الثلاثاء، 23 يوليو 2019

همزات سريالية.. الكتابة كمفسدة للذوق

هل من الممكن اعتبار فعل الكتابة بمثابة مفسدة للكاتب والقارئ معا؟
أجل؛ ففعل الكتابة هو مفسدة كبرى بالنسبة للكاتب الذي لم يتأسس معرفيا وثقافيا بشكل كاف ورغم ذلك يظن أنه حينما يصير كاتبا يغدو صاحب مكانة اجتماعية مهمة، يُشار له بالبنان، ومن ثم يكتسب احترام الآخرين له بما أنه يفعل هذا الفعل الذي لا يتأتى للكثيرين. هنا يصبح الفعل في حد ذاته مفسدة للكاتب؛ لأنه في حقيقة الأمر لم يندفع إلى ممارسة هذا الفعل- الجاهل بتقنياته وآلياته- إلا لشعور عميق بالنقص في داخله يريد تعويضه بالكتابة؛ وبالتالي يشعر بالاكتمال الواهم الذي هو في حقيقة أمره إحساس بالنقص وعدم ثقة في الذات، ووجه الفساد هنا هو يقينه بالوهم باعتباره حقيقة.
لكن كيف يكون هذا الفعل مُفسدا للقارئ؟ إن ممارسة الكتابة عن جهل حقيقي بآلياتها، ومن خلال نقص حاد في المعرفة والثقافة يجعل عددا كبيرا ممن يتلقون هذه الكتابة إما أكثر جهلا- إذا ما كانوا في طور التشكل الثقافي والمعرفي-؛ ومن ثم تنشأ لدينا أجيال جاهلة مُجهلة تعتبر أن هذه الكتابة هي النموذج الذي لا بد أن يُحتذى به، أو تجعل الآخرين- ممن تشكلوا ثقافيا ومعرفيا- في حالة سأم وقرف حقيقي مما تطرحه المطابع لكتاب لا يفقهون شيئا لا في اللغة، ولا في الفن، ولا في أي شيء يخص الثقافة؛ وبالتالي تبدأ شريحة كبيرة من هؤلاء القراء الواعين بالانصراف الحقيقي عن القراءة بالعربية؛ نظرا لركاكة ما ينتجه الكتاب والمطابع معا؛ فيكون فعل الكتابة هنا مفسدة من الجهتين.
إن من يقرأ المجموعة القصصية "همزات سريالية" للقاصة الإماراتية عليا خالد مترف يتأكد له أن القاصة هنا لم تكن مُفسدة لنفسها وللقارئ فقط، بل تخطى هذا الإفساد لينال من مصطلح "السريالية" نفسه؛ فلا سريالية مطلقا في أي مما كتبته بل هو مجرد هلاوس، ثم إفساد للسرد القصصي كمفهوم فني؛ لأن ما كتبته مجرد أضغاث أحلام وتوهمات، بل وتخطى هذا الإفساد لينال من اللغة العربية بشكل جرائمي تستحق عليه الكاتبة أن تنضم إلى موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية في إهانة اللغة والتجرؤ عليها لدرجة قتلها؛ فلا توجد صفحة واحدة من صفحات المجموعة تخلو من خمسة أخطاء على الأقل لا تفرق فيها الكاتبة بين المثنى والمفرد، أو بين المرفوع والمنصوب، أو بين المجزوم والمعتل! وهذه الجرائم اللغوية التي يقوم بها كتابنا اليوم تجعلني أتساءل: هل يقع الكتاب في أي لغة أخرى غير العربية في مثل هذه الجرائم ويهينون لغتهم بمثل هذا الشكل الفج، أم أن الأمر يقتصر على لغتنا العربية المُهانة من ناطقيها فقط؟!
تدعي الكاتبة منذ البداية- عنوان المجموعة- أنها تكتب سردا سرياليا وهذا يتضح جيدا من العنوان- همزات سريالية-، وهنا لا بد من الانتباه جيدا؛ لأن الأدب السريالي الذي كان رائده ومنظره الشاعر الفرنسي أندريه بروتون ليس بالأدب الهيّن الذي يخوض مجاله أي كان، بل هو في حاجة إلى ثقافة حقيقية وعميقة للاعتماد عليها ومن ثم بناء هذ االعمل السريالي، لكننا نُفاجأ بالكاتبة منذ الصفحة الأولى تحت عنوان "الأدب السريالي" تكتب: "لم أقرأ من قبل عن الأدب السريالي، ولكني تعرفت على الفن السريالي وخصوصا ذلك الذي قدمه سلفادور دالي. كتبت مجموعتي هذه بفوضى المشاعر وبين الوعي واللاوعي. تنهض القصص من نوم عميق في ذاكرتي، وربما من ذاكرة الأماكن! تسافر بعيدا لتزورني في كل مرة بملابس جديدة كضيف جديد "بهمزات سريالية". عندما نتحدث عن السريالية فنحن نتحدث عما هو فوق الواقعية، وبقدر البعد بينها وبين الواقع تصير جزءا لا يتجزأ منه إن استطعنا فهمها جيدا"!!
بالتأكيد علامات التعجب من عندنا؛ فالمؤلفة تبدو لنا منذ الصفحة الأولى وكأنها تتفلسف وتدعي المعرفة العميقة، في حين أنها تغالط الحقيقة بادعائها المعرفة والعلم، كما أنها تناقض نفسها منذ الصفحة الأولى حينما تُطلق على مجموعتها "همزات سريالية" ثم تقول لنا: "لم أقرأ من قبل عن الأدب السريالي"؛ مما يجعلنا نتساءل: لم أطلقت على مجموعتك إذن مثل هذا العنوان، ولم ظننت أنه ينتمي إلى جنس أدبي لم تقرأي عنه أو لا تعرفين عنه شيئا؟! كما أن هذا الحديث في الصفحة الأولى يبدو لنا من قبيل المقدمة، ومن اليقيني أن الإبداع ليس في حاجة إلى أي مقدمات أو شرح من قبل الكاتب كي يشرح فيها للقارئ ما استغلق عليه؛ فالأدب ليس بكتاب علمي أو فكري، بالإضافة إلى أن المقدمة بدت لنا من قبيل التنكر مما كتبته الكاتبة؛ فبما أنها تظن عدم وجود ما يُسمى بالأدب السريالي فهي بحديثها تعتذر عما كتبته مقدما من خلال هذا القول!
لم لا نعود إلى تعريف السريالية أولا؛ كي نكون على معرفة بها قبل الخوض فيما كتبته القاصة؟
السريالية أو الفوق واقعية يعرفها معجم المعاني بقوله: مذهب حديث في الأدب والفن والرسم، يعتمد العفوية التلقائية المُطلقة، متخلصا من قيود المنطق والواقعية، إذ يذهب رواده إلى ما هو أبعد، بعيدا عن كل رقابة، يُطلقون العنان لتصوراتهم وخيالاتهم، وخير من عبر عن هذا المذهب الشاعر الفرنسي أندريه بروتون في الأدب، هكذا جاء تعريف السريالية. كما أننا إذا ما عدنا لمفهوم السريالية الفلسفي وأسباب نشأتها في أوروبا لا بد أن نتطرق إلى تعريف الدادائية التي ظهرت في زيوريخ بسويسرا عام 1916م على يد الكاتب تريستان تزارا؛ حيث انبثقت السريالية من الدادائية التي كانت مجرد حركة عبثية فوضوية في مجالي الفن والأدب عموما، ويجب ألا ننسى أن الحركتين قد نشأتا كرد فعل مباشر على ويلات الحرب العالمية وما حدث فيها من مجازر؛ ومن ثم خرجت أوروبا عن العقلانية؛ بما أن العقل عجز عن منع هذه الحرب التي قتلت الملايين.
إذن فثمة أدب سريالي بالفعل له تاريخ طويل، وهناك العديد من المنظرين له، لكن الكاتبة حتى اليوم لم تسمع عنه و"لم تقرأ من قبل عن الأدب السريالي" الذي تدعي أنها تكتب فيه، أي أنها تكتب فيما لم تقرأ عنه من قبل!!
هنا تكون الكتابة مفسدة حقيقية للجميع؛ ما دام الكاتب جاهلا أساسا بما يحاول الانتماء إليه؛ فهي تبدو هنا وكأنها تُنظر لأدب جديد أو أنها أول من اكتشفته وها هي تقدمه لنا، وبذلك تظن نفسها- وهما- أنها تُنظر لفتح أدبي جديد لم نعرفه من قبل- وهذه من مساخر الكتابة من دون معرفة-.
بعد المقدمة التي تؤكد فيها الكاتبة على جهلها المُطلق بوجود ما يُسمى بالأدب السريالي تبدأ في كتابة قصص المجموعة التي لا يمكن لها أن تُعطي القارئ أي دلالة أو معنى، أو مجرد متعة أدبية، أو حتى أي شكل من أشكال التلاعب بالسرد؛ لتنبثق المتعة على الأقل من اعتبار السرد لعبة. في قصتها "وجها لوجه" تفتتحها القاصة: "أمشي على طرق ملساء رمادية، تنزل وتصعد حينا، أستمر بالمشي في دوامة تلف بي كأنها متاهة لا تنتهي، تمتصني شيئا فشيئا. ظلمة شديدة تحيط بي إلا من إضاءة زرقاء مخضرة تتسلل من تلك الغرف ذات الجدران الزجاجية الضخمة، أزداد رعبا كلما رمقتها".
