الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

Out.. السينما السلوفاكية وحيدة في مواجهة العالم

بوستر الفيلم
ربما كان معظم مشاهدي السينما يجهلون وجود سينما سلوفاكية متميزة استطاعت تقديم العديد من الأفلام منذ بداياتها المبكرة التي كانت في عام 1921م، أي أن صناعة السينما في سلوفاكيا تكاد تكون قد سبقت الكثير من دول أوروبا. لكن رغم هذه البداية المبكرة ظلت هذه السينما حتى الآن مجهولة لدى الكثيرين من المشاهدين؛ بسبب العديد من الأمور التي لم تستطع سلوفاكيا التحكم فيها لاسيما الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من أحداث في وسط أوروبا؛ الأمر الذي أثر عليها بشكل سلبي كبير أدى إلى تراجع هذه الصناعة المهمة. كما أن تغلب النظام الشيوعي على المنطقة وقدرته على التحكم في الكثير من دول شرق أوروبا ومنها سلوفاكيا التي ضمها النظام الشيوعي مع التشيك في اتحاد واحد هو تشيكوسلوفاكيا قد أدى إلى الحد الكبير من حرية التعبير فيها؛ الأمر الذي انعكس بالضرورة على السينما ومن ثم تكميمها وعدم قدرتها على التعبير، فضلا عن أن السينما السلوفاكية واجهت الكثير من الصعوبات الأخرى التي كان أهمها قلة المال لتمويل الأفلام، وندرة الناطقين باللغة السلوفاكية مقارنة بغيرها من اللغات في أوروبا.
كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى الحد من انطلاق السينما السلوفاكية التي قدمت لنا من قبل العديد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما الأوروبية منها على سبيل المثال فيلم (The Shop on Main Street (Obchod na korze عام 1965م، الذي كان أول فيلم سلوفاكي- وهو الوحيد- يحصل على جائزة أوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية غير الإنجليزية، وهو الفيلم الذي أخرجه كل من المخرجين السلوفاكي ياك كادار، والتشيكي إلمار كلوس، كما لا ننسى أن الشيوعيين قد منعوا هذا الفيلم من العرض لمدة تصل إلى 21 عاما؛ حيث كانت تدور أحداثه في الحرب العالمية الثانية عن رجل النقانق تونو بركتو الذي تحاول عائلته الضغط عليه من أجل إغلاق محل امرأة يهودية بينما يحاول هو عدم مخالفة ضميره الإنساني. كما قدمت فيلم Pacho, the Brigand of Hybe (Pacho, hybský zbojník) 1975م وهو من الأفلام الكوميدية الجيدة.
إلا أننا لا ننسى للسينما السلوفاكية الفيلم الموسيقي المهم Let the Princess Stay with Us (Neberte nám princeznú) 1981م، وهو الفيلم الذي يكتسب أهميته من كونه مسرحية موسيقية تم تحويلها إلى السينما، بل وكان معظم الممثلين فيه من الموسيقيين المحترفين، وهو من تأليف الموسيقار السلوفاكي Dežo Ursíny الذي كان أحد مؤسسي الروك السلوفاكي الحديث، وقد استوحى قصة الفيلم من قصة خيالية مثل سنو وايت والأقزام السبعة.
إذن فالسينما السلوفاكية لها من التاريخ في صناعة السينما ما يجعلها سينما مهمة في تاريخ السينما الأوروبية، وإن كان إنتاجها قليل وغير معروف بسبب العديد من الظروف التي مرت بها؛ لذلك يأتي الفيلم السلوفاكي Out للمخرج الجورجي György Kristóf جيورجي كريستوف من الأفلام المهمة التي تناقش مشاكل أوروبا الشرقية ومنطقة دول البلطيق (إستونيا، ولاتفيا، ولتوانيا)، وهو الفيلم الذي شاركت في إنتاجه كل من سلوفاكيا، والمجر، والتشيك، ولاتفيا.
يحاول الفيلم الذي كتبه كل من إيزتر هورفاث Eszter Horváth، وجابور باب Gábor Papp بالاشتراك مع مخرجه جيورجي كريستوف نقاش أزمة الإنسان في دول شرق أوروبا وشعوره العارم بالوحدة، وأنه مجرد كائن مطرود من جميع المجتمعات الصغيرة التي تحيطه، أي أنه يناقش مشكلة الإنسان الوجودية الشاعر بوحدته في مساره الخاص الذي لا يتقاطع مع مسارات الآخرين من خلال أجوستون Ágoston الذي قام بدوره بإتقان الممثل المجري Sándor Terhes ساندور تيريز مهندس الطاقة في قرية سلوفاكية صغيرة، حيث يفقد وظيفته مدى الحياة بعد الاستغناء عن 40% من العاملين في محطة الطاقة ويجد نفسه فجأة عاطلا في منزله مصابا بالكثير من الإحباط والاكتئاب، شاعرا بأن زوجته التي قامت بدورها الممثلة Éva Bandor  قد بدأت في التحكم فيه، والتعامل معه باستعلاء؛ بسبب إنفاقها على المنزل وتعطله عن العمل؛ الأمر الذي يشعره بالكثير من العجز، وبأنه مجرد عبء عليها وعلى ابنته العشرينية.
لا يحتمل أجوستون هذه الحالة من التعطل، أو الشعور بكونه عبئا على الأسرة؛ ومن ثم يبدأ في البحث عن أي شكل من أشكال العمل، وبالفعل يجد إعلانا للعمل في لاتفيا في أحد الأحواض لبناء السفن كعامل، ويسافر بالفعل في رحلة طويلة من أجل الحصول على هذه الفرصة وبداية حياته المهنية من جديد، لكنه هناك يفاجأ بالموظفة تخبره بأن هذا غير ممكن لأن الشركة ليس لديها ترخيص من أجل عمل الأجانب فيها، أي أنه قد تم التغرير به من خلال الإعلان عن هذا العمل، إلا أنه يخبرها أنه في حاجة ماسة لهذا العمل، وأنه لا يستطيع العودة مرة أخرى إلى منزله من دونه، كما أنه يوافق على أي شكل من أشكال العمل؛ فهو يستطيع أن يفعل أي شيء، هنا تتعاطف معه الموظفة، لكنها تطلب منه مقابل منحه هذه الفرصة أن يتبرع لإحدى الجمعيات التي تعمل من أجل الحفاظ على الحيوانات التي في سبيلها للانقراض، فإذا كانت هي ستقف إلى جواره في محنته؛ فالحيوانات في حاجة إلى من يقف بجوارها أيضا؛ وبناء على ذلك لا بد له من دفع المال من أجل الحيوانات.
يضطر أجوستون أن يدفع لها المال صاغرا من أجل الحصول على هذه الفرصة كعامل لبناء السفن، لكنه يفاجأ أن جميع العمال يعاملونه بشكل كبير من العدائية؛ حيث يرى أهل لاتفيا أنه مجرد غريب جاء من أجل الحصول على فرصة عمل متاحة لأحد أبناء المدينة الذين هم أحق بها من الغرباء والأجانب، أي أنه يجد نفسه مطرودا، أو خارج سياق مجتمع العمال منذ اللحظة الأولى؛ فيحاول التعايش مع جو العدائية والعزلة الذي يجابهه به الجميع، ويقيم في أحد الفنادق الرخيصة التي يهتم فيها موظف الاستقبال بنباتات الصبار، والتلصص على النزلاء.
المخرج الجورجي جيورجي كريستوف
إن شعور الوحدة ووجوده خارج سياقات الآخرين يتعاظم لديه حينما يجري اتصالا مع زوجته من خلال برنامج "السكايب" فيفاجأ بشجرة زينة داخل المنزل، وحينما يسأل زوجته عنها، تخبره أنها اشترتها ورأت أن شكلها هكذا يعطي إحساسا مريحا داخل شقتهم، لكنه يسألها بحزن: وأين أريكتي المفضلة؟ فتخبره أنها قد نقلتها إلى القبو، ثم سرعان ما تغلق معه لأنها قد أتاها بعض الضيوف. هنا يتعمق داخل أجوستون شعور الوحدة وعدم اهتمام الآخرين به، وأنه دائما خارج سياق حياتهم أو اهتمامهم؛ فها هي زوجته بمجرد خروجه من البيت ألقت باهتماماته وما يحبه داخل القبو.
يذهب أجوستون ذات ليلة إلى البار لتناول البيرة، وهناك يقابل رجلا قد تقدم به العمر ويشبه إلى حد كبير سانتا كلوز، لكنه يشعر بالكثير من الحزن. يحاول الرجل أن يتجاذب الحديث مع أجوستون؛ فيعرف أن هذا الرجل يشعر بالحزن لأنه يؤمن بالأبراج وبرجه هذه الليلة ليس في طالعه. يحتسيان المزيد من الخمور وقد بدا له أن هناك من بدأ يهتم به ويشاركه الأمور، لكنه حينما اندمج في السكر وانتشى بوضع الكثير من الطعام في فمه مازحا يفاجأ بأن الرجل ينظر إليه مستاء ويتركه راحلا فجأة غير راغب في استكمال السهرة معه؛ فيخرج مرة أخرى من السياق العام إلى سياقه الشديد الخصوصية، وهو السياق الذي لا يشاركه فيه أحد.
لعل هذه السهرة التي سهرها أجوستون مع الرجل العجوز الحزين كانت نقطة مفصلية في رحلته للبحث عن فرصة جديدة للحياة والعمل؛ حيث يذهب إلى عمله متأخرا ويطرده المسؤول عنه من العمل لكراهيته له باعتباره أجنبيا غريبا، لكنه يبرر له طرده بأنه قد جاء متأخرا وسكرانا.
