الخميس، 14 يوليو 2016

"مصائر" المدهون تُعلن انهيار دولة نقاد "أكل العيش": فيصل دراج.. السقوط الشامل

في الوقت الذي تُثبت فيه رواية "مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة" للفلسطيني الإنجليزي الجنسية ربعي المدهون غثاثتها الواضحة؛ حتى أن معظم من يقرأها لا يستطيع مواصلة قراءتها مُعتقدًا أنها مجرد محاولة ساذجة لشاب يحاول تعلّم كتابة الرواية إما لركاكة اللغة والأسلوب فيها والعجز عن تركيب جملة روائية سليمة، أو لأخطائها الفادحة وتزييفها الفج للتاريخ الفلسطيني محاولةً في ذلك إظهار الإسرائيليين في صورة الملائكة النورانيين المتعايشين مع الفلسطينيين بحب ووئام ومودة.
نقول في الوقت الذي ميّزنا فيه الخلل الأدبي والتاريخي الواضح عند المدهون ميّزنا ظاهرة أخرى مقابلة ومتصاعدة على حس الرواية، وهي ظاهرة النقد الذي يشيد بها منافسًا إياها في ركاكتها- ظاهرة الزيف.
الزيف النقدي، أو "شراء" النقاد الذين يعملون على تزييف الواقع الثقافي؛ ليكونوا مسؤولين بدورهم عن كل ما هو ركيك وسطحي وضعيف ومعتل أدبيًا ومختل تاريخيًا مقابل ما هو فني وناضج وتجريبي، هو الظاهرة التي فضحتها رواية المدهون، حتى أن هناك العديد من الأسماء النقدية المهمة التي يبدو أنها لم تحترم تاريخها الطويل ولا اسمها الكبير أو وزنها الثقيل. في أعقاب هذه الرواية تحديدًا رأينا النقاد يلهثون ويتساقطون تحت قدمي روائي ضعيف يُقدم كتابة غثة رغم أن ما كتبه لا يمكن النظر إليه إلا باعتباره نموذجًا للكتابة الرديئة والساقطة فنيًا، لتتجلى بهذا ظاهرة تزييف الواقع الثقافي والمداهنات والمجاملات والشلليات وغيرها من الأمراض التي يضج بها واقعنا العربي الثقافي والتي برزت بشكلٍ لا مثيل له جراء صدور هذه الرواية في محاولة مجاملة الكاتب الذي لا تمت كتابته للأدب بصلة.
ربما لا يستدعي بروز هذه الظاهرة- على السطح الآسن لثقافتنا العربية- إبداء الدهشة؛ لأن من هؤلاء النقاد من نعرفه - منذ عهدناه- ناقدًا يبيع نفسه لمن يدفع أكثر، لا سيما في دول الخليج، ويعرض نفسه دائمًا عليهم حتى أنه بات نجمًا نقديًا بسبب تزييفه للكثير من الحقائق النقدية. لكن ما يستدعي الدهشة الحقيقية هو أن هناك قامات نقدية- لها الكثير من المساهمات التي لا يمكن الاستهانة بها- التي سقطت سقوطًا مروعًا حينما دلست على القرّاء باعتبارها لكتابة المدهون كتابة روائية وفنية متميزة، بل واعتبار لغتها لغة بلاغية وشاعرية وشعرية ومتصوفة وفلسفية وغير ذلك من الأوصاف التي أطلقها النقاد على هذا اللون من الكتابة الذي لا يمكن احتماله أو الصبر عليه، وهنا كان مبعث الدهشة الذي يجعل الكبار يتساقطون في أواخر أعمارهم كأوراق الشجر الذابلة لتدوسهم الأقدام لمجرد نزوة راودتهم في مغازلة كاتب أو مجاملته مجاملة رخيصة.
نحاول هنا العطف بالنقد على ما قدّمَته بعض هذه الأسماء اللامعة لإظهار مدى التهاون النقدي في تناول أعمال "غير فنية" ووصفها، من دون وجه حق، بالنضج والفنية في محاولة منها للرفع من شأن عمل أدبي إكرامًا لصاحبه.
فيصل دراج.. السقوط الشامل
في المقال الذي كتبه الناقد الفلسطيني فيصل دراج في جريدة الحياة اللندنية في 14 سبتمبر 2015م بعنوان "ربعي المدهون يكتب الرواية الفلسطينية الشاملة" لا بدّ أن تجحظ عيوننا حتى تكاد تخرج من محجريها دهشةً مما يفعله الناقد الكبير بنفسه في أخريات حياته حينما يصف رواية المدهون باعتبارها من أهم الأعمال الأدبية الفلسطينية، أو باعتباره امتدادًا لجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي وغسان كنفاني وغيرهم من الروائيين الحقيقيين ممن قدموا أدبًا لا يمكن الاستهانة به، ويحاول مساواة قامته بقاماتهم.
يقول الناقد الكبير في متن مقاله- غير النقدي- عن رواية المدهون: "اللغة متعددة أيضاً، لها مستوياتها المتنوعة تتاخم التصوّف والشعر المهموس وفيها لغة الأم "العامية" التي في بساطتها ما يوقظ البكاء، وبلاغة الضحية التي ترى "في كل مستوطن جديد عشيرة فلسطينية مهاجرة"، وفي هذه الجملة التي كتبها دراج بشكل غير عفوي، وفيه من الثقة ما لا يمكن احتماله؛ ما يجعلنا نخبط رؤوسنا في أقرب حائط دهشة وحسرة على ناقد- كان عظيمًا في يوم ما- ويحاول اليوم محو كل تاريخه النقدي بجملة مثل هذه؛ لأن في هذه الجملة التي تؤكد على شعرية اللغة التي تتاخم التصوف ما يدلّ على أنه كناقد لا يفهم شيئا في اللغة ولا أسلوبيتها ولا دلالاتها؛ مما يجعلنا نتشكك في كل تراثه النقدي الذي كتبه طوال عمره، ما دام يفتقد الحساسية الكافية تجاه اللغة الأدبية أو القدرة على التمييز بين ما هو غث وبين ما هو فني جمالي.
يقول ابن عربي: "كل مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا يعول عليه"، ويقول أيضًا: "كل بقاء يكون بعده فناء لا يعوّل عليه.. كل فناء لا يعطي بقاء لا يعوّل عليه"، ويقول الحلاج: "حقيقة المحبة: هي قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك، والاتصاف بأوصافه"، ويقول: "إلهي! أنت تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عني، فإنه الشُكر لا غير"، ويقول محمد ابن عبد الجبار النفري: "القلب يتغير، وقلب القلب لا يتغير، والحزن قلب القلب"، ويقول: "ومعرفتك بالبلاء بلاء، وانكارك للبلاء بلاء"، ويقول أبو الحسن الشاذلي: "حقيقة القرب أن تغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، كمن يشم رائحة المسك فلا يزال يدنو منها، وكلما دنا منها تزايد ريحها، فلما دخل البيت الذي هو فيه انقطعت رائحته عنه"، ويقول: "لو كُشف عن نور المؤمن العاصي لطبق بين السماء والأرض فما ظنك بنور المؤمن المطيع"، وهنا أرغب في سؤال الناقد المتمكن فيصل دراج أي من هؤلاء المتصوفة كنت تقصدهم حينما وصفت لغة المدهون بالصوفية، وهل ترى أي تشابه بين ما يقوله هؤلاء المتصوفة الموغلين في الفلسفة الوجودية وبين ما كتبه المدهون من كتابة بالغة السطحية؟ أم أنك تعرف متصوفين آخرين نجهلهم ممن يتحدثون بلغة تصوفية جديدة عرجاء؟!
أين اللغة التي يقصدها دراج بمثل هذه الجملة الخطيرة؟ هل تقبع في قول المدهون: "أنزلت لهاثها المتقطع عن أنفاسها ووقفت فوق قدمين من مخاوف وقلق، رسمت على صدرها صليبا من مشاعر"، أم قوله: "وجد فاطمة تنتظره هي وابتسامتها أسفل البناية"؟ أم يقصد قوله: "توقف أربعتهم، وليد وجولي، وجميل ولودا، فوق لحظات مشحونة بالقلق والتوتر"، أو: "حملوا معهم ما خف وخف، ومضوا تاركين البغل"، أو لعله يقصد الارتباك في تركيب الجمل وصياغتها بشكل عصي على الفهم لمن يقرأ مثل قول المدهون: "أسندت جنين ذقنها إلى كفها المستندة بكوعها إلى ركبة ساقها المعتلية ساقها الأخرى"، وفي هذه الجملة أريد من الناقد الكبير أن يشرح لنا موطن الجمال والتصوف والشعر الذي يدعيه في رواية المدهون وما يكتبه، وإذا كان المدهون قد كتب في روايته: "أعاد سؤاله بوشوشة صاخبة لا توقظ النائمين"، فهل في هذا لغة شعرية؟! إذا كان الروائي هنا يقصد أنه أعاد السؤال بهمس حتى لا يوقظ النائمين فلِمَ أضاف مفردة "صاخبة" التي تدل على الضجيج والجلبة؟ هناك لون من التنافر والتناقض بين مدلولات المفردات الذي لا يمكن التساهل في الحكم على رداءته. وأن يأتي ناقد في قدر دراج ليحاول التدليس على هذه الحقيقة فهذا يؤكد لنا أن مقاله الذي كتبه كان من قبيل الدعاية والترويج الزائف لرواية المدهون، بل والضغط على لجنة البوكر من أجل منحه الجائزة باعتبار أن هناك ناقدًا كبيرًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد كتب هذا الكلام عنه.
في الحين الذي يكتب فيه المدهون: "عقّب بمشاعر لا تطيق بعضها"، ثم يأتي دراج ليصف هذه الجملة واللغة باعتبارها لغة شعرية أو صوفية روحانية؛ فهذا يجعلني بالضرورة غير قادر على احتمال ما يكتبه دراج نفسه؛ لأن هذه تسمى مغالطة. وهنا أريد أن أواجه فيصل دراج بجملة "عبقرية" وردت في الرواية لتظل شاخصة أمام عينيه فيما تبقى له من عمر نقدي كي تذكّره بالذنب العظيم الذي اقترفه بحق الأدب حينما أشاد بقائل هذا الكلام، وهي: "تزوجت أمي أبي "قبل ما اتفتح عينيها" على رأي والدها، الذي سيصبح جدي، وإخوتها الشباب الذين سأنادي كل منهم منفردا "خالي"، لكني سأشير إليهم في غيابهم وأقول "أخوالي""، هل في هذه الجملة أي لون من الأدبية أو الجمالية أو المدلولات الميتافيزيقية؟! الحديث هنا مجرد ثرثرة لا معنى لها؛ فالمدهون يخبرنا بما نعرفه وبما هو بديهي، والرجل لم يفعل سوى أنه "شبه الماء بالماء"؛ لأن شقيق الأم بالضرورة سيُنادى بالخال، وبالتأكيد جمع مفرده "أخوال"! فهل يعلّم المدهون القراء أسماء الموجودات كأنهم أطفال؟ أم أنه لا يحترف الأدب أو يحترمه بقدر ما يتفاصح ويتثاقف ليكتب لنا بدل اللغة لغوًا؟ يبدو أن الناقد فيصل دراج يمتلك حساسية مختلفة تجاه اللغة؛ حساسية لا ندركها نحن بعد لصغر سننا وعقولنا، بينما هو وحده يحتكر الخبرة اللغوية  ليبصر ما عجزنا نحن عن رؤيته.
