الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

Out.. السينما السلوفاكية وحيدة في مواجهة العالم

بوستر الفيلم
ربما كان معظم مشاهدي السينما يجهلون وجود سينما سلوفاكية متميزة استطاعت تقديم العديد من الأفلام منذ بداياتها المبكرة التي كانت في عام 1921م، أي أن صناعة السينما في سلوفاكيا تكاد تكون قد سبقت الكثير من دول أوروبا. لكن رغم هذه البداية المبكرة ظلت هذه السينما حتى الآن مجهولة لدى الكثيرين من المشاهدين؛ بسبب العديد من الأمور التي لم تستطع سلوفاكيا التحكم فيها لاسيما الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من أحداث في وسط أوروبا؛ الأمر الذي أثر عليها بشكل سلبي كبير أدى إلى تراجع هذه الصناعة المهمة. كما أن تغلب النظام الشيوعي على المنطقة وقدرته على التحكم في الكثير من دول شرق أوروبا ومنها سلوفاكيا التي ضمها النظام الشيوعي مع التشيك في اتحاد واحد هو تشيكوسلوفاكيا قد أدى إلى الحد الكبير من حرية التعبير فيها؛ الأمر الذي انعكس بالضرورة على السينما ومن ثم تكميمها وعدم قدرتها على التعبير، فضلا عن أن السينما السلوفاكية واجهت الكثير من الصعوبات الأخرى التي كان أهمها قلة المال لتمويل الأفلام، وندرة الناطقين باللغة السلوفاكية مقارنة بغيرها من اللغات في أوروبا.
كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى الحد من انطلاق السينما السلوفاكية التي قدمت لنا من قبل العديد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما الأوروبية منها على سبيل المثال فيلم (The Shop on Main Street (Obchod na korze عام 1965م، الذي كان أول فيلم سلوفاكي- وهو الوحيد- يحصل على جائزة أوسكار لأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية غير الإنجليزية، وهو الفيلم الذي أخرجه كل من المخرجين السلوفاكي ياك كادار، والتشيكي إلمار كلوس، كما لا ننسى أن الشيوعيين قد منعوا هذا الفيلم من العرض لمدة تصل إلى 21 عاما؛ حيث كانت تدور أحداثه في الحرب العالمية الثانية عن رجل النقانق تونو بركتو الذي تحاول عائلته الضغط عليه من أجل إغلاق محل امرأة يهودية بينما يحاول هو عدم مخالفة ضميره الإنساني. كما قدمت فيلم Pacho, the Brigand of Hybe (Pacho, hybský zbojník) 1975م وهو من الأفلام الكوميدية الجيدة.
إلا أننا لا ننسى للسينما السلوفاكية الفيلم الموسيقي المهم Let the Princess Stay with Us (Neberte nám princeznú) 1981م، وهو الفيلم الذي يكتسب أهميته من كونه مسرحية موسيقية تم تحويلها إلى السينما، بل وكان معظم الممثلين فيه من الموسيقيين المحترفين، وهو من تأليف الموسيقار السلوفاكي Dežo Ursíny الذي كان أحد مؤسسي الروك السلوفاكي الحديث، وقد استوحى قصة الفيلم من قصة خيالية مثل سنو وايت والأقزام السبعة.
إذن فالسينما السلوفاكية لها من التاريخ في صناعة السينما ما يجعلها سينما مهمة في تاريخ السينما الأوروبية، وإن كان إنتاجها قليل وغير معروف بسبب العديد من الظروف التي مرت بها؛ لذلك يأتي الفيلم السلوفاكي Out للمخرج الجورجي György Kristóf جيورجي كريستوف من الأفلام المهمة التي تناقش مشاكل أوروبا الشرقية ومنطقة دول البلطيق (إستونيا، ولاتفيا، ولتوانيا)، وهو الفيلم الذي شاركت في إنتاجه كل من سلوفاكيا، والمجر، والتشيك، ولاتفيا.
يحاول الفيلم الذي كتبه كل من إيزتر هورفاث Eszter Horváth، وجابور باب Gábor Papp بالاشتراك مع مخرجه جيورجي كريستوف نقاش أزمة الإنسان في دول شرق أوروبا وشعوره العارم بالوحدة، وأنه مجرد كائن مطرود من جميع المجتمعات الصغيرة التي تحيطه، أي أنه يناقش مشكلة الإنسان الوجودية الشاعر بوحدته في مساره الخاص الذي لا يتقاطع مع مسارات الآخرين من خلال أجوستون Ágoston الذي قام بدوره بإتقان الممثل المجري Sándor Terhes ساندور تيريز مهندس الطاقة في قرية سلوفاكية صغيرة، حيث يفقد وظيفته مدى الحياة بعد الاستغناء عن 40% من العاملين في محطة الطاقة ويجد نفسه فجأة عاطلا في منزله مصابا بالكثير من الإحباط والاكتئاب، شاعرا بأن زوجته التي قامت بدورها الممثلة Éva Bandor  قد بدأت في التحكم فيه، والتعامل معه باستعلاء؛ بسبب إنفاقها على المنزل وتعطله عن العمل؛ الأمر الذي يشعره بالكثير من العجز، وبأنه مجرد عبء عليها وعلى ابنته العشرينية.