هنا يبدأ أجوستون في البحث عن أي فرصة تثبت له نجاحه، غير راغب في العودة إلى بيته في سلوفاكيا مرة أخرى حتى لا يواجه زوجته وقد فشل في إيجاد فرصة جديدة. يقابل أجوستون امرأة غريبة الأطوار على شاطئ البحر حيث كانت ترعى العشب الذي ينمو تلقائيا، وحينما يسألها عما تفعله تخبره أنها ترعى العشب من أجل أرنبها، وتدعوه فيما بعد لحفلة موسيقية، وحينما يذهب معها ويرقصان ثملين تعطيه أرنبها الذي كان عبارة عن أرنب محنط من دون أذنين، هنا يندمج معها أجوستون للدخول في سياق حياتها ومشاركتها فيه، ويبدأ في الرقص الذي ينسيه نفسه ومن حوله، لكنه حينما ينتهي من رقصه يكون السكر قد بلغ به مداه، كما تكون المرأة الغريبة الأطوار قد اختفت تماما إلى غير عودة تاركة إياه في وحدته.
يحاول أجوستون شراء صنارة صيد ليتكسب من خلال ما يصطاده من أسماك كحل مؤقت، وحينما يذهب إلى السوق يطلب من بائعة السمك أن يعمل معها، فتقول له: هات ما تصطاده من أسماك سأشتريها منك بشرط أن تكون في مثل هذا الحجم.
بالفعل يحاول أجوستون اصطياد الأسماك إلا أنه يفشل في ذلك، بل ويكون حجمها صغيرا؛ فيذهب إلى البار وهناك يسأل البارمان الذي كان مشغولا في الحديث مع أحدهم عن المكان الذي يستطيع فيه أن يصطاد؛ فيخبره بأن هذا المكان لا يمكن الاصطياد فيه، ويتدخل الرجل الذي كان يحادث البارمان ويخبره أن الصيد يحتاج إلى مكان فيه ضوء وهادئ بعيدا عن الأمواج العالية، وهذا غير متاح سوى في الشمال. هنا يطلب منه أجوستون أن يأخذه معه إلى الشمال حيث أنه غريب عن المكان؛ فيوافق الرجل الذي يأخذه معه في سيارته، لكنه يبدو غريب الأطوار، يسير بسرعة كبيرة جدا أحيانا، وأحيانا أخرى يحاول الانحراف بالسيارة لدرجة أنها قد تنقلب بهما، ثم ينزلان في غابة كثيفة قائلا له: هنا أستطيع سماع موسيقى لا يستمعها غيري، لكن كل من له آذان سيستطيع سماعها بلا شك.
يبدأ أجوستون في الارتياب من الرجل غريب الأطوار، لكنه يأخذه معه إلى منزله، ويعرفه على زوجته التي كانت قد أجرت العديد من عمليات التجميل التي حولت وجهها وشفتيها إلى شكل بشع ومنتفخ تماما باعتبار أن هذا هو الشكل المثالي للجمال. يقضي الزوجان والضيف السهرة في شرب الفودكا وحينما يأخذهم السكر بالكحول تبدأ الزوجة في الرقص وتكتشف الأرنب المحنط الذي كان قد حصل عليه من السيدة الغريبة التي اختفت؛ فيثور الزوجان عليه باعتبارهما نباتيين وأنه أدخل إلى بيتهما لحما ميتا؛ فيدور عراك بين الرجلين وتضربه الزوجة على رأسه ليفيق في الصباح وقد وجد نفسه ملقى في الغابة وحيدا بعد أن جرداه من كل شيء يمتلكه.
يعود أجوستون إلى الفندق الذي يقيم فيه ليخبره موظف الاستقبال أن مدة إقامته المدفوعة الأجر قد انتهت وأنه إذا رغب في التمديد فعليه أن يدفع المزيد من المال؛ فيخبره أنه سيرحل، لكنه يقوم بالاتصال بابنته ليهنئها بعيد ميلادها، وأنه لم يستطع الاتصال بها بالأمس نظرا لانشغاله، فترد عليه بالكثير من الجفاف، ثم تخبره أنها غير قادرة على محادثته الآن نظرا لوجود أحد الفتيان معها؛ يعتذر لها الأب على إزعاجها ويغلق الخط شاعرا بالكثير من الحزن والوحدة؛ فها هي ابنته تخرجه من سياق حياتها بدورها؛ ليجد نفسه وحيدا تماما خارج كل السياقات الحياتية الممكنة. يشعر أجوستون بأنه مطرود كلية من الحياة، وأنه لا بد أن يواجه هذه الحياة وحيدا محاولا التغلب على هذه الوحدة والبؤس الشديد الذي يشعر به، وأن كل شخصية تلفظه إما كراهية، أو لأنها غريبة الأطوار، لكنه لا يرغب في الاستسلام، ويحاول بدأب اصطياد أسماك كبيرة من أجل بيعها والحصول على المال، وبينما هو يستمر في رحلة البحث عن عمل، يجد إحدى سفن الصيد الكبرى ويطلب من رئيسها العمل معه في الصيد على السفينة فيوافق الرجل، لكنه يجعله مجرد عامل من أجل التنظيف فقط، هنا يوافق أجوستون وينتهي الفيلم به وهو ينظف ظهر السفينة من بقايا الأسماك الواقعة على ظهرها والتي أخبره رئيسه أنها ستعود إلى البحر مرة أخرى؛ فهم لا حاجة لهم بها.
ربما كان مشهد النهاية الذي نرى فيه أجوستون ينظف فيه ظهر السفينة من الأسماك الميتة من المشاهد المؤلمة المهمة والدالة على ما وصل إليه في هذه الرحلة التي يشعر فيها بالوحدة المطلقة؛ حيث تركز الكاميرا على الأسماك الميتة والتي كان من بينها إحدى الأسماك البلاستيكية التي كان يحبها ويحتفظ بها دائما معه، إلا أنه يزيحها مع غيرها من الأسماك متخلصا منها، وكأنه يتخلص من كل شيء يحاول الارتباط به ويفضل شعوره بالوحدة وعدم الارتباط، أو أنه يتخلص من كل ماضيه السابق ويوافق على ما وصل به الحال في هذه الرحلة.
إن بداية الفيلم بصورة شبكة ضخمة في البحر بينما هي فارغة، ثم انتهائه بنفس الشبكة ممتلئة بالكثير من الأسماك العالقة فيها يؤكد مصير أجوستون منذ بداية الفيلم، لاسيما أن الفيلم يبدأ بعبارة دالة ومهمة تقول: هنا يبدأ البحر، لكنه ليس نهايته بأي حال Here the sea begins, it’s by no means where it ends، أي أن بحر البلطيق الذي بدأ منه أجوستون في رحلة طويلة للبحث عن فرصة حياة جديدة سيلتهمه معه ولن يعود منه، كما يحمل في معنى آخر من معانيه، أن هذه هي حياته التي سيبدأها من نقطة معينة ليظل يدور في متاهاتها التي لا تنتهي وحده، عالقا في هذا العالم الرافض ضمه إلى أي سياق من السياقات من حوله.
ربما كان أهم ما في الفيلم السلوفاكي Out للمخرج الجورجي جيورجي كريستوف هو التصوير الذي كان في معظم كادراته التصويرية قادرا على نقل الحالة الشعورية للبطل، لا سيما أن المصور كان حريصا على نقل الحالة الشعورية اليائسة، والشعور بالوحدة والعزلة الكاملة المؤدية للاكتئاب من خلال استخدام الكثير من الألوان الباردة والباهتة خاصة الأزرق البارد ودرجاته المتفاوتة، وبعض الألوان القاتمة، كما أن الممثل المجري ساندور تيريز كان من الإتقان ما جعل وجهه منذ بداية الفيلم حتى نهايته لا يوحي سوى بالحزن الشديد والاكتئاب وشعور الوحدة الذي يتملكه حتى النخاع.
يُعد الفيلم السلوفاكي Out من الأفلام المهمة التي تصور حياة الوحدة والعزلة في شرق أوروبا ومنطقة البلطيق لاسيما أن أهل هذه المنطقة يشعرون بالعدائية الشديدة تجاه الغرباء والأجانب الذين يظنون أنهم يأتون من أجل الاستحواذ على فرصهم القليلة في الرزق، كما يناقش حالة الشعور بالطرد من جميع المجتمعات الصغيرة المحيطة بالبطل؛ فها هو يشعر بالرفض من زوجته، وابنته، ومجتمع العمال الذين يعمل معهم، بل ومن الرجل الشبيه بسانتا كلوز، وسيدة الأرنب، والرجل الغريب وزوجته أيضا؛ الأمر الذي يشعره بأنه وحده في مواجهة العالم.



محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد نوفمبر 2018م


الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

ماري روز تعبر مدينة الشمس.. أن تنسج رواية من حكاية يومية

هل تصلح الحكايات اليومية والمُكررة والتي باتت مُعتادة- لا يمكن لها أن تُثير الدهشة أو تستوقفنا أمامها للحظة؛ لفرط تكرارها وعاديتها- أن تكون نموذجا صالحا للسرد الروائي؟ وإذا كان الفن في مفهومه الأعمق والأشمل يحتمل في معناه إثارة الدهشة أساسا؛ ومن ثم التوقف أمامه لتأمله، فهل من الممكن أن نجعل من حكاية مُستهلكة كأساس للسرد الروائي بحيث ينبني عليها معمارا روائيا كاملا؛ لتظل صالحة لإثارة الدهشة والتأمل بالنسبة للمتلقي؟
بالتأكيد سترد إلى أذهاننا مثل هذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة حين قراءتنا لرواية "ماري روز تعبر مدينة الشمس" للروائي الأردني قاسم توفيق؛ فالحكاية التي اعتمد عليها الروائي كمتن لعمله السردي باتت لفرط تكرارها في أوطاننا العربية، ولكثرة ما تم الاعتماد عليها في العديد من الأعمال الفنية- سواء كانت سردية أم سينمائية- مجرد حكاية عادية لا يلتفت إليها أحد إذا ما حدثت أمامه؛ لذلك يُعد الاعتماد على حكاية- تكاد تكون مملة لفرط تكرارها- مثل هذه من قبل المغامرة التي قد تنسف السرد الروائي بالكامل، أي أن الروائي هنا يُغامر مغامرة حقيقية بروايته التي ستكون على المحك.
قصة الحب المعتادة بين مسلم ومسيحية في مجتمع عربي بائس بسبب تقاليده وعاداته، ويزيده بؤسا انسياقه خلف الدين بشكل أعمى ومن دون أي فهم؛ مما يُنذر في نهاية الأمر بالكثير من الدم والانتقام والقتل باسم الإله الذي يمنع هذه العلاقة من الحب بين اثنين من البشر لمجرد اختلافهما في الديانة رغم أنهما يعبدان ربا واحدا.
هذه الحكاية التي تكررت في مجتمعاتنا العربية غير مرة وبأشكال وتجليات مختلفة يعتمد عليها الروائي قاسم توفيق اعتمادا كليا كمتن لروايته وكأنها تحدث لأول مرة؛ لذا لم يكن أمام الروائي سوى اللعب بتقنيات السرد؛ كي تُخرجه من مأزق العادية والتكرار، أي اعتبار السرد الروائي مجرد لعبة يلعبها الروائي، يُمارس فيها الكثير من المتعة؛ كي يُمتع المتلقي معه، ومن ثم تصبح الحكاية العادية ممتعة، قابلة للمتابعة حتى النهاية من قبل المتلقي.
ربما نلحظ منذ بداية السرد أن الراوي/ أحمد يتميز بحبه للحياة والاستمتاع بها، والمواجهة بدلا من التخفي ودفن رأسه في التراب، وهذا ما يؤكده منذ بداية السرد حينما نقرأ: "كنت أحب فعل ذلك في وضح النهار، أكره الليل كثيرا، أليس في الرؤيا قدر عظيم من المتعة؟ ملعون من ابتكر هذه الأشياء، الأضواء القبيحة الخافتة، أو العتمة التي تخفي المرأة اللدنة وهي ساكنة بين يدي"، أي أن الراوي يفضل دائما الحياة في المواجهة والنور والوضوح، ولا يحب أن يفعل شيئا في الظلام والخفية حتى لو كان هذا الفعل هو فعل المتعة، أي الفعل الجنسي؛ لذلك يكون حريصا دائما على أن يكون هذا الفعل في الضوء وليس في العتمة، ولعل مثل هذا الاقتباس يعطينا من الخصائص النفسية لبطل الرواية منذ البداية ما يجعلنا قادرين على رؤية البطل وفهم سيكولوجيته، وهذا ما يعود إلى التأكيد عليه بعد هذا الاقتباس بصفحتين حينما يتحدث مع حبيبته هيام قائلا: "ملعون هذا الذي فكر بأن يكون ذلك في الظلمة، ما الذي يريده؟ تراه يصير قبيحا عندما يرجع لإنسانيته؟ عندما ينشطر عن كل ما تعلمه ويرجع كائنا طفلا لم تلوثه الحياة؟ أويكون مظهره مضحكا فيخاف أن تتركه المرأة التي معه؟ أحسب أنها اللحظة العظيمة لاشتعال الإنسان فينا، الإنسان فقط دون الأشياء الكثيرة القبيحة التي تعلمها منذ يوم ولادته، هل تتخيلين أحدا يمارسها بوقار وأدب؟!".
إذن فمن خلال مقطعين في بداية صفحات الرواية يرغب الروائي أن يعطينا المفاتيح السيكولوجية لشخصية الراوي المواجه، الجرئ، القادر على اتخاذ القرار، الذي لا يهرب حينما تواجهه الأزمات، ولعل تأكيده على فعل كل شيء في النور هو دليل على هذه السيكولوجية التي لا تحب التخفي، لكن لعل هذين الاقتباسين اللذين حرص عليهما الروائي منذ البداية لتحديد السمات الرئيسية في شخصية الراوي كانا من أهم عوامل الضعف في السرد؛ فلقد كان هذان الاقتباسان سببا في وقوع الروائي في التناقض على طول الرواية، أي أن الرواية رغم سلاستها السردية، وقدرته على أن يتلاعب بها، ويستخدم العديد من آليات السرد، بل والاستعارة من آليات السينما ليوظفها في السرد الروائي، إلا أنه أوقع نفسه في التناقض منذ بداية العمل حينما أصر على أن يكون البطل بمثل هذه السيكولوجية؛ لأننا سنراه فيما بعد متناقضا تماما مع ما سبق أن قرأناه في هذين المقطعين حينما تحمل منه هيام ويحاول إخفاء علاقته بها لأنها مسيحية، بل ويُصرّ على إجهاضها بدعوى خوفه عليها من أهلها وخشية قتلهم لها: "الأرض صغيرة ضيقة، وعمان أقل من أن تتسع لطفل صغير. جبالها السبعة متقابلة وهنا حيث وقفنا نحن ننتظر وسيلة القفز من العالم الشرقي المعتم فيها إلى الغرب المبهج والمضيء، هنا يقبع حزن وتعب عمان كلها، فقر البيوت، وضيقها، طين الزقاق، صراخ الأطفال، العلامة التي تجمع كل الناس وتوحد كل الناس. تعطي الإحساس الأعظم بالألفة. كنا نود الذهاب بسرعة إلى حيث الطبيب، انتظرنا سيارة يمكن أن تنقلنا إلى حيث هنا"، هنا يحاول الراوي- رغم عشقه الكبير لهيام- أن يتخلص من جنينهما، ورغم أن عملية الإجهاض قد تؤدي إلى موتها إلا أنه يبدو مُصرّا على الفعل في الوقت الذي تشعر فيه هيام بالكثير من الحزن؛ لأنها ستفقد جنينها الذي ترغبه ولا تريد التخلص منه، لكنها تبدو على طول الرواية مستسلمة وكأنها لا رأي لها، فتفعل ما يرغبه أحمد حتى لو لم تكن موافقة عليه، وهذا ما يجعلها تذهب معه إلى الطبيب للتخلص من الجنين فعليا.
إذن فقاسم توفيق يقع في خطأ يكاد ينسف السرد برمته منذ بداية روايته، وسبب هذا الخطأ الفادح الذي أدى به إلى مثل هذا التناقض السردي هو وصفه لسيكولوجية أحمد الذي كانت أفعاله تتناقض مع مثل هذا الوصف، لكن إذا ما تغاضينا عن هذا الخطأ الذي يكاد أن يُنهي العمل منذ صفحاته الأولى وحاولنا تأمل العمل الروائي وكيف حاول توفيق الاستعانة بالعديد من التقنيات السردية والسينمائية لينقذ العمل من عاديته وتكراريته باعتباره حكاية يومية نلاحظ أنه نجح فعليا في ذلك.
يبدو السرد في مواضع كثيرة متأثرا أيما تأثر بالتكنيك السينمائي حيث يستخدم الروائي تقنيات القطع Cut، والفلاش باك Flash Back، ثم لا يلبث العودة إلى نقطة السرد الأساسية الآنية التي ينطلق منها وسبق أن قطع عندها، ولعل استخدام هذه التقنيات رغم أهميتها في السرد إلا أنها تحتاج إلى قارئ شديد التركيز؛ حيث يكون القطع المفاجئ، كذلك الاسترجاع الذهني المفاجئ؛ مما يستدعي للقارئ غير الجاد إلى إعادة القراءة مرة أخرى نتيجة لأن السرد سيلتبس عليه نتيجة استخدام هذه التقنيات، نلاحظ ذلك منذ بداية السرد الروائي، فرغم أن الرواية تبدأ بعلاقة أحمد الجنسية مع هيام مباشرة، إلا أنه بعد معرفتنا بعلاقتيهما، وكيف أنهما يلتقيان معا في بيته تحت نظر أمه باعتبارها زميلته في الجامعة، وبعد نقاشه مع أمه في أنه لا بد من إغلاق باب الغرفة عليهما حينما يدخلانها- وهو ما تعترض عليه الأم-؛ لرغبتهما في الجلوس بهدوء من دون أن يقاطعهما أحد، يقطع فجأة مسترجعا السرد؛ كي نفهم فحوى العلاقة بينهما: "كانت المرة الأولى في يوم ماطر، انهمر فيه المطر منذ الصباح لكنه عند العصر توقف، مشيت معها في شارع طويل لا يوجد فيه غير عتمة الغيم الأسود. كنا نتحدث عن الموسيقى، وهي تفهم الموسيقى تلك الأغنيات التي تطربها وتهز خصرها. أنا وقتها كنت قد بدأت أفهم شيئا بسيطا مما يقوله بيتهوفن وباخ، وموزارت، وكنت أحب كثيرا بحيرة البجع لتشايكوفسكي".
هذه القطعات المفاجئة في السرد للعودة إلى الوراء نلاحظها مرة أخرى حينما تسأله أمه لم لا يتزوجها، فنراه يعود إلى القطع السينمائي مرة أخرى: "عندما جئت بها أول مرة إلى بيتنا أخبرت أمي أنني سأقرأ مع زميلة لي من الجامعة، لأن الكتاب الذي سنقرأ به موجود معها بنسخة واحدة فقط، وهو مفقود من الأسواق. فلم تُمانع كثيرا، فأنا أول أولادها الذي استطاع أن يصل إلى مستوى الجامعة وهي تعلم تماما أن الدراسة هناك يختلط فيها الذكور بالإناث، وهذا لا يمنع أن يلتقيا في مكان آخر ما دام للدرس فقط. لذا لم تحتج كثيرا بل عندما دخلت البيت أحضرت لها شايا، وتركتنا معا، وقالت أنها ستغلق الباب علينا خوفا من أن يزعجنا أحد.. كانت تلك المرة وحسب"، نلاحظ من خلال هذين الاقتباسين أن الروائي يستخدم هذه التقنيات بعدما اقتحم بالسرد حياة كل من أحمد وهيام من قلبها منذ الوهلة الأولى، أي أنه لم يكن هناك أي شكل من أشكال التمهيد؛ لفهم هذه الحكاية، ومن ثم لم يكن أمامه سوى تقنيات القطع والفلاش باك اللتين تعملان على سد الفجوات السردية التي افتعلها نتيجة اقتحامه السرد من قلبه مباشرة؛ فقاسم توفيق لم يتبع الشكل الكلاسيكي في السرد الذي يوضح لنا الشخصيات، وبيئتها، وعلاقاتها مع بعضها البعض، بل اقتحم الحكاية من لحظتها الآنية مباشرة منذ أول صفحة، ثم لم يلبث أن عمل على ملئ الفجوات التي أدت إليها هذه الطريقة من السرد.
نلاحظ هذه التقنيات بشكل أكثر تجليا حينما كان مع هيام عند طبيب النساء لإجهاضها، وحينما تسأله السكرتيرة التي تأخذ معلوماتهما قبل الدخول للطبيب هل يأخذ أي نوع من الأدوية، يجيبها بأنه يتناول Tagmet، فترد: تعاني من القرحة. هنا يتذكر لقاءه مع الطبيب للكشف عن القرحة التي يعاني منها وكأنه ينتقل من مشهد إلى آخر في فيلم سينمائي، ثم نراه يقطع فجأة من دون أي مقدمات وكأنما الحكاية السابقة التي كان يحكي فيها- حكاية الطبيب والقرحة- عبارة عن مشهد سينمائي انتهى؛ ليبدأ بعده مشهد آخر تماما يضيف إلينا المزيد من المعلومات في الحكاية الرئيسة، وهي معلومات لم نكن نعرف عنها شيئا فيما قبل، وتُضيف المزيد في بناء الحكاية، وهذا بالفعل ما نؤكد عليه في السينما دائما وهو: إن المشاهد في الفيلم لها تراتبية وتُضيف لبعضها البعض، أي أن كل مشهد يعتمد على المشهد الذي قبله في إضافة معلومة جديدة؛ ومن ثم إذا كان هناك أحد المشاهد الذي يفقد هذه التراتبية والإضافة لا بد من حذفه في المونتاج؛ لأنه لا فائدة ترجى منه في البناء الفيلمي.
ربما كان قاسم توفيق منتبها جيدا لمثل هذه التقنية؛ ومن ثم استخدمها بنجاح في روايته حيث كان القطع المفاجئ الذي أضاف لنا الجديد من المعلومات والشخصيات داخل المتن السردي، وهي الشخصيات التي سيعتمد عليها البناء الروائي فيما بعد: "كان الليل بحرا مائجا فوق الجبل. وفينا الخوف إذا جاء الليل يكبر. يصير بحجم العتمة كلما انطفأت شمعة، أو نفذ وقود أحد الفوانيس. ونحن الثلاثة نركض لا نعرف في أي طريق، أو أي زقاق. قال راسم: سيدركوننا، لكننا أسرعنا دون أن ننظر خلفنا. نقطع بيوتا تنبعث منها أصوات لأغان من الراديو. أو لنساء يتدللن أو يصرخن"، من خلال هذا المقطع/ المشهد نعرف المزيد عن حياة أحمد حيث صديقيه محمد وراسم المناضلين من أجل القضية الفلسطينية والراغبين في تحريرها من خلال العديد من العمليات التي يقومان بها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم لا يلبثا أن يعودا إلى عمان من دون أن يكتشفهما أحد، أي أن أحمد منخرط مع صديقيه في العمل الثوري التحرري، ولو لم يكن هذا القطع لما عرفنا هذه المعلومة الجديدة التي دخلت إلى عالم السرد وأدخلت معها هاتين الشخصيتين، لكنه ما أن يصل في السرد من خلال هذا المقطع/ المشهد إلى وصول الثلاثة إلى منزل راسم وتقديم راسم كوبا من الشاي لأحمد كي يدفئه؛ فيرفضه نتيجة آلام معدته التي يشعر بها تحترق حتى يعود قاسم توفيق إلى القطع مرة أخرى بشكل سينمائي مشهدي إلى السرد في الجانب الآخر: "أكمل الطبيب: بالإضافة للحمية عليك بهدوء الأعصاب وتجنب البرد سأكتب لك دواء يساعد في العلاج. وكتبه. أخذت الوصفة ونزلت من عنده، اتجهت إلى الصيدلية. أعطيتها للصيدلي وقلت أرجوك أن تقول لي كم سعرها. نظر فيها وقال: خمسة دنانير. قلت وأنا أسحبها من يده وأخفيها في جيبي: إذا سآخذ العلاجين الآخرين، والهدوء والدفء.. وانصرفت. عندما صرت موظفا صارت عندي القدرة لأشتري العلبة الباهظة الثمن هذه".
إذن فالسرد هنا يبدو لنا مشهديا بامتياز من خلال استخدام تقنيات السينما، حتى لكأننا أمام فيلم سينمائي، وكل مقطع سردي في الرواية عبارة عن مشهد سينمائي، والدليل على ذلك أن كل هذه التقطيعات والانتقالات المتعددة التي تُشبه المشاهد السينمائية بدأت من سؤال الممرضة في عيادة طبيب النساء عما إذا كان يتناول دواء أم لا، وهنا بدأت هذه الانتقالات والتقطيعات التي كانت تفضي كل منها إلى الأخرى ليعود إلى الممرضة وعيادة طبيب النساء مرة أخرى بعد هذا الاقتباس/ المشهد السابق مباشرة: "كانت السكرتيرة جالسة أمامي صغيرة وجميلة. أحسست أني قادر على حملها ورفعها بين يدي وضمها مثل أية طفلة صغيرة". أي أنه انتقل بنا من خلال قطعاته السردية/ المشهدية إلى أكثر من زمن وأكثر من مكان لسد الفجوات السردية أو إضافة المزيد من الأحداث والشخصيات التي تدخل في متن السرد والبناء الروائي ثم لم يلبث أن عاد بنا إلى نفس النقطة التي انطلق منها ذلك كله، ولعلنا لا ننكر أن هذه تقنيات سينمائية أفادت السرد الروائي كثيرا.
الروائي الأردني قاسم توفيق
لكن هل كانت التقنيات السينمائية فقط هي التي أنقذت الرواية من الحكاية العادية والمُكررة التي نراها كل يوم؟
اعتمد قاسم توفيق في روايته على التراث اعتمادا كبيرا حتى كاد التراث فيها أن يتحول إلى متن أهم من الحكاية الرئيسية في العمل الروائي، بل ابتلع التراث عددا كبيرا من الصفحات وكأنه المتن بالفعل، وربما يشعر القارئ أحيانا أن الاهتمام بالحكاية التراثية التي روتها أم أحمد/ الراوي في الرواية لأبنائها تجعل منها حكاية أهم من قصة الحب التي بين أحمد وهيام ومأزقهما أمام المجتمع والدين معا، رغم أن الروائي هنا حرص على أن يسوق هذه الحكاية التراثية لتكون سندا ومعينا له في الحكاية الأساسية- قصة الحب- حيث تسير الحكايتان متوازيتان- التراث- بشكل رمزي للحكاية الواقعية، و-علاقة الحب- بشكل واقعي، وإن كانت الحكايتان تعبران عن المواجهة والرغبة في الحياة، والتمسك بها في نهاية الأمر، أي أن حكاية الأم للقصة التراثية كانت بمثابة دافعا ومشجعا لأحمد في علاقته مع هيام للمضي قدما من دون رهبة المجتمع والدين، ومن ثم التمسك بالحياة والحب.
يبدأ قاسم توفيق بالاستعانة بالتراث مبكرا منذ الصفحات الأولى في روايته (ص24)؛ ليجعله فيما بعد بمثابة قصة موازية لقصة الحب الأساس بين أحمد وهيام يسيران مع بعضهما البعض، أو بمثابة القطع المتوازي Cross Cutting كما نُطلق عليها في السينما؛ ومن ثم بمجرد ما تنتهي الأم من حكاية "ماري روز" التراثية تبدأ حكاية أحمد وهيام تتشكل نحو النهاية، أي أن الحكايتين باتتا مرتبطتين ببعضهما البعض: "أنتم لا تعرفون حكاية ماري روز؟ ولا أدري كيف استحضرت العجوز هذا الاسم، وليس في حارتنا كلها من تسمى بالاسمين معا. لكنها صممت على الاسم. قلت: هل تعرفين معناه؟ ردت بثقة: ماري هي مريم أم المسيح. سألتها مداعبا: وروز؟ لم تجب. هذا أمر من أمور النصارى ولا يعرفه أحد غيرهم. سألها أحد إخوتي: وما هي قصتها؟ قالت: ماري روز أجمل بنات بلدة صغيرة اسمها "دير شمس". اهتممنا كلنا: ها. أكملت وهي تفهم أن سخريتنا ستختفي عندما تبدأ بحق في سرد قصة ماري هذه"، وتبدأ الأم في حكاية قصة ماري روز المسيحية التي زهدت الحياة رغم جمالها اللافت للنظر والذي يجعلها مطمع كل من يراها، لكنها فضلت أن تعيش مع أبيها الخوري الذي في نهاية عمره، وأن تظل في الكنيسة لخدمة الناس ومساعدتهم وعمل الخير فقط، إلى أن يمر على البلدة ذات يوم "كليب" أحد العربان، وزعيم قبيلة من أكبر القبائل، ويشعر بالعطش الشديد هو ورجاله، فيلجأون إلى الكنيسة طلبا للماء، لكن بمجرد رؤية الرجال لماري يبهتون لجمالها ظنا منهم أنها أم المسيح، إلا أن "كليب" يرغبها لنفسه، ويطلب مقابلة أبيها الخوري، ويطلبها منه، لكن الخوري يؤكد له أن دينه يمنعه من ذلك لأنهما ينتسبان لدينين مختلفين، فيسأله "كليب" عن طلباته، ليرد عليه الخوري: أن تكون من ديننا، هنا يثور "كليب" ويؤكد على "دير شمس" بالكامل وهو غاضب أنه سيعود بعد شهر واحد فقط إلى "دير شمس" للزواج من ماري روز، ومن سيعارض ذلك سيقتله، وبالفعل يعود إلى دياره مبهورا بها، ويعمل على تجميل نفسه ليعود بعد شهر واحد، ولا يجد أي أحد في انتظاره، وحينما دخل إلى الكنيسة حيث الخوري يجده جالسا وحده يقرأ في كتابه المقدس، ويشير إليه الخوري إلى باب بجانبه وحينما يدخله "كليب" يجد ماري روز ممددة وقد فارقتها الحياة؛ ليقول له أبوها: إن دم ماري روز أغلى من الذهب، وهنا يخرج "كليب" في حالة هياج عائدا إلى بلدته، ويُصاب بما يشبه الجنون، ويظل يسير في الصحاري، وأهل البلدة غير قادرين على فهم ما يحدث له، وباتوا في خوف شديد من تهديد الخوري، إلى أن يأتي غريب ذات يوم إلى بلدة "كليب" ويطلب منهم الأمان، ويخبرهم أنه من "دير شمس" وأنه يرى أن الصلح بينهما أفضل بعدما سمعوا ما أصاب "كليب". يفرح أهل القرية ويتفقوا معه على الذهاب إلى "دير شمس" للصلح في يوم الجمعة، وبالفعل يذهبون جميعا ومعهم "كليب" ويجدون أهل "دير شمس" في انتظارهم بالفرح والاحتفال، وحينما تبدأ الولائم يطلب أهل "دير شمس" منهم أن يتركوا السلاح؛ فلا سلاح على الموائد، ولأن أهل "دير شمس" بالكامل غير مسلحين يطمئن أهل قرية "كليب" لهم ويتركون سلاحهم بالفعل، ولكن على الموائد العامرة تطير رؤوس الجميع من قبيلة "كليب" بعد أن استعان أهل "دير شمس" بمجموعة من المسلحين للقضاء عليهم.
