السبت، 17 نوفمبر 2018

أكثر من وهم.. الخراب الماثل في عمّان

ما معنى أن تكتشف بعد فترة من الزمن والإيمان بالعديد من المعتقدات أن كل ما كنت تؤمن به مجرد وهم كبير نسجه حولك مجموعة من المنتفعين الذين لا تعنيهم الأفكار الكبرى، والأيديولوجيات، والثورات التي كانوا يروجون لها بقدر ما تعنيهم مصالحهم المادية والآنية في المقام الأول؟ وماذا يعني اكتشافك أن مفهوم الوطن والدفاع عنه مجرد تجارة رائجة بالنسبة للعديدين؟ وهل ستستطيع احتمال هذا الوطن الذي يغزوك من الداخل بينما يعمل على التنكيل بك وتجاهلك في الحياة الواقعية؟
ربما كانت هذه الأسئلة هي ما تُشكل رواية "أكثر من وهم" للروائي الأردني عبد السلام صالح الذي يصف ما آل إليه الفكر اليساري بعدما كان يحمل شعلة الفكرة الثورية، والقومية، والعروبة، وغيرها من الأفكار الكبرى؛ فيقول على لسان سماء- بطلة روايته-: "حين كان يراني حائرة بحيرتي، يحكي لي قصة الأحزاب واليسار العربي، يتحدث عن التاريخ والبدايات، يبكي ويضحك، ثم يقول: لست وحدك، جميعنا جمرات تذوي في انزواءاتنا المهزومة فيما نحاول، الرفاق بعضهم كأنه كان ينتظرها هذه المرحلة، (فاتخذ إلهه هواه) وخلع ثوب الزينة والفكر الذي كان يرتديه، بعضهم راح يبحث عن حل فردي في الخليج، بعضهم تواطأ مع الدولة بشكل أو بآخر وأصبح جزءً منها ومن أجهزتها الإعلامية والثقافية والسياسية، ولكلٍ ألف مبرر، بعضهم ذهب فوضى، بعضهم ما زال يحاول وحده صياغة كون صغير خاص به. سألته: وأنت؟ قال: كما ترينني أمامك، بدون ادعاء، بدون بهرجة، بدون البحث عن دور، لكنني أحاول مع نفسي ومع من هم حولي".
إذن فهو يعمل على توصيف الحالة التي بات عليها اليسار والفكر العربي من هوان، وبيع لكل شيء من أجل مجتمع استهلاكي جديد لا يعنيه مثل هذه الأفكار، ولا الثقافة، ولا الفلسفات الكبرى بقدر ما يعنيه الشكل الاستهلاكي الذي وصلت إليه المجتمعات العربية من خلال مفهوم العولمة الذي جعل المجتمعات في مجملها مجرد مجتمعات تسعى خلف رأس المال مُنحية في ذلك أفكارها القديمة حتى لو كانت فكرة المواطنة والهوية؛ الأمر الذي أدى بمن ما زالوا متمسكين بمثل هذه الأفكار الكبرى إلى الكثير من الإحباطات والانكسارات التي تُلقي بهم في نهاية الأمر في هوة اليأس من كل شيء؛ فيلجأون إما إلى العزلة والاكتئاب، أو إلى الإغراق في تناول الكحول من أجل بناء عالم آخر مواز يجعلهم قادرين على احتمال الواقع الذي يحيطهم، أو إلى الإغراق في الجنس كمعادل موضوعي للموت المعنوي الذي يعيشونه في حياتهم باعتبار أن الجنس في جانبه الآخر هو معنى للحياة.
هكذا يحاول الروائي عبد السلام صالح بناء عالمه السردي من خلال شخصيتي أحمد وسماء اللذين يتبادلان السرد بتراتبية على طول الرواية؛ فيحكي أحمد فصلا منها؛ لتلتقط سماء في الفصل التالي خيط السرد وتكمله ليتشابك العالمان المتداخلان مع بعضهما البعض، وكأن كل منهما يحاول أن يكمل للآخر الفجوات الموجودة في حكايته التي تمثل حكايتهما معا في نهاية الأمر، وكيف انعكس انهيار هذا الواقع المثالي وتحوله إلى عالم براجماتي عليهما؛ فأدى إلى ما يعيشانه من حالة خراب نفسي كامل أشبه بالموت منه إلى الحياة.
