إنها الأفكار الأثيرة والمنطقة التاريخية المُفضلة للمخرج الألماني كريستيان بيتزولد الذي يحلو له تأمل أثر الحرب العالمية الثانية على ألمانيا، لا سيما بعد انقسامها إلى شرقية وغربية، وما أدى إليه ذلك من تدمير الكتلة الشرقية على وجه الخصوص التي تحولت إلى مجرد مُعتقل كبير لسكانها الذين لم يجدوا من يعمل على إنقاذهم حتى لو كان من الجزء الغربي.
رغم بساطة الفيلم الذي لا يحتوي الكثير من الأحداث، والذي يكاد أن يسير بوتيرة ثابتة/ ستاتيكية إلا أنه يُعد من أهم أفلام المخرج؛ نظرا لشغفه واهتمامه بالتركيز على التفاصيل الدقيقة، والمشاعر التي تعتمل داخل شخصياته، لا سيما مشاعر الخوف الدائم والارتياب من الجميع، وهو ما يجعل الشخصية الرئيسية باربارا- قامت بدورها الممثلة الألمانية Nina Hoss نينا هوس- تحرص على أن تحيا من خلال شخصيتين مُنفصلتين أو مُختلفتين، إحداهما باردة تماما تكاد أن تكون ثلجية لا مشاعر أو ردود أفعال لديها، بينما تحتفظ بشخصيتها الحقيقية سرا؛ الأمر الذي يجعلها تكاد تكون غير حية على الإطلاق!
يحرص بيتزولد على أن يبدأ فيلمه بشخصية الطبيبة باربارا التي وصلت لتوها إلى بلدة إقليمية صغيرة منزوية في عمق الريف الألماني بعدما تم نقلها من المشفى الذي كانت تعمل فيه في برلين كعقاب لها؛ لأنها طلبت إذنا بالخروج من ألمانيا الشرقية للحاق برجل تحبه في ألمانيا الغربية، وهو الأمر الذي جعلها تحت المراقبة ليل نهار بعد سجنها لفترة، حتى أنها لا يحق لها التنزه داخل البلدة ليلا أو نهارا إلا إذا ما أبدت السبب في خروجها خارج منزلها أو المشفى الذي انتقلت إليه.
سنعرف أن رئيس الأطباء في المشفى الجديد أندريه- قام بدوره الممثل الألماني Ronald Zehrfeld رونالد زرفيلد- فضلا عن كونه رئيس الأطباء، فهو يقوم بدور المُخبر الذي يكتب التقارير عن الجميع من زملائه؛ وبالتالي فباربارا واقعة تحت رقابته الصارمة لها، التي يرفع من خلالها التقارير عنها إلى السلطات السياسية.
تحرص باربارا على عدم الاختلاط بالجميع، وتظل صامتة طول الوقت، بل نادرا ما نرى ابتسامتها على وجهها، وكأنما وجهها منحوت من الحجر أو أنها لا تمتلك أي قدر من المشاعر أو ردود الأفعال؛ الأمر الذي يفسره الجميع من زملائها بأنها تتعالى عليهم ولا تحاول الاختلاط بهم؛ لأنها أتت إليهم من برلين.
يحاول أندريه غير مرة التقرب منها، أو محاولة التواصل معها، لكنها تحرص على التعامل معه بفظاظة تنطلق من وراء ستار جليدي ضخم لا يمكن له أن ينم عن أي شيء من حقيقتها، ولعلها كانت مُحقة كثيرا في هذا الارتياب منه ومن الجميع لا سيما حينما رآها أمام المشفى في اليوم الذي وصلت فيه بعد انتهاء العمل واقفة في انتظار وسيلة مواصلات لتقلها إلى شقتها؛ فيتوقف أمامها بسيارته طالبا منها إيصالها؛ لأن المواصلات هنا نادرة؛ فنراها تقول له حينما يأخذ الطريق إلى منزلها من دون أن يسألها عن وجهتها: كان عليك أن تسألني: هل أمرّ من هذا الشارع؟ فيرد عليها: ماذا كان عليّ أن أسألك؟ فتقول: أين أعيش، لكنك تعلم ذلك مُسبقا. ولماذا قدمت إلى المحافظة، لكنك تعلم هذا أيضا، لا تندهش، لقد أخبروك عني، أنت من أحضرتني.