نلاحظ من خلال القصة التراثية التي استعان بها الروائي قاسم توفيق أنها كانت بمثابة الوجه الآخر للعلاقة بين كل من أحمد وهيام؛ فمشكلة اختلاف الدين هي التي تؤدي في النهاية إلى العنف والقتل، والمزيد من الدماء، وكأنما الأديان لا هم لها سوى العداء وسفك الدماء، وبث المزيد من الكراهية بين البشر بدلا من التأليف بين قلوبهم، وجعلهم متحابين. نرى ذلك في: "سجد كليب كالطفل بين يدي الخوري ورجاه والدموع تكاد تطفر من عينيه أن يزوجه ابنته. قال الخوري بهدوء: يا بني حرم علينا ديننا ذلك. فرد كليب بلهفة واحتراق: اطلب ما تريد. قال الخوري: تصير منا".
يُعد هذا الاقتباس أبلغ ما في الرواية وتلخيصا لها؛ فالدين لا يفعل سوى التمييز بين البشر، ولا يؤدي سوى إلى المهالك والمزيد من الصراعات فقط، والقضاء على سعادة الناس، وهذا ما نراه في الواقع بين كل من أحمد وهيام، فكلاهما يعشق الآخر، ويرغبان في الزواج، لكن المجتمع والدين المختلف يمنعهما من ذلك؛ الأمر الذي جعل علاقتهما سرية في نهاية الأمر، وحينما حملت هيام بجنين من أحمد كان القرار الذي اتخذه بإصرار هو إجهاضها؛ حتى لا يقتلها أهلها لا سيما أنها حامل من مسلم لا يمكن لهم أن يتقبلونه بينهم، ورغم أن هيام لا ترغب في الإجهاض وتريد الاحتفاظ بالجنين الذي هو ثمرة حبها لأحمد إلا أنها تبدو مستسلمة طول الوقت، راضية بقرارات أحمد التي تتعارض مع رغباتها، ورغم أنه يعرف أن عملية الإجهاض في الشهر الثالث من الحمل قد تؤدي إلى موتها، إلا أنه يُصرّ على فعل ذلك: "كان بطن هيام قد انتفخ قليلا، وصارت أجمل وهي تهز بيدها تحاول إبعاد دخان سجائري عن وجهها، وتنظر قليلا إلى بطنها تحاول أن تضحك وتهمس لي: ستراه قريبا. فأهتز خوفا عندما أسمعها تقول: تحسبهم سيقتلونني؟ لا أنطق بحرف. تكمل: ما أحلى أن يكون في داخلي شيء منك".
إن الرغبة لديها في الطفل قوية، لكنه لا يريده بشكل منهزم أمام المجتمع بعاداته وتقاليده، وتدينه الغبي، ورغم أنه يؤكد على أن الحب قادر على فعل المعجزات، بل هو قادر على تحدي كل شيء في الكون، إلا أنه لا يطبق ذلك على أرض الواقع، بل يتناقض معه: "في رواية الأفق المفقود قررت إحدى النساء الهرب من جنة الأرض مع من تحبه. ملعون هذا الحب فيما يفعله. تركت كل شيء جميل. الشباب والجمال والعمر الطيب وهربت مع الرجل الذي أحبها، يبدو أن في الحب سرا أعظم منه، وهو المغامرة، التحدي، الرغبة في إثبات الذات. مهلكة هذه الذات. ففعلت ما كان يدور في ذهنها دون تردد وهربت مع الرجل الذي تحبه، القادم من عالم الزوال". هذا الاقتباس يؤكد على إيمان أحمد بأن الحب هو الدافع للتحدي، تحدي كل شيء في الحياة، والقدرة على المواجهة، ولعل هذا ما جاءت به الحكاية التراثية أيضا التي كانت تتوازى مع حكايته؛ لذلك حينما يجد نفسه وحيدا بعد أن هاجر صديقه محمد إلى السعودية، وحينما سُجن راسم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وحينما تيقن أن عملية الإجهاض لا بد لها أن تؤدي إلى فقدانه لهيام بموتها، وبعدما وفر واستدان مبلغ 300 دينار من أجل الإجهاض، نراه يجلس مع هيام في أحد المطاعم ليشربا البيرة ويتناولا عشاءهما، ثم يخرجان ليشتري لها فستانا جميلا يتناسب مع تكور بطنها.
من خلال هذه التقنيات التي استخدمها قاسم توفيق كمساعد في بناء روايته استطاع تحويل حكاية عادية ومٌكررة إلى حكاية تستحق أن تكون متنا روائيا جاذبا وشيقا؛ فلا يتركها القارئ إلا حين انتهائه منها، نقول: إنه نجح في ذلك رغم أنه وقع في خطأ جسيم منذ بداية السرد، وهو خطأ يعمل على إنهاء السرد مباشرة بمجرد وقوعه في مثل هذا التناقض الذي وقع فيه حينما وصف أحمد سيكولوجيا كشخصية قادرة على المواجهة ولا تحب سوى الحياة في العلن والنور، بينما نجد مواقفه كلها عكس ذلك.
رواية "ماري روز تعبر مدينة الشمس" للروائي الأردني قاسم توفيق من الروايات الجيدة من حيث البناء واستخدام التقنيات السينمائية لتوظيفها في السرد الروائي، رغم وقوع الروائي في خطأ قاتل منذ البداية، كما يمتلك الروائي لغة جيدة وإن كان قد وقع في خطأ غريب حينما كتب: "كنت جنينا يودع خطوته الأخيرة في عالم التكوين في بطن من اللحم اللزج الدافئ. ويمد بصره الصغير الضيق إلى النور"، فالبصر لا يمكن وصفه بالصغر ولا الضيق مطلقا، صحيح أننا نفهم ما يقصده باعتباره يتحدث عن جنين، لكن الوصف لم يكن متناسبا مع ما يرغب في أن يقوله، كما لاحظنا القليل جدا من الأخطاء اللغوية في السرد الروائي، ولعلنا صرنا نشعر بالسعادة الجمة حينما نجد عملا مكتوبا بالقليل من الأخطاء رغم أن انتفاء الأخطاء هو القاعدة، لكن لأن معظم من يكتبون بالعربية باتوا يجهلونها؛ فيرتكبون الكثير من الجرائم في حق اللغة أثناء الكتابة؛ أصبح القليل من الأخطاء من الأمور المبهجة لنا.



 



محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية
عدد 30 أكتوبر 2018م




السبت، 17 نوفمبر 2018

أكثر من وهم.. الخراب الماثل في عمّان

ما معنى أن تكتشف بعد فترة من الزمن والإيمان بالعديد من المعتقدات أن كل ما كنت تؤمن به مجرد وهم كبير نسجه حولك مجموعة من المنتفعين الذين لا تعنيهم الأفكار الكبرى، والأيديولوجيات، والثورات التي كانوا يروجون لها بقدر ما تعنيهم مصالحهم المادية والآنية في المقام الأول؟ وماذا يعني اكتشافك أن مفهوم الوطن والدفاع عنه مجرد تجارة رائجة بالنسبة للعديدين؟ وهل ستستطيع احتمال هذا الوطن الذي يغزوك من الداخل بينما يعمل على التنكيل بك وتجاهلك في الحياة الواقعية؟
ربما كانت هذه الأسئلة هي ما تُشكل رواية "أكثر من وهم" للروائي الأردني عبد السلام صالح الذي يصف ما آل إليه الفكر اليساري بعدما كان يحمل شعلة الفكرة الثورية، والقومية، والعروبة، وغيرها من الأفكار الكبرى؛ فيقول على لسان سماء- بطلة روايته-: "حين كان يراني حائرة بحيرتي، يحكي لي قصة الأحزاب واليسار العربي، يتحدث عن التاريخ والبدايات، يبكي ويضحك، ثم يقول: لست وحدك، جميعنا جمرات تذوي في انزواءاتنا المهزومة فيما نحاول، الرفاق بعضهم كأنه كان ينتظرها هذه المرحلة، (فاتخذ إلهه هواه) وخلع ثوب الزينة والفكر الذي كان يرتديه، بعضهم راح يبحث عن حل فردي في الخليج، بعضهم تواطأ مع الدولة بشكل أو بآخر وأصبح جزءً منها ومن أجهزتها الإعلامية والثقافية والسياسية، ولكلٍ ألف مبرر، بعضهم ذهب فوضى، بعضهم ما زال يحاول وحده صياغة كون صغير خاص به. سألته: وأنت؟ قال: كما ترينني أمامك، بدون ادعاء، بدون بهرجة، بدون البحث عن دور، لكنني أحاول مع نفسي ومع من هم حولي".
إذن فهو يعمل على توصيف الحالة التي بات عليها اليسار والفكر العربي من هوان، وبيع لكل شيء من أجل مجتمع استهلاكي جديد لا يعنيه مثل هذه الأفكار، ولا الثقافة، ولا الفلسفات الكبرى بقدر ما يعنيه الشكل الاستهلاكي الذي وصلت إليه المجتمعات العربية من خلال مفهوم العولمة الذي جعل المجتمعات في مجملها مجرد مجتمعات تسعى خلف رأس المال مُنحية في ذلك أفكارها القديمة حتى لو كانت فكرة المواطنة والهوية؛ الأمر الذي أدى بمن ما زالوا متمسكين بمثل هذه الأفكار الكبرى إلى الكثير من الإحباطات والانكسارات التي تُلقي بهم في نهاية الأمر في هوة اليأس من كل شيء؛ فيلجأون إما إلى العزلة والاكتئاب، أو إلى الإغراق في تناول الكحول من أجل بناء عالم آخر مواز يجعلهم قادرين على احتمال الواقع الذي يحيطهم، أو إلى الإغراق في الجنس كمعادل موضوعي للموت المعنوي الذي يعيشونه في حياتهم باعتبار أن الجنس في جانبه الآخر هو معنى للحياة.
هكذا يحاول الروائي عبد السلام صالح بناء عالمه السردي من خلال شخصيتي أحمد وسماء اللذين يتبادلان السرد بتراتبية على طول الرواية؛ فيحكي أحمد فصلا منها؛ لتلتقط سماء في الفصل التالي خيط السرد وتكمله ليتشابك العالمان المتداخلان مع بعضهما البعض، وكأن كل منهما يحاول أن يكمل للآخر الفجوات الموجودة في حكايته التي تمثل حكايتهما معا في نهاية الأمر، وكيف انعكس انهيار هذا الواقع المثالي وتحوله إلى عالم براجماتي عليهما؛ فأدى إلى ما يعيشانه من حالة خراب نفسي كامل أشبه بالموت منه إلى الحياة.
هذه الانكسارات والخيبات الثورية التي أدت بهما إلى الكثير من العزلة هي ما يتساءل عنها أحمد: "هل سأستطيع أن أتحدث عن القيادات التي حولت الحلم إلى عدم. هل أتحدث عن سائد وبكائياته وبوحه الحار وحسرته على الأخطاء والخطايا التي ساهم بها بقرار من قياداته، وعن قيامه بإرسال العديد من الشباب للموت قبل أن ينهوا نصف فترة الإعداد المطلوبة للقيام بالمهمة، أم عن عضو المكتب السياسي الذي سرق مالية التنظيم وهرب بها إلى بلاد العم سام. هل أتحدث عن الرفيق أحمد المجالي الذي لم يستطع أن يبقى متفرجا على بيروت وهي تشتعل وتُقصف وتُحاصر في العام 1982م، فترك دراسته في أوروبا وذهب للدفاع عن الثورة وعن بيروت؟"، هذه الأمور التي يتحدث عنها بحسرة بين من خان ومن دفع حياته ثمنا لهذه الأحلام والأفكار الكبرى كانت سببا رئيسا أدت إلى حيرته مما يحدث، وعدم قدرته على الفهم والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو فاسد في الحقيقة؛ وهو الأمر الذي دفع شيخه الذي هو من مؤسسي المنظمة إلى نصيحته متحسرا: "المهم أن تبقى كما أنت سواء فهمت أم لم تفهم، كلهم خانوا بالتتابع، لذا وصلنا إلى هنا وإلى ما نحن عليه الآن، من البداية عرفنا ذلك، حذرنا فاعتُقلنا وعُذبنا، ليس مطلوبا منك سوى أن تبقى نفسك، وأن تحمي أحمد، ابق كما أنت ولا تتشوه، مُت وأنت أحمد الذي أعرف وتعرف تكون بطلا حينها، لم تعد البطولة الآن كما كنا نعرفها سابقا، أنا نفسي رغم التاريخ الطويل الذي تعرفه ومنذ التأسيس، أكون بطلا إذا مت وأنا كما أنا وكما تعرفني، لا تقل عني بطلا قبل أن أموت، ولا تراهن عليّ، كلهم باعوا، ولا أحد يدري، ربما أبيع أنا أيضا، فلا تدع ذلك ولا أي شيء يفاجئك، وإياك أن تُشارك في أي وهم جديد وفي أي محاولة للتغيير والإصلاح، لأنها ومن الآن مشبوهة سلفا، لقد أفسدوا كل المستويات القيادية، الأول والثاني والعاشر، تغلغلوا فينا. منذ السبعينيات ونحن مخترقون من القمة للقاع، وصلوا لأعلى المناصب، ولكل المناصب عبر السلطة والمال. المال أفسد الثورة، عندما كنت أكتشف العملاء في الثورة كنت أُعتقل لأشهر ويتم تنزيل رتبتي العسكرية، بينما العملاء يتطورون ويصلون لأعلى المناصب والمراتب القيادية، ولك أن تتخيل أين وصلوا الآن، ابق كما أنت يا أحمد ومُت كما أنت، كما أحبك وأعرفك، ولا تشارك في أي عهر أو دعارة سياسية، احم نفسك من إغراءاتهم ولا تحاول ولا تحلم بالتغيير؛ لأنه لن يحدث. وفي اللحظة التي تنخرط فيها بالعمل السياسي المنظم؛ تكون تعمل مع العملاء ولصالحهم، وليس لوطنك ولا لشعبك".
إذن فلقد بات كل شيء قابلا للبيع، كل الأفكار الكبرى، وكل المثاليات، الفلسفات، والثورات، ومفهوم الوطن. لم يعد هناك ما هو غير قابل للبيع والتشكيك، حتى من ظل على موقفه بات عرضة لأن يبيع في أي لحظة. لم يعد هناك من يمكن ائتمانه على شيء، وهذا ما يؤكده له شيخه: "أنا نفسي رغم التاريخ الطويل الذي تعرفه ومنذ التأسيس، أكون بطلا إذا مت وأنا كما أنا وكما تعرفني، لا تقل عني بطلا قبل أن أموت، ولا تراهن عليّ"، وهو ما يدل على انهيار كل ما هو ثابت في حياة أحمد وغيره ممن كانوا يؤمنون بهذه الأيديولوجيات؛ ومن ثم لم تعد هناك عقيدة يقينية ثابتة بعد أن أصبح كل ما حوله قابلا للتحول والانقلاب والتغير في أي لحظة تبعا للمفهوم الاستهلاكي والبرجماتي للمجتمع المحيط به، وهذا ما يؤدي بأحمد إلى حالة من حالات الانكسار والاكتئاب الحقيقي الذي يدفعه لمعاقرة الخمر ليل نهار، والانغماس فقط في ممارسة الجنس كتعويض لكل هذا الانهيار الحادث حوله.
لعل هذه الإحباطات المتتالية، والكثير من الاكتشافات التي يكتشفها أحمد يوما بعد آخر هي ما تجعله ناقما على عمّان، المدينة التي يعشقها ويكرهها في الآن ذاته؛ فهي المدينة التي يحاول أن يغير منها إلى الأفضل ويدافع عنها، ورغم كل ذلك تتجاهله وتقسو عليه بينما ترعى العديد من الفاسدين الذين باعوا، وتزداد قسوة على كل من تمسك بيقينه ولم يبع: "كأن لا أحد يقرأ التاريخ، لا أحد يعرفه، أو كأن لا أحد يريد أن يعرف هذه المدينة الصلفة المجنونة، التي أدمنتها، ألا من يخلصني منها، لماذا أنشؤوها، ومن هم الذين أنشؤوها ولأي سبب، وماذا كان دورها، وما هو دورها الآن؟ من قحالتها، من عجزها عن الإنجاب، عجزها حتى عن العناية بكل ما هو جميل وحقيقي وراق وفني وجمالي وإبداعي، لا تحمل في داخلها إلا القدرة الفذة على تعهير كل شيء، كم كثير من الرفاق والأصدقاء حولتهم إلى بغايا في عتمة ليلها، وكم أحالت الكثير منهم إلى قوادين، حتى لتكاد تشعر أنك في ماخور ولست في مدينة. ليكون كل هذا منسجما مع الأساس الذي بُنيت من أجله، ولكي تلعب دورها في كل مشاريعهم. عمّان، ويصمت الجميع، رغم معرفتهم بكل شيء، ترى لماذا يصمتون عنها كلهم؟ سياسيون وثوريون ومعارضون، شعراء ومثقفون، لماذا يصمتون وهم يعرفون كل شيء؟ كل شيء تماما، هل في اسمها شيء سحري يلجم كل عنفوان أو فكرة أو جموح أو خطر، أم فيهم ما يلتبس عليّ ولا أفهمه؟".
هذه التساؤلات اليائسة الحيرى تصب جام غضبها على المدينة التي يعشقها أحمد، المدينة التي يجلس كثيرا متأملا في سبب نشأتها ولم آلت لما هي عليه الآن من فساد ورعاية للفاسدين، وقسوة على كل من يحبها ويحاول الإخلاص لها. إنها المدينة الراعية للفساد الحقيقي لكل من خانوا أو باعوا؛ لذلك تندهش سماء حينما تحاول الانخراط معهم لتحيا شيئا من حياتهم اللاهية السعيدة؛ فهي تراهم مجرد مدعين متظاهرين بالسعادة رغم توفر كل وسائل السعادة التي تتيحها لهم الأموال التي اكتسبوها مقابل بيعهم لكل شيء، لكنهم في حقيقة أمرهم لا يشعرون بالسعادة الحقيقية، وهو ما يدل على أن الخراب في عمّان قد طال النفوس جميعا، سواء منهم من باع أو لم يبع؛ فالجميع في حالة خراب سائدة لنفوسهم: "هم عن جد هدول مبسوطين؟ ولا بيمثلوا؟ صرت أراقب كل شيء عشان أجاوب على السؤال، ما بعرف، حسيت إنه ولا إشي طالع من جوا، ولا إشي طالع من أعماقهم ومن أرواحهم يحسسك إنهم مبسوطين، أو فرحانين، صرت أراقب أكثر، حسيت في إشي خربان أو مكسور جواتهم، حاولت أعرف إيش هو ما قدرت، حتى إلي بيختلي هو وصاحبته أو هي وصاحبها، بيغيبوا ربع أو ثلث ساعة بناموا مع بعض فيها وبيرجعوا أكثر كآبة من ما راحوا، برجعوا يشربوا ويرقصوا، بلكي بيجي الفرح أو السعادة، ما بتيجي ولا بيشعروا فيها، بتذكروا إنه حواليهم ناس كثير وصحاب، بيضطروا يصيروا يمثلوا، ويعملوا حالهم فرحانين، كلهم هيك، كل إلي شفتهم وشربت ورقصت وحكيت واقتربت منهم. طيب أن على الأقل بعرف شو إلي خرّب عمري وحياتي، طيب هدول شو إلي بيوجعهم ومخرّب حياتهم كلهم، معقول يكون لكل واحد فيهم قصة خرى زي قصتي؟ مش عارفة"، ربما كان هذا المقطع من أكثر مقاطع الرواية الدالة على الخراب العظيم الماثل في عمّان حول الجميع؛ فكل النفوس قد طالها الخراب. من باعوا خربت نفوسهم بعد البيع وظنهم أنهم امتلكوا أسباب السعادة، وأحمد الذي ظل كما هو يتأمل ولا يستطيع استيعاب ما يدور حوله خربت نفسه تماما بسبب ما حدث، وسماء التي تم الاعتداء عليها جنسيا من أقرب الناس إليها منذ عمر الرابعة عشر خربت روحها تماما بسبب ما حدث، ثم التقائها وارتباطها العاطفي بأحمد المُخرَب أساسا. إنه الخراب الكامل الذي يميز عمّان وكل من فيها.