هذه الانكسارات والخيبات الثورية التي أدت بهما إلى الكثير من العزلة هي ما يتساءل عنها أحمد: "هل سأستطيع أن أتحدث عن القيادات التي حولت الحلم إلى عدم. هل أتحدث عن سائد وبكائياته وبوحه الحار وحسرته على الأخطاء والخطايا التي ساهم بها بقرار من قياداته، وعن قيامه بإرسال العديد من الشباب للموت قبل أن ينهوا نصف فترة الإعداد المطلوبة للقيام بالمهمة، أم عن عضو المكتب السياسي الذي سرق مالية التنظيم وهرب بها إلى بلاد العم سام. هل أتحدث عن الرفيق أحمد المجالي الذي لم يستطع أن يبقى متفرجا على بيروت وهي تشتعل وتُقصف وتُحاصر في العام 1982م، فترك دراسته في أوروبا وذهب للدفاع عن الثورة وعن بيروت؟"، هذه الأمور التي يتحدث عنها بحسرة بين من خان ومن دفع حياته ثمنا لهذه الأحلام والأفكار الكبرى كانت سببا رئيسا أدت إلى حيرته مما يحدث، وعدم قدرته على الفهم والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو فاسد في الحقيقة؛ وهو الأمر الذي دفع شيخه الذي هو من مؤسسي المنظمة إلى نصيحته متحسرا: "المهم أن تبقى كما أنت سواء فهمت أم لم تفهم، كلهم خانوا بالتتابع، لذا وصلنا إلى هنا وإلى ما نحن عليه الآن، من البداية عرفنا ذلك، حذرنا فاعتُقلنا وعُذبنا، ليس مطلوبا منك سوى أن تبقى نفسك، وأن تحمي أحمد، ابق كما أنت ولا تتشوه، مُت وأنت أحمد الذي أعرف وتعرف تكون بطلا حينها، لم تعد البطولة الآن كما كنا نعرفها سابقا، أنا نفسي رغم التاريخ الطويل الذي تعرفه ومنذ التأسيس، أكون بطلا إذا مت وأنا كما أنا وكما تعرفني، لا تقل عني بطلا قبل أن أموت، ولا تراهن عليّ، كلهم باعوا، ولا أحد يدري، ربما أبيع أنا أيضا، فلا تدع ذلك ولا أي شيء يفاجئك، وإياك أن تُشارك في أي وهم جديد وفي أي محاولة للتغيير والإصلاح، لأنها ومن الآن مشبوهة سلفا، لقد أفسدوا كل المستويات القيادية، الأول والثاني والعاشر، تغلغلوا فينا. منذ السبعينيات ونحن مخترقون من القمة للقاع، وصلوا لأعلى المناصب، ولكل المناصب عبر السلطة والمال. المال أفسد الثورة، عندما كنت أكتشف العملاء في الثورة كنت أُعتقل لأشهر ويتم تنزيل رتبتي العسكرية، بينما العملاء يتطورون ويصلون لأعلى المناصب والمراتب القيادية، ولك أن تتخيل أين وصلوا الآن، ابق كما أنت يا أحمد ومُت كما أنت، كما أحبك وأعرفك، ولا تشارك في أي عهر أو دعارة سياسية، احم نفسك من إغراءاتهم ولا تحاول ولا تحلم بالتغيير؛ لأنه لن يحدث. وفي اللحظة التي تنخرط فيها بالعمل السياسي المنظم؛ تكون تعمل مع العملاء ولصالحهم، وليس لوطنك ولا لشعبك".
إذن فلقد بات كل شيء قابلا للبيع، كل الأفكار الكبرى، وكل المثاليات، الفلسفات، والثورات، ومفهوم الوطن. لم يعد هناك ما هو غير قابل للبيع والتشكيك، حتى من ظل على موقفه بات عرضة لأن يبيع في أي لحظة. لم يعد هناك من يمكن ائتمانه على شيء، وهذا ما يؤكده له شيخه: "أنا نفسي رغم التاريخ الطويل الذي تعرفه ومنذ التأسيس، أكون بطلا إذا مت وأنا كما أنا وكما تعرفني، لا تقل عني بطلا قبل أن أموت، ولا تراهن عليّ"، وهو ما يدل على انهيار كل ما هو ثابت في حياة أحمد وغيره ممن كانوا يؤمنون بهذه الأيديولوجيات؛ ومن ثم لم تعد هناك عقيدة يقينية ثابتة بعد أن أصبح كل ما حوله قابلا للتحول والانقلاب والتغير في أي لحظة تبعا للمفهوم الاستهلاكي والبرجماتي للمجتمع المحيط به، وهذا ما يؤدي بأحمد إلى حالة من حالات الانكسار والاكتئاب الحقيقي الذي يدفعه لمعاقرة الخمر ليل نهار، والانغماس فقط في ممارسة الجنس كتعويض لكل هذا الانهيار الحادث حوله.