لا يحتمل أجوستون هذه الحالة من التعطل، أو الشعور بكونه عبئا على الأسرة؛ ومن ثم يبدأ في البحث عن أي شكل من أشكال العمل، وبالفعل يجد إعلانا للعمل في لاتفيا في أحد الأحواض لبناء السفن كعامل، ويسافر بالفعل في رحلة طويلة من أجل الحصول على هذه الفرصة وبداية حياته المهنية من جديد، لكنه هناك يفاجأ بالموظفة تخبره بأن هذا غير ممكن لأن الشركة ليس لديها ترخيص من أجل عمل الأجانب فيها، أي أنه قد تم التغرير به من خلال الإعلان عن هذا العمل، إلا أنه يخبرها أنه في حاجة ماسة لهذا العمل، وأنه لا يستطيع العودة مرة أخرى إلى منزله من دونه، كما أنه يوافق على أي شكل من أشكال العمل؛ فهو يستطيع أن يفعل أي شيء، هنا تتعاطف معه الموظفة، لكنها تطلب منه مقابل منحه هذه الفرصة أن يتبرع لإحدى الجمعيات التي تعمل من أجل الحفاظ على الحيوانات التي في سبيلها للانقراض، فإذا كانت هي ستقف إلى جواره في محنته؛ فالحيوانات في حاجة إلى من يقف بجوارها أيضا؛ وبناء على ذلك لا بد له من دفع المال من أجل الحيوانات.
يضطر أجوستون أن يدفع لها المال صاغرا من أجل الحصول على هذه الفرصة كعامل لبناء السفن، لكنه يفاجأ أن جميع العمال يعاملونه بشكل كبير من العدائية؛ حيث يرى أهل لاتفيا أنه مجرد غريب جاء من أجل الحصول على فرصة عمل متاحة لأحد أبناء المدينة الذين هم أحق بها من الغرباء والأجانب، أي أنه يجد نفسه مطرودا، أو خارج سياق مجتمع العمال منذ اللحظة الأولى؛ فيحاول التعايش مع جو العدائية والعزلة الذي يجابهه به الجميع، ويقيم في أحد الفنادق الرخيصة التي يهتم فيها موظف الاستقبال بنباتات الصبار، والتلصص على النزلاء.
المخرج الجورجي جيورجي كريستوف
إن شعور الوحدة ووجوده خارج سياقات الآخرين يتعاظم لديه حينما يجري اتصالا مع زوجته من خلال برنامج "السكايب" فيفاجأ بشجرة زينة داخل المنزل، وحينما يسأل زوجته عنها، تخبره أنها اشترتها ورأت أن شكلها هكذا يعطي إحساسا مريحا داخل شقتهم، لكنه يسألها بحزن: وأين أريكتي المفضلة؟ فتخبره أنها قد نقلتها إلى القبو، ثم سرعان ما تغلق معه لأنها قد أتاها بعض الضيوف. هنا يتعمق داخل أجوستون شعور الوحدة وعدم اهتمام الآخرين به، وأنه دائما خارج سياق حياتهم أو اهتمامهم؛ فها هي زوجته بمجرد خروجه من البيت ألقت باهتماماته وما يحبه داخل القبو.
يذهب أجوستون ذات ليلة إلى البار لتناول البيرة، وهناك يقابل رجلا قد تقدم به العمر ويشبه إلى حد كبير سانتا كلوز، لكنه يشعر بالكثير من الحزن. يحاول الرجل أن يتجاذب الحديث مع أجوستون؛ فيعرف أن هذا الرجل يشعر بالحزن لأنه يؤمن بالأبراج وبرجه هذه الليلة ليس في طالعه. يحتسيان المزيد من الخمور وقد بدا له أن هناك من بدأ يهتم به ويشاركه الأمور، لكنه حينما اندمج في السكر وانتشى بوضع الكثير من الطعام في فمه مازحا يفاجأ بأن الرجل ينظر إليه مستاء ويتركه راحلا فجأة غير راغب في استكمال السهرة معه؛ فيخرج مرة أخرى من السياق العام إلى سياقه الشديد الخصوصية، وهو السياق الذي لا يشاركه فيه أحد.
