الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

عاشقة من إفريقية.. تدريبات على السرد

هل من الممكن تحويل الخبرات الحياتية إلى سرد قصصي؛ ومن ثم الاستفادة من هذه الخبرات في نسج قصص ينتمي إلى الفن بعيدا عن المباشرة التي لا يمكن لها أن تليق بالفن؟
قد يبدو السؤال هنا غير وجيه وفيه القليل من السذاجة؛ لأن الفن بالضرورة يعتمد على تجاربنا الحياتية المتضافرة بالثقافة التي اكتسبناها من الكتب، وغير ذلك، لكن جوهر تحويل تجاربنا الحياتية ونقلها إلى العالم الفني الذي يختلف كثيرا عنها بجمالياته، وتكنيكاته وأسلوبيته لا بد أن يكون من خلال خبرات فنية ووعي بها، وإلا تحول السرد المعتمد على الخبرة الحياتية إلى مجرد ثرثرات ساذجة لا طائل من ورائها، لاسيما إذا ما حاولنا نقل التجربة كما هي تماما، أي كما حدثت في الواقع من دون الاعتماد على الآليات السردية التي تجعل من هذه الأحداث فنا مختلفا عن مباشرة الواقع، فليس كل ما يدور في الواقع صالحا للفن، كما أنه ليس كل ما هو فن صالحا لأن يكون واقعا؛ لأن الخيال يحمل في طياته الكثير من الشطحات والرغبات التي قد لا تكون صالحة لمعايشتها بقدر ما تكون صالحة للخيال فقط؛ ومن ثم تظل في إطار الخيالات التي يتمناها المرء.
ربما لاحظنا ذلك أثناء قراءتنا للمجموعة القصصية "عاشقة من إفريقية" للقاصة التونسية مها سالم الجويني؛ فالمجموعة تبدو للوهلة الأولى كمجموعة من التجارب الحياتية التي اعتمدتها القاصة كتكأة أساسية يقوم عليها السرد القصصي ومن ثم تحويلها إلى عالم فني يختلف عن الواقع المُعاش، ولكن سواء كانت القصص التي كتبتها القاصة بالفعل مجرد تجربة حياتية، أو حاولت هي كقاصة إيهامنا بذلك فثمة ملاحظات فنية لا بد من التوقف أمامها لمعرفة مدى قدرتها على الصياغة السردية القصصية من عدمها.
نلاحظ من خلال قصص المجموعة أن القاصة تعتمد السرد بشكله الكلاسيكي الذي رأيناه في بدايات السرد العربي في جل قصصها، فلا تجديد، ولا ألعاب سردية، ولا أحلام أو كوابيس، ولا استعارة لتقنيات العديد من الفنون، ولا اعتماد على تيار وعي أو غير وعي. كل ما هنالك مجرد شكل شديد الكلاسيكية في السرد رأيناه لدى العديدين من الكتاب والروائيين في منتصف القرن الماضي، ورغم ذلك لا يمكننا اعتبار هذا عيبا سرديا بقدر اعتباره عدم إحاطة القاصة بأساليب السرد الحديثة، أو عدم وعيها بها واتقانها بالشكل الذي يمكنها من استخدامها في كتابتها.
نرى ذلك مثلا في قصتها "عند مزار بومخلوف" حيث تبدأ القصة بشكل شديد الكلاسيكية: "وافقت أحلام على الزواج من عبد الستار، صاحب محل أثاث في الزهروني، وهو شاب ملتح من أنصار "الدعوة والتبليغ"، شهير في منطقتهم بفتوته وبورعه، يُحكى أنه كان يبيع الخمور في صغره، وكثير الاعتداء على الشباب، كان الجميع يهابه ويخشى الجدال معه، إلا أنه اهتدى إلى تلك الجماعة وصار من الذين يرتدون القميص، سافر للجهاد في سبيل الله إلى الهند لمدة أربعة أشهر، وتلقى دروسا على يد مشائخ المرجعية السلفية"، هنا نلاحظ أن السرد شديد التقليدية، بل إن مفردات اللغة لدى الكاتبة وأسلوبيتها تقليدية جدا؛ حتى أن المفردات لا تمتلك من الإحالات ما يمكن أن يُكسبها المزيد من الثراء، بل هي عادية تقترب من التقريرية التي تنزع عنها القليل من الفنية. في نفس القصة وفي مقطع آخر تكتب: "تعود أطوار خطبة أحلام لعبد الستار حين دُعي ذات يوم بعد صلاة الجمعة لمنزل الحاج إبراهيم الذي كان معجبا به وبإصراره على أداء الفرائض في وقتها، دخل عبد الستار لبيت الحاج حاسرا رأسه لأن هناك من كانت بصدد المرور أمامه بسرعة البرق، فتاة لم تتجاوز بعد السابعة عشر من عمرها". إذا ما تأملنا سردية وأسلوبية هذين المقطعين السابقين، ثم قرأنا المقطع التالي: "كان لا يزال طالبا في الجامعة عندما عرفها. وكان قد مضى عليها أربعة أيام منذ أن احترفت الرقص في إحدى صالات شارع عماد الدين. أما كيف عرفها وما هو تاريخ حياتها قبل أن تحترف الرقص فهذه قصة طويلة تحتاج إلى كتاب. وعندما رأته لأول مرة لم تر فيه غذاء لقلبها ولا ما يحقق آمالها وإنما رأت فيه خطوة إلى الأمام! وقد كان لا بد أن تختار عشيقا، ولو خُيرت لاختارت عشيقها من بين أفراد التخت أو من بين خدم الصالة أو من بين هؤلاء الذين احترفوا العشق وأجادوه وفهموا كيف يرضون الأجساد الرخيصة العقل الضيقة التي تعيش في "الصالات" وتلمع من حولها الأنوار، وتظل وهي منطفئة إلى الأبد".
نقول أننا إذا ما قرأنا المقطعين السابقين ثم قرأنا هذا المقطع الأخير هل من الممكن أن تختلف المفردات والأسلوبية، وطريقة السرد الكلاسيكية والتقريرية والراوي العليم/ الإله بين مقطع وآخر؟ أظن أن المقاطع الثلاثة متشابهة في كل شيء، ولكن إذا ما عرفنا أن المقطع الأخير هو من قصة للروائي المصري إحسان عبد القدوس من مجموعته القصصية "صانع الحب وبائع الحب"؛ لتبين لنا ما نسعى إلى توضيحه، وهو أن القاصة تنتمي في طريقة سردها إلى منتصف القرن الماضي، ونسيت أو تجاهلت أو عجزت عن إدراك أن السرد العربي والعالمي قد تطور كثيرا عن هذه الأسلوبية السردية العتيدة التي لم تعد صالحة للسرد اليوم، وهذا في حقيقة أمره يعود إلى فقر الخبرة الثقافية لدى القاصة، وهزال معرفتها بآليات السرد الحديث وتطوره وتقنياته؛ الأمر الذي جعلها تبدو لنا وكأنها قادمة إلينا من منتصف القرن العشرين، وليس من وقتنا الآني.
تتحدث القصة عن أحلام التي تزوجت من المتدين عبد الستار والذي كان صاحب تاريخ جرائمي ولا أخلاقي قديما، لكنه حينما انضم إلى الجماعات السلفية- كما نرى اليوم الكثير من النماذج- بات الآخرون يرونه شيخا جليلا، ويحترمونه متناسين كل ماضيه. يُعجب عبد الستار بأحلام رغم أن فارق العمر بينهما عشرين عاما، ويستغل ظروف أبيها الذي تثقله المعيشة عن الإنفاق على أبنائه وبناته، كما أن أحلام تُطرد من دراستها لأنها تُصرّ على ارتداء الحجاب في معهدها. نلاحظ أن عبد الستار يحول حياتها إلى جحيم منذ بداية ارتباطهما؛ فالخطوبة بينهما لا رقص فيها ولا غناء باعتبارهما حراما: "كان حفل الخطوبة هادئا جدا ارتفعت فيه بعض الزغاريد فقط، وتمت تلاوة القرآن مع الأذكار، وقام أخ عبد الستار بوضع قرص لأغاني المنشد سامي يوسف"، لكنه لم يكتف بذلك في حفل الخطوبة فقط بل: "أعلن أخ عبد الستار قدوم صديقهم "الشيخ علي" بعد برهة لتقديم درس بمناسبة الخطوبة وليبارك هذا الجمع، وتظاهرت النسوة بالاهتمام وبالسعادة، قدم الشيخ الذي جلس في الصالون الثانية، وعرض محاضرة في "منافع الزواج والنكاح" ومزايا الزوجة الصالحة ومفاسد نساء المسلمين"!
تحاول القاصة من خلال قصتها الحديث عن مأساة معاناة النساء مع الإسلاميين إذا ما ارتبطن بهم؛ حيث لا يرى هؤلاء في الزوجة سوى مجرد خادمة أو عبدة له: "استهل الداعية موعظته بما قال الإمام ابن تيمية في كتابه "أحكام النساء" الذي اشتراه لها الشهر الماضي: على المرأة أن تعلم أنها كالمملوكة للرجل، أي أنها جزء من أملاكه ووجبت عليها طاعته ويستند في ذلك إلى الحديث النبوي الشريف: لو كنت آمرا أحدا لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، من خلال هذا المنطق الاستعبادي يتعامل معها عبد الستار، بل يصل به الأمر إلى أن يكون عنيفا معها جنسيا وكأنه يجرب معها كل تجاربه الجنسية السابقة سواء مع النساء السابقات، أو من خلال خبرته في مشاهدة أفلام البورنو؛ الأمر الذي لا تحتمله أحلام مما يؤدي إلى إرغامها والاعتداء عليها جسديا من أجل الموافقة على رغباته.
صحيح أن القصة تتحدث عن معاناة النساء مع الإسلاميين وعقلياتهم المنغلقة، لكن القاصة وقعت في النهاية في مأزق عدم قدرتها على إغلاق السرد، أو حسن التخلص كما كنا نقول قديما؛ فالزوج يعتدي عليها ويضربها بعنف؛ فتذهب إلى والديها طالبة منهما رغبتها في الذهاب إلى جدتها في "الكاف" وهناك تحتضنها الجدة محتوية إياها لينتهي السرد من دون معرفة ما الذي سيفضي إليه ما سردته عن عبد الستار الذي ذهب إليه والدها بعدما عرف بضربه لها، أي أن القص أفضى في النهاية إلى الفراغ وعدم الاكتمال من دون القدرة على إغلاقه.
في قصة "لن أكون نزوة" نلحظ- فضلا عن الأسلوب الشديد التقليدية في السرد- أن القاصة حينما رغبت في اقتحام السرد أو الدخول إلى قلب الحدث كان هذا الاقتحام مفتعلا بشكل صارخ؛ الأمر الذي يسلب العمل الكثير من فنيته حيث تفتتح القاصة قصتها: "أيا امرأة تمسك القلب بين يديها، سألتكِ بالله لا تتركيني. كان ذلك أول حديثه معي، ولم يضف شيئا حين أمسك بيدي اليمنى قائلا: ما زلتِ في فن المحبة طفلة بيني وبينك أبحر وجبال. حين رمى بشعره خلت نفسي أمام زرياب وهو يعزف في بلاط هارون الرشيد، ذُهلت، أما زال في العرب من يقول شعرا؟! أدرت بوجهي قليلا متظاهرة بالخجل وقلت: ما زلت أقاوم في صمت، وشيب شعرك يغريني. لم أتمالك نفسي عن البوح بأني وقعت في سحر شعره الرمادي، أني أمسك شفتي عن النبس بأن خصلاته من أجمل ما رأيت، ربما لأنها زادت من وقاره ليظهر وكأنه من سلالة ملوك الشرق القدامى"، حتى هنا يبدو لنا السرد رغم تقليديته طبيعيا ومقبولا، لكن الساردة لا تلبث أن تخرجنا من السرد بشكل مقلق من خلال مباشرتها وافتعالها حينما تكتب بعد ذلك مباشرة: "إنه أحمد قابيل، شاعر وكاتب يمني، يدير إحدى دور النشر العربية، كثير الاعتزاز بعروبته ويحفظ تاريخ حِمير، ووجه ذي يزن، وحكايا الملكات السبع، كأنه كتاب مفتوح تورق صفحاته لتتنزل أمامك اسم اليمن"، إن انتقال القاصة المفاجئ من سردها الذي افتتحت به قصتها إلى المباشرة والتقريرية التي جاءت وكأنها تلقي علينا سيرة ذاتية لأحدهم كان من أهم عوامل انصرافنا عن إكمال السرد وشعورنا بالقلق الشديد؛ لعدم تناسب المقطع السابق سرديا مع فن القصة، فضلا عن تقريريته الشديدة. كان من الممكن للقاصة سوق كل هذه المعلومات عن فتاها الذي تتحدث عنه من خلال المواقف السردية، أو الحوار بينهما، أو أي شكل آخر تراه، أما أن تأتي المعلومات عن الشخصية بمثل هذا الشكل؛ فهذا لا يدل سوى عن سذاجة سردية تتمتع بها القاصة التي لم تنضج بعد، كما أنها أضرت القصة كثيرا والتي كان من الممكن لها أن تكون قصة جيدة وبسيطة حيث تتحدث عن إعجاب الساردة بهذا الرجل الذي قابلته في القاهرة والتقيا أكثر من مرة، وبينما كان هو غارقا في الشعر والثقافة والتاريخ حينما يتحدث معها رغم تجاربه النسائية العريضة المشهورة عنه، كانت هي غارقة في خصلات شعره البيضاء التي تأسرها وتجذبها إليه راغبة في مضاجعته بأي شكل من الأشكال؛ حتى أنها تخبره بذلك في آخر لقاء لها كي تقضي معه ما تبقى لها من أيام في القاهرة، لكنه يرفض بتهذيب قائلا لها: معذرة.. لن أكون نزوة.