لعل هذه الإحباطات المتتالية، والكثير من الاكتشافات التي يكتشفها أحمد يوما بعد آخر هي ما تجعله ناقما على عمّان، المدينة التي يعشقها ويكرهها في الآن ذاته؛ فهي المدينة التي يحاول أن يغير منها إلى الأفضل ويدافع عنها، ورغم كل ذلك تتجاهله وتقسو عليه بينما ترعى العديد من الفاسدين الذين باعوا، وتزداد قسوة على كل من تمسك بيقينه ولم يبع: "كأن لا أحد يقرأ التاريخ، لا أحد يعرفه، أو كأن لا أحد يريد أن يعرف هذه المدينة الصلفة المجنونة، التي أدمنتها، ألا من يخلصني منها، لماذا أنشؤوها، ومن هم الذين أنشؤوها ولأي سبب، وماذا كان دورها، وما هو دورها الآن؟ من قحالتها، من عجزها عن الإنجاب، عجزها حتى عن العناية بكل ما هو جميل وحقيقي وراق وفني وجمالي وإبداعي، لا تحمل في داخلها إلا القدرة الفذة على تعهير كل شيء، كم كثير من الرفاق والأصدقاء حولتهم إلى بغايا في عتمة ليلها، وكم أحالت الكثير منهم إلى قوادين، حتى لتكاد تشعر أنك في ماخور ولست في مدينة. ليكون كل هذا منسجما مع الأساس الذي بُنيت من أجله، ولكي تلعب دورها في كل مشاريعهم. عمّان، ويصمت الجميع، رغم معرفتهم بكل شيء، ترى لماذا يصمتون عنها كلهم؟ سياسيون وثوريون ومعارضون، شعراء ومثقفون، لماذا يصمتون وهم يعرفون كل شيء؟ كل شيء تماما، هل في اسمها شيء سحري يلجم كل عنفوان أو فكرة أو جموح أو خطر، أم فيهم ما يلتبس عليّ ولا أفهمه؟".
هذه التساؤلات اليائسة الحيرى تصب جام غضبها على المدينة التي يعشقها أحمد، المدينة التي يجلس كثيرا متأملا في سبب نشأتها ولم آلت لما هي عليه الآن من فساد ورعاية للفاسدين، وقسوة على كل من يحبها ويحاول الإخلاص لها. إنها المدينة الراعية للفساد الحقيقي لكل من خانوا أو باعوا؛ لذلك تندهش سماء حينما تحاول الانخراط معهم لتحيا شيئا من حياتهم اللاهية السعيدة؛ فهي تراهم مجرد مدعين متظاهرين بالسعادة رغم توفر كل وسائل السعادة التي تتيحها لهم الأموال التي اكتسبوها مقابل بيعهم لكل شيء، لكنهم في حقيقة أمرهم لا يشعرون بالسعادة الحقيقية، وهو ما يدل على أن الخراب في عمّان قد طال النفوس جميعا، سواء منهم من باع أو لم يبع؛ فالجميع في حالة خراب سائدة لنفوسهم: "هم عن جد هدول مبسوطين؟ ولا بيمثلوا؟ صرت أراقب كل شيء عشان أجاوب على السؤال، ما بعرف، حسيت إنه ولا إشي طالع من جوا، ولا إشي طالع من أعماقهم ومن أرواحهم يحسسك إنهم مبسوطين، أو فرحانين، صرت أراقب أكثر، حسيت في إشي خربان أو مكسور جواتهم، حاولت أعرف إيش هو ما قدرت، حتى إلي بيختلي هو وصاحبته أو هي وصاحبها، بيغيبوا ربع أو ثلث ساعة بناموا مع بعض فيها وبيرجعوا أكثر كآبة من ما راحوا، برجعوا يشربوا ويرقصوا، بلكي بيجي الفرح أو السعادة، ما بتيجي ولا بيشعروا فيها، بتذكروا إنه حواليهم ناس كثير وصحاب، بيضطروا يصيروا يمثلوا، ويعملوا حالهم فرحانين، كلهم هيك، كل إلي شفتهم وشربت ورقصت وحكيت واقتربت منهم. طيب أن على الأقل بعرف شو إلي خرّب عمري وحياتي، طيب هدول شو إلي بيوجعهم ومخرّب حياتهم كلهم، معقول يكون لكل واحد فيهم قصة خرى زي قصتي؟ مش عارفة"، ربما كان هذا المقطع من أكثر مقاطع الرواية الدالة على الخراب العظيم الماثل في عمّان حول الجميع؛ فكل النفوس قد طالها الخراب. من باعوا خربت نفوسهم بعد البيع وظنهم أنهم امتلكوا أسباب السعادة، وأحمد الذي ظل كما هو يتأمل ولا يستطيع استيعاب ما يدور حوله خربت نفسه تماما بسبب ما حدث، وسماء التي تم الاعتداء عليها جنسيا من أقرب الناس إليها منذ عمر الرابعة عشر خربت روحها تماما بسبب ما حدث، ثم التقائها وارتباطها العاطفي بأحمد المُخرَب أساسا. إنه الخراب الكامل الذي يميز عمّان وكل من فيها.
هذا الخراب الكامل في حقيقته هو ما جعل سماء تحاول مقاومته بطريقة مخالفة لأحمد الذي انعزل تماما وانغمس في تناول الكحوليات، بينما حاولت هي المقاومة عن طريق الجسد والانغماس الكامل في ممارسة الجنس مع كل من يقابلها وبكل الأشكال التي من الممكن أن يتخيلها أحد ظنا منها أن هذا هو ما يمكن أن يحقق لها السعادة بعيدا عن وساخات المجتمع الذي يحيطها: "لذا فقد وضعت أرضية ومنطلقا لقوانيني تلك، القوانين الناظمة لمملكتي، لروحي وجسدي، وكانت الغبطة والفرح والتحقق على رأس تلك القوانين، وكنت قد ألغيت وشطبت ومحوت كل قوانينهم السابقة من عقلي وذهني وقلبي وروحي، وقررت أن لا انحياز ولا احترام لشيء، لا تردد ولا استسلام، ولا تنازل عن رغبتي بالفرح والعيش كما أريد، لا يهم رأي أي كان فيّ، لا أهلي ولا أصدقائي، ولا أي كان، فلكل منهم بذاءاته"، ولكن هل حققت هذه الطريقة في المقاومة لسماء السعادة التي سعيت خلفها وأنقذتها من الخراب النفسي الذي يُعشش داخلها؟ الحقيقة أن هذا الأسلوب الحياتي الذي يضع الجسد في مواجهة العالم ومشاكله وقبحه، وزيفه لم يزدها إلا خرابا على خراب؛ لأنها من خلاله اكتشفت زيف العالم حتى لكأنها كانت تحاول كشف المجتمع من حولها من خلال كشف الذات وتعريتها وجلدها بالكامل: "قادرة، وحرة، وجريئة، وأقدّم وأقدر كل الرغبات التي كانت تعذبني، صرت أضعها أمام عينيّ وأعيشها وأحققها كأجمل ما يكون، المضحك، أنني اكتشفت أن الجميع مثلي رجالا ونساء، لكنهم جبناء، جميع الرجال يفعلون ذلك، جميع النساء، لكنهم يخبئون ويمكرون ويسرون، أنا لا أريد مكرا ولا اختباءً، ها أنذا كما أنا، ولا أريد أن يحبني أحد، فلتكرهوني جميعا، لأنكم حينما تكرهونني تكونون تكرهون أنفسكم أيها المرضى المفصومون. أريد فقط أن تتنفس روحي، أن يتنفس جسدي، ولا أريد لهما أن يموتا قهرا وكمدا، ولا أريد أن يمرضا".