ربما تبدو لنا مقدمة السرد- رغم اللغة الأسلوبية الجافة وفقر المفردات التي لا تحمل داخلها أي دلالات- أن ثمة سردا سرياليا ستجابهنا به المؤلفة بالفعل، لكننا نفاجأ أنها تتحدث عن شيء ما كانت تعرفه منذ طفولتها وتراه على شاشات التلفاز، وأنه سبب لها الخوف الشديد منه منذ الطفولة حتى اليوم، وأن هذا الشيء يحيطها الآن من جميع الجهات في أحواض زجاجية وتخشى أن يكسر هذه الأحواض ليهاجمها، لتصرح لنا أخيرا أنها تتحدث عن سمك القرش الذي تظن أنه لو خرج من الأحواض سيلتهمها؛ ومن ثم تكتب: "فتكتب الصحف الأمريكية في بالتيمور خبرا بعنوان: تصدع هائل يصيب أحواض أسماك القرش في متحف الحوض الطبيعي، أدى إلى غرق بعض السياح والتهام سائحة من أحد الأسماك الجائعة". هنا تنتهي القصة المبتسرة التي لم تقل فيها القاصة أي شيء، ولم نفهم لم كتبتها أساسا، وما علاقة هذا السرد الذي كتبته بالشكل الحكائي- باعتبار أن فنون السرد القصصية والروائية تحتمل داخلها معنى الحكاية-؛ فما هي الحكاية التي قدمتها القاصة؟! وهنا يأتي تساؤلنا الأهم والمفصلي: أين السريالية فيما قرأناه، وهل هذا الهذر من الممكن أن يكون شيئا سرياليا؟! أظن أن ما كتبته الكاتبة لا يصلح حتى أن تحكيه لطفل؛ وإلا أفسدت ذائقته التخييلية منذ الصغر.
في قصة "السباق" قد نلمح بعض الجمل والمفردات التي تُدلل على السريالية؛ فتفتتح القصة بقولها: "لم أكن أعرف من أين جئت ولا كيف انضممت إليهم بتلك السرعة. كان سباقا غريبا والهدف منه "التضامن مع فاقدي البصر". جميع من كانوا في السباق يختلفون عني شكلا. هم شُقر، عمالقة، بشرتهم بيضاء ثلجية. ليسوا من بلدي وليسوا من ثقافتي ويتكلمون بلغة أجنبية. وبالرغم من ذلك توحدت معهم لاإراديا واصطففت معهم. شاركتهم السباق بهمة ونشاط". عند تأمل الاقتباس السابق- الذي كان مفتتح القصة-، قد يوحي لنا أن ثمة سريالية في القص رغم ركاكة الاقتباس بأكمله؛ فالجو الذي يوحي به السرد قابل لأن يكون سرياليا بالفعل، ولكن لم لا نتأمل المقطع قبل الدخول في تفاصيل السرد؟
تكتب القاصة: "لم أكن أعرف من أين جئت ولا كيف انضممت إليهم بتلك السرعة. كان سباقا غريبا والهدف منه "التضامن مع فاقدي البصر". جميع من كانوا في السباق يختلفون عني شكلا. هم شُقر، عمالقة، بشرتهم بيضاء ثلجية". لم لا نكتفي بهذا القدر من الاقتباس، ونقوم بحذف ما جاء بعده؟ هل من الممكن إذا ما اكتفينا من الاقتباس بالكامل بهذه الفقرة فقط أن نشعر بثمة انتقاص مما كتبته المؤلفة؟ بالتأكيد لا؛ لأننا إذا ما عدنا إلى الفقرة الكاملة سنجد أن كل ما كتبته القاصة بعد هذه الفقرة التي اجتزأناها مجرد ثرثرة وحشو لا معنى له؛ فهي تُعيد ما سبق أن قالته، وتشرحه بصياغة أخرى مختلفة، وهذا ما لا يمكن لفن القص- الذي يميل إلى التقشف الشديد في جمله- أن يحتمله، أي أن القاصة لديها مشكلة سردية تنسف القص أساسا وهي مشكلة الحشو والثرثرة من دون أي داع فني.
مع الاستمرار في قراءة القصة سنعرف أن بطل القصة دخل مع هؤلاء الغرباء في هذه المسابقة التي تفترض أن يجري المتسابقون في مجرى مائي ضحل لتعطيلهم، وعلى كل منهم أن يجد يابسة كي يصل قبل الآخر، لكنه يُفاجأ بأن المجرى المائي لم يكن ضحلا، بل هو عميق، ورغم أنه لا يعرف السباحة: "لم أكن أعرف السباحة وأتحاشى الاقتراب من البحر أو أحواض السباحة العميقة"، ويخاف من المياه إلا أنه يسبح حينما يشعر بأن قدميه تلامسان الفراغ: "لم أفكر لثانية بالغرق. حركت يداي بحركة دائرية كأنني أجدف. حركت قدماي إلى الأعلى والأسفل أيضا. كان لا بد لي أن أسبح"، وبالفعل ينجح في الوصول قبل الجميع إلى خط النهاية، ورغم أن الكاميرا التقطته كأول من وصل من السباق إلى خط النهاية إلا أنهم يعلنون فوز المتسابق الثاني، وأعطوه الجائزة!
قد نلمح هنا أيضا إيحاءا بالسريالية يتمثل في كابوسية أن المجرى لم يكن ضحلا؛ ومن ثم فعدم معرفته بالسباحة، ثم قدرته على السباحة بمهارة فيما بعد هو أمر مقبول إذا ما كان السرد بالفعل ينتمي إلى السرد السريالي، لكن دعنا نستمر مع القاصة حتى النهاية: "لم يسمحوا لي بالاعتراض. بسرعة وقبل أنطق بكلمة، عرض أحد مسؤولي السباق دفتر طويل بني اللون كذلك الموجود على طاولة المطاعم والذي يعرض قائمة الطعام، ثم أعلن جائزة المركز الأول زجاجة "ويسكي" عتيقة! ضحكت، لم أجد شيء يستحق الاعتراض. فصحوت من النوم راضيا"!!!
علامات التعجب من عندنا أيضا؛ لأننا بمجرد الانتهاء من قراءة النص سنتساءل: ثم ماذا؟ ما الذي تريد المؤلفة أن تقوله؟ وما الذي قدمته لنا سوى ركاكة وابتذال في السرد، يشهد عليهما الاقتباسات القليلة السابقة بالإضافة إلى الجرائم اللغوية والسياقية التي نلمحها في الاقتباسات السابقة؛ حيث حرصنا على أخذ الاقتباسات جميعها بجرائمها اللغوية من دون تصحيح، وكما كتبتها القاصة.
هل تريد المؤلفة أن تقول لنا: إنها حلمت بأنها في سباق، وحينما فازت وظلمتها لجنة التحكيم بإعطاء الجائزة لغيرها صمتت ورضيت؛ لأن الجائزة هي زجاجة ويسكي؟!! هل من الممكن أن يكون هذا هو مفهوم القاصة عن القص؟ وهل كتبت وأخذت من وقتنا وأموالنا كي تقول لنا هذه الهلاوس التي تعتبرها قصا في حين أنها تقع في أخطاء سردية لا يقع فيها طفل صغير؟ إن القاصة عليا مترف لا تعرف في حقيقة الأمر كيف يكون السرد سلسا متصلا متجانسا بحيث تُفضي الجملة إلى الجملة التالية بانسيابية من دون توقف، أي أنها تعجز في جعل الفقرات متصلة سرديا؛ لذلك نلاحظ أنها قطعت السرد غير مرة لتخاطبنا بشكل مباشر لا فنية فيه وكأنها تشرح لنا في شكل أسئلة؛ فبعد الفقرة الأولى مباشرة من قصتها التي تؤكد فيها أن بطل القصة وجد نفسه بين غرباء في السباق تكتب: "كيف كان السباق؟" لتبدأ تشرح لنا أن شكل السباق سيكون كذا وكذا، وهذا ما رأيناه مرة أخرى بشكل أكثر فجاجة حينما تؤكد أن البطل نجح في السباحة رغم جهله بها، لكن السرد يتوقف فجأة لتكتب: "مهلا! لا أعلم من أدخل تعليمات السباق في عقلي والهدف منه؟!". ولست أدري لم كانت علامتي الاستفهام والتعجب رغم أن الجملة لم تكن استفهامية، بل هي جملة خبرية.
إن السرد القصصي لا يمكن له احتمال مثل هذه الطفولية السردية، ولا السذاجة، والفجاجة التي تكتب بها القاصة مما يدل على أنها لا تعرف آليات كتابة القصة أساسا، فضلا عن عدم وجود حكاية لتحكيها لنا القاصة، بل محض أفكار ترغب في صياغتها بشكل قصصي لكنها تفشل في ذلك، كما أن ما سبق بالكامل لا علاقة له بالسريالية بقدر ما له علاقة بالهذيان والأفكار المراهقة، والتلقين الذي لمحناه في الخاتمة حينما وجدنا أن الجائزة زجاجة ويسكي؛ ولذا لم يهتم المتسابق بأنه قد تم ظلمه في المسابقة، ثم نكتشف أنه كان مجرد حلم سخيف من قاصة تعتقد هذه الأفكار السخيفة صالحة للسرد؛ ومن ثم ضياع وقتنا الأكثر سخافة.
في قصتها "ماء" يستمر معنا التساؤل الجوهري الذي نبت معنا منذ بداية السرد حتى نهايته: لماذا تكتب الكاتبة؟ وما الذي تريد أن توصله لنا من أفكار، أو صياغتة؟ تبدأ القاصة قصتها بجملة لا علاقة لها بأي شيء فبدت لنا وكأنها جملة معلقة في الفراغ منبتة الصلة بكل ما جاء بعدها من فراغ أيضا: "ألم شديد في الجانب الأيمن من الظهر، ألم آخر في الذراع اليمنى. رأس ثقيل، وصداع أشد من كل مرة"، ثم لا تلبث بعد هذه الجملة مباشرة التي لا علاقة لها بأي شيء أن تتحدث عن فيلا مجهولة تسكنها أسرتان، إحداهما فقيرة، ملامح أفرادها إفريقية ويضحكون ويرتدون ملابس ملونة، ويسكنون هذه الفيلا، بينما الأسرة الأخرى أرستقراطية وملامح أفرادها أوروبية، ويرتدون ملابس نوم بيضاء طويلة ويسكنون الملحق الخارجي من الفيلا. ربما ظنت القاصة هنا أن الوضع الغريب للأسرتين؛ حيث تسكن الأرستقراطية في ملحق الفيلا، بينما تسكن الفقيرة داخل الفيلا من السريالية في شيء؛ فثمة من يظن- عن جهل- أن انقلاب الأوضاع سريالية، لكن ثمة شخصية راوية في السرد لا تنتمي لأي من الأسرتين وهذه الشخصية ستكتشف فيما بعد من دون أي مبررات أنها اكتسبت ملامح الأسرة الأوروبية وصارت أما لطفلتين: "كنت حينها بين الأسرتين، أشاهد عن قرب، لا أنتمي لأي منهما. ولكني لاحقا وجدتني شقراء وألبس تلك الملابس البيضاء. أصبحت لي نفس تلك العيون الزائغة. كما أصبحت أما لطفلتين! هكذا إذن، لنرى ما هي الحكاية؟!".
ربما نلاحظ من الاقتباس السابق قولها: "هكذا إذن، لنرى ما هي الحكاية؟!"، وهو ما تُصرّ عليه الكاتبة دائما في مخاطبة القارئ بشكل مباشر في أكثر من قصة من دون فنية؛ مما لا يتناسب مع السرد ويخرجنا مباشرة منه، ويجعلنا نتوقف عن الاستمرار؛ لركاكة أسلوبيتها، كما نلاحظ أنها أنهت جملتها أيضا بعلامتي استفهام وتعجب غير مبررتين.
تتحدث الشخصية الراوية في القصة عن مطبخ مظلم مخيف لا يقربه أي من أفراد الأسرتين، وهو المطبخ الذي تخرج لها منه أم ثائرة- لا ندري سبب ثورتها- مخيفة الشكل لها رائحة نتنة، ومعها ابنتين على نفس الشاكلة. هذه الأم وابنتاها يرغبن في خطف إحدى طفلتيها، لكن الابنة تهرب إلى منطقة مضاءة تخشى الأم الثائرة المخيفة تتبعها إليها- ولسنا ندري السبب في الخوف من الوصول إلى هذه المنطقة-؛ فتعود إلى المطبخ المظلم متوعدة الراوية بالعودة مرة أخرى. تنام الراوية محتضنة طفلتيها لكنها تستيقظ على الفراغ حيث لا تجد الطفلتين؛ فتسرع نحو المطبخ المظلم خائفة؛ لتكتشف أنه لم يكن مظلما وثمة إضاءات خافتة فيه، وأنه ينقل الأكل من خلال مصعد داخله للعديد من الطوابق، وهنا تدخل القاصة في سرد يقرب من الهذيان الذي لا معنى له: "ذكريات تهاجم مخيلتي. ولائم، أصناف للطعام، أصوات بشر، خدم، روائح طبخ، أبخرة تتصاعد، أصوات قرع الأواني، خطوات كثيرة"، بالطبع نحن لا نعرف ما علاقة هذا الهذيان بما قبله وما بعده، ولا تفسره القاصة، وبالتأكيد أننا لسنا من الجهل والغباء ما يجعلنا ننكر سريالية هذا الهذيان إذا ما كان ينتمي بالفعل إلى السرد السريالي، لذا نرى القاصة تكتفي بالتأكيد لنا على خوف الراوية مما يحدث- ولا نعرف ما هو الدافع للخوف- ثم تأخذ ابنتيها وتهرب بهما من المطبخ حيث ملحق الفيلا: "تجاهلت الأمر، أسرعت الخطى إلى الملحق. أغلقت الباب خلفي، بحثت عن الفانوس، أشعلته، أدرت ظهري له، وجدت العجوز أمامي، تحملق بي لم يكن فمها مفتوحا هذه المرة. كانت واقفة تنتظرني في أحد أركان الغرفة، تحمل في يدها كوب ماء. مدته لإحدى ابنتاي. أشم رائحة قهوة، فتحت عيني أخيرا".
من خلال هذه القصة نلحظ وجود أسرتين لا ندري ما علاقتهما ببعضهما البعض، أو علاقتهما بالقص، ولا نعرف لم تقطنان نفس الفيلا، كما بدأت القصة بجملة لا علاقة لها بالسرد، فضلا عن أن القاصة رغبت في إيهامنا في النهاية أن السرد كله كان عبارة عن كابوس، فهل هذا يعطيها الحق في كل هذه الهلاوس حتى لو كانت كابوسا؟ حتى الأحلام والكوابيس لها منطق ومعنى، أما ما كتبته القاصة في قصتها فلا معنى أو منطق له، ولا علاقة له بسرياليتها التي تدعي الانتساب إليها. فما علاقة كل من الأسرتين ببعضهما البعض، ولم تتواجدان معا، ولم أعطتنا أوصافهما في البداية في حين أن هذه الأوصاف لم تفدنا بأي شيء في نمو السرد- الذي ليس بسرد- وما علاقة كل ما حدث بأي شيء أساسا؟! هذا فضلا عن الركاكة الصياغية والأسلوبية على طول السرد مثل: "في أجزاء من الثانية كدت قتل نفسي لأني غفيت"، وغيرها من الجمل، والجريمة اللغوية الممتدة منذ الصفحة الأولى في المجموعة: "كنت أحاول النوم مع ابنتاي على أرض باردة، كن ملتصقات بصدري، نتنفس بنفس الوتيرة، شعرت بالخوف يسري فينا مع الهواء"؛ فالمتأمل للفقرة السابقة سينتبه إلى أن مفردة "ابنتاي" جاءت بعد حرف الجر "مع" أي أنها تُكتب "ابنتي" لأنها اسم مجرور بالياء بما أنه مثنى، كذلك مفردة "كن" التي جاءت للجمع في حين أنها يجب أن تكون للمثنى "كانتا"؛ الأمر الذي جعلها تكتب "ملتصقات" بدلا من "ملتصقتين" خبر كان منصوب بالياء بما أنه مثنى.
في قصة "خذلان" يتأكد لنا أن القاصة ترغب فقط في فعل الكتابة باعتبار أن الكتابة ستمنحها لقب كاتبة، ويبدو أنها تظن في هذا اللقب الكثير من الخير؛ لذلك تُصرّ على كتابة الفراغ باعتباره سردا قصصيا، لكنه في النهاية فراغ ممل وسقيم لا معنى له: "أفلتّ ذلك الشيء وانتقلت لآخر. صديقتي لا تزال فوق المكان الأول ولكنها متشبثة معي بالمكان الآخر. من ذلك، قد تعلمون أن المكان الأول ما هو إلا شيء متحرك. هكذا أصبحنا، معلقين في الأعلى، أرجلنا تتأرجح في الهواء وبحر واسع في الأسفل. عندما انتقلت إلى المكان الآخر ولحقت بي صديقتي، اعتقدت أنها الطريقة الصحيحة للوصول لاسطوانة الألمونيوم المثبتة بالمبنى المجاور للبحر. كانت الاسطوانة تبعد مسافة مترين تقريبا عنا وتحتاج شجاعة للقفز إليها. كنت أنظر إلى الاسطوانة عندما صاح بي عامل هندي مسؤول عن تنظيم حركة السير في الأعلى قائلا: لا يجوز استخدامها، هي لخروج الناس لا لدخولهم! كان خوفي الشديد أكبر من أن أغضب منه وأتشاجر معه وأنا معلقة في الهواء وصديقتي ترتجف بجانبي. لماذا لم يخبرني من قبل؟! خرج رجلين من الاسطوانة، يتحدثون ويضحكون، لم يرفعوا رؤوسهم إلينا ثم اختفوا. صديقتي استطاعت أن تعود حيث كانت وبقيت أنا معلقة حينها خرج وجه مألوف من الاسطوانة. رفع رأسه ونظر إلينا وابتسم. في تلك اللحظة لم أستطع ان اشرح له انني في ورطة، اعتقدت ان ملامحي ووضعي يشرحا أفضل مني. ولكنه لم يفهم ولم يدرك حجم المشكلة وبالتالي لم يقدم أي مساعدة ورحل. قررت أن أبحث عن مخرج وأساعد نفسي. نظرت للعامل، كان في الأعلى جالسا بأريحية فوق ناصية عالية مثبتة جيدا فوق الأرض، سألته إن كان هناك مخرج فوق سطح المبنى لأنه الاقرب لي ولكنه لم يعطني إجابة مطمئنة. ثم سألته إن كان هذا الشيء المتشبثة به لا ينقطع، أجابني بأنه متين ومطاطي، لمحت من نبرته تشجيعا وكأنه أدرك ما أود فعله. إذن، ها قد علمتم أن ذلك الشيء ما هو إلا حبل مطاطي مثبت في المبنى. ضغطت جيدا عليه بكامل وزني وحاولت أن أستمد طاقة إضافية من جدار المبنى لأنزل إلى أسفل. وصلت هناك، للبحر. كان أمامي خيارين، إما أن أرجع إلى فوق كفعل ارتدادي للقوة التي وضعتها في الحبل المطاطي أو أن أفلته وأسبح إلى كاسر للأمواج القريب من المبنى. سبحت، مسافة خمسة أمتار ووصلت إلى اليابس أخيرا. حينها تساءلت، لماذا بعض الوجوه تخذلنا حتى في الأحلام؟!".
حرصت هنا على اقتباس القصة بالكامل، وأنا أقول هنا قصة مجازا؛ فهذا المكتوب هو اللاشيء، ولا أستطيع أن أجد له توصيفا أو تجنيسا أدبيا، ولعل من خلال القصة نلحظ أن ثمة أحاجي وتهويمات في الهواء الطلق تتحدث عنها المؤلفة ولا نعرف ما علاقتها ببعضها البعض، فضلا عن ركاكة الأسلوب السردي، والمذبحة اللغوية التي نراها على طول النص؛ حيث حرصت في جميع الاقتباسات أن أكتبها بأخطائها اللغوية- النحوية والترقيمية- كما هي من دون أي تصحيح؛ ليدرك القارئ مدى السقم والهزل الذي وصلت إليه الكتابة السردية باسم الأدب والقصة، فنحن هنا لا نجد أفكارا، ولا لغة، ولا أسلوب، ولا كتابة، ولا ثقافة، ولا سريالية، ولا أي شيء مطلقا، بل هي متاهة من اللامعنى كنموذج من الكتابة النسوية التي تُصرّ الكثيرات من النساء اتحافنا بها؛ لأنهن يرغبن أن يكن كاتبات في حين أننا نادرا جدا ما نجد امرأة تعرف ما معنى الكتابة السردية؛ وبالتالي فهن لا يفعلن أكثر من التهويمات في الفراغ التي تؤدي إلى المزيد من الفراغ من دون أي معنى؛ فندخل في حلقة مفرغة، ثم يخرج علينا الآلاف من المصفقين لهن على الإبداع العظيم الذي يكتبنه لمجرد مغازلتهن كنساء فقط في حين أن هؤلاء المصفقون يوقنون في قرارة أنفسهم أن ما قرأوه محض هراء لا يمت للأدب ولا لأي شيء بصلة، كما أن البعض يكون مضطرا للتصفيق حتى لا يُتهم بعداوته للمرأة، ورجعيته، وذكوريته؛ مما يجعل الكثيرات جدا من الأسماء النسائية تتصدر الساحة الثقافية الأدبية بركاكة تزيد من بؤس المشهد الثقافي من دون أي وجه حق، في حين أنهن فارغات تماما من أي محتوى.