في إحدى الندوات التي ناقش فيها الناقد الكبير رواية المدهون، وهي الندوة التي أقامها منتدى الرواد الكبار في الأردن وأدارها القاص الأردني إلياس فركوح يذهب دراج إلى أن المدهون: "أعطى تأسيسا لرواية فلسطينية مغايرة، تُقارن بين اختلاف الأزمنة، وتقف أمام الحاضر قبل غيره، وتعرف أن الرواية لا تأتي من الغضب والدموع، بل من عمل في اللغة، وفي تاريخ الرواية أيضا"، هنا يريد دراج بكل ما أوتى من مقدرة نقدية- تخذله في واقع الأمر- التأكيد على أن ما كتبه المدهون هو كتابة فارقة لم يأت بها من سبقه من الكتاب، بل هو يعود مرة أخرى بالتأكيد على اللغة عند الكاتب محاولا إنصافها؛ فيصف أن الرواية الفلسطينية المغايرة التي أسس لها المدهون- على حد زعمه- تأتي من اللغة، كما اعتبر الناقد في نفس الندوة أن الروائي: "عالج قضيته الوطنية بمنظور عميق، وعبر عنها إبداعيا بتقنيات جديدة، وبلغة تنوس بين الشعر والفلسفة"، لافتا إلى أنه "انتسب في اجتهاده اللامع إلى الفلسطينيين الكبار الثلاثة: غسان الراسم الرهيف لمعنى المأساة، وإميل حبيبي في نثره الجميل الذي لا يُضارع، وجبرا إبراهيم جبرا الواسع الثقافة المُتعدد التجربة. لكن إضافة ربعي أضافت إلى هؤلاء جميعا جديدا لم تعرفه الرواية الفلسطينية"، ربما كانت مثل هذه الجملة المُبكية على حال ما وصل إليه النقد العربي من زيف ما يجعلنا نقف أمامها كي نُفَصِلها ونسأل الناقد عما قصده فيها؛ لأنها جملة خطيرة تُزيف الكثير ولا تضع أيدينا على شيء في النهاية لفرط عموميتها من دون أي لون من ألوان التحديد النقدي، فالناقد هنا يُطلق الأحكام في الهواء الطلق من دون تحديد.
هو يقول: عالج قضيته الوطنية بمنظور عميق، وعبر عنها إبداعيا بتقنيات جديدة"، في حين أننا لم نر في الرواية أي قضية وطنية بقدر ما رأينا قضية اليهود المعذبين الذين تراودهم الكوابيس، والواقعين تحت وطأة الكثير من المعاناة النفسية بسبب محارق الهولوكوست، كما أننا لم نر في الرواية أي لون من ألوان التقنيات الجديدة التي ذهب إليها دراج في الوقت الذي كان من الأجدى به وضع أيدينا على هذه التقنيات؛ كي نفهمها بما أن عقولنا قاصرة عن فهم هذه التقنيات التي يدعيها، كما يقول في بقية جملته: "وبلغة تنوس بين الشعر والفلسفة"، وهذه الجملة تثير البكاء الحقيقي؛ فهل رأى دراج بالفعل في لغة المدهون أي لون من ألوان الشعر أو التفلسف؟! هل قول المدهون: "لملم صراخها آذان كل من في المكتب وأعينهم، وتفرج الجميع على مشاعر امرأة نسيت مشاعر الأخرى"، أي لون من ألوان التفلسف أو الشعر؟! وكيف للصراخ أن يلملم آذان من في المكتب وأعينهم معا، وما علاقة الصراخ الذي يخص الصوت والأذن بالأعين التي تخص الإبصار، وكيف للآخرين أن يتفرجوا على المشاعر كما ذهب المدهون، هل هذا ما يراه دراج لغة تقرب من التفلسف، بالتأكيد أن المدهون ودراج هنا يتفلسفان علينا بالفعل حينما يريا أن هذه اللغة تنوس بين الشعر والفلسفة كما قال دراج، ولعلنا نرغب في طرح مثال آخر أمام دراج يعلق بنفسه ساخرا على اللغة التي "تنوس بين الشعر والفلسفة"، وهو: "رأته حسنية يبكي، ورأت دمع فرح بلون الفاجعة على وجنتيه، وساعدته في البكاء، ولم تتوقف عن ذرف دمعها بينما تسأله: "بدّك كمان أبو فلسطين؟""، وفي الصفحة التالية يقول: "ضحك "باقي هناك" بصوت عال، ثم بكى بصمت أعلى على ما وصلت إليه حال اليسار في البلاد، وساعدته حسنية في البكاء هذه المرة أيضا، وسألته ما سألته من قبل: "أساعدك بدمعتين يا بو فلسطين؟ بحياة الله تاخد لك نقطتين، يا زلمة والله عندي اللي يكفيني لكل المصايب، من سنة الثمانية والأربعين وأني بجمّع دموع"، ما كل هذه السماجة والتعبيرات الطفولية الركيكة التي لا يمكن تصديقها، وما كل هذا التساهل في التعامل مع المشاعر، وما كل هذا الافتعال؟ هل من الممكن أن أرى من يبكي فأسأله هل تريديني أن أساعدك في البكاء، بل وأقسم أن يأخذ نقطتين أخريين؟! لم كل هذا الابتذال في كتابة الأدب بمثل هذا الشكل؟، وهل في قول المدهون: "ثرثرنا على امتداد الطريق كثيرا، بدهشة حينا وباندهاش أحيانا" أي لون من التفلسف أو الشعر؟!
يقول دراج في بقية قوله عن المدهون: "انتسب في اجتهاده اللامع إلى الفلسطينيين الكبار الثلاثة: غسان الراسم الرهيف لمعنى المأساة، وإميل حبيبي في نثره الجميل الذي لا يُضارع، وجبرا إبراهيم جبرا الواسع الثقافة المتعدد التجربة. لكن إضافة ربعي أضافت إلى هؤلاء جميعا جديدا لم تعرفه الرواية الفلسطينية"، هنا أظن أن هؤلاء الثلاثة لو كانوا ما زالوا أحياء وسمعوا دراج يقول مثل هذا القول ويحاول مقارنة كتاباتهم بما كتبه المدهون لقتلوه في حينها، فهل يصدق الناقد بالفعل أن المدهون انتسب إليهم، بل وأضاف إليهم جميعا إضافة جديدة لم تعرفها الرواية الفلسطينية؟!
أظن أن هذا القول لا يحتاج إلى أي لون من ألوان التعليق لأن كل قارئ للأدب العربي سيرد على دراج بنفسه. وفي نفس المحاضرة يؤكد دراج غير مرة على اللغة وكأنه واثق تماما من ضعفها ويريد من الحاضرين أن يصدقوه من فرط تأكيده فيقول: "إن في مصائر شخصيات الرواية ما يعلن عن أسى فلسطيني صريح، وقد اتضح هذا الأسى في لغة نثرية فريدة ترصد تفاصيل المكان في الروح المثلومة، وتجعل من اللغة مرآة للمكان المشتهى والروح المدحورة"، فهل يرى دراج حقا في لغة المدهون كل هذه الفرادة التي يريد تأكيدها؟ قد أذهب معه لفرادة لغة المدهون، لكنها فرادة السطحية والسذاجة والركاكة التي لم يشهدها الأدب العربي من قبل، كما أن النصف الثاني من جملة دراج مجرد كلام غنائي لا معنى له ومن ثم لا يمكن اعتباره لغة نقدية من ناقد يعرف ماهية وآلية النقد، فماذا يعني من الناحية النقدية بقوله: "تجعل من اللغة مرآة للمكان المشتهى والروح المدحورة"؟!
في الوقت الذي أرى فيه ناقدًا بحجم دراج يقول عن رواية "مصائر" لربعي المدهون: "تحدّث غسان كنفاني عن "العار"، وساوى جبرا بين القدس وجمالية المسيح، وانصرف إميل حبيبي إلى سخرية سوداء، واختصر الياس خوري في عمله الكبير "بوابة الشمس" أحوال الفلسطينيين في مجاز المرض، واستجار حسين البرغوثي في "سأكون بين اللوز" بذاكرة الأرض... أما ربعي المدهون فارتكن إلى "بلاغة الحنين" التي تنفذ إلى قلب اللاجئ المنقسم والمهزوم، حيث اللغة تتكئ على بلاغتها، وتثير البكاء ولا تنقذ أحداً"، فأنا مضطر إلى سؤاله جديًا: أين هي اللغة يا دراج؟ وما هي بالضبط "بلاغة الحنين" التي تتحدث عنها؟ ثم أين هي؟ وهل أنت بالفعل مقتنع بما تقول كي تقنعنا؟ ماذا تعني بقولك: "حيث اللغة تتكئ على بلاغتها، وتثير البكاء ولا تنقذ أحدا؟!" أعتقد أنك بجملتك هذه لا تختلف من حيث اللغة عن لغة المدهون حين يقول "توقف متكئًا على انفعالاته"! ثم كيف تنقذ اللغة أحدًا؟ وممَ ستنقذه؟ وأين هي البلاغة التي تريد إيصالها لنا حينما تتكئ اللغة على بلاغتها؟!