إن محاولة سماء انتشال نفسها من زيف المجتمع الذي دمر حياتها حينما تم الاعتداء عليها جنسيا منذ كانت طفلة جعلها في حقيقة الأمر وكأنها تنتقم من المجتمع ومن جسدها بأن صارت مشاعية لكل الرجال، ومن خلال هذه المشاعية كان انتقامها وإعادة صياغة العالم من جديد في ذهنها ومن ثم اكتشافه وكأنه تعريه أمام نفسه؛ فكانت تستمتع برغبات الآخرين فيها، ولا تدع رجلا يمر من أمامها من دون أن تُلهبه بشهوتها القاسية ومضاجعتها له.
الروائي الأردني عبد السلام صالح
كل شيء شائه في عمّان، كل شيء قاتل وقاس؛ وهذا ما جعل سماء ترى في عمّان شبيها لها: "هذه المدينة تشبهني، أشعر أنها مثلي، تطاوعني، دوما تلين لي وألين لها، نلين ونليق ببعضنا، كأنها توأمي. ربما تشبهني بقسوتها، بجفاف روحها، بصلافتها أحيانا، ربما بأنها منتهبة ومنتهكة مثلي من بواكير طفولتها، أحيانا أشعر أنها تشبهني بكل شيء، بوقاحتها، بجرأتها، بقهرها، بعهرها، وتجذب كما أجذب، تصطاد كما أصطاد، وتقسو كما أقسو، جافة، إسمنتية، وبلا روح مثلي أحيانا، فتية وقوية، شابة وطموحة مثلي، ليلها ليلي، ونهارها عمىً مثل نهاري. عمّان، أترانا نحن الذين نفعل بهم، أم هم الفاعلون، وأنا وأنت مجرد إناث يفعل بهن الحمقى ما يشاؤون؟ وحدنا نعرف معنى الانتهاك، وحدنا نعرف ما يتركه فجورهم وفجاجتهم، ما تتركه رعونة أرواحهم، وحدنا تحملنا بذاءاتهم؛ فكان لا بد أن ننقلب عليهم ونذيقهم ما ذقنا، كلهم يريدوننا كي يشبعوا جموحهم وكبتهم وفجورهم".
إذن فكل من يعيش في عمّان يراها من خلال مفهومه الشخصي، لكن ما يمكن أن نلاحظه أن جميع رؤاهم لعمّان تلتقي في النهاية من خلال الخراب الماثل في هذه المدينة التي دمرت الجميع وأشبعت أرواحهم خرابا ووحدة، وإذا كانت سماء ترى في نفسها مجرد عاهرة أحيانا؛ فهي لم تكن تقصد نفسها فقط، بل كانت ترمي إلى وصف كل ما يدور في المجتمع العربي ومؤسساته بالكامل: "عن جد بحس مرات إني شرموطة، مش مرات، دايما، أنا هيك، وبحبني هيك، وما بدي أكون غير هيك. مين فيهم غير هيك؟ كلهم، كلهن هيك، بس بيخبوا، كلهم مثلي".
ربما كانت هذه الحالة التي دخلت فيها سماء من أجل مواجهة العالم بجسدها كبديل للاكتئاب أو الانتحار هي السبب الأكبر في تعميق الأزمة النفسية والخراب الماثل في نفس أحمد الذي كان يشعر بما تفعله لكنه لا يستطيع مواجهتها به؛ أي أنها تسببت في ازدياد اكتئابه المزمن والعميق؛ لأنه رغم إحساسه بما تفعله، ومعرفته له لم يكن يراها سوى مجرد طفلة نقية تحاول الاعتراض على العالم بطريقتها التي لا تمتلك غيرها وهي الجسد؛ لذا كان دائما ما يسامحها ولا يواجهها بما يعرفه عنها وإن كان يبثه فيما يكتبه: "تدخلين في حالة لا يفهمها أحد، تدخلين في غيبوبة روح، وعمىً مُطلق، حتى لا تعودي ترين أي شيء في الوجود، تأخذينك منك إلى آخر الدنيا هروبا، لتضميك، تحتضنين نفسك، تُصرين عليها، لا تجدين في الكون من يستحق، فتحبيك، تغورين عميقا فيك، تصلين حدود الطفولة، فتسكن روحك هناك، وتقيمين حيث عالمك السحري المشغول من خيوط براءات الندى ونغمات الضباب، هناك بيت روحك ومقامها وسكناها، في عالم من الورد من براءات الطبيعة. تصيرين إلها صغيرا يعابث الكون بطفولته، ثم تكونين مدى حين يضيق الكون، تكونين خفة حين يعلو ثقل كل شيء، تكونين نقاءً في عالم ينضح بالقذارة". هذه المثالية العالية التي ينظر بها أحمد إلى سماء هي ما أدت في حقيقة الأمر إلى ازدياد حالة الانكسار والاكتئاب لديه؛ فكل شيء من حوله يخونه، حتى سماء تخونه وهو يعلم ويصمت عما يدور من حوله؛ لذلك يحاول أن يجد لها مبررا موضوعيا مثاليا كي يستطيع تقبلها وألا يرفضها مع كل ما يرفضه؛ فهي الشيء الوحيد الذي يحاول التمسك به من أجل الاستمرار في الحياة.
من خلال لغة لاهثة متقطعة الأنفاس، متهدجة، يحاول الروائي الأردني عبد السلام صالح صياغة عالمه الروائي، لدرجة أن تشعر معها بأنفاسك متلاحقة غير قادر على التقاطها، أو متابعة هذه اللغة الحية، الحيوية، التي تشعر، وتفرح، وتحزن، وتمارس الجنس بجنون؛ وهذا ما جعل الرواية مفعمة بالنزعة الإيروتيكية المشتعلة على طول العالم الروائي، وكأن الروائي هنا يريد مقاومة الموت والإحباط والانكسار والخراب الماثل حوله بالمزيد من الجنس والاشتعال، وهذا ما نراه في العديد من مقاطع الرواية، منها قول سماء: "لذلك فقد استأجرت لهم بيتا، بيتا لجسدي، لرغبتي، وشهوتي، بيتا فقط للجنس، بعدما صرت أتعثر بعلاقات لا أعرف أين أذهب بها، بيت الشهوات ذاك الذي آخذ إليه من أريد، اثنان تكررت لقاءاتي بهما في هذا البيت، وكل واحد منهما من عالم مختلف، الأول كاتب قرأت له ثلاثة كتب لم أحب أي واحد منها، لكن الجميع يقول أنه مهم، إذا لا بد أنه مهم ويستحق، أو أستحق أن يدخلني، الحقيقة أن الجميع يستحقني، وأنا أستحق وجديرة بأن يأخذني الجميع بلا استثناء، أستحق أن ألعب مع كل الرجال في العالم، آه كم أتمنى ذلك، كم أتمنى أن يدخلني كل الرجال الصغار بأجسادهم الفتية، والرجال في المتوسط من العمر، وحتى الكهول يستحقون مني التفاتة، وأنا أستحق خبرة رماحهم، البيض والسمر والسود والشقر، سعادتي في عدد الرجال الذين دخلوني، وكلما زاد العدد؛ زادت سعادتي وسعادة جسدي، خلفي الذي صار ينافس أمامي في طلب المزيد، في البداية كنت أخاف، تألمت أول الأمر، ثم لذة غريبة راحت تعتريني أشبه بخدر لا يهدأ، في أول مرة تألمت، صارت تنادي على الرماح أينما وجدتها، هي إلي تطلب، أو أنا، كانت تطلب من أي واحد منهم ذلك، ولم يكن أحد يرفض لها طلب".