هذا الخراب الكامل في حقيقته هو ما جعل سماء تحاول مقاومته بطريقة مخالفة لأحمد الذي انعزل تماما وانغمس في تناول الكحوليات، بينما حاولت هي المقاومة عن طريق الجسد والانغماس الكامل في ممارسة الجنس مع كل من يقابلها وبكل الأشكال التي من الممكن أن يتخيلها أحد ظنا منها أن هذا هو ما يمكن أن يحقق لها السعادة بعيدا عن وساخات المجتمع الذي يحيطها: "لذا فقد وضعت أرضية ومنطلقا لقوانيني تلك، القوانين الناظمة لمملكتي، لروحي وجسدي، وكانت الغبطة والفرح والتحقق على رأس تلك القوانين، وكنت قد ألغيت وشطبت ومحوت كل قوانينهم السابقة من عقلي وذهني وقلبي وروحي، وقررت أن لا انحياز ولا احترام لشيء، لا تردد ولا استسلام، ولا تنازل عن رغبتي بالفرح والعيش كما أريد، لا يهم رأي أي كان فيّ، لا أهلي ولا أصدقائي، ولا أي كان، فلكل منهم بذاءاته"، ولكن هل حققت هذه الطريقة في المقاومة لسماء السعادة التي سعيت خلفها وأنقذتها من الخراب النفسي الذي يُعشش داخلها؟ الحقيقة أن هذا الأسلوب الحياتي الذي يضع الجسد في مواجهة العالم ومشاكله وقبحه، وزيفه لم يزدها إلا خرابا على خراب؛ لأنها من خلاله اكتشفت زيف العالم حتى لكأنها كانت تحاول كشف المجتمع من حولها من خلال كشف الذات وتعريتها وجلدها بالكامل: "قادرة، وحرة، وجريئة، وأقدّم وأقدر كل الرغبات التي كانت تعذبني، صرت أضعها أمام عينيّ وأعيشها وأحققها كأجمل ما يكون، المضحك، أنني اكتشفت أن الجميع مثلي رجالا ونساء، لكنهم جبناء، جميع الرجال يفعلون ذلك، جميع النساء، لكنهم يخبئون ويمكرون ويسرون، أنا لا أريد مكرا ولا اختباءً، ها أنذا كما أنا، ولا أريد أن يحبني أحد، فلتكرهوني جميعا، لأنكم حينما تكرهونني تكونون تكرهون أنفسكم أيها المرضى المفصومون. أريد فقط أن تتنفس روحي، أن يتنفس جسدي، ولا أريد لهما أن يموتا قهرا وكمدا، ولا أريد أن يمرضا".
إن محاولة سماء انتشال نفسها من زيف المجتمع الذي دمر حياتها حينما تم الاعتداء عليها جنسيا منذ كانت طفلة جعلها في حقيقة الأمر وكأنها تنتقم من المجتمع ومن جسدها بأن صارت مشاعية لكل الرجال، ومن خلال هذه المشاعية كان انتقامها وإعادة صياغة العالم من جديد في ذهنها ومن ثم اكتشافه وكأنه تعريه أمام نفسه؛ فكانت تستمتع برغبات الآخرين فيها، ولا تدع رجلا يمر من أمامها من دون أن تُلهبه بشهوتها القاسية ومضاجعتها له.
الروائي الأردني عبد السلام صالح
كل شيء شائه في عمّان، كل شيء قاتل وقاس؛ وهذا ما جعل سماء ترى في عمّان شبيها لها: "هذه المدينة تشبهني، أشعر أنها مثلي، تطاوعني، دوما تلين لي وألين لها، نلين ونليق ببعضنا، كأنها توأمي. ربما تشبهني بقسوتها، بجفاف روحها، بصلافتها أحيانا، ربما بأنها منتهبة ومنتهكة مثلي من بواكير طفولتها، أحيانا أشعر أنها تشبهني بكل شيء، بوقاحتها، بجرأتها، بقهرها، بعهرها، وتجذب كما أجذب، تصطاد كما أصطاد، وتقسو كما أقسو، جافة، إسمنتية، وبلا روح مثلي أحيانا، فتية وقوية، شابة وطموحة مثلي، ليلها ليلي، ونهارها عمىً مثل نهاري. عمّان، أترانا نحن الذين نفعل بهم، أم هم الفاعلون، وأنا وأنت مجرد إناث يفعل بهن الحمقى ما يشاؤون؟ وحدنا نعرف معنى الانتهاك، وحدنا نعرف ما يتركه فجورهم وفجاجتهم، ما تتركه رعونة أرواحهم، وحدنا تحملنا بذاءاتهم؛ فكان لا بد أن ننقلب عليهم ونذيقهم ما ذقنا، كلهم يريدوننا كي يشبعوا جموحهم وكبتهم وفجورهم".
إذن فكل من يعيش في عمّان يراها من خلال مفهومه الشخصي، لكن ما يمكن أن نلاحظه أن جميع رؤاهم لعمّان تلتقي في النهاية من خلال الخراب الماثل في هذه المدينة التي دمرت الجميع وأشبعت أرواحهم خرابا ووحدة، وإذا كانت سماء ترى في نفسها مجرد عاهرة أحيانا؛ فهي لم تكن تقصد نفسها فقط، بل كانت ترمي إلى وصف كل ما يدور في المجتمع العربي ومؤسساته بالكامل: "عن جد بحس مرات إني شرموطة، مش مرات، دايما، أنا هيك، وبحبني هيك، وما بدي أكون غير هيك. مين فيهم غير هيك؟ كلهم، كلهن هيك، بس بيخبوا، كلهم مثلي".
ربما كانت هذه الحالة التي دخلت فيها سماء من أجل مواجهة العالم بجسدها كبديل للاكتئاب أو الانتحار هي السبب الأكبر في تعميق الأزمة النفسية والخراب الماثل في نفس أحمد الذي كان يشعر بما تفعله لكنه لا يستطيع مواجهتها به؛ أي أنها تسببت في ازدياد اكتئابه المزمن والعميق؛ لأنه رغم إحساسه بما تفعله، ومعرفته له لم يكن يراها سوى مجرد طفلة نقية تحاول الاعتراض على العالم بطريقتها التي لا تمتلك غيرها وهي الجسد؛ لذا كان دائما ما يسامحها ولا يواجهها بما يعرفه عنها وإن كان يبثه فيما يكتبه: "تدخلين في حالة لا يفهمها أحد، تدخلين في غيبوبة روح، وعمىً مُطلق، حتى لا تعودي ترين أي شيء في الوجود، تأخذينك منك إلى آخر الدنيا هروبا، لتضميك، تحتضنين نفسك، تُصرين عليها، لا تجدين في الكون من يستحق، فتحبيك، تغورين عميقا فيك، تصلين حدود الطفولة، فتسكن روحك هناك، وتقيمين حيث عالمك السحري المشغول من خيوط براءات الندى ونغمات الضباب، هناك بيت روحك ومقامها وسكناها، في عالم من الورد من براءات الطبيعة. تصيرين إلها صغيرا يعابث الكون بطفولته، ثم تكونين مدى حين يضيق الكون، تكونين خفة حين يعلو ثقل كل شيء، تكونين نقاءً في عالم ينضح بالقذارة". هذه المثالية العالية التي ينظر بها أحمد إلى سماء هي ما أدت في حقيقة الأمر إلى ازدياد حالة الانكسار والاكتئاب لديه؛ فكل شيء من حوله يخونه، حتى سماء تخونه وهو يعلم ويصمت عما يدور من حوله؛ لذلك يحاول أن يجد لها مبررا موضوعيا مثاليا كي يستطيع تقبلها وألا يرفضها مع كل ما يرفضه؛ فهي الشيء الوحيد الذي يحاول التمسك به من أجل الاستمرار في الحياة.