لعل هذه السهرة التي سهرها أجوستون مع الرجل العجوز الحزين كانت نقطة مفصلية في رحلته للبحث عن فرصة جديدة للحياة والعمل؛ حيث يذهب إلى عمله متأخرا ويطرده المسؤول عنه من العمل لكراهيته له باعتباره أجنبيا غريبا، لكنه يبرر له طرده بأنه قد جاء متأخرا وسكرانا.
هنا يبدأ أجوستون في البحث عن أي فرصة تثبت له نجاحه، غير راغب في العودة إلى بيته في سلوفاكيا مرة أخرى حتى لا يواجه زوجته وقد فشل في إيجاد فرصة جديدة. يقابل أجوستون امرأة غريبة الأطوار على شاطئ البحر حيث كانت ترعى العشب الذي ينمو تلقائيا، وحينما يسألها عما تفعله تخبره أنها ترعى العشب من أجل أرنبها، وتدعوه فيما بعد لحفلة موسيقية، وحينما يذهب معها ويرقصان ثملين تعطيه أرنبها الذي كان عبارة عن أرنب محنط من دون أذنين، هنا يندمج معها أجوستون للدخول في سياق حياتها ومشاركتها فيه، ويبدأ في الرقص الذي ينسيه نفسه ومن حوله، لكنه حينما ينتهي من رقصه يكون السكر قد بلغ به مداه، كما تكون المرأة الغريبة الأطوار قد اختفت تماما إلى غير عودة تاركة إياه في وحدته.
يحاول أجوستون شراء صنارة صيد ليتكسب من خلال ما يصطاده من أسماك كحل مؤقت، وحينما يذهب إلى السوق يطلب من بائعة السمك أن يعمل معها، فتقول له: هات ما تصطاده من أسماك سأشتريها منك بشرط أن تكون في مثل هذا الحجم.
بالفعل يحاول أجوستون اصطياد الأسماك إلا أنه يفشل في ذلك، بل ويكون حجمها صغيرا؛ فيذهب إلى البار وهناك يسأل البارمان الذي كان مشغولا في الحديث مع أحدهم عن المكان الذي يستطيع فيه أن يصطاد؛ فيخبره بأن هذا المكان لا يمكن الاصطياد فيه، ويتدخل الرجل الذي كان يحادث البارمان ويخبره أن الصيد يحتاج إلى مكان فيه ضوء وهادئ بعيدا عن الأمواج العالية، وهذا غير متاح سوى في الشمال. هنا يطلب منه أجوستون أن يأخذه معه إلى الشمال حيث أنه غريب عن المكان؛ فيوافق الرجل الذي يأخذه معه في سيارته، لكنه يبدو غريب الأطوار، يسير بسرعة كبيرة جدا أحيانا، وأحيانا أخرى يحاول الانحراف بالسيارة لدرجة أنها قد تنقلب بهما، ثم ينزلان في غابة كثيفة قائلا له: هنا أستطيع سماع موسيقى لا يستمعها غيري، لكن كل من له آذان سيستطيع سماعها بلا شك.
يبدأ أجوستون في الارتياب من الرجل غريب الأطوار، لكنه يأخذه معه إلى منزله، ويعرفه على زوجته التي كانت قد أجرت العديد من عمليات التجميل التي حولت وجهها وشفتيها إلى شكل بشع ومنتفخ تماما باعتبار أن هذا هو الشكل المثالي للجمال. يقضي الزوجان والضيف السهرة في شرب الفودكا وحينما يأخذهم السكر بالكحول تبدأ الزوجة في الرقص وتكتشف الأرنب المحنط الذي كان قد حصل عليه من السيدة الغريبة التي اختفت؛ فيثور الزوجان عليه باعتبارهما نباتيين وأنه أدخل إلى بيتهما لحما ميتا؛ فيدور عراك بين الرجلين وتضربه الزوجة على رأسه ليفيق في الصباح وقد وجد نفسه ملقى في الغابة وحيدا بعد أن جرداه من كل شيء يمتلكه.