أظن أن فيصل دراج هنا يحاول صياغة مجموعة من الجمل الهلامية التي لا تعني شيئًا باعتباره يُدلل على أهمية اللغة الروائية في رواية "مصائر"؛ مما أدى به إلى الوقوع في نفس المنزلق الذي وقع فيه المدهون، وهو المنزلق الذي يؤكد أن كليهما لا يتمتعان بالحساسية الكافية تجاه اللغة والتي تمكنهما من صياغة جملة واحدة سليمة؛ مما يجعلني أتساءل: إذا كانت لغة الناقد المحترم بمثل هذه الرداءة فهل نلوم المدهون؟ ثم أن هذا الأسلوب اللغوي المتطابق عند كليهما يبعث على التساؤل: هل ساعد دراج المدهون في كتابة الرواية وكان من ضمن مَن راجعها لتظهر لنا بمثل هذا الشكل المهترئ؟ الأمر الذي جعل دراج ينظم جمل المدح والمغازلة في لغة مبتذلة لا تمت للأدب بصلة؟
يحاول دراج بكافة الطرق المتاحة له ليّ عنق الحقيقة الأدبية بمساواة المدهون بغيره من الروائيين الفلسطينيين الذين شكلوا التراث الأدبي الفلسطيني وتحوّلوا إلى رموز؛ هؤلاء الروائيين الذين مثّلوا لنا قيمة فنية وأدبية لم تتكرر في الأدب الفلسطيني حتى اليوم، ليقول: "ليس في رواية ربعي المدهون الجديدة "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ما يستأنف أحلام جبرا، المثقف الأخلاقي النادر، ولا شيء من غضب كنفاني التحريضي. قرأتْ الرواية زمناً آخر لا يعد إلا بما فيه، حيث المحتل اليهودي مستقر في "أرض الميعاد"، والفلسطيني مُشتت داخل أرضه وخارجها"، وفي موضع آخر من مقاله يستمر بقوله: "اختلف ربعي المدهون عن سابقيه من الروائيين الفلسطينيين وانتسب إليهم. أخذ من جبرا عشقه المرهق للمكان، ومن إميل متشائله، وتأمل رواية غسان "عائد إلى حيفا" في زمن آخر، حيث لا مكان للبنادق وكثير من المكان تحتله جرائم الشرف المتكاثرة"، وأعتقد أن الناقد هنا يحاول بكافة الطرق الممكنة المساواة بين المدهون وغيره من الروائيين الذين يحتلون الصدارة في التراث الأدبي العربي، مقحمًا إياه في مصاف النخبة وهو الروائي الذي اكتشف موهبته بعد سن السبعين كاتبًا رواية ضعيفة وهزيلة سماها "السيدة من تل أبيب" وألحقها بكارثة أدبية هي "مصائر". وإن كان دراج قد ذهب مثل هذا المذهب فليس إلا محاولةً منه للإعلاء من قدر المدهون لغرض في نفس يعقوب/دراج، وهو الدعاية والترويج للرواية ووقوف النقد في ظهر أدب رخوي سُحب عموده الفقري لمصالح وصفقات تتم وراء الكواليس. هذه المصالح التي تأتي في النهاية على حساب الأدب وضده تمامًا، لأنها تعمل على التكريس لكل ما هو فاسد وضحل أدبيًا.
لا أدري سبب إصرار دراج على الربط بين المدهون وحبيبي، وكأنّ المدهون يُقارن بحبيبي بل ويتفوّق عليه! فهذا ما حاول المدهون نفسه إقناعنا به داخل متن السرد الروائي حين أتى على ذكر حبيبي في أكثر من مناسبة مُقحَمة مستهزئًا به مشككًا في وطنيته: "أشهد بالله العظيم "وكثيرا ما كان يشهد بالله العظيم" إنه هالزلمه رفع رأسنا لفوق فوق، بس أوطى من العلم الإسرائيلي اللي مشي تحته وخلاه أعلى من راسه ومن روسنا كلنا"، وتصفيق دراج للمدهون في هذه الحالة يُعتبر موافقة صريحة منه على  الخيانة التي رُمي بها "حبيبي"، أما تفوّق المدهون عليه بعيني دراج فيظهر فيما يلي: "عاد النص الروائي إلى "المتشائل الجديد باقي هناك" الذي منعه المجيء إلى "فلسطين القديمة" من العودة إلى غزة، فنصفه في مكان احتله الإسرائيليون وغادروه، ونصفه الآخر في مدينة محتلة لم يشأ مغادرتها. كان في متشائل إميل حبيبي ما يثير الضحك، بعيداً من "متشائل" جديد ينتظر موته"، للحقيقة والتاريخ يا دراج أن "باقي هناك"- المدهون لا ينتظر موته، وإنما يُنظّر لموت فلسطين ويحتفي به، فعلى عكس "متشائل"- إميل حبيبي الذي يثير فيك الضحك لأن أسلوب حبيبي نفسه ساخر، كتب فيه روايته بالكثير من الهزل السياسي في فترة الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل على فلسطينيي الداخل، محققًا حالة فريدة برسم شخصية غير سوية يُهيأ لها أنها اختطفت على يد كائن فضائي في مرحلة معينة من السرد، أما شخصية "باقي هناك"- المدهون فهي شخصية سوية والرواية نفسها غير ساخرة؛ لذلك يؤخذ موقفها على محمل الجد، محمّلة المدهون تباعًا مسؤولية موقفها الخائب والتطبيعي بوضوح. رواية خبيثة يطلق فيها المدهون لقب "باقي هناك" على بطله "محمود دهمان" الذي فضل البقاء في يافا على العودة إلى غزة؛ الأمر الذي جعله يُطلق عليه فيما بعد "فلسطيني تيس" في إشارة إلى كل من قرّروا البقاء تحت الاحتلال باعتبارهم مجرد تيوس، ركبوا رؤوسهم ورفضوا التهجير وفضلوا البقاء في أراضيهم ولم يرضوا بتركها لليهود. كما أنه يعمل هنا على تقسيم فلسطين- رغم أنه فلسطيني- إلى هناك وهنا! باعتبار أن "هناك" تعني الداخل الإسرائيلي، وهو البعيد عنه سيكولوجيًا معبّرًا من خلال هذه اللفظة عن اللاانتماء والعمالة وسقوط الوطنية والمبدأ والهوية الفلسطينية، بينما "الهنا" بالنسبة له فهو التعبير عن فلسطين والوطنية والانتماء أي في قطاع غزة والضفة الغربية ككل، وفي هذا تقسيم واضح الدلالة كتقسيم اليهود أنفسهم للشعب الفلسطيني، وكأن "هناك" ليست نفسها "هنا"، وكأن "يافا" ليست بفلسطينية "رام الله"! حتى ليبدو أن هناك اتفاقًا أبرمه مع الإسرائيليين قبل الشروع بكتابة هذه الرواية الخبيثة على دفع سكان الداخل للهجرة خارجه أو الانخراط في المجتمع اليهودي؛ لأن إخوتهم الفلسطينيين المغتربين أو في الضفة والقطاع لا ينظرون إليهم كفلسطينيين أصلاً. فكيف يكون "باقي هناك" إذًا مقابلاً للمتشائل وقد سمى حبيبي روايته "الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل" ليمهد لنا بوجه الغرابة فيها بينما المدهون يمهد لنا برواية ترصد التاريخ وموقفه من القضية الفلسطينية. ومع ذلك نجد متشائل حبيبي المختل يقول: "فكيف تزعم أنك لم تسمع بي؟ أني إنسان فذ، فلا تستطيع صحيفة ذات إطلاع، وذات مصادر، وذات إعلانات، وذات ذوات، وذات قرون، أن تهملني، أن معشري يملئون البيدر والدسكرة والمخمرة. أنا الآخرون"، باعتباره فلسطينيًا تحت الاحتلال ويُسمع له صوت ويتمسك بهويته مع اختلاله، بينما يقول المدهون على لسان "باقي هناكه" العاقل والواعي والمدرك لكلامه والمتنازل عن فلسطينيته: "ربيعة معها حق يا أم فلسطين، الفلسطينية نَوَر، غجر، وقليلين أصل، وما عندهُمّشْ دم ولا حيا، هاجرو من لبلاد ودشَّرو وراهم عفش مكركب، وبوابير مافيهاش كاز، ومن غير نكاشات كمان؟!" انتصارًا لجارته اليهودية التي تسكن بيت أحد الفلسطينيين المهجرين في أعقاب النكبة وتتذمر من عدم تصليح هذا الفلسطيني للسرير الذي تركه لها! أية مغالطة يا دراج هذه التي تدسها في عقل القارئ والدارس بدعمك للفكر الصهيوني الذي يبث المدهون سمومه في طيات روايته ليصل به الأمر إلى اعتبار فلسطينيي الداخل أنصاف فلسطينيين، ففي حوار بين بطلي روايته باسم وجنين يقول المدهون: "رجاها باسم أن يذهبا معا إلى بيت لحم، قال وقد سبقه قراره إلى المدينة: بيت لحم بتسوى العالم كله، تعي معي ع بيت لحم، أهلي واخواتي واللي باقي من أرض أبوي، كله في بيت لحم أو قريب منها، بكرة بيصير إلنا دولة، وبنخلِّف هناك، وبنربي ولاد يكونوا فلسطينية عن جد مش نص نص"، ثم يؤكد أن فكرة بقاء الفلسطينيين في أرضهم وتمسكهم بها تعود إلى انتفاعهم من سلطات الاحتلال التي تمنّ عليهم ببعض الفتات: "روء بسّومتي روء، وما اتجننيش معاك، يمكن ترتاح لعيشتك عند أهلك في بيت لحم، بس أني بخسر عيشتي كلها ومعها كل إشي اتحصلت عليه بعرق جبيني من اسنين، الصحة والطبابة والتأمين الاجتماعي كله"! هل أفهم من هذا يا دراج أنك توافق المدهون على موقفه من فلسطينيي الداخل المحتل بل وتشد على يده؟!
ثم ألم تقل بنفسك في كتابك "ذاكرة المغلوبين" بأن الكتابة حول فلسطين هي أمر فلسفي وإنساني ووطني معًا تتمثل في إخلاص الأحياء للأموات؟ "فقد أخلص غسان كنفاني لفلاحي ثورة 1936م في روايته "العاشق"، وأخلص إميل حبيبي إلى دياره الأولى في كتابه "إخطية".... فعلى كل فلسطيني حي أن يتذكر أن فلسطينيا آخر ساعده على الوقوف، وأن الأموات ما زالوا واقفين بيننا، وأن من لا ذاكرة له لا تاريخ له"، ألم تقل هذا؟ أهذا هو مفهومك عن الإخلاص متجسدًا بموقف المدهون من حبيبي ورميه بالخزي والعار والخيانة؟! الحقيقة أنك أنت من خان وطنه وتاريخه يا دراج فأُكلت يوم أُكل الثور الأبيض!
ألم تقل يا دراج في وصفك للكتّاب الذين وحّدوا بين إبداعهم والقضية الوطنية بأن "الثقافة الفلسطينية عملية متوالدة، يستمر فيها الأجداد في الأحفاد، وأن مآل فلسطين من مآل المنتسبين إليها"، وفي الوقت ذاته تقول: "كان في متشائل إميل حبيبي ما يثير الضحك، بعيداً من "متشائل" جديد ينتظر موته"؟ هل تقصد بأن بطل المدهون الذي ينتظر موته هي فلسطين التي تنتظر موتها بما أن مآل فلسطين من مآل المنتسبين إليها؟! وفلسطين يا دراج إن لم تعلم باقية رغمًا عن اليهود ومدعي الفلسطينية.
 إنّ شخصية "باقي هناك" يا عزيزي شخصية فلسطينية راضخة ومستسلمة ومتعاطفة مع اليهود بكل ما تحمله هذه الشخصية في سياق الرواية من تناقضات تدل على أنها مجرد شخصية متصهينة فقط تعطف على الإسرائيليين وتتعاطف معهم إلى حد لا يمكن تصديقه، ومع هذا يؤكد دراج بأن هذه الشخصية تتطابق مع شخصية المتشائل التي كانت من أهم الشخصيات التي عرفها الأدب العربي على مدار تاريخه، في قوله: "كان في متشائل إميل حبيبي ما يثير الضحك"، كما يذكر في موضع آخر من مقاله: "متشائل إميل حبيبي يستمر متشائلاً في رواية جديدة".
يضيف الناقد قائلاً: "مع أنّ في النص عناقاً بين الواقعي والمتخيّل، كما تقضي الروايات [...]"، في هذه الجملة يحاول دراج تخليص المدهون من الورطة التي وقع فيها بتزييفه للتاريخ الفلسطيني (كما فصّلنا في مقالنا السابق) ليشرعن التلاعب الواضح بالتاريخ ويبرره بالخيال، وكأنّ مساحة التخيّل الوحيدة المتاحة أمام المدهون اقتصرت على تشويه فلسطين دون إسرائيل، لنجد أن شطحات خياله لم تنل من شخصيات الرواية أو أحداثها وإنما نالت من فلسطين وحدها. في رواية تعتمد الدقة والأمانة في نقل الواقع، كما شدد المدهون في مقدمته، ورواية يأتي فيها ذكر معالم فلسطين بشوارعها وساحاتها وفنادقها ومطاعمها، هل يُسمح للمدهون إقحام خياله في تغيير الحقائق؟ مثل تحريفه لطريقة قتل المناضل الفلسطيني عز الدين القسام بادعاء مقتله في حيفا مجرورًا على عربة مُعدّة للحمير، أو ادّعائه بوجود متحف فلسطيني برعاية إسرائيلية لضحايا النكبة الفلسطينية وكأن إسرائيل لها أن تعترف ولو بعد مليون عام بالمذابح التي ارتكبتها بحق الفلسطينيين مقرّةً بكونها احتلالاً ودولة غير شرعية أُقيمت على جثث الشهداء، أو حتى ادّعائه بأن الفلسطينيين أقاموا حفلات جنس جماعي قبيل النكبة ليتسموا بالفجر والفحش والانحلال الأخلاقي في الوقت الذي كان فيه اليهود يقتّلون فيهم وينتهكون حرماتهم المنتهكة أصلاً حسب المدهون: "أغلب أزلام عكا رحلوا عن المدينة سنة الثمانية والأربعين، واتغربوا وما نفعهم كل البوس اللي باسوه، ولا حتى حفلات الجنس الهستيرية التي سبقت الرحيل"، هل تطبيلك للمدهون يا دراج أنساك فلسطينيتك؟ هل ترضى أن يُقال فيمن هُجّر من أهلك مثل هذا الكلام وأنت اللاجئ الذي يسكنه الوطن بحجة أن هذا قد يحمل وجهًا من الخيال؟ إن السياق الذي يتناول فيه المدهون أحداثه سياق واقعي حتى الصميم، وكل هذه المغالطات التاريخية التي بثها بشكلٍ خبيث بين ثنايا نصه لا بدّ أن يعتبرها القارئ حقيقة من جملة ما سيق له، لأنّ المدهون يوثق زيارته إلى فلسطين بشكلٍ أشبه بأدب الرحلات، موحيًا للقارئ بأنه لا يقول إلا صدقًا! ثم لو افترضنا أن ما قاله لا يتعدى الخيال، فلماذا يقتصر خياله على تشويه فلسطين دون إسرائيل؟ وما الهدف أو الدلالة الفنية من وراء مثل هذا التشويه؟ في تدليس المدهون ما يشبه مثلاً سرد روائي ما لمشهد فيه رجل وامرأة يمارسان الحب على سجاد المسجد الأقصى! هل يُسمح لأي كاتب بمثل هذا الخيال في سياق رواية تُعتبر شهادة على الزمان والمكان؟ وهل يقل هذا المشهد فظاعة عن ادعاء المدهون بإقامة الفلسطينيين لحفلات جنس جماعية هستيرية وتناكحهم أثناء تعرضهم للذبح والتهجير والانتهاك! كيف تراوح يا دراج بين الواقعي والمتخيّل المفتقدين في النص أساسًا وأنت بنفسك تقول: "فعاين عكا بيوتًا وشوارع وسورًا، وسار في أسواق القدس وحاراتها، وتأمل طويلاً بحر حيفا، وقرأ شوارعها وأسماءها القديمة"؟ ففي قولك هذا تأكيد على واقعية الرواية وأمانتها في النقل مما يتناقض من ادعائك الأول بالخيالية فيها، كما فيه استكثار على المدهون بأن يذهب في جولة سياحية للقدس وعكا وحيفا، وكأن في زياراته ما يعادل العيش والسكن في هذه الأرض، ليوهم دراج القارئ بأن المدهون أكثر خبرة وإلمامًا وانتماءً للمكان من أهله!
 يستمر الناقد في التورّط مع الروائي بقوله: "فإن فيه واقعية باردة أليمة، مبرأة من الوعد والوعيد، تخبر الفلسطيني عن واقع أقرب إلى الفجيعة، وتضع أمامه يهودياً كامل الحضور، له ملامح إنسانية، ويُعيد تخليق المآسي الفلسطينية بلا انقطاع". هنا، يؤكد دراج مع المدهون على إنسانية اليهودي ومدى ملائكيته التي سترسخ في أذهان القراء غير الفلسطينيين باعتبار الواقع الإسرائيلي شكلا من أشكال النعيم وفردوسًا يحسد فيه الفلسطيني نفسه عليه كأنه نعمة لا نقمة، كما أنها تؤكد لنا أن كل ما يدعيه الفلسطينيون من مذابح وتهجير وانتهاكات واستيطان وإبادة وتهجّم وأسر ليس إلا زعمًا ووهمًا في يومنا الحاضر يضللنا به الفلسطينيون المستفيدون من المتاجرة بقضيتهم في حين أنهم يعيشون بين كنف يهودي "له ملامح إنسانية" كما ذهب دراج والمدهون معًا. وهكذا يقول الناقد من بعد الروائي بأن "الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي" صار طيّ النسيان وانتهى بانتهاء نكبة مبررة!
يقول دراج: "مع ذلك فإن مأساة الفلسطينيين لا تتكشف في المتواليات الحكائية، المتصلة والمنفصلة في آن، بل في خطاب روائي أنتجته رواية تريد أن تكون "شاملة" تمتد، زمنياً، إلى ما قبل النكبة، وتستمر مع استمرارية مأساة لا تكف عن التجدّد"، هنا أكد الناقد على واقعية الرواية التي سبق أن نفاها، فضلاً عن أننا لم نر في رواية المدهون أي مأساة فلسطينية واحدة من الممكن التعاطف معها، بل كان كل تعاطفنا كقراء مع اليهودي المهزوم المنكسر الذي يعاني من العديد من العقد بسبب الأهوال التي سبق أن عايشها في المحرقة (الهولوكوست)، هذا اليهودي المثقل بأدران الماضي والذي يعاني من الكوابيس الدائمة مثل "أفيفا" جارة "باقي هناك" التي تشعل النيران في بيت "باقي هناك" بسبب الضغط النفسي الواقع عليها منذ محرقة هتلر ليأتي "باقي هناك" بقلبه الكبير، يلتمس لها العذر ويسامحها إسقاطًا على مسامحة الفلسطينيين لليهود بما ارتكبوه من فظائع بحقهم (ومن يسمح بانتهاك بيته يسمح بوطنه). كما أننا رأينا المأساة اليهودية في تصوير متحف ضحايا النازية "الهولوكوست" التي حرص المدهون على تصويرها بشيء غير قليل من التفصيل في متنه الروائي؛ الأمر الذي استدر معه دموعنا التي سالت مع دموع وليد دهمان، في الوقت الذي لم نتأثر أو نتعاطف أو نبكي مع فلسطيني واحد، ولم نشاهد مأساة فلسطينية حالية واحدة في الرواية (اللهم إلا مأساة توظيف باسم وتمديد إقامته في إسرائيل)، فأين هي مأساة الفلسطينيين التي يتحدث عنها دراج في مقاله؟!
لعل ما ذهبنا إليه يؤكد كذب زعم دراج حين يقول: "أضاء المدهون "النكبة" بصورة "الهولوكوست" التي حوّلها الصهاينة إلى صناعة رائجة"، لأن كل من سيقرأ الرواية سيتأكد أن المدهون أضاء الهولوكوست فقط مقابل إظلام النكبة تمامًا وجعلها أمام الهولوكوست حدثًا مشروعًا غير ذات أهمية؛ وبالتالي سأتعاطف كقارئ كثيرًا مع ضحايا الهولوكوست ولن أتعاطف مع النكبة التي ادعى دراج أن المدهون أنه يسلط الضوء عليها، بل إن المدهون يذهب في روايته إلى تكريم إسرائيل للشهداء الفلسطينيين في متحفه المزعوم؛ هؤلاء الشهداء الذين تعتبرهم إسرائيل في واقع الأمر مجرد مخربين وإرهابيين ولا تزال حتى اليوم تهدّ بيوتهم على رؤوس عائلاتهم.
في تواطؤ غير مفهوم يحاول دراج التأكيد على ما ذهب إليه المدهون في نصه حينما كتب أن هناك الكثير من جرائم الشرف التي تشهدها فلسطين، حتى أنني كغير فلسطيني تصورت أن المجتمع الفلسطيني هو مجتمع تحدث فيه يوميا العشرات من جرائم الشرف في حين أن هذا يتنافى مع الواقع، صحيح أننا لا يمكن لنا إنكار أن هناك بعض جرائم الشرف التي تحدث في فلسطين مثلها في ذلك مثل جميع المجتمعات العربية، ولكن ليس بمثل هذا الشكل الذي صوره المدهون وساقه في نصه في غير موضع أو من دون مبرر فني، فقد كان حريصا على ذكر الكثير من جرائم الشرف التي جعلتني أتساءل: ما هو المبرر المنطقي أو الفني الذي جعله يحشر مثل هذه الأمور في النص حشرا إلا إذا كان يريد التأكيد على أن هذا المجتمع يعاني أساسا من مشاكل اجتماعية وأخلاقية جديرة بالنظر والاهتمام بها قبل الالتفات إلى "القضية الفلسطينية"، من حق المدهون كروائي بالطبع أن يسوق مثل هذه الأمور في نصه الروائي ولكن لابد من وجود مبرر فني أولا كي يسوقها، لكنه كان حريصا عليها من باب الثرثرة فقط حتى أني رأيته كنساء الحارة الجالسات على عتبات البيوت يثرثرن ويلُكن سيرة جميع الفتيات اللاتي يمررن أمامهن، وهنا يقول دراج: "تكتمل مأساة الفلسطيني المهزوم "بشرف البنت العربية" في اضطهادها الموروث الذي يطغى على عسف الاحتلال الصهيوني"، وهو هنا يؤكد على ما ذهب إليه المدهون مما لا نراه على أرض الواقع في حقيقة الأمر، بالإضافة إلى أنه لم يسأل الروائي ما هي الضرورة الفنية التي جعلته يتحدث عن هذا الأمر في حين أن السياق الروائي لا يحتمله وليس هناك حاجة إليه!
في محاولة أخيرة لتزييف الواقع النقدي والفني في رواية المدهون يقول دراج: "انتهى الجهد الروائي المتميّز إلى بنية حكائية معقدة"، في حين أن الرواية لم يكن فيها أي لون من ألوان الجهد الروائي كما يذهب دراج وهذا ما سبق أن أوضحناه بالتفصيل في دراستنا الطويلة عن الرواية المهلهلة التي لا يحاول الروائي فيها بذل أدنى مجهود لاجئًا في كتابتها إلى الكسل الكامل في معايشة القضية، فكان من الأجدى بدراج بدلاً من إطلاق الكلام على عواهنه، أو كتابة جمل في الهواء الطلق أن يحدد لنا أين الفنية والبناء والجهد المتميز الذي رآه في الرواية التي كتبها المدهون؟ وهذا ما يعود دراج إلى التأكيد عليه في نهاية مقاله مرة أخرى وكأنه يريد إقناعنا بمقولته من دون أن يحددها ويفصلها لنا كناقد بقوله: "انتهى المدهون إلى نص روائي متميز جدير بالاحتفاء، يساوي بين اللاجئ وظلم الوجود الذي لا يروّضه أحد"، فلم كان النص الذي بين يديه متميزًا رغم افتقاره إلى أداته الأولى في كتابة الأدب وهي اللغة؟ وهل يمكننا الاحتفاء بنص روائي ينتسب إلى الأدب حين يفتقد النص إلى اللغة السليمة والمشبعة بالدلالات؟ كما أننا لو قرأنا باقي الجملة التي كتبها دراج فلا بد من تساؤل آخر أهم وهو: ماذا تقصد بقولك: "يساوي بين اللاجئ وظلم الوجود الذي لا يروّضه أحد"؟! إن الجملة ملتبسة وغير مفهومة وشديدة التجريد، ولا يمكن لها أن تعطينا معنى محدد، حتى أني أستطيع أن أطلق عليها بأنها جملة "مدهونية"- نسبة للمدهون- بجدارة وكأنك يا دراج قد تأثرت بالرواية فباتت لغتك غير مفهومة كلغة الرواية أو أنك حتى ساعدت المدهون في كتابتها أو مراجعتها لتتماهى لغتيكما لهذه الدرجة!
في مقال الناقد الفلسطيني- الذي كان قبل المدهون قامة كبيرة- فيصل دراج ما يؤكد- كما ذهب هو- أن رواية "مصائر" هي رواية فلسطينية شاملة، حينما قال: "شاء الروائي رواية فلسطينية شاملة، ترجع إلى ما قبل "النكبة""، وأظن أني كممارس للأدب أو كمتذوق له لم أرَ من قبل رواية شاملة (وليس هذا مطلوبًا من الرواية، فمنذ متى تُعتبر الروايات تلخيصًا للتاريخ!)، وأرى أن إطلاق مثل هذه المقولات الكبرى التي لا تتناسب مع التحديد النقدي هو مجرد تدليس على القارئ بجملة فضفاضة لا روح للنقد فيها، وإذا كان المدهون قد كتب رواية شاملة فماذا سيكتب لنا فيما بعد؟!
"في رواية ربعي المدهون "مصائر" ما يعطي رواية المسألة الفلسطينية بداية جديدة"، هذه هي الجملة التي يختتم بها الناقد فيصل دراج مقاله العجيب الذي لا يمت للنقد بصلة بقدر ما يمت للمداهنة، وهي الجملة التي أؤيد دراج فيها بالذات فيما رمى إليه، فهي بالفعل بداية جديدة نحو الصهينة وتزييف التاريخ والواقع الفلسطيني، وليست مجرد بداية جديدة للمسألة الفلسطينية التي صارت محلّ تساؤل لا قضية، وقد نستطيع الذهاب أيضًا إلى أنها بداية جديدة في تزييف النقد والواقع الثقافي كله حينما يحتفي ناقد كبير بمثل هذه الرواية مثل هذا الاحتفاء المبني على باطل من أجل المصالح والمجاملات، وأكل العيش.


موقع بتانة الثقافي 
28 يونيو 2016م 

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

اشتباك خاص مع ناقد غادره النقد: السقوط الأخير لصلاح فضل

إذا ما تأملنا ما يكتبه الناقد الكبير صلاح فضل في جلّ مقالاته التي يستهويه وصفها بأنها نقدية سنلاحظ أن معظم ما يكتبه مجرد حشو لا طائل من ورائه، بمعنى أنه لا يفعل أكثر من تلخيص الأعمال التي يكتب عنها تلخيصًا جيدًا إلى حد ما، ثم يرفق هذا التلخيص بإطلاق مجموعة من الأحكام الانطباعية، وربما الانفعالية، من دون التعرّض للنقد الأدبي والعلمي الذي نعرفه ونفهم آلياته! أي أن صلاح فضل في النهاية مجرد كاتب "عروض" (Review) محترف للأعمال الأدبية، ويُطلق على هذه العروض نقدًا. كما أننا لم نره لمرة واحدة يُدلل على صدق ما يذهب إليه بشكل نقدي عند إطلاقه لأحكامه الانطباعية هنا وهناك، بل يكفيه أن يطلق حكمه في الهواء، وعلى القارئ المسكين- الخاضع لسلطوية فضل كما يظن- أن يصدق أو يأخذ ما قاله الناقد الحكيم كأنه كلام مقدس لا يمكن الشك فيه؛ لأنه إله النقد المصري الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ربما كان هذا اللون من الاستسهال في ممارسة النقد، والتعامل معه بمثل هذه الأريحية من دون الاهتمام بما يكتبه هو ما يجعلني أشكك دائمًا في كل عمل أدبي يكتب عنه فضل؛ لأنه في النهاية مجرد عرض لعمل أدبي يعمل الناقد على مجاملة صاحبه لمنافع خاصة ليس لنا فيها ناقة ولا جمل. أي أن الكتابة هنا باتت من قبيل المجاملات والمحاباة فقط، وخرجت تمامًا عن إطار النقد الأدبي الحقيقي كما يُفترض به أن يكون، ففضل لا تعنيه آليات النقد لأنه صاحب الاسم المتضخم الذي لا يمكن مغالطته أو معارضته، بل ويلهث الجميع خلفه باعتباره مركزًا من مراكز القوى في النقد العربي مما يعطيه الحق بكتابة أي غثاء أو أي كلام متهافت ثم يقول وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، هاكم نقدي، وعليكم أن تؤمنوا به!
في مقاله-غير النقدي- الذي كتبه في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يونيو 2016م بعنوان ""مصائر" الشتات الفلسطيني في رواية المدهون" يصول ويجول الناقد مُدلسًا على القارئ حتى أنه يوهمه بأن رواية ربعي المدهون هي أهم رواية صدرت في الوطن العربي كله في الآونة الأخيرة، وبالتالي فلا بد لنا أن نسجد للمدهون الذي كتب هذا العمل البديع مُتحدثًا عن المأساة الفلسطينية ومعاناتها، بينما الحقيقة الأدبية التي يعرفها معظم من قرأ الرواية أن المدهون لم يكتب رواية؛ بل كتب لغوًا لا علاقة له بالأدب ولا اللغة ولا الجماليات. كما حرص من خلال هذا اللغو على تشويه التاريخ الفلسطيني والانتصار للـ "قضية الإسرائيلية"، إذا جاز لنا استعارة وصف القضية الفلسطينية وإسباغها على إسرائيل تماشيًا مع النزعة الصهيونية للمدهون في روايته.
يقول الناقد الكبير- في السن-: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد، موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة، موضوع رواية ربعي المدهون التي ظفرت بجائزة البوكر هذا العام بعنوان "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة"". خلال قراءة الفقرة الأولى في مقال الناقد صلاح فضل يتوهم القارئ بأن هذه الرواية إنما تدور حول المأساة الفلسطينية والألم الفلسطيني، ولعل الجملة الأولى التي بدأ بها فضل مقاله هي جملة شعرية تعمل على دغدغة مشاعر القارئ لا إعمال عقله ليتخذ بالتالي موقفًا شعوريًا من الرواية ويتقبّل كل ما سيجود به الناقد عليه. لقد كان فضل ذكيًا في افتتاحية مقاله من حيث اللعب على مشاعر القارئ المتعاطف بفطرته مع القضية الفلسطينية، وبذلك فهو يؤهل القارئ غير الحصيف لتقبّل مادته ويعمل على اجتذابه إلى صفه حينما يقول: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد"، ثم سرعان ما ينسب هذه المشاعر الفضفاضة إلى الرواية التي يتحدث عنها، باعتبار أن الروائي كان يقصد ذلك من وراء روايته الزائفة لا النازفة.
إذًا فصلاح فضل ككاتب "ريفيوهات" متمكّن كان من الذكاء بجملته الافتتاحية ما هو كفيل بجعل القارئ منساقًا خلف ما سيغدق به عليه لاحقًا، ومن هنا يكون كل ما سيأتي بذكره فيما بعد من أحكام مطلقة- لا دليل نقدي عليها- من باب اليقين الذي سيوهم القارئ بصدقه وواقعيته، في حين أن واقع الرواية لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى المأساة الفلسطينية الموجعة التي مست شغاف قلب صلاح فضل. ولو كان الناقد فعلاً يرى فاجعة فلسطينية فقد كنت آمل منه أن يُدلل على مقولته من متن النص الروائي بما يؤكد قوله باقتباس أو اثنين، لكنه كان حريصًا منذ فقرته الافتتاحية على إيهام القارئ بأنه أمام رواية استثنائية في تناولها للقضية الفلسطينية (على نهج ما فعله المدهون في مقدمته الخائبة ممجدًا ذاته وكتابته التي لم ترد من قبل على قلب بشر)، والحقيقة أنها فعلاً استثنائية ولكن في خيانتها للقضية الفلسطينية.
يقول الناقد القدير: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد" في حين أن المدهون في روايته أبرز المأساة اليهودية فقط، وما عاناه اليهود سيكولوجيًا من جرّاء محرقة الهولوكوست، ولم نر حقيقةً أية مأساة فلسطينية كما ذهب فضل، فنحن نرى باسم زوج جنين في الرواية متعاطفًا مع جارته اليهودية "بات- تسيون" التي يعني اسمها في العربية "بنت صهيون" فيقول الروائي على لسان جنين: "كانت تعرف أن باسم يرتاح حين يطل برأسه من النافذة، ويرى جارتهم اليهودية، بات- تسيون، يغفو على راحته كأنه في قيلولة بعد ظهيرة يوم حار، يتابع بات- تسيون منشغلة في إنجاز لوحة جديدة"، إذًا فباسم الثائر والمستاء من الوضع الفلسطيني والراغب في العودة إلى أمريكا وترك الوطن، والذي يرى أن من يقيمون في الداخل الإسرائيلي ليسوا بفلسطينيين كاملين (بوصفه لهم "فلسطينيين نص نص")، لا يرتاح سيكولوجيا إلا من خلال تأمل جارته اليهودية "بنت صهيون"! وبما أنه يرتاح لها نفسيًا كثيرًا فهو يُفضل أن يُطلق عليها اسمًا آخر وهو "بنت السلام"، وأحيانًا كان يُدللها مطلقا عليها اسم "بات" فقط، فنرى في الرواية: "نفذ باسم رغبته واستمتع بها، صار ينادي جارته "بت- شالوم"، أُعجبت العجوز بالتسمية كثيرا، حتى أنها صارت تنتظر مرور باسم من الحارة، أو ظهوره قرب النافذة، وتتظاهر بالانشغال كي ينادي عليها، وتسمع اسمها الجديد منه"، هنا أحب أن أسأل الناقد: أين هي المأساة المريرة والموجعة التي تتحدث أنت والمدهون عنها؟ أنا لا أرى سوى مجتمع بديع يسوده السلام والحب بين أبناء الوطن الواحد من اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون مع بعضهم البعض في سعادة ووفاق، بل ويُدلل الفلسطينيون منهم اليهود وينادونهم بأسماء التحبب والتقرّب.
في موضع آخر من الرواية نرى "باقي هناك"، وهي الشخصية التي يُطلق عليها المدهون تسمية "فلسطيني تيس" في إشارة إلى كل من أصرّ على البقاء في الداخل الفلسطيني باعتباره تيسًا، "باقي هناك" الذي يكاد يكون متيّمًا بجارته "أفيفا" اليهودية والتي يُدللها بإطلاقه عليها اسمًا عربيًا وهو "ربيعة"، متعاطفًا مع هذه الجارة التي عانت كثيرًا من المحرقة النازية الأمر الذي جعل الكوابيس تطاردها في تصوير مأساوي من المدهون لمعاناتها، فيقول مثلاً حينما أحرقت "أفيفا" بيت "باقي هناك" نتيجة كابوس قضّ مضجعها: "ذات بعد ظهيرة، استغلت جارته اليهودية أفيفا، غيابه وعائلته عن البيت، ورشت على حائطهم المجاور زجاجة كيروسين، وأشعلت النار فيه، وراحت تصرخ "شوأاه شوأاه"، حتى ملأت حارة الجمل في اللد صراخا"، والمدهون هنا يريد الإمعان في وصف المأساة الموجعة التي يعاني منها اليهود بسبب المحرقة التي تعرضوا لها في حين أننا لم نر أي وجه من أوجه المأساة الفلسطينية داخل الرواية، بل كان التركيز على المآسي اليهودية فقط. وحينما تأتي الشرطة للتحقيق في الحريق الذي افتعلته "أفيفا" يكتب: "سامح جارته وعفا عنها، ورفض مقاضاتها، قال: "خلّينا انحلها حل عرب" مع أن الطرف الثاني، المتهم، ليس عربا، قال لضابط الشرطة الذي تولى التحقيق في الحادث: "غفيرت أفيفا وحيدة وغلبانة وما حدّش بيعتب عليها، اللي شافته في حياتها ما شافه بشر، اللي شافته جننها وأفقدها أعصابها، شِئِلوهيم يعمود لتْسيداه، الله يساعدها ويكون ف عونها، زي ما بتقولوا بلغتكم اللي ما بنستغنى عنها لحتى تفهموا علينا"؛ الأمر الذي راق لضابط الشرطة الإسرائيلي كثيرًا؛ مما جعله يرد بقوله: "لو كل العرب زي هالزلمة، لكنا حرقنا كل بيوت العرب وهمّ مبسوطين ع الآخر"؛ ومن خلال الموقف الذي سقناه الآن بين باقي هناك وبين أفيفا ما يُكذّب صلاح فضل بشكل فاضح ومخزٍ حينما نقرأ قوله في مقاله: "يرصد الكاتب بدقة تناقض مشاعره في علاقته بجارته اليهودية المجنونة من أعقاب الهولوكوست الألماني، وكيف سامحها بعد أن سكبت البترول على جداره لتحرق منزله، وأصبح هو الذى ينجدها في نوباتها الهستيرية"، فهل فيما رأيناه تجاه أفيفا من باقي هناك أي لون من ألوان الصراع وتناقض المشاعر من جهة الفلسطيني الذي انتُهك بيته أم الحب والتسامح؟ وأين الدقة في تناقض المشاعر هنا؟ وهل يرى صلاح فضل في كل هذه السماجة وهذا الاندحار الفلسطيني وهذا التذلل شكلا من أشكال المرارة والوجع والتعقد المزمن كما ذهب في افتتاحية مقاله؟! إن الفلسطيني هنا مجرد شخص مُداهن ومتذلل ومحب ومتصوف في تماهيه مع مأساة أخيه اليهودي الذي عانى الكثير في أعقاب المحرقة النازية، بينما لم نر أي توحّد وتضامن مع معاناة فلسطيني واحد داخل الرواية.
في موضع آخر من الرواية حينما يتحدث الروائي عن زيارة وليد دهمان لمتحف "يد فاشيم" أو متحف ضحايا المحرقة النازية "الهولوكوست" يكتب على لسان دهمان بعد تأمله لما في المتحف: "وصلتني الرسالة، وإنسانيا فهمتها، عليّ أن أتذكر هؤلاء الضحايا، وكلماتهم الأخيرة المهربة، طلبتُ لهم الرحمة من الله كضحايا للنازيين مرة، وضحايا من يتاجرون بمأساتهم مرة أخرى"، بل وكادت الدموع تطفر من عينيه. هنا أود أن أتوقف للتوجه إلى الناقد صلاح فضل: هل رأيت في هذه الموضع وغيره من المواضع في رواية المدهون الوجع الفلسطيني ومرارته؟! نحن لم نر سوى الوجع اليهودي الذي يتعاطف معه الروائي ويغرق في وصفه، فلِمَ تحاول التدليس على القارئ بمثل ما قلته، ولمصلحة من؟!
إذا ما تابعنا الجملة النقدية العبقرية التي كتبها فضل في فقرته الأولى من مقاله نراه يقول: "موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة" قاصدًا بذلك الشعب الفلسطيني الذي صوّره الروائي في روايته، في الوقت الذي لم نر في هذه الرواية سوى رحلة سياحية قام بها الروائي واضعًا آراءه على لسان بطله "وليد دهمان"، مثله في ذلك مثل أي سائح يزور فلسطين المحتلة من دون أي مشاعر انتماء، أو توحّد، أو حتى شفقة تجاه ما يعانيه الفلسطينيون، بل كان الانتماء كله لليهود الذين احتلوا هذه الأرض احتلالاً مُبررًا في أعقاب المحرقة النازية، فعن أي ترسيخ يحكي فضل وبطل الرواية ذاتها منسلخ عن هذه الأرض لا يربطه بها سوى الحمص والكنافة؟ ثم تأتي جملة فضل التالية التي يقول فيها: "تعرض فجيعة الجيل الثاني من أبناء فلسطين المغتربين والمقيمين كرهاً على ضفتي الأرض المستوطنة بالعنصرية"، وهنا يكمن التدليس والتزييف للواقع الثقافي بنَسب فضل للرواية ما ليس فيها افتراءً على القارئ والأدب؛ لأننا في حقيقة الأمر لم نر سوى الفجيعة اليهودية، وتشويه صورة المجتمع الفلسطيني.
في نفس السياق التدليسي يقول فضل: "بيد أن الأنغام التي تنبعث من رواية المدهون مشحونة كلها بالشجن والأسى والحسرة، لا تسمح بالتنويع البهيج ولا المزج الرائق بين الفرح والحزن، حيث يطوى الكاتب بسرعة ما قد يتيح له فرصة الغوص في ترانيم العواطف السارة"؛ أين هي الأنغام التي سمعتها أيها الناقد العظيم ولم نسمعها نحن، هل كُشف عنك الحجاب؟! أم أنها الأنغام المتصاعدة من قول المدهون: "ضحك "باقي هناك" بصوت عال، ثم بكى بصمت أعلى على ما وصلت إليه حال اليسار في البلاد، وساعدته حسنية في البكاء هذه المرة أيضا، وسألته ما سألته من قبل: "أساعدك بدمعتين يا بو فلسطين؟ بحياة الله تاخد لك نقطتين، يا زلمة والله عندي اللي يكفيني لكل المصايب، من سنة الثمانية والأربعين وأني بجمّع دموع"، هل ترى في مثل هذا التعبير السمج أي أنغام؟! وهل هي أنغام جمالية ودلالية ولغوية، أم هي أنغام العزف على معاناة اليهود في المحرقة واستمالة لقلوبنا بإنسانيتهم؟! ما تقوله الرواية إن اللحن الفلسطيني آل إلى زوال وطغى اللحن الإسرائيلي يعزفه المدهون ويطرب له القارئ العربي.
يبدع صلاح فضل أيما إبداع في كتابة الجمل الغنائية المفرغة المعنى، والتي تبتعد كل البعد عن النقد الأدبي، وهو لا يرغب من وراء هذه الجمل التي يعمل على صياغتها بشكل غنائي وأدبي إلا أن يثبت أهمية الرواية وجمالياتها الافتراضية، وإطلاق الأحكام الجاهزة والزائفة حينما نراه يقول مثلا: "هذه الوصية التي تتطلب رحلة العودة من الابنة وزوجها إلى الأرض المحتلة هي الخيط الناظم لهذا اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معاً"؛ ففضل هنا ينظم جملة غنائية لا نقدية، كما أنه يحاول البناء على الهواء من دون وجود أساسيات نقدية يعتمدها في مقاله، أو على الأقل يحاول التدليل عليها من متن النص، فكان كل ما يقوله مجرد أحكام انفعالية وانطباعية فقط لا دليل نقدي عليها، والغريب أنه يحاول غير مرة التأكيد على "اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معا" مع أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في النص الروائي إلا بشكل سطحي ومفتعل لا يُذكر إلا للسخرية من فكرة العودة، وإحقاقا للحق أود أن أؤكد موافقتي لفضل فيما ذهب إليه من وجود لحن جنائزي، وهو اللحن الخاص بمأساة الهولوكوست والذي أثّر فينا أيّما تأثير حتى خرجنا من الرواية متعاطفين مع اليهود على حساب أهلنا الفلسطينيين.
حينما يتحدث الناقد في مقاله العجيب عن اللغة الروائية الأكثر عجائبية لربعي المدهون يقول واثقًا ثقة لا مبرر لها: "لكن ما يفتن القارئ في أسلوب الرواية هو قدرة المبدع على تجسيد روح المكان ورنين الزمان في اللهجة المهجنة المغتربة، للمقيمين أو الزوار المتواطئين معهم، كما تتجلى في الحوارات الشائعة، في هذه اللهجة التي تسرى في العمل كله تبرز المفارقات المسنونة والتناقضات المثيرة في أوضاع المتحاورين وعوالمهم المتضاربة، مما يصل في أحيان كثيرة إلى منطقة الفكاهة الدامعة، هذه اللغة التي يعجنها ربعي المدهون ويخبزها في طابونه الروائي بمهارة فائقة هي الأقدر على تمثيل عذابات الشتات الفلسطيني الموزع على الأمكنة والأجيال والثقافات برهافة شعرية فائقة"؛ هل يعتقد فضل أن هذه الفقرة المصوغة بهذه العبارات اللزجة هي فقرة نقدية حقًا؟! وبغض النظر عن أن هذا يسمى دهنًا لا نقدًا، فإن كل من يوافق فضل فيما ذهب إليه لا بد أن يطمر رأسه بالرمال خجلاً ومهانة كلما قفزت أمامه جملة من الجمل المدهونية في الرواية؛ فأي قارئ متوسط الثقافة يدرك في أي صفحة يفتحها من الرواية بأن ما يدعيه فضل يسمى مغالطة وزيفًا نقديًا؛ فالكارثة الحقيقية والأولى في رواية المدهون هي اللغة يا سيادة الناقد الفذ، والمشكلة أن المدهون ليس لديه حس لغوي أصلاً؛ وبالتالي فهو عاجز عن كتابة رواية، فكيف تأتي أنت بعد ذلك لتتغزل باللغة التي سيخبرك أي مراهق في المرحلة الثانوية إذا ما قرأها: "هذه لغة طالب فاشل يحاول تلمس خطواته الأولى في الكتابة، ومازال أمامه الكثير كي يتذوق اللغة". يبدو أن ذائقة الناقد اللغوية هنا فاسدة؛ الأمر الذي جعله يطلق حكما نقديًا مجانيًا في حديثه عن لغة عقيمة وجوفاء من دون الاستشهاد بأي اقتباس من الرواية للتدليل على هذه اللغة ذات الرهافة الشعرية الفائقة من وجهة نظره!
هل هناك من يقول في مقال نقدي: "برهافة شعرية فائقة"، وإذا ما سلمنا بالرهافة الشعرية التي تتحدث عنها، فأين موضع مفردة "فائقة" مما تقوله؟! أين التفوّق الذي رأيته ولم تره عند غيره في هذا اللغو الذي أحاق بالرواية من أولها إلى آخرها، هل هو في قول المدهون: "صُدمت عمتي، وأخذت عن أمي بقية انفعالاتها وانفعلت بها"؟ هل تعتقد أن هذه الجملة هي جملة روائية وشعرية فائقة؟ ومنذ متى كان تشييء المشاعر مقبولاً بمثل هذا الشكل الفج في عمل أدبي أو في الحياة عامةً؟ وهل من الممكن أخذ بقية الانفعالات من شخص ما ثم الانفعال فيما بعد ببقية هذه الانفعالات التي تخص الآخرين؟! أوصاف المدهون غير منطقية كي تكون أدبية، وهو عاجز عن توظيف اللغة والتعبير عنها بشكلٍ سليم ومفهوم حتى تنهال عليه بكل هذه الإطراءات الزائفة، هل هناك من يصف شخصًا ما بقوله: "نحيف إلى حافة السمنة"؟ وهل ترى في هذا الوصف المتناقض أية شعرية؟ أم تراك ترى الشعر في جملة: "أخذت شبابها كله معها، وألقت به وسط مجموعة من الشبان، انهمكت في الرقص وسط الصالة، وقفتُ أراقب جنين تتمايل حول خصرها بخفة سنبلة قمح"، هل رأيت أنت في حياتك مَن تتمايل حول خصرها؟ وكيف من الممكن لأي قارئ أن يُركب الصورة ذهنيًا حينما يتوجّب عليه أن يتخيّل أن هناك من يتمايل حول خصره؟ هل خلعت جنين خصرها ووضعته أمامها كي تتمايل حوله؟! إن اللغة هنا لا يمكن وصفها إلا بأنها هراء؛ هراء خالص، أو لغة شخص سكران ثمِل من فرط ما تناوله من الكحول الرخيص؛ في حال اعترافه بذلك ساعتها فقط يمكننا أن نلتمس له العذر ونتقبّل هذا الهذاء والهراء اللغوي، لا شاعريته الفائقة التي ذهبت أنت إليها، إلا إذا كنت تؤمن حقا بأن قوله: "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني" فيه من الرهافة الأدبية والشعرية ما زلزل مشاعرك! لو كان هذا صحيحًا فاسمح لي أن أبلغك بأنك تفتقد إلى الحس اللغوي والحساسية الأدبية والذائقة الجمالية وأنك تتغزل برواية تعتمد التشييء في لغتها بشكلٍ لا يتفق مع الوجع والحنين الذي ألصقته بها، ومن ثم لا يصح -بعد مقالك عن المدهون- أن تكتب نقدًا عن الأعمال الأدبية؛ لأن أداة الأدب الأولى هي اللغة، وبما أنك لا تتذوق اللغة في الأساس فمن البديهي ألا تتعرض لأي فن لغوي بعد اليوم.
هل من الممكن أن أقول "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني"؟! إذا ما قلتُ هذه الجملة أمام أي شخص فهو بالتأكيد سيتهمني واثقًا وبشكل يقيني أني أعاني من خلل نفسي، ولابد من الذهاب إلى الطبيب للعلاج قبل استفحال الحالة النفسية السيئة التي وصلت إليها، وهي الحالة التي تجعلني أحادث نفسي حتى لا تُفاجأ، أو تقوم هي بمفاجئتي فأندهش منها! أتمنى من الناقد الفاضل صلاح فضل أن يتحلى بشيء من اسمه ولو قليلاً ويهبنا من فضله بالتزام الصمت حينما يرغب بالحديث عن اللغة مرة أخرى؛ فكلامه المُطلق إنما هو دليل على انعدام الأمثلة الحية من الرواية التي تزاحم جملها بعضها في رداءتها، وإنما دليل على تملقه للمدهون على حساب الأدب.
رغم أن الناقد صلاح فضل له باع طويل- أشك فيه اليوم- في النقد الأدبي، ورغم أن الناقد لا بد أن يتحلّى بحاسة البحث الدؤوب والتدقيق في كل ما يذهب إليه، إلا أننا نرى فضل حينما يكتب ما يدعوه نقدًا لا يبذل أدنى قدر من الجهد بما يتفضّل به علينا وكأنه يمارسه بلون من ألوان الكسل والإرغام والضجر- باعتباره مجرد أكل عيش- لابد من فعله. فحينما ندقق النظر في مقاله الذي كتبه عن رواية المدهون سيتبيّن لنا أنه لم يعبأ بأي شكل من أشكال الدقة في كل ما كتبه؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من المغالطات غير المتعمدة التي يمكن إضافتها إلى مغالطاته التي تعمدها من أجل تجميل الرواية ومجاملة كاتبها.
يقول فضل في مقاله: "يجترح المؤلف فيها تقنية مبتكرة، تتمثل في "توليف النص في قالب الكونشرتو المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين: يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حيث يظهر بطلان رئيسيان آخران لحكاية أخرى، ثم يذوبان في الحركة الثالثة في حضور أقربائهما وأصدقائهما من الأبطال الجدد، وينتهى الجميع في الحركة الرابعة والأخيرة إلى نقطة البداية ليصبح محور العمل كله هو العودة المستحيلة والأرض المغتربة وأشباح حروب الإبادة اليهودية والفلسطينية الماحقة"؛ بغض النظر عن استخدام مفردة "اجترح" التي أرادها الناقد هنا بمعنى "الاختيار بعناية"، فإن استخدام المفردة "اجترح" تُعزى معجميا إلى اكتساب الذنوب والخطايا، وأنت هنا وُفقت كثيرا في اختيارك لهذه المفردة؛ لأن هذه الرواية فعلاً خطيئة. إن هذه الفقرة تُدلل لنا بشكل واضح أن فضل مجرد ناقد كسول يرتكن إلى كسله ولا يرغب في نفضه عنه؛ فهو هنا يُقر بأن رواية المدهون جاءت على شكل الكونشرتو المكون من أربع حركات؛ وهو لا بدّ استقى معلوماته هنا من المقدمة الهزيلة التي كتبها المدهون وشرح لنا فيها أن الرواية كُتبت بمثل هذا الشكل الذي يتوهمه، في حين أن الكونشرتو في حقيقية الأمر يتكوّن من ثلاث حركات فقط لا غير! وهنا يتبين لنا أن فضل اعتمد على ما قاله المؤلف في مقدمته ولم يحاول تحميل نفسه عناء البحث كي يتأكد من هذه المعلومة التي تفضح جهله، ليقرّ بما قاله المدهون في مقدمته منساقًا إليه كثور في ساقية. وإذا ما كان الناقد متكاسلاً عن البحث والتدقيق في معلوماته التي يؤسس عليها نقدًا سيشهد عليه التاريخ؛ فمن الأجدى به ألا يكتب نقدًا مرة أخرى، لكن صلاح فضل سرعان ما يدهشنا حينما يعود في فقرة أخرى من مقاله ويقول: "فإن استعارة شكل الكونشرتو الموسيقى المكون في الأغلب من ثلاثة أجزاء تلعب فيها آلتا الكمان والفلوت الدور الرئيسي بجانب الفرقة الموسيقية، وتتراوح أجزاؤه بين السرعة الأولية ثم الهدوء الناعم قبل العودة للإيقاع اللاهث، هذا الشكل يلائم الرواية التي تلعب فيها النماذج البشرية والأصوات المتعددة دور الآلات الموسيقية في جوقة الحياة"، إن الرجل هنا يتناقض مع نفسه بشكلٍ غير مبرر، وهذه الفقرة تتناقض مع الفقرة التي سبقتها كذلك بشكلٍ مدهش، وهذا يعود إلى ما يلي: إما أن فضل نسي الفقرة التي سبق أن أكد فيها رباعية الكونشرتو الموسيقي، أو أنه يدرك ثلاثية الكونشرتو ولكنه يرغب في التواطؤ مع رباعيات المدهون، ولأنه لا يريد أن يغالطه على الملأ فقد كتب فقرة حول رباعية الكونشرتو ثم ألحقها بفقرة حول ثلاثيتها، ليسوق فيها التعريف الصحيح متأخرًا من دون تخطيئ الروائي.
من الجمل النقدية التي وردت في مقال فضل والتي تدل على عدم اهتمامه بما يلقيه على القارئ من استنتاجات، وعدم تدقيقه وأمانته في التحليل بموضوعية؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من الأخطاء التي لابد سيصدقها القارئ باعتبار أنها جاءت على لسان الناقد الكبير قوله: "في آخر اجتماع تعقده إيفانا وأسرتها ومحاميها كي توصيهم بحرق جثتها بعد وفاتها وذرو قدر من رمادها على نهر التايمز حيث عاشت عمرها الطويل، ووضع الجزء الآخر من رمادها في قنينة خزفية تسد أيقونتها الأنيقة لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"؛ في الجملة الأخيرة من هذه الفقرة يتحدث الناقد بثقة وتعالٍ قائلاً: "لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"، في الوقت الذي ذكر فيه الروائي داخل روايته أنها أرادت أن يكون رمادها في بيتها القديم في عكا، وإذا لم يستطع وليد وابنتها فعل ذلك فعليهما العمل على وضع الرماد في أحد البيوت الفلسطينية في القدس، أي إما هذا أو ذاك، وليس كما ذهب فضل برغبتها في وضع الرماد هنا وهناك، أي في عكا والقدس معًا، فنصّ ما قالته إيفانا في الرواية هو: "خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة، خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث وُلدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت، يا أصدقائي وأحبتي، يوما ما، ولا أظنه بعيدا، سأموت، أريد أن أُدفن هنا وأن أُدفن هناك، ثم صمتت قليلا، وشاركها الجميع صمتها لدقيقة أو أكثر، قطعته بعدها لتوجه كلاما آخر لجولي ووليد: إن تعذر الأمر لسبب ما، أكون سعيدة لو أخذتما هذا النصف من بقاياي، إلى القدس القديمة، أعرف أن لوليد أصدقاء هناك، وقد تروقكم زيارتهم وترتيب وضع التمثال عندهم، أو عند أي عائلة فلسطينية يمكن أن تقبل ذلك"، لذلك توجّب عليك يا فضل أن تميّز بين وأوآتك وأوأواتك على شاكلة الصياغة المدهونية.
عدم التدقيق في تناول صلاح فضل للرواية في مقاله يتضح في غير موضع من هذا المقال مثل قوله: "فالراوي يحكى قصة لقائه في مطار القاهرة براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائماً، يقرأ في صحيفة القدس العربي مقالاً لربعي المدهون بعنوان "لا تصدقوهم، لم ينسوني بعد أربعين عاماً"، فيستنتج أنه هو الكاتب"، ولعل هذه الفقرة وحدها من مقال فضل تُدلل على أن فضل لا يقرأ، وإن قرأ فهو يقرأ بعدم اهتمام وتركيز؛ الأمر الذي يجعله يخلط الأمور ببعضها ويترتب على ذلك مقال- غير نقدي- فيه الكثير من المغالطات والتناقضات التي تنزاح عن العمل الذي يتناوله النقد انزياحًا حادًا؛ فالراوي حكى فعلاً عن لقائه براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائمًا، يقرأ في صحيفة القدس العربي بالفعل، لكن هذا الحدث لم يكن في مطار القاهرة كما ذهبت يا فضل، بل كان في مطار "بن جوريون"؛ لذلك أرجو منك أن تتفضل علينا بشيء من اسمك ولا تتحدث مرة أخرى في النقد الذي لا تتوخى فيه أبسط قواعد الأمانة في النقل، فقد ذكر المدهون في مشهد تحت عنوان "رجل واضح غامض" (وهو يقصد نفسه بهذا الرجل الواضح الغامض): "قادتني وزوجتي إلى غرفة تحقيق في مطار "بن جوريون" في اللد، شرطية أمن أبطأت مؤخرتها الثقيلة من خطواتنا المنتظمة خلفها"، مؤكدًا بذلك على بن جوريونية المطار لا قاهريته! كما أن إقحام المدهون نفسه كروائي داخل متن العمل لم يكن من التجريب في شيء يا سيدي القدير كما ذهبت أنت في قولك: "من الطريف أن يتجول الكاتب في روايته بشخصيته وذكرياته على سبيل التجريب السردي"؛ فأين التجريب في وجود المدهون بنفسه داخل روايته؟ هذا الأمر رأيناه في العديد من الروايات وهو ليس من الجدة بشيء، كما أود أن أطرح على حضرتك سؤالاً: ما هي الضرورة الفنية التي جعلت المدهون يتحدث عن نفسه ووضع نفسه كشخصية روائية في الرواية اللهم إلا مجرد الحديث عن نفسه فقط من دون أي طائل أو هدف؟ هل كان وجود شخصية المدهون في الرواية محركًا للعالم السردي؟ هل اعتمدت عليه الأحداث في أي شيء؟ هل قدم شيئًا جديدًا بتواجده داخل الرواية؟! كل هذه الأمور لم نرها، وبالتالي فوجود المدهون كان ثقلاً وثرثرة داخل الرواية زادها ضعفًا على ضعفها، وزادك تواطئا وتزلّفًا نقديًا على زيفك.
يحاول الناقد صلاح فضل التثاقف على القارئ، أي أنه يريد أن يظهر أمامه باعتباره ناقدًا مثقفًا عظيمًا يعرف الكثير من الأمور التي استعصت على مداركنا كقراء لذلك يتفضل بها علينا ويجود؛ فيقول في مقاله: ""بيت عروس" آخر البيوت الخاصة في حارة دهمان، يعد نموذجاً للبيوت العربية المميزة، وقد بني بحيث تتوسطه ساحة تسمى "الحوش" (في العرف الأندلسي تسمى البابتو)"؛ أظن أن الناقد المثقف هنا حينما كتب "البابتو" كان يقصد في حقيقة الأمر "الباتيو" (Patio) بمعنى البهو أو الفناء أو الحوش، لكن يبدو أنه لم يسمعها من أصدقائه جيدًا ليرددها بشكلٍ مغلوط كأنه لا سبيل للقراء إلى الإسبانية ووحده يحتكر الثقافة، فما الذي استفدته من سوق هذا التوضيح بالإسبانية؟ ها أنت تقع بالخطأ لرغبتك بالتفاصح؛ ثم ما الفائدة منه؟ هل الرواية إسبانية أم القراء إسبان؟ لقد جاء هذا التوضيح في الأساس في غير سياقه، ومقال فضل المهترئ في رواية المدهون لم يكن يحتاج "الباتيو" ليزيد من عوراته سوءة.
في مقاله يقول فضل: "أعتقد أن ظلال الواقع التوثيقي تتراءى في هذا المشهد مع شخصية المؤلف نفسه، كما أحسب أنه يتعين عليه في أحد مشاهد رواياته المقبلة أن يسجل أيضاً احتضان مطار القاهرة له أخيراً وترحيبه به عند حضوره منذ فترة وجيزة مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي"، لابد هنا من تأمل هذه الفقرة بخشوع؛ فهنا يطلب الناقد من الروائي أن يُسجل في رواية قادمة احتفاء السلطات المصرية به في مطار القاهرة مؤخرًا حينما زار القاهرة في مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي مع ما في هذا الطلب من سماجة لا يمكن احتمالها، فهل يظن الناقد الكبير أن الأدب قد بات يُفصّل على المقاس من أجل التحية والشكر والدعاية والاحتفاء وتبادل دعوات الزيارة واقتراح موضوعات الروايات القادمة إذا رضي عن أحدهم، بينما يسب الآخرين ويلعنهم في حال لم يكن راضيًا عنهم؟! ما كل هذه السماجة والتساهل في التعامل مع الأدب؟ وكيف تجرأت في مثل هذا الطلب من المدهون في سياق مقال نقدي؟! هل فعلاً تمازحه؟ وهل تعتقد أن السلطات المصرية لو كانت قد قابلت المدهون بشكل سيء أو منعته من الدخول مرة أخرى مثلما فعلت معه من قبل، من الأجدى به ساعتها أن يكتب رواية يسب فيها مصر والمصريين وسلطاتهم التي منعته من الدخول كما فعل في روايته "مصائر"، وهل كنت ستطلب منه ذلك؟! إن فن الرواية ليس فنًا على المقاس والمجاملات الشائهة التي نراها في نقدك أيها الناقد الكبير، بل هو فن عفوي وحقيقي يخضع لآليات الفن، وليس لآليات المصالح والشلييات وأكل العيش.
في موضع آخر من المقال الاحتفائي برواية المدهون، وهو المقال المتخم بالأخطاء والتناقضات، وتزييف الوعي الثقافي نرى الناقد يقول: "مما يوحى بأن كثيراً من النماذج والمواقف التي تسجلها هذه الرواية ليست من ورق كما نتوهم، بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب"؛ استوقفتني هذه الجملة التي كتبها فضل كثيرًا ودققت فيها محاولاً إعادة قراءتها أكثر من مرة؛ لأنها إن كانت تؤكد من جهة على واقعية رواية المدهون وأن معظم ما جاء فيها إنما يرتبط بالواقع لا سيما الوقائع والأماكن والتواريخ، إلا أنها تُدلل من جهة أخرى على فساد النقاد؛ لأن هذه الجملة تتناقض تمامًا مع جملة الناقد الفلسطيني فيصل دراج في مقاله عن نفس الرواية حينما قال: "مع أنّ في النص عناقاً بين الواقعي والمتخيّل، كما تقضي الروايات" في الوقت الذي كان فيه دراج يحاول بكل ما أوتى من مقدرة إقناع القارئ بأن الرواية فيها جنوح للخيال كي يستطيع أن يمرر المغالطات التاريخية التي ارتكبها المدهون بحق التاريخ الفلسطيني، وهنا يبدو لنا تخبط النقاد مع بعضهم البعض، وتناقضهم فيما بينهم حول عمل أدبي واحد محاولين التستر على جريمة المدهون؛ الأمر الذي يدلّ على أن التحايل على إثبات فنية العمل من عدمه أوقعهم في الحيرة واللغط.
يستكمل فضل حديثه في الجملة السابقة ليختتم مقاله العبثي بقوله: "بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب، ومن التاريخ التخييلي الأصدق والأجمل، والرؤية المجسدة للوعى والوجود والهوية"، هنا لابد أن نتوقف كثيرًا أمام التعبير "التاريخ التخييلي"، ماذا يعني صلاح فضل بالتاريخ التخييلي؟ وهل هناك تاريخ واقعي وآخر تخييلي؟! وما شكل هذا التاريخ المتخيّل من وجهة نظرك؟ ولمَ لم تفدنا بشرحك لنا حول كيفية تخيّل التاريخ ثم توثيقه في رواية والتعامل معه كحقائق؟ أعتقد أن فضل هنا يطلق الكلام على عواهنه من دون التركيز بما يقوله ليحشو هو الآخر مقاله بعبارات فخمة مجردة من المعنى؛ و يكتب لنا لغوًا لا يختلف فيه كثيرًا عن الرواية التي يتناولها؛ وهنا يتساوى الاثنان- الناقد والروائي- فيما يكتبانه من عبث. ثم عن أي دمٍ قانٍ تتحدث؟ دم اليهود في الهولوكست؟ أم دم الشهداء الفلسطينيين الذين لم يأتِ المدهون على ذكرهم في روايته؟ أم دمه هو؟ هو الذي زار فلسطين ليتغدى في مطاعمها ويحلي فمه بكنافتها التي تقطر عسلاً لا دمًا!
في مقال الناقد صلاح فضل ما يؤكد لنا أن الزيف النقدي قد بات شعار المرحلة، مؤكدًا على تساقط القامات النقدية الذين تربّى القرّاء على الثقة العمياء فيهم، ولكن حين حاول هؤلاء النقاد تزييف الواقع الثقافي بمحاباة المدهون وكتبوا فيه شعرًا أفلاطونيًا كان انهيارهم العظيم وسقوطهم من أعيننا، ومن أبراجهم العاجية العالية، ليستقروا تحت قدمي المدهون الذي نجح بالفعل في خلع قداستهم عنهم بكتابتهم عن روايته، لتقضي رواية "مصائر" بسوء مصائرهم.
محمود الغيطاني
جريدة البوابة عدد 10 يوليو 2016م