من خلال لغة لاهثة متقطعة الأنفاس، متهدجة، يحاول الروائي الأردني عبد السلام صالح صياغة عالمه الروائي، لدرجة أن تشعر معها بأنفاسك متلاحقة غير قادر على التقاطها، أو متابعة هذه اللغة الحية، الحيوية، التي تشعر، وتفرح، وتحزن، وتمارس الجنس بجنون؛ وهذا ما جعل الرواية مفعمة بالنزعة الإيروتيكية المشتعلة على طول العالم الروائي، وكأن الروائي هنا يريد مقاومة الموت والإحباط والانكسار والخراب الماثل حوله بالمزيد من الجنس والاشتعال، وهذا ما نراه في العديد من مقاطع الرواية، منها قول سماء: "لذلك فقد استأجرت لهم بيتا، بيتا لجسدي، لرغبتي، وشهوتي، بيتا فقط للجنس، بعدما صرت أتعثر بعلاقات لا أعرف أين أذهب بها، بيت الشهوات ذاك الذي آخذ إليه من أريد، اثنان تكررت لقاءاتي بهما في هذا البيت، وكل واحد منهما من عالم مختلف، الأول كاتب قرأت له ثلاثة كتب لم أحب أي واحد منها، لكن الجميع يقول أنه مهم، إذا لا بد أنه مهم ويستحق، أو أستحق أن يدخلني، الحقيقة أن الجميع يستحقني، وأنا أستحق وجديرة بأن يأخذني الجميع بلا استثناء، أستحق أن ألعب مع كل الرجال في العالم، آه كم أتمنى ذلك، كم أتمنى أن يدخلني كل الرجال الصغار بأجسادهم الفتية، والرجال في المتوسط من العمر، وحتى الكهول يستحقون مني التفاتة، وأنا أستحق خبرة رماحهم، البيض والسمر والسود والشقر، سعادتي في عدد الرجال الذين دخلوني، وكلما زاد العدد؛ زادت سعادتي وسعادة جسدي، خلفي الذي صار ينافس أمامي في طلب المزيد، في البداية كنت أخاف، تألمت أول الأمر، ثم لذة غريبة راحت تعتريني أشبه بخدر لا يهدأ، في أول مرة تألمت، صارت تنادي على الرماح أينما وجدتها، هي إلي تطلب، أو أنا، كانت تطلب من أي واحد منهم ذلك، ولم يكن أحد يرفض لها طلب".
ربما كانت هذه الإيروتيكية اللاذعة تتضافر تماما مع اللغة اللاهثة المتقطعة الأنفاس التي اختارها صالح لتكون لغة السرد في روايته وكأنه يُمارس لعبة المتعة من خلال اللغة فيقول على لسان سماء بلغة لاهثة سريعة كالطلقات: "أحبه لدرجة لا يمكن أن يصدقها أحد، حتى أنا نفسي أستغرب وأرفض أن أحبه بهذه الطريقة، لكنني هكذا بكل الأسف، أحبه رغما عن كل شيء فيّ، لا أدري كيف ولماذا، وكأني لا أسيطر عليّ، عليه، على هذ الحب الذي لم يعد حبا، بل هو شيء أعمق، أحدّ، أكثر طغيانا وعنفا، أكثر شراسة وسيطرة واستلابا من الحب، شيء أكثر جنونا من الحب ومن الجنون، شيء لا يمكن إدراكه ولا الإحاطة به، لا يمكن حتى الحديث عنه أو إمساكه"، ربما من خلال هذا المقطع نلاحظ أن اللغة تلهث، تتهدج، تتقطع أنفاسها بين كل جملة وأخرى. هذه اللغة اللاهثة تتناسب تماما مع الحسية الغالبة على السرد فتتضافرا من أجل تشكيل العالم السردي لدي الروائي: "هل حدثتك عن مديري ذاك، أيام عملي في تلك الشركة، هل حدثتك عن الجُمَع والصباحات والجنس على الريق؟ كان موعدنا في الشركة يبدأ في السابعة صباحا، جربنا الجنس في كل المكاتب، على مكتبه، ولك أن تتخيل التفاصيل، أنت وحدك القادر على تخيل تفاصيل هوسي وجموحي، شبقي وجنوني، أنت الوحيد الذي يعرف، أنت وحدك من يعرف كم الفحش في خيالي، وأن خيالي هو خلاصة وتجميع لكل خيالات العاهرات في كل التاريخ، لي خيال كل امرأة مارست الجنس، أو مورس معها في التاريخ، كل خيالاتهن وخلاصات خيالاتهن هنا في جسدي، في رأسي المشبع والمترع بالجنس. هل قلت لك كيف كنت آخذه لكل مكاتب الموظفات، وأجعله يلتهمهن واحدة واحدة؟ كنت أرتدي أو أخلع ملابسي مثلهن وأتحدث مثلهن، أغنج وأتمايل، كنت أكونهن تماما فيُستثار أكثر، يهيج كل هوج روحه، يفح ويزأر، وبعدها كنت أطلب منه أن يصف لي فعلا كيف كان يفعلها معهن، فقد كان يأخذهن فعلا وحقيقة، يا ألله! كم وكيف كنتُ أُستثار عندما يفعل، وكان دوما يقول الحقيقة ويصف المشهد تماما كما حدث اللعين، كونه مديرا وصاحب الشركة كان يغويهن جميعا، له طرق عبقرية في الإغواء، وإذا اقتضى الأمر يستخدم طرقا قذرة، يستغل، يكون دنيئا ورخيصا، لا يهم المهم أن يُعريهن، ويلمس ويلتهم أجساد كل الموظفات، التهم أجساد الأربع وعشرين موظفة ولأكثر من مرة، كان يعشق الجنس ويعشقهن جميعا، ولكن أنا كنت شيئا آخر، لذا صار يحضر لي الهدايا حين يذهب هو وعشيقته الأخيرة إلى (وورك شوب)، أو مؤتمر علمي، أو دورة تدريبية، أو معرض تقني، كان ينام معها وفي نفس اليوم يشتري لي الهدايا، وعندما يعود من السفر، لا أستلمها منه إلا يوم الجمعة، يوم الجنس العظيم".
البوح هو ما يمكن أن نُطلقه على رواية "أكثر من وهم" للروائي الأردني عبد السلام صالح، شكل من أشكال البوح الطويل المتراوح بين شخصيتين، أحمد وسماء؛ فهما مكملان لبعضهما البعض روحيا وجسديا وفيما يرويانه ويعيشانه؛ لذلك نرى السرد يأتي على طول فصول الرواية مرة على لسان أحمد، ومرة تالية على لسان سماء، وهكذا حتى تنتهي الرواية، كذلك نرى أن الفصل الذي يُنهيه أحمد لا يكتمل إلا من خلال بوح سماء التالي له مباشرة، أي أن الرواية عبارة عن حالة طويلة لا تنتهي من البوح؛ وهو ما أعطى الروائي الحرية في أن يتحدث حديثا طويلا عن نفسه والمدينة والمجتمع والأيديولوجيات، والخيانات، والانكسارات، والخيبات وغيرها من دون أن يشعر المتلقي بشيء من الثقل أو الثرثرة الزائدة التي قد تؤدي إلى الترهل؛ فحالة البوح تسمح له بالكثير من الحديث الذي قد يعتبره الناقد ثقلا على المتن الروائي، لكنه صاغه بشكل فيه الكثير من القبول؛ لذلك نرى في نهاية أحد الفصول على لسان أحمد ينتهي بقوله: "لكنها هي نعومة الروح، وعطر الوجود، وجدوى الحياة، فهي أنا، لأنها تشبهني بكل عجيب، أنا على هيئة أنثى، أنا بصيغة أنثى، كيف أحاكمها، وأنا تبتُ عن أن أكون قاضيا حتى على الآخرين غيري وغيرها؟ كيف وأنا هو من يتصرف داخلها، كيف وجنوني جنونها، ومجوني مجونها، حساسيتها لأصغر مفردة في الوجود هي حساسية روحي، وأعرف أن المعاني كلها قد غادرت روحها منذ زمن بعيد، وأن شيئا مهما كان لم يعد قادرا على إقناع روحها. وكنتُ قد غسلت القلب والروح سبعا من كل ما عداك، وفرغتُ كل كلي لك".
نقول أنه مع نهاية السرد على لسان أحمد في هذا الفصل نجد سماء تتحدث في الفصل التالي مباشرة وكأنها تُكمل ما بدأه أحمد، أو أنها ترد عليه في حالة بوح دائم متصل؛ فيبدأ السرد التالي على لسانها مباشرة: "عم تبحث أيها المجنون؟ لست أكثر من استراحة، صحيح أنها قد طالت كثيرا أو قليلا لا فرق. أما آن لك أن تفهم أنك لست سوى جسر؟ معبر (قارب لعبور الليل) ما ذنبي أنا؟ إذا كان ليلي قد طال؟ هي سنواتك الأغلى، ورحيق عمرك، وأيامك كلها كانت معي ولي".
من خلال هذه اللغة السردية الخاصة ينجح عبد السلاح صالح في حبك عالم روائي يعبر عن الخديعة المؤلمة في كل شيء. الخديعة في الحب، وفي الأفكار، والمعتقدات، والقوميات، والمثاليات التي يحيا من خلالها؛ ومن ثم كان هذا الخراب الكامل الذي يحيط بجميع الشخصيات والمتمثل في العاصمة عمّان هو خراب حقيقي وجاثم على قلوبنا كقراء قبل أن يكون جاثما على قلوب شخصيات الرواية.
لكن رغم هذه اللغة السردية اللاهثة الجيدة يقع الروائي في العديد من الأخطاء اللغوية التي تدل على أن الرواية لم تتم مراجعتها لا من قبل الكاتب أو الناشر كأن يكتب "الشغاله" بالهاء في نهاية الكلمة بدلا من التاء المربوطة، أو "اللاشي" من دون همزة في نهاية الكلمة، أو "إمرأة" بجعل الكلمة تبدأ بهمزة قطع بينما هي ألف وصل، وأيضا "الإختلاف" بهمزة قطع بدلا من ألف الوصل، كذلك كتابته "عن ماذا" منفصلة بدلا من إدغامها "عماذا"، و"أن لا" مفصولتين بدلا من الإدغام "ألا"، ومثلها "من ما" بدلا من "مما"، كما يقع في خطأ أسلوبي حينما يكتب "المؤسسات التي عملت بها" باستخدام حرف الجر الباء بدلا من الفاء وهو ما يؤدي إلى التباس المعنى؛ لأن استخدامه لحرف الباء يدل على أن العمل كان بالمؤسسات أي أن المؤسسات كانت أداة للعمل، في حين أن "عملت فيها" تدل على أن العمل كان في المكان أي المؤسسة، كما يلجأ الروائي إلى تأنيث لفظة "البلد" حينما يكتب "هذه البلد" في حين أنها مذكرة والصحيح هو "هذا البلد".
إلا أن هذه الأخطاء التي تعود إلى عدم اهتمام الروائي أو الناشر بالمراجعة النهائية لا تقلل كثيرا من قيمة الرواية التي قدمها الروائي وإن كانت تؤدي إلى قلق القارئ المتذوق للغة.




محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد أكتوبر 2018م