يعود أجوستون إلى الفندق الذي يقيم فيه ليخبره موظف الاستقبال أن مدة إقامته المدفوعة الأجر قد انتهت وأنه إذا رغب في التمديد فعليه أن يدفع المزيد من المال؛ فيخبره أنه سيرحل، لكنه يقوم بالاتصال بابنته ليهنئها بعيد ميلادها، وأنه لم يستطع الاتصال بها بالأمس نظرا لانشغاله، فترد عليه بالكثير من الجفاف، ثم تخبره أنها غير قادرة على محادثته الآن نظرا لوجود أحد الفتيان معها؛ يعتذر لها الأب على إزعاجها ويغلق الخط شاعرا بالكثير من الحزن والوحدة؛ فها هي ابنته تخرجه من سياق حياتها بدورها؛ ليجد نفسه وحيدا تماما خارج كل السياقات الحياتية الممكنة. يشعر أجوستون بأنه مطرود كلية من الحياة، وأنه لا بد أن يواجه هذه الحياة وحيدا محاولا التغلب على هذه الوحدة والبؤس الشديد الذي يشعر به، وأن كل شخصية تلفظه إما كراهية، أو لأنها غريبة الأطوار، لكنه لا يرغب في الاستسلام، ويحاول بدأب اصطياد أسماك كبيرة من أجل بيعها والحصول على المال، وبينما هو يستمر في رحلة البحث عن عمل، يجد إحدى سفن الصيد الكبرى ويطلب من رئيسها العمل معه في الصيد على السفينة فيوافق الرجل، لكنه يجعله مجرد عامل من أجل التنظيف فقط، هنا يوافق أجوستون وينتهي الفيلم به وهو ينظف ظهر السفينة من بقايا الأسماك الواقعة على ظهرها والتي أخبره رئيسه أنها ستعود إلى البحر مرة أخرى؛ فهم لا حاجة لهم بها.
ربما كان مشهد النهاية الذي نرى فيه أجوستون ينظف فيه ظهر السفينة من الأسماك الميتة من المشاهد المؤلمة المهمة والدالة على ما وصل إليه في هذه الرحلة التي يشعر فيها بالوحدة المطلقة؛ حيث تركز الكاميرا على الأسماك الميتة والتي كان من بينها إحدى الأسماك البلاستيكية التي كان يحبها ويحتفظ بها دائما معه، إلا أنه يزيحها مع غيرها من الأسماك متخلصا منها، وكأنه يتخلص من كل شيء يحاول الارتباط به ويفضل شعوره بالوحدة وعدم الارتباط، أو أنه يتخلص من كل ماضيه السابق ويوافق على ما وصل به الحال في هذه الرحلة.
إن بداية الفيلم بصورة شبكة ضخمة في البحر بينما هي فارغة، ثم انتهائه بنفس الشبكة ممتلئة بالكثير من الأسماك العالقة فيها يؤكد مصير أجوستون منذ بداية الفيلم، لاسيما أن الفيلم يبدأ بعبارة دالة ومهمة تقول: هنا يبدأ البحر، لكنه ليس نهايته بأي حال Here the sea begins, it’s by no means where it ends، أي أن بحر البلطيق الذي بدأ منه أجوستون في رحلة طويلة للبحث عن فرصة حياة جديدة سيلتهمه معه ولن يعود منه، كما يحمل في معنى آخر من معانيه، أن هذه هي حياته التي سيبدأها من نقطة معينة ليظل يدور في متاهاتها التي لا تنتهي وحده، عالقا في هذا العالم الرافض ضمه إلى أي سياق من السياقات من حوله.
ربما كان أهم ما في الفيلم السلوفاكي Out للمخرج الجورجي جيورجي كريستوف هو التصوير الذي كان في معظم كادراته التصويرية قادرا على نقل الحالة الشعورية للبطل، لا سيما أن المصور كان حريصا على نقل الحالة الشعورية اليائسة، والشعور بالوحدة والعزلة الكاملة المؤدية للاكتئاب من خلال استخدام الكثير من الألوان الباردة والباهتة خاصة الأزرق البارد ودرجاته المتفاوتة، وبعض الألوان القاتمة، كما أن الممثل المجري ساندور تيريز كان من الإتقان ما جعل وجهه منذ بداية الفيلم حتى نهايته لا يوحي سوى بالحزن الشديد والاكتئاب وشعور الوحدة الذي يتملكه حتى النخاع.
يُعد الفيلم السلوفاكي Out من الأفلام المهمة التي تصور حياة الوحدة والعزلة في شرق أوروبا ومنطقة البلطيق لاسيما أن أهل هذه المنطقة يشعرون بالعدائية الشديدة تجاه الغرباء والأجانب الذين يظنون أنهم يأتون من أجل الاستحواذ على فرصهم القليلة في الرزق، كما يناقش حالة الشعور بالطرد من جميع المجتمعات الصغيرة المحيطة بالبطل؛ فها هو يشعر بالرفض من زوجته، وابنته، ومجتمع العمال الذين يعمل معهم، بل ومن الرجل الشبيه بسانتا كلوز، وسيدة الأرنب، والرجل الغريب وزوجته أيضا؛ الأمر الذي يشعره بأنه وحده في مواجهة العالم.



محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد نوفمبر 2018م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق