الخميس، 30 مارس 2017

السينما الجزائرية.. الإغراق في الماضي والانفصال عن الحاضر


فيلم وقائع سنوات الجمر

كان أول فيلم في تاريخ السينما العربية يحصل على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان "كان" الفرنسي هو الفيلم الجزائري "وقائع سنوات الجمر" Chronique des années de braise للمخرج الجزائري محمد الأخضر حامينا 1974م، وكان تاريخ حصوله على السعفة عام 1975م، الذي شارك في كتابة السيناريو والحوار له الروائي الجزائري رشيد بوجدرة مع توفيق فارس، وهو الفيلم الذي قارب على الثلاث ساعات كاملة في الحديث عن وقائع تاريخ الجزائر النضالي الذي غطته الدماء، من أجل نيل الاستقلال والحرية، والنظم التي تُمارس القمع وتجهض حقوق الإنسان أينما كان. كما صور الفيلم الحياة القبلية في جبال الجزائر التي كانت تعيش على حياة التنقل في الصحراء والرعي، ثم لم تلبث أن تحولت هذه الصحراء إلى ساحة للقتال والجهاد المستميت من أجل نيل الحرية المضرجة بالدماء.
لم يكن مضمون الفيلم الجزائري لحامينا هو السبب في فوز الفيلم بالسعفة الذهبية في "كان"، بل كان التشكيل الجمالي والتصوير الذي مثل لديه لغة سينمائية خاصة هو ما جعله من أهم كلاسيكيات السينما العالمية حتى اليوم، ورغم هذا الفوز الكبير بالنسبة للسينما العربية بالكامل كان هناك من هاجم الفيلم والمخرج باعتبار أنهم رأوا في الفيلم ما ينافق به ويغازل فرنسا- البلد المحتل- من أجل الحصول على رضاه، وقد كان مبررهم في ذلك أن الأخضر حامينا في حديثه عن الثورة الجزائرية تحدث كثيرا عن تناقضات الجزائريين أنفسهم، كما أن المخرج لم يتحدث عن أن الجزائريين كانوا على وعي تام بالثورة الجزائرية قبل حدوثها، لأنهم بالفعل لم يكن لديهم هذا الوعي- وهذه هي الحقيقة التي ذكرها الفيلم-، وإن كان مهاجمو الفيلم كانوا يريدون من المخرج تزييف الوعي والحقيقة والقول: إن الجزائريين كان لديهم هذا الوعي؛ حتى لا يعتبرونه يخدم مصالح فرنسا؛ وهو الأمر الذي جعل حامينا يحاول الدفاع عن فيلمه بالتأكيد على أن الفيلم لم يكن يلتزم بالوقائع التاريخية بقدر ما كان خاضعا لرؤيته الفنية هو كمخرج.
أقول رغم هذا التميز في مجال السينما الجزائرية كأول فيلم عربي في تاريخ السينما العربية يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان "كان" السينمائي إلا أن السينما الجزائرية تعاني الكثير من الانفصال عن جمهورها والشارع الجزائري، حتى يكاد المشاهد في الجزائر لا يعلم شيئا عن سينما بلده، بل لا يعرف عن هذه السينما خارج الجزائر من الوطن العربي إلا قلة نادرة، وهذه القلة تنحصر في الفئة المهتمة بالسينما فقط، ولولا هذا الاهتمام منهم بالسينما ما كانوا قد علموا بوجود سينما جزائرية في الأساس.
لكن ما هو السبب في انفصال السينما الجزائرية- رغم أهميتها- عن جمهور مشاهدي السينما في الوطن العربي، والجمهور الجزائري نفسه، رغم أن صناعة السينما في الجزائر من الممكن ردها بشكل غير مباشر إلى بداية اختراع السينمانوغراف؟
تذكر الاستطلاعات المهمة التي أُجريت من أجل حصر عدد دور العرض السينمائي في الجزائر فور الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي أن عدد هذه الدور كان 450 دار عرض سينمائي، ويصل عدد هذه الدور حسب ما صرح به المخرج الجزائري عمار العسكري إلى 487 دار عرض، لكن إذا ما تابعنا الحقيقة التي تدور على أرض الواقع الآن في الجزائر فعدد دور العرض السينمائي النشطة فعليا في الجزائر لا تكاد تتجاوز 20 دار عرض فقط، ولعل هذا التراجع الخطير في دور العرض السينمائي ألقى بظلاله على صناعة السينما الجزائرية أيضا؛ ومن ثم بات عدد الأفلام المُنتجة في الجزائر قليل جدا بالمقارنة مع بداية صناعة السينما الجزائرية التي واكبت حركة التحرر الوطني في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، والتي كان الهدف منها ليس صناعة سينما بالمفهوم الفني والجمالي للسينما بقدر التأريخ والتوثيق للثورة الجزائرية والدعاية لها في العالم أجمع لاسيما أوروبا والدول الاشتراكية.
فيلم ريح الأوراس
يعود تاريخ السينما في الجزائر إلى بداية اختراع فن السينما في العالم حينما كلف الأخوان "لوميير" المصور "فيليكس مسغش" من أجل تصوير مشاهد سينمائية في الجزائر؛ فكان هناك مشاهد من "تلمسان"، وغيرها من الأشرطة السينمائية منها: "دعوة المؤذن"، و"الجزائر"، و"الميناء"، وغيرها من الأشرطة السينمائية التي تم تصويرها في الجزائر، أي أن الجزائر كان لها علاقة بالسينما منذ بدايتها وإن لم تكن بطريق مباشر من أجل صناعة السينما، حيث صورت فرنسا ما يقرب من الثمانين فيلما سينمائيا في الجزائر حتى عام 1954م- عام بداية حركة التحرر الوطني الجزائرية-.
في عام 1956م كانت البداية الحقيقية للسينما الجزائرية حينما انضم المخرج الفرنسي رينيه فوتييه René Vautier -المناهض للاستعمار في الجزائر- إلى الثورة الجزائرية في جبال الأوراس ثم التحقت به مجموعة أخرى من المخرجين الأجانب كان أهمهم "بيار كليمون" الذي قضى عشر سنوات مسجونا في السجون الفرنسية لإيمانه بالقضية الجزائرية، وهو المخرج الذي صنع الفيلم الوثائقي المهم " ساقية سيدي يوسف" 1958م، الذي يصور فيه حجم الدمار الذي خلّفه قصف الجيش الفرنسي لقرية سيدى يوسف، والذي راح ضحيته أكثر من 60 قرويا جزائريا وتونسيا، حيث بدأ الفيلم بالنشيد الوطني الجزائري، الذي اختاره المخرج كمقدمة له، حيث يبرز العلم الوطني الجزائري، وهو ما اعتبر تحديا كبيرا من طرف المخرج الفرنسي لجيش بلاده الاستعماري، في ذلك الوقت، كذلك انضم لحركة التحرر المخرجة سيسيل دو كوجيس التي قدمت فيلمها المهم "اللاجئون" عن حركة التحرر، والمصور الصربي ستيفان لابودوفيتش الذي عاش في الجزائر لمدة ثلاث سنوات مؤرخا بعدسته لحرب التحرير والشخصيات الثورية الجزائرية، ولم يغادرها إلا بعد الاستقلال، يضاف إليهم الدكتور بيير شولي.
نقول أنه مع التحاق هؤلاء المخرجين والمصوريين إلى الثورة الجزائرية من أجل التحرير كانت بداية السينما الجزائرية الحقيقية التي عملت على التوثيق لحركة التحرر الوطني، فأخرج المخرج الفرنسي رينيه فوتييه الملتحق بالثوار فيلمه المهم "الجزائر تحترق" Algérie en flames 1958م، وهو الفيلم الذي استعملت فيه وسائل بدائية (آلة تصوير ذات حجم صغير)، وقد آمن المخرج بالقضية الجزائرية وعاش وسط المجاهدين؛ فصور الفيلم ليبرز إلتزام الجماهير وراء حزب جبهة التحرير الذي تنتمي إليه؛ وليكذب الدعايات الاستعمارية التي كانت تروج أن الحرب القائمة في الجزائر مجرد عمليات بوليسية لحفظ النظام. ويصور الفيلم قصف القرى وسكانها الفارين تاركين أراضيهم المحترقة، كذلك حرق الغابات بالنابالم، ويخلد رينيه فوتييه وآلته الصغيرة حياة المجاهدين في الجبال والأحداث التي عاشها وسطهم.
المخرج الجزائري محمد لخضر حامينا
في عام 1957م تكونت خلية للإنتاج السينمائي في جبال الولاية الأولى تحت إشراف رينيه فوتييه لخدمة الثورة التحريرية دعائيا- وهو الهدف الأساس من نشأة صناعة السينما في الجزائر، أي الدعاية للثورة- تضم كلا من جمال شاندرلي ومحمد لخضر حامينا وأحمد راشدي الذين عملوا على التوثيق للثورة الجزائرية بأفلامهم التي صنعوها من أجل نقل صور الكفاح في الجبال وتركيبها وإرسالها بعد ذلك وتحميضها في يوغسلافيا وفي برلين الشرقية سابقاً، لكن هذه المدرسة لم تصمد أكثر من أربعة أشهر أخرجت خلال هذه المدة عددا مهما من الأفلام الوثائقية التي وُزعت آنذاك في البلاد الاشتراكية من أجل التعريف بالثورة الجزائرية وأهدافها النبيلة من أجل نيل الاستقلال.
تتالت فيما بعد أفلام المخرج الفرنسي رينيه فوتييه المؤمن بالقضية الجزائرية فقدم العديد من الأفلام مثل "عمري ثماني سنوات" J'ai huit ans 1961م، بالاشترك مع المخرج ومدير التصوير يان لوماسون Yann Le Masson، والمخرجة والممثلة أولجا فارين Olga Varen، وفي عام 1962م قدم فوتييه فيلمه "خمسة رجال وشعب" من إنتاج مصلحة السينما التابعة للحكومة المؤقتة، والتي كان يشرف عليها أمحمد اليزيد.
حتى هنا كانت السينما الجزائرية الناشئة لا هدف حقيقي لها من صناعتها سوى الترويج للثورة الجزائرية والتعريف بها لجميع شعوب العالم؛ كي يتعاطفوا مع قضيتهم المهمة في سبيل التحرر، ولكن مع فترة الاستقلال بدأت السينما الجزائرية تنحو منحى آخر وهو المنحى الفني، وإن ظلت حبيسة في تصوير البطولات الجزائرية من أجل التحرر، بل وتصوير تاريخها الطويل الذي عانت فيه من نير الاستعمار الفرنسي، فرأينا عام 1965م فيلم "الليل يخاف الشمس" للمخرج مصطفى بديع، والذي كان من تأليفه أيضا، وقد كان أول فيلم كبير من إنتاج جزائري، كذلك فيلم "ريح الأوراس" 1966م للمخرج محمد الأخضر حامينا الذي يصور معاناة "أم كلثوم" من منطقة الأوراس التي توفى زوجها عقب قصف جوي لمنزلهما، واعتقال الجيش الفرنسي للابن، ولكن لم تيأس الأم في البحث عن ابنها؛ فجالت من معتقل لآخر عسى أن تراه، وفي مشهد درامي تموت الأم عند السلك الشائك الذي يحيط بمكان اعتقال ابنها رغبة منها في الاقتراب منه أكثر، وقد كانت مدة الفيلم 95 دقيقة، ثم رأينا فيلم "تحيا يا ديدو" 1971م للمخرج محمد زينات الذي كان ضابطا في جيش التحرير الوطني، وهو مزيج لصور من الأرشيف ومقاطع روائية، حيث يتعرف السائحان الفرنسيان سيمون وزوجته على الجزائر من خلال مصادفات تجوالهما، لكن بغتة وفي إحدى الحانات يتعرّف "سيمون" على جزائري قام سابقا بتعذيبه، وأمام هول المفاجئة يفر سيمون، وغيرها من الأفلام مثل "سقف وعائلة" 1982م للمخرج رابح لعراجي، والفيلم المهم "الأفيون والعصا" للمخرج الجزائري أحمد راشدي 1970م، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية للروائي مولود معمري بنفس العنوان والذي لاقى إقبالا ضخما من الجمهور الجزائري؛ نظرا لحديثه عن أحداث الثورة الجزائرية.
من فيلم ريح الأوراس
لكن رغم أن السينما الجزائرية بدأت تتحرر من قيد التوثيق لحركة التحرر الوطني وتعريف العالم بها، ورغم أنها بدأت مرحلتها الفنية إلا أنها ظلت حبيسة لفترة طويلة جدا- قد لا نبالغ إذا قلنا حتى اليوم- في تاريخها المثقل بالجرائم الاستعمارية التي فعلتها بها الدولة المحتلة فرنسا، ومن ثم نرى جل الأفلام الجزائرية لا تتحدث سوى عن الاستعمار والتاريخ الاستعماري والأهوال التي لاقاها الجزائريون من جراء هذا الاستعمار، ومن ثم الحديث عن حركة التحرر الوطني والبطولات التي قدمها الكثيرون من الجزائريين من أجل تراب وطنهم الوطني؛ فظلت السينما الجزائرية حبيسة التاريخ حتى اليوم وكأن التاريخ والثورة هما كل ما في الجزائر من دون وجود أفلام اجتماعية تعبر عن الواقع المعيش وما يدور فيه من مشكلات، كذلك أغفلت سنوات التعمير والإنشاء في الثمانينيات، وسنوات العشرية السوداء؛ فأدى ذلك بالسينما إلى الانزواء في قلب التاريخ فقط.
لا ننكر أنه في سنوات السبعينيات كانت هناك بعض المحاولات للخروج السينمائي من خندق التاريخ والبطولات التحررية مثل فيلم "حسان طاكسي" 1982م الذي أخرجه المخرج الراحل محمد سليم رياض وقد تميز بحرية ملحوظة في الطرح، وبجرأة في تناول الوضع الاجتماعي لمرحلة ما بعد الاستقلال، وقد أدى في الفيلم الممثل الراحل أحمد عياد المشهور "برويشد" دور مجاهد يحصل على رخصة سيارة أجرة، فيتعرض لمواقف مثيرة في شوارع العاصمة، وقد كان من الأفلام التي لاقت إقبالا جماهيرا ملحوظا في هذه الفترة، كذلك فيلم "عمر قتلاتو الرجلة" 1976م للمخرج مرزاق علواش الذي كان بمثابة المفاجأة في مسار السينما الجزائرية، حيث قدم علواش هذا الفيلم لتبتعد السينما الجزائرية لأول مرة، بفضله عن مواضيع الثورة التحريرية الكبرى وأفلام "البروباجندا" التي كانت تصنع من أجل الترويج للثورة الزراعية، لكنه اضطر إلى الهجرة من الجزائر في أواخر الثمانينيات حينما بدأ المد الأصولي فيها يقوى وتم تدمير وإحراق وإغلاق العديد من دور العرض السينمائي باسم الدين، وبات مهددا وهدفا للإرهاب مثله في ذلك مثل غيره من الفنانين الجزائريين مثل الشاب حسني وغيرهم، ولعل هذا الفيلم كان من أهم الأفلام اللافتة في الصناعة السينمائية الجزائرية حيث شاهده حينها 300 ألف مشاهد جزائري، وتم عرضه في 31 قاعة عرض سينمائية جزائرية، كما حاز على الميدالية الفضية من مهرجان موسكو في عام 1977م، وتم ترشيحه للعرض في مهرجان "كان" في العام نفسه، وفي عام 1989م شاهدنا فيلم "الطاكسي المخفي" le clandestin للمخرج بن عمر بختي وقد كان فيلما سياسيا يعالج السياسة في قالب كوميدي، إلا أن هذه الأعمال الاجتماعية الكوميدية لم تصمد للأسف أمام إصرار الكثيرين من صناع السينما على العودة إلى الماضي في صناعة أفلامهم والترويج للتاريخ الاستعماري القديم وحركة التحرر بدلا من الخروج منها إلى آفاق سينمائية أوسع.
من فيلم وقائع سنوات الجمر
بالتأكيد ساهم الانكماش الواضح في دور العرض السينمائي الجزائرية في سنوات العشرية السوداء في تقلص صناعة السينما الجزائرية، وهو الأمر الذي استمر فيما بعد، ومن ثم انصرف الجمهور عن متابعة السينما؛ مما أدى إلى اختفاء السينما في الجزائر لفترة من الوقت، وهروب معظم صناع هذه السينما إلى الخارج من أجل تقديم أفلامهم للعالم، لا سيما فرنسا- بلد المستعمر-، وهناك نجح الكثيرون من المخرجين في تقديم العديد من الأفلام السينمائية المهمة التي صنعت بالفعل سينما جزائرية حقيقية، كما أن انصراف الجمهور يعود أيضا بشكل أو بآخر إلى انصراف صناعة السينما الجزائرية عن معالجة مشاكل الواقع التي يعيشها المجتمع الجزائري وتفضيلها الحياة في الماضي حيث نرى كل عام المزيد من الأفلام التي تتحدث عن التاريخ والتحرر الوطني حتى اليوم، ورغم أن هناك أفلام مهمة جدا وجيدة على المستوى الفني والتقني التي يصنعها بعض المخرجين الجزائريين إلا أنها لا تجد الإقبال عليها من الجمهور الجزائري، أو أنه لا يعرفها نتيجة منع عرضها في التليفزيون الجزائري من هذه الأفلام الفيلم المهم "القلعة"La Citadelle  1989م للمخرج محمد شويخ، وهو الفيلم الذي ابتعد تماما عن التاريخ الجزائري وحاول الحديث عن العديد من المشاكل الاجتماعية والإرث الاجتماعي المتخلف الموجود في المجتمع الجزائري مثل العنف الشديد ضد المرأة، وعادة الزواج من أكثر من واحدة وإثبات الفحولة والرجولة بدم البكارة، أي أنه يتحدث عن مجتمع مازال يتمسك بعادات بالية تكون المرأة هي ضحيتها الأولى، وقد اعتبر المخرج الإيطالي أمبيرتو روسي هذا الفيلم من أنجح الأفلام من حيث تمكنه من تحقيق توازن بين ثنائية المأساة والسخرية، وبين الواقع والخيال، كما استطاع الفيلم أن يواجه بشجاعة تابوهات الجنس، وفي عام 2005م يقدم لنا نفس المخرج فيلما من أهم أفلامه السينمائية وهو فيلم "دوار النساء" الذي فاز بجائزة الصقر الذهبي في مهرجان روتردام السينمائي، كذلك بجائزة أحسن سيناريو في الدورة العاشرة لمهرجان السينما الإفريقية في مدينة خريبكة المغربية، يتحدث الفيلم عن قرية جبلية يضطر رجالها للرحيل بعيدا بحثا عن لقمة العيش، لتحل النساء مكانهم، حيث يحملن السلاح لحماية القرية من الإرهابيين، عند رحيل الرجال الممثلين للقوة الحقيقية، كما يتكفل شيوخ منهكون لم تعد لديهم أي قوة لدرء المخاطر بإصدار الأوامر ومراقبة النساء حفاظا على شرف القرية؛ لتواجه النساء تسلط شيوخ يستمدون هيبتهم من جنسهم كجبهة داخلية وشبح جماعة من الإرهابيين كجبهة خارجية.
من المخرجين المهمين الذين حاولوا الخروج من أسر السينما التاريخية الجزائرية المخرجة يمينة باشر شويخ التي قدمت لنا فيلمها "رشيدة" 2003م، ويدور الفيلم حول فتاة، بذلك الاسم، تعيش في العاصمة وتعمل مدرسة، وفي أحد الأيام يتقدم منها بعض الشبّان ويطلبون منها حمل قنبلة الى المدرسة، وحين تعارض يطلقون النار عليها ويتركونها تنازع الموت. حين تسترد صحتها تفر وأمها الى بيت في قرية بحثا عن الأمان وخوفا من تعقب المتطرفين. هناك تكاد رشيدة تبدأ حياة جديدة لولا أن التطرّف السائد يهدد مستقبلها أيضا وتكتشف أن ما وقع في المدينة محتمل وقوعه في الريف. لكن عليها وعلى أمها أن يواجها الموقف بشجاعة لأنه ليس هناك من مهرب آخر، وقد أكدت المخرجة أنها لجأت إلى العديد من الشركات الفرنسية كي تساعدها في إنتاج الفيلم حيث لم تعد الدولة في الجزائر تهتم بالمجال السينمائي مثلما كانت تهتم به في الفترة الذهبية لهذه الصناعة بعد حركة التحرر الوطني، وقد حصد الفيلم ست عشرة جائزة في مهرجانات السينما العالمية، وتم انتقاؤه رسمياً لمهرجان "كان"، مما يدلل على أن الابتعاد عن موضوعات الماضي التي قُتلت بحثا في السينما الجزائرية، وبداية الاهتمام بمشاكل الواقع المعيش من الممكن لها أن تنتج فنا سينمائيا حقيقيا ومنافسا في مهرجانات العالم السينمائية أمام غيرها من السينمات.
لكن هل نجحت السينما الجزائرية بالفعل في جذب الجمهور الجزائري والعربي إليها مرة أخرى؟
المشكلة الحقيقة في السينما الجزائرية أنها لا تهتم كثيرا بالسينما التي تقترب من الإنسان ومشاكله المعاصرة من أجل تصوير الواقع الجزائري الحالي، ومن ثم تنصب معظم الصناعة في جزئها الأكبر على التاريخ الجزائري وحركة التحرر فقط، وهذا أيضا ما تُقبل على إنتاجه والموافقة على تمويله وزارة الثقافة الجزائرية، في حين أن الأفلام التي تهتم بالعديد من المشكلات الأخرى لا تجد من يمولها؛ فتسعى إلى الحصول على تمويل أجنبي من خلال فرنسا وشركاتها، أو يحاول مخرجوها الهجرة الكاملة إلى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية حيث يكون لديهم مساحة أكبر من الإبداع وإمكانيات تمويلية تتبنى أفلامهم ومن ثم يعملون على منافسة غيرهم من السينمات المختلفة، لكن مثل هذه الأفلام يُحرم منها – للأسف- الجمهور الجزائري الذي لا يشاهدها إلا نادرا، ولعل الدليل على استمرارية الاهتمام بالتاريخ في السينما الجزائرية وأنه مازال مسيطرا على مقدرات الصناعة فيها أن من أحدث الأفلام في صناعة السينما الجزائرية فيلم "وقائع قريتي" للمخرج عبد الكريم طرايدية الذي يتحدث عن يوميات الطفل بشير ذي التسع سنوات، في عائلة تخلى عنها الوالد، فبقى مع إخوته إلى جانب أمه وجدته لأمه وخاله المريض المقعد، وهي عائلة تعاني الفقر، فلا تجد الأم مصدرا لإعالتها سوى غسل ثياب جنود الاستعمار الفرنسي في الثكنة الموجودة بالقرب من القرية، ورغم مستوى الفيلم المتوسط إلا أن وزارة الثقافة الجزائرية اهتمت بإنتاج مثل هذا الفيلم لأنه يتحدث عن الماضي الاستعماري في حين أنها لا تهتم بالعديد من الأفلام الجزائرية الأخرى التي تتحدث عن الواقع المعيش ومشاكله اليومية.
المخرج الفرنسي رينيه فوتييه
لعل هذا الانفصال الحقيقي عن الواقع هو ما أدى في نهاية الأمر إلى انفصال الجمهور الجزائري عن السينما الجزائرية، بل وأدى ذلك إلى هجرة السينما الجزائرية الحقيقية المخلصة لهذا الفن إلى العديد من الدول الأوروبية لاسيما فرنسا من أجل الانطلاق إلى آفاق أكثر رحابة فنية، لكن هذه السينما للأسف لا يعرفها الجزائريون رغم حصدها الكثير من الجوائز في المهرجانات العالمية.
من هذه الأفلام المهمة التي تُمثل السينما الجزائرية في الخارج فيلم "خارجون عن القانون" Hors La Loi 2010م للمخرج الجزائري رشيد بوشارب، وهو الفيلم الذي أثار العديد من المشكلات في فرنسا؛ حيث تعرّض الفيلم لدى عرضه لحملة واسعة من طرف اليمين الفرنسي خاصة، الذي شن حملة اضطهادية واسعة عليه في بعض الصحف الفرنسية، ونزلت بعض القوى اليمينية إلى الشارع في مظاهرات ضد عرض الفيلم أمام صالة عرض مهرجان "كان"، رفضا لمحتواه التاريخي، واعتبروه مهينا لفرنسا، إلا أن الفيلم مثّل الجزائر في الترشيح لجائزة الأوسكار أحسن فيلم أجنبي 2011م، ويتحدث الفيلم عن ثلاثة إخوة جزائريين يعيشون في فرنسا بعد أن نجوا من مذبحة سطيف، وأسسوا حركة متطرفة في العاصمة باريس انتقاما للجزائرين من فرنسا، كذلك فيلم المخرجة الجزائرية الفرنسية يامينا بن جيجي "إن شاء الله يوم الأحد" Inch'Allah Dimanche 2001م، وهو فيلم اجتماعي يتحدث عن تأقلم الجزائرين مع الأجواء الأوروبية، حيث تتزوج فتاة من الريف الجزائري المحافظ  من جزائري في فرنسا وتحاول قدر المستطاع الحفاظ على تقاليدها لكنها تجد عوائق في ذلك، وفي عام 1996م يقدم المخرج الجزائري مرزوق علواش فيلمه المهم "مرحبا يا ابن العم" Salut cousin الذي يتحدث عن هجرة الجزائرين لفرنسا هربا من العشرية السوداء وحال المغتربين هناك، حيث يتمحور الفيلم عن شاب رحل إلى أقربائه في فرنسا للعمل؛ فيلتقي بفتاة ويحاول كسب الجنسية منها، وقد قام ببطولة الفيلم الممثل المغربي جاد المالح كما رُشح الفيلم لجائزة الأوسكار أحسن فيلم أجنبي في الدورة 69 لكن لم يتم قبوله، وغيرها من الأفلام التي تؤكد أهمية السينما الجزائرية كلما ابتعدت عن التاريخ وحاولت طرح العديد من المشاكل الاجتماعية الحالية، لكنها للأسف تبتعد عن الجمهور الجزائري الذي لا يراها؛ نتيجة هجرة صناعها خارج الجزائر.



محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد إبريل 2017م










الخميس، 16 مارس 2017

إنه مجرد مشهد!!



في نهاية ديسمير 2003م كنت قد انتهيت من كتابة روايتي الأولى "كائن العزلة". بالتأكيد لم أجد سبيلا لنشرها في ذلك الوقت؛ فلم تكن لي أي علاقات وثيقة بالوسط الثقافي، كما أني لست من شلة معينة- وهذا هو المرض السقيم الذي يحكمنا-. كان تواجدي في المجال الثقافي باعتباري ناقدا سينمائيا فقط.
حاولت البحث عن ناشر في ذلك الوقت لكني لم أنجح فيما رغبته؛ فوضعت الرواية في درج مكتبي. ولكن بعد مرور ستة أشهر، وبالتحديد في 29 يونيو 2004م وجدتني أبدأ في كتابة رواية جديدة لأنتهي منها بعد ست سنوات كاملة، أي في 11 مارس 2010م، وهي رواية "كادرات بصرية"، التي فازت فيما بعد بجائزة ساويرس عام 2012م.
لم يكن في ذهني أي شيء حينما شرعت في الكتابة. مجرد رغبتي في أن أكتب فقط. كان لدي مشهد واحد يروق لي روائيا، لكني لم أكن أعرف ما الذي سيؤدي إليه هذا المشهد، وكيف سيتطور أو يكون، وهل هناك امتداد روائي لما أراه أم لا. إنه مجرد مشهد.
كنت كثيرا ما أتأمله مستمتعا به، كم هو رائع هذا المشهد. كان ما يعجبني فيه أنه يعبر عن جزء مني؛ حيث كنت أرى نفسي في ذلك الوقت أني من النقاد السينمائيين الجيدين جدا، ورغم أني أكتب في مجال النقد السينمائي منذ ثلاث سنوات- وأعي جيدا أهمية ما أكتبه وجديته-  إلا أني لست معروفا بشكل جيد؛ نظرا لعدم اختلاطي بالوسط النقدي السينمائي.
هنا كان المشهد الافتتاحي. ناقد سينمائي يتلقى دعوة من "المركز الكاثوليكي للفيلم" لحضور مهرجانه السنوي باعتباره ناقدا مهما ومكرسا، رغم أنه يعاني من التجاهل في وسطه النقدي، بل ومحاولة تهميشة، فكيف سيكون رد فعله في تلقي هذه الدعوة؟
لم يكن في ذهني أي شيء سوى هذا المشهد الثابت الذي يأبى على التحرك؛ كي أرى أمامي الصورة متحركة كما يحدث في الكاميرا السينمائية. بدا لي الأمر وكأني أمام كاميرا فوتوغرافية عادية جدا. تلتقط الصورة لتؤبدها وتجعلها ثابتة. كنت أتمنى في تلك اللحظة عدسة الكاميرا السينمائية، هذه العدسة التي تكون سرعتها في الحركة 24 كادرا في الثانية الواحدة كي يكون المشهد طبيعيا. لا أنكر أني كنت أفكر في المشهد بشكل سينمائي صرف. وهذا بالفعل ما اكتسبته من طول مشاهدتي للسينما والكتابة عنها. فلقد اكتسبت ذاكرة سينمائية لا تفكر سوى بهذا الشكل السينمائي فقط؛ حتى أني حينما أرغب في تذكر بعض الكلمات فهي تتشكل في ذاكرتي بشكل سينمائي وكأني أرى فيلما ما.
ماذا سيكون الوضع؟ وكيف سيكون رد فعله؟ وكيف ستسير الأمور؟ وما الذي سيدور في خلده، وكيف سيتصرف؟ هذا ما كنت أفكر فيه فقط. أما كيف ستسير الأمور فيما بعد، فلا أنكر أنها كانت مجهولة لي تماما. لم يكن في رأسي أي شكل من أشكال التخطيط أو الرؤية المستقبلية. مجرد أن هذا المشهد يروق لي، ويروق لي أيضا أن أفكر في كيفية استكماله.
بدأت في كتابة ما أراه أمامي وكأنه صورة سينمائية متحركة. تجرأت على سبر أغوار تفكير الشخصية التي أعتبرها شخصيتي أنا. تساءلت: ماذا سأفعل إذا ما حدث معي ذلك؟ بدأت في رسم المشهد بدقة. كما عملت على تثبيته إلى أقصى حد ممكن من الثبات معتمدا في ذلك على تقنية التداعي الحر. أي أني كلما رأيت شيئا أو تذكرت شيئا؛ أدى بي هذا التذكر أو الرؤية إلى موقف ما سبق أن عشته من قبل؛ وبالتالي أعمل على سرده. أعجبتني اللعبة كثيرا؛ لا سيما أن الكتابة بالنسبة لي ليست أكثر من لعبة ممتعة أمارسها بقدر غير هين من المتعة. كنت كلما تقدمت في الكتابة خطوة تعجبني اللعبة أكثر فأعمل على صناعتها بشكل فني أكثر إحكاما. لابد أن تكون اللعبة محكمة بالفعل. هذا ما قلته لنفسي. بدأت أسير بخطى ثابتة فيما أسميه اللعبة الفنية التي أحبها. سيظل المشهد ثابتا إلى أقصى قدر من الثبات بينما يدور حول الحدث- تلقي الدعوة- الكثير من الأحداث التي تعتمد على التداعي الحر في ذهنية البطل الروائي.
بدأت أرسم العديد من الشخصيات في حياة البطل من خلال هذا التداعي. فكلما تذكر شيئا تنبع شخصية جديدة مثل لميا، والفنان التشيكلي، وذو الرأس البيضاوي. كانت هذه الشخصيات الثلاث تقريبا هي شخصيات الرواية بالإضافة إلى البطل الراوي- الناقد السينمائي- الذي كنت حريصا ألا يكون له اسم داخل الرواية، بالإضافة إلى "دينا" الشخصية الأمريكية الجنسية التي تعيش في القاهرة والتي ستظهر في الفصل الثالث من الرواية وستتعلق بها كل الأحداث فيما بعد.
بالتأكيد لم يكن هذا التنظيم والشكل موجودا في ذهني. فالحقيقة أني لم يكن في ذهني أي شيء. وأني كنت أتقدم كيفما اتفق. فلا أحداث مستقبلية. ولا أي فصل من الفصول. كان الأمر شبيها بشخص يسير في نفق معتم تماما. لا يمكن رؤية كفيه من خلاله. وبالتالي فقد كنت أسير- كمؤلف- في الظلام، لكني كنت مستمتعا بعدم معرفتي ما الذي سيحدث فيما بعد. لذلك حينما ظهرت شخصية دينا الأمريكية وفرضت وجودها على الرواية وعملت على التدخل في أحداثها كنت سعيدا بذلك أيما سعادة؛ لأنها عملت على توجيه الرواية وجهة جديدة لم أكن أعيها أثناء الكتابة.
بلغ الفصل الأول من الرواية 38 صفحة بمعدل كلمات 7942 كلمة بينما الحدث متوقف تماما كما حرصت على ذلك. نجحت بالفعل في تثبيت الحدث وعدم تحركه مراهنا في ذلك أنه لن يكون مملا للقارئ، بل سيكون مستمتعا هو الآخر في معرفة إلام أريد الوصول به. كنت أراهن في عدم شعور القارئ بالملل من الحدث غير المتحرك على أسلوبيتي في الكتابة، وأني أمتلك أسلوبا يجذب القارئ فيجعله غير راغب في التوقف عن القراءة مهما طال به الأمر.
حينما انتهيت من هذا الفصل الطويل كنت أرى الأمر باعتباره لقطة سينمائية. هنا قررت أن تكون الرواية على شكل سينمائي رغم أني لا أعرف بالفعل ما الذي سيدور في الفصل التالي ومتى سأنتهي من هذه الأحداث الغائبة عني فعليا. وضعت عنوانا للفصل الأول: لقطة شاملة Full Shot ولقد اعتمدت في ذلك على معرفتي بتقنيات السينما. أجل، ستكون الرواية مبنية بشكل سينمائي كامل. بدأت أفكر في الأمر. ما هي المغامرة التي أرغب في كتابتها؟ إني أريد أن أكتب رواية تمتح من السينما أكثر مما تأخذ من أي فن آخر. بالفعل أردت أن أكتب ما هو مختلفا. كنت حريصا على أن ألعب بشكل فني مدهش بالنسبة للآخرين. هنا قررت أن جميع فصول الرواية ستكون بعناوين سينمائية، أو بعنوان لقطة من اللقطات السينمائية. كما أن كل لقطة من هذه اللقطات سوف تعبر عن عنوان الفصل الذي اخترته لها تماما وتكون منطبقة على العنوان، بمعنى أن اللقطة الاعتراضية Insert Shot  وهي اللقطة التي تكون بين لقطتين سينمائيتين لتوضيح شيء ما. أي أنها تشبه في السياق اللغوي الجملة الااعتراضية تماما، لا علاقة لها بما قبلها أو بعدها لكنها تضيف شيئا مهما إلى السياق، سيكون هذا العنوان للفصل معبرا بالفعل عما يعنيه، وهنا جاء الفصل الذي يحمل هذا العنوان لا علاقة له بما قبله ولا ما بعده إلا أنه أضاف إضافة مهمة للرواية والقارئ معا.
لكن ما هو الإدهاش في ذلك؟ أنا لم أفعل شيئا سوى أني جعلت عناوين الفصول سينمائية فقط. هنا قررت أن استخدام كل تقنيات السينما التي أعرفها في هذه الرواية. ستكون هذه الرواية سينمائية بالفعل. بل وصل بي الطموح إلى إصراري على أن يرى القارئ- لهذه الرواية- ما يقرأه. إذن فالهدف الذي وضعته هنا في رأسي أن أجعل القارئ مشاهدا يرى كل ما أكتبه في خياله وأمام عينيه وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا لا يقرأ رواية.
بالتأكيد كنت أعتمد في هذا الهدف على أسلوبيتي في الكتابة وأراهن عليها. وإما أنجح في أن تكون كتابتي كفيلم سينمائي يُرى لا يُقرأ، أو أفشل في ذلك – رغم أن الفشل لم يتطرق إلى ذهني أبدا-.
بما أني في الفصل الثاني لم يكن لدي ما أكتبه ولا أعرف ما الذي يجب عليّ أن أفعله كي تسير الأمور؛ فلقد كتبت فصل "لقطة اعتراضية" التي أضافت فقط للأحداث لكنها لم تكن استمرارا للحدث الروائي الفعلي الذي كنت حريصا على تثبيته إلى أقصى درجة. هنا بدأت أفكر كسينمائي حقيقي وليس كروائي. إذا كان فصلي الأول هو اللقطة الشاملة التي تستطيع أن تعطيك تفاصيل كاملة للمشهد، وإن كانت ليست تفصيلية. أي أنها الباب الذي من خلاله تستطيع الدخول إلى هذا العالم. إذن لم لا نقترب قليلا بالكاميرا من هذا العالم كي نراه بشكل أوضح؟
هنا كان الفصل الثالث الذي عنونته بـ: "لقطة من مستوى العين" Eye- Level Shot التي تعني لقطة في نفس مستوى عين شخص عادي ينظر إلى الشيء المُصور، وهي تُعتبر زاوية قياسية في السينما. وهو الفصل الذي حاولت فيه الاقتراب أكثر من المشهد الذي أكتب فيه بينما أسير مغمض العينين في أحداث الرواية. كان كل ما أفعله هو أني أريد اللعب الفني، والتميز، وإخراج رواية لم يخرجها أحد من قبلي. لا أنكر أني كنت أرغب في التفرد من خلال هذه الرواية. كما كنت أشعر بمتعة حقيقة أثناء كتابتها. حتى أني حينما انتهيت من كتابتها كنت أعرف جيدا أنها رواية مميزة ولابد أن تفوز بجائزة ما.
في الفصل الثالث بدأت الرواية تأخذ منحى آخر لم يكن في ذهني تماما. بدأت أحداث سجن أبو غريب التي حدثت في العراق أثناء الاحتلال الأنجلوأمريكي تطفو على السطح. أذكر أني حينما جرت هذه الأحداث كنت أجلس أمام شاشة الكمبيوتر بالساعات أقلب في هذه الصور البشعة. كنت كلما انتهيت من التقليب فيها أُعيدها مرة أخرى. كان من يراني أعيد رؤية الصور عشرات المرات يظن أني كنت مستمتعا بها، أو أشعر بالنشوة من الصور العارية للرجال والنساء الذين يتعرضون للتعذيب. لكني كنت أرى أمورا أخرى في هذه الصور. كنت أتأمل تفاصيل البشاعة. انحناءات الأجساد المتراكمة بعضها فوق بعض. وقفة الجنود الأمريكيين بجانب كومة الأجساد العارية التي يتم تعذيبها. كنت أتساءل: ما الذي يدور في ذهن هذا الجندي وهو يأخذ صورة تذكارية مع هؤلاء المساكين بينما يبتسم في وجه الكاميرا مزهوا؟ وهل سيباهي بهذه الصور أصدقاءه حينما يعود إلى وطنه؟ كنت أتأمل الصور من الخارج بشكل سينمائي. هل يحاول هؤلاء الجنود تصوير هذا العذاب بشكل سينمائي؟ كانت هناك بعض اللقطات التي أُخذت بشكل سينمائي بالفعل مثل لقطة عين الطائر. هل يُعقل أن هذه الأفلام والصور التي يتم تصويرها ستكون لصالح إحدى شركات البورنو في المستقبل؟
كانت هناك الكثير جدا من التساؤلات التي تُترى على ذهني أثناء جلوسي بالساعات أمام هذه الصور متأملا لها. هنا حرصت على الاحتفاظ بكل هذه الصور. بحثت على شبكة الإنترنت عن كل ما يخص التعذيب في العراق. جمعت كل ما أمكن لي من صور. وكل ما كُتب تقريبا عن الموضوع. حينما كنت أقوم بذلك الأمر لم يكن في ذهني أني سأستخدمه فيما بعد كمادة روائية في رواية. كان الأمر مجرد رغبة في الاحتفاظ بهذه البشاعة. لكني أثناء كتابة كادرات وحينما ظهرت شخصية "دينا" الأمريكية في المؤتمر السينمائي الذي عقده المركز الكاثوليكي للفيلم – كما تشير أحداث الرواية- بدأت كل هذه الأحداث والصور تطفو في ذاكرتي السينمائية والروائية مرة أخرى. فكرت غير مرة: لم لا تكون هذه المادة الوثائقية مادة سينمائية وروائية داخل الرواية؟
قبل هذه الفترة الزمنية التي كتبت فيها الرواية كنت أعرف من خلال ماسنجر "الياهو" امرأة أمريكية اسمها "دينا"، وكنا نتحدث كثيرا مع بعضنا البعض حتى أن حديثنا كان يصل إلى ست ساعات متتالية، كما كنا نتحدث أيضا من خلال الهاتف العديد من المكالمات الدولية. لم تكن تكنولوجيا الاتصالات قد تطورت بمثل هذا الشكل الذي نحيا فيه الآن. وبالتالي لم يكن متاحا لنا الحديث المباشر من خلال ما نعرفه الآن مثل الفايبر، أو الواتس آب، أو غيره من برامج الاتصالات. كانت تحكي لي عن نفسها الكثير. عرفت عن سيكولوجيتها ما لم يعرفه طليقها الأردني الذي أخبرتني عنه. وعن حياتها في الولايات المتحدة وغيره. هنا كانت دينا هي البطلة الثانية في الرواية والتي تعلقت بها الكثير من الأحداث.
بدأت الأحداث تأخذ منحى جديدا. صحيح أنها لم تنفصل عن العالم الروائي الذي بدأته، لكنها أصبحت أكثر جدية. كنت منذ بداية الأحداث مهتما بشخصياتها المثقفة وعالم السينما ومشاكله، ونقاش قضاياه، صحيح أني حينما بدأت أعمل على إدخال أحداث سجن أبو غريب إلى الرواية لم أنفصل عن عالم السينما الذي كان هو المتن، لكني استخدمت هذه الصور والأحداث بما يثري المشهد أكثر.
رأيت أني أدخلت نفسي في مأزق فني حقيقي؛ فأن أستخدم هذه المادة لابد لي من البحث كثيرا؛ لأني سأستخدم الكثير من المواد الوثائقية التي لابد من صياغتها في شكل روائي فني، وبما يخدم الشكل السينمائي الذي استقررت عليه أيضا. هنا كانت السينما هي خير معين من أجل جعل المادة الوثائقية تبدو في شكل فني غير شاذ على الرواية. كنت حريصا على أن تكون المادة الوثائقية هي المتن في الأحداث، بمعنى أن القارئ لا يمكن له أن يتجاوزها، بل يقرأها باعتبارها متنا روائيا مهما، بل إذا ما تجاوزها تسقط منه أحداث الرواية.
استخدمت تقنيات القطع السينمائي المفاجئ في بعض المواضع من أجل وضع مادة وثائقية مناسبة، كذلك الفلاش باك Flash Back، والمقاطع التسجيلية، وغيرها من التقنيات الكثيرة التي ساعدتني على جعل المادة الوثائقية متنا في الرواية لا يمكن تجاوزها من قبل القارئ، ولا يمكن له أن يشعر معها بالملل.
استمرت كتابة الرواية ست سنوات كاملة من الكتابة وإعادة الكتابة مرات، والبحث عن الوثائق والأحداث التي تتناسب مع هذه الرواية. كما حرصت على أن يكون في نهاية الرواية "سبت مراجع" مثلها في ذلك مثل الكتب البحثية تماما؛ وبالتالي كتبت في الصفحة الأخيرة أسماء المراجع التي لجأت إليها في كتاب هذه الرواية.
حينما انتهيت من كادرات بصرية وأعدت قراءتها مرة أخرى؛ شعرت بمتعة جمة لم أشعر بها من قبل. قلت: هذه هي روايتي التي لم يسبقني إليها أحد، ولا أعتقد أنه سيفعلها أحد مثلي فيما بعد. لا أنكر أني أحببت الرواية كثيرا، وكنت متحديا بها فنيا، حتى وصل شغفي بها إلى أني أعدت قراءتها عشرات المرات، وما زلت حتى اليوم أقرأها مستمتعا في كل مرة متعة مختلفة عما قبلها.
لم يكن الأمر مُخططا كما يدعي الكثيرون من الكتاب. بدأ الأمر بمجرد مشهد لا أعرف كيف أعمل على تنميته. لكنه لم يكن مجرد مشهد.





محمود الغيطاني



مجلة عالم الكتاب
عدد مارس 2017م