نلاحظ أيضا في القصة السابقة نفس الخطأ الذي تُصرّ عليه دائما، وهو مخاطبة القارئ بشكل مباشر من دون أي داع لذلك حينما كتبت: "إذن، ها قد علمتم أن ذلك الشيء ما هو إلا حبل مطاطي مثبت في المبنى"، وكأنها تظن نفسها تجلس على "المصطبة" في الحارة لتخاطب الآخرين الذين تحكي لهم حكاياتها لإزجاء الوقت، كما رأينا أنها اختتمت قصتها بقولها: "حينها تساءلت، لماذا بعض الوجوه تخذلنا حتى في الأحلام؟!"، ونحن بالمقابل نسألها: لماذا حرصت بطلة القصة أن تخذل صديقتها وتتركها وحدها من دون مساعدتها في الخروج من المأزق الذي لم أفهم ما هو وإن كان السرد يدل على أنهما كانتا في مأزق ما.
في قصة "مقالي الأسبوعي" التي أود أن أوردها كاملة أيضا لقصرها ولعجائبيتها ما يُدلل لنا على أن كتابة المرأة هي محض هراء حقيقي، فهي إذا لم تحرص على الكتابة عن مشكلاتها الصغيرة، وتفاصيل الأشياء التافهة من دون فنية وهي الأشياء التي لا تعني العالم في شيء إلا بإصابته بالمزيد من السقم، وإذا ما تخلت عن صراخها وعذابها الذي نرى كل من يكتبن يعانين منه باعتبارها مضطهدة في مجتمعها الذكوري، فهي حريصة على أن تهوم بنا في اللاشيء؛ لتطرحنا في عالم سديمي من الهراء: "اعتقدت أن أدواتي نفذت مني هذا الصباح. وأن أفكاري طارت مع بزوغ الفجر. وأن خيالي تجمد مع برودة الطقس. صحوت هكذا وكأنني كتلة ثلج. لقد نمت البارحة ثقيل الرأس. أصبح الصداع التعيس لا يبارح وسادتي كلما أويت إليها. حلمت نعم.. ولكنها كانت شبه أحلام حتى أضغاث الأحلام تتبرأ منها. جاءتني مشوشة غير مكتملة نسيتها بمجرد إعدادي للقهوة. لم يزرني السباح ولم أر مريم ولا حتى ذلك البغيض نسيت اسمه! سالم! إنني أتظاهر بنسيان اسمه للهروب أحيانا من كوابيسه الحمقاء. إلا أنني بمجرد أن أصحو منها أضحك على غباءه فهو يعيد نفس الخطأ في جميع كوابيسي التي يظهر فيها. سالم ذو وجه غريب لم أراه يوما في حياتي قد يكون مجموعة وجوه في جسد واحد. أطلقت عليه هذا الاسم لعله يسلم من أخطاءه الفادحة التي تكاد قتله في كل مرة يحاول قتلي فيها.. أحتاجه أن يكون سالما ليتمكن من زيارتي مرة أخرى في كوابيسي. تنتابني نوبة من الضحك كلما تذكرت آخر كابوس جمعني به. فقد تمكن مني في بداية الكابوس.. ربطني على كرسي خشبي في بيت مهجور وسط غابة مظلمة، رفع سكينه الحادة أمامي متوعدا بأن يقطعني، ويشويني من تلك النار التي تخرج من عينيه.. رفع رأسه مختالا أمامي وهو يخطو بخطوات بطيئة وفجأة يسقط ويتكور على الأرض بإحدى الحبال جارحا نفسه بسكينه. يا له من غبي. للأسف تلك الكوابيس تنتهي دائما بعد أن يقع أو يغرق أو يحترق أو يجرح نفسه.. تبا له، لا يعطيني فرصة للضحك عليه أمامه. ومع ذلك.. أعترف أنه يقدم لي مادة دسمة لمقالي الأسبوعي في الجريدة الوهمية".
هذه هي القصة التي لا بد لنا بعد الانتهاء من قراءتها أن نقول: بالتأكيد أن الراوي في القصة يكتب مقالا هزليا للأطفال، أين القصة من كل هذه الركاكة الفظة؟! وما دام المقال الأسبوعي في جريدة وهمية؛ فماذا تريد إخبارنا؟! إن هذه القصة تؤكد  أن ثمة رغبة طاغية في الثرثرة التي لا طائل من ورائها تتملك المؤلفة، لكن هذه الثرثرة لا معنى لها، أي أنها ثرثرة جوفاء، لكنها رأت أن من الوجاهة الاجتماعية أن تثرثر معنا بفراغها وعنه؛ فتكتسب لقب القاصة، أو الكاتبة. هنا أيضا نستطيع أن نجأر بالسؤال بصوت منشرخ لفرط السؤال والغضب: ما علاقة هذه السماجات والهراء بالسريالية؟ هل ظنت الكاتبة أنها حينما كتبت: "رفع سكينه الحادة أمامي متوعدا بأن يقطعني، ويشويني من تلك النار التي تخرج من عينيه"، أن ثمة سريالية في هذه الكتابة؟! أظن أن أندريه بروتون المنظر الأول للسريالية لو كان ما زال حيا وقرأ هذا الهراء؛ لانتحر حسرة على ضياع مذهبه الفني الذي قضى فيه عمره من أجل التنظير له.
تمضي قصص المجموعة كلها على هذه الوتيرة من الهذيان الذي لا معنى له، وإن كنا قد لاحظنا في قصة واحدة فقط من أصل ثلاث عشرة قصة ما يمكن أن نُطلق عليه سردا قصصيا وإن لم يخل أيضا من بعض المشكلات الفنية، لكن القصة كانت تحتمل السرد والحكاية على الأقل، وهي قصة "ضيف الحارة". تبدأ القاصة قصتها من نهاية الحدث: "صرخ أحدهم، أنت عبقري! سيدة المنزل جلست على الأرض تبكي فرحا. الأطفال يصرخون ويقفزون بعد أن كانوا متجمدين خائفين! شباب الحارة يصفقون لي ويصفرون إعجابا بي!"، ليعود السارد إلى بداية قصته بشكل سلس من السرد ونعرف أنه مجرد سارق، سرق إحدى الدجاجات من أحد البيوت وذبحها بمجرد ما سرقها حتى لا تفضحه بصوتها، لكنه وجد مشكلة حقيقية أمامه وهي أنه لا يمتلك زيتا لقلي الدجاجة؛ فخرج من البيت الذي استولى عليه لغياب أهله عنه وهجرانه له منذ عام حيث سافروا لعلاج ابنتهم المريضة، وحينما خرج للبحث عن زجاجة في أي بيت من بيوت الحارة وسرقتها وجد تجمهرا كبيرا في أحد الأزقة حول نافذة أحد البيوت؛ فأيقن أن أهل البيت مشغولون؛ لذا دخل إلى البيت لسرقة زجاجة الزيت، وبالفعل وصل إلى المطبخ ووجد الزجاجة، لكنه ما أن استعد للهروب بها إلا ووجد التجمهر الذي كان في الخارج يطل عليه من نافذة المطبخ؛ حيث يوجد طفل رأسه محشور بين قضبان نافذة المطبخ، وهنا فتح زجاجة الزيت وأفرغها على رأس الطفل ليتخلص من جريمته ويهرب، إلا أن الرأس المشبع بالزيت انسل وقتها من بين القضبان وأصبح اللص بطلا في عيون المتجمهرين، وأصبح ضيف الحارة بعد أن كان سارقها.
نلاحظ هنا أن ثمة حكاية بالفعل نجحت القاصة أن تنسج منها قصة قصيرة رغم ركاكة أسلوبيتها ولغتها، ولكن التساؤل الذي لا بد أن يتبادر إلى ذهن كل من يقرأ القصة هو: إذا كانت رأس الطفل محشورة في القضبان الحديدية لنافذة المطبخ، فلم كان كل هذا التجمهر من جميع الجيران دون أن يتحركوا لإنقاذه؟ هل كانوا متفرجين فقط، أم أنهم كانوا في انتظار اللص/ المسيح المخلص ليخلص رأس الطفل بزجاجة الزيت؟
أجل هناك قصة وحكاية هنا، لكن ليس هناك منطق أو مبرر لتجمهر الناس وعدم محاولتهم التدخل؛ مما يهدم القصة بالكامل وكأنها لم تكن، أي أن عدم المنطقية نسفت القصة الوحيدة التي نجحت القاصة في أن تكتبها.
إن مجموعة "همزات سريالية" للقاصة الإماراتية عليا خالد مترف لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالأدب السريالي، بل هي تسيء له بمحاولتها التمسح فيه عنوة، كما أن عنوان "همزات سريالية" لا معنى له ولا علاقة له بالمحتوى، ولم أفهم ما الذي تعنيه بمفردة "همزات" في عنوانها، كما تُعد نموذجا تعذيبيا لكل من يرغب في القراءة، وهي نموذج لركاكة السرد العربي وما وصل إليه اليوم من هوان على يد مجموعة من الكتاب لا يمتلكون الثقافة، أو المعرفة بآليات السرد والكتابة، كما تُعد نموذجا لما تكتبه الكثيرات جدا من النساء من هراء لا طائل من ورائه، فضلا عن افتقادها للأسلوبية، وجهلها الكامل باللغة العربية لدرجة تجعلني أظن أن الكاتبة لم تمر بأي مرحلة تعليمية من قبل، بل اعتمدت فقط على شهادة محو الأمية التي جعلتها تتعلم القراءة والكتابة بشكل مبتذل وركيك؛ مما يجعلني أُمسك عن تعداد الأخطاء لفرط كثرتها؛ فالمجموعة لا توجد فيها صفحة واحدة تخلو من خمسة أخطاء على الأقل، لكني في النهاية لا يمكن لي لوم الكاتبة الجاهلة باللغة وحدها؛ فدار النشر التي وافقت على نشر هذا الخطل، لم ترهق نفسها بعناء مراجعة النص، أو مجرد إلقاء نظرة عليه، بدليل أن حتى أخطاء الرقن الكتابية لم يتم تعديلها؛ مما يدل على أن الناشر لم يلق نظرة على المجموعة.


محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد يوليو 2019م.





الأربعاء، 10 يوليو 2019

وقائع قريتي.. الوجه الآخر للاستقلال

بوستر الفيلم
رغم أن السينما الجزائرية ما زالت تحيا حتى اليوم حبيسة أفكارها ومشاعرها عن ثورة التحرير؛ ومن ثم فهي تعمل طوال الوقت على اجترارها مجسدة للبطولات التي قام بها الكثيرون من المجاهدين والشهداء؛ الأمر الذي جعلها منبتة الصلة بشكل كبير ولافت عن قضايا المجتمع المعاصر وما يدور فيه؛ فباتت مجرد سينما ماضوية في الغالب مما تقدمه من أفلام، إلا أن الفيلم الجزائري "وقائع قريتي" للمخرج الجزائري المهاجر كريم طرايدية- الذي كتب سيناريو الفيلم أيضا- يكاد يختلف اختلافا بينا عن الكثير من الأفلام التي تناولت الثورة الجزائرية محاولة رفعها إلى درجة القداسة من دون محاولة محاكمتها أو انتقاد ما حدث فيها، أو ما آل إليه الحال بعد الاستقلال عن الاستيطان الفرنسي.
من خلال فيلم يهتم في كل مشاهده بالطفل "بشير" الذي قام بدوره الطفل مليك بخوشة يدور فيلم طرايدية الذي يتحدث عن بشير الذي كان هو الرابط الوحيد والجوهري لكل أحداث الفيلم في إحدى قرى الشرق الجزائري، حيث يعاني السكان جميعهم من شظف العيش والحاجة الماسة للمال؛ الأمر الذي يجعل أم بشير- الممثلة موني بوعلام- تمتهن غسيل ملابس الجنود الفرنسيين المتواجدين في معسكرهم داخل القرية، ورغم أن أهل القرية ينتقدونها على هذا الفعل إلا أنها تبرر ما تقوم به قائلة: إذا كان هذا يضرهم؛ فليقوموا بالإنفاق على أولادي، لا سيما أن زوجها قد تخلى عنها وعن أولاده مفضلا الحياة في الجبل باعتباره أحد المجاهدين في حين أنه ترك الأسرة في حقيقة الأمر؛ لأنه غير قادر على تحمل المسؤولية رغم أنه يبرر فعله لبشير بقوله: إنه لم يحتمل حماته الشبيهة بالعقرب والصعبة المراس.
يرتبط بشير بعلاقة صداقة قوية مع الجندي الفرنسي "فرانسوا" الذي يشفق عليه ويعامله معاملة طيبة- حتى لكأنه البديل للأب الذي تخلى عن مسؤولياته- لكن رغم هذه العلاقة وقوتها أحيانا إلا أنها تبدو فيما بعد مخلخلة حينما يكتشف بشير الكثير من الأمور مما يدور حوله، فهو يكتشف أن فرانسوا ليس مجرد صديق بل هو عدو له ولوطنه؛ الأمر الذي يجعل علاقتهما يشوبها الكثير من البرود فيما بعد رغم حميمية وإنسانية تعامل فرانسوا معه، لكن بشير لا يرغب أن يصفه أبناء القرية وزملاؤه في دراسته بأنه صديق العدو الفرنسي، كما يكتشف أن والده ليس مجرد مجاهد ومحارب يسكن الجبل، بل هو شخص تخلى عن مسؤوليته في الحياة، لكن الاكتشاف الأعمق الذي يكتشفه بشير هو أن جدته- التي قامت بأداء دورها الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان- ليست بالقوة ولا القسوة والصرامة التي تبدو عليها، بل هي تحمل داخلها قلبا طيبا حنونا، وإن كانت لديها رغبة دائمة في أن تبدو بمظهر القوة والصلابة؛ لا سيما وأنها قد أخذت على عاتقها التكفل بحياة ابنتها التي هجرها الزوج، وابنها شبه المقعد، وأحفادها الأربعة؛ لذلك حينما تعرف أن حفيدها الثاني قد أصيب بالشلل مثل أخيه تنتحي أحد أركان المنزل باكية حتى لا يراها أحد، وحينما يراها بشير باكية تحذره بصرامة متجهمة أنه إذا ما أخبر أحدا برؤيته لها تبكي فسوف تسلخ جلده.
إذن فنحن أمام مجتمع أسري في المقام الأول يُشكل نواة الفيلم، ومن خلاله يقدم لنا المخرج حياة القرية بالكامل وتقاطعات أهلها مع بعضهم البعض من خلال نظرة بشير؛ حيث كان هو الرابط الأساس بين الجميع، فضلا عن كونه هو المحرك الأول للأحداث؛ حيث يدور الفيلم من خلال عينيه هو، حتى لكأن الكاميرا التي تم تصوير الفيلم من خلالها كانت هي عيني بشير من خلال وجهة نظره، وتشكل وعيه، وقدرته على الإدراك والفهم.
الممثل الجزائري محمد طاهر زاوي
يرتبط بشير كذلك بصداقة مع "تشي تشا"- الذي أدى دوره بمهارة الممثل محمد طاهر زاوي- الرجل الساذج الطيب المُصدق لكل ما يقال له، حيث لا يعرف القراءة والكتابة؛ ومن ثم يعتمد على بشير في حساباته المالية. يؤمن تشي تشا بما سبق أن قاله له أبوه قبل موته بأن مستقبله لا يمكن أن يكون سوى في التجارة؛ لذلك عليه توفير 6000 فرنك كي يشتري دجاجتين وديك يمنحونه 600 بيضة في العام؛ فيأكل هو وأمه 200 بيضة، وباقي البيض سيكون دجاجا يبيعه؛ ليشتري بالمال بقرة وبيتا وقطعة أرض يزرعها بالقمح، ومن ثم يتزوج وتصنع له زوجته خبزا جيدا من القمح الذي سيزرعه، لكن رغم إيمان تشي تشا بهذا الأمر فإن بشير يؤكد له أن المستقبل الحقيقي في الاستقلال، وحينما يؤكد له تشي تشا، رافضا، على أن مستقبله في التجارة التي يؤمن بها، يخبره بشير أن الاستقلال سيؤدي إلى أن ينال الجميع خيرات هذا الوطن؛ وبالتالي سيكون حصوله على الأرض والبقرة أسهل حينما يأتي الاستقلال، كما يحلم بشير بأن يستشهد والده؛ لأن أبناء الشهداء متاح لهم كل شيء في هذا الوطن.
نحن هنا أمام حلم الاستقلال الذي يراود الجميع- كل بمفهومه، وحاجاته- ورغم الفقر المدقع الذي يعاني منه جميع أبناء القرية إلا أنهم يصبرون على ما هم فيه آملين أن ينجح المجاهدون القاطنين الجبال في القضاء على الاستعمار وإخراج الفرنسيين ليأتي حلم الاستقلال الذي يمثل الأمل للجميع.
هذا الفقر الشديد نراه في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم الذي يعبر عن الأحلام المكسورة وعدم المقدرة على الحياة إلا من خلال الحلم حينما نرى خال بشير- قام بدوره الممثل غرس فاتحي- يصطحبه للخارج فيعلمه المزيد من الخيال، الذي لا يمتلكون غيره، فيعطيه نصف رغيف فارغ ويمسك مثله ويقفان بالقرب من الرجل الذي يشوى الكباب قائلا لبشير: هل تريد أن تأكل كبابا؟ افتح رغيفك ودع الدخان يدخل إليه حتى يمتلئ تماما، ثم أغلقه على الدخان، وأغمض عينيك وأنت تأكل الرغيف متخيلا أنك تأكل كبابا بالفعل. في هذا المشهد يصور لنا المخرج كريم طرايدية مدى البؤس الذي يحيا فيه أهل القرية حينما نشاهد الطفل وخاله يأكلان بشهية الرغيفان الفارغان وقد تخيلا أنهما يأكلان اللحم المشوي فيهما.
كما نرى أثر هذا الفقر مرة أخرى حينما يمرض أخو بشير وتحتاج الجدة إلى دجاجة لتأخذها إلى مقام أحد الأولياء؛ ولأنها لا تمتلك ثمنها تأخذها من حظيرة أحد المزارعين، وحين يعترض طريقها، تخبره أنها سوف تدفع له ثمنها فيما بعد، لكنه يرفض؛ فتطرحه أرضا لتقف فوقه وتبول عليه بصرامة وتجهم قائلة بقوة: عشر سنين وريحة نتانتي متتنحاش منك، وتأخذ الدجاجة ذاهبة بها إلى الضريح. هنا نشاهد براعة الدور الذي أدته الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان كجدة صارمة قوية لا يمكن لها أن تبدو ضعيفة أمام أحد رغم حنانها وطيبتها؛ فنراها تخاطب صاحب الضريح محذرة إياه بصرامة أنه إذا لم يعمل على شفاء حفيدها؛ فلن تعود لزيارته مرة أخرى.
هذا البؤس الذي تعيش فيه أسرة بشير يدفعه إلى التساؤل عن المكان الذي يعيش فيه الله؛ فيذهب إلى إمام المسجد ويسأله أين يعيش الله؛ الأمر الذي يجعل الإمام يصفعه متهما إياه بأنه قليل التربية، لكن الرجل الذي يقوم بشي الكباب يشفق على بشير ويعطيه بعض الحلوى إلا أنه حينما يعرف أن بشير سأل إمام المسجد هذا السؤال يضرب بشير بدوره ويأخذ منه الحلوى التي منحها له. يذهب بشير إلى المنزل؛ فتظن أمه أنه قد تشاجر ومزق ملابسه، لكنه يؤكد لها أنه لم يتشاجر، بل ضربه جارهم الذي يبيع اللحم المشوي لأنه سأله عن المكان الذي يسكن فيه الله؛ الأمر الذي يجعلها تضربه بدورها؛ لتنقذه الجدة من يدها، لكنها حينما تعرف بالأمر تعاقبه بدورها.
المخرج الجزائري كريم طرايدية
الجميع هنا يريد معاقبة الطفل وضربه؛ لمجرد أنه سأل سؤاله البسيط: أين يسكن الله. هنا يبدو لنا الخال/ غرس فاتحي الوحيد الذي يستطيع التفاهم مع الطفل؛ فيأخذه للخارج ليسأله: لماذا تريد معرفة المكان الذي يسكن فيه الله؟ فيخبره بشير: لأنه يريد أن يسأله: لم لا يستمع إلى صلوات جدته، كما أنه يريد أن يطلب من الله أن يشفي خاله من مرضه. هنا يبتسم الخال ويقول له: هل تعرف الجبل الكبير الذي فيه المجاهدين؟ بعده سبعة جبال أخرى، والله يقطن في الجبل الأخير؛ فيشعر بشير بالسعادة ويطلب من خاله أن يذهبا إليه، لكن الخال يؤكد له أن الله لا يمكن أن يراه سوى الأطفال فقط؛ لذلك عليه الذهاب وحده، ولكن الوقت الذي يحتاجه للذهاب إلى الله هو عشر سنوات؛ فيقول له بشير: سأكون قد كبرت ولم أعد طفلا؛ ومن ثم لا يمكنني رؤيته.
يبدو لنا الخال هنا محاولا استيعاب أفكار بشير واكتشافاته في الحياة وتساؤلاته؛ ليعلمه بدلا من لفظه وعقابه مثلما يفعل جميع من يحيطون به.
بسبب الحلم الذي يراود بشير في أن يرى أبيه بطلا ويكون ابن شهيد يسرق مسدس صديقه الفرنسي فرانسوا ويذهب به إلى أبيه، إلا أن الأب يأخذ الطفل إلى البيت ويخبر جدته وخاله بالأمر، هنا يكتشف الفرنسيون الأمر، ويعاقبون فرانسوا بالحبس ثم الترحيل إلى فرنسا؛ ولأن بشير قد قال لفرانسوا أثناء حبسه أنه لا يمكن أن يصطاد معه الضفادع مرة أخرى؛ لأنه لا يحب أن يُطلق عليه أبناء القرية بأنه صديق العدو؛ يرسل فرانسوا رسالة إلى بشير حينما يعود إلى فرنسا يقول له فيها: صديقي بشير: كتبت لك؛ كي أخبرك بأني العدو، ومن الأفضل ألا تراني؛ فالأبطال لا يمكن لهم أن يصادقوا الأعداء، وإلا باتوا خونة.. هذه هي الحياة.
حينما يرسل فرانسوا هذه الرسالة لبشير يكون معها صورة لهما سبق أن التقطاها معا؛ الأمر الذي يجعل بشير يمزق الصورة متخلصا من فرانسوا ليحتفظ بالنصف الذي يخصه فقط، ثم يلقي بالنصف الآخر من الصورة والخطاب في النهر. يفكر بشير في الرد على فرانسوا فيكتب له في رسالة يرسلها مع أحد الجنود: صديقي فرانسوا: كتبت لك كي أخبرك بأني مزقت الصورة؛ فأنا لا أريد أن يقول الناس بأني صديق العدو، لقد مات صديقي سالم، ولقد بكيت سرا؛ لأن والده خائن. هذه هي الحياة.
حينما ينجح المجاهدون في التخلص من الفرنسيين حاصلين على الاستقلال نرى مشهدا من أهم مشاهد الفيلم في نهايته حينما يستقبل أهل القرية المجاهدين هاتفين بفرحة: يحيا بن بيلا، لكن زعيم المجاهدين يطلب سكوتهم؛ ليؤكد لهم أنه لا يعرف بعد من سيكون في القيادة؛ فيهتف أهل القرية: يحيا بومدين، لكنه يؤكد لهم أن هذا غير واقعي أيضا؛ فيهتفون: تحيا جبهة التحرير؛ فيخبرهم أنهم كمجاهدين لا يعرفون كيف سيكون الاتجاه بعد، هنا يميل عليه أحد الجنود ليقول له: أخبرهم أن يهتفوا للجزائر؛ فيهتفون: تحيا الجزائر.
ربما كان هذا المشهد من أهم مشاهد الفيلم التي تلخص نظره مخرجه كريم طرايدية، الذي يريد القول: إن مفهوم الاستقلال لم يكن له أي معنى لدى هؤلاء المواطنين الفقراء المطحونين سوى الحياة بشكل جيد ولائق، أي أنه مفهوم ضبابي؛ فهم لا يعنيهم من سيتولى مقاليد الحكم فيما بعد، كما لم يكن يعنيهم من الذي يحكم سواء كان فرنسيا أم جزائريا، بل ما يهمهم في النهاية هو الحياة بشكل جيد؛ لذلك فالاستقلال لدى بشير هو أن يكون ابن شهيد ليحصل على ما يرغبه، كما أنه لدى تشي تشا هو المستقبل والأرض والبيت والبقرة، وهو لدى بقية أهل القرية أي شخص من الممكن أن يحكم سواء كان بن بيلا، أو بومدين، أو جبهة التحرير، كل هذا لا يهم بالنسبة لهم، فهم يريدون الحياة بشكل من الكرامة في نهاية الأمر.
لذلك حينما نرى أهل القرية يحتفلون مع المجاهدين برفع العلم الجزائري يقدم لنا المخرج مشهدا مهما ودالا على أن الاستقلال الذي كان يأمله الجميع لم يكن هو الاستقلال الذي حلموا به؛ فلقد حلم جميع أبناء الجزائر بالاستقلال الذي سيرد لهم كرامتهم، وحقوقهم في الحياة الرغدة متمتعين بخيرات هذا الوطن جميعا من دون أي تفرقة، أو فساد، لكن الذي حدث بعد رحيل الفرنسيين لم يكن هو الحلم الذي حلم به الجميع، وهذا ما يريد المخرج قوله في نهاية الأمر، وهو: إن الاستقلال قد أدى إلى المزيد من الفساد، ونهب الحقوق بدلا من توزيع خيرات الوطن على المواطن، حتى لكأن لا فارق بين الاحتلال والاستقلال؛ ففي كلا الحالتين المواطن بائس ومرغم على الحياة مضاجعا الفقر والحاجة الشديدة بينما يتمتع بخيرات الوطن الآخرون ممن لا حق لهم في ذلك.
نقول إن مشهد احتفال أهل القرية مع المجاهدين برفع العلم الجزائري، نرى فيه أحد الأطفال وهو ابن "حركي" متعاون مع الاحتلال يسرق محفظة بشير التي كان قد اشترى فيها علمين للجزائر، ثم يهدي هذين العلمين لأحد الجنود فيرفعه الجندي على الأكتاف باعتباره ابن أحد المجاهدين بينما يتأمل بشير خاله الذي فارقته الحياة وقد جلست الجدة موسدة رأسه فخذيها.
الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان
إن هذا المشهد يُدلل على رؤية المخرج الذي يؤكد أنه حتى مع الاستقلال الذي كان ينتظره جميع الجزائريين، لم ينل أبناء الجزائر الطيبين حقوقهم، بل صعد على أكتاف الجميع الفاسدون والعملاء باعتبارهم أبطال؛ ومن ثم بات من حقهم الحصول على كل شيء، بينما المواطنين الشرفاء الوطنيين لن يحصلوا على أي شيء، وكأنما الأمر ظل على ما هو عليه أيام الاحتلال مع تبديل الوجوه فقط ممن ينهبون الحقوق من الفرنسيين إلى الجزائريين باسم ثورة التحرير الكبرى، والجهاد، وغير ذلك من المسميات.
كما أن مشهد موت الخال في نهاية الفيلم بينما يرفعون علم الجزائر وابن الرجل الحركي المتعاون مع الفرنسيين في المقابل يُدلل على أن الوجه الآخر للاستقلال يعني موت من يستحقون في هذا الوطن في مقابل حياة المتعاونين والخونة الذين سيحصدون كل مقدرات هذا الوطن.
لعل أهم العناصر الفنية التي قدمها الفيلم هو الأداء الجيد لمعظم طاقم التمثيل خاصة الطفل الصغير مليك بخوشة الذي أدى دور كريم ببراعة جعلتنا نتمسك كثيرا بمقاعدنا لمشاهدة الفيلم حتى نهايته متضافرا مع الدور الشديد الاتقان الذي أدته الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان، والتي لا يمكن تخيل سواها لأداء مثل هذا الدور المُحكم الذي عبر عن الكثيرات من الجدات في الجزائر، كذلك الأداء الجيد لكل من الخال غرس فاتحي، والممثل محمد طاهر زاوي.
الممثل الجزائري مليك بخوشة
لكن لا يمكن نسيان التصوير الجيد الذي كان يدفع المشاهد للتأمل والتفكير كثيرا، والسيناريو الأفقي الذي كتبه المخرج طرايدية؛ حيث كان حريصا على ألا يكون السيناريو بشكل رأسي، أي أحداث تترتب على أحداث أخرى ليكتمل الفيلم، بل كانت الأحداث جميعها أحداثا أفقية من خلال عيني الطفل بشير الذي يستكشف ما يدور حوله ويتأمل حياة أهل قريته، وكأنها مجرد مشاهد تتجاور بجوار بعضها البعض؛ ليعطي المشاهد الفرصة لتأمل ما كان من أحلام، ثم ما انتهى عليه الأمر بعد الاستقلال من ضياع هذه الأحلام.
يُعد فيلم "وقائع قريتي" للمخرج الجزائري المهاجر كريم طرايدية من الأفلام المهمة والمختلفة التي تناولت الثورة الجزائرية والاستقلال عن الاستيطان الفرنسي بمفهوم مختلف عن السائد في السينما الجزائرية؛ فهو لم يعمل على تقديس الثورة والاستقلال كما يذهب إلى ذلك جل المخرجين الجزائريين، بل عمل على محاكمة الثورة والتأمل فيها، والتأكيد على أن الاستقلال لم يأت بما كان يأمله المواطن الجزائري في نهاية الأمر، بل ازدادت أحوال الناس المعيشية والحقوقية سوءا عما كانت عليه أيام الاحتلال.


محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد يوليو 2019م


الاثنين، 1 يوليو 2019

حرة.. جماليات الصورة كمنقذ للسيناريو

بوستر الفيلم
من خلال الحرص على تقديم مجموعة كبيرة من اللقطات الطويلة الصامتة التي لا يتخللها سوى حوارات قصيرة شديدة الاقتصاد؛ مما يجعل الاهتمام بالصورة هو جوهر الفيلم، وهي الصورة التي مالت عن عمد إلى شيء من الرتابة والآلية، وكأنما المخرج يريد من ورائها إعطاء المشاهد الفرصة للكثير من التأمل؛ نجح المخرج التونسي مُعز كمون في تقديم فيلمه الروائي الطويل "حرة" Libre، وهو الفيلم الذي يناقش مشكلة مهمة في مجتمعاتنا العربية جميعها، حينما تسود الرتابة الحياة الزوجية؛ مما يؤدي إلى الخلافات وزهد الأزواج لبعضهما البعض؛ الأمر الذي قد يدفع الزوج إلى الكثير من العنف الأسري تجاه زوجته والاعتداء عليها؛ كشكل من أشكال التعويض للشعور برجولته التي يظن أنه قد فقدها معها لطول عشرتهما وزهده فيها كامرأة؛ الأمر الذي يؤدي إلى العديد من التبعات الاجتماعية والأسرية الأخرى إذا لم يسرع الزوجان بحل مشاكلهما ومن ثم إمكانية انجراف الزوجة إلى علاقة أخرى خارج إطار الزواج- كشكل من أشكال التعويض على الإهمال والعنف الذي تلاقيه من الزوج-، أو هجرة حياتها الزوجية تماما والرحيل بعيدا عن الزوج مفضلة في ذلك حريتها الاجتماعية والاستمتاع بحياتها بعيدا عن قيود هذا الزواج- وهو ما رأيناه في المشهد الختامي للفيلم حينما أخذت علياء- التي قامت بدورها الممثلة التونسية فاطمة ناصر- ابنتها وحقيبتها للرحيل من منزل الزوجية وحينما سألتها الابنة: متى سنعود، أجابتها بثقة: لا أظن أننا سنعود مرة أخرى.
المخرج التونسي معز كمون

ربما نلاحظ من خلال قصة الفيلم- وهو السيناريو الذي كتبه المخرج مُعز كمون أيضا- أنها قصة نسوية بامتياز، أي أن المخرج يتبنى من خلال فيلمه قضايا المرأة محاولا معالجتها والبحث في أسبابها، وما يمكن أن يترتب على هذه المشكلات، ولعلنا نلحظ ذلك من خلال الفيلم؛ حيث كانت الشخصيات النسائية- رغم أنها الحلقة الأضعف في السيناريو اجتماعيا- إلا أنها كانت المحرك الأساس والجوهري والأكثر إيجابية في أحداث السيناريو وتناميه ليصل إلى ذروته التي رأيناها، بينما كانت الشخصيات الذكورية مجرد مُكمل للقصة فقط. نلاحظ ذلك في شخصية الأم "جميلة" التي قامت بدورها بإتقان الممثلة سامية رحيم، كذلك شخصيات "نادية" (سيرين بلهادي)، و"سلمى" (شيماء همامي)، بالإضافة إلى شخصية "علياء" (فاطمة ناصر) التي كانت الشخصية المحورية التي يدور السيناريو ويتنامى من أجلها فقط.
مشهد من الفيلم
هذا الاهتمام بقضايا المرأة التونسية والمجتمع التونسي سبق أن لاحظناه فيما سبق أن قدمه كمون من أفلام روائية طويلة حيث ناقش في فيلمه الروائي الأول "كلمة رجال" 2004م قضية الزواج العرفي في تونس، وهو الزواج الذي يرفضه المجتمع التونسي تماما، ويراه شكلا من أشكال الخيانة، كما قدم في فيلمه الثاني "آخر ديسمبر" 2010م مفهوم تحرر المرأة التونسية، من خلال امرأة قروية، باعتبار أن المرأة التونسية من أكثر نساء الدول العربية تحررا وحصولا على حقوقها، إلا أنه أدان هذه الحرية التي يفهمها الكثيرون من أبناء المجتمع التونسي بشكل خاطئ، كما حاول من خلال نقاشه لهذه القضية فضح أنانية الرجل الشرقي الذي يرضى لنفسه الحياة الحرة في مجون، بينما لا يتقبل الزواج من أي امرأة إلا إذا كان هو الأول في حياتها في شكل من أشكال التناقض الثقافي والمدني اللذين يقومان عليهما المجتمع في تونس باعتباره ما زال مجتمعا ذكوريا يرى لنفسه فقط الحق في كل شيء.
إذن فمشكلات المجتمع المدني التونسي وقضايا المرأة ومشكلاتها تكاد تكون هي جوهر الأفلام السينمائية التي يقدمها لنا المخرج مُعز كمون، وهي الأفلام التي نجح كثيرا في تقديمها بشكل فني بعيدا تمام البعد عن المباشرة والخطابية العالية التي قد تُفسد السينما، بل كان حريصا في كل ما قدمه من أفلام على ما هو فني في المقام الأول متجنبا الصوت العالي أو المباشرة الفجة فيما يناقشه من قضايا مهمة قد تنحو به إلى هذه المباشرة والفجاجة لو لم يكن يمتلك أسلوبا يخصه من خلال أدواته الفنية والتعبيرية بشكل ناضج.
هذا النضج الفني هو ما نراه في فيلمه "حرة" الذي يبدأ بمشهد موت والد "كريم" أحمد القاسمي وتلقيه العزاء في المقابر، لكنه حينما يعود إلى منزله يجد أن أمه "جميلة" قد رفضت استقبال المعزيات في بيتها وطردتهم، كما أنه يجدها تتناول الكثير من الخمر ولا يبدو عليها أي شكل من أشكال الحزن على زوجها المتوفي، يناقش كريم أمه في أنها لا بد لها أن تتوقف عن ذلك على الأقل هذه الليلة- وهي الليلة التي مات فيها الأب- لكنها تؤكد له أنه ليس من حقه التدخل في حياتها، كذلك فهي حينما تستقبل سلمى ووالدها في البيت لتلقي العزاء تخرج لهم بكأس النبيذ ببرود تام، بل وتتركهم بعد دقيقة وحدهم في البيت؛ الأمر الذي يجعلهما ينسحبان ويذهبان؛ نتيجة لأنها انصرفت تماما وتركتهما وحيدين في شكل من أشكال عدم اللياقة الاجتماعية.
جمال ساسي
يبدو لنا كريم من خلال مشاهده المتتالية مع الأم أنها تُسبب له أزمة نفسية ما، وإن كان المخرج لم يوضح لنا ما هي هذه الأزمة، وما أسبابها الجوهرية؛ فالأم كما يقدمها السيناريو شيوعية قديمة- يبدو ذلك من خلال المشهد الذي رأيناها فيه تتابع خطبة للزعيم الشيوعي ستالين- متجاهلة في ذلك وفاة الزوج، وغير شاعرة بأي شكل من أشكال الحزن عليه، بل يبدو عليها دائما الصرامة واللامبالاة. كما أنها تُعاقر الخمر طيلة الوقت؛ مما يدل على وجود أزمة نفسية ما لديها، أو نوع من الخلافات التي كانت بينها وبين الزوج، لم يوضحهما المخرج كذلك، بل ترك الشخصية سابحة في الفراغ من دون جذور تؤصل لها، وسنعرف فيما بعد حينما تلتقي بصديقتها الشيوعية القديمة أن زوجها المتوفي كان زوجا لهذه الصديقة، وأن جميلة استولت عليه بطريقة ما وتزوجته، وهذا ما سبب القطيعة بينهما لمدة ثلاثين عاما، لكن جميلة تحاول استعادة صداقتهما مرة أخرى بعد وفاة الزوج، وبالفعل توافق الصديقة وتغفر لها ما سبق حينما استولت على زوجها، لكنها حينما تقبل دعوتها في السهر معها في بيتها هي وزوجها الثاني، يتكرر ما سبق أن حدث منذ ثلاثين عاما؛ حيث تُحاول جميلة مراودة زوج صديقتها كما فعلت فيما مضى مع زوجها الأول.
الممثلة التونسية فاطمة ناصر
هنا لا بد من التوقف أمام ما قدمه المخرج قليلا للتساؤل: لِمَ قدم شخصية "جميلة"/ أم كريم بهذا الشكل اللامبالي تماما؛ حيث لا تشعر بالحزن على زوجها الذي توفى لتوه، بل وتجلس مستمتعة بتناول الخمر في هدوء بدلا من تقبل العزاء من المعزين الذين طردتهم، ولِمَ تعاملت مع وفاة زوجها بكل هذه اللامبالاة والبرود غير المبررين؟ إن مثل هذا السلوك من الزوجة لا بد أن يستدعي مثل هذا التساؤل، وبما أننا تساءلنا؛ فلقد كان من الضروري أن يُفسر لنا المخرج السبب في ذلك، إلا أنه للأسف قدم هذا الفعل من دون أسباب. كما أن المخرج هنا يقدم لنا الحركة اليسارية النسائية في تونس باعتبارها حركة لا هدف حقيقي لها سوى اصطياد النساء لأزواج بعضهن البعض؛ فجميلة التي فعلت ذلك منذ ثلاثين عاما مع صديقتها المقربة، ترغب في تكرار نفس الفعل مع زوج صديقتها الجديد بعدما توفي زوجها- وهذا شكل من أشكال عدم النضج في تناول حركة اليسار التونسي من قبل المخرج-. ولكن ثمة سؤال أهم من ذلك يطرح نفسه بقوة وهو: ما الدافع الحقيقي والفني الذي رآه المخرج مُعز كمون كي يعرض لنا قصة الأم/ جميلة؟ أي ما الداعي لحشر هذه القصة من الأساس في أحداث السيناريو، ووجود الأم لا سيما أنها لم تكن سببا في تنامي السيناريو فنيا، ولم تُضف إليه أي شيء اللهم إلا طرح العديد من التساؤلات التي لم يقدم لها المخرج أي إجابة؛ الأمر الذي أضعف السيناريو بسبب هذه الفجوات غير المبررة، فضلا عن تشويه حركة اليسار التونسي من خلال الأم التي تخطف أزواج صديقاتها؛ فقصة الأم لم تكن سوى مجرد عبء ثقيل على الفيلم الذي كان محوره الأساس هو علياء وحياتها البائسة مع الزوج الذي لا يشعر برجولته؛ ومن ثم يعوض ذلك بالعنف الجسدي.
الممثلة سامية رحيم
نعرف فيما بعد أن كريم على علاقة عاطفية وجسدية مع سلمى ابنة صديق والده (لطفي بندقة)، وأن سلمى هي صديقة نادية شقيقة علياء. تعيش نادية مع شقيقتها علياء في بيت الزوجية بعدما توفت والدتها ولم يبق لها سوى شقيقتها الكبرى المتزوجة من "حمادي" (جمال ساسي) الذي يعمل ككمساري في إحدى هيئات النقل العام، ولأن العلاقة الزوجية بين كل من علياء وحمادي قد أصابها شيئا من الفتور نجده يفشل في إقامة علاقة جسدية معها، لكنه بدلا من البحث في أسباب هذا الفشل، لا سيما أنهما لديهما ابنة من هذا الزواج، يتهمها بأنها السبب في فشله، وأنها لا تقوم بدورها كزوجة معه، وحينما تؤكد له أنها كما هي معه لم تتغير؛ يتشاجر معها ملقيا عليها باللوم، بل يتطاول عليها جسديا ويضربها بقسوة ليشعر برجولته أمامها وهو ما أكدته علياء حينما قالت لشقيقتها التي تحاول مواساتها بعدما ضربها الزوج: (كي يضربني ليحس بروحه راجل)، وهو الأمر الذي يجعلها حريصة كل الحرص على التحاق شقيقتها الصغرى "نادية" بأحد الأندية لتعلم فنون القتال؛ كي تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، كما أننا نراها تلومها أكثر من مرة حينما تحضر تدريبها وترى أنها تعجز عن الدفاع عن نفسها أثناء التمرين، أي أن السبب الرئيس الذي دفع علياء لتشجيع أختها على تعلم فنون القتال هو أن يكون هذا التعلم وسيلة دفاعية لها كامرأة للدفاع عن نفسها من بطش أي رجل محتمل في حياة أختها فيما بعد، وهذا ما يؤكد عليه المخرج مُعز كمون في مشهد نادية أثناء التدريب بعدما رأت الزوج/ حمادي يضرب أختها؛ حيث نراها تتدرب وكأنها تنتقم من زميلتها التي أمامها، كما نراها أثناء الاستحمام تبكي بينما تضرب الجدار الذي أمامها بكفها بقوة.
الممثلة التونسية سيرين بلهادي
تتعرف علياء على كريم حينما تلتقيه بالمصادفة مع شقيقتها نادية وصديقتها سلمى، وينجذب كريم إليها كثيرا ويحاول تتبعها دائما أينما ذهبت؛ الأمر الذي يجعلها تلحظ هذا وتخبره أنها امرأة متزوجة ولا يجب عليه فعل ذلك؛ فيؤكد لها أنه لم يبدر منه ما يمكن أن يسيء إليها، لكنها تبدأ في الانجذاب إليه بدورها. حينما تلحظ علياء ميلها إلى كريم تحاول إنقاذ نفسها وإنقاذ حياتها الزوجية من الانهيار بدلا من انجرافها نحو رجل غريب عنها، وهو ما نراه في المشهد الذي تقابل فيه زوجها على سلم البناية التي يقطنانها حيث كان نازلا من شقته مستعدا للخروج  للقاء صديقته بينما هي صاعدة بعد عودتها من عملها؛ حيث تسأله هل سيتأخر في الخارج؟ لكنه يجيبها أنها لم تعتد أن تسأله مثل هذه الأسئلة؛ فتجيبه أنها راغبة في تناول العشاء معه، لكنه يقابل طلبها بسخرية ولامبالاة؛ مما يجعلها تعتذر له أن أضاعت له وقته.
هنا تجد علياء نفسها منجرفة بمشاعرها تجاه كريم الذي يهمل حبيبته سلمى/ صديقة شقيقتها نادية. وتنمو علاقة حب بين علياء وكريم الذي يخرج معها ذات ليلة ويذهبان لتناول القهوة في المقهى الملحق بمحطة البترول الخاصة بوالد سلمى (لطفي بندقة) في الوقت الذي تشعر فيه سلمى بالملل والرتابة؛ نتيجة إهمال حبيبها كريم لها، وتتصل بنادية من أجل الخروج والتنزه، لكن نادية تلاحظ أن وقود السيارة غير كافي؛ فتذهب سلمى إلى محطة والدها لتموين السيارة في الوقت الذي كان كل من كريم وعلياء هناك. توبخ نادية أختها حينما تراها مع كريم وتسألها عن السبب الذي يجعلها في هذا الوقت مع حبيب صديقتها، وتنشأ مشاجرة بين الأختين وسلمى بسبب ذلك. تعود علياء إلى بيتها وهناك تخبرها نادية أنها لن تحاول التغطية عليها مرة أخرى بسبب هذا الفعل المخجل وتترك لأختها البيت. تفكر علياء كثيرا في حياتها وما آلت إليه؛ الأمر الذي يجعلها تتخذ قرارها في ترك الزوج والبيت إلى غير رجعة؛ فتأخذ صغيرتها وتذهب لينتهي الفيلم على هذا المشهد حينما تسأل الصغيرة أمها: متى سنعود؛ فترد عليها بهدوء: أنها لا تعتقد بعودتهما مرة أخرى، مفضلة في ذلك حريتها وعدم خيانة زوجها الذي يعيش معها على أن تبقى معه.
فاطمة ناصر
رغم أهمية الفيلم الذي قدمه لنا المخرج التونسي مُعز كمون، ورغم أهمية القضية التي يتناولها، وهي القضية التي يمر بها الكثيرون من أبناء المجتمعات العربية ويفضلون عدم الخوض بالحديث فيها أو مناقشتها لحساسيتها؛ الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من الكوارث المترتبة على هذا الصمت والخجل، إلا أننا نلاحظ ثمة خللا فنيا كبيرا في بناء السيناريو الذي جاء مشوها بسبب قصة الأم جميلة/ أم كريم غير المبررة والتي لم يكن لها أي محل فني في تنامي الأحداث وحركتها، بل بدت كمجرد نتوء لا قيمة له اللهم إلا تشويه العمل الفني، وتشويه حركة اليسار التونسي فقط.
الممثل التونسي لطفي بندقة
لكن لا يمكن أن يفوتنا براعة المخرج ومقدرته الفنية في تقديم كادرات تصويرية لا يصح أن نُطلق عليها إلا أنها كانت بمثابة مجموعة من اللوحات التشكيلية التي كان كمون حريصا فيها على استعراض مهارته التصويرية سواء في اختيار الزوايا أو اختيار العناصر التي تُشكل هذه اللقطات الجمالية، كما حرص المخرج على تصوير العديد من اللقطات القريبة التي كانت ضرورية من أجل بيان ردود أفعال الممثلين وانفعالاتهم حسب أدوارهم في السيناريو وتناميه؛ حيث يعتمد الفيلم على توضيح الانفعالات، لا سيما اللقطات القريبة من وجه الممثلة فاطمة ناصر التي كانت بمثابة العمود الفقري في الفيلم لا سيما أن أداءها تميز بالكثير من الصدق والطبيعية البعيدة عن التكلف، وهو الأداء الذي جعل المشاهد راغبا في تواجدها في كل مشاهد الفيلم؛ نظرا لبراعتها في تقديم الدور الذي تمثله وإحساسها الحقيقي بشخصية علياء التي تعاني مع زوجها في حياتهما البائسة.
إن تقديم المخرج التونسي مُعز كمون لفيلمه "حرة" وتناوله لقضاياه بمثل هذا الشكل الشاعري الهادئ محاولا الابتعاد عن فجاجة المباشرة، والميل به نحو الموضوعية والحيادية الفنية في عرض قضيته، فضلا عن جماليات الصورة التي بدت لنا وكأنها معرضا للفن التشكيلي يجتهد من خلالها المخرج في إثبات براعته التصويرية والفنية، بالإضافة إلى المونتاج الجيد الذي حافظ على إيقاع الفيلم- رغم حرصه على البطء وإيهام المشاهد بالرتابة-؛ فلم نشعر معه بالوقت الذي تسرب سريعا؛ يُدلل على أهمية السينما التونسية وما تقدمه من أفلام لا يمكن تجاهلها في الحركة السينمائية العربية رغم ما شاب السيناريو من مشكلات لم يقدم لها المخرج أي مبررا فنيا.


محمود الغيطاني
مجلة الثقافة الجديدة

عدد يوليو 2019م