القاصة التونسية مها سالم الجويني
في القصة التي تحمل عنوان المجموعة "عاشقة من إفريقية" نلاحظ أن القصة فيها الكثير من السذاجة والمشاعر المراهقة، حيث تتذكر "توناروز" قصة حبها الساذجة التي بدأت في عمر السادسة عشر حينما رأت أحد الفتيان في مناسبة عائلية ووقفت أمامه غير قادرة على التحرك حينما شعرت بقلبها ينبض تجاهه: "دخل قاعة الصالون الكبيرة الممتلئة بالجميع، نهضت هي بسرعة الضوء لتلقي عليه السلام بطريقة مضحكة، لقد كانت توناروز تبتسم كأنها عثرت على ورقة "يانصيب"، وكانت يداها الصغيرتان تتصببان عرقا، كانت شبه مخدرة، وهو ما لفت انتباه الحاضرين الذين بان لهم احمرار وجهها، وتحوّل صوتها الجهوري الصافي إلى صوت متقطع وهي تستأذن من ابن عمها الأصغر كي يفسح لها المجال للحديث مع ذلك القاهر"، رغم هذا الانبهار أو التعلق الساحر بالفتى فإن القاصة لم تقدم لنا أي مبررات مقنعة تجعلنا نصدق مثل هذا التعلق الفجائي بمجرد أن وقع نظر توناروز على الرجل وكأنه يوسف الصديق، لكن إذا ما تجاوزنا عدم وجود مبرر مقنع، ووافقنا معها على أنها لا بد أن تقع في غرامه بهذا الشكل المبالغ فيه سنجد أن الفتاة ستبدأ في نسج قصة حب خيالية لا محل لها من الواقع وتصدقها؛ ومن ثم تعيش مع الفتى قصة حب ملتهبة، ورغم مرور عشر سنوات وابتعادها عن الفتي وسفرها إلى إحدى الدول العربية، إلا أنها بمجرد ما تعثر عليه من خلال وسيلة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" ستعود إليها مشاعرها المراهقة الساذجة غير المبررة وتبدأ في الشعور بقصة الحب الملتهبة وكأنها حدثت لها للتو رغم أنه لا يبدي لها أي شكل من أشكال الاهتمام الخاص، أو المشاعر: "غير أن من كانت تحسبه توناروز قضية وبيت شعر كان يعاملها كرقم في قائمة صديقاته الطويلة، يجيب على مكالمتها في أوقات الفراغ وفي بعض الأحيان لا يرد السلام عليها إن اعترضته عند شوارع "الفيس بوك"، أو أمام تغريدات "تويتر". كان يعاملها كسلطان زمانه أو أكثر، وفي المقابل كانت تتعاطى معه كأحد ملوك الشراكسة الذين يُستحب التغني بحضورهم قبل الخوض في غمار أي حوار معهم. كان يبرر جفاءه الدائم بالتزاماته المهنية والعائلية"، من خلال هذا الاقتباس يتضح لنا أن القاصة نفسها تقع في التناقض أثناء سردها، فهي تؤكد على قصة حب توناروز للفتى في نفس الوقت الذي تؤكد أنه لا يعيرها اهتماما، ثم تأتي في نهاية القصة وتلقي اللوم عليه باعتباره خائنا لها ما كانت تتوقع منه هجرانها. إن هذه المراهقة توقع القاصة في المباشرة السردية أيضا التي نلمح من خلالها الصوت العالي التقريري غير المتناسب مع السرد القصصي حينما تكتب: "مرت عشر سنوات، وغادرت توناروز تراب وطنها لتشتغل في سلك الإعلام في إحدى العواصم العربية، غادرت الأهل محملة بجميع ذكرياتها، فكلما يبتعد المرء جغرافيا عن أرضه يقترب روحيا منها ويبدأ في البحث عن كل ما يربطه بها"، إن هذا المقطع السردي الشديد المباشرة لا علاقة له بالسرد، وإذا ما تم حذفه لن يؤثر فيه بأي شكل، بل من الممكن أن يزيد فنية السرد بدلا من التأثير عليه بالسلب.
هذا الشكل من السرد لا يصلح سوى للمراهقين الذين لن يفكروا كثيرا في منطقية السرد بقدر ما سيفكرون في المشاعر الملتهبة، تعود الفتاة إلى تونس وتتهيأ لملاقاته حيث تتخير ملابسها جيدا وحذاءها، ثم تتصل به: "أمسكت بهاتفها، واتصلت به لتقول له: شكرا للحن أنور براهم الذي أرسلته لي، رد على مكالمتها ببرود وكأنه لم يكن بصدد محادثتها منذ ساعتين. أمين أنا توناروز. أعلم، أنا آسف، لا أستطيع الحديث معك الآن لأني بجانب صديقتي. آه، آسفة، صديقتك؟! عفوا، أقصد حبيبتي. لم تصدق ما سمعت، خاصة أنها سمعت صوت ضحكتها عبر الهاتف، لم تفهم ما يحدث حولها، ولم تعرف من المخطئ في المسألة، هي؟ هو؟ هل فهمت حديثه بشكل خاطئ؟ أم ماذا؟".
في مقطع آخر من نفس القصة تكتب: "قررت أن ترسل إليه يومياتها مع الصورة الشمسية التي جمعتهما منذ سنوات، ولكنها تراجعت حين قال لها عقلها: إنها ذكرياتك وصورتك وقصتك التي عشت أطوارها وحدك، ولم يكن حضوره فيها سوى حضور شكلي فقط، قلبك هو الذي اخترعها، وروحك هي التي أخطأت التقدير، أجل! روحك التي لم تكن تعلم أن الفروسية تسكن روايات الأجداد ولم يبق منها سوى أغاني الصبايا وقد نسي العديد كلماتها، وروحك غاب عنها أن الرجال الأمازيغ رحلوا منذ سنوات ورجولتهم غدت قصائد عند مرثيات العجائز"!!
بالتأكيد يبدو هذا المقطع مغرقا في المراهقة والسذاجة؛ فلم كل هذا اللوم، ولم ترى أنه لم يعد هناك فرسانا، ولا رجال؟! إن إلقاء اللوم عليه غير منطقي بالكلية؛ فهي من اخترعت القصة، وهي من عاشتها مع نفسها بمشاعر مراهقة؛ ومن ثم فإن الجملة التي أنهت بها القصة لا يمكن قبولها لفرط سذاجتها: "كم أنا غبية! منذ متى كان الرجال أوطانا لنا؟!". إن هذه الجملة تستدعي منا نحن سؤالا أكثر منطقية وعقلانية: ومتى كان الرجل حبيبا لها حتى تتهمه بكل أنواع الاتهامات التي قد ترد على بالها؟! إن التفكير بمثل هذه المشاعر تجعل السرد متناقضا، وغير سوي، ولا يصلح سوى للمراهقين والمراهقات، فضلا عن أن العنوان لا يتناسب مع القصة؛ فهو يوحي لنا بأن ثمة ميزة ما للعاشقة الإفريقية، ولكن مع تأمل القصة سنجد أنها قد تصدق وتتماشى مع أي جنسية أخرى غير الإفريقية. إن تحديد الجنسية أو العرق يكون مقبولا في حالة وجود ميزة ما، ولكن مع انتفائها ينتفي التمييز؛ ومن ثم ينتفي العنوان بالضرورة ويصبح غير مناسب وإن كانت قد حرصت القاصة عليه لشوفينية واضحة لكونها تونسية أمازيغية تعتز بذلك، ولكن التعصبات لا يمكن أن تتماشى مع الفنون؛ لأنها مفسدة لها.
في قصة "الله معنا فمن علينا" تتحدث القاصة عن ليلى التي تقع في أزمة نفسية وعصبية شديدة تلزمها الفراش بسبب انتهاء قصة حب بينها وبين ليبي؛ لأنه رفض الزواج منها حينما فاتحته في الأمر باعتبارها تونسية لا يمكن أن تتقبلها عائلته الليبية: "كانت لمساتها على جبينها تساعدها على نسيان القهر الذي تعرضت إليه، حين عرضت على عادل الزواج بطريقة فيها الكثير من المزاح، لقد أخبرته بأنها أعلمت صديقاتها في تونس بأنها ستتزوج بليبي في إثيوبيا، وهي المزحة التي علق عليها عادل بكل جفاء قائلا: آسف، لا أستطيع الزواج بتونسية، أنت تعلمين موقف بعض العائلات في ليبيا من المجتمع التونسي، كذلك أنا لا أريد أوجاع رأس من عجائز العائلة، وقد رشحوا لي ابنة خالتي للزواج بها، أنصحك بالتوقف عن التفكير في هذا الموضوع". تحاول القاصة وصف حالة ليلى التي وصلت إليها بسبب هذا الرفض بقولها: "تعرضت لنوبة عصبية جعلتها تنتفض في فراشها كطائر مذبوح، حاولت الصراخ لكن صوتها كان مكتوما لا يستطيع الخروج من حنجرتها، أعادت الكرة مرة أخرى، حاولت مناداة صديقتها لمساعدتها، لكنها لم تقدر: زيـ..نب، تعالي. سمعتها صديقتها وقد كانت بصدد إعداد كوب من الشاي مع الإكليل لتشربه تلك العليلة النائمة كما ينام الميت على المصطبة الخشبية قبل الدفن، قدمت مذعورة: ليلى.. ما بك؟ حاولت تهدئة روعها، مسحت- بمنديل- عرقها المتصبب، وأمسكت بوشاح أدارته بقوة على رأسها الذي يكاد ينفجر، قدمت لها كوبا من الماء وأبعدت عنها هاتفها قائلة: انسى الآن كل شيء وحاولي أن تهدئي، فكري بنفسك قليلا، أرجوك استرخي قليلا ليذهب الألم".
إن الوصف المبالغ فيه من القاصة لحالة ليلى التي تخلى عنها حبيبها ورفض الزواج منها بسبب نظرته للمجتمع التونسي تكاد تكون ساذجة وفيها الكثير من المراهقة التي نؤكد عليها كثيرا في تناول القصص، بل إن القاصة تُصرّ على وصف هذه الحالة كثيرا طوال القصة إلى أن تذهب إلى الطبيب اللبناني صديقها وتخبره، فينصحها بالنقاش مع حبيبها حيث إن اختلاف الثقافات لا بد أن يؤدي إلى بعض الخلافات. تذهب ليلى إلى صالون التجميل لتهدئ أعصابها ثم تذهب إلى السوبر ماركت لتنهي قصتها بعدة أسئلة فيها من السذاجة والمباشرة ما لا يحتمله الفن حينما تقول: "توجهت إلى الملابس النسائية وقالت لنفسها: بعيدا عن مسألة الجراح، وبعيدا عن سيناريوهات رجال الشرق الذين يكتبون تاريخهم على أنغام الأنانية والوقاحة وتلك الذكورة المقيتة، من المسؤول عن آلام النساء؟ من المسؤول عن أوجاعنا؟". إن انتهاء السرد بهذه الأسئلة يدل على سذاجة ومباشرة فيها الكثير من الضجيج الذي يعكس صوت الكاتبة نفسها، وليس صوت الشخصية القصصية؛ ومن ثم كانت الأسئلة غير متناسبة مع السرد، ولا علاقة لها بالفن.
في قصتها "لحم الظأن" التي نلحظ فيها خطأ جسيما في العنوان حينما تستخدم مفردة "الظأن" بدلا من "الضأن"، نرى القاصة تتحدث عن اليسار التونسي من خلال نظرة شديدة السذاجة فيها الكثير من عدم النضج أيضا، والجهل بالماركسية واعتبارها اليسار أو الماركسية رديفا للإباحية فقط؛ ومن ثم فالفتاة التي لا تقبل الإباحية هي متخلفة لا يليق بها أن تكون يسارية، تأتي القصة على لسان صديقة البطلة التي كانت تراقب زميلها اليساري في الكلية- وائل- الذي له شهرة كبيرة كيساري مناضل، وهو الشاب الذي ستقع صديقتها روعة في حبه؛ ومن ثم ستقرأ في الماركسية وتتعمق فيها لمجرد أن تقترب من وائل فقط، وبالفعل تستطيع التقرب منه وتصبح صديقته المقربة، ثم تنشأ بينهما قصة حب، إلى أن يدعوها وائل لمنزله كي يتناولا عشاء جبليا معا ويتناقشا في أحوال اليسار. تتأنق روعة وترتدي أجمل ما لديها وتتجه إلى منزله، وبعد العشاء الذي تناولا فيه لحم الضأن يحاول وائل تقبيلها فتتمنع، لكنه يُصرّ على تقبيلها بعدما استبدت به الرغبة، ويحملها إلى الفراش، وهناك تدفعه بقوة وتتركه، لتحكي لصديقتها أنها رفضته لأنها تكره رائحة الضأن، وأنها رغبت أن تطلب منه غسل أسنانه أولا من لحم الضأن الذي تكرهه قبل ممارسة الحب معها أو تقبيلها لكنه لم يكن يستمع إليها بعدما استبدت به الرغبة، وفي اليوم التالي حينما تذهب إلى حلقة نقاش فيها وائل، وتبدأ في الحديث عن الماركسية: "تعمد وائل استفزاز روعة بتعليقاته على مداخلاتها عديد المرات ليصل به الأمر إلى أن يقول: روعة توقفي عن ادعاء التحرر، فحين تنجحين في تحرير جسدك من القيود ومن مكبلات المجتمعات الشرقية ستصبحين حينها رفيقتي. علقت روعة بذهول: نعم.. أنا؟ كيف؟! أجابها: أنت تعلمين جيدا قصدي، وأنا لا ألومك، ولكن أرجوك لا تلعبي دور التقدمية أمامي مرة أخرى، أو إلا إذا كانت لديك الرغبة في إقناعي بأنك الشريفة الطاهرة فتلك مسألة أخرى. جملته الأخيرة أثارت دهشة الجميع. لكن صديقتي لم تصمت: عزيزي وائل، لست بمريم العذراء ولا أريد أن أكون، وأنا تقدمية متحررة والجميع يعلم أنني أتردد كثيرا على شقق الرفاق بدون أي عقد، أما إن كنت تقصد ما وقع ليلة أمس أظنك فهمتني خطأ. قاطعها: كيف؟ لقد كنت ترتعشين حين اقتربت منك.. هاهاهاها. عزيزي، كنت أرتعش من رائحة الظأن التي أثارت قرفي، فأنا على حد علم صديقاتي وعلم من عاشرتهم قبلك، بأنني أكره اللحوم وأحبذ السلطات، عزيزي قبل نصحي بأن أترك دور العذراء أنصحك بترك أدوار الفحولة التي لا تليق بشاب لا يجيد تقبيل فتاة، ولا يفرق بين القرف والخوف. تعالت الضحكات أمام المشرب".
هكذا تُنهي القاصة قصتها الساذجة والتي تُدلل على جهل حقيقي باليسار ومفهوم التحرر والتقدمية وحصر هذه المفاهيم في المضاجعات الجنسية فقط، ومن ثم يكون الجنس هو المفهوم الحقيقي لليسار لدى هؤلاء في نسف ضخم وحقيقي لفلسفة تاريخية غيرت التاريخ بينما تجيء الكاتبة اليوم لتختزل هذه الفلسفة في المضاجعات فقط.
ثمة مشكلة حقيقية في سرد هذه القصة تنسفها من أساسها؛ فالقصة منذ بدايتها تدور على لسان صديقة روعة التي تحكي الأحداث وما دار فيها، ولكن حينما دعى وائل روعة إلى منزله رافقتها صديقتها حتى آخر لحظة في أحد المقاهي: "الآن السابعة مساء، كنت مع روعة في مقهى شارع باريس القريب من شقة الرفيق وائل، يرن هاتفها الشيوعي يسألها عن سبب التأخير، قلبها يخفق بشدة، عيناها تضجان فرحا، وائل يريدها بشغف ويتوق للجلوس معها، خرجت روعة مسرعة وتركتني أدفع الحساب وأتوجه وحيدة نحو محطة الرتل الخفيف. في طريقها إلى شقته، كانت العاشقة ترتب المواضيع، أيها ستختار لتطرحه؟ وكيف ستطرح أمامه بعض المسائل التي ربما قد يتطرق إليها؟ هي الآن عند باب شقته، تطرقه بلطف فينفتح بسرعة، يصافحها ممسكا بيدها بشغف، مع عبارات الترحيب الجبلية التي جعلتها تبتسم دون أن يترك يدها ودون أن تفارق نظراته وجهها". من خلال هذا المقطع نجد أن صديقتها الساردة تظل تسرد الأحداث بعين المبصرة والخبيرة وكأنها معها وهذا ما لا يمكن قبوله أو تخيله؛ فروعة قد تركتها؛ وبالتالي لا بد أن نتساءل: كيف استمر السرد على لسان الصديقة؟ ومن أين لها أن تعلم كل ما حدث بعد ذلك وتحكيه في لحظته الآنية رغم عدم وجودها معها؟! إن اختيار القاصة للصديقة كي تكون هي الساردة أوقعها في خطأ فني جسيم جعلها تسرد على لسانها ما لم تحضره أو تراه؛ وهو ما لا يمكن قبوله سرديا أو تبريره.
كما أننا نلاحظ من خلال هذه القصة أن القاصة تخطئ دائما في استخدم الاسم الموصول "الذي"، و"التي" فتضع بديلا عنهما "من" وهذا ما لم تأت به اللغة ولم يخبرنا به أحد من قبل: "كنت أشارك التصفيق خلسة، ومراعاة لمشاعر صديقتي "من" كانت تطير فرحا لكلمات وائل"، كذلك قولها: "تتناول الميكرفون من وائل "من" كان يجلس خلف منصة الحوار مع المحاضرين"، وفي هذين المثالين دليلا على وجود عربية جديدة ابتدعتها القاصة.
الروائي المصري إحسان عبد القدوس
في قصة "كلام المصطبة" نلحظ أن القاصة تسرد قصة مهمة ومكتملة السرد عن حال المجتمعات العربية التي ما زالت تهتم بعذرية الفتاة وترى في الفتاة غير العذراء مجرد عاهرة، أو بضاعة فاسدة لم تعد صالحة للاستعمال من خلال الساردة صاحبة الحمام التي تقوم "بنتف" شعر الفتيات وتنظيفهن، وهي صديقة وفية لفوزية أم منال الفتاة المقبلة على الزواج والمعروفة في منطقتها بالأخلاق والالتزام، ولكن حينما تطلب الساردة من منال أن تستلقي على ظهرها وتفتح لها ساقيها كي تقوم بتنظيفها وتهيئتها لليلة العرس تُفاجأ بأن منال ليست عذراء: "قصصت الشعر الكثيف، بدت لي جلدتها الوردية، بدأت في النتف من فوق وأمرتها بأن ترقد كليا على المصطبة، وترفع قليلا من رجلها وتفتحهما لي، حينها صعقتُ ولم أستوعب جيدا ما رأيت، كان مهبل منال مفتوحا، شككت في الأمر، مررت بإصبعي الذي دخل بكل سهولة، اقتربت أكثر لأتثبت مما أرى فوجدته فعلا مثقوبا"، وحينما تسأل الساردة منال عمن فعل بها ذلك تخبرها بأنه ابنها أحمد، تقع الساردة هنا في مأزق؛ ففوزية صديقتها المقربة وأم منال التي تأتمنها على ابنتها منذ ولادتها، كما أنه الأم تُكثر من الحديث عن أخلاق منال وأدبها؛ الأمر الذي جعل المنطقة كلها تشعر بالغيرة والحقد والحسد على منال ومن ثم ينتظر الجميع أي سقطة لها، كما أن الفتاة موعد دخلتها في هذه الليلة، تفكر السيدة في المأزق وهي واثقة أن ابنها لن يقبل الزواج بمنال وإنقاذها؛ فتجري لها عملية ترقيع لغشاء البكارة لإصلاح ما أفسده ابنها.
تبدو لنا هذه القصة من القصص القليلة في المجموعة المكتملة فنيا فضلا عن حديثها عن قضية مهمة ما زالت المجتمعات العربية تعاني منها؛ فالاهتمام المبالغ فيه بعذرية الفتيات وارتباط العذرية بالأخلاقيات الاجتماعية يصبح قيد حديدي على الجميع؛ الأمر الذي يؤدي إلى ازدواجية المجتمع، وانتشار الكذب والنفاق، والاصطناع، والزيف وهو ما رأيناه حينما أجرت الساردة للفتاة عملية ترقيع لغشاء البكارة؛ كي تبدو أمام المجتمع ما زالت محافظة على أخلاقياتها وشرفها كما يراهما المجتمع.
في قصة "الصبية الضائعة" نرى نموذجا حقيقيا لكيفية استغلال التجربة الحياتية في السرد القصصي وتحويلها إلى عمل فني يستطيع من خلاله المتلقي التأثر بها والتعاطف معها؛ وهنا نجحت القاصة بالفعل في صهر تجربتها وصياغتها في شكل فني للتخلص من عبئها النفسي عليها من خلال مها الجويني- لاحظ هنا أن اسم الشخصية القصصية يتماهى مع اسم المؤلفة نفسها، كما سنلحظ فيما بعد أن السمات الشكلية للشخصية تتماهى أيضا مع المؤلفة- الفتاة ذات الشعر "الأحرش"/ الخشن حيث تصفها زميلاتها في الصف الدراسي بوصف "الي شعرها أحرش"، فنقرأ منذ بداية القصة أن مها تعاني مع شعرها؛ حيث صديقاتها ينادينها: بصاحبة الشعر الأحرش؛ الأمر الذي يجعلها تذهب إلى حمام المدرسة ووضع المياة عليه كي يصير أملسا، كما أنها في بيتها تناديها أمها وأختها بذلك، ويزداد الأمر سوءا حينما تمشي في الشارع فيسخر منها المارة نتيجة شعرها الأحرش الذي لا يد لها فيه، إلى أن يأتيها عمل في إثيوبيا فتشعر بالراحة؛ حيث ستعيش بين الإثيوبيين وهناك ستجد الكثيرات ممن يمتلكن شعرا شبيها بشعرها؛ وبالتالي ستتخلص من سخرية الجميع منها وتذوب في المجتمع، لكنها هناك تجدهم يفرقون بينها وبين أهل البلد بسبب لون بشرتها فلا ينطلي عليهم كون شعرها مثلهم؛ لأن لونها يفضحها.
ربما تكون هذه القصة من أكثر قصص المجموعة نضجا ومقدرة فنية على صهر التجربة الشخصية في شكل فني مكتمل وناضج؛ حيث نجحت من خلالها القاصة في إيصال مشكلة البطلة التي تُشعرها بعبء شعرها عليها.
من القصص التي شعرنا فيها بالنضج السردي والفني أيضا قصة "تونسية ومزيونة" التي تعالج فيها القاصة مشكلة بنات المغرب العربي الكبير لاسيما التونسيات منهن حينما يهاجرن من وطنهم إلى مجتمعات الخليج للعمل هناك؛ حيث ينظر إليهم المجتمع طول الوقت باعتبارهن مشروع مفتوح للدعارة، وبالتالي تصبح التونسية هناك داعرة دائما من وجهة نظر الخليجيين، أو مشكوك في سلوكها طول الوقت، وهي من المشكلات الاجتماعية النمطية التي تعاني منها بنات تونس في هذه المجتمعات المنغلقة، وقد نجحت القاصة هنا في تناول هذه المشكلة من دون أي ضجيج أو افتعال، أو انفعال، بل بدت القصة مكتملة الفنية.
لكن تبقى المشكلة التي باتت أزلية لدى العديدين من الكتاب الذين لا يفقهون اللغة، ومن ثم يبدون دائما كأنهم لم يتعلموا العربية من قبل لفرط وقوعهم في الأخطاء اللغوية؛ فنرى الكاتبة تجهل دائما موضع الهمزات في الكلمات، ولا تفرق بين همزات القطع، وألف الوصل وهو الأمر الذي يجعلها تكتب "اسم" بالهمزة "إسم"، و"أصمت" بدلا من "اصمت" حيث أنه فعل أمر من الفعل الثلاثي الأصل، و"إقتربت" بدلا من "اقتربت"، و"إعتراني" بدلا من "اعتراني"، و"الإنتظار" بدلا من "الانتظار"، ومثلها "الإغتراب" بدلا من "الاغتراب"، و"إمرأة" بالهمزة بدلا من "امرأة"، و"بإنتصارها" بدلا من "بانتصارها"، و"إجمعي" بدلا من "اجمعي"، كما تكتب "مع أصدقاءه" بدلا من "مع أصدقائه" حيث المفردة مجرورة بحرف الجر، ولعل الكاتبة لم تعرف يوما أن حروف الجزم توجب حذف حرف العلة من الكلمات المعلولة التي تليها مثل "لم تبدِ" التي كتبتها "لم تبدي" بحرف العلة، كما تستخدم الكاتبة حرف الضاد بديلا لحرف الظاء وهو من الأخطاء الشائعة في دول المغرب العربي فتكتب "اسيقضت" بدلا بدلا من استيقظت"، وأظن أن الناشر لم يهتم أساسا بمراجعة المجموعة لغويا قبل دفعها للمطبعة وطباعتها؛ يدل على ذلك أخطاء الكتابة الكثيرة جدا على طول المجموعة مثل: "تنتطفئ" التي تقصد بها تنطفئ، و"على" بدلا من "علا"، و"أتردين" بدلا من "أتريدين"، و"وارائي" بدلا من "ورائي"، و"أركنت" بدلا من "ركنت"، و"المرأة" بدلا من همزة المد في "المرآة"، و"لعانته" بدلا من "لعناته" وغير ذلك الكثير من الأخطاء التي تكتظ بها المجموعة.
المجموعة القصصية "عاشقة من إفريقية" للقاصة التونسية مها سالم الجويني لا يمكن اعتبارها مجموعة مكتملة أو ناضجة فنيا؛ فنحن لا ننكر أن القاصة لديها الاستعداد الفطري والموهبة للكتابة والقص، لكنها لم تنضج بعد لتُقدم على تجربة نشر ما تكتبه؛ حيث معظم كتاباتها لم تكتمل فنيا بعد، وبالتالي فهذه المجموعة تُعد مجرد تدريبات على السرد القصصي، ولا يمكن لنا اعتبارها قصص فنية ناضجة من الممكن أن نأخذها مأخذ الجدية الكاملة.



محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب


عدد نوفمبر 2019م.



الجمعة، 1 نوفمبر 2019

رجل يدعى أوف.. شخص وحيد غاضب

بوستر الفيلم
يبرع المخرج السويدي هانز هولم Hannes Holm من خلال فيلمه A Man Called Ove رجل يُدعى أوف، أو En Man Som Heter Ove، تبعا لعنوان الفيلم الأصلي في السويدية، في تقديم شخصية أساسية ومحورية تتسيد كل مشاهد الفيلم تقريبا رغم فظاظتها، ونفورها من الجميع، وقسوتها أحيانا، واعتبار كل من حولها مجرد حمقى بينما هي الشخصية الوحيدة التي تفهم ما يجب أن يكون وتحافظ عليه وتلتزم به؛ ومن ثم فمن الضروري على الآخرين اتباعها وإلا تعرضت لغضبها والسخرية منها، بل وعقابها أحيانا.
إنها شخصية "أوف" Ove الذي قام بدوره بشكل بارع الممثل السويدي Rolf Lassgård  رولف لاسجارد؛ حيث قدم شخصية شديدة الغضب من كل من حوله، بل من العالم أجمع في شكل منفر تماما لا يمكن للمشاهد أن يتعاطف معه، ورغم ذلك كان هو الشخصية الأساس التي يدور حولها الفيلم، ويقوم عليها.
نرى أوف منذ بداية الفيلم رافضا للتكيف مع ما يحيطه في مجتمعه؛ فهو حينما يبتاع باقة زهور؛ كي يذهب بها لزيارة قبر زوجته، يتشاجر مع البائعة لأنها تطلب منه خمسين كرونر، ويخبرها أن العرض يؤكد أن الباقتين بقيمة سبعين كرونر وهو لا يحتاج سوى باقة واحدة، كما أن نصف السبعين هو 35 فقط وليس خمسين. تحاول الموظفة إفهامه أن الباقة الواحدة بخمسين بينما الباقتين بسبعين لكنه لا يقتنع؛ ويضطر- متضررا- في نهاية الأمر إلى شراء الاثنتين معا.
من خلال المشهد الافتتاحي للفيلم يتأكد للمُشاهد أن هذه الشخصية من الشخصيات غير القادرة على التكيف مع المجتمع، ولا ترى الحياة إلا من خلال لونين فقط: الأبيض والأسود، أي أنه لا يعترف باللون الرمادي، ولا يمكن له أن يتصالح معه؛ لذلك نراه يقوم يوميا بجولات صباحية في الحي الذي يسكنه من أجل الاطمئنان بأن القوانين يتم تنفيذها كما ينبغي، وبأن كل شيء مستقر ومُنظم، ولم يقم أحد من سكان الحي بالإخلال به؛ فنراه يُصادر إحدى الدراجات؛ لأن صاحبها لم يضعها في المكان المُناسب لها، ويمنع مرور سيارة ويكاد أن يضرب قائدها؛ لأن الحي ممنوع مرور السيارات فيه، ويأخذ أعقاب السجائر من على الأرض ويبحث عمن قام بإلقائها، ويتأكد من أن اللوحات الإرشادية في مكانها وثابته، وأن أبواب المخازن مغلقة كما ينبغي، وينهر زوجة عمدة الحي؛ لأن كلبها يتبول في الطريق- وهذا ممنوع- كما يطلب منها ارتداء حذاء من غير كعب حفاظا على النباتات العشبية في الحي.
أي أن شخصية أوف في النهاية هي شخصية شديدة الصرامة تجاه تطبيق القوانين والنظم المُتفق عليها، وهو يحاول طوال الوقت الحفاظ على هذه النظم وتطبيقها، بل وإرغام كل من حوله على فعل ذلك حتى لو كان من خلال نهرهم والصراخ في وجههم، أي أنه يرغمهم على فعل ذلك.
هذه الشخصية التي قد تبدو للوهلة الأولى مُنفرة تماما للجميع سنعرف مع مرور أحداث الفيلم أنه يبلغ من العمر 59 عاما، وأنه يعمل في مصانع السكك الحديدية منذ 43 عاما، وتتم إحالته إلى التقاعد رغم انتظامه وكفاءته في العمل، هنا يحاول أوف الذي فقد زوجته منذ ستة شهور فقط بعد معاناتها من السرطان- وهي الزوجة التي يذهب لزيارة قبرها يوميا- الانتحار؛ للحاق بها رغم ما يبدو على شخصيته من قوة وصلابة وعدم الميل للضعف أو اليأس.
يقدم لنا المخرج هانز هولم محاولات أوف المتعددة للانتحار- الذي يفشل في كل مرة- بشكل كوميدي رغم صرامة وجدية الفيلم، وهي الكوميديا السوداء التي تجعل المشاهد يضحك رغم مأساوية الحدث؛ فتارة حينما يحاول شنق نفسه يرى من خلال زجاج النافذة إحدى السيارات التي يقودها شخص لا يعرف القيادة؛ وبالتالي يُدمر صندوق البريد الخاص بأوف حينما يحاول الرجوع بالسيارة للخلف؛ الأمر الذي يجعل أوف يخرج رأسه من الحبل الملفوف حول رقبته قبل اللحظة الأخيرة من تحقيق الانتحار؛ ليخرج بغضب شديد من أجل تصحيح الأوضاع، وإخباره أن قيادة السيارات ممنوعة في المنطقة، بل ويخبره أنه أحمق ولا يصلح للقيادة. وفي مرة ثانية حينما يحاول الانتحار بشنق نفسه ينقطع الحبل وهو على شفا اللحظات الأخيرة من الموت، وتارة ثالثة يحاول الانتحار باستخدام عادم سيارته حينما يصل مخرج العادم بخرطوم ويضعه داخل السيارة ويديرها في انتظار اختناقه وموته، لكن في اللحظات الأخيرة لذهابه في الغيبوبة يسمع ضجيج صاخب ومُلِح؛ حيث تدق جارته الإيرانية- بارفانة- الباب طلبا في مساعدتها للذهاب إلى المشفى، وتارة رابعة حينما يحاول الانتحار بإطلاق النار على رأسه يدق جرس الباب بإلحاح ليجد أحد جيرانه يطلب منه المساعدة في المبيت عنده بعدما تشاجر مع أبيه وطرده من المنزل.
نحن هنا أمام محاولات متعددة للانتحار واللحاق بالزوجة التي فارقته قدمها الفيلم بشكل فيه الكثير من المفارقات الكوميدية؛ فالجميع من دون أي قصد يمنعونه من الانتحار، وهو مهتم بالعالم الخارجي الذي يريد تنظيمه رغم شعوره بالانزعاج من كل يحيطونه؛ ومن ثم يتعامل معهم بتجهم وصرامة شديدتين، ولعل المخرج كان من الذكاء الفني؛ ما جعله يهتم بالتفاصيل الدقيقة التي ترسم الشخصية التي يقدمها؛ فحينما يتهيأ لشنق نفسه نراه حريصا على أن يرتدي بذلته الأنيقة ليبدو في أبهى صورة حينما ينتحر ويقابل الزوجة، كما نرى هذا الحرص الدقيق- الذي يتساوى تماما ويعبر لنا عن شخصيته المهتمة بالقانون والنظام والتفاصيل- حينما يتهيأ للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه؛ فنراه يغطي جدران الصالة بالكامل وأرضياتها بمشمع شفاف حتى لا تتناثر دمائه فيها وتلوثها، وهو ما نراه أيضا حينما يفكر بالانتحار من خلال عادم السيارة؛ حيث يُغلق كل الفتحات باللاصق كما يغطي مقاعد السيارة بأوراق الجرائد.
هذه التفاصيل الدقيقة التي يحرص المخرج على تقديمها تُدلل على مخرج يعرف كيف يرسم الشخصية التي يتحدث عنها من خلال الصورة من دون الثرثرة أو الحديث الكثير الذي لا داعي له، أي أنه مخرج يفهم جيدا آليات صناعة السينما التي لا تحتاج إلى الكلام بقدر ما تحتاج إلى الصورة المُعبرة التي تتحدث بدلا من الممثلين؛ فأفعال البطل الدقيقة التي قد لا ينتبه إليها البعض هي التي ترسم هذه الشخصية بدقة، وتُعبر عنها بذكاء اعتمادا على بديهية مفادها أن المشهد الذي لا يمكنه تقديم المزيد من المعلومات في الفيلم السينمائي لا بد من حذفه؛ لأنه يُعد زائدا لا قيمة أو داعي له؛ ومن ثم يؤدي إلى ترهل البناء الدرامي في الفيلم. هذا البناء الدقيق للشخصية التي يتحدث عنها الفيلم كانت من أهم الرسائل التي تجعل المشاهد يفهم سيكولوجية أوف- المهتم بالتفاصيل والحفاظ على الأنظمة والقوانين؛ فهو لا يطبقها على الآخرين فقط، بل على نفسه أيضا- لا سيما أن المخرج هو كاتب السيناريو أيضا.
يحرص المخرج هانز هولم على تعريف المشاهد بحياة أوف السابقة التي ساهمت في تشكيل هذه الشخصية الغاضبة مما حولها من خلال مشاهد الفلاش باك Flash Back التي كان يبثها في الفيلم بذكاء إثر كل محاولة فاشلة للانتحار؛ أي في اللحظات الفاصلة ما بين الموت والحياة قبل أن يفشل في انتحاره؛ ففي محاولته الأولى لشنق نفسه، مثلا، وحينما يتعلق في الهواء لفترة قبل انقطاع الحبل يقول: عرفت يوما أن العقل ينشط في لحظات الموت؛ ومن ثم يشاهد المرء حياته كاملة، ولقد كان عقلي ينشط باتجاه أمي وحياتي السابقة، وهنا يبدأ المخرج في الانتقال إلى الفلاش باك لعرض حياته السابقة مع والده حيث ماتت أمه وهو طفل صغير، بينما كان الأب قليل الكلام في أي شيء، وإن كان يهتم به، وينشأ أوف مع أبيه العامل في السكك الحديدية، لكنه يصدمه قطار أمام عينيه فيموت، ويتم تعيين أوف مكانه.
الروائي السويدي فريدريك باكمان
تكتمل القصة الكاملة لحياة أوف على مراحل متباعدة خلال الفيلم، وفي كل مشهد من هذه المشاهد تكتمل لنا الصورة الكاملة لهذا الرجل الذي يتأكد لنا أنه ليس بهذه الصرامة والفجاجة التي يبدو عليها أمام الآخرين، بل هو يحمل قلبا طيبا، ويميل إلى مساعدة الجميع من دون أي مقابل. يحترق بيت دوف حينما كان شابا ولا يجد ملجأ للمبيت فيه سوى أحد القطارات حيث يعمل، لكنه يفيق من نومه ليجد القطار قد تحرك منذ قرابة الساعة كما أخبرته الفتاة الجالسة في المقعد المقابل، وحينما يأتي مفتش التذاكر يخبره أنه ليس معه تذكرة ولا نقود؛ فتتطوع الفتاة بدفع ثمن التذكرة له. يبدأ أوف لمدة ثلاثة أسابيع في ركوب نفس القطار ليلقاها مرة أخرى، وحينما يلتقيها يرتبك ويحاول إعادة ثمن التذكرة لها، لكنها تقول له: ألم تكن هناك طريقة أكثر لياقة لرد المال كدعوتك لي على العشاء؟
يرتبك أوف ويدعوها على العشاء ويخبرها عن حقيقته؛ ومن ثم تنشأ بينهما علاقة عميقة، وتساعده حتى يأخذ شهادة في البناء، ويتزوجان، لكنها أثناء رحلة لها معه إلى إسبانيا تنقلب بهما الحافلة وتفقد جنينها، وتعجز عن المشي، لكنها تُصرّ على إكمال دراستها لتكون مُدرسة، ولا تبخل على أحد بالمساعدة في حياتها إلى أن تموت بسبب السرطان.
نلاحظ من حياة أوف التي عرفناها على مدار الفلاشات باك العديدة طوال الفيلم أن حياته كانت مُغلقة تماما على الأب الذي فقده مُبكرا، ثم الزوجة التي حلت محل الأب والأم فيما بعد، أي أنه كان يرى العالم من خلال هاتين الشخصيتين لا سيما الزوجة التي كان يعجز عن مواجهة الحياة من دونها؛ لذلك فهي منذ أن فارقته يحاول العديد من المحاولات للحاق بها لكنه يفشل في ذلك، كما لا يستطيع التواصل مع من يحيطون به؛ لأنه لم يكن يستطيع فعل ذلك إلا من خلال الزوجة التي كانت ماهرة في علاقاتها الاجتماعية ومساعدة الآخرين.
المخرج السويدي هانز هولم
إن عدم قدرته على التكيف مع ما يحيطه نلحظه حينما يذهب إلى قبر زوجته ليقول لها: ستصدمين لو عرفت كيف أصبح الناس في أيامنا هذه، ليس باستطاعتهم فعل أي شيء، لا يمكنهم القيادة للخلف مع مقطورة، أو تغيير إطار السيارة، لو سألتهم عن أتفه الأمور في هذا العالم لن يفقهوا الإجابة. أي أنه غير قادر على الاقتناع بأن الحياة لا يمكن لها أن تستقيم من خلال اكتفاء المرء الذاتي بنفسه وابتعاده عن الآخرين- وهو ما كان يفعله في حياته-.
تحاول جارته المهاجرة الإيرانية الجديدة- بارفانة- التي قامت بأداء دورها الممثلة والمخرجة والكاتبة الإيرانية الأصل السويدية الجنسية بهار بارس Bahar Pars التودد إلى أوف بكافة الطرق رغم غضبه الدائم، وصراخه في وجهها، ومن خلال بارفانة نبدأ ملاحظة الجانب الطيب والنقي والحنون المخفي تحت الصرامة غير الحقيقية التي يواجه بها الآخرين، وبالفعل تستطيع بارفانة إعادته إلى الحياة، والقدرة على التكيف معها، والاختلاط بالآخرين وحل مشاكلهم، وحب الحياة، وتفهم أنه ليس بالضرورة أن يكون من حوله مثله تماما- لا سيما أنه فقد صديق عمره وعاداه؛ لأن صديقه كان يفضل سيارات الفولفو بينما هو يفضل سيارات الساب- لكنه حينما يصل إلى هذه النقطة ويتصالح مع ما يحيطه يقع في أزمة صحية، وفي المشفى تؤكد الطبيبة لبارفانه بأن مشكلته الصحية هي أن قلبه كبير، لكنه سيعيش، هنا تضحك بارفانة مما قالته الطبيبة، ولا تفهم أنه مصاب بتضخم في عضلة القلب، لكنها ذات صباح تستيقظ لتطل على منزله من النافذة وتلاحظ أن الثلوج لم تتم إزالتها من أمام بابه رغم أن الوقت قد تعدى جولاته الصباحية، وحينما تسرع إلى منزله تجده قد فارق الحياة، وترك لها وصيته التي يخبرها فيها أنه بالفعل كان يمتلك قلبا كبيرا كما قالت الطبيبة بسبب تضخم عضلة القلب، كما أنه يريد جنازة بسيطة في الكنيسة لا يحضرها سوى من شعروا بأنه كان يتعامل معهم بطريقة لطيفة؛ ليفاجأ المُشاهد بأن جميع أبناء الحي كانوا حاضرين جنازته؛ الأمر الذي يُدلل على أن الجميع كانوا يشعرون اتجاهه بالحب رغم فظاظته، وغضبه، وصرامته في التعامل معهم.
الممثل السويدي رولف لاسجارد
من التفاصيل السينمائية الدقيقة والمهمة المميزة لهذا الفيلم تأكيد المخرج على اكتساب الأطفال نفس خصال أوف، وهو ما حرص المخرج على تقديمه في مشهد النهاية بشكل بسيط وتلقائي لا ثرثرة فيه، ولا عمدية، وإن كان عميقا في إبداء الأثر الذي تركه أوف على الأجيال الجديدة التي شاهدته يحاول الحفاظ على النظام، والقوانين، والمُثل، حينما يعود أهل الحي من الجنازة ويقومون بإغلاق الباب الخارجي للحي، لكن الأطفال يعودون- مثلما كان أوف يفعل تماما- للتأكد من إحكام غلق الباب.
هذه التفاصل تُدلل على مخرج يمتلك أدواته السينمائية الجيدة، ويعرف كيف يصنع فيلما سينمائيا تُعبر فيه الصورة عن شخصياته، وتعمل على تشكيلها، ولعله في مشهد من أهم مشاهد الفيلم نرى أوف حينما يموت وهو نائم على كرسي أحد القطارات وحينما يفتح عينيه يفتحها على "سونيا" زوجته الجالسة أمامه على المقعد المقابل؛ فيبتسم لها، وهو نفس المشهد الذي رأيناه من قبل حينما احترق بيته وذهب للمبيت في أحد القطارات وحينما فتح عينيه رأى سونيا لأول مرة أمامه على المقعد المقابل له، أي أن المخرج يريد التأكيد على أن لقاء أوف بسونيا في المرة الأولى كان بمثابة البداية الحقيقية لحياته، بينما موته وتكرار نفس المشهد- ولكن في صورته وهو عجوز- يُعد بمثابة البداية الثانية لحياته الأخرى التي سيلتقي فيها بسونيا مرة أخرى في الأبدية، وهو شكل من أشكال التعبير السينمائي البليغة التي حرص المخرج على صناعتها والتأكيد عليها.
إذن؛ فمن خلال فيلم يتميز بالإيجاز والابتعاد عن الثرثرة من خلال الصورة ينجح المخرج هانز هولم في تقديم رواية الروائي السويدي فريدريك باكمان Fredrik Backman رجل يُدعى أوف الصادرة في 2012م، وهي الرواية التي تُعبر عن رجل شديد الغضب من كل شيء؛ الأمر الذي أكسبه الكثير من العدائية والصرامة والنفور، وإن كانت هذه الشخصية تُخفي داخلها الكثير من المودة، وقلب كبير يسع العالم بأكمله، وهو الأمر الذي نجح في التعبير عنه ببراعة الممثل السويدي رولف لاسجارد بشكل جعل المشاهد متعاطفا معه كثيرا، لدرجة الشعور بالافتقاد في أي مشهد يغيب عنه، بل يكاد المشاهد أن يبكي لفقده في مشهد وفاته.
الممثلة الإيرانية بهار بارس
كما نجحت الممثلة السويدية Ida Engvoll إيدا إنجفول التي قامت بدور الزوجة "سونيا"- من خلال القليل من المشاهد التي ظهرت فيها- في جذب المُشاهد إلى شخصيتها الدافئة، وابتسامتها الجميلة التي لم تفارق وجهها طيلة مشاهدها في الفيلم؛ فتركت الكثير من الأثر لدى من يراها، ورغبة في عدم غيابها من الكادر.
لكن، لعل البطل الحقيقي في فيلم "رجل يُدعى أوف" هو الموسيقى التصويرية التي قدمها الموسيقي Gaute Storaas جوت ستوراس؛ حيث كانت موسيقى خفيفة أقرب إلى المارشات العسكرية المُعبرة عن الحالة النظامية التي يعيشها أوف ولا يريد أن يتخلى عنها، والمصاحبة له دائما في كل جولاته داخل الحي، وإن لم تكن الموسيقى عسكرية بشكل صارم، بل دخل عليها إيحاء بالفكاهة إلى حد ما؛ لتكون هي البطل إلى جانب الأداء المُحكم الذي قدمه معظم طاقم الفيلم، بالإضافة إلى السيناريو الخلاق الذي كتبه مخرج الفيلم.



محمود الغيطاني
مجلة الثقافة الجديدة
عدد نوفمبر 2019م.