخي عزيز وصهري رشيد".


إذن، فالحنان الذي شعرت به زينب من مُعاملة يوسف لها لأول مرة، كان هو السبب في وقوعها في عشقه- فهي فتاة مُفتقدة للحنان بعد اختفاء الأب، وتعامل الأم السيء معها- لذلك تظل لفترة طويلة تتذكر ما كان بينهما، والمشاعر التي ربطت بينهما، وحنانه تجاهها وخوفه عليها، وحديثه إليها، فنقرأ عن لقائهما الثاني: "قال أن وجهي الباكي لم يغب عنه لحظة. أنه كان يمشط أرصفة سوسطارة كل مساء عله يراني صدفة. لم يجرؤ على طلب رقمي تلك المرة؛ لأنه لم يظن أن جميلة مثلي بعيوني "الكبار لي يجيبو المحنة للدار" لا تملك رجلا على الأقل في حياتها. مُندهشين ببعضنا بدأنا قصة حب. احتلني يوسف. على صوته يستيقظ عالمي، وبرسائله تغفو عيوني. كان يقول: إن كل يوم سيتيقظ ويجدني في حياته سيجعله عيدا ومُناسبة خاصة"، كما نقرأ من خلال استغراقها فيما فات: "قال: نحبك. جاء الاعتراف لذيذا مُبهجا. أنا نموت عليك. لم نكن مُتكافئين في حبنا لبعضنا مُنذ البداية، كان فقط يحبني، وكنت "نموت عليه". لم أحب يوما كلمة "حب"، "نحبك"، لا أشعر بأن تلك الكلمة تعني ذلك الإحساس عندما تقول لشخص أحبك كأنك تستسلم لأمر ما لا حيلة لك فيه. أفضل كلمات أخرى أشرس، "نموت عليك"، "أريدك"، "نبغيك"".

ربما لاحظنا في هذا الاقتباس اقتناع زينب أنهما لم يكونا مُتكافئين مُنذ البداية، أي أنهما كانا غير مُناسبين لبعضهما البعض، والحياة معا، لكنها رغم هذا الاعتراف الذي لا بد له أن يجعلها سعيدة بطلاقها وخروج يوسف من حياتها، تظل واقعة في الذاكرة والذكريات التي كانت بينهما، غير قادرة على الخروج منها، أو التخلص من سطوتها؛ الأمر الذي يؤكد تعقد، وتناقض المشاعر الإنسانية؛ ففضلا عن اعترافها بأنهما لم يكونا مُناسبين لبعضهما البعض، وفضلا عن أنها هي من طلبت منه الطلاق بعد شهور قليلة، إلا أنها ما زالت تشعر تجاهه بالكثير من المشاعر والحاجة الماسة لأن تكون معه، تلك الحاجة التي تعمل على تعويضها بالاستغراق في ذاكرتها التي احتلتها تماما، مُتملكة إياها، كما لا يفوتنا أن الأمر يؤكد لنا أنها لم تكن ناضجة على المستوى النفسي الكافي ما يجعلها تدخل في علاقة مع رجل، وإلا ما انتابتها تلك المشاعر المتناقضة التي لا يمكن لها أن تستقيم مع العقل!

إن أزمة زينب التي أدت بها إلى ما حدث في حياتها كانت ليلة زواجها واختلافها التام عما كانت تتخيله أو تظنه عنها، ولأننا كمُجتمعات، تصف نفسها دائما بالمُحافظة، نفتقر إلى الثقافة الجنسية، ونجهلها تماما؛ الأمر الذي يجعلنا نلجأ إما إلى أفلام البورنو، أو إلى الحكايات المُنتشرة عن الجنس، والتي تكون في أغلبها غير صحيحة، ومُبالغ فيها؛ فزينب لم تكن لديها فكرة عن الزواج إلا ما كانت تستمع إليه؛ لذا كانت بداية أزمتها المُزلزلة في ليلة عرسها من الرجل الذي عشقته: "ينتشلني صوت المُؤذن من ذهولي، قميص نومي يضج ببراءتي. لا شبق مسه، ولا لذة، بعض الألم لا غير. بعد جولة أطفأ فيها بلادة شهوته. ينام على بطنه هادئا كطفل، هذا ما كان، هذا كل شيء، يا للمصيبة "على هذا"! تُؤلف حكايات، تُخرج أفلام، تقوم حروب، ينحني رجال، وتُذبح نساء. "هذا ما كان"، "هذا كل شيء"، سؤال واحد يدور في رأسي: أين ملحمة ليلة الدخلة التي يحكي عنها الجميع؟ ماذا سأحكي لصديقاتي إذا ما سألنني؟! سأقول لهن: لا شيء يستحق الذكر؟! أم سأوقظ خيال الأنثى، وأقول: إنني تألمت كثيرا، ثم صار الأمر مُدهشا واهتزت الأرض بنا، إن في الأمر سعادة لا تُوصف لا يتخيلها عقل، هل كانت كل الحكايات التي سمعتها تلفيقا؟! "هذا ما كان"، "هذا كل شيء"، هذا يوسف الجميل الذي اشتهيته دوما يمر عليّ مرور بُخلاء الحب. هذا يوسف الحنون ينقلب غبيا، أميا أمام جسدي، لا يمنحني فرصة لأتأمله، "هذا ما كان"، "هذا كل شيء"، سؤال آخر يدور في رأسي: ليتني فرجته على كتبي التي قرأتها بشهية حب؛ من أجل أن أمنحه ليلة جميلة. لماذا لم يلتمس بعض الحب لي، كما جعلت كل الحب له؟! "هذا ما كان"، "هذا كل شيء"، سؤال يدور في رأسي: هذه ليلتي، هذه ليلة العمر؟! يستيقظ أخيرا: اطلبي داركم، لا بد أنهم ينتظرون خبرا، قوليلهم فريناها. Tout va bien، rien ne va حقا يظن Tout va bien؟ أطلب سامية، أردد كلامه كببغاء: va bien Tout، تُطلق زغرودة طويلة تُغطي صوتي. تقفل الخط. أنفجر باكية. أدري، ليس الأمر سهلا، ستشتاقين أهلك وحياتك، لكنك ستتعودين. كما لو كان عليّ أن أبكي. لا يحاول إسكاتي. لا يقوم بغمزة "تهبلني"، لا يمدني بمنديله وقد بدأنا حكايتنا بمنديل وحاسة حنان. بكائي ليس اشتياقا لأهلي، ولا خوفا من بداية حياة أجهلها. كنت أبكي خيبتي في لهفة كانت أكبر منه. كنت أبكي جسدي الذي جملته له، فمر عليه دون أن يستوقفه شيئا. كنت أبكي ما اشتهاه فيّ الآخرون، ولم ينتبه له! كنت أبكي قبلة أردتها، وحضنا حلمت به. كنت أبكي ليلة حب لم تأت. أجهز نفسي لفطور العروسة والتحزيمة، يوصلني إلى الحلاقة ذاتها التي أعطتني وصاياها البارحة، تستلمني بنفس السلام الحار، تغمزني بإشارة فاجرة أخرى: واش فرات. أردد كببغاء: Tout va bien، لست أدري كم من الوقت استغرقت. لم أنظر إلى وجهي. تغيظني ابتسامته التي تلامس السحاب. يستقبلني الجميع بالقبلات والأحضان، من الواضح أنه Tout va bien، يصل أهلي. تنطلق الحنجرات بالزغاريد، تُحاصرني التمنيات، حلوة معسلة، "كمحبس المقروط وسنية البقلاوة"، الكل مُبتسم، أين تراه عزيز، هل رآهم وعرف أن صغيرته كانت كما تبدو بريئة وأن Tout va bien؟ هل يشعر أبي حيثما كان أنني وضعت اسمه بين جسدي، وبين كل الرجال؟ تُمد الموائد على شرف "بنت الفاميليا"، يهمس في أذني "راني فرحان بيك"، أكاد أجيبه بعنف: أما أنا فلا. لكنني أبتسم بغباء، يتواصل العرس الصغير. زرنة، ورقص، وفرح، لا يعنيني كثيرا، يلبسونني قبة الفرقاني الثقيلة على جسدي الخائب، يُؤتى بطفل صغير يحزمني ليمتلئ حجري أطفالا، انتهي اليوم الكبير أخيرا Tout va bien. "هذا ما كان"، "هذا كل شيء"، الآن، سؤال واحد في رأسي: كيف سأتخلص من يوسف؟"!

ربما حرصنا على سوق هذا الاقتباس الطويل للتدليل على سبب أزمتها مع يوسف رغم عشقها له، ولأنها من خلال هذا المقطع إنما تعبر لنا بشيء من التفصيل عن أزمتها الجنسية والعاطفية التي انتابتها حينما فوجئت بحبيبها وزوجها الذي عشقته يتعامل مع جسدها بإهمال وأنانية رغم رهافة مشاعره، وحنانه اللذين تعرفهما عنه، واللذن كانا هما السبب الأول والجوهري لانجذابها له، والوقوع في عشقه، لقد فوجئت برجل لا يعنيه سوى لذته، ومُتعته، وسعادته فقط، لم يهتم بمُتعتها، لم يعنه رضائها في العلاقة الجنسية بينهما، بل قضى وطره وسُرعان ما نام بجوارها تاركا إياها لتساؤلاتها؛ وهو الأمر الذي يجعلها تتساءل مُنذ الليلة الأولى لها معه: "كيف سأتخلص من يوسف؟". إن السؤال في حد ذاته مُدهش، مُثير للكثير من التعجب والاستنكار؛ فها هي زينب التي وقعت في عشق يوسف، ولم تكن ترى في العالم سواه، تفكر في ليلتها الأولى من زواجها به في كيفية التخلص منه! كان من المُمكن لها أن تحتمله، وكان عليها أن تتفاهم معه طالبة منه ما ترغبه في علاقتها به، لكنها فكرت مُنذ اللحظة الأولى في كيفية التخلص منه رغم عشقها الشديد له، وما يُدلل على امرأة لم تنضج بالقدر الكافي للدخول في علاقة، وتكوين أسرة، صحيح أن يوسف هنا مُخطئ، لا يعنيه سوى ذاته، لكننا لا يمكن لنا إلقاء اللوم عليه وحده، بل هما يتشاركان فيما وصلا إليه من جحيم نفسي بسبب طلاقهما.

هذه الكارثة الجسدية تؤدي بزينب إلى الكثير من المُعاناة؛ الأمر الذي يدفعها إلى البحث عن طريق للهروب من يوسف، وعدم التواجد معه طوال الوقت، حيث بدأت في التفكير بالعمل: "لم أعتبر العمل نزهة لطيفة. أردت ما ينسيني انشطاري اليومي إلى امرأتين. إحداهما تحبه، تُقبل قمصانه في غيبته، تتبع عطره. تردد كلماته، تُراقب الباب بصبر عاشق، وأخرى تتمنى لو يطول غيابه، لو تنام قبل حضوره، لو أنها لا تراه، لو أنه لا يلمسها. تُردد سؤالا واحدا: كيف سأتخلص من يوسف؟". أي أنها قد انشطرت إلى امرأتين كل منهما تتناقض مع الأخرى في مشاعرها، وسلوكياتها، ورؤيتها لزوجها.

لا يمكن هنا إلقاء اللوم على زينب فقط بتدمير حياتها، وعدم محاولتها التفاهم مع زوجها، أو التأقلم معها؛ فهو أيضا كان شديد الأنانية، غير مسؤول في التعامل معها كزوج، أي أنه كان يعيش معها بطفولية لا تتطلبها الحياة الزوجية؛ لذلك رأيناه في الأسبوع الأول من زواجهما يسافر مع أصدقائه إلى تونس في رحلة، تاركا زينب وحدها، بل إنه لم يهتم بإيصالها إلى بيت أسرتها، بل أوقف لها تاكسيا، وطلب من السائق أن يوصلها إلى حومتها في أسلوب من عدم المسؤولية الذي لا يمكن أن يُشعر الزوجة بالأمان، لا سيما أنهما كانا في أول أيام زواجهما، فضلا عن أنه كان قد وعدها بهذا السفر معها إلى تونس قبل الزواج، ففوجئت بأنه يفضل أصدقاءه عليها في الترويح عن نفسه.

إن اللامبالاة، والطفولية التي يتعامل بهما يوسف مع زينب كانا أوضح حينما احترقت يدها ذات مرة وهي تُعد الطعام، وهو الموقف الذي كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير لتطلب منه الطلاق: "هل يعرف زبائنها الذين تُقابلهم بضحكتها الطفولية شيئا عنها، هل عرفوا عن زينب ما عرفه عنها في شهور زواجهما؟ النكبة، هل يمكن أن يصدقه أحد؟ زينب كان يخاف عليها من رقتها، من سذاجتها، من نعومة الدانتيل فيها. لم يفكر يوما أنه سيرتجف خوفا منها، هي التي لا تؤذي أحدا، لا تقول: لا أبدا. زينب التي تركها مريضة دون أكل ودواء؛ فلم تُعاتبه حتى نسى كسوتها في العيد، فلم تطلب ذلك. لم يصطحبها إلى شهر عسل وعدها به فلم تعترض، كيف له بعد كل هذا أن يصدق لحظة انقلابها إلى امرأة يهابها الرجال. جاءته صرختها من المطبخ وقد أحرقت نفسها بزيت القلي، لماذا لم يركض إليها؟ لم يُقبل يدها كما يفعل مع الصغار، ثم يسألها: برات؟ كانت تصرخ: يدي، يدي، لقد أحرقت يدي. افتحي الحنفية على الحرق حتى لا تتضرري. اديني لدارنا. ظنها تُمازحه. من أجل حرق بسيط تريدين الذهاب إلى بيتكم لتتدللي؟! همست في أذنه وهي تُبرد يدها المحروقة بمُكعب ثلج: طلقني وإلا ذبحتك وأنت نائم، طلقني، سأفعلها. شعر بصدق تهديدها، أخافته نظراتها، كما لو أنه رأى الأمر ماثلا أمامه. رأسه مفصولة عن جسده، وزينب تُبحر في نهر دمه"!

إذن، فقد كان يوسف مُنذ البداية يتعامل معها بلامبالاة، وعدم مسؤولية، لكن الكارثة الحقيقية أنه لم يكن يعلم شيئا عما يفعله، أي أنه لم يكن لديه الإدراك الكافي بأن ما يفعله إنما يجعلها تبتعد عنه، تنفصل عنه نفسيا، ويؤدي إلى برود مشاعرها تجاهه، نتيجة الكثير من التراكمات بسبب إحساسها بأنه لا يهتم بها، أو أنه يعيش معها في عالم آخر مُنفصل، ولعل عدم إدراكه يتضح لنا جليا من قوله لها في المقطع السابق: "من أجل حرق بسيط تريدين الذهاب إلى بيتكم لتتدللي؟"، أي أنه بدوره لم ينضج بالقدر الكافي الذي يجعله مُؤهلا ليكون زوجا مسؤولا، أو الدخول في علاقة مع امرأة.

هذه اللامبالاة تتضح بشكل أكبر حينما تقول زينب: "كيف يمكنه أن يستمتع بينما لا أشعر بشيء؟! صرت أفكر بكل من أعرفهن. كيف تراهن يمارسن الحب؟ هل يستمتعن؟ هل استمتعت أمي، هل استمتعت سامية؟ صديقاتي، قريباتي؟ صرت أشك أن هناك من تشعر بالمُتعة. أمضي الليل أعدهن أحاول البحث عن دليل واحد لخيبتهن، ثم أعود وأقول: كيف لهن أن يواصلن مع أزواجهن لولا أنهن مريضات؟ حقا الأسرة أسرار"، أي أنها ظنت أنه لا وجود حقيقي للمُتعة الجنسية، وأن جميع النساء يعانين مما تعاني هي منه، لكنهن يحاولن إخفاء الأمر.

لم تكن زينب وحدها هي التي تعاني من ذاكرتها والحياة فيها بعد الطلاق، بل كان يوسف يعيش في نفس مُعاناتها، وكأنهما قد كُتب عليهما الفراق، والانفصال الجسدي الكامل، بينما ذاكرتيهما، ومشاعرهما لا يمكن لهما أن تتبدلا، بل تظل تعذبهما طوال الوقت بالتجسد أمامهما دوما: "لم يكن يوسف ليصدق أن الأمر حدث حقا، إلا بعد أن رآها صُدفة ذلك المساء وهي تعبر الشارع مهرولة كعادتها، صدق الأمر عندما لم يستطع نداءها، ولا الإسراع إليها. كان يمني نفسه أنه سيستيقظ يوما ليجد أن الأمر لم يكن إلا كابوسا مُزعجا، مُجرد مزحة ثقيلة، مقلبا من مقالب طفولتها، أنها ستطل يوما من خلف الباب وتصيح: "راني جيت"؛ فيقفز إلى حضنها، يشهق على صدرها، يخبرها عن حلمه المُزعج، تضمه إلى أدفأ مكان فيها: هبلت؟ أنا وأنت نتطلق؟ مُستحيل!"، أي أن أزمة الحياة داخل الذاكرة، والانحباس داخلها لم تكن تخص زينب فقط، بل هما يعانيانها معا، ورغم أن كل منهما يرى ما حدث من خلال زاويته الخاصة، وتفسيره للأمور إلا أنهما لا يستطيعان في نهاية الأمر من التخلص من مشاعرهما أو ذاكرتيهما، بل سقطا فيها إلى الأبد وكأنهما يعيشان داخل أسطورة سيزيفية أبدية تنتهي لتبدأ مرة أخرى من جديد!

هذه المُعاناة التي يعيشها الزوج تتضح لنا بشكل أكثر جلاء في: "مُذ غادرته وهو يحاول أن يفهم. لهذه الدرجة كانت شهور زواجهما كئيبة ورديئة؟ ألهذه الدرجة كانت الحياة معه جحيما لا يُطاق؟ لم ينس كلامها في جلسات الصُلح، لم تكن تغيّر عباراتها: لا أريد منه شيئا. سأرد مهره إن شاء، أريد الطلاق، فقط الطلاق. شعر بنفسه ضئيلا حقيرا، وأن كل السنوات التي أنفقها في تهيئة مساحات قلبه لامرأة حياته ضاعت سدى عندما جاءت لتأخذ أغراضها. لم تنظر في وجهه، لم تتأمل بيتهما، لم تودع زواياه كما لو أنها لم تمر يوما من هنا، ولم تقم ثانية معه، لم تبدُ حزينة، ولا نادمة، ولا مُكترثة، بعد أن انسحبت منه شعر فداحة خسارته، أدرك أنه كان يضمر لها الكثير من الحب والأمنيات، إنما لزمن قادم، كان واثقا ألا مفر لها، أنها ستبقى معه للخمسين سنة القادمة، "يا الرب"، إنها زينب التي لا تؤذي أحدا، من أين أتت بكل ذلك الجبروت لتفعل ما فعلت، لتقول ما قالت، لتجعله في لحظة يرتعد منها خوفا؟".

ألا نُلاحظ، هنا، أن كل منهما قد قضى على حياة الآخر بسبب عدم نضجهما، ولا إدراكهما لأفعالهما؟ إن كل منهما كان حريصا على إيذاء الآخر في مشاعره رغم عشقهما لبعضهما البعض، هذا الإيذاء الذي مارساه من دون وعي أو إدراك أثناء الزواج، تحول إلى إيذاء مُتعمد، ومُدرك بعد طلاقهما، ومن ثم تبادلا الكثير من الإهانات لبعضهما البعض رغم عدم زوال المشاعر والعشق التي أدت بهما إلى الحياة داخل ذاكرتيهما: "ماذا لو احترمنا بعضنا أكثر؟ لقد تغذى بها لما ادعى أنها لم تكن عذراء. تزوجته فقط ليسترها، ثم تخلصت منه لما انتهت مهمته. يذكر الآن أنه قال الكثير، عيّرها بأنها تربية الهجاجل، سايبة تفعل ما تشاء، هي أيضا تعشت به أخبرت الجميع أنه كان يعاشرها بشذوذ. لقد عرفا فعلا ما يؤذيهما، فتح فم دهشته، يا للفضيحة! إلى هذا الحد كانا بشعين في لحظة مع بعضهما؟! أين يذهب الحب في وقت كهذا؟! لماذا يستقيل العقل أيضا؟!"، هنا يتضح لنا أن كل منهما قد آذى الآخر عامدا مُتعمدا، وبكل إدراكه العقلي بعد الطلاق، فبدآ في تلفيق الحكايات، والروايات عن بعضهما البعض، واختلاق أسوأ ما يمكن اختلاقه ليتجمل كل منهما على حساب الآخر!


إن محاولة حنان بوخلالة نسج عالمها الروائي من خلال العديد من الحكايات المتواشجة ببعضها البعض لتعبر عن الحياة داخل الذاكرة لم يقتصر على الحكايات السابقة فقط، بل جنحت الروائية إلى نسج قصة حب موازية لقصة حبها أيضا من خلال شخصية عليلو/ فتى السايبر في: "عزيزتي "لا أحد": الحب يشبه لوحة انطباعية جميلة، مُتداخلة وغير مفهومة. كلما اقتربت تعرفين كيف يقول من لا صوت له أحبك. الحب بلغتنا أسهل. لا يحتاج لمُقدمات طويلة، ولا لاكسسوارات الكلمات. لمسة كف على اليسار جهة القلب تماما، كلما رأيت ياسمين تعلقت كفي بقلبي، لكنها لا تفهم، وأحلم أحيانا أنها تفهم. ياسمين أجمل مخلوق في زغارة، كلما هلّت سبقتها خشخشة أسوار من فضة لا تفارقان معصمها الأيمن كقصة اغريبا البربرية، اغريبا التي ترج أساورها ليميزها والدها "اينوبا" عن وحش الغابة فيفتح لها الباب. أظنه الصوت الوحيد الذي قد أسمعه حتى من دون سماعتي. تصوري أني أراها في الصوت. أسمعها بصممي. لولاها لتركت هذا المكان مُنذ وقت طويل".

إذن، فالروائية حريصة تماما على ربط عالمها ببعضه البعض برباط وثيق، إنه الرباط الذي يعبر عن حياة الجميع داخل ذاكرتهم، وهو ما سيحدث بالفعل لعليلو الذي سيحاول ذات مرة الاعتراف لياسمين بحبه لها بعد تشجيع زينب/ لا أحد له، لكنه حينما سيفعل ستنظر إليه نظرة احتقار واستهانة مُغادرة للسايبر، غير عائدة إليه مرة أخرى؛ الأمر الذي سيجعله بدوره يعيش في ذاكرته حينما كانت تأتي إلى السايبر ليرى جمالها، مُؤتنسا بوجودها، إلى أن يختفي تماما، وتنقطع مُراسلاته مع زينب التي تظل في انتظاره كي تبوح إليه أكثر مما تُعاني منه.

لكن، هل من المُمكن لنا، هنا، القول: إن رواية سوسطارة للروائية الجزائرية حنان بوخلالة مُجرد رواية تقوم على الفرص الضائعة، والسقوط داخل الذاكرة فقط من خلال قصص الحب غير الناضجة، وغير المُكتملة، والمحكوم عليها بالموت الواقعي بينما تظل تحيا داخل ذاكرة أصحابها؟

لا يمكن الجزم بذلك؛ فالروائية كانت حريصة، من خلال روايتها، على تأمل ما يدور داخل المُجتمع الجزائري سواء على المستوى الاجتماعي، أو التاريخي، أو السياسي والاقتصادي، أي أن الأمر تحول، هنا، إلى لوحة بانورامية للجزائر، وهي الصورة التي رسمتها الروائية بفنية عالية، ومن دون قصدية قد تتنافى مع الفعل الفني، بل كان الأمر متواشجا تماما مع النسيج السردي الروائي مما جعله عفويا لا يمكن لنا تجاهله، وهي خصيصة من خصائص امتلاك العمل الفني تؤكد أن الرواية تكاد أن تكون هي التاريخ الحقيقي البديل للتاريخ الرسمي الذي تنتهجه الحكومات.

هذا الالتفات لما يدور في الجزائر على العديد من المستويات نُلاحظه حينما تتحدث الروائية عن الحال الاقتصادي الصعب الذي بات يعيش فيه المواطن الجزائري- كغيره من أبناء المُجتمعات العربية- في: "قصدت ليندة الكحلوشة، رسامة البورتيرهات التي تفترش الرصيف قرب تلك المكتبة المُنتصبة بإصرار أمام غزو السلع الصينية وطاولات "كلش خمسة آلاف غيّري جارتك يا امرأة"، كانت تلك السلع تنتهي غالبا إلى سلة المُهملات قبل أن تراها الجارة، أو تُستعمل أصلا، لكن "الرخى اللي يدهش" أصاب الجزائريين بنوع من الإدمان على شراء الكراكيب؛ لأنهم على الأشياء الغالية ما عادوا يقدرون"، أي أنها- فضلا عن تأملها في ذاكرة شخصياتها الروائية- لا تنسى التأمل في المُجتمع الجزائري من حولها، وما آل إليه وضعه الاقتصادي، باعتبار أن الروائي لا يمكن له الانفصال بأي حال من الأحوال عما يحيطه. أيضا في قول عليلو ذات مرة لزينب/ لا أحد مُعبرا عن حاله: "آه، لم أخبرك بعد أني أملك شهادة ليسانس. لم أعمل بها يوما. مُعلقة في السيبار للتباهي فقط. ألمعها يوميا لترى ياسمين أني لست مُجرد صعلوك جاهل"! وهو ما يُدلل على البطالة التي يعاني منها الكثيرين من الجزائريين بعد حصولهم على شهاداتهم، إلا أنها في النهاية تكون غير ذات نفع، بل يتم تعليقها فقط للتباهي بها!

هذه الحالة الاقتصادية البائسة التي بات يعاني منها الجزائري هي ما تدفعه إلى الإعراض- عادة- عن الزواج؛ فهو غير قادر على إعالة نفسه كي يعيل غيره، فضلا عن أنه لا يرغب في ظلم كائن جديد- طفل- ليعيش بائسا مثله: "صديقتي لا أحد: لماذا تراهم يوهمون الرجال أن الأبوة ليست كالأمومة في سطوتها؟! ربما كنت مثلك، أكثر ما يجرحني ويحرجني أني لم أصر أبا بعد، ولا أرى أن ذلك الحلم قريب. أريد لأطفالي أن يعيشوا سُعداء، أن يتنفسوا هواء نقيا، ألا يُحشروا في حومة زغارة المُزدحمة. أن يكون لكل منهم غرفته الخاصة، ونافذة حلم، أن يفتحوا عيونهم على أم سعيدة لا تثقلها هموم الحماة الشريرة، والمُرتب الذي يذوب في اليوم العشرين من الشهر، لقد صرنا نعيش على حافة الأشياء، نخاف من كل شيء، نخاف أن نحب كي لا نفكر في الارتباط. وإذا حدث وتعرفنا على فتاة نمارس عليها كل أنواع الأذى، نُكرهها فينا؛ لأننا لا نقدر على الحب، حتى تمل منا وتهرب بالروح. هبل نُمارسه لنُسكت أبوتنا في بلد "الله غالب"، لقد نكت عليا الرئيس عندما قال: إذا كانت الشهادتان على علم العربية السعودية، و"الله أكبر" على راية العراق؛ فعلينا أن نكتب "الله غالب" على علمنا. الله غالب على كل البشر، لكنها عندنا تكون على "الزوالية" الذين أقصى أحلامهم بيت، ومهر، وطفلان"!

إن الإفقار المُتعمد للمواطن الجزائري من قبل السُلطة السياسية يجعله يفقد آماله في الحياة، وفي الزواج، وفي المواطنة، وفي كل شيء، حتى أن الكثيرين منهم يكون أقصى طموحهم هو الرحيل من البلد، أن يكون مُجرد "حراقا" ويهرب عن طريق البحر: "نادت أمي خالتي "الزهرة" رفيقة زياراتها التي لا تفوّت فرصة لتتمسح في بركة الضريح عله يمنحها ما يشفي وحيدها من هلوساته وشروده الدائم على سطح العمارة، كان يراقب البواخر التي تمضي. يعرف أسماءها جميعا، جنسياتها، وجهتها. ليس هناك في الميناء من لا يعرف وليد. فشل في الحرقة خمس مرات، في كل مرة يعاود الكرة بإصرار مُباشرة بعد إطلاق سراحه. قال لي يوما: لن أتوقف عن المحاولة أبدا، إما أن أنجح، أو يصير البحر قبري، "ياكني الحوت وما ياكلنيش الدود هنا"، أريد رؤية الدنيا، وأصبح على وجوه أناس سُعداء، أريد التنفس بعيدا عن مدينة الاختناق هذه".

إذن، فحال ما وصل إليه المواطن الجزائري من بؤس جعله في النهاية يفضل الموت غرقا على أن يظل داخل الوطن؛ حيث يتساوى لديه- في هذا الحال- الحياة مع الموت، فهو ميت على أرض الوطن، وميت إذا ما غرق أثناء محاولة هروبه من الجحيم الداخلي في وطنه!

هذه الهموم الاجتماعية التي التفتت إليها حنان بوخلالة لم تكن هي الوحيدة التي ساقتها في نسيج عملها الروائي فقط، بل حرصت على تأمل الفساد الذي يسود كل ما حولها، سواء على مستوى الجزائر أو مصر، أو غيرهما من الدول العربية الأخرى، حينما تكتب على لسان جدة زينب مُتعرضة في ذلك للخلاف الذي نشب بين المصريين والجزائريين بسبب مُباراة كروية: "تدعو الله أن ينصر الجزائر ويحشم المصريين الذين سبوا بلدنا وشهداءنا، واستخفوا بثورتنا، وفوق كل هذا ضربوا لاعبينا، تمزق قلبها على أحدهم وهي تراه يخرج من تلك المُباراة مربوط الرأس: صغير وشباب، مسكين جاي لدنيا علاه يديرولوا هكدا؟ ماعليش يروحو للسودان إن شاء الله فيها خير. والله صح خاسرين ولم يسلموا، قالوا: إنه ثمة موتى أدخلوا عشرين تابوتا مطار الجزائر، قالوا أيضا: إن الرئيس سيلقي خطبة، لكنه لم يفعل. لو ترين الذي رأيته على هاتف خالك، العجب، حتى إني رأيت فيديو لمُناصر جزائري مات من ضرب المصريين، أغضبني منظر العلم المُغطى بالدماء، إنه العلم الذي مات من أجله الرجال. لا أحاول مُناقشة جدتي فيما هو حقيقة، وما هو مُجرد إشاعات، وما أكثرها، لا أحاول إفهامها الهدف الذي يرمي إليه كل طرف من هذه المُباراة في بلدين يحتلان على التوالي أولى مراتب الفساد". أي أن الروائية، هنا، لا يفوتها تأمل وضع الفساد السياسي في كل من مصر والجزائر، وما أدى إليه هذا الفساد من إشعال البغض بين الشعبين لمُجرد استغلال مُباراة رياضية.

لكن، لعل أهم ما تلتفت إليه حنان بوخلالة في روايتها هو التقاليد الخانقة التي يعيش فيها المُجتمع الجزائري، وهي التقاليد التي تكاد أن تقضي على الجميع، سواء على الرجل أو المرأة معا، مما يُدلل على وطأتها داخل مُجتمعاتنا العربية بشكل خانق، وهو ما نُلاحظه في موقف أم زينب منها حينما رأتها تقيء: "لم أستطع التحمل. حشرت إصبعي في حلقي وتقيأت. أف، شعرت بعدها بتحسن كبير. غريب، كم يشعرنا الفراغ بالراحة، أسرعت أمي إليّ: "يا طفلة واش بيك"؟ لمعت عيناها فجأة: "لعلك...". أقاطعها قبل أن تكمل تخمينها: لست حاملا، تأكدي. تنطفئ شعلة عيونها، وتردف كأنها تذكرت فجأة: سأصاب بالجلطة من ورائك، أنت من سيقتلني، لماذا خرجت؟ إنها عدة، تعرفين ما معنى عدة؟ عليك مُلازمة البيت لثلاثة شهور"!

علنا نلحظ في الاقتباس السابق وطأة التقاليد التي تقتل المرأة لمُجرد أنها قد باتت مُطلقة، ومن ثم يصبح ليس من حقها الحياة كأي إنسان عادي، بل عليها أن تُحبس في منزلها إلى أن تنتهي عدتها، وكأنها لم يعد لها الحق في الحياة كسائر البشر! وهو ما نلحظه بشكل أثقل وطأة في حديث الكوافيرة لزينب ليلة زفاقها: "اليوم سينتهي حياؤك على يديه. المهم أوصيك إياك أن تُظهري تجاوبا معه، الرجال يحبون المرأة التي تكون باردة في أيام الزواج الأولى، يمكن أن يشك فيك إذا تجاوبت معه. "كي يكسرك العبيها توجعتي بزاف حتى إيلا ما حسيتيش بالوجع""! أي أن التقاليد التي تعيش فيها المُجتمعات العربية هنا تُشجع على الزيف والخداع بين الجميع؛ نتيجة الظن بأن المرأة إذا ما أظهرت أي تجاوب جنسي مع رجلها في علاقتهما الجنسية، فهي بالتأكيد سيئة الأخلاق والسُمعة، ولا يمكن الاطمئنان إلى أخلاقها؛ لأنها تعرف شيئا عن الجنس، وبالتالي تصبح مشكوكا في أخلاقها! ومن هنا يأتي الزيف في العلاقات وادعاء المُتعة.

كذلك نظرة المُجتمع لخديجة شقيقة عليلو/ فتى السايبر التي انتحرت فاعتبرها المُجتمع مُجرمة لا بد من أن تصير مثلا دائما في أحاديثهم باعتبار أنها قد ماتت وزوجها غير راضٍ عنها، وكأن الحق في حياة المرأة أو موتها ملك للرجل فقط، لا سيما الزوج الذي يمتلك حتى حياتها: "ما زال معارفنا يتداولون حكاية خديجة التي ستدخل جهنم؛ لأنها ماتت وزوجها غير راضٍ عنها. حتى إمام حينا لم نسلم منه، كلما خطر بباله أن يلقي خطبة عن طاعة الزوجة لزوجها؛ ضرب المثل بخديجة الناشز، لقد انكسر أبي من وقتها. توقف عن الذهاب إلى المسجد، عن مُقابلة أصدقائه، يكتفي بمُراقبتهم من الشُرفة وحسرة كبيرة لا تُفارق ملامحه"!

إن رواية "سوسطارة" للروائية الجزائرية حنان بوخلالة من الأعمال الفنية التي تغرق في الذاكرة، وتستغرق فيها للتدليل على أن الإنسان إذا ما انغمس في ذكرياته؛ يكون كمن فارق الحياة رغم أنه ما زال على ظهرها يسعى بين الناس، لكنه سعي الأموات المُنفصلين تماما عما يدور من حولهم، ورغم أن زينب هي من سعت إلى الطلاق، إلا أنها تظل أسيرة لهذه الذاكرة، ولحبها، ولفرصتها في الحياة التي ضاعت بسبب قرارها، وهو ما يجعلها مُضطربة في كل ما تشعر به، أو تتخذه من قرارات؛ فرغم أنها نالت ما رغبت فيه إلا أنها تظل تجتر يوسف وحياتها معه لدرجة أنها لا تعرف على وجه اليقين ما ترغبه منه، أو حتى ما ترغبه من حياتها: "كدت أجن بهجة وسرورا اليوم، تصور، لقد اتصل يوسف بي. كنت سأموت بقهري لو لم يتصل، لو لم أعرف أنه عانى من فراقي ولو قليلا، لو لم يعترف أخيرا أنه يشتاقني، ويريدني أن أعود، وأن الفراغ الذي تركته لن يسده سواي".

إن رد فعل زينب على اتصال يوسف بها، وسعادتها الحقيقية بمثل هذا الاتصال إنما يُدلل على امرأة مُضطربة على مستوى المشاعر، امرأة مُتخبطة تماما غير قادرة على تحديد أين من المُمكن لها أن تضع قدميها، امرأة مُختلة المعايير في جل قراراتها التي تتخذها بطفولية لا نضج فيها، وهو ما يجعلها أسيرة ذاكراتها للأبد.

لكن، رغم مقدرة الروائية على صياغة عالمها الروائي والتعبير عنه بشكل فني لا يمكن لنا إنكاره عليها، إلا أنها- كغيرها من الكثيرين من الروائيين، لا سيما الجزائريين- لديها كارثة حقيقية في اللغة العربية؛ حيث اكتظ العمل الروائي بالكثير من الكوارث اللغوية التي تُفسد الكثير من جمال وفنية النص الروائي، خاصة أنها تبدو جاهلة تماما بوجود ما يُسمى بعلامات الترقيم في اللغة العربية، أو أنها تعرف بوجودها، لكنها تجهل وظيفتها في الكتابة؛ الأمر الذي جعلها تتجاهلها تماما على طول النص الروائي؛ مما أدى إلى صعوبة عملية القراءة؛ فعلامات الترقيم لها وظيفة محورية في منع تداخل الجمل مع بعضها البعض، وبالتالي عدم اختلاط المعنى الذي يرغب الكاتب في قوله، ومع تجاهل الكاتب لعلامات الترقيم أثناء الكتابة، يؤدي ذلك إلى مُعاناة من يقرأ النص، وحاجته الماسة إلى التركيز المُضاعف، والقراءة ببطء شديد حتى لا تتداخل المعاني، أو يتحول النص لديه إلى مُجرد فوضى لغوية لا معنى لها، ولعلنا لا نلوم الكاتبة وحدها على هذا الأمر؛ فمن الواضح لمن يقرأ العمل الروائي أن دار النشر بدورها لم تراجعه، أو تنظر فيه قبل النشر، وهو ما نتيقن منه نتيجة الأخطاء الإملائية الكثيرة، وأخطاء الرقن التي كانت واضحة، فضلا عن الأخطاء النحوية الفادحة. فعلى سبيل المثال تجهل الروائية مواضع الهمزة على طول العمل، ومن ثم تخلط بين همزة القطع، وألف الوصل كثيرا، كما نراها تكتب "كاره من الدنيا" بدلا من "كارها للدنيا" لا سيما أن مُفردة "كاره" قد سبقها الفعل الناقص الناسخ "يكون" مما يجعل "كاره" هنا خبر يكون أي منصوبا بالفتحة. وكتابتها "إنكم" بدلا من "إنكن" مما يُدلل على الخلط في الضمائر، وكتابتها "يملؤ" بدلا من "يملأ" فالهمزة هنا مُتطرفة بعد فتح، وعدم اهتمامها بحروف الجزم وعملها فيما بعدها فتكتب "لم تبدو" بدلا من "لم تبدُ"، و"لا تنسى" بدلا من "لا تنس" لأن الفعل قد جاء بعد أمر مما يستدعي حرف حرف العلة، وكتابتها "أن محمد" بدلا من "أن محمدا" لأن محمدا هنا اسم أن منصوب، وكتابتها "التبرء" بدلا من "التبرؤ"، و"فجأتني" بدلا من فاجأتني"، و"يجرأ" بدلا من "يجرؤ" مما يُدلل على أن الكاتبة لا تعرف أماكن الهمزة في اللغة، و"ثلاث شهور" بدلا من "ثلاثة شهور" لأن العدد هنا يخالف المعدود في التأنيث والتذكير، وشهور مّذكر، و"مكانا صغير" بدلا من "مكانا صغيرا" حيث الصفة تتبع الموصوف في الإعراب، و"ساقاها التي" بدلا من "ساقاها اللتان" فهي تخلط في الضمائر، كما لا يفوتنا أنها قد ذكرت في صفحة 9 ميمي السحارة، ولم تلبث أن قالت عنها في صفحة 10: زيزي السحارة الأمر الذي يؤكد أن العمل الروائي لم تتم مُراجعته سواء من المُؤلفة أو الناشر!

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد مايو 2022م.

 

 

 

 

 

الخميس، 5 مايو 2022

باربارا.. جمهورية الارتياب!

في فيلم يتأمل بعمق شكل الحياة اليومية في ألمانيا الشرقية الاشتراكية في الثمانينيات من القرن الماضي يقدم لنا المخرج الألماني Christian Petzold كريستيان بيتزولد فيلمه المهم Barbara باربارا الذي يهتم بعرض الحياة الكابوسية التي يحياها مواطنو ألمانيا الاشتراكية التي حولت مبادئ الاشتراكية إلى كابوس عميق لا يمكن له أن ينتهي بالنسبة لمن يعيش فيها؛ فالجميع تحت عيني السلطة، سواء بشكل مُباشر، أو بشكل غير مُباشر بجعل جميع المواطنين مجرد مخبرين/ جواسيس على بعضهم البعض، ومن ثم كتابة التقارير عن الآخرين والإبلاغ عنهم، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى الفقر والعوز الشديدين اللذين يعاني منهما جميع مواطني الكتلة الشرقية، وحرمانهم من كل حقوقهم السياسية والإنسانية، بل واستخدام معلومات المواطن الشخصية التي تعرفها عنه السلطة في تدمير حياته وإيقافها تماما إذا ما استلزم الأمر لمجرد الرغبة في السيطرة على الجميع وكأنهم مجرد آلات في يد السلطة السياسية التي تحركهم كيفما شاءت، وأينما أرادت!

إنها الأفكار الأثيرة والمنطقة التاريخية المُفضلة للمخرج الألماني كريستيان بيتزولد الذي يحلو له تأمل أثر الحرب العالمية الثانية على ألمانيا، لا سيما بعد انقسامها إلى شرقية وغربية، وما أدى إليه ذلك من تدمير الكتلة الشرقية على وجه الخصوص التي تحولت إلى مجرد مُعتقل كبير لسكانها الذين لم يجدوا من يعمل على إنقاذهم حتى لو كان من الجزء الغربي.

رغم بساطة الفيلم الذي لا يحتوي الكثير من الأحداث، والذي يكاد أن يسير بوتيرة ثابتة/ ستاتيكية إلا أنه يُعد من أهم أفلام المخرج؛ نظرا لشغفه واهتمامه بالتركيز على التفاصيل الدقيقة، والمشاعر التي تعتمل داخل شخصياته، لا سيما مشاعر الخوف الدائم والارتياب من الجميع، وهو ما يجعل الشخصية الرئيسية باربارا- قامت بدورها الممثلة الألمانية Nina Hoss نينا هوس- تحرص على أن تحيا من خلال شخصيتين مُنفصلتين أو مُختلفتين، إحداهما باردة تماما تكاد أن تكون ثلجية لا مشاعر أو ردود أفعال لديها، بينما تحتفظ بشخصيتها الحقيقية سرا؛ الأمر الذي يجعلها تكاد تكون غير حية على الإطلاق!


يحرص بيتزولد على أن يبدأ فيلمه بشخصية الطبيبة باربارا التي وصلت لتوها إلى بلدة إقليمية صغيرة منزوية في عمق الريف الألماني بعدما تم نقلها من المشفى الذي كانت تعمل فيه في برلين كعقاب لها؛ لأنها طلبت إذنا بالخروج من ألمانيا الشرقية للحاق برجل تحبه في ألمانيا الغربية، وهو الأمر الذي جعلها تحت المراقبة ليل نهار بعد سجنها لفترة، حتى أنها لا يحق لها التنزه داخل البلدة ليلا أو نهارا إلا إذا ما أبدت السبب في خروجها خارج منزلها أو المشفى الذي انتقلت إليه.

سنعرف أن رئيس الأطباء في المشفى الجديد أندريه- قام بدوره الممثل الألماني Ronald Zehrfeld رونالد زرفيلد- فضلا عن كونه رئيس الأطباء، فهو يقوم بدور المُخبر الذي يكتب التقارير عن الجميع من زملائه؛ وبالتالي فباربارا واقعة تحت رقابته الصارمة لها، التي يرفع من خلالها التقارير عنها إلى السلطات السياسية.


تحرص باربارا على عدم الاختلاط بالجميع، وتظل صامتة طول الوقت، بل نادرا ما نرى ابتسامتها على وجهها، وكأنما وجهها منحوت من الحجر أو أنها لا تمتلك أي قدر من المشاعر أو ردود الأفعال؛ الأمر الذي يفسره الجميع من زملائها بأنها تتعالى عليهم ولا تحاول الاختلاط بهم؛ لأنها أتت إليهم من برلين.

يحاول أندريه غير مرة التقرب منها، أو محاولة التواصل معها، لكنها تحرص على التعامل معه بفظاظة تنطلق من وراء ستار جليدي ضخم لا يمكن له أن ينم عن أي شيء من حقيقتها، ولعلها كانت مُحقة كثيرا في هذا الارتياب منه ومن الجميع لا سيما حينما رآها أمام المشفى في اليوم الذي وصلت فيه بعد انتهاء العمل واقفة في انتظار وسيلة مواصلات لتقلها إلى شقتها؛ فيتوقف أمامها بسيارته طالبا منها إيصالها؛ لأن المواصلات هنا نادرة؛ فنراها تقول له حينما يأخذ الطريق إلى منزلها من دون أن يسألها عن وجهتها: كان عليك أن تسألني: هل أمرّ من هذا الشارع؟ فيرد عليها: ماذا كان عليّ أن أسألك؟ فتقول: أين أعيش، لكنك تعلم ذلك مُسبقا. ولماذا قدمت إلى المحافظة، لكنك تعلم هذا أيضا، لا تندهش، لقد أخبروك عني، أنت من أحضرتني.


إنها تمتلك داخلها قدرا من الارتياب الذي يجعلها غير قادرة على الثقة في أي شخص من المُحيطين بها، وكأننا أمام دولة ضخمة من المُخبرين الذين يراقبون بعضهم البعض من أجل الوشاية، أو مجتمع كامل مريض بالشك تجاه بعضه البعض؛ حتى إنه إذا ما التفت أحدهم إلى الآخر بالمُصادفة يتخيل الآخر أن من ينظر إليه يراقبه مثلما رأينا في عدة مشاهد لا سيما حينما كانت باربارا في الحافلة والتفتت إليها إحداهن؛ فتشككت أنها تراقبها من أجل الوشاية بها!

إن الحياة تحت هذا الشكل من أشكال الضغط النفسي لا بد لها أن تؤدي بصاحبها إلى الجنون، أو مرض الارتياب الدائم، كما أنها تتحول إلى كابوس ضخم لا يمكن الانتهاء منه، أي أن الأمر يؤدي في النهاية إلى فقدان الحياة لمذاقها؛ نظرا لشعور المرء بأنه مُقيد طيلة الوقت، وواقع تحت المُراقبة التي لا تنتهي. يتضافر مع ذلك حملات التفتيش الدائمة التي تستقبلها باربارا في شقتها من قبل السلطة السياسية من أجل البحث عن أي شيء ربما تكون قد أخفته عنهم، أو تكون عازمة على فعله، وهو ما يجعل الأمن يفاجئها كثيرا في شقتها للتفتيش في كل شيء، لدرجة التفتيش الذاتي في جسدها وفتحاتها الجنسية أيضا!


إن الفقر الشديد الذي وقعت تحته ألمانيا الشرقية تحت مُسمى الاشتراكية جعل مواطنيها محرومين من كل مبادئ الحياة الطبيعية، حتى أنهم ينظرون إلى الغربيين من ألمانيا باعتبارهم أناس من كوكب آخر، أو عالم آخر، وهي التفصيلة التي حرص المخرج كريستيان بيتزولد على التركيز عليها حينما رأى أحد المواطنين سيارة مرسيدس لمواطن غربي متوقفة على جانب الطريق؛ فنرى المواطن الشرقي يتوقف بسيارته المُتهالكة من أجل مشاهدة السيارة المرسيدس وتأملها، والحديث مع صاحبها، بل وظنه أن عجلة المقود تدفئ يدي السائق في فصل الشتاء، أي أن الكتلة الشرقية كادت أن تجعل مواطنيها خارج الحياة تماما، فضلا عن الديكتاتورية، والقبضة الحديدية على مواطنيها، وتفشي قيم الوشاية والتجسس، والخيانة بين سكانها في سبيل أن ينجو كل شخص بنفسه من قبضة الأمن الباطشة.


نعرف أن باربارا تُخطط للهروب إلى ألمانيا الغربية مع حبيبها الألماني الغربي، وتسعى إلى ذلك، لكنها في ذات الوقت تقوم بأداء عملها بأمانة؛ نظرا لحبها وإخلاصها للعمل كطبيبة، وهو الأمر الذي تلاقت فيه مع الطبيب أندريه الذي يتفانى في أداء عمله كطبيب. لكن، رغم محاولات أندريه في التقرب منها إلا أنها تُصرّ على فظاظتها معه؛ الأمر الذي يجعله يعترف لها من أجل طمأنتها واكتساب ثقتها فيقول: كنت أعمل في مستشفى إيبرسلاند، وكانت هناك آلات جديدة من نيوزيلاندا تساعد في ولادة الأطفال قبل اكتمالهم، وكانت تعليمات التشغيل بالإنجليزية ومكونة من 26 صفحة، وأنا من عملت عليها، وكانت مساعدتي تتحدث القليل من الإنجليزية، ورغبت في إثارة إعجابي، وفي إحدى الليالي كنت مُتعبا كحالي الآن؛ فأحضرت لي بطانية وطلبت مني النوم، وأخبرتني أنها ستهتم بكل شيء، لكنها خلطت بين درجة الحرارة المئوية والفهرنهايت؛ مما أدى إلى توليد ضغط كبير؛ ففصل شبكية العين في الأطفال الرضع، كان هناك اثنين منهم. حاولنا إنقاذهما، لكنهما أصيبا بالعمى مدى الحياة، وأصبحت أنا المسؤول عن الحادث، وانتهى الأمر بأن لا مزيد من برلين ومن مستشفى شارتيه. الرجال هناك عرضوا عليّ التكتم على الأمر مُقابل الذهاب إلى مستشفى في الأقاليم، وفي مقابل هذه السرية عليّ أن أسلمهم التقارير، فلم يكن لدي أي طموح في هذا الأمر.


أي أنه يؤكد لها أنه لم تكن لديه أي رغبة في أن يكون واشيا/ مُخبرا على زملائه من أجل كتابة التقارير والزج بهم في السجون، بل كان الأمر تحت ضغط شديد بسبب الخطأ الذي ارتكبته زميلته، لكن رغم اعتراف أندريه لباربارا من أجل محاولة اكتساب ثقتها نراها تتشكك في روايته وتسأله: هل هذه الرواية حقيقية بالفعل؟

إن الارتياب الشديد والشك في كل شيء هو شعور ثقيل الوطأة يسيطر على كل شيء في ألمانيا الشرقية التي تدعي الديمقراطية، وهو الأمر الذي لا يمكن الحياة في كنفه بارتياح؛ مما يدفع الكثيرين للرغبة في الهروب إلى ألمانيا الغربية.

تصل إلى المشفى فتاة مُراهقة تدعى ستلا- قامت بدورها الممثلة السويسرية Jasna Fritzi Bauer جاسنا فريتزي باور- مُصابة بالتهاب السحايا بعد محاولة هروبها من مخيم تورجاو، وهو من المُخيمات الاشتراكية للإبادة؛ فتتعامل معها باربارا بشكل فيه قدر كبير من الأمومة؛ الأمر الذي يجعل الفتاة تميل إليها وترفض أن يقترب أحد منها سوى باربارا، ويكتشف أندريه أثناء تحليله لدمها في معمله الخاص أن الفتاة حامل بطفل ويخبر باربارا التي تؤكد له أن حملها خطرا عليها؛ لأن السلطات ستأخذ الطفل منها ولن تسمح لها بالاحتفاظ به، لكن بمجرد شفاء الفتاة تأتي السلطات لإعادتها مرة أخرى إلى المخيم عنوة.


تتفق باربارا مع حبيبها من ألمانيا الغربية- الذي التقته في وطنها- على تسهيل هروبها إليه، وتلتقي به في أحد الفنادق ليلا، لكن أثناء انشغاله باجتماع في بهو الفندق تلتقي بفتاة أخرى من ألمانيا الشرقية التقاها صديق حبيبها وتتأكد من خلال لقائها بها أن الرجال في ألمانيا الغربية لا ينظرون إلى فتيات ألمانيا الشرقية إلا باعتبارهن أشياء من الممكن التجارة فيها مُستغلين فيهن فقرهن وحاجتهن، لا سيما أنه أخبرها بأنها حينما تصل إلى ألمانيا الغربية فهي ليست في حاجة إلى العمل لأنه لديه الكثير من المال، وهنا تبدأ في إعادة التفكير في علاقتها به، رغم إصرارها على الهروب.

يأتي إلى المشفى أحد الفتيان المُراهقين الذي حاول الانتحار بسبب قصة حب، ونتيجة لمحاولته أُصيب بارتجاج في المخ. يحاول كل من أندريه وباربارا العناية به، ويتشككان في وجود جلطات دماغية، ولا بد من إجراء عملية في المخ بسببها، لكن أندريه يقرر إجراء العملية في اليوم الذي قررت فيه باربارا الهروب، وهو اليوم الذي أخذت فيه إجازة من أجل تسهيل عملية هروبها، ورغم أن أندريه طلب منها أن تقوم بتخدير الفتى إلا أنها تحاول الهروب في هذه الليلة، وفي الوقت الذي كانت فيه تستعد للهروب تسمع صوت دقات خافتة على باب شقتها، وتُفاجأ بستلا التي هربت من المُخيم مرة أخرى، وقد أُصيبت في فخذها بجرح عميق بسبب الأسلاك الشائكة.


تعتني باربارا بالفتاة، وتتوسل إليها ستلا ألا تتخلى عنها؛ الأمر الذي يجعلها تتعامل معها بأمومة واضحة وتأخذها معها إلى البحر- طريق الهروب- وحينما يصل الرجل الذي سيعمل على تهريبها بحرا؛ تسلمه باربارا المال مُقابل التهريب، وتسلم له ستلا ليعمل على تهريبها ثم تعود أدراجها مرة أخرى وقد تخلت عن فكرة الهروب.

ربما نلاحظ أن تخلي باربارا عن فكرة الهروب من الجحيم الذي تعيش فيه في ألمانيا الشرقية يعود لسببين رئيسيين: الأول هو حينما لمحت في حبيبها الذي ترغب في الهروب معه النظر إليها باعتبارها فتاة فقيرة من ألمانيا الشرقية يعطف عليها، ولا يحبها بعمق، كما أن المال بالنسبة له كان هو الأهم، والسبب الثاني والأقوى والرئيس أنها قد بدأت تشعر بمشاعر حقيقية تجاه أندريه الذي حاول جاهدا التقرب إليها واكتساب ثقتها، والتأكيد لها أنه ليس لديه ميلا طبيعيا ليكون واشيا أو مُخبرا على الآخرين، بل دُفع إلى هذا الفعل مُرغما، ومن ثم نبتت بينهما الكثير من المشاعر التي شاهدناها حينما دعاها إلى بيته على إحدى الوجبات التي أعدها لها بنفسه، واقتربت منه فجأة لتقبيل شفتيه في اعتراف مُباشر منها بحقيقة مشاعرها تجاهه، وأنها قد وقعت في حبه بالفعل وزال ستار الشك والارتياب تجاهه داخلها.

المخرج الألماني كريستيان بتزولد

إن قبول باربارا البقاء في الكابوس الاشتراكي لألمانيا الشرقية كان له مُبرره الذي يحرص المخرج على إيضاحه للمُشاهد وكأنه يرغب القول: مهما كان الواقع الذي نحيا فيه كابوسيا، ومهما كانت الضغوط من حولنا، فإننا نستطيع التكيف والحياة مع هذا الواقع المُزري في حالة إذا ما وجدنا الشريك الذي يستطيع أن يشاركنا حياتنا ويربط بيننا الكثير من المشاعر والتفاهم الكافي، ولأن باربارا وأندريه يمتلكان الكثير من العوامل المُشتركة منها الإخلاص في مهنتيهما الطبية، وتقاربهما، ومشاعر الحب التي بدأت تنسج نفسها حولهما؛ فلقد رأت أن إمكانية البقاء من المُمكن لها أن تجعل حياتهما أفضل، فضلا عن مشاعر الأمومة والمسؤولية التي شعرت بها تجاه ستلا، ومن ثم آثرتها على نفسها في عملية الهروب، بدلا من هروبها بنفسها.

يؤكد لنا المخرج الألماني كريستيان بيتزولد من خلال فيلمه المُهم باربارا أن الحرب العالمية الثانية وفكرة النازية التي أغرق بها أدولف هتلر ألمانيا كان لها من الآثار السلبية والمُدمرة على المُجتمع الألماني ما أدى إلى تدمير ألمانيا والحياة فيها، لا سيما الكتلة الشرقية منها، وهي الكتلة التي تحولت إلى جحيم على الأرض يحيا فيه مواطنو هذه الكتلة، وهو من خلال فيلمه يعمل على التركيز على النتائج التي أدت إليها هذه الحرب، بل ويتأمل التفاصيل الدقيقة جدا في حياة الألمان الذين علقوا في هذه المنطقة من ألمانيا، وكيف عاشوا مجموعة من المشاعر المُتناقضة والخانقة، والقاتلة حتى أنهم تحولوا إلى مجموعة من الآلات البشرية، أو الأدوات التي تتحكم فيها السلطة السياسية وتتصرف فيهم كيفما شاءت، وكأنها تجردهم تماما من بشريتهم وإنسانيتهم.

الممثلة الألمانية نينا هوس


إلا أننا لا يفوتنا الأداء المُكتمل للممثلة الألمانية نينا هوس- المُمثلة الأثيرة للمخرج في أفلامه السابقة- التي تتقن جيدا أداء الشخصية المرسومة لها في السيناريو بشكل يكاد يكون أبرع مما كان في ذهن السيناريست أو المخرج؛ وبالتالي تعطي المخرج نتائج تمثيلية مُبهرة تجعل المُشاهد مُتعلق أيما تعلق بأدائها، لا سيما صمتها التام والثلجي، وحزنها الباد في عينيها، وفقدها لأي رد فعل أمام الغرباء، وتصويرها للحالة المُرهقة نفسيا للمواطن الألماني في الكتلة الشرقية حتى أننا لم نر ابتسامتها طوال مدة الفيلم إلا نادرا حينما تكون مع حبيبها فقط.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد مايو 2022م.