ربما كانت هذه الإيروتيكية اللاذعة تتضافر تماما مع اللغة اللاهثة المتقطعة الأنفاس التي اختارها صالح لتكون لغة السرد في روايته وكأنه يُمارس لعبة المتعة من خلال اللغة فيقول على لسان سماء بلغة لاهثة سريعة كالطلقات: "أحبه لدرجة لا يمكن أن يصدقها أحد، حتى أنا نفسي أستغرب وأرفض أن أحبه بهذه الطريقة، لكنني هكذا بكل الأسف، أحبه رغما عن كل شيء فيّ، لا أدري كيف ولماذا، وكأني لا أسيطر عليّ، عليه، على هذ الحب الذي لم يعد حبا، بل هو شيء أعمق، أحدّ، أكثر طغيانا وعنفا، أكثر شراسة وسيطرة واستلابا من الحب، شيء أكثر جنونا من الحب ومن الجنون، شيء لا يمكن إدراكه ولا الإحاطة به، لا يمكن حتى الحديث عنه أو إمساكه"، ربما من خلال هذا المقطع نلاحظ أن اللغة تلهث، تتهدج، تتقطع أنفاسها بين كل جملة وأخرى. هذه اللغة اللاهثة تتناسب تماما مع الحسية الغالبة على السرد فتتضافرا من أجل تشكيل العالم السردي لدي الروائي: "هل حدثتك عن مديري ذاك، أيام عملي في تلك الشركة، هل حدثتك عن الجُمَع والصباحات والجنس على الريق؟ كان موعدنا في الشركة يبدأ في السابعة صباحا، جربنا الجنس في كل المكاتب، على مكتبه، ولك أن تتخيل التفاصيل، أنت وحدك القادر على تخيل تفاصيل هوسي وجموحي، شبقي وجنوني، أنت الوحيد الذي يعرف، أنت وحدك من يعرف كم الفحش في خيالي، وأن خيالي هو خلاصة وتجميع لكل خيالات العاهرات في كل التاريخ، لي خيال كل امرأة مارست الجنس، أو مورس معها في التاريخ، كل خيالاتهن وخلاصات خيالاتهن هنا في جسدي، في رأسي المشبع والمترع بالجنس. هل قلت لك كيف كنت آخذه لكل مكاتب الموظفات، وأجعله يلتهمهن واحدة واحدة؟ كنت أرتدي أو أخلع ملابسي مثلهن وأتحدث مثلهن، أغنج وأتمايل، كنت أكونهن تماما فيُستثار أكثر، يهيج كل هوج روحه، يفح ويزأر، وبعدها كنت أطلب منه أن يصف لي فعلا كيف كان يفعلها معهن، فقد كان يأخذهن فعلا وحقيقة، يا ألله! كم وكيف كنتُ أُستثار عندما يفعل، وكان دوما يقول الحقيقة ويصف المشهد تماما كما حدث اللعين، كونه مديرا وصاحب الشركة كان يغويهن جميعا، له طرق عبقرية في الإغواء، وإذا اقتضى الأمر يستخدم طرقا قذرة، يستغل، يكون دنيئا ورخيصا، لا يهم المهم أن يُعريهن، ويلمس ويلتهم أجساد كل الموظفات، التهم أجساد الأربع وعشرين موظفة ولأكثر من مرة، كان يعشق الجنس ويعشقهن جميعا، ولكن أنا كنت شيئا آخر، لذا صار يحضر لي الهدايا حين يذهب هو وعشيقته الأخيرة إلى (وورك شوب)، أو مؤتمر علمي، أو دورة تدريبية، أو معرض تقني، كان ينام معها وفي نفس اليوم يشتري لي الهدايا، وعندما يعود من السفر، لا أستلمها منه إلا يوم الجمعة، يوم الجنس العظيم".
البوح هو ما يمكن أن نُطلقه على رواية "أكثر من وهم" للروائي الأردني عبد السلام صالح، شكل من أشكال البوح الطويل المتراوح بين شخصيتين، أحمد وسماء؛ فهما مكملان لبعضهما البعض روحيا وجسديا وفيما يرويانه ويعيشانه؛ لذلك نرى السرد يأتي على طول فصول الرواية مرة على لسان أحمد، ومرة تالية على لسان سماء، وهكذا حتى تنتهي الرواية، كذلك نرى أن الفصل الذي يُنهيه أحمد لا يكتمل إلا من خلال بوح سماء التالي له مباشرة، أي أن الرواية عبارة عن حالة طويلة لا تنتهي من البوح؛ وهو ما أعطى الروائي الحرية في أن يتحدث حديثا طويلا عن نفسه والمدينة والمجتمع والأيديولوجيات، والخيانات، والانكسارات، والخيبات وغيرها من دون أن يشعر المتلقي بشيء من الثقل أو الثرثرة الزائدة التي قد تؤدي إلى الترهل؛ فحالة البوح تسمح له بالكثير من الحديث الذي قد يعتبره الناقد ثقلا على المتن الروائي، لكنه صاغه بشكل فيه الكثير من القبول؛ لذلك نرى في نهاية أحد الفصول على لسان أحمد ينتهي بقوله: "لكنها هي نعومة الروح، وعطر الوجود، وجدوى الحياة، فهي أنا، لأنها تشبهني بكل عجيب، أنا على هيئة أنثى، أنا بصيغة أنثى، كيف أحاكمها، وأنا تبتُ عن أن أكون قاضيا حتى على الآخرين غيري وغيرها؟ كيف وأنا هو من يتصرف داخلها، كيف وجنوني جنونها، ومجوني مجونها، حساسيتها لأصغر مفردة في الوجود هي حساسية روحي، وأعرف أن المعاني كلها قد غادرت روحها منذ زمن بعيد، وأن شيئا مهما كان لم يعد قادرا على إقناع روحها. وكنتُ قد غسلت القلب والروح سبعا من كل ما عداك، وفرغتُ كل كلي لك".
نقول أنه مع نهاية السرد على لسان أحمد في هذا الفصل نجد سماء تتحدث في الفصل التالي مباشرة وكأنها تُكمل ما بدأه أحمد، أو أنها ترد عليه في حالة بوح دائم متصل؛ فيبدأ السرد التالي على لسانها مباشرة: "عم تبحث أيها المجنون؟ لست أكثر من استراحة، صحيح أنها قد طالت كثيرا أو قليلا لا فرق. أما آن لك أن تفهم أنك لست سوى جسر؟ معبر (قارب لعبور الليل) ما ذنبي أنا؟ إذا كان ليلي قد طال؟ هي سنواتك الأغلى، ورحيق عمرك، وأيامك كلها كانت معي ولي".
من خلال هذه اللغة السردية الخاصة ينجح عبد السلاح صالح في حبك عالم روائي يعبر عن الخديعة المؤلمة في كل شيء. الخديعة في الحب، وفي الأفكار، والمعتقدات، والقوميات، والمثاليات التي يحيا من خلالها؛ ومن ثم كان هذا الخراب الكامل الذي يحيط بجميع الشخصيات والمتمثل في العاصمة عمّان هو خراب حقيقي وجاثم على قلوبنا كقراء قبل أن يكون جاثما على قلوب شخصيات الرواية.
لكن رغم هذه اللغة السردية اللاهثة الجيدة يقع الروائي في العديد من الأخطاء اللغوية التي تدل على أن الرواية لم تتم مراجعتها لا من قبل الكاتب أو الناشر كأن يكتب "الشغاله" بالهاء في نهاية الكلمة بدلا من التاء المربوطة، أو "اللاشي" من دون همزة في نهاية الكلمة، أو "إمرأة" بجعل الكلمة تبدأ بهمزة قطع بينما هي ألف وصل، وأيضا "الإختلاف" بهمزة قطع بدلا من ألف الوصل، كذلك كتابته "عن ماذا" منفصلة بدلا من إدغامها "عماذا"، و"أن لا" مفصولتين بدلا من الإدغام "ألا"، ومثلها "من ما" بدلا من "مما"، كما يقع في خطأ أسلوبي حينما يكتب "المؤسسات التي عملت بها" باستخدام حرف الجر الباء بدلا من الفاء وهو ما يؤدي إلى التباس المعنى؛ لأن استخدامه لحرف الباء يدل على أن العمل كان بالمؤسسات أي أن المؤسسات كانت أداة للعمل، في حين أن "عملت فيها" تدل على أن العمل كان في المكان أي المؤسسة، كما يلجأ الروائي إلى تأنيث لفظة "البلد" حينما يكتب "هذه البلد" في حين أنها مذكرة والصحيح هو "هذا البلد".
إلا أن هذه الأخطاء التي تعود إلى عدم اهتمام الروائي أو الناشر بالمراجعة النهائية لا تقلل كثيرا من قيمة الرواية التي قدمها الروائي وإن كانت تؤدي إلى قلق القارئ المتذوق للغة.




محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد أكتوبر 2018م


هناك تعليقان (2):

  1. مرحبا! شكرا على تحليلك لهذه الرواية! أهملتني مقالتك وقررت قراءة الرواية وبما أني موجود في الولايات المتحدة أفضل أن أجد نسخة إلكترونية لكني لا أجد موقعا يسمح لي أن أنزل نسخة إلكترونية للكتاب. هل لديك فكرة أين يمكنني تنزيلها؟ أنا مستعد لدفع سعر معقول للتنزيل طبعا. شكرا مقدما وأتمنى أن تستمر في كتابة مراجعات كهذه، تساعدنا كثيرا ونحن نبحث عن شيء نقرأه

    ردحذف
    الردود
    1. تستطيع الحصول على الرواية من موقع جملون الإليكتروني، وسيوفرها لك حيثما تسكن

      حذف