إنها تمتلك داخلها قدرا من الارتياب الذي يجعلها غير قادرة على الثقة في أي شخص من المُحيطين بها، وكأننا أمام دولة ضخمة من المُخبرين الذين يراقبون بعضهم البعض من أجل الوشاية، أو مجتمع كامل مريض بالشك تجاه بعضه البعض؛ حتى إنه إذا ما التفت أحدهم إلى الآخر بالمُصادفة يتخيل الآخر أن من ينظر إليه يراقبه مثلما رأينا في عدة مشاهد لا سيما حينما كانت باربارا في الحافلة والتفتت إليها إحداهن؛ فتشككت أنها تراقبها من أجل الوشاية بها!
إن الحياة تحت هذا الشكل من أشكال الضغط النفسي لا بد لها أن تؤدي بصاحبها إلى الجنون، أو مرض الارتياب الدائم، كما أنها تتحول إلى كابوس ضخم لا يمكن الانتهاء منه، أي أن الأمر يؤدي في النهاية إلى فقدان الحياة لمذاقها؛ نظرا لشعور المرء بأنه مُقيد طيلة الوقت، وواقع تحت المُراقبة التي لا تنتهي. يتضافر مع ذلك حملات التفتيش الدائمة التي تستقبلها باربارا في شقتها من قبل السلطة السياسية من أجل البحث عن أي شيء ربما تكون قد أخفته عنهم، أو تكون عازمة على فعله، وهو ما يجعل الأمن يفاجئها كثيرا في شقتها للتفتيش في كل شيء، لدرجة التفتيش الذاتي في جسدها وفتحاتها الجنسية أيضا!
إن الفقر الشديد الذي وقعت تحته ألمانيا الشرقية تحت مُسمى الاشتراكية جعل مواطنيها محرومين من كل مبادئ الحياة الطبيعية، حتى أنهم ينظرون إلى الغربيين من ألمانيا باعتبارهم أناس من كوكب آخر، أو عالم آخر، وهي التفصيلة التي حرص المخرج كريستيان بيتزولد على التركيز عليها حينما رأى أحد المواطنين سيارة مرسيدس لمواطن غربي متوقفة على جانب الطريق؛ فنرى المواطن الشرقي يتوقف بسيارته المُتهالكة من أجل مشاهدة السيارة المرسيدس وتأملها، والحديث مع صاحبها، بل وظنه أن عجلة المقود تدفئ يدي السائق في فصل الشتاء، أي أن الكتلة الشرقية كادت أن تجعل مواطنيها خارج الحياة تماما، فضلا عن الديكتاتورية، والقبضة الحديدية على مواطنيها، وتفشي قيم الوشاية والتجسس، والخيانة بين سكانها في سبيل أن ينجو كل شخص بنفسه من قبضة الأمن الباطشة.
نعرف أن باربارا تُخطط للهروب إلى ألمانيا الغربية مع حبيبها الألماني الغربي، وتسعى إلى ذلك، لكنها في ذات الوقت تقوم بأداء عملها بأمانة؛ نظرا لحبها وإخلاصها للعمل كطبيبة، وهو الأمر الذي تلاقت فيه مع الطبيب أندريه الذي يتفانى في أداء عمله كطبيب. لكن، رغم محاولات أندريه في التقرب منها إلا أنها تُصرّ على فظاظتها معه؛ الأمر الذي يجعله يعترف لها من أجل طمأنتها واكتساب ثقتها فيقول: كنت أعمل في مستشفى إيبرسلاند، وكانت هناك آلات جديدة من نيوزيلاندا تساعد في ولادة الأطفال قبل اكتمالهم، وكانت تعليمات التشغيل بالإنجليزية ومكونة من 26 صفحة، وأنا من عملت عليها، وكانت مساعدتي تتحدث القليل من الإنجليزية، ورغبت في إثارة إعجابي، وفي إحدى الليالي كنت مُتعبا كحالي الآن؛ فأحضرت لي بطانية وطلبت مني النوم، وأخبرتني أنها ستهتم بكل شيء، لكنها خلطت بين درجة الحرارة المئوية والفهرنهايت؛ مما أدى إلى توليد ضغط كبير؛ ففصل شبكية العين في الأطفال الرضع، كان هناك اثنين منهم. حاولنا إنقاذهما، لكنهما أصيبا بالعمى مدى الحياة، وأصبحت أنا المسؤول عن الحادث، وانتهى الأمر بأن لا مزيد من برلين ومن مستشفى شارتيه. الرجال هناك عرضوا عليّ التكتم على الأمر مُقابل الذهاب إلى مستشفى في الأقاليم، وفي مقابل هذه السرية عليّ أن أسلمهم التقارير، فلم يكن لدي أي طموح في هذا الأمر.
أي أنه يؤكد لها أنه لم تكن لديه أي رغبة في أن يكون واشيا/ مُخبرا على زملائه من أجل كتابة التقارير والزج بهم في السجون، بل كان الأمر تحت ضغط شديد بسبب الخطأ الذي ارتكبته زميلته، لكن رغم اعتراف أندريه لباربارا من أجل محاولة اكتساب ثقتها نراها تتشكك في روايته وتسأله: هل هذه الرواية حقيقية بالفعل؟
إن الارتياب الشديد والشك في كل شيء هو شعور ثقيل الوطأة يسيطر على كل شيء في ألمانيا الشرقية التي تدعي الديمقراطية، وهو الأمر الذي لا يمكن الحياة في كنفه بارتياح؛ مما يدفع الكثيرين للرغبة في الهروب إلى ألمانيا الغربية.
تصل إلى المشفى فتاة مُراهقة تدعى ستلا- قامت بدورها الممثلة السويسرية Jasna Fritzi Bauer جاسنا فريتزي باور- مُصابة بالتهاب السحايا بعد محاولة هروبها من مخيم تورجاو، وهو من المُخيمات الاشتراكية للإبادة؛ فتتعامل معها باربارا بشكل فيه قدر كبير من الأمومة؛ الأمر الذي يجعل الفتاة تميل إليها وترفض أن يقترب أحد منها سوى باربارا، ويكتشف أندريه أثناء تحليله لدمها في معمله الخاص أن الفتاة حامل بطفل ويخبر باربارا التي تؤكد له أن حملها خطرا عليها؛ لأن السلطات ستأخذ الطفل منها ولن تسمح لها بالاحتفاظ به، لكن بمجرد شفاء الفتاة تأتي السلطات لإعادتها مرة أخرى إلى المخيم عنوة.
تتفق باربارا مع حبيبها من ألمانيا الغربية- الذي التقته في وطنها- على تسهيل هروبها إليه، وتلتقي به في أحد الفنادق ليلا، لكن أثناء انشغاله باجتماع في بهو الفندق تلتقي بفتاة أخرى من ألمانيا الشرقية التقاها صديق حبيبها وتتأكد من خلال لقائها بها أن الرجال في ألمانيا الغربية لا ينظرون إلى فتيات ألمانيا الشرقية إلا باعتبارهن أشياء من الممكن التجارة فيها مُستغلين فيهن فقرهن وحاجتهن، لا سيما أنه أخبرها بأنها حينما تصل إلى ألمانيا الغربية فهي ليست في حاجة إلى العمل لأنه لديه الكثير من المال، وهنا تبدأ في إعادة التفكير في علاقتها به، رغم إصرارها على الهروب.
يأتي إلى المشفى أحد الفتيان المُراهقين الذي حاول الانتحار بسبب قصة حب، ونتيجة لمحاولته أُصيب بارتجاج في المخ. يحاول كل من أندريه وباربارا العناية به، ويتشككان في وجود جلطات دماغية، ولا بد من إجراء عملية في المخ بسببها، لكن أندريه يقرر إجراء العملية في اليوم الذي قررت فيه باربارا الهروب، وهو اليوم الذي أخذت فيه إجازة من أجل تسهيل عملية هروبها، ورغم أن أندريه طلب منها أن تقوم بتخدير الفتى إلا أنها تحاول الهروب في هذه الليلة، وفي الوقت الذي كانت فيه تستعد للهروب تسمع صوت دقات خافتة على باب شقتها، وتُفاجأ بستلا التي هربت من المُخيم مرة أخرى، وقد أُصيبت في فخذها بجرح عميق بسبب الأسلاك الشائكة.
تعتني باربارا بالفتاة، وتتوسل إليها ستلا ألا تتخلى عنها؛ الأمر الذي يجعلها تتعامل معها بأمومة واضحة وتأخذها معها إلى البحر- طريق الهروب- وحينما يصل الرجل الذي سيعمل على تهريبها بحرا؛ تسلمه باربارا المال مُقابل التهريب، وتسلم له ستلا ليعمل على تهريبها ثم تعود أدراجها مرة أخرى وقد تخلت عن فكرة الهروب.
ربما نلاحظ أن تخلي باربارا عن فكرة الهروب من الجحيم الذي تعيش فيه في
ألمانيا الشرقية يعود لسببين رئيسيين: الأول هو حينما لمحت في حبيبها الذي ترغب في
الهروب معه النظر إليها باعتبارها فتاة فقيرة من ألمانيا الشرقية يعطف عليها، ولا
يحبها بعمق، كما أن المال بالنسبة له كان هو الأهم، والسبب الثاني والأقوى والرئيس
أنها قد بدأت تشعر بمشاعر حقيقية تجاه أندريه الذي حاول جاهدا التقرب إليها
واكتساب ثقتها، والتأكيد لها أنه ليس لديه ميلا طبيعيا ليكون واشيا أو مُخبرا على
الآخرين، بل دُفع إلى هذا الفعل مُرغما، ومن ثم نبتت بينهما الكثير من المشاعر
التي شاهدناها حينما دعاها إلى بيته على إحدى الوجبات التي أعدها لها بنفسه،
واقتربت منه فجأة لتقبيل شفتيه في اعتراف مُباشر منها بحقيقة مشاعرها تجاهه، وأنها
قد وقعت في حبه بالفعل وزال ستار الشك والارتياب تجاهه داخلها.المخرج الألماني كريستيان بتزولد
إن قبول باربارا البقاء في الكابوس الاشتراكي لألمانيا الشرقية كان له مُبرره الذي يحرص المخرج على إيضاحه للمُشاهد وكأنه يرغب القول: مهما كان الواقع الذي نحيا فيه كابوسيا، ومهما كانت الضغوط من حولنا، فإننا نستطيع التكيف والحياة مع هذا الواقع المُزري في حالة إذا ما وجدنا الشريك الذي يستطيع أن يشاركنا حياتنا ويربط بيننا الكثير من المشاعر والتفاهم الكافي، ولأن باربارا وأندريه يمتلكان الكثير من العوامل المُشتركة منها الإخلاص في مهنتيهما الطبية، وتقاربهما، ومشاعر الحب التي بدأت تنسج نفسها حولهما؛ فلقد رأت أن إمكانية البقاء من المُمكن لها أن تجعل حياتهما أفضل، فضلا عن مشاعر الأمومة والمسؤولية التي شعرت بها تجاه ستلا، ومن ثم آثرتها على نفسها في عملية الهروب، بدلا من هروبها بنفسها.
يؤكد لنا المخرج الألماني كريستيان بيتزولد من خلال فيلمه المُهم باربارا
أن الحرب العالمية الثانية وفكرة النازية التي أغرق بها أدولف هتلر ألمانيا كان
لها من الآثار السلبية والمُدمرة على المُجتمع الألماني ما أدى إلى تدمير ألمانيا
والحياة فيها، لا سيما الكتلة الشرقية منها، وهي الكتلة التي تحولت إلى جحيم على
الأرض يحيا فيه مواطنو هذه الكتلة، وهو من خلال فيلمه يعمل على التركيز على
النتائج التي أدت إليها هذه الحرب، بل ويتأمل التفاصيل الدقيقة جدا في حياة
الألمان الذين علقوا في هذه المنطقة من ألمانيا، وكيف عاشوا مجموعة من المشاعر المُتناقضة
والخانقة، والقاتلة حتى أنهم تحولوا إلى مجموعة من الآلات البشرية، أو الأدوات
التي تتحكم فيها السلطة السياسية وتتصرف فيهم كيفما شاءت، وكأنها تجردهم تماما من
بشريتهم وإنسانيتهم.الممثلة الألمانية نينا هوس
إلا أننا لا يفوتنا الأداء المُكتمل للممثلة الألمانية نينا هوس- المُمثلة الأثيرة للمخرج في أفلامه السابقة- التي تتقن جيدا أداء الشخصية المرسومة لها في السيناريو بشكل يكاد يكون أبرع مما كان في ذهن السيناريست أو المخرج؛ وبالتالي تعطي المخرج نتائج تمثيلية مُبهرة تجعل المُشاهد مُتعلق أيما تعلق بأدائها، لا سيما صمتها التام والثلجي، وحزنها الباد في عينيها، وفقدها لأي رد فعل أمام الغرباء، وتصويرها للحالة المُرهقة نفسيا للمواطن الألماني في الكتلة الشرقية حتى أننا لم نر ابتسامتها طوال مدة الفيلم إلا نادرا حينما تكون مع حبيبها فقط.
محمود الغيطاني
مجلة "نقد 21".
عدد مايو 2022م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق