الخميس، 25 نوفمبر 2021

الجيب.. المأساة اليوغوسلافية بعينيّ طفل

ثمة محاولة جادة ومُهمة وفنية يسعى إليها المخرج والسيناريست الصربي Goran Radovanović جوران راداكوفيتش من خلال فيلمه الصربي- إنتاج صربي ألماني مُشترك- Enclave الجيب، أو Енклава/ Enklava حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة الصربية، يعمل من خلالها على تأمل الوضع الذي آل إليه الحال في إقليم كوسوفو بين كل من الأغلبية المُسلمة من الألبان، والأقلية المسيحية النادرة الباقية من الصرب في أحد الجيوب التي تعيش تحت حماية قوات الأُمم المُتحدة هناك تخوفا من انتقام المُسلمين منهم، أو محاولة تصفيتهم وإبادتهم.

إن محاولة تأمل الوضع تسعى في جوهرها إلى التساؤل: هل من المُمكن لهؤلاء الألبان المُسلمين التعايش السلمي مع الصرب المسيحيين وتناسي خلافاتهم القديمة، والمجازر المُتبادلة التي وقعت بينهم في الماضي؟

يقدم لنا المُخرج هذا التساؤل، طارحا علينا تأمله من خلال عيني طفل صربي صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره، يعيش مع جده وأبيه في قرية في شمال كوسوفو تحت حماية قوات الأُمم المُتحدة؛ الأمر الذي يجعل الطفل لا ينتقل داخل القرية ذهابا وإيابا إلى مدرسته إلا داخل عربة عسكرية مُصفحة؛ تخوفا من الاعتداء عليه أو محاولة قتله، وهو الأمر الذي يجعله وحيدا تماما لا يوجد لديه أي صداقات مع أقرانه؛ لأنهم الأسرة الصربية الوحيدة الباقية في هذه المنطقة، كما أن المدرسة التي يذهب إليها للدراسة لا يوجد فيها أي طفل غيره يذهب للتعلم؛ لذلك نراه في الفصل الدراسي وحيدا مع مُعلمته التي تقوم بالتدريس من أجله فقط في المنطقة التابعة لقوات الأُمم المُتحدة!

يفتتح المُخرج عالمه الفيلمي على الطفل الصربي نيناد- قام بدوره المُمثل الصربي Filip Subarić فيليب سوباريتش- داخل الفصل الدراسي بينما يقرأ لمُعلمته واجبه المنزلي الذي كلفته به بعنوان صديقي المُفضل؛ فنسمعه يقرأ: ليس لي صديق مُفضل، لأنه لا يوجد أي أطفال في قريتي، أحب اللعب مع جدي ميلوتين الذي يبلغ 86 عاما، هو لطيف جدا، لديه ابن اسمه فويا، وهو والدي، ميلوتين وفويا يتشاجران باستمرار؛ لأن فويا يشرب البراندي دائما، يقول له: يا بني أتمنى ألا تكون ثملا حينما أموت، هل سيتم دفني من قبل الألبان؟ أبي يرد: لماذا عاقبني الرب بأن أتعفن هنا إلى جانبك؟ فيقول الجد: سأموت هنا حيث ولدت، أيها الثمل الأحمق ارحل إذا كان لديك مكانا آخر تذهب إليه، ميلوتين سيموت قريبا؛ لأنه مريض جدا ولا يغادر السرير، أنا ألعب الدومينو معه، ودائما ما أفوز عليه، حينما أفوز يهديني مُكعب سكر، أنا آسف لموته؛ لأنه لن يتبقى لي أحد لألعب معه وأحصل على مُكعبات السُكر منه.

ربما نلاحظ هنا المقدرة الفنية والإتقان لدى المُخرج الحريص على الإيجاز، واختصار الكثير من المشاهد التي كان عليه أن يصورها كي نعرف هذه المُعطيات إذا لم يلجأ إلى كتابة هذا المشهد- المُخرج هو كاتب السيناريو- أي أن هذا المشهد المُوجز كان قادرا على عرض العديد من المشاهد الأخرى التي رأى المُخرج أن الفيلم في غنى عنها؛ فعرفنا من خلاله شكل العلاقة التي تربط نيناد بجده، ووحدته، وحزنه الشديد، وعلاقة أبيه بجده وعدم استقرارها، ورغبة أبيه الكبيرة في ترك إقليم كوسوفو والهجرة منه، لكنه مُرغم على البقاء بسبب الجد الكبير الذي يرفض الرحيل، كما علمنا عن عمته التي رحلت إلى بلجراد وتزوجت هناك خبازا وعاشت معه.

إن هذا المشهد الذي يختصر الكثير من المشاهد يُدلل على مدى قدرة المُخرج على فهم صناعة السينما التي ليست في حاجة إلى الثرثرة بقدر حاجتها للإيجاز وتقديم العديد من الجماليات الفنية.

نُشاهد نيناد حينما يخرج من الفصل الدراسي يستقل إحدى المُدرعات التابعة لقوات الأُمم المُتحدة، وهي المُدرعة التي تصاحبه في كل تنقلاته من أجل حمايته؛ لذلك نراه من داخل المُدرعة المُظلمة يتأمل الأطفال الذين يلهون في السهول الخارجية من خلال فتحة شديدة الضيق في جسم المُدرعة، حتى أنها لا تسمح بمرور الضوء الكافي من أجل إنارة الظلام الذي يجلس فيه. يصاحب نيناد في تنقلاته داخلها القس درايا- قام بدوره المُمثل الصربي Miodrag Krivokapić ميودراج كريفوكابيتش- وهو القس الوحيد الباقي في الإقليم، والذي يولي نيناد الكثير من العناية والحب، حتى أنه دائما ما يقوم باللعب معه داخل المُدرعة، والاهتمام بواجباته وتحصيله الدراسي.

يسأل القس نيناد عن جده وصحته، وهل ما زالت العلاقة بينه وبين فويا- قام بدوره المُمثل الصربي Nebojša Glogovac نيبويسا جلوجوفاتش- متوترة وسيئة، ثم يطلب منه إخبار والده/ فويا أنه يريد أن يراه لأمر ضروري، لكن الفتى حينما يخبر الأب يثور ويقول للفتى: لو كان صربيا شجاعا حقا؛ لأتى إلى هنا على حصانه، أنا لن أركب هذه المُدرعة أبدا.

ربما نلاحظ هنا أن المُخرج كان حريصا على التأطير الزمني لأحداث فيلمه منذ البداية والتي حددها في إبريل 2004م، أي، حسب الأحداث التاريخية التي حدثت في الواقع، بعد أسبوعين فقط من المذابح التي اجتاحت كوسوفو في مُنتصف مارس من العام نفسه، مع تنفيذ أعمال انتقامية عنيفة ضد السكان الصرب المُتبقين في المنطقة، ولعل هذا التحديد الزمني هو ما يفسر لنا كيفية صيرورة الأحداث في الفيلم وسبب وجود الأسرة الصربية الباقية في الجيب تحت حماية الأُمم المُتحدة المُشددة؛ نظرا للعداء الشديد من قبل الألبان المُسلمين لأي صربي مسيحي ورغبتهم في الفتك به والانتقام منه.

إن هذا الجو المشحون تماما برغبات الانتقام وإسالة المزيد من الدماء يصوره المُخرج بنجاح وذكاء ودراية فنية من خلال حرصه على أن تكون الرؤية البصرية في أغلب المشاهد من خلال الإطارات الضيقة كالنوافذ الصغيرة، أو الثقوب وغيرها من الإطارات الخانقة التي توحي بالحصار الشديد والشعور بالاختناق الذي تعاني منه الأسرة الصربية، في مُقابل البيئة المُحيطة المُتسعة ومساحاتها الشاسعة التي يعيش فيها الألبان المُسلمين مُستمتعين، بل ويحاولون استعراض القوة أيضا، كما أن الإضاءة الخافتة في أغلب المشاهد تدل على الحزن الجاثم على صدورهم طوال الوقت.

إذن، فالمُخرج لديه من الإدراك الفني والخبرة ما يجعلانه يستغل جميع الأدوات الفنية المُتاحة أمامه من أجل التعبير عن الحالة النفسية، والواقعية التي يريد أن يوصلها لنا من دون أي ثرثرات لا داعي لها.

يصل المرض بالجد ميلوتين- قام بدوره الممثل المقدوني Meto Jovanovski ميتو جوفانوفسكي- إلى درجة كبيرة من الوهن؛ حتى أنه لا يستطيع مُشاركة حفيده نيناد في لعب الدومينو، ويضطر إلى منحه السكر من دون لعب، وهو الأمر الذي يُشعر الفتى بالضيق؛ لرغبته في اللعب مع جده.

يراقب نيناد الأطفال الألبان الذين يقومون باللعب في المساحات الواسعة، لكنه يقوم بهذه المُراقبة خفية تخوفا منهم رغم رغبته الشديدة في مُشاركتهم، حينما يصل إلى المدرسة ذات يوم يجد مُعلمته قد كتبت له على لوح التعلم اعتذارا بأنها قد وجدت عملا لها في بلجراد واضطرت إلى الذهاب هناك، وبناء على ذلك عليه ألا يذهب إلى المدرسة لحين الاتصال به. يخرج نيناد من المدرسة حزينا ليراقب الأطفال الذين يلعبون لكنهم يلمحونه، ويحاولون اللحاق به مُخبرين إياه أنهم يرغبون أن يركبوا معه السيارة المُصفحة التي يقومون برجمها بالحجارة كلما مرت من أمامهم، يخبرهم نيناد أنهم لا يمكنهم دخول السيارة لأنهم ألبان، فيقولون له: اخبر الجندي بأن جدتنا صربية؛ فيسألهم نيناد عن المُقابل إذا ما فعل ذلك، ليخبرونه بأنهم سيأخذونه إلى الجدول كي يسبح معهم، ولن يشاركهم باشكيم. يستفسر نيناد عن باشكيم ليعرف منهم أنه فتى قريب منهم في العمر يرعى الماشية في السهول، وأن الصرب قد قاموا بقتل أبيه؛ لذلك يشعر بكراهية كبيرة تجاه أي صربي باعتبار أن كل الصرب مسؤولين عن مقتل الأب وحرمانه منه، وهو ما يجعل باشكيم ذات مرة يخبر أقرانه من الأطفال بقوله عن نيناد: إنه مُجرم، جميعهم مُجرمين، وهو ما يُدلل على أن الصراع قد ترك بأثره داخل نفوس الجميع فبات جميع الألبان مُتشابهين في جرائمهم، وأصبح جميع الصرب كذلك مجرد مُجرمين.


يطلب نيناد من الجندي السماح لصديقيه الألبانيين الركوب معه في السيارة المُصفحة، ويذهب معهم بالفعل إلى الجدول للسباحة واللهو معهم بينما يراقبهم باشكيم شاعرا بالكثير من الكره والمقت تجاه نيناد، وأثناء لهوهم تقع ملابس نيناد في الماء وتختفي؛ الأمر الذي يجعله يعود إلى البيت من دون ملابسه، فيقوم أبوه/ فويا بجلده بقسوة على جسده العاري بينما يتابعه الجد بصمت وعدم مقدرة على إنقاذ الفتى.

نلاحظ هنا أن المُخرج كان حريصا على أن يبدو فويا/ الأب قاسيا إلى حد بعيد مع نيناد، فنراه يعامله بشكل كبير من القسوة وعدم الاهتمام، والإحجام عنه وعدم الرغبة في الحديث إليه، لكن المُخرج/ السيناريست لم يذكر لنا أي سبب مُقنع لهذه الطريقة الفاترة والقاسية في التعامل مع ابنه، ربما كان يقصد من وراء ذلك التأكيد لنا على أن فويا يشعر بالكثير من السأم والملل؛ بسبب اضطرراه للحياة في القرية وسط الألبان بسبب أبيه المريض الذي على شفا الموت، لكن هذا المُبرر ليس من القوة والمنطقية التي تجعل الأب يتعامل بمثل هذا الشكل القاسي والفاتر مع الصغير؛ ومن ثم كان عدم تقديم المُبرر نقطة ضعف في بناء الفيلم تجعلنا نتساءل عن السبب طوال أحداثه.

يعمل المُخرج الصربي جوران راداكوفيتش بمهارة على بناء السيناريو الذي قام بكتابته؛ ففي الحين الذي يعاني منه الجد من الوهن الشديد ويكاد أن يرحل عن الحياة، ينقل لنا في المُقابل عائلة الفتى باشكيم/ الراعي- قام بدوره المُمثل الصربي Denis Murić دينيس موريتش- التي تستعد لزفاف أحد أبنائها، ويصور لنا استعداداتهم للزواج وتحضير السلاح الذي لا بد من إطلاقه في الفرح، والسيارات التي ستقوم بجولة كبيرة في الإقليم مع العازفين وكأنه استعراض للقوة في المنطقة، وفي الوقت الذي يستعد فيه الرجال لذلك يقوم باشكيم بسرقة إحدى قطع السلاح منهم وإخفائها، بل ومحاولة قتل القس مرة، ونيناد مرة أخرى بالتصويب المُتردد عليهما باعتبارهما من الصرب الذين قاموا بحرمانه من أبيه.

إن المُخرج هنا يضع أحداثه بالكامل على فوهة مُلتهبة، الأمر الذي ينذر بكارثة من المُمكن لها أن تحدث؛ فالجد الصربي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما الأسرة الألبانية تستعد لزفاف ابنها الاستعراضي، ونيناد قد انخرط في صداقة مع الفتيين الألبانيين ويلهو معهما، وباشكيم يراقبهم ويراقب الجميع راغبا في الانتقام لمقتل أبيه، أي أن قدوم العاصفة قريب لا مُحالة، وهو ما يمكن له أن يُفجر الوضع مرة أخرى، ويطلق المزيد من الكراهية والثأر والرغبة في الانتقام لإسالة المزيد من الدماء.

يموت الجد/ ميلوتين ويشعر الفتى بالحزن الشديد عليه، ويطلب منه أبوه الذهاب لاستدعاء القس/ درايا والانتهاء من الجنازة؛ فهو لن ينتظر وصول شقيقته ميليتسا- قامت بدورها المُمثلة الصربية Anica Dobra أنيكا دوبرا- التي تقيم في العاصمة الصربية بلجراد، وحينما يذهب الفتى إلى الجندي الذي لا يفهم الصربية، يخبره الجندي أنه لا توجد مدرسة وعليه العودة مرة أخرى إلى البيت مانحا إياه قطعة من الشيكولاتة؛ فيضطر نيناد الذهاب إلى بيت القس جريا على قدميه في نفس الوقت الذي كان فيه القس قد ركب عربته التي تجرها الخيول مُتجها إلى بيت الجد من أجل مراسم دفنه.

يصل نيناد إلى بيت القس ليجد الطفلين الألبانيين وباشكيم يلعبون بجوار جرس الكنيسة الضخم راجمين إياه بالحجارة، وحينما يلمحه باشكيم يطلب منه أن يشاركهم اللعب، لكن نيناد يخبرهما أنه يبحث عن القس من أجل دفن جده، فيخبره الطفلان أن القس قد ركب عربته ولا بد أنه عندهم في البيت الآن. يبدأ نيناد في مُشاركتهم اللعب، وحينما يرغب في العودة خشية ضربه من أبيه يرفض باشكيم عودته ويصوب المُسدس تجاهه طالبا منه أن ينزل تحت جرس الكنيسة الضخم ويبدأ في العد، لكن نيناد يرفض العد بينما يقف تحت جرس الكنيسة المُنخفض. يسأله باشكيم: هل تشعر بالخوف؟ فيرد نيناد بصلابة بالنفي؛ الأمر الذي يجعل باشكيم يشعر بالكثير من الغضب ويبدأ في إطلاق الرصاص على الجرس الذي يوجد نيناد تحته؛ فترتد إحدى الرصاصات في ساق باشكيم وتصيب رصاصة أخرى حبل الجرس الذي يسقط فوق نيناد الذي حُبس داخله.

يعود القس مرة أخرى إلى بيته حينما يجد الطريق مقطوعا بسبب مُهاجمة الألبان أتوبيسا قادما من بلجراد فيه ميليتسا عمة نيناد، وحينما يرى باشكيم المُصاب في ساقه يحمله متوجها به إلى أسرته الألبانية اللاهية في العرس، ورغم أن القس هو الذي يحمل باشكيم المُصاب إلى أهله إلا أنهم يذهبون غاضبين لحرق جرس الكنيسة وبيت القس في دلالة على استحالة إمكانية التعايش بين الألبان والصرب مرة أخرى، بل يقوم الألبان بتحطيم مقابر الصرب ويعيثون فيها فسادا!

تشتعل الأحداث حينما يسأل جد باشكيم: من أطلق عليك النار؟ ولما يخبره الطفل بأنهم كانوا يلعبون لا يصدقه الجد، ويصر على أن يخبرهم بمن أطلق عليه النار، فيدعي الفتى بأن الصرب هم من فعلوا ذلك؛ الأمر الذي يشعل الموقف ويحول القرية إلى بركان من الغضب والرغبة في الانتقام.

تحاول قوات الأُمم المُتحدة السيطرة على الوضع من الانفجار؛ فيسرعون إلى عائلة نيناد الصربية ويضعونهم مع تابوت الجد المتوفي في إحدى السيارات المُصفحة، وحينما يرفض فويا الانضمام إليهم لرغبته في البحث عن ابنه أولا قبل الرحيل يرغمونه على ركوب السيارة معه، لينتقل المُخرج فيما بعد إلى نيناد وأبيه وقد انتقلا إلى العاصمة بلجراد ليلتحق الطفل بإحدى المدارس هناك ويستقران في العاصمة.

إن عدم إمكانية التعايش والعداء التاريخي بين الصرب والألبان يتضح لنا حينما يلتحق نيناد بالمدرسة في بلجراد وتسأله المُعلمة في الفصل عن مسقط رأسه؛ فيخبرها أنه من إقليم كوسوفو؛ الأمر الذي يجعل زملائه يعلقون ساخرين: ألباني، وينخرطون في الضحك الساخر، بل ويحرصون على تجنبه الدائم مما يشعره بالمزيد من الوحدة والعُزلة رغم تركه لإقليم كوسوفو الذي كان المسلمون يتجنبونه فيه.

ثمة سؤال لا بد أن يتبادر إلى ذهن المُشاهد حينما ينتقل نيناد وأبوه إلى بلجراد، كيف تم إنقاذ الفتى من تحت جرس الكنيسة؟ إن عدم معرفتنا لكيفية إنقاذ الفتي يُعد حلقة مفقودة في تسلسل الأحداث قد يؤدي إلى هدم الفيلم بأكلمه، لكن المُخرج جوران راداكوفيتش كان من الذكاء الفني الذي جعله يتلاعب بالجمهور حينما تعمد تأخير إخبارنا عن الكيفية التي تم من خلالها إنقاذ الفتى من تحت جرس الكنيسة، فينتقل فيما بعد من خلال الفلاش باك Flash Back والتداخل المونتاجي إلى القرية مرة أخرى، ويكون حريصا من خلال المُونتاج على الانتقال المُتبادل بين عزلة نيناد في بلجراد بين زملائه من جهة، وبين عرض الأحداث السابقة التي نرى من خلالها باشكيم وقد نهض من فراشه مُسرعا لمحاولة إنقاذ نيناد الذي لا يعرف أنه تحت الجرس سواه، وحينما يصل إلى هناك ويتأكد أنه ما زال حيا، يوقف إحدى سيارات الأُمم المُتحدة ويخبر الجندي عن الفتى؛ فينقذه الجندي.

في الفيلم الصربي "الجيب" للمُخرج الموهوب جوران راداكوفيتش ثمة تساؤل مُتأمل لإمكانية التعايش مرة أخرى بين الألبان والصرب ومحاولة تناسي الخلافات والنزاعات الدامية التي دارت بينهما فيما سبق، وهو يحاول تأمل هذا الأمر من خلال عيني طفل صربي وحيد وحزين يتابع ما يدور من حوله من كراهية وحقد موروث بين الآباء الكبار، لكن المُخرج نجح بالفعل في إيصال رسالة مفادها: أن التعايش والتسامح بينهما لا يمكن له أن يكون إلا من خلال الأجيال الجديدة القادرة على التجاوز عن الماضي الدامي للآباء، وهو ما رأيناه بوضوح حينما تم إنقاذ نيناد من تحت جرس الكنيسة ووقوف باشكيم مُتأملا له ليقول: ارجع مرة أخرى، أي أن الطفل الصغير الذي كان يرى أن جميع الصرب مجرد مُجرمين ومسؤولين عن مقتل أبيه قد استطاع التسامح والتجاوز؛ الأمر الذي جعله يشعر بالافتقاد الشديد لنيناد الصربي الذي رحل إلى بلجراد، وطلب منه العودة مرة أخرى.

 

محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية.

عدد 15 نوفمبر 2021م؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السبت، 20 نوفمبر 2021

سقطة ألبير كامي أم السقوط الأخلاقي لأوروبا؟!

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أعاد المُجتمع الأوروبي النظر في كل مُفردات الحياة المُحيطة به؛ نتيجة شعوره بالذنب الأخلاقي الذي أدى به إلى كل هذا الدمار والموت اللذين حاقا بالقارة العجوز بأكملها. كان ثمة شعور ضاغط بالسقوط الأخلاقي على كل المستويات- السياسية، والثقافية، والاجتماعية- هذا الشعور أدى إلى مُحاكمة الأوروبي لنفسه، ومحاولة إعادة تشكيل ثقافته وبنيان المُجتمع فيه، وبالتالي ظهرت لنا العديد من التيارات الثقافية المُتباينة والجديدة في كل المجالات كتعبير عن الرغبة في التجديد، أو التطهر، أو انتزاع الأوروبي لنفسه من ماضيه ليبدأ في رسم حياة جديدة تليق به بعد الانتكاسة العُظمى التي أحدثها لنفسه وللقارة بأكملها.

رأينا هذه التيارات الجديدة في كل المجالات الأوروبية، ففي مجال السينما ظهرت العديد من المدارس السينمائية الجديدة والتي كان منها- على سبيل المثال- الواقعية الإيطالية الجديدة التي دفعت بصُناع السينما للخروج إلى الشارع بآلاتهم ومُعداتهم من أجل التصوير خارج الاستديوهات- لا يمكن إنكار الدور الاقتصادي الذي كان الدافع الجوهري لهذا الخروج- ومن ثم بدأوا، فيما بعد، بقيادة المُخرج الإيطالي روبرتو روسيليني للتكريس لهذه الواقعية التي نشأت بسبب ظروف الحرب، وما أدت إليه. كذلك في مجال الأدب رأينا، على سبيل المثال، الاتجاه العبثي والعدمي كناتجين للسقوط العظيم الذي حدث للقارة طوال حربين من الدمار الكامل لكل شيء؛ ومن ثم رأينا العديدين من رواد هذين الاتجاهين مثل التشيكي فرانز كافكا، والإيطالي لويجي بيرانديللو، والروماني أوجين يونسكو، والأيرلندي صمويل بيكيت، والبريطاني هارولد بنتر، وصولا إلى الفرنسي ألبير كامي، وهم الكتاب الذين رأوا أن كل شيء لا هدف له، ولا قيمة؛ فالحياة وما حدث فيها- خلال الحربين- جعلتهم يرون ألا هدف لأي شيء، وأن ثمة سقوط أخلاقي مروع قد ارتكبته الإنسانية مُمثلة في القارة الأوروبية؛ لذلك اكتسب كل شيء لديهم الكثير من اللامنطقية، والسخرية، واللاهدف، واللاجدوى. بمعنى آخر نستطيع القول: بأنهم حينما بدأوا يعيدون النظر في ترتيب ثقافتهم ووعيهم مرة أخرى بعدما حدث في القارة من أهوال وضعوا حرف النفي "لا" قبل كل القيم التي من المُمكن تخيلها، ورأوا أن كل شيء في الحياة قد بات مُنتفيا، وغير مُهم، وأن الحياة مُجرد مكان للعبث، والعدم. ومن هنا جاءت تسمية هذه التيارات الأدبية الجديدة.

هل كان أصحاب هذه التيارات الثقافية، والأدبية الجديدة يتفلسفون بما يفعلونه، أو بمعنى آخر هل كان لجوئهم لمثل هذا التفكير من قبيل الرفاهية الأوروبية؟

لا يمكن الإقرار بذلك؛ فالكارثة الإنسانية التي حاقت بالقارة الأوروبية في الحربين قد دمرتها تماما؛ وهو الأمر الذي دفع مُفكريها، بل وساستها إلى إعادة النظر في كل ما يدور من حولهم، بل وفي طريقة تفكيرهم أيضا، وهو ما أثقلهم بالكثير من الذنب الذي لم ينمحِ حتى اليوم، وهو الذنب الذي نراه في الكثير من أدبياتهم، بل وفي سياساتهم، أيضا، التي تهتم بما هو إنساني نتيجة وخز الضمير الذي ما زال مُلازما لهم!

هذه الفترة أدت إلى الكثير من الدُرر الأدبية والسينمائية التي ما زالت تعيش حتى اليوم، بل ما زال الأوروبي يفكر في هذه الفترة ويصنع عنها الكثير من الأعمال الفنية، وكأنما الأمر سيظل ندبة لا تنمحي من الجبين الأوروبي؛ وبالتالي فهم يتذكرونها بين الفينة والأخرى ليصنعوا الكثير من الأعمال الفنية التي يقومون من خلالها بلوم أنفسهم، وإدانتها، بل وجلدها أحيانا على ما اقترفوه في حق العالم بشكل عام، والقارة الأوروبية بشكل خاص، ولعل الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية الحديثة التي تدين هذا الحدث خير دليل على عدم مقدرتهم على تجاوز الأمر، أو محوه من الذاكرة!

حينما نقرأ رواية "السقطة" للروائي الفرنسي ألبير كامي، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها قبل موته؛ لا بد لنا من تذكر هذه الفترة الدامية من تاريخ العالم، وهي الفترة التي كانت بمثابة حلقة مفصلية في التاريخ لإعادة ترتيبه وأخذ العظة مما حدث كي لا يتكرر مرة أخرى، لذلك فكامي من خلال روايته يدين كل شيء من حوله، وينتقد الحياة ذاتها. ينتقد السياسة، والمشاعر، والحب، والإنسان، والموت، والدين، والله ذاته! لقد تحول كل ما يحيط به إلى مادة خصبة، صالحة للانتقاد والسُخرية المريرة نتيجة ما آل إليه الأمر، وهو ما قد يدفعنا في نهاية الأمر إلى القول: إنها رواية تنحو باتجاه الرغبة في التطهر باعتبار أن الفنان في جوهره هو ضمير العالم- بشكل لا شعوري- وبالتالي فهو يلوم نفسه باعتباره يلوم الجميع على هذا السقوط المروع!

الروائي الفرنسي ألبير كامي

لكن، إن مُجرد الانتقاد والسُخرية العبثية من كل ما يُحيط بنا قد يحول العمل الأدبي إلى محض مقال طويل، أو تأمل فلسفي في طبيعة الأشياء، وهو الأمر الذي سيخرج العمل من نطاقه وجنسه الأدبي إلى مجال آخر بالضرورة. هنا لا بد لنا من طرح سؤال الماهية أو الأسلوبية التي لجأ إليها كامي للحفاظ على إبداعية وفنية نصه ليظل داخل إطار العمل الأدبي.

لجأ ألبير كامي إلى أسلوب سردي يتخيل من خلاله شخصية ما قابلها في أحد البارات؛ ومن ثم بدأ في الحديث إليه عن نفسه، وعما يدور من حوله، وعن حياته، وتاريخه وعمله، مُصطحبا إياه في العديد من الأماكن، ثم لا يلبثا أن يتقابلا في البار مرة أخرى عدة مرات إلى أن أنهى نصه الروائي، أي أنه تخيل وجود شخصية تستمع إليه، ويفضي إليها بما يرغب في قوله. هذه الشخصية المُتخيلة في جوهرها هي القارئ الذي يتوجه إليه بالحديث حتى ينتهي من نصه الروائي/ ذنبه الثقيل.

إذن، فلقد نجح كامي في إيهام القارئ، مُنذ السطور الأولى، بوجود شخصية ما تستمع إلى الراوي، ولن يكتشف القارئ عبثية وجود هذه الشخصية، أو أن المُؤلف قد أوقعه في الإيهام إلا مع انتهاء النص الروائي الذي سنعرف مع نهايته عدم وجودها، وأنها مُجرد شخصية مُتخيلة. هذا ما سنُلاحظه مع الجملة الأولى من الرواية: "هل بوسعي يا سيدي أن أعرض عليك خدماتي دون أن أبدو متطفلا؟ أخشى أنك لا تعرف كيفية التواصل مع "الغوريلا" المُحترم الذي يُسَطِّرُ المصائر في هذا المكان، إذ أنه في الواقع لا يتحدث سوى اللغة الهولندية، وفي هذه الحالة فإنه لن يخمن أنك ترغب في احتساء مشروب "الجن"، إلا إذا منحتني تفويضا لأترافع عن قضيتك. انظر، بمُستطاعي أن آمُلَ أنه قد فهمني، فحركة رأسه لا بد وأنها تعني أنه استسلم أمام حُجَّتِي، إنه يتحرك، والحق أنه يخطو بِخِفَّةٍ مع الاحتفاظ بِتَأنٍّ حكيم، أنت محظوظ كونه لم يتذمر، إذ عندما يرفض خدمة أحدهم يكفي أن يتأفف: لا أحد يستطيع الإلحاح عليه حينها، وهنا يكمن امتياز الحيوانات الضخمة، إذ أنها سيدة مزاجها. لكن يتوجب عليّ الآن أن أنسحب سيدي. سعيد بأنني أسديت خدمة لك. أشكرك، سأقبل دعوتك إذا كنتُ متأكدا من عدم إزعاجك. أنت طيب للغاية. إذن سأضع كأسي بجَانب كأسك".

ربما سنُلاحظ في هذا الاقتباس الذي بدأ به الروائي روايته أنه حريص على الإيهام بأن ثمة شخص ما قابله الراوي في أحد البارات، وأنه قد بدأ في الحديث معه، وبما أن الراوي قد أسدى إليه خدمة طلب "الجن"؛ فلقد دعاه هذا الشخص إلى مُشاركته الشراب، كما سنُلاحظ- مع التقدم في قراءة الرواية- أن مشروب "الجن" الذي طلبه الراوي للشخص الآخر هو المشروب المُفضل لدى الراوي، مما يُدلل على أنه قد طلب لنفسه مشروبه، وأن ثمة شخصية مُتخيلة غير واقعية يتحدث معها، أو لكأنما الراوي قد انقسم إلى شخصين في حالة من حالات الهذيان، أو الازدواجية؛ ومن ثم بدأ في الحديث إلى ذاته!

هذه الازدواجية التي يتمتع بها الراوي الذي سنعرف فيما بعد بأن اسمه جان بانيست كلامنس، وأنه كان يعمل مُحاميا، ثم قاضيا إلى أن تاب- على حد قوله- سنراها واضحة في حديثه حينما يتحدث عن حبه للخير ومُساعدة الناس- ظاهريا- بينما هو في جوهر الأمر لا يعنيه الآخرين بقدر ما يعنيه شكله أمام الناس، ووصفه بأنه رجل خيّر ويُساعد الآخرين: "أتدري، بعد وقت قصير على المساء الذي حدثتك عنه اكتشفت شيئا، عندما كنت أودع أعمى ساعدته على العبور إلى الرصيف، كنت أحييه عن طريق رفع قبعتي، مع أنه لم يكن بوسعه أن يرى ذلك، لِمَنْ إذن كنتُ أرفع قبعتي؟ للجمهور. بعد لعب دورنا ينبغي أن نُحَيِّي الجمهور، لا بأس بذلك، أليس كذلك؟"! أي أنه يدين المُجتمع الأوروبي بالكامل من خلال اعترافه وإدانته لنفسه أمام الشخصية التي يتخيلها. إنه المُجتمع الأوروبي الذي يُبدي في العلن الرغبة الخالصة في الأخذ بيد الآخرين وإن كان يفعل ذلك، في حقيقة الأمر، من أجل مصالح خاصة به فقط، وليس من أجل الآخرين، أي أنه حريص على تجميل صورته فحسب!

الروائية والمُترجمة المغربية سلمى الغزاوي

سنُلاحظ هذه الازدواجية غير مرة في الرواية؛ حيث سيحاول كامي التأكيد عليها لدى الآخرين، وليس لديه فقط- أي أنه يحاكم المُجتمع بالكامل من حوله، أو يحاول التبرؤ من الذنب الذي يستشعره بإشراك الآخرين فيه- حينما نقرأ: "عرفتُ أيضا روائيا مُلحدا كان يصلي كل ليلة، ومع ذلك لم يكن هذا يمنعه من الإساءة إلى الرب في كتبه! ويا لها من إساءات! حدثتُ أحد مُفكرينا الأحرار المُناضلين عن هذا الكاتب، فرفع يديه إلى السماء وتأوه قبل أن يقول: "أنت لا تخبرني بأي شيء جديد، إنهم كلهم هكذا"! وحسب قوله فإن ثمانين بالمئة من كُتَّابنا كانوا سيكتبون مديحا للرب لو كان بإمكانهم نشر كتبهم دون أن يضعوا أسماءهم الحقيقية عليها، ولكنهم يصدرون كتبهم بأسمائهم لأنهم يحبون أنفسهم، ولا يمدحون الرب على الإطلاق لأنهم يتقززون من أنفسهم، وبما أنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من إصدار الأحكام فإنهم يحاضرون حول الأخلاق، الخلاصة هي أنهم يعانون من شيطنة فاضلة، زمن عجيب بحق! كم هو مُدهش هذا الاضطراب الروحي! أحد أصدقائي كان مُلحدا عندما كان زوجا مثاليا، ثم أصبح مؤمنا وصار زانيا!".

ألا نُلاحظ، هنا، أن كامي يشعر بوطأة السقوط الأخلاقي للمُجتمع الأوروبي بالكامل، وهو السقوط الذي يجعله راغبا في التخلص منه؟

إن جان كلامنس من خلال حديثه/ اعترافاته للشخصية المُتخيلة يتعرى تماما أمامها، يحاول التطهر بقدر ما يستطيع؛ لشعوره بالكثير من الأدران النفسية العالقة به، إنه يرتقي إلى آفاق أكثر صفاء بالاعتراف- كعادته الدائمة في الرغبة بالارتقاء- صحيح أنه أثناء حياته التي سيحكيها كان يرغب في الارتقاء، أو العلو؛ لأنه يرى نفسه أفضل من الجميع، وأنهم مُجرد عبيد لديه، لكنه أثناء اعترافه كان يصبو إلى ارتقاء آخر مُختلف تماما عما كان يمارسه في حياته، إنها الرغبة الصادقة، هذه المرة، في التطهر من كل آثامه التي ارتكبها في حياته، وهي في جوهرها آثام المُجتمع الأوروبي بالكامل!

لذلك فهو يؤكد مُنذ البداية على تأثير المُجتمع في سلوك الآخرين، حتى لكأنه يلقي باللوم على المُجتمع بتغيير نمط السلوك عند الأفراد؛ ومن ثم يبدأون في لومه، فيما بعد، بعدما نجحوا في إفساد هذا السلوك، وهو ما نراه حينما يتحدث إلى صديقه المُتخيل عن صاحب البار واللوحة التي كانت مُعلقة على جداره: "انظر، على سبيل المثال، إلى المُستطيل الفارغ الذي يشير إلى مكان لوحة تمت إزالتها من الحائط الخلفي الذي يعلو رأسه، لقد كانت هناك فعلا لوحة مُثيرة للاهتمام، كانت تُحفة فنية حقيقية، في الواقع، كنت حاضرا هنا حينما تلقَّاها وكذا عندما تخلى عنها. وفي كلتا الحالتين قام بذلك بنفس الحذر، بعد أسابيع من التفكير. ارتكازا على هذه النقطة، يتوجب أن نُقِرَّ بأن المُجتمع قد أفسد شيئا ما البساطة الواضحة لطبيعته. اعلم جيدا أنني لا أحكم عليه، فأنا أُقَدِّرُ حذره الذي له دوافعه، بل كنتُ سأشاطر حذره عن طيب خاطر لو لم أكن ذا طبيعة تواصلية كما ترى. أنا ثرثار للأسف! وأربط علاقات بسهولة، ولو أنني أعرف كيفية الحفاظ على المسافة اللازمة، كل الفرص تبدو لي سانحة للتواصل". أي أنه يحاول الهروب من الشعور بالذنب الفردي ليكون ذنيا جماعيا في نهاية الأمر، وهو الإحساس الحقيقي الذي شعر به الأوروبي بعد انتهاء الحربين؛ فالذنب حينها لم يكن، ولا يمكن أن يكون مُجرد ذنب/ سقطة فردية بقدر ما كان ذنبا/ سقطة جماعية يتحمل مسؤوليتها المُجتمع الأوروبي بالكامل.

إذن، فهو يمهد بذكاء وروية، وفنية لما يريد أن يخوض فيه، ولأن موضوع العمل الروائي هنا يكاد أن يكون شائكا، وفكريا أكثر من كونه فنيا؛ فهو يعمل بهدوء من أجل إكسابه الجانب الفني بمحاولة خلقه للشخصيات المُختلفة كي تساعده في الحفاظ على فنية العمل في نهاية الأمر.

الكاتب الروماني أوجين يونسكو

يحرص كامي على انتقاد الجميع في روايته؛ فينتقد هولندا بقوله: "الهولنديون؟ كلا، إنهم أقل تحضرا بكثير! انظر إليهم، إنهم يملكون الوقت لكن ماذا يفعلون؟ حسنا، هؤلاء السادة الجالسون هنا، يعيشون من عَرَقِ هؤلاء السيدات. علاوة على ذلك، جميعهم، ذكورا وإناثا، كائنات تعشق البورجوازية، لذا قَدِمَتْ إلى هنا كالعادة، مدفوعة بالحماقة أو هوس الكذب، بخَيال فقير أو خصب. خلاصة القول، بين الفينة والأخرى يلهو هؤلاء السادة بِسِكّين أو بمُسدس، ولكن لا تظنَّ أنهم جادون في ذلك، كل ما في الأمر أن الدور الذي يلعبونه يتطلب ذلك، بل حتى إنهم يموتون رعبا وهم يطلقون رصاصاتهم الأخيرة"! وهو إن كان ينتقد الهولنديين فليس الأمر نابعا من تعصب أو عنصرية ما، بل هو ينتقد الجميع، صحيح أنه سينتقد هولندا مرة أخرى في قوله: "أخيرا، جلبوا لنا شراب الجن. في صحتك. أجل. الغوريلا فتح فمه ليُناديني بالدكتور. في هذه البلدان يُلَقِّبون الجميع بدَكاترة أو أساتذة، إنهم يعشقون إظهار احترامهم للغير، وهذا راجع إلى طيبتهم وتواضعهم، على الأقل هنا، الشَّرُ ليس عادةً وطنية. بالمُناسبة لستُ دكتورا إذا كان هذا يهمك، كنتُ مُحاميا قبل أن آتي إلى هنا، حاليا أنا قاضٍ تائب"! لكننا سنراه فيما بعد ينتقد الفرنسيين أيضا! هو هنا ينتقد الهولنديين باعتبارهم يمتلكون الوقت ولا يفعلون به أي شيء سوى الحياة على عرق النساء، كما يرى في تظاهرهم بالأدب المُبالغ فيه محاولة منهم للعيش على غير طبيعتهم وحقيقتهم، ومن ثم يتعدى انتقاده إلى الإنسانية كلها حينما يقول: "عرفتُ فيما مضى قلبا طاهرا كان يرفض أخذ حذره. لقد كان مُحبا للسلام ومُناصرا للحرية، وكان يحب، على قدر سواء، الإنسانية جمعاء وكذا الحيوانات. كان من صفوة الأشخاص، نعم، هذا مُؤكد. حسنا، خلال الحروب الدينية الأخيرة في أوروبا انعزل في الريف. كان قد كتب على عتبة منزله: من حيث ما أتيتم، ادخلوا على الرحب والسعة. من في نظرك استجاب لهذه الدعوة الخَيِّرَةِ؟ مُرتزقة اقتحموا منزله وبَقَرُوا بطنه"!

ألا نُلاحظ هنا مدى الثقل الأخلاقي الذي يشعر به الراوي/ كامي، فضلا عن السُخرية من كل شيء؟ إنه يسخر من الجميع- وهو ما يميز الاتجاه العدمي أو العبثي فنيا- لكنها سُخرية مريرة تعمل على التعرية من خلال الإيغال في القسوة اللامتناهية. هذا الشعور بالمرارة يدفعه- بالضرورة- إلى انتقاد المثقفين باعتبارهم الضمير الجمعي للمُجتمعات، وإذا ما كان المثقف فاسدا، فهو دليل على انهيار المُجتمع بالكامل؛ لأنه في جوهر الأمر يمثل القاطرة التي تقود هذا المُجتمع: "عندما كنت أعيش في فرنسا، لم أكن أستطيع أن أُفَوِّتَ فرصة مُصادقة أي رجل مُثقف أصادفه. آه، أعترف بضعفي أمام الكلام المُنَمَّقِ للمُثقفين عموما، وهو ضعف ألوم نفسي عليه. صدقني أعلم جيدا أن الأسلوب الناعم كثيرا ما يتماهى مع قماش حريري يخفي طفحا جلديا. أُعَزِّي نفسي بقَولي إنه في النهاية حتى أولئك الذين يتلعثمون في حديثهم ليسوا بأنقياء بدورهم. أجل، لنطلب المزيد من شراب الجن"، فكامي هنا باعتباره من المُثقفين الفرنسيين إنما يعريهم بقسوة، ويؤكد أنهم يتحدثون كلاما مُنمقا وإن كان غير صادق في حقيقة الأمر، فضلا عن انتقاده للفرنسيين أنفسهم، أي أن كل شيء من حوله قد بات شائها، كابوسيا، مُدمرا أخلاقيا للجميع، وهي أزمة الضمير الأوروبي التي وقعت فيها أوروبا بعد الحربين.

كل هذه الانهيارات الأخلاقية التي يراها من حوله، والتي تدفعه دفعا إلى تعريتها وانتقادها تقوده بدورها إلى التعري الذاتي أمام شخصيته المُتخيلة/ القارئ/ نفسه؛ بسبب شعوره الشديد بالذنب، وهو الذنب الذي اقترفه المُجتمع بالكامل قبل أن يقوم هو بدوره باقتراف العديد من السقطات المثيلة؛ فهو يحكي مثلا عن الرجل الذي خان زوجته، ثم قتلها لمُجرد شعوره بالذنب باعتبار أن قتله لها سيخلصه من هذا الشعور: "عرفت فيما مضى رجل صناعة، كانت لديه زوجة مثالية تحظى بإعجاب الجميع، ورغم ذلك كان يخونها، كانت قناعة هذا الرجل بأنه مُخطئ تجعله يستشيط غضبا، لأنه يستحيل أن يحصل على شهادة الفضيلة، وكان الغضب يجتاحه أكثر كلما أظهرت زوجته مثاليتها. في النهاية صار خطأه بالنسبة إليه كَحِمْلٍ سيزيفي. ماذا تعتقد أنه فعل إذن؟ توقف عن خيانتها؟ لا، لقد قتلها، وهكذا تعرفت عليه"!

الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت

إن الشعور بوطأة السقوط الأخلاقي لدى الرجل لم يجعله يتوقف عن سقوطه، بل أوغل فيه؛ لأنه لا يستطيع تخيل الآخرين أفضل منه أخلاقيا، أو أكثر مثالية، فمثالية الزوجة- موضوع الخيانة- تؤدي به إلى المزيد من وخز الضمير، والأكثر من الاحتقار لذاته؛ لذلك قام بالتخلص منها تماما؛ لأن تخلصه منها سيجعل ضميره في حالة سكون كامل ومن ثم سيحيا حياته كما يحلو له من دون الشعور بهذا الذنب!

إن هذه النماذج الاجتماعية التي يحرص كامي على الحديث عنها لصديقه/ نفسه كنماذج حياتية قابلها في رحلة حياته إنما تُشكل في مُجملها لوحة فنية فسيفسائية كبيرة ومُكتملة لشكل المُجتمع الأوروبي في هذه الفترة من تاريخه، لكنها رغم فنيتها لوحة شديدة التشوه لا بد من إعادة تشكيلها مرة أخرى بسبب عبثيتها؛ لذلك فهو لا يخجل من الحديث عن تشوهه النفسي أيضا باعتباره جزءا من هذا المُجتمع الشديد التشوه! فرغم أنه يفضي ذات مرة لصديقه بقوله: "إلى الغد إذن سيدي وابن بلدي العزيز. لا، ستجد الآن طريقك لوحدك. سأتركك قرب هذا الجسر، لا أعبر أبدا أي جسر ليلا، وهذا راجع إلى عهد قطعته على نفسي أمام الله. افترض مثلا أن أحدهم سيقفز في الماء، ثمة احتمالان: إما أن ترتمي بدورك في الماء لتحاول إنقاذه، إلا أنك ستُخاطر كثيرا عندما يكون الطقس باردا وقد تلقى مصيرا سيئا! أو ستتخلى عنه وتتركه يُجَابِهُ قَدَرَهُ، وهذا سيتسبب لك في ألم روحي رهيب"، إلا أنه مع هذا الاعتراف الذي يحاول التجمل فيه، سنعرف لاحقا أنه قد شاهد إحدى الفتيات التي تستعد لإلقاء نفسها من فوق أحد الجسور، ورغم ذلك لم يسرع لنجدتها، بل تخطاها تاركا إياها لتلقى مصيرها المُرعب بالغرق!

 إنه التشوه الذي كان يشعره طوال الوقت بأفضليته على الآخرين- رغم أنه لم يكن كذلك- لذلك يقول:" كان المكان الذي أتنفس فيه بشكل أفضل هو شرفة مُطلة على منظر طبيعي، على ارتفاع خمسمئة أو ستمئة متر عن سطح البحر، بحر غارق في ضياء الشمس، كنت أتنفس بشكل أفضل كما قلت خصوصا إذا كنت وحيدا، وأنا أطل من الأعلى على البشر الذين يبدون لي من عَلٍ كالنمل. وكنت إذ ذاك أستوعب بلا عناء لماذا في الأزمنة البعيدة كانت تُقام الطقوس والمواعظ المصيرية وقرابين النار في الأعالي، فبالنسبة إليّ، التأملات غير مُمكنة في الأقبية أو الزنزانات (باستثناء لو كانت تتواجد في برج مع إطلالة شاسعة)، في الواقع كان المرء يتعفن بداخلها، وكنت أتفهم ذاك الرجل الذي كان يدخل إلى الدير ليخدم الرب، ليتخلى بعدها عن مكانته المُقدسة لأن محرابه، عوض أن ينفتح على منظر طبيعي هائل كما كان يتوقع، كان يطل على جدار. كن مُتأكدا أنه فيما يخصني لم أكن مُعرضا للتعفن، لأنني كنت على مدار الساعة أتسلق الأعالي سواء داخليا أو وسط أقراني، كنت أوقد نيرانا قدسية؛ فيعلو السلام الروحي المُبهج في قلبي، وهكذا كنت أستمتع على الأقل بالحياة وبتفوقي الخاص"، هذا الشعور بالأفضلية/ النرجسية هو ما نلمحه غير مرة بشكل مرضي؛ لذلك يقول: "كانت مهنتي تُرضي، لحسن الحظ، نزعتي السامية، كونها كانت تُجردني من كل مرارة أستشعرها تجاه من أعرفهم، والذين كنت أنعم عليهم دوما بعطاياي دون أن أكون مدينا لهم بشيء، كانت تضعني في مرتبة أعلى من القاضي الذي كنت أحاكمه بدوري، وكذا من المُتهم الذي كنت أجعله مُجبرا على الامتنان لي. تأمل هذا جيدا سيدي العزيز: لقد كنتُ مُحصنا من العقاب، لم يكن هناك أي حُكم يعنيني، لم أكن متواجدا في مسرح المحكمة ولكن في مكان ما في الأعالي، تماما كالآلهة التي، من حين إلى آخر، تهبط إلى الأرض لتحول مجرى الأحداث وتمنحها معنى. في النهاية الحياة في القمة تظل الطريقة الوحيدة ليراك ويحييك أكبر عدد مُمكن من الأحياء"، إنه الشعور بجنون العظمة الذي يقربه من مرتبة الآلهة، وبأفضليته على الجميع رغم أنه ليس بأفضل منهم في أي شيء.

هذا الشعور بأفضليته يجعله يتباهى- ككل الأوروبيين- بأدبه المُبالغ فيه، والذي هو في الحقيقة مُجرد تظاهر فنراه يقول: "لنتحدث، بالأحرى، عن التهذيب الذي أتمتع به، كنت مشهورا بتهذيب لا يختلف عليه اثنان، كوني مُؤدبا كان يشعرني في الواقع بفرح عارم، ولو حالفني الحظ في بعض الصباحات، لأتخلى عن مقعدي في الحافلة أو مترو الأنفاق لشخص يستحقه أكثر مني، أو لألتقط شيئا أسقطته سيدة مُسنة كي أعيده إليها، وأنا أرسم على وجهي ابتسامة وضّاءة، أو ببساطة، أن أتنازل عن سيارة الأجرة التي أوقفتها لصالح شخص على عجلة من أمره أكثر مني، حينها كان يومي يصير أكثر إشراقا! يلزمني القول إنني كنت أنتشي أيضا في الأيام التي كان النقل العمومي يخوض إضرابا فيها، إذ كنت أجد الفرصة لأقِلَّ في سيارتي بعضا من إخوتي المواطنين التعساء، الذين تعذرت عليهم العودة إلى منازلهم. أما ترك مكاني في المسرح لأسمح لحبيبين بأن يجلسا بالقرب من بعضهما، أو مُساعدة فتاة على وضع حقائبها في المكان العالي المُخصص للأمتعة بالقطار، كانت بمثابة إنجازات أقوم بها أكثر من الآخرين، لأنني كنت أهتم وألاحظ جيدا فرص إسدائي للخدمات، وكنت أستقي منها مُتعا أتذوقها بلذة خاصة"!

الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو

ألا تدل كل هذه الأقاويل، والأحداث التي يخبرنا بها على مرض نفسي يتمتع به الأوروبي ولا يمكن له الخلاص منه، إن كامي يصر على إدانة الجميع من خلال سلوكياتهم التي قد تبدو في ظاهرها بريئة ومحمودة، وإن كانت في حقيقتها مشينة لا تدل إلا على نفسية مشوهة للمُجتمع الأوروبي وما آل إليه؛ لذلك فهو يتأمل كثيرا في التناقضات التي رآها أثناء رحلة حياته ساخرا منها، موغلا في جلد الذات/ المُجتمع حينما يكتب: "عرفت رجلا منح عشرين عاما من حياته لامرأة رعناء، بل ضحى بكل شيء من أجلها، صداقاته، عمله، وحتى حياته اللائقة، وذات مساء اعترف بأنه لم يحببها أبدا، كان يشعر بالضجر، هذا كل ما في الأمر، تماما كمُعظم الناس، ولهذا صنع حياة ملأى بالتعقيدات والمآسي. لا بد من أن يحدث شيء ما، ولو في حالات الخضوع بلا حُب، ولو في الحرب أو الموت، لتحيا إذن الجنائز!"، هذه التناقضات البشرية هي ما تجعله يعترف بسيكولوجيته التي تميل إلى استعباد الآخرين- لعل الأمر كان واضحا من خلال ما يمارسه ويدعيه من رغبة في مُساعدة الآخرين رغم عدم صدق ذلك- والتحكم فيهم: "أعلم جيدا أنه لا يمكننا التخلي عن السيادة أو خدمة الآخرين لنا، كل إنسان يحتاج إلى العبيد حاجته إلى الهواء النقي، أن تعطي الأوامر هو بمثابة أن تتنفس، هل تُشاطرني الرأي؟ حتى أشد الأشخاص بؤسا بوسعهم التنفس، إذ أن آخر رجل في السُّلَّمِ الاجتماعي لا يزال يملك شريكة حياته أو طفله، وإذا كان عازبا فإن لديه كلبه. الأهم باختصار هو أن نتمكن من إطلاق العنان لغضبنا دون أن يملك الآخر حق الرد علينا، هل تعرف العبارة القائلة: "ليس بوسع الإنسان أن يَرُدَّ على والده؟" إنها ذات معنى فريد من ناحية، فعلى من سنرد في هذا العالم إذا لم نفعل مع من نحبهم؟ من ناحية أخرى إنها مُقنعة، لأنه ينبغي أن تكون الكلمة الأخيرة مِلكا لأحدهم، وإلا سيتم الاعتراض على أي سبب بسببٍ آخر، ولن ننتهي أبدا. على العكس السُلطة تحسم في كل المسائل، لقد تأخرنا كثيرا لكننا استوعبنا هذا، على سبيل المثال، لا بد من أنك لاحظت أن قارتنا العجوز صارت تتفلسف أخيرا على نحو جيد، ولم نعد نقول كما في الأزمنة الساذجة: "أنا أفكر هكذا، ما هي اعتراضاتك؟"، لقد صرنا واعين وعَوَّضْنا المُحادثات بالبلاغات، وأصبحنا نقول: "هذه هي الحقيقة، بإمكانكم مُناقشتها الآن كما تشاؤون، هذا لا يهمنا، ولكن بعد سنوات ستكون الشرطة هي من ستوضح لكم أننا على حق".

ربما نُلاحظ في هذا الاقتباس الوضوح والمُباشرة التامة في إدانة القارة العجوز بالكامل بذكرها في النص بشكل مُحدد، إنه يتهمها بالتفلسف رغم ميلها الحقيقي إلى استعباد الآخرين، لكنها تعمل على تجميله في نهاية الأمر؛ لذلك سيمتلك من الشجاعة ما يجعله يطرح المفهوم الديني للحرية كيفما يراه هو باعتباره شكل من أشكال العبودية: "لقد تعلمت على جسور باريس أنني بدوري أخشى الحرية، فليحيا إذن السيد كائنا من كان، ليحل محل قانون السماء، فلنصل للسيد: "أبانا المُؤقت هنا.. يا مُرشدنا، يا قائدنا الصارم القاسي والمحبوب.."، أخيرا، جوهر الأمر هو ألا تكون حرا وأن تكون مُطيعا لأحقر شخص على الإطلاق، وعندما سنصبح جميعا مُذنبين سننعم بالديمقراطية، دون أن نحتسب، يا صديقي العزيز، أنه علينا أن ننتقم من اضطرارنا للموت وحيدين، إن الموت فردي في حين أن العبودية جماعية، والأهم أنها تجمعنا مع الآخرين في نفس الوقت، ولكن ونحن نجثو على ركبنا ونحني رؤوسنا"!

إن هذا المفهوم لعبودية الدين، يجعله يتنبأ بعبودية البشرية بالكامل في المُستقبل، ولعله كان صادقا فيما ذهب إليه؛ فالبشرية بالفعل قد باتت، حاليا، في فترة من أسوأ فترات العبودية، لا سيما العبودية للتكنولوجيا التي سيطرت على حياتنا بالكامل، ولم نعد نستطيع التخلي عنها لمُجرد دقائق. صحيح أنه لم يتنبأ بعبوديتنا للتكنولوجيا التي نعيش في كنفها الآن، لكنه تنبأ بعبودية البشرية بشكل عام حينما كتب: "لكنني لست بمجنون، وأنا أعي جيدا أن العبودية لن تتحقق غدا مُباشرة، بل ستكون إحدى مزايا المُستقبل، وفي انتظار ذلك عليّ أن أبحث عن حل لحاضري ولو كان مُؤقتا، ولهذا توجب عليّ أن أعثر على وسيلة أخرى ليشمل الحُكم الجميع عساني أخففه عن عاتقي، لقد عثرت على هذه الوسيلة"!

إن ألبير كامي الذي يصرّح بأنه يعشق استعباد الآخرين- تماما كغيره من الأوروبيين من خلال ما أثبته التاريخ- بل ويصفها بمُفردة "مزايا المُستقبل" في الاقتباس السابق، إنما يعترف بمثل هذا الاعتراف على سبيل السُخرية والتطهر من الأدران العالقة بالقارة الأوروبية بعد الحربين، بل هو يؤكد أن عشقه للاستبعاد لم يكن مُجرد استعباد للآخرين بالمفهوم الذي نعرفه على مرّ التاريخ فقط، بل تعداه إلى شعوره بالمُتعة في إخضاعه للنساء كشكل من أشكال الاستعباد باسم المشاعر- سواء العاطفية منها أو الجنسية- وهو ما يصرح به في: "أعترف بأنه لم يكن بوسعي العيش إلا بشرط أن تكون كل النساء، أو أكبر عدد مُمكن منهن يَدُرْنَ في فلكي، مُتاحات دوما، محرومات من حياة مُستقلة، ومُستعدات للاستجابة لندائي في أي وقت، محكومات بالعقم إلى أن يأتي اليوم الذي أتفضل فيه عليهن وأعززهن بضيائي. باختصار لأحيا سعيدا كان يتحتم على النساء اللواتي كنت أختارهن ألا يعشن مُطلقا، وألا يعرفن الحياة سوى من بعيد لبعيد، عبر مشيئتي ومُتعتي"!

إنها شخصية شديدة التشوه، شخصية تُمثل أوروبا التي يرغب الروائي في تعريتها بقسوة مُتناهية؛ لذلك فهو يشعر بالهوس بذاته المريضة، وهو أمر طبيعي مع شخصية تعاني من كل هذه الأمراض السيكولوجية، أي أنه لا بد له من الشعور بالتميز الذي نراه في: "كنت أموت من فرط رغبتي في أن أكون خالدا، كنت أحبني إلى درجة أنني كنت أرغب في ألا تختفي ذاتي الغالية أبدا، مثلما في حالة الصحوة، وحتى لو لم نكن نملك سوى القليل من المعرفة الذاتية، لا نعثر على أسباب واضحة لمَنح الخلود لقِرد شهواني، لذا يتحتم علينا أن نعثر على بدائل لهذا الخلود، وبما أنني كنت أرغب في الحياة الأبدية، فإنني كنت أضاجع العاهرات وأحتسي الشراب لِلَيَالٍ، وفي الصباحات بالتأكيد كنت أحس في فمي بالطعم المُرِّ لحالة الفَناء، ولكنني قبل ذلك ولساعات طويلة حَلَّقْتُ في سماء النشوة، بسعادة. هل سأجرؤ على الاعتراف لك بذلك؟ لا زلت أذكر بحنين بعض الليالي التي كنت أذهب فيها إلى ملهى ليلي قذر، لألتقي براقصة كانت تُغْدِقُ علي نِعَمَ جسدها، والتي تعاركتُ ذات ليلة مع مُلْتَحٍ مغرور لأدافع عن مجد الحصول عليها، كنت أختال كل ليلة في الملهى تحت الأضواء الحمراء والغبار الذي يغطي مكان الملذات هذا، وأنا أكذب كطبيب أسنان مُدَّعٍ، وأشرب بلا توقف، كنت أنتظر الفجر لأسقط أخيرا في السرير غير المُرتب دوما لأميرتي التي كانت تستسلم بآلية للمُتعة، ثم تنام مُباشرة، وكان النهار يأتي بنعومة ليضيء هذه الفوضى، فكنت أنهض مُسَرْبَلاً بالمجد"!

إن الرغبة العارمة في جلد الذات، وإعادة تصحيح المفاهيم التي سقطت فيها أوروبا بعد الحربين تبدو لنا أكثر وضوحا في انتقاده للديانات بالكامل، ولعلنا نعرف أن أوروبا قد سادتها موجة من رفض الديانات، وهي موجة إلحادية بعد الحربين العالميتين، إلحاد بكل شيء، وليس بالدين فقط، بل كانت في حقيقتها إلحاد بالإنسان ذاته، وعدم الإيمان بإنسانيته التي تمت تعريتها فبدت لنا شائهة لا يمكن الركون أو الاطمئنان إليها. يقول كامي: "صدقني، الديانات تخطئ ما إن تشرع في الوعظ الأخلاقي وإطلاق الوصايا، ليس من الضروري وجود الرب لابتكار الذنب ولا العقاب، فوجود أشباهنا كافٍ. لقد تحدثتَ عن يوم الحساب، اسمح لي بأن أضحك مع احترامي لك، أنا أنتظره بثبات: لأنني عرفت ما هو أسوأ منه ألا وهو حكم البشر، فبالنسبة إليهم لا وجود لظروف التخفيف، وحتى النية الحسنة ترتبط بالجريمة. هل سمعتَ على الأقل بزنزانة البُصاق التي اخترعها مؤخرا أحد الشعوب ليثبت أنه أعظم شعب على الأرض؟ إنها عبارة عن صندوق إسمنتي يقف فيه السجين دون أن يتمكن من الحركة، والباب المتين الذي يحجزه في قوقعته الإسمنتية يصل إلى مستوى ذقنه، ولهذا لا نلمح سوى وجهه الذي يقوم كل حارس يمر بالقرب منه بإغراقه بالبصاق، أما السجين العالق في زنزانته فليس بإمكانه أن يمسح وجهه ولكنهم يسمحون له بأن يغمض عينيه. هذا يا عزيزي اختراعُ بشري محض، ومن أجل إنجاز هذه التحفة لم يَحْتَجْ هؤلاء المُخترعون إلى الرب"، أي أن الإنسان، هنا، أكثر قسوة وإتقانا في التعذيب من الرب الذي يرى كامي أنه لا داعٍ لوجوده ما دام الإنسان قادرا على تمثله وأخذ دوره للقيام به!

الكاتب البريطاني هارولد بنتر

رغم محاولة ألبير كامي وإصراره على فضح الضمير الأوروبي بعد الحربين، ورغم أنه يُحاكم ذاته وأوروبا بالكامل من خلال هذه الرواية ليوضح لنا السقوط الأخلاقي الكامل الذي انغمست فيه القارة العجوز وأوغلت كثيرا، إلا أنه- من دون قصد- يحاول التماس العذر لنفسه، وللآخرين في ارتكاب مثل هذه الجرائم والسقطات الأخلاقية التي لا يمكن اغتفارها؛ لذلك يقول: "بعض المُجرمين الطيبين الذين ترافعت عنهم كانوا قد امتثلوا لذات الشعور وهم يرتكبون جرائمهم. أعتقد أن قراءة الصُحف في الوضع المُحزن الذي يتواجدون فيه كانت تمنحهم بلا شك نوعا من التعويض البائس، حيث إنهم مثل العديد من الناس، لم يعودوا يتحملون أن يظلوا نكرات، ونفاد صبرهم قادهم إلى حد كبير إلى عواقب مُؤسفة، في الحقيقة كي يصبح المرء مشهورا يكفي أن يقتل حارسة عمارته. لسوء الحظ يتعلق الأمر بشهرة مُؤقتة طالما أن هناك العديد من حراس العقارات الذين يستحقون الطعنات ويتلقونها"، أي أنه يعمل على تفسير دوافع الجريمة الأوروبية نفسيا كشكل من أشكال الدفاع الواهية، أو كمحاولة منه لرحمة ذاته التي يجلدها، ولكن، هل كانت الشهرة وحُب الظهور كافيين كمُبررين لكل هذه الجرائم التي أسقطت القارة الأوروبية في سوءتها الأخلاقية؟!

تأتي رواية "السقطة" للروائي الفرنسي ألبير كامي باعتبارها من الروايات المُهمة التي حرص مُؤلفها على مُحاكمة الرجل الأوروبي على جرائمه الأخلاقية التي سقط فيها- خلال- وبعد الحربين العالميتين، كما تُعبر بشكل صادق عن مدى انهيار النفسية الأوروبية بسبب ما حدث؛ الأمر الذي أحدث شرخا عميقا داخلها، وهي من الأعمال التي تنقل لنا الفكر الثقافي لأوروبا الخربة بعد الحربين، الشاعرة بتأنيب الضمير، وما أصاب الناس هناك من شعور بالخزي جعلهم يشعرون بالكثير من الذنب الذي لا بد لهم من التطهر منه بالاعتراف بكل ما اقترفوه؛ كي يعملوا على إعادة بناء مُجتمعاتهم مرة أخرى بعد هذا التطهر، ولعله لا يمكن لنا إنكار وصول هذا المفهوم للقارئ بشكل واضح من خلال الترجمة التي قامت  بها المُترجمة المغربية سلمى الغزاوي؛ فهي- فضلا عن اهتمامها البيّن باللغة العربية وأسلوبيتها في الترجمة لا سيما انتقاء المُفردات بدقة مُعبرة بحيث لا يمكن استبدال مُفردة مكان الأخرى- نجحت في نقل العمل من الفرنسية إلى العربية بطريقة جعلتنا نظن بأننا نقرأ الرواية في لغتها الأصلية، حتى لكأن ألبير كامي قد كتبها بالعربية في الأصل، وهو ما يُدلل على مقدرة المُترجم على نقل نص أجبني بشكل أمين من خلال فهم وإتقان ووعي باللغتين اللتين يتعامل بهما، أو تشويه النص بالكامل مما يفقده جوهره وحميميته الفنية إذا لم يكن مُتقنا لهاتين اللغتين.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

9 نوفمبر 2021م.

الخميس، 11 نوفمبر 2021

عشية الأربعين وأيام أخر.. بين الثرثرات النسوية وسطوة القص

ثمة فارق عميق يمكن تمييزه بين الكتابة الإبداعية، وبين الثرثرات التي لا جدوى منها، والتي لا يمكن لها أن تقدم ما يُفيد القارئ اللهم إلا الفراغ الذي يزجي أوقات الفراغ. هذه الثرثرات هي ما يمكن أن نُطلق عليها في حقيقة الأمر وصف الخواطر، أو التأملات التي لا علاقة لها بالأدب أو الفن بقدر ما لها علاقة بإفراغ طاقة، أو رغبة في الكلام فقط من أجل مجموعة من التساؤلات غير المهمة في مجمل الأمر. ولعلنا نلاحظ أن معظم هذه الثرثرات/ الخواطر تكاد تكون مقتصرة على الكاتبات أكثر من الكتاب، ولنا في العديد من النماذج الكتابية التي قدمتها النساء مثال على ذلك على رأسهن أحلام مستغانمي وما تُقدمه لنا باعتباره كتابة أدبية "كالأسود يليق بك"، وغيرها من الكتابات، وبعض ما قدمته غادة السمان، وغيرهن من الكاتبات اللائي يقدمن لنا المزيد من هذه الثرثرة التي لا طائل من ورائها اللهم إلا أنهن يعتقدن اكتسابهن قدرا من الحكمة والرؤية اللتين تجعلهن يتأملن الحياة من حولهن، ثم يخرجن بحكمتهن الفلسفية على البشر في شكل كتابة يظنن أنها فعلا ثقافيا أو فنيا في حين أنها في النهاية لا تعدو أكثر من فراغ يُفضي إلى المزيد منه.

لعل هذا الشكل من الثرثرات النسائية يتميز بمجموعة من الخواص التي لا تختلف من كاتبة لأخرى مثل اللغة ومفرداتها مثلا، وهي اللغة التي من الممكن أن نُطلق عليها لغة "نسوية" بامتياز؛ نتيجة للقاسم المشترك بين كل من يكتبن بها سواء من الناحية الأسلوبية أو على مستوى المفردات التي تستخدمها الكاتبات. إنها اللغة التي تدور مفرداتها كلها في فلك واحد لا يتغير؛ ومن ثم نقرأ فيها مفردات مثل "الأمان، والوجع، والخذلان، والفقد، والخسارة، والصراخ، والأنين، والشكوى، والدموع" وغيرها من هذه المفردات التي تدور الأنثى في فلكها ولا تخرج منها إلا نادرا. لكن ليس معنى ذلك أن هذا الشكل الفارغ من الكتابة النسوية يخص المرأة فقط، بل إن هذا التوصيف يمكن إطلاقه على كل من يستخدم هذه المفردات ويدور في فلك هذا العالم سواء كان الكاتب هنا رجلا أو امرأة

إذن فهناك بالفعل لغة تخص الكتابة التي تكتبها معظم النساء، وهذه اللغة متشابهة إلى درجة كبيرة، ولا تختلف من كاتبة لأخرى سواء كان على مستوى الكتابة الفنية/ الأدبية، أو على مستوى الثرثرة الفارغة/ الخاطرة، أو على مستوى اللغة ومفرداتها التي يتميز بها القدر الأكبر من الكاتبات.

كما أن العالم الذي تدور فيه هؤلاء الكاتبات يكاد يكون عالما واحدا لا يمكن لهن الخروج منه، بل يدرن فيه حول أنفسهن غير قادرات على التحرر منه إلى عالم آخر أكثر رحابة؛ فنجد معظمهن لا يتحدثن إلا عن الظلم، والمجتمع الذكوري، والرغبة في التحرر، والتفاصيل الدقيقة التي لا تعني القارئ كثيرا بقدر ما تعني الكاتبة نفسها، والعالم الضيق الذي لا يخرج عن البيت والمطبخ ومهامه وما غير ذلك. أي أن الكاتبة في معظم الوقت لم تنضج بالشكل الكافي في تجربتها الحياتية؛ الأمر الذي يجعل عالمها أكثر اتساعا ومقدرة على التعبير عن العديد من الحيوات المنطلقة المتنوعة والشاسعة، بل هي- معظم الوقت- حبيسة هواجسها، وقلقلها من الفقدان، أو الفقد، بل هي حبيسة خشيتها من الخروج من العالم الأصغر إلى عالم أكثر رحابة.

هذا الشكل غير الناضج سواء على مستوى التجربة الحياتية، أو الثقافية يؤدي بالعديد من الكاتبات إلى اللجوء إلى الثرثرات باسم الكتابة- التي يعتقدن أنها فنية أو أدبية- في حين أنها بعيدة عن الفن كل البعد، ولا يمكن لها إلا أن تكون مجرد شكل من أشكال الكتابة المشوهة التي تعمل على تشويه أرواح وإدراك من يقرأها ويقتنع بها؛ حيث تحمل في طياتها معنى الحكمة واليقين الكاملين من قبل كاتبتها في نهاية الأمر، كما أن هذه الكتابة لا يمكن أن تُقنع سوى مجموعة من المراهقين أو المراهقات، أو على الأقل من لم ينضجوا فكريا أو ثقافيا بعد.

ربما كانت هذه الأمور: عدم النضج الثقافي والحياتي، والانحباس داخل فلك عالم ضيق لا يمكن الخروج منه هو ما دفع الكاتبة غادة ضاحي لكتابة مجموعتها القصصية "عشية الأربعين وأيام أخر"، وهي المجموعة التي لا يمكن أن نوّصفها بالقصصي بالمعنى الذي نعرفه للقصة القصيرة بشكلها الفني؛ حيث انقسمت المجموعة إلى قسمين: القسم الأول منها عبارة عن مجموعة من الخواطر والتأملات التي لا علاقة لها بأي فن كتابي، بل هي أقرب إلى الثرثرة الفارغة، بينما جاء القسم الثاني منها عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي كان من الممكن لها أن تكون قصصا جيدة إذا ما كانت الكاتبة قد عملت عليها بجدية واهتمام أكبر لا سيما من ناحية اللغة التي جاءت خربة تماما، وكأن صاحبتها لم تتعلم اللغة العربية من قبل.

هذه الثرثرات السقيمة التي كانت في القسم الأول من المجموعة هي في حقيقة أمرها مجموعة من التأملات تظن صاحبتها أنها قد أوتيت قدرا عظيما من الحكمة؛ ومن ثم فهي تُقدم لنا خلاصة حكمتها في الحياة، وفي العديد من الأمور الأخرى منها: الألم، والجنس، والحب، والله، وغير ذلك من المعاني المختلفة التي ترى أنها تمتلك رأيا سديدا فيها فتقول تحت عنوان "الأربعون": الثلاثينيات.. يُشاع في مجتمعي دوما أن أجمل سنوات عمر المرأة وذروة نضجها جسديا وعقليا هي السنوات الثلاثينية.. لكنني لا أذكر أنني تمتعت بالعقد الثالث على العكس تماما.. كذبة كبرى تلك بمجتمعي.. الثلاثون فخ النساء الشرقيات.. فمن تزوجت أصبحت تلاطم أمواج حياتها الأسرية في خضم المسؤوليات وموسم الأمومة وتربية الأبناء.. ولمن لم تتزوج إما تعدو في سباق لإثبات الذات أو تتجرع حسرة انتظار شريك تأخر وتصارع مخاوف ألا يأتي كما تأمل بعد طول انتظار"، وتقول في موضع آخر مستمرة في تأملاتها التنظيرية: "حينما كنت أقرأ جملة (رجلا في الأربعين من عمره.. أو سيدة في الأربعين من عمرها) كان أول ما يطرق ذهني كترجمة حسية للجملة صورة الشيب في الرأس! في حين أن الخمسين ارتبطت لدي بوجود التجاعيد في البشرة كترجمة بصرية للجملة.. أما الستون فكنت أرى بها انحناء الظهر!! والسبعون لم تكن في قاموسي فكنت أرى من وصل لها قد تخطى حدود العمر المسموح فحتما لن يبق منه سوى بضعة أمراض وهيكل متهالك هش بانتظار أن يهوى في لحظة مع أي شهقة منتظرة!! الآن عرفت أنني كنت على خطأ وقد زورت وعيي مبكرا بهذا الشأن.. فنسيت أن لكل مرحلة مظهرا يسبقها ربما بعقد كامل.. غير أن الشيب لا يعد ضمن القائمة فهو لا يرتبط بالعمر قدر ارتباطه بقوانين الوراثة. كان وعيا مشوها قاسيا.. أخجل منه الآن وأتعجب كيف كنت أرى الأمور بهذه الصورة!".

هكذا تستمر الكاتبة في التأمل والتفلسف معتقدة أن هذه الثرثرات من الممكن أن تكون فنا، أو لها علاقة بالفن، أو من الممكن لها أن تكون في مجموعة قصصية، في حين أنها لا تخرج عن كونها مجرد تأملات مهوّمة في الفراغ لامرأة بلغت الأربعين من عمرها، وتعمل على تشويه الوعي الفني والجمالي بالقصة القصيرة.

هذه التهويمات التي لا تُقدم ولا تُؤخر نراها أيضا تحت عنوان "الحياة"، ولعلنا نلاحظ أن الكاتبة تضع لنا خلاصة تجربتها، أو مختصر ما ترغب في قوله من خلال جملة افتتاحية تحت كل عنوان؛ ففي الموضوع الذي يحمل اسم الحياة نقرأ بخط مختلف في بدايته: "الأحياء نادرون.. إن لم تستطع أن تكن منهم فكن معهم لربما أصبت بعدوى الحياة". من خلال هذه الجملة التي تتقمص فيها الكاتبة دور الفيلسوفة الحكيمة نستطيع أن نفهم- مسبقا- ما ستقوله تحت هذا العنوان؛ حيث تحرص دائما على أن تلخص محتوى كلامها في جملة افتتاحية كالحكمة التي لا بد من الأخذ بها؛ لذا حينما نقرأ ما ترغب في قوله نتأكد أنها تكتب لمجرد الرغبة في الحديث والثرثرة فقط؛ فهي ليست لديها ما تقوله، ولا تمتلك أي شكل فني أو إطار ما كي تصب فيه كلماتها الراغبة في كتابتها، بل هي تكتب فقط لتترك الكلمات سابحة في الفراغ، ولا يعنيها في النهاية معنى ما تكتبه، ولا كيفية تصنيفه، وهل هو مقال، أم كلام فارغ، أم سراب لا معنى له، فنقرأ: "الوصول للحياة.. أن تحيا لا أن تتنفس وتتحرك.. أن تحيا لا أن تنجو فقط.. أن تحيا يعني أن تتمتع بمتعة الحياة يتطلب منك أن تصل لشاطئ الحياة بالفعل ولا تقف متفرجا وإنما تبدأ رحلتك.. وصولك لهناك يجب أن يمر بمراحل عدة حتى تصل للمرحلة الأخيرة.. أو بالأصح الوجهة.. الحياة.. لا يرتبط وصولك بمرحلة عمرية معينة أو سن محدد". ربما نلاحظ من خلال هذا الاقتباس أن الكاتبة لا تمتلك حتى المقدرة على صياغة الكلام بشكل فني، بل هو حديث غير مترابط تتقمص فيه دور من أوتيت الحقيقة والحكمة الكاملة؛ فهي فقط من خبرت المعنى الحقيقي والجوهري للحياة؛ ومن ثم فهي تُقدم هذا المعنى الجوهري الخافي علينا من خلال هذه الثرثرات الركيكة التي لا معنى لها.

إذا ما قرأنا قولها: "المحاربون المؤمنون بمحاولات الإصلاح الدائمة مؤمنون بترميم الآيل للسقوط وتلوين الجدران وتزيينها.. الذين ألزموا أنفسهم بقيم وعهود تجاه أشخاص وأشياء قد يكونون في نظر الجميع حولهم لا يستحقون وقد يكونون بالفعل كذلك ورغم ذلك فهؤلاء الذين اختاروا ظلوا أوفياء لاختياراتهم.. أوفياء للفكرة والقيمة في ذاتها، الضمير شكّل لهؤلاء إطارا يصعب عليهم التحرك خارجه.. ضمير إنساني بحت لا علاقة له بأطر الدين ولا الأطر المجتمعية التي تتغير حسب الأحوال والتي تعتمد منهاج الغاية تبرر الوسيلة.. أولئك المحسنون لمن أساء المتسامحون.. ملتمسو الأعذار حتى لأعدائهم"! إذا ما تأملنا هذا الشكل من الكتابة سيتأكد لنا أن ما قدمته الكاتبة لا علاقة له بالفن الإبداعي من قريب أو بعيد، بل هو منبت الصلة تماما بالفنون الإبداعية، كما أن هذا الحديث لا علاقة له بكتابة المقال في صحيفة، بل يصلح تماما لأوهام التنمية البشرية التي يخرج علينا المؤمنون بها كل يوم ليصدعون بها رؤوسنا في حين أنها لا تُفيد البشرية في شيء.

أحلام مستغانمي

في كتابتها التي جاءت تحت عنوان "الألم" نراها تفتتح كتابتها بجملتها التي تمثل خلاصة تجربتها التي تظنها مهمة لتقدم مسيرة البشرية: "الأوجاع التي حفرت لنفسها أنفاقا في أرواحنا.. لا تسقط بالتقادم"، ثم لا تلبث أن تهذي بمجموعة من الجمل لتقول: "أحيانا أتساءل أيهما أبلغ لفظا للتعبير الألم أم الوجع.. لا أعرف فارقا بينهما ولم أحاول البحث في المعاجم والقواميس.. ربما كان الألم أعم وأشمل؟ ربما.. لا أدري لكن أشعر أن الوجع هو الأعمق والأكثر حضورا في فرض نفسه على الوعي.. قد نتمكن أحيانا من إخفاء الآلام لكن أغلب ظني أن الوجع ينطق بطلاقة دون أن يتقيد بمحاذير أو يجاري قول أحدنا: أنا بخير. قد يؤلمك أن تتعرض للسخرية من مشاعر الحزن والوجع التي تعانيها وهذه السخرية تُعد شيئا عاديا جدا في مجتمع كالذي نحيا به، حيث الغالبية اعتادوا على الاستهانة بالمشاعر وعدم احترام القيم الإنسانية".

أظن أننا حينما نقرأ هذا الكلام الغث الركيك لا بد أن نستهين بالكاتبة ومشاعرها التي تتحدث عنها، بل ونسخر من هذه الكتابة الركيكة التي لا معنى لها، ولا تُقدم لنا ما يُفيد، أو ما له معنى؛ فالكتابة لا يمكن أن نُطلق عليها توصيف القصة، ولا المقال، ولا أي شيء، بل هي شكل من أشكال الكتابة النسوية البحتة بشكل جوهري؛ فهي تحمل في طياتها كل معاني النسوية من حيث المفردات والحديث في موضوع لا يخص- معظم الوقت- سوى المرأة، والدوران في فلك عالم مغلق لا فكاك منه. كما أن هذا الحديث يجعلنا نتساءل نحن بدورنا: إذا كانت الكاتبة تجهل الفارق بين مفردتي "الألم"، و"الوجع" كما تقول، فلِمَ لم تحاول فعليا البحث عنهما في المعاجم؟ ولم تُصرّ على أن تُصدع رؤوسنا بمثل هذا الكلام المُرسل؟ ولم تكتب لنا ظنونها في حين أن الطريق سهل ومعروف لمعرفة الفارق من دون أي ظنون تكتبها لنا؟! ولم تكتب أساسا مثل هذا الكلام الذي لا يُفيد؟ على أي حال ورد في كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري في الفرق بين الألم والوجع ما يلي: "إن الوجع أعم من الألم، تقول: آلمني زيد بضربه إياي وأوجعني بذلك، وتقول: أوجعني ضربني، ولا تقول: آلمني ضربني، وكل ألم هو ما يلحقه بك غيرك، والوجع ما يلحقك من قبل نفسك ومن قبل غيرك.

الهذيانات النسوية، هو ما نراه تحت عنوان "الحب" والجملة المستخلصة التي تحرص عليها الكاتبة في بداية كل موضوع: "لم أكتفي أبدا بأن يمتلئ قلبي بتلك الموجات من الحنين والحب.. كنت دوما أبحث عن مصب لهذا النهر". بالتأكيد سنلاحظ أننا تركنا الجملة كما كتبتها الكاتبة تماما، ولم نعمل على تصحيح الخطأ النحوي الفادح؛ حيث تركت الكاتبة الفعل "أكتفي" موصولا بحرف العلة بعد حرف الجزم "لم" ولم تعمل على حذف حرف العلة.

لكننا مع الاستمرار في قراءة هذياناتها وتأملاتها سنقرأ الكثير من الكلام الفارغ: "أبدا لم يكن الحب يوما مرادفا للعبودية، فلا الولاء والطاعة المفروضان إجبارا حبا.. ولا التسليم والانقياد المُطلق طوال الوقت باسم الحفاظ على الحب حبا، كل سلوك من هؤلاء له مسمى وأسباب لكنه ليس حبا.. وجدت الحب الحقيقي الناضج حبا يعترف جدا بالمسافات ويحترمها.. على عكس كل المعتقدات والأصوات المنادية وجدته كذلك يعترف جدا بالاختلاف والتكامل لا التطابق والتشابه"، إذن فهي ما زالت تستمر في تأملاتها السرمدية باسم الفن أو الكتابة الفنية، وهذا ما يجعلها تكتب: "عزيزي العقل: أعتذر وبشدة عما سببته لك من أذى غير متعمد.. وعن كوني كنت السبب فيما انجرفنا إليه من قيعان لم تكن تليق بنا أبدا.. أعرف أنك تخطيت ما مضى.. وقد تكون نسيته أو تناسيته.. أعرفك قويا متماسكا لكنني أحيانا أتسبب بحماقة في أن تطل على حاضرك ذكريات عابرة من الماضي قد تنغص لحظات صفائنا سويا وتهدد بانشقاق جديد وانقسام بشق الأنفس تجاوزناه وعدنا متفقين.. أعترف أنك من البداية على حق، وأنني تعمدت ألا أستمع لك ومضيت بإصرار أكممك وأصادر على رأيك وأتهمك بالوساوس والشكوك"!

إن هذه الكتابات التي لا هدف من ورائها إلا إخراج طاقة كامنة في نفس كاتبها لا تصلح للكتابة العامة، قد يكتبها صاحبها من أجل تهدئة ذاته فقط، قد يكتبها من أجل راحته النفسية، لكن أن يكتبها ويظنها فنا، أو كتابة صالحة للنشر والاطلاع عليها؛ فهذا يدل في حقيقته على قصور فكري وثقافي حاد لدى من كتبها، ومن نشرها أيضا؛ لأنها كتابة صالحة للمراهقات اللائي لم ينضجن بعد؛ ومن ثم حينما يقرأن هذا الهراء ستنسال دموعهن ويأخذن الحكمة الخاطئة مما قرأنه، ويقفن كضيوف جدد في طابور الفاشلات في حياتهن؛ بسبب ما قرأنه.

الكارثة الحقيقية في هذا الكتاب هو توصيفه على الغلاف الخارجي بمفردة "قصص"؛ لأن مثل هذه الكتابة لا يمكن لها أن تكون قصصا بأي شكل من الأشكال، كما أنه لا يمكن ضم مجموعة من الهراءات الكتابية إلى جانب مجموعة من القصص المتوسطة القيمة بين دفتي كتاب، ثم نوّصفه مجازا باسم "قصص"؛ فالكتاب لا بد أن يكون منسجما من حيث وحدته الموضوعية والشكلية في أي مجال من المجالات، أما أن نضع مجموعة من الثرثرات بجانب مجموعة من القصص، بجانب مجموعة من المقالات بين دفتي كتاب ثم نوصفه كيفما يحلو لنا؛ فهذا في حقيقته مجرد استهانة وسخرية من عملية الكتابة اشترك فيها كل من الناشر والكاتب، بل إن السخرية تطول من يتوجها إليه وهو القارئ الذي لا بد من احترامه.

لذا حينما نقرأ تحت عنوان "الجنس": "ربما ارتبطت المتعة كلفظ بالحواس أكثر من ارتباطها بالوجدان.. وربما في مجتمعاتنا أصبحت أقرب ترجمة ومرادف للمتعة؛ هي العلاقة الحميمية ممارسة الحميمية أو كما يطلق عليها حس الجنس أو كما يسميها المحبون ممارسة الحب.. والحب لا يمارس في الحقيقة، لكن أيا كانت التسمية فهذا الفعل هو في جوهره مرآة لشخصيتك.. انعكاس حقيقي جدا لكل ما لديك من معاناة مشاكلك عقدك وطموحاتك وطريقة تفكيرك ومخاوفك.. كل عيوبك ونقاط ضعفك وكل مزاياك وقدراتك يبدو فيها جليا، كل ما تتمتع به من خصال حسنة كانت أو معيبة؛ البخل.. الإيثار.. الأنانية.. السيطرة السلبية.. الاحترام للآخر.. تقبل الاختلاف.. العطاء.. الغباء. القسوة.. السخرية.. النرجسية.. كل شيء بلا استثناء". نقول أننا حينما نقرأ هذه الركاكة الخالية من الوحدة العضوية بين الجمل، والفاقدة لكل علامات الترقيم في العربية؛ مما يؤدي إلى التباس المعاني، والتي لا تصلح لأن تكون فنا، ولا أدبا، ولا فكرا، ولا أي شيء سوى أنها كلام فارغ؛ لا بد للقارئ هنا من أن يلعن نفسه والكاتب والناشر؛ لأنه وقع في مثل هذا المأزق واقتنى الكتاب، وعذب نفسه أيضا بقراءته في حالة مازوخية واضحة من قبل القارئ.

لكن هل سارت الكاتبة على نفس هذا المنوال حتى نهاية كتابها؟ الحقيقة أن الكاتبة قسمت كتابها إلى نصفين: النصف الثاني منه جاء بعنوان "أيام أخر"، بينما تركت القسم الأول منه بلا عنوان باعتبارنا سنفهم أن عنوانه بالضرورة سيكون "عشية الأربعين"، وهو القسم الذي ضج بثرثراتها وركاكتها.

لكننا نلاحظ أن الكتابة في القسم الثاني قد بدأت تأخذ شكلا فنيا؛ ومن ثم أمكن لنا تصديق أن هذه الكتابة- الخاصة بالقسم الثاني- هي كتابة فنية تدخل في إطار القصة القصيرة- بغض النظر عن مدى جودتها أو رداءتها-؛ فالأهم لدينا أنها كتابة إبداعية في نهاية المطاف.

نلاحظ في القسم الذي يضم مجموعة من القصص القصيرة أن الكاتبة لديها من الحس القصصي ما يجعلها تستطيع كتابة القصة القصيرة بالفعل وإن تفاوت مستوى القصص في هذا القسم ما بين الجودة والضعف، لكنها في نهاية الأمر تصلح لكتابة القصة القصيرة؛ وهذا ما يجعلنا نتساءل: إذا ما كانت الكاتبة تستطيع فعليا كتابة القصة القصيرة فلِمَ كانت هذه الكتابة الركيكة التي بدأت بها كتابها؟! يبدو لنا الأمر مع المزيد من التأمل أن الكاتبة كان لديها مجموعة من القصص القصيرة التي لم تتعد 75 صفحة- عدد الصفحات التي ضمت هذه القصص- وبما أنها رأت أن هذه القصص لا يمكن أن تقدم بها مجموعة قصصية كبيرة؛ فلقد ضمتها إلى ركاكاتها السابقة ليكون حجم الكتاب كبيرا ويصل إلى 150 صفحة في النهاية، وأطلقت على الكل توصيف "القصة"، لكننا نلاحظ أن ثمة سطوة حقيقية للقص كان لها تأثيرها على كتابة الكاتبة؛ الأمر الذي جعلها تكتب بجدية في القسم الثاني لا سيما أن هناك بعض القصص الجيدة بالفعل والتي تستطيع من خلالها أن تقدم نفسها كقاصة تعرف ماهية الفن القصصي.

في قصتها "الاختيار الصعب" نقرأ في جملتها الافتتاحية للقصة: "جلست تحتضن ركبتيها في زاوية السرير القديم على بقايا ضوء مصباح باهت يأتي متسللا من طرقة صغيرة بعيدة نسبيا عن الباب الموارب في الحجرة المتواضعة بشقة أبيها"، عند تأمل هذه الجملة لا بد من الجزم بأن القصة القصيرة لا يمكن لها احتمال جملة بمثل هذا الطول؛ فهي جملة صالحة في الأغلب للرواية رغم أن الرواية لم تعد تعتمد على هذه الجمل الطويلة. لكن من أهم مميزات وآليات السرد في القصة القصيرة اعتمادها على الجمل "البرقية"، أو التلغرافية" الخاطفة، أي أن القارئ لا بد أن يشعر باللهاث أثناء القراءة؛ نتيجة تلاحق الجمل السريعة في السرد، وهو ما لا تعيه الكاتبة؛ الأمر الذي جعل جملها في معظم قصصها بمثل هذا الطول من دون الحرص على تقطيعها إلى جمل أقصر. كما نلاحظ أيضا أن هذه الجمل تتميز بالكثير من الركاكة والارتباك في التركيب؛ مما يؤكد أن الكاتبة لم تمتلك أسلوبيتها بعد مثل: "رأت جلستها في المغرب بشرفة الشقة المتواضعة المطلة على الحارة الضيقة التي لكل بيوتها لون واحد هو الطوب الأحمر". في الجملة السابقة تقول: "الحارة الضيقة التي لكل بيوتها لون واحد". ثمة ركاكة  وارتباك في تركيب الجملة تجعل القارئ لا بد له من التوقف لإعادة تأمل الجملة، وإعادة تركيبها مرة أخرى ذهنيا؛ لأن مفردة "لكل" هنا ليست في موضعها وهو الأمر الذي أدى إلى مثل هذا الارتباك والتوقف. كان من الممكن للكاتبة صياغة الجملة بقولها: "الحارة الضيقة التي تتميز كل بيوتها بلون واحد"، أو غير ذلك من الصياغات التي تراها مناسبة للسرد، لكنها حينما كتبتها بهذا الشكل جعلت القارئ يتوقف أمام الجملة، وهذا ما نراه أيضا في جملتها: "هنا ازداد قلقها هي بالأساس لا تطمئن لوجود ابنيها مع أشقائها". ثمة ارتباك واضح هنا أيضا في تركيب الجملة، وربما كان هذا الارتباك عائدا في المقام الأول إلى تجاهل جميع علامات الترقيم في هذا الكتاب وكأنها لا توجد في العربية، أو أنها لا دور لها في اللغة.

غادة السمان

تدور القصة من خلال استرجاع امرأة لحياتها مع زوجها بعدما تركت له منزل الزوجية وأخذت معها طفليها لتستقر في بيت أبويها راغبة في الخلع منه؛ نتيجة لبخله وقسوته الدائمة معها والاعتداء الدائم عليها بالضرب، والتعامل معها باعتبارها مجرد ملكية خاصة له يستطيع التصرف فيها كيفما يحلو له، ورغم أنها قد اتخذت قرارها على عدم العودة إليه مرة أخرى والتخلص منه، إلا أنها تعود للتفكير الجدي في العودة للحياة مع الزوج واحتمال أي شيء من الممكن أن يصدر في حقها منه؛ حينما عرفت أن أحد أخويها قد انفرد بابنها الصغير خفية وجعله يشاهد أفلاما جنسية: "احكيلي بالضبط يا عمر يا حبيبي حصل إيه احكي كل حاجة؟ أنا كنت بلعب مع مروة هو ندهلي وقالي تعالى نلعب لعبة رجالة ودخلنا أوضة جدي وبعدين باسني وقعدني على رجله وفرجني على الموبايل على صور فيها حاجات عيب وكنت بخبي عينيا و.. قبل أن يكمل شهقت وخبطت على صدرها بلا وعي فأجفل الطفل فتنبهت وحاولت التماسك: كمل يا حبيبي.. ذعر الطفل لكنها احتضنته. كمل يا عمر يا ابني وبعدين. قال الطفل بتلعثم: جدي جه وفتح الباب خالو قفل الموبايل وجدي قاللنا اقعدوا بره، خالي خدني نجيب حاجة حلوة وقالي لو قلت لحد هخاصمك ومش هكلمك تاني، ولو قلت لماما هتوديك لبابا يضربك وتسيبك عنده وتقوله إنك بتعمل حاجات وحشة خليك راجل ومتحكيش لحد وأنا هلاعبك لعب حلوة كتير وأجيبلك حلويات ولعب وكل حاجة بس نبقى أصحاب ومنقولش لحد السر".

من خلال هذا الاقتباس نلاحظ اختفاء علامات الترقيم تماما من الكتابة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تداخل الجمل والتباس فهمها، كما أنها استخدمت علامة الاستفهام في غير موضعها في بداية الاقتباس. ولكن هذا التحرش الجنسي بطفلها من قبل الأخ يجعلها مصرّة على العودة إلى جحيم زوجها للهروب من جحيم تحرش أخيها بابنها وبالفعل تهاتف الزوج وتحاول مصالحته للعودة إلى بيته مرة أخرى، مبررة ذلك بأن جحيم زوجها معها أفضل كثيرا من الحياة في بيت والديها وعدم أمان طفليها. لكننا نلاحظ هنا أن الكاتبة تصرّ من خلال سردها على التأكيد على مفهوم ضعف المرأة التي لا حيلة لها وأنها ليس لها في النهاية من أمان سوى بيت زوجها، حتى لو كان قاسيا وبخيلا معها، ويعتدي عليها جسديا من دون مبررات. نقرأ ذلك في: "لكنها أرادت تغذية الاتجاه بداخلها لترجح كفة رجوعها لزكريا.. أرادت أن تستشعر أن هناك مزايا بتلك الحياة ونقاط ضوء.. فراحت تتذكر لهو ابنيها في أمان ونومها قريرة العين بوجودهما.. لم تدرك حجم الأمان الذي يمثله بيت زكريا سوى الآن.. عليها العودة"، هذا الإيغال في التأكيد على ضعف المرأة إذا ما كانت وحدها من دون رجل معها نقرأه مرة أخرى في حديثها مع الزوج هاتفيا: "لم يرد فشعرت أنها تقرب من مبتغاها.. أخفضت صوتها قليلا وقالت وهي تتصنع الدلال: هو أنا موحشتكش؟ بذمتك يعني البيت من غيري له طعم؟ مين بيخدمك ويشوف طلباتك؟ عارف تاكل لقمة نضيفة ولا تلبس هدمة مغسولة؟ ولا لاقي اللي يدلعك ويهننك بعد ما ترجع شقيان من شغلك؟ يا خويا مصارين البطن بتتعارك واحنا عشرة وملناش غير بعض.. ورحمة أمك بقا خلاص يا زكريا.. دا أنا بقولك وحشتني ما تفهم بقا يا راجل".

إن هذين الاقتباسين رغم أنهما يصفان حال الكثيرات من النساء في المنطقة العربية اللائي يجدن أنفسهن غير قادرات على التصرف أو الفعل إلا من خلال الرجل الذي لا بد أن يكون مساندا لهن، إلا أن الكاتبة من خلال قصتها تعمل على التأصيل لمثل هذا الضعف والارتكان إلى الرجل حتى لو كان ظالما قاهرا للمرأة يسلبها كرامتها ويتعامل معها باعتبارها ملكية شخصية أو خادمة له، وهو ما جعل الكاتبة تجد الحل في عودة الزوجة لبيت زوجها صاغرة ذليلة؛ كي يعيش طفلاها في أمان بعيدا عن تحرشات أخيها.

في قصة "الأم المثالية" نرى أن الكاتبة تُحاول كتابة قصة قصيرة يشوبها الاكتمال وإن كانت قد اتخذت من حكاية تقليدية مستهلكة؛ لفرط تكرارها وسماعنا لها ما يوقعها في النمطية التي لا تُقدم لنا جديدا؛ لأن مثل هذه الحكايات تكاد أن تتكرر أمