الأربعاء، 14 مارس 2018

الكبش.. الحياة على تخوم الوهم


في عام 2006م قامت دار برزان للنشر- وهي دار نشر عربية أُنشئت عام 2002م في لندن، ولها فرع في لبنان- بترجمة رواية مهمة للروائي والمؤرخ البريطاني روبرت إيروين هي رواية "الكابوس العربي"، ولعل أهمية هذه الرواية تكمن في أحداثها التاريخية وبنائها الذي اعتمد تقنية الكوابيس المتوالدة من كوابيس أخرى. ويظل الأمر هكذا حتى نهاية الرواية؛ فلا يستطيع القارئ معرفة الكابوس الحقيقي من الكابوس المفترض، أي أن الروائي كان يتلاعب بالقارئ من خلال تقنية الكوابيس الغير منتهية، ومن ثم يظل المتلقي في حالة شك دائم وحيرة بين الواقعي والكابوسي، وإن كان همّ الروائي على طول الرواية هو سرد أحداث مصر الفاطمية من خلال عالم غرائبي يزخر بالشخصيات الغريبة والمخيفة التي تعيش حياتها في أزقة القاهرة الفاطمية، كما كانت الرواية عبارة عن تسجيل بارع للتاريخ الاجتماعي في هذه الحقبة من تاريخ القاهرة أيام المماليك اعتمد فيه الروائي على توالد الحكايات الكابوسية.
كل من قرأ رواية "الكابوس العربي" بالتأكيد سترد إلى ذهنه مرة أخرى حينما يبدأ في قراءة رواية "الكبش" للروائي الفلسطيني أنور الخطيب، ليس لأن الخطيب قد تأثر بروبرت إيروين، أو أخذ منه- فربما يكون الخطيب لم يقرأ إيروين من قبل-، ولكن لاعتماد كل منهما نفس التقنية المعتمدة على الشك في كل شيء. الشك في الواقع والحلم، المتخيل والمعاش، الحقيقة والكذب؛ ففي رواية "الكبش" كل شيء قابل لأن يكون حقيقة، وقابل أيضا في نفس الوقت لأن يكون وهما لا وجود له. ينجح الروائي هنا في التلاعب بعقل القارئ حتى أنه يأخذه إلى تخوم الوهم، أو الحدود الفاصلة بين الحقيقي والمتخيل؛ فيظن أنه يحيا في وهم دائم يتوالد من أوهام كثيرة حتى لكأن الحياة كلها مجرد حلم طويل، أو أحلام وهلاوس تتوالد من غيرها إلى ما لا نهاية.
في رواية الخطيب كل شيء قابل للتأويل، وكل شيء قابل للشك فيه، كل الأحداث قابلة لأن تكون حلما طويلا أو كابوسا، وفي نفس الوقت تمتلك قابليتها لأن تكون واقعا مريرا، لكن المؤلف يعود بذكاء لنفي ما حدث وما سبق أن صدقناه لنكتشف أن هناك شكلا من أشكال التلاعب الحقيقي بكل الحقائق والأحداث الروائية.
هذا الشك الدائم في كل ما يدور حولنا يؤكده الروائي من خلال الإشارات من دون أن يفصح، أي أنه يعطينا المفاتيح فقط؛ كي يشترك معه القارئ في لعبة السرد؛ فالراوي الأساس في الرواية هو "الغزالي". المهرج أحيانا، والطبيب البيطري أحيانا أخرى، ولعلنا لا بد لنا من التوقف أمام اسم "الغزالي" الذي لم يكن من قبيل الصدفة، لاسيما وأن هناك شخصية أخرى مهمة تقابل شخصية الغزالي وهي شخصية "المسعودي" مفسر الأحلام من خلال خلفيات الناس صباحا، ومن خلال مقدماتهم بعد الظهر، كذلك شخصية "التوحيدي"/ الرجل الكبير أو رجل الأعمال الفاسد المتاجر بكل شيء سواء كان أعضاء البشر أو القطع الأثرية. إذن فالأسماء هنا كانت من الذكاء ما يوحي بالكثير من الإحالات على التاريخ والثقافة الفلسفية، مما يؤكد أن المُقبل على هذه الرواية لابد له أن يتسلح بالكثير من المعرفة قبل البدء فيها لاسيما أنها تُحيل إلى الكثير من المعارف والتراث الفلسفي والديني.
إذا كان الإمام أبو حامد الغزالي في تاريخ الفلسفة قد اتخذ من الشك منهجا ضروريا له؛ فقد اتخذه من أجل الوصول إلى الحقيقة في نهاية الأمر؛ فالشك المنهجي لا ينكر الحقيقة كما ينكرها الشك الارتيابي، لكنه شكل من أشكال الشك الذي يبحث عن الحقيقة المطلقة محاولا أن يجد لها أساسا مطلقا، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: "إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يُبصر، ومن لم يُبصر بات في العمى والضلال"، وبعد أن شك الغزالي في الحواس والعقل وأثبت قصورهما في الوصول إلى اليقين، امتد شكه إلى الحياة الشعورية بصفة عامة. وشكه في الحياة الشعورية هو تأييد لشكه في العقل، وإمكان وجود قوة أخرى تثبت خطأه، فمن يدري ربما تكون الحياة كلها مجرد وهم وخيال؟ ووجد الغزالي تأييدا لرأيه بأحوال المنام؛ فالإنسان يرى في أحلام النوم أمورا ًويتخيل أحوالا ًلا يشك في ثبوتها واستقرارها، وعندما يستيقظ يعلم أن ما رآه في الحلم كان مجرد وهم. ويرى الغزالي أنه إذا وردت تلك الحالة التي يكون فيها ما نعتقده في اليقظة بالحواس والعقل مجرد وهم وخيالات بالنسبة لها تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها. افترض الغزالي أن حياتنا قد تكون حلما طويلا لم نستيقظ منه لنعرف حقيقة الأمور مستندا إلى حديث يقول: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".
من خلال مبدأ الشك الذي اعتمده الإمام الغزالي كمنهج فلسفي من أجل الوصول إلى الحقيقة يحاول الروائي أنور الخطيب المزج بين شخصية "الغزالي" الروائية في روايته من خلال اسمه وسلوكه، وبين شخصية الإمام الغزالي حتى لكأنه يحرص على إسقاط كل من الشخصيتين على بعضهما البعض في شكل من أشكال التماهي؛ من أجل الوصول إلى الحقيقة التي لا يعرفها أحد، وهي الحقيقة الملتبسة الغامضة التي كلما توصل إلى جزء منها باتت سرابا لا حقيقة له؛ فيضطر للبدء مرة أخرى.
هذا الشك الدائم والريبة في كل ما يحيط بالشخصية مكانيا وزمانيا كانا من الخصائص والسمات السيكولوجية المسيطرة على جميع شخصيات الرواية لا سيما الغزالي/ الروائي الأساس فنقرأ قوله: "هل كان النبيذ هو السبب؟ مغشوش مثلا؟ هل يمكن أن يكون لحارس الهمنغواي أي دور في الخدر، كأن تنبعث من ملابسه بودرة مخدرة؟ هل ماء الملهى أو البطاطا المقلية المقرمشة كانت منقوعة بالكحول؟ هل دسّتْ معصومة شيئا في علبة السجائر مثلا؟ أم أن بخارا مُسكرا مُخدرا رشح من مؤخرتها؟ هل ترك سمير شيئا من شذوذه في تلافيف دماغي؟ الشذوذ يؤدي إلى الخدر أحيانا! هل المسعودي هو الرأس المدبر الذي يخطط لغزو الرؤوس جميعها ليقرأ أحلامها؟ هل كانت النادلة "جاكي" تتآمر مع المسعودي ويشكلان تنظيما سريا يهدف إلى استقطاب الأطباء البيطريين تمهيدا لاستقطاب كل حمير وكلاب وقطط وخيول المنطقة؟! هل دسّتْ جاكي مادة مخدرة في عصير البرتقال الأحمر؟ وهل ذاك الشيء السافل يؤدي إلى النوم وإيقاظ الهلوسات والأحلام أو اللاوعي، ولكن، هل كان في لاوعيي قتل "أوفيسر؟!".
من خلال هذا الاقتباس يتبين لنا أن الراوي الأساس/ الغزالي مسكونا بالكثير من التوجس والريبة من كل ما يحدث حوله؛ حتى أن نظرية التآمر تكاد تكون هي النظرية التي يفكر من خلالها في كل دقائق حياته.
لكن، هل كانت شخصية الغزالي مجرد شخصية مريضة تسكنها الهلاوس والريبة من الجميع؟
لم تكن شخصية الغزالي من الشخصيات المريضة، بل تكاد تكون من أكثر شخصيات الرواية تعقلا وإدراكا لكل ما يدور حولها، لكن الواقع الذي يعيش فيه هو واقع يدفعه فعليا إلى الجنون بسبب محاولات السيطرة الدائمة عليه؛ فثمة الكثير من الشخصيات المحيطة به، والراغبة في استغلاله من أجل تجميل وجهها أمام العالم، وبما أنه سيكون الكبش الذي سيضحون به من أجل تجميل ما يقومون به من تجارة في كل شيء وأي شيء؛ كان لابد من دفعه إلى الاعتقاد بوهم كل ما يحدث حوله باعتباره هلاوس أو أحلام؛ مما يجعله يلجأ في النهاية إلى المسعودي/ مفسر الأحلام المقيم في الدور الأول من البناية، الذي سيسطر عليه بإيهامه بأنه "المبارك" المختار صاحب البركات الذي لا ينطق عن الهوى، وحينما يصدق الغزالي ويتقمص هذا الدور سيعمل على تجميل وجه ونشاط "الفارس" وغيره من المتاجرين بكل شيء من المقيمين في القصور الفارهة.
يتبين لنا منذ بداية الرواية فانتازية عالمها، رغم أن هذه الفانتازية ترتبط ارتباطا وثيقا بالواقع وما يدور فيه، فثمة راو يحاول القيام بدور المهرج منذ الصفحة الأولى، وهو لم يلجأ إلى ذلك إلا لأن شرطة المدينة لم تصدق كلامه وما حدث معه من أمور يرى أنها واقعية وإن كانت تقترب من الخيال؛ ومن ثم اعتبرته مهرجا لابد أن يروي لأهل المدينة قصته؛ فإذا ما صدقوه سيسمحون له بالإقامة في المدينة: "شرطة بلادكم رفضت تصديقي، قال لي المحقق السمين ساخرا: هذا مونتاج دقيق ومتقن، ثم، كيف عبرت البحر مشيا على الأقدام، هل أنت سمكة أو موسى أو المسيح أو بوذا؟ أنت لست كل هؤلاء، أنت المهرج ومكانك مسرح المدينة، هنالك مرتادون دائمون يستمعون إلى قصص الغرباء أمثالك، فإن صدقوها منحناك إقامة بيننا مدى الحياة، وإن كذبوها سنقطع أذنيك، ولهذا من الأفضل أن تسرد قصتك بأسلوب كوميدي لتجعلهم يضحكون ونحن هنا نراقب كل شيء؛ نراقب المسرح والسينما والتليفزيون ودار الأوبرا والمسرح الروماني، والقلعة البيزنطية، وسور عكا وأبو الهول وحمام المسخوطين والحدائق المعلقة والأهرامات، وقلعة بعلبك ومسرح تدمر، وقبر المعتمد ابن عباد والحمامات، كل شيء، احرص على إضحاك الجمهور، كما نفعل نحن، وإلا كانت قصتك حقيقية"، كما أن هذا المهرج/ الطبيب البيطري سيجد نفسه فجأة في عالم ليس عالمه حينما يتعرف على "الفارس" الذي استمع إلى خطبته ورغب منه علاج خيوله التي توقفت عن الصهيل، وحينما يعالجها له يعطيه الشقة رقم 1007 في إحدى البنايات ومعه سيفا ويؤكد له أنهما هدية له مقابل شفائه لخيوله، بل يفتتح له أيضا عيادة بيطرية.
يبدو لنا السرد منذ بدايته موغلا في الإيهام والفانتازيا سواء على مستوى الحدث الذي يتحدث فيه الروائي، أو على مستوى اللغة المتناسبة تماما مع الجو السيريالي الذي اتخذه المؤلف مسرحا لروايته، فالحدث منذ بدايته غير واقعي حينما يروي الغزالي قصته للناس وكيف مشى على الماء: "قفزت فوق الموجة الأولى، ثم الثانية ثم الثالثة ثم بدأت بالسير كأنني أنقل خطواتي الواسعة على طريق معبّد. لم تكن معجزة، ربما كانت.. وربما كان الماء متجمدا، ربما حملتني كبسولة الزمن، ربما حملني دولفين على ظهره، ربما خطفتني حورية البحر، ربما مت وروحي الآن تحدثكم، ربما كنت نائما على الرصيف المحاذي لمسرحكم وبالغت في الرؤيا، ربما كنت في إغماءة، لا أدري، لكنني حين مشيت على الماء وفردت ذراعيّ كشراعين، ونظرت خلفي، وجدت الرجال راكعين وقد ألقوا سيوفهم على الرمل، فتحررت رؤوس النساء وسحبتها الأمواج، ونبتت للرؤوس أجساد فامتلأ البحر بالنساء الجميلات العاريات"، فبعد سرد حكايته الطويلة كمهرج يبدأ في حياته الجديدة التي منحها له الفارس الذي لا يعرفه لتتنامى الحكايات السريالية، ولعلنا نلمح من خلال هذا الاقتباس الريبة والشك الدائمين في كل شيء؛ حتى أنه يتشكك في حكايته التي يرويها ويقتنع بها وبأنها قد حدثت له، فهو قائم بين الشك واليقين وبين الحلم والواقع غير قادر دائما على التمييز.
أما من حيث اللغة السردية التي ينتهجها الروائي لتتناسب مع ما يرويه سنراها من خلال الرواية بالكامل كقوله: "قلت وأنا أتعمد مراقبة نملة كبيرة كانت تستلقي على ظهرها وتضع ساقا على ساق"، و"هل أُصيب حصانك بهزيمة أو هزائم؟ أم أنه عاتب عليك جراء موقف لم يعجبه؟ أم أنه عشق أنثى فرس في مزرعة جارك ورفضت السماح له بنكاحها بذريعة أنها ليست على دينه أو دينك؟"، و"تواجهت مع رجل للحظات؛ كان هو نفسه الذي زارني وقال أنه ليس بالإنسان وليس بالحيوان، استدرت بسرعة البرق فاختفى بسرعة الصوت، خرجت راكضا فلم أجد أحدا، كأنه ذاب مع رطوبة المكان"، وغير ذلك الكثير مما يدل على جدة التعبيرات واللغة التي تتعمد الكثير من الدهشة المتناسبة مع الحدث السردي الذي يرويه.
ثمة شخصيات تحاول الالتفاف حول الغزالي منذ بداية السرد؛ فنلمح سمير الشاذ جنسيا، ومعصومة المرأة صاحبة المؤخرة الكبيرة، والفارس، والمسعودي مفسر الأحلام، وحياة الممرضة التي تعمل في عيادته، والمرأة التي تضاجع الكلب، والأخرى المنتقبة التي تشعر بأنها حيوانة وذات مؤخرة كبيرة، وغير هؤلاء من الشخصيات الكثيرة التي يتم دفعها في طريق الغزالي بشكل يقرب من المصادفة، وإن كانت الأمور في حقيقتها قد تم التخطيط لها بدقة لتكون هذه الشخصيات من مفردات حياته ويعملون على التأثير عليه من أجل تهيأته من أجل خدمة منظومة الفساد الكبرى في نهاية الأمر والتي يتزعمها "الفارس"، والرجل الكبير.
أنور الخطيب
كل هذه الشخصيات تحاول دفعه متكاتفة نحو الجنون، أو الشعور بالهلاوس وعدم واقعية أي شيء يدور حوله؛ حتى أنه يظل دائما متشككا في كل ما يحدث له: "توجهت بخطى ثابتة نحو سيارتي، فتحت باب السائق، وقبل دخولي انطلق صوت من وراء شجرة خلفي متبوعا بصدى: شكرا لأنك صرفت المرأة البقرة ولم تستسلم لإغوائها. لم يمهلني الصدى وقتا لأتبين صاحب الصوت حتى فاجأني صوت ثان مشابه حد التطابق للصوت الأول من خلف شجرة أمامي: وشكرا لأنك لم تتعاطف مع الشاب كثيرا، فقد غادر الصالة وجنبك الإحراج. توالت الأصوات الشبيهة، فانطلق صوت من جهة اليمين يكمن خلف شجرة ثالثة: شكرا لأنك لم تترك النبيذ يذهب بعقلك، ولكن لا تقرب الصلاة حين تعود إلى بيتك وحيدا. ثم انطلق الصوت ذاته من خلف شجرة على الجهة اليسرى متبوعا بصدى: شكرا لأنك لم تُشارك في الرقص مع النساء. وعليك اللعنة لأنك استسلمت لإغواء الفتاة الشقراء. قلت بعد استتباب الصمت: من أنت، ولماذا كل هذه الحركات المسرحية التافهة؟ اظهر لنتحاور حول ما قلت. جاءني الصوت من الجهات كلها: لا تتسرع فتخطئ، فإن أخطأت اتخذنا في حقك إجراء وتكون من الخاسرين. ولماذا تختبئ خلف كل هذه الأشجار؟ لأنني في كل مكان! هل كنت في الهمنغواي؟ أنا في كل مكان. يقولون إن الله وحده فقط في كل مكان. أنا وكيل الله".
حينما يحدث له هذا الحدث بعد خروجه من الهمنغواي، وهو البار الذي يسهر فيه يوميا، يتجه إلى المسعودي ليفسر له الأمر؛ فيحاول المسعودي إيهامه: "أنا على يقين من أن الأصوات التي سمعتها هي علامة من السماء، وذاك الرجل الذي ادعى بأنه وكيل الله قد يكون ملاكا هبط ليوحي إليك بأمر ما، صحيح أنك تعربد أحيانا ولكن قلبك أبيض كالثلج الذي يغسل الذنوب، ومهامك المستقبلية قد تحتاج أن تكون داعرا ومؤمنا، رسولا وصاحب عصابة، المهام الكبرى تحتاج إلى رجال يجمعون الضدين. لا تجبني، اخرج الآن إلى بيتك"، من خلال هذه اللعبة التي لعبها المسعودي ومن معه على الغزالي كي يوهمونه أنه بالفعل المختار لأن يكون "المبارك" يكونون قد عملوا على تأهيله كي يصدق هذا الدور ويرتدي عباءة الرجل الحكيم الذي تأتيه التنزلات من السماء، ومن ثم يعمل على تجميل صورة الرجل الكبير والفارس اللذين يمارسان كل أشكال الفساد ويريدان الاحتماء بالدين والحكماء.
يبدأ الغزالي في الانسياق إلى ما يجره إليه المسعودي حينما يحلم أن "أوفيسر" حارس العقار قد قُتل وتم اتهامه بقتل الحارس ويتم التحقيق معه واحتجازه لعدة أيام، وحينما يلجأ للمسعودي يؤكد له بعد تقبيل يده أنه أحد الرجال المباركين: "اسمح لي أن أقول أنني في حاجة ماسة إلى بركتك، والسياسيون ورجال الأعمال والأثرياء والأمراء يحتاجون إلى بركتك، وبالتالي المدينة كلها في حاجة إلى رجل مثلك، يرى ما رأيته، يشهد ما شاهدته، مر بالتجارب المقدسة التي مررت بها، والأكثر من هذا وذاك، قادر على كبح غريزته"، هنا يبدأ الغزالي في الانسياق الحقيقي لما يدفعه إليه المسعودي، ويستهويه أن يكون مباركا بالفعل، ويبدأ في تقمص هذا الدور لولا أن "حياة" الممرضة في عيادته تكشف له اللعبة الكاملة التي تُحاك حوله، وتؤكد له أن المسعودي ليس سوى رجل مخابرات موكل به، وأن الفارس هو أبيها الذي يتاجر بالأعضاء البشرية وبالتاريخ والآثار، وكل شيء، وأن سمير الشاذ من رجال أبيها، و"المعصومة" ذات المؤخرة الكبيرة كذلك من نساء المسعودي، والمرأة الكبش/ الحيوانة المنتقبة ذات المؤخرة كذلك من نساء المسعودي، وأن كل من هم في حياته ليسوا سوى رجال أبيها الذين يرغبون في تأهيله ليكون المبارك الذي يُجمل وجه أبيها، بل إن والدها حينما فتح له عيادة الطب البيطري لم يفتحها إلا من أجل التجارة في الأعضاء البشرية، ولكن حياة التي ترفض سلوك أبيها وحياته دفعت نفسها في طريق الغزالي من أجل أن تكون حماية له، ولولا وجودها في حياته وفي عيادته لكان قد تورط منذ البداية، وهذا ما منع أبيها من التجارة في تجارته من خلال العيادة البيطرية.
يفهم الغزالي خيوط المؤامرة التي تُحاك حوله شيئا فشيئا: "لم أعد في حاجة إلى قرابين، وإن كان لابد منها سيكون المسعودي قرباني الأول والأخير بعد إجباره على الاعتراف بما يخفي من خيوط استغرق في نسجها حولي أسابيع وربما شهورا لإدخالي دائرة المباركين. هل فعل كل ذلك من أجل دخولي القصر ومقابلة الفارس وكبيره ورجل صرخ في وجهي: ويحك يا رجل! أم أن الأمور انفلتت من عقالها وصرت أنا وهو رهن اعتقال غير مرئي؟"، وهنا يبدأ في التيقن بأن جميع الهلاوس التي كانت تنتابه ليست سوى محاولة للسيطرة عليه، وأن هناك الكثير من الحقائق التي فهمها باعتبارها أحلام أو كوابيس رغم أنها لم تكن كذلك، وأن الهدف الرئيس من كل ما حدث معه هو محاولة غسيل الأدمغة وغسيل أموال الفارس وحاشيته من خلال استخدام الدين الذي سيمثله هو، وهذا ما أكده له الفارس: "أعلم أنك على استعداد للتعاون، فانتظرني في منزلك، واستقبلني بهذه الثياب، أنا أفتقدها، ثم إن دورك سيكون في تلابيبها، ستكون المبارك الذي يظهر ليبارك أعمالنا في المساجد والصحف والقنوات التليفزيونية، وستعود إلى البيت ثم تخرج إلى عيادتك بهيئة الطبيب، فلا أحد يعرفك، ولن يتابعك أحد، ألا يستحق من وهبك "حياة" أن تقول كلمة حق تبيّض بها خيره وأمواله التي أصبت شيئا منها، وتُجمل قصره الذي يشوهه الآخرون! أنا وهو واحد أيها الغزالي، وسيكون الإعلام الرسمي كله في خدمتك، فارحل".
يوقن الغزالي من اللعبة التي تورط فيها مع الكبار من الفاسدين والحكام والمتاجرين بكل شيء وكيف يعملون على توظيف كل مقدرات الدولة من أجل خدمتهم وتجميل صورتهم المشوهة فعليا: "أرادني الرجل الكبير الذي بدأ يصغر شيئا فشيئا، أن أكون مسحوق غسيل، أرغي وأزبد وأتحول إلى فقاعات تهاجم القذارة التي علقت بالفارس وبطانته ومرؤوسيه، وأن أحك لساني النظيف بجلده، وكنت على دراية تامة من الاستغناء عني أو تصفيتي عند إتمام مهمتي أو تعثرها، أرادني أن أكون كبش العيد أو القربان أو المحرقة. ولهذا تعمدت إطالة مكوثي لأناقش مواكبته لما كان يحدث في محيطه، وقلت له: إنه الإعلام الرسمي الذي لا يشاهده أو يصدقه أحد، إنه في واد والحقائق في واد آخر، فماذا لو خرجت شياطين الوادي الآخر، وهي تخرج يوميا في صحف المعارضة، ومواقع التواصل الاجتماعي، بأسماء حقيقية وأخرى وهمية، وترمي المعلومات والحقائق أمام الخلائق، هل يستطيع العبد الفقير إلى الله وكلماته مواجهة السيل المتدفق؟".
ربما يكون السبب الرئيس في رفض الغزالي لأن يكون طرفا في كل هذه المنظومة الفاسدة انتباهه إلى ضلوع الصهاينة في تحريك منظومة الفساد والسيطرة الكاملة عليها، أي أن العرب يتحركون ويؤدون أدوارهم باعتبارهم مجرد عرائس ماريونيت يحركها الصهاينة في حقيقة الأمر، بينما العرب يظنون أنهم هم من يمتلكون المنظومة بكل فسادها، كما أن الروائي أنور الخطيب كان من الذكاء ما جعله لا يقحم هذه المعلومة بشكل مباشر في السرد حتى لا يُفقد السرد غرائبيته أو يميل به نحو المباشرة، بل أشار إلى هذا الأمر عدة إشارات سريعة للقارئ المشارك له في السرد: "كانت المسافة بين البوابة والبيت أكثر من مائة متر، على جانبيها أشجار صغيرة وورود من كل الأنواع والقارات، وفي وسط المسافة نوافير مياة تصعد من أشكال هندسية سداسية الزوايا. أصبنا بالذهول حين دخلنا الصالون الرئيس الكبير؛ لوحات عالمية معلقة على الجدران، تماثيل وقطع أثرية كنعانية وآشورية وبابلية وسريانية ورومانية تنتشر في الزوايا، أما أرضية الصالون فكانت رخامية مزركشة بنجوم سداسية وأهلة"، كما يكتب في موضع آخر ما يؤكد هذا الأمر حينما يقول الغزالي لحياة: "كلمات كثيرة صادرتها، أولا الديكور الداخلي المستند إلى الزوايا السداسية، كنت أود أن أقول إن الأشكال الهندسية لا تثبت انتماء ولا توحي بهوية، وعلى المغرد خارج السرب مراعاة الطيور والأشجار والهواء، لكنني تساءلت بيني وبين نفسي إن كان التصميم قد دس بنوايا مسبقة أم لا، وإن كان صاحب البيت انتبه إلى إيحاءات ودلالات التصميم أم أنه أُخذ بجماليات الشكل وتداخل الخطوط وحدة الزوايا".
هنا يكتشف الغزالي اللعبة كلها؛ لذلك يرفضها ويخرج من قصر الرجل الكبير ليعود إلى بيته لكن أنور الخطيب يعود إلى لعبة السرد الملتبسة مرة أخرى بعدما تبينت لنا الحقائق فيسقطنا مرة أخرى في عالم الأحلام والهلاوس؛ لنكتشف أنه حتى الحقائق التي توصلنا إليها ربما لم تكن حقائق، وأنه تلاعب بنا كروائي حينما جعلنا نفهم ما حدث من أمور غرائبية ونعتقد أننا توصلنا إلى الحقيقة في حين أنه لا توجد حقيقة راسخة في هذا العالم الذي جذبنا إليه لنسقط في تلابيبه غير قادرين على الخروج منه، أو التوصل إلى أي شكل من أشكال الحقيقة، وهو ما يؤكد نظرية الشك لدى الغزالي وأننا نعيش في عالم كبير من الأوهام أو الهلاوس، وربما نكون في حلم كبير لا يمكن له أن ينتهي. يتبين لنا ذلك حينما يخرج الغزالي من القصر عائدا لبيته: "كانت الساعة تُشير إلى الثانية ليلا، توجهت مباشرة إلى سطح البناية، طرقت باب "أوفيسر" عدة مرات، ناديته باسمه، أطل رجل على مشارف الستين من عمره، أخبرني أن أوفيسر غير موجود، ثم سألني: من هو أوفيسر؟ إنه الحارس. طلب مني المغادرة بفظاظة وأغلق باب حجرته. هبطت إلى الطابق الأول، طرقت باب الشقة 107، فتح الباب شاب وهو يفرك عينيه، سألته: هل المسعودي موجود؟ أجاب بلغة مؤدبة: يبدو أنك أخطأت في العنوان أيها الطيب. صعدت إلى الطابق السادس لأسأل عن "حياة" فلم أجدها، فتحت لي سيدة كانت تحميل غيتارا وتتحدث بلغة أجنبية لم أفهم منها حرفا واحدا. انطلقت إلى الطابق السابع، قرأت لافتة صغيرة معلقة على باب الشقة التي كانت تسكنها الفتاتان: "للإيجار، للمثليين فقط". توجهت إلى الدور العاشر، فشلت في فتح الباب، قرأت لافتة صغيرة: صالون تجميل الحيوانات. ضربت جبهتي بكفي. أمسكت الهاتف بأصابع مرتجفة، اتصلت بسمير فرد عليّ ضابط في إدارة مكافحة المخدرات. اتصلت بالمرأة الكبش القربان، ردت سيدة قالت إنها تتحدث من الكنيسة وأنهت صلواتها الليلية قبل لحظات، وباركتني. اتصلت بالفارس، رد عليّ رجل الأمن في الهمنغواي، اتصلت بالرجل الكبير، رد صوت ناعم من آلة تسجيل يتحدث عن أنواع المساج. ضربت رأسي بالجدران ومرآة المصعد حتى سال الدم وساد الضباب".
من خلال هذا الاقتباس يحاول الخطيب إرباك القارئ وحبسه داخل عالمه السيريالي الذي كان قد تكشف له حقيقته ليؤكد له أن كل ما توصل إليه لم يكن سوى حلم جديد أو إمعانا جديدا في هذا العالم الغرائبي الأسطوري الذي لا توجد فيه أي حقيقة ثابتة؛ فها هي جميع شخصيات الرواية قد اختفت تماما، وكل ما عرفناه عن الغزالي ورحلته الطويلة وخيوط اللعبة التي كانت تُحاك حوله باتت كحلم جديد، أو كأسطورة جديدة، ورغم أن السرد ينفي وجود جميع الشخصيات وينفي كل ما سبق أن حدث في الرواية باختفاء الجميع إلا أننا نلحظ العديد من الإشارات الأخرى التي تؤكد لنا أن هذه الحكايات قد حدثت ولم تكن وهما كاملا: "انطلقت إلى الطابق السابع، قرأت لافتة صغيرة معلقة على باب الشقة التي كانت تسكنها الفتاتان: "للإيجار، للمثليين فقط". توجهت إلى الدور العاشر، فشلت في فتح الباب، قرأت لافتة صغيرة: صالون تجميل الحيوانات"، فالشقة التي كانت تسكنها فتاتان مثليتان يوجد على بابها ما يُشير إلى وجودهما المُسبق: "للإيجار، للمثليين فقط"، كذلك الشقة في الدور العاشر التي كان يسكنها الغزالي باعتباره طبيبا بيطريا حينما وصل إليها قرأ لافتة "صالون تجميل الحيوانات" في إشارة إلى ساكنها السابق الذي كان الغزالي. إذن فالروائي هنا يتلاعب بالسرد مستمتعا في المزيد من الإيهام والتوريط لقارئه؛ لذلك كان الروائي من الذكاء ما جعله ينهي روايته بعد هذا الاقتباس مباشرة بما يلي: "في الصباح وجدتني أجلس أمام مسرح المدينة الكبير، أسند ظهري إلى السور المنخفض، أتأمل حركة المارين والقطط السمينة والكلاب الضالة والمخبرين والعاهرات الشقراوات وتجار الأعضاء البشرية وتلاميذ المدارس الذاهبين إلى المعسكرات وموزعي بطاقات دكاكين المساج وسيارات الأجرة و... عطّل تأملي صوت رجل لامس قفاي بنغمته الخشنة: ما هذه القصة التي سردتها فوق خشبة المسرح وكان الجمهور بين غاف ومأخوذ وراكع ومائل؟ هل تربطك صلة بالمخرج؟ هل تواطأت معه؟ هل أنت ممثل؟ هل أنت مقاتل هارب من جبهات الجهاد؟ هل أنت لاجئ؟ هل أنت ولي صالح؟ أم أنك رجل خانتك أمك مع أبيك؟".
ربما كان ذكاء الخطيب في إنهاء حدثه الروائي في أنه عاد بنا مرة أخرى إلى بداية الرواية، حيث الغزالي الذي يحكي عند مسرح المدينة الكبير في البداية عن حكاية حدثت له ولم تصدقها الشرطة وطلبت منه أن يقوم بدور المهرج ويحكيها للناس كي يسمحون له بالإقامة في المدينة، وحينما تسرب العالم الأسطوري الكامل الذي رأيناه إلى السرد يعود لينتهي بنا مرة أخرى أمام مسرح المدينة الكبير بينما هو يحكي أيضا، فيلتبس علينا الأمر حول حقيقة كل ما دار وما حدث، هل هو حدث بالفعل للغزالي، أم كان يحلم، أم يتخيل، أم أن الرجل الكبير حينما تأكد أن الغزالي لن يخضع له ويلعب دور الرجل المبارك عمل على إخفاء كل شيء؟ ولكن إذا كان الرجل الكبير قد فعل ذلك بالفعل وأخفى كل ما دار فأين "حياة" التي كانت تقف خلفه وتحبه؟ لقد اختفت بدروها وحينما بحث عنها في البناية لم يجدها. أم أن الأحداث كلها كانت مجرد حكاية يرويها الغزالي منذ البدء ولم تكن قد انتهت بعد؟
ربما كان المأخذ الوحيد الذي يؤخذ على رواية "الكبش" للروائي الفلسطيني أنور الخطيب هو بعض الأخطاء اللغوية التي لم يتم الانتباه إليها والتي كانت عائقا أحيانا أمام استرسال السرد وعالمه الخاص منها قوله: "وجود السيف معلقا على الجدار في زاوية أنيقة هو من أزال شكوكي"، فالكاتب هنا استخدم الاسم الموصول "من" للعاقل، بدلا من "ما" لغير العاقل التي يجب أن تعود على السيف، كما أنه يستخدم واو الجماعة في غير محلها حينما كتب "لاعبوا السيرك" بدلا من "لاعبو السيرك"، وقوله: استطاع ذاك الشاب أن يزرع بي الشعور بالذنب، والصحيح هو "أن يزرع في"، وقوله: كنت أنوي مساعدته وربما حضور حفلة زواجه، والصحيح هو التذكير في "حفل زواجه"، وقوله: هل كنت أدخل كحمار أطأطؤ رأسي متوجها مباشرة إلى مكتبي، بدلا من أطاطئ، ولعل تصريفات "يطأطئ" كان الروائي مصرا على الخطأ فيها حينما قال في موضع آخر: كانت تطأطؤ رأسها، بدلا من تطأطئ أي أن الروائي يصر على الخطأ فيما يكتبه، بالإضافة إلى عدم إدغام ما وجب إدغامه في اللغة حينما يكتب: لا تتراجع عن ما أبدعه الخمر المغشوش، ومن المعروف لغويا أن "عن وما" إذا ما جاءا متتالين وجب الإدغام ليكونا "عما".
لكن تظل رواية "الكبش" من الروايات المهمة والمتفردة بعالمها السيريالي الغرائبي الذي نجح من خلاله الخطيب في تقديم عالم روائي جديد يخصه وحده استطاع من خلاله إيهام القارئ بأحداث عالمه، بل وتوريطه معه وإشراكه في العملية السردية، ثم سرعان ما صفعه ليؤكد له أن كل ما تأكد منه لم يكن حقيقيا، وأن على القارئ العودة مرة أخرى لبداية الرواية لإعادة قراءتها والقدرة على فهمها من خلال لغته الروائية المدهشة داخل سياق الرواية، والتي كانت تتناسب مع سرده الغرائبي.



محمود الغيطاني
 مجلة عالم الكتاب


عدد ديسمبر 2017م



الخميس، 8 مارس 2018

يدعو للثورة على الفساد الذي غزا ميدان الأدب والثقافة: محمود الغيطاني: الجوائز العربية تجامل الجهلاء والحسناوات


يعد أحد الكتاب الثائرين دوما تجاه كل ما يحيط بالبيئة الأدبية، الثقافية، الإنسانية من سطحية وابتذال. ثورته على كل ذلك ماثلة في كتاباته، حاضرة في أقواله وأفعاله، له وجهات نظر خاصة حول علاقة المثقف بالناقد والسياسي، كذلك علاقة كليهما بالمبدع الحق والمبدع المزور، له وجهة نظره الخاصة في الجوائز الأدبية على المستوى المصري والعربي.
حول أعماله، رأيه في الجوائز الأدبية، التقت "السياسة" الكاتب المصري "محمود الغيطاني" في هذا الحوار.

حاوره: محسن حسن


- ما سر الثورة النقدية الكامنة بداخلك والتي تعجل دوماً بمعارك ثقافية لا تنتهي؟
كل ما يدور حولنا من هوان وزيف، ومجاملات، وشلليات، وسقوط مروع للثقافة العربية والعقل العربي الذي بات فارغا ومخجلا ودافعا للتنكر من الانتساب إليه. كل هذه الأسباب تدعو للثورة الحقيقية على كل هذا الفساد الذي غزانا واستكان داخلنا مطمئنا. أن ترى من لا علاقة له بالكتابة الحقيقية يتربع على عرش الأدب باعتباره من أفضل من يكتب بالعربية في الوقت الذي ترى فيه الكتاب الحقيقيين لا يلتفت إليهم أحد، ولا يعرفهم أو يروج لهم أحد لمجرد عدم وجود مصالح ومنفعة من ورائهم؛ الأمر الذي يؤدي إلى تهميشهم بالكامل.
الثقافة العربية في مشهديتها الحالية هي ثقافة العار، والنفاق، والكذب، والزيف، والانتفاع فقط، لم يعد هناك إعلام حقيقي، ولا نقد حقيقي، بل ساهم النقد نفسه في تهميش الكثيرين من الكتاب المهمين والحقيقيين، وتسليط الضوء على من لا معنى لوجودهم في المشهد الثقافي العربي. حتى الجوائز العربية باتت تلعب دورا خطيرا في تقزيم دور الكتاب الجيدين في مقابل الكتابة البائسة التي يكتبها الطفيليون على عالم الكتابة. كل هذه الأمور كفيلة بوجود ثورة عارمة تحاول أن تُسخر كل قدراتها وطاقاتها من أجل الكشف والفضح فقط لكل ما هو بائس وتافه يتم تصديره باعتباره الأجود في حين أنه الأقل، وبما إني لا مصالح حقيقية لي بيني وبين الآخرين، وبما إني خارج نطاق الشلليات؛ فأنا مزعج للكثيرين لأني في جوهر الأمر أُفسد الكثير من الصفقات الفاسدة في الثقافة العربية.
- ما التصور النقدي الأمثل من وجهة نظرك للمعطيات الظاهرة والباطنة لمخرجات الثقافة والأدب؟
الأمر بسيط لا يحتاج إلى تفكير عميق وتصور ما؛ النقد هو النقد في نهاية الأمر، ليس مجرد شلليات ولا مدح، ونفاق لمجرد أن هذا الكاتب توجد من خلفه مصلحة ما، أو أن هذه الكاتبة جميلة لا بد من مغازلتها حتى لو كانت كتابتها تافهة وبائسة وركيكة. للأسف هذا ما نراه اليوم؛ العديدون ممن يطلقون على أنفسهم نقادا يجاملون إما من أجل المصالح المادية، والدعوات، والمناصب، وو..، وغيرهم يجاملون من أجل جمال الكاتبات. لكن الواقع يؤكد لنا أن جمال الكاتبات مكانه الطبيعي هو الفراش وليس إفساد النقد، والكتابة والثقافة بالكامل، ومن ثم تضليل القارئ الذي قد يعتمد على ما يكتبه الناقد ويثق فيه. نحن في مجال ثقافي تحول إلى مجال دعارة مقننة باسم الثقافة. أنا لست ضد الدعارة في حد ذاتها، ولكن لا بد أن تكون بعيدا عن تزييف المجال الثقافي.
يرى البعض أن النقد الحقيقي الذي يوضح سلبيات العمل الضعيف أو المتهافت مجرد إساءة للكاتب، في حين أن هذا التصور هو ما أفسد الثقافة العربية بالفعل؛ لأن مفهوم النقد في حد ذاته هو توضيح الجيد من الرديء، ولو نظرت إلى مفهوم النقد لغويا وهو الأصل ستجده كذلك، لكن للأسف مع انقلاب المعايير وتغيرها تبعا للمصالح بات مفهوم النقد عند الكثيرين مجرد المجاملات والتملق، والمدح، أو على أقل تقدير كتابة "ريفيو" للرواية باعتباره نقدا. ما يحدث حولنا يعمل بشكل جدي على قتل النقد، الذي يستتبعه قتل الثقافة العربية بالكامل ودفعها باتجاه الإبادة لتفاهتها وركاكتها.
- برأيك إلى أي الحدود أوصلنا الانسياق خلف "زيف النقد" ومجاملاته؟
أوصلنا إلى وجود أسماء لا تستحق قيمة الورق الذي تكتب عليه وأمست هذه الأسماء مفروضة علينا باعتبارها من أهم الأسماء العربية في عالم الأدب والثقافة؛ ومن ثم رأينا هذه الأسماء مترجمة إلى العديد من اللغات، وباتت هي المتصدرة للمشهد الثقافي فترى كتاباتهم هنا وهناك في كل المطبوعات العربية في حين أنهم أجهل من أن يكتبوا كلمة واحدة، وحينما يتناولهم أحد بالنقد الحقيقي من دون مجاملات تجدهم هم وجوقتهم من الفاسدين يجأرون بأن الناقد حاقد وحاسد وغير ذلك! هل من الممكن أن يرد لخاطرك أن هناك ناقدا حاقدا أو حاسدا؟! ولم سيفعل ذلك؟ وكيف يكون هكذا في حين أنه من خلال نقده أوضح مواطن القوة والضعف؟!
الخطورة الحقيقية أن هذه الأسماء بتكريسها تتم ترجمتها إلى العديد من اللغات باعتبارها أفضل ما نمتلكه، أي أننا نُصدر إلى العالم أتفه وأضعف ما فينا، وننقل له صورتنا البائسة كأننا نقول لهم: هذه هي صورتنا وثقافتنا الركيكة، ونحن لن نستطيع أن نكون أفضل من ذلك؛ لأننا في جوهرنا لا نمتلك الثقافة، أي أننا كعرب سنظل في قاع العالم حتى على المستوى الثقافي.
زيف النقد الذي ابتكره صلاح فضل بمجاملاته وتملقه لمن لا يستحقون الكتابة عنهم وغيره من النقاد قتل الثقة بين القارئ والناقد؛ فلم يعد هناك من يثق في النقد والنقاد، وصار كل قارئ يتجرأ على النقد باعتباره مجاملة- وأنا هنا لا أستطيع لوم القارئ الذي انساق لذلك المفهوم؛ لأن الناقد هو من كرس هذا المفهوم بفساده الحقيقي-. هناك الكثيرون من النقاد الذين قتلوا العديد من الأسماء الموهوبة موهبة لا غبار عليها؛ لأنهم ظنوا أنفسهم حكام دولة الثقافة، وأظن أن ما فعله جابر عصفور مع الكثيرين ومنهم الروائي الراحل محمد ناجي ليس بعيدا زمنيا حتى تنساه الذاكرة الثقافة العربية بعد. إن تغليب المصالح والرغبات والأهواء الشخصية على النقد يؤدي إلى تزييف المشهد الثقافي العربي بالكامل؛ ومن ثم صرنا نحيا في فوضى ثقافية حقيقية لا معنى لها.
- كتابك "زيف النقد ونقد الزيف" يأتي بمثابة الصدمة التي لطمت وجه أدعياء النقد الانطباعي والسطحي.. تتفق أم تختلف؟
كتابي "زيف النقد ونقد الزيف" كان بمثابة لطمة قوية على وجوه الجميع. أنا لا أنكر هذه اللطمة؛ فالرغبة في التغيير في حاجة إلى الصدمة المباغتة والحقيقية، التغيير يحتاج إلى الانفجار المفاجئ والثورة على كل ما هو فاسد وغير حقيقي. كل هذا الخراب الذي نراه حولنا، وهذه الجوائز التي يتم منحها من خلال العديد من الصفقات والاتفاقات، بل والرشاوي كان لا بد من كشفها وفضحها وبيان تهافت وركاكة هذه الأعمال التي تُمنح الجوائز من دون وجه حق. هل بات من يقول الحق من دون وجود أي مصالح هو الشاذ وغير الطبيعي، والحاسد والحاقد والراغب في الصعود على أكتاف الآخرين؟! وهل يُعقل أن يصعد أحدهم على أكتاف الفاشلين أساسا؟!
إن تكريس العديد من الأسماء العربية التي لا تستحق مثل هذا التكريس جعلني غير راغب سوى في الكشف فقط، إن مهمتي النقدية الأساسية هي كشف كل ما هو زائف وغير حقيقي ولا يستحق، من هنا كان هذا الكتاب الذي كرسته من أجل كشف زيف النقاد الذين يكتبون عن أعمال ركيكة باعتبارها أعمال مهمة؛ ومن ثم كان أن انتقدت ما كتبوه من نقد متهافت لا يستحق أن نسميه نقدا، ثم كان التركيز على زيف مصداقية جائزة البوكر العربية التي باتت منذ فترة طويلة جائزة مشبوهة فيما تمنحه من جوائز باختياراتها البائسة لأعمال ضعيفة وركيكة لا تستحق، بل وتعمل على تصعيد هذه الأعمال في مقابل تجاهل أعمال أخرى مهمة في المشهد الروائي العربي.
- لديك مجموعة قصصية واحدة وروايتان.. هل هذا انحياز قادم ومستمر إلى الرواية؟ أم أن الأمر يعود إلى مقتضيات أخرى وجدانية وأدبية؟
منذ أيام صدرت مجموعتي القصصية الجديدة "اللامنتمي"، وهكذا صار لدي مجموعتين قصصيتين وروايتين أي أن الجنسين الأدبيين تساويا في الإنتاج. لكن الأمر ليس كما تتصور في سؤالك. أنا كاتب، مجرد كاتب من دون تصنيف، أي إني لا يعنيني أن تُصنفني كروائي، أو قاص، أو ناقد سواء في مجال الأدب أو السينما. إنها عملية الكتابة في حد ذاتها التي تستهويني وأشعر معها بالمتعة في أي مجال من هذه المجالات، وما دامت الكتابة تمنحني المتعة، وما دمت أحاول الوصول إلى الكمال الذي أنا مهووس به في كتابتي؛ فالتصنيف لا يهم مطلقا.
النقد في حد ذاته إبداع ممتع يقوم على إبداع سابق، أي أن عملية الكتابة هي إبداع مستمر في كل مجالاتها، ومن هنا فأنا لا أنحاز إلى جنس أدبي على حساب جنس آخر، بل أنحاز للكتابة الجيدة الصادقة في وجهها العام.
- ما الذي مثله فوزك بجائزة ساويرس عن روايتك "كادرات بصرية"؟ وإلى أي حد تراهن على عروش الجوائز الأدبية والثقافية؟
جائزة ساويرس بالنسبة لي كانت مجرد مبلغ من المال أسعدني أن أناله فقط؛ فأن تنال المال بالتأكيد هو شيء مبهج؛ لأنك ستتعيش منه وتنفقه على رغباتك الشخصية، صحيح إني أرى جائزة ساويرس ما زالت حتى اليوم من أنزه الجوائز العربية وبعيدة عن النفاق والمصالح؛ حتى إن من يحصل عليها يكون فخورا بها أكثر من فخره بنيله جائزة الدولة، لكنها في النهاية مجرد حفنة من المال سأنفقها سريعا، وإنفاقها سيسبب لي الكثير من السعادة.
الجوائز لا يمكن لها أن تخلق كاتبا، كما أنها ليست اعترافا بأني صرت كاتبا مهما؛ فأنا كاتب مهم قبل الجائزة أو بعدها، وكان من الممكن ألا أحصل على هذه الجائزة لأن الرواية لم ترق لجنة التحكيم في هذا العام، في حين أنها قد تعجب لجنة التحكيم في عام آخر. هذا يعني أن الحاصل على جائزة ما لا يعني حصوله عليها- حتى لو كانت الجائزة نزيهة- بأنه كاتب لا يشق له غبار، بل يعني ذلك أن الرواية لاقت قبولا من اللجنة المنعقدة هذا العام.
أما بالنسبة للجوائز العربية فهي مجرد مكافأة مالية للكاتب فقط، وبما أننا جميعا في حاجة إلى المال؛ فنحن نتقدم إلى هذه الجوائز لنحصل عليه، وليس من أجل الحصول على شهادة بأننا كتاب حقيقيين، أما من يرى أن حصوله على جائزة ما فهو بذلك قد صار كاتبا مكرسا ومهما، ومن يرى أن الجائزة قد صنعت اسمه فهو في حقيقة الأمر لا اسم حقيقي له، ولا يستحق أن يكون اسما؛ لأنه يتشكك في قدرته الكتابية من الأساس وكان ينتظر الجوائز التي لا معنى لمصداقيتها كي تصنع اسمه.
- تنتصر دوماً لذاتيتك وعالمك الخاص بعيداً عن زخم الحياة ومتناقضاتها .. هل تصلح الذاتية حلاً لمشكلاتنا من وجهة ما؟
أنتصر لذاتيتي لأنها الأهم مما يدور حولنا من خراب؛ ومن ثم ألجأ إلى ذاتي بعيدا عن الآخرين ونفاقهم وزيفهم، قد أكون أنا أيضا مزيفا في نظر الآخرين؛ فليس هناك شيئا يقينيا في هذا العالم ومعظم الحقائق خاضعة للنسبية والمنطلق الذي تنطلق منه هذه الحقيقة، لكني في النهاية أكتفي بذاتي التي تكفيني وأرضى عنها كما هي، كما أنه ليس هناك ما هو أهم من ذاتي كي أنتصر له. لا تنخدع بقول البعض بأن الآخرين مهمين وما إلى ذلك من الأقوال. الذات هي الأهم عند الجميع، ولولا ذواتنا لما تحركنا من أماكننا قيد أنملة. الحقيقة أنك لا بد أن تُرضي ذاتك أولا كي تكون قادرا فيما بعد على إرضاء الآخرين، وإن لم تفعل هذا لذاتك ستفشل بالضرورة مع الغير.
أجل أنا ممتلئ تمام الامتلاء بذاتي، ولا أنطلق سوى منها أولا؛ لذا لم أعان من أمراض النفاق الاجتماعي، والغيرة، والحسد، والرغبة في أن أكون وحدي الأفضل كما يعاني منها الكثيرون في عالمنا العربي. الحقيقة إنك إذا ما كنت راضيا عن عالمك الخاص ستكون أكثر مقدرة على التعامل مع تناقضات العالم.
- يتنازعك انتماءان؛ الأول للنقد السينمائي والثاني للكتابة الروائية.. هل ترى هذا في صالح مشوارك الثقافي أم العكس؟
كان هذا في صالح مشواري الثقافي إلى حد كبير؛ فأن تمتلك ذاكرة بصرية لا ترى الأحداث والكلمات والأشياء إلا من خلال المشهدية فهو أمر يفيدك أيما إفادة في عالمك الروائي، ومن ثم ينعكس على كتابتك الروائية وحتى النقدية، ولعل هذه المشهدية واضحة فيما كتبته من إبداع سواء في الرواية أو القصة، كما أنها تتجلى بشكل أكبر في روايتي "كادرات بصرية" التي كانت مشهدية بامتياز وأفادتني السينما فيها بأن استخدمت كل تقنيات الفيلم السينمائي مطوعا لها لخدمة العمل الروائي، وهو ما ستراه بشكل أكثر تجليا في مجموعة "اللامنتمي".
إذن فالسينما لا يمكن أن تكون ضد الرواية، كما أننا ندرك جيدا أن السينما والرواية تتبادلان العديد من الخبرات منذ بدايتيهما سواء في تحويل الأعمال الروائية إلى السينما، أو الاستفادة من تقنيات السينما في الأعمال الروائية
- إلى أي حد تؤثر تقنيات النقد السينمائي لديك على آليات الكتابة الروائية لديك؟
تقنيات السينما تتجلى في كل ما كتبته من أعمال، ربما تشاهد هذه التقنيات في نقدي الأدبي أيضا، أي أن السينما أفادتني في كل المجالات؛ فهي السحر الذي أنطلق منه إلى العالم. أن ترى الكلمات في شكل صور أفضل من أن تراها في صورة حروف ومفردات. ستجد فيما كتبته من أعمال إبداعية الحرص كثيرا على التقطيع، وهذا التقطيع هو في جوهره تقنية المونتاج السينمائي، كذلك الفلاش باك والتداخل وغيره من التقنيات. حتى التوثيق الذي تحرص عليه السينما ستراه في معظم ما كتبته، أي أن السينما في نهاية الأمر هي حياة كاملة متكاملة من الممكن أن ينطلق منها العالم بأثره.
- كيف هي مقارنتك بين أنصار التجريب من جهة ودعاة النموذج المحتذى من جهة أخرى؟
الفن بمعناه الواسع والمطلق إذا لم يستند إلى التجريب لا أستسيغ أن يُطلق عليه فنا؛ فكيف تكون فنانا وأنت لم تسع إلى التجريب في فنك؟! الفن هو مغامرة في حاجة إلى التحليق والتجريب والجنون، وإذا لم تتحل بالجنون ستظل نمطيا نموذجيا لا جديد فيما تقدمه. التجريب هو الذي أدى إلى تطور الفنون الكتابية منها والبصرية، هو الذي وصل بالرواية إلى ما هي عليه الآن، والسينما، والنقد، أي أننا نستطيع القول: إذا لم تتحل بالجنون الذي يحمل في معناه التجريب فأنت لا علاقة لك بالفن وستظل في قاع هذا العالم ولن تقترب من التفرد والتميز.
- ما مدى انتصارك لكتابات السيرة الذاتية؟ وهل تنوي مثل هذا التوجه في كتابات قادمة؟
كتابات السيرة الذاتية من أهم ما يمكن أن تطلع عليه ولكن من هو الذي يجرؤ على كتابة سيرته الذاتية بشكل صادق وكما حدثت في منطقتنا العربية؟ أن تكتب ما كان كما هو فيه الكثير من المسؤولية والجرأة التي تحتاج إلى كاتب حقيقي ومتفرد؛ لأنك في سيرتك الذاتية لن تكشف نفسك فقط، بل ستكشف كل من مروا في طريقك يوما ما. ستعري الجميع بكل ما فيهم من إيجابيات وسلبيات وأنت منهم. فهل هناك من يجرؤ على ذلك؟
أنا شخصيا من يقرأ أعمالي الإبداعية سيجد الكثير جدا من مفردات حياتي وتجاربي متناثرة فيها هنا وهناك، والحقيقة أنك كي تعرفني جيدا في الحياة الحقيقية عليك أن تقرأ ما أكتبه من إبداع؛ ففيه أبث الكثير من حياتي وتجاربي كما هي أو كما حدثت، صحيح إني أطعمها بالقليل أو الكثير من الخيال، لكنك ستجدني داخل أعمالي.
لا أنكر إني كثيرا ما أفكر في كتابة سيرتي الذاتية، كما لا أنكر إني سأفعلها وأكتبها كما حدثت تماما من دون تجميل أو حذف، أنا حريص على تعرية كل ما يدور حولي وتعرية نفسي قبل تعرية الآخرين، فلم لا أفعل ذلك. أظن أنها ستظهر حينما يحين وقتها وأجد إني لا بد من تأمل كل ما فات وتوثيقه بحيادية وصدق.
- منذ البدايات الروائية في "كائن العزلة" وعبر مشوار الكتابة الروائية حتى الآن.. ما الثابت والمتغير في تقنيات الكتابة والحكي لديك؟
هناك الكثير من التغيرات وهناك بعض الثوابت؛ فسمة الحياة هي التغيير، وكلما اكتسبت المزيد من الخبرات والثقافات كلما تغيرت وجهة نظرك باتجاه العالم وتجاه نفسك أيضا. لا أنكر أن استفادتي من السينما والمشهدية التي أحرص عليها كانتا من الثوابت التي لم تتغير في كتابتي حتى اليوم وستظل كذلك فيما أظن، لكني تغيرت في كتابتي بأن صرت أكثر تشككا فيما أكتبه من الإبداع، وغير راض عن الكثير مما أكتبه، كما إني صرت كثير الحرص على الحذف من الإضافة، كما إني اكتسبت الكثير من الخوف والقلق من عملية الكتابة رغم إني أكتب كثيرا، لكني أظل أراجع ما كتبته وأقرأه مرة بعد أخرى تخوفا من أن يكون هناك نقصا ما يشوب ما كتبته، أي إني أقبل على الكتابة في كل مرة بقلق أكبر مما كنت عليه في بدايتي. ربما أدى ذلك إلى إني حذفت 3000 كلمة من رواية "كائن العزلة" في طبعتها الجديدة التي ستصدر قريبا.
- إلى أي حد أنت راض عن علاقة المثقف بالسياسي والعكس في عالمنا العربي؟
المثقف لا علاقة له بالسياسي. مفهوم المثقف العضوي كما قدمه أنطونيو جرامشي الذي يعني "صاحب المشروع الثقافي الذي يتمثل في الإصلاح الثقافي والأخلاقي" كان يخدم أيديولوجيته في المقام الأول، أي أنه يخدم التيار السياسي والفكري الذي انطلق منه جرامشي. السياسة مُعطلة للإبداع والثقافة، صحيح أن الثقافة قادرة على التغيير الجذري الحقيقي باعتبارها القوة الناعمة كما نقول، لكنها قادرة على هذا التغيير من داخلها وليس انطلاقا من السياسة. عليك أن تعطي كتابا فقط للجماهير كي تقرأ وتفهم، وحينما تفهم سيكون التغيير والإصلاح هو هدفها الأساسي في حياتها، أما أن تطلب التغيير من أناس لا علاقة لهم بالثقافة أو الفهم والتفكير فهي لن تسعى إلى أي شكل من أشكال الإصلاح وستظل مستكينة راضية بكل ما يقع عليهم من ظلم وطغيان من الأنظمة السياسية. قد يتناول الكاتب السياسة من خلال عمله الفني، ومن خلال هذا التناول يستطيع بالفعل التغيير الحقيقي، لكن أن يمارس المثقف السياسة بشكل مباشر فهذا ما لا يتفق مع الكتابة والثقافة. المثقف له دوره والسياسي له دوره أيضا.
- ما الذي استخلصته من واقعة رفض عضويتك باتحاد كتاب مصر؟
أننا نحيا في مجتمع مهترئ جاهل لا علاقة له بالثقافة الحقيقية وإن كنا كثيرا ما ندعي الثقافة، والتثاقف، والوعي، والمعرفة.
حينما حدثت واقعة اتحاد الكتاب في 2008م كان سبب الرفض إن الفاحصة الجاهلة رأت إني مجرد كاتب للجنس، وبما إني أكتب جنسا فأنا من وجهة نظرها لا علاقة لي بالكتابة ولا يصح أن أنتسب للاتحاد "المقدس" وكأني سأدخل المسجد حينما أنتسب إليه. بالطبع كان الأمر مدهشا؛ فأن تقول كاتبة هذا القول، وأن يرفض الاتحاد المنوط به الدفاع عن حرية الإبداع قبول عضويتي يُدلل على أننا في مجتمع متهتك يتغنى بالفضيلة والأخلاق رغم تهتكه وزيفه وكذبه وتدليسه. لكن الأمر انتهى بقبول العضوية بعد شهر واحد من المعارك الضارية بيني وبين الاتحاد.
- في الختام، كيف ترى السينما المصرية والعربية من وجهة نظر نقدية؟ وما الجديد القادم لديك على مستوى الكتابة؟
نرى الآن على مستوى السينما العربية الكثير من التجارب السينمائية المهمة التي تقدمها العديد من الدول العربية، صحيح أنها تجارب فردية لكنها متميزة سينمائيا لاسيما في فلسطين ولبنان ودول المغرب العربي، أما بالنسبة للسينما المصرية فلقد وقعت في مأزق الإنتاج، وبما أن معظم شركات الإنتاج السينمائي اتجهت إلى التوزيع بعد ثورة يناير بسبب ضحالة الظروف الاقتصادية المصرية، وعدم ضمان ما يحدث في السوق السينمائي المصري؛ فلم يعد لدينا سوى السبكي تقريبا الذي يكاد أن يكون الوحيد الذي يحمل عبء الإنتاج في السينما المصرية بالإضافة إلى بعض التجارب الفردية القليلة؛ لذلك أندهش ممن يطالبون السبكي بالتوقف عن الإنتاج السينمائي، فهذا الرجل لو توقف لتوقفت عجلة الإنتاج في السينما المصرية تماما ولأصابها الشلل الحقيقي. فلندع الرجل يُنتج، صحيح أن إنتاجه ليس دائما جيدا، لكنه ينتج السيء والجيد، وهذا أمر موجود في كل سينمات العالم، لم لا ننظر إلى السينما الأمريكية التي تُنتج الآلاف من الأفلام سنويا والجيد منها لا يتعدى 10%؟ ليس بالضرورة أن يكون كل ما تنتجه السينما جيدا، المهم أن تستمر عجلة الإنتاج.
أنا لا أنكر أن مستوى السينما المصرية قد تراجع كثيرا فيما تنتجه، لكن هذا التراجع يعود في المقام الأول إلى الاقتصاد، ولا يمكن لأحد إنكار أن الاقتصاد يرتبط ارتباطا وثيقا بكل مناحي الحياة الثقافية والفنية والأخلاقية؛ فإذا ما انهار الاقتصاد انهار معه كل شيء وأول هذه الأشياء الأخلاقيات الاجتماعية.
لدي العديد من الأعمال التي انتهيت منها وتنتظر النشر حوالي عشرة أعمال ما بين النقد السينمائي والنقد الأدبي ورواية ما زلت غير راض عنها، وغير ذلك، لكني لست متعجلا في عملية النشر وأتركها لحينها.


حوار: محسن حسن
جريدة "السياسة الكويتية"
عدد 6 مارس 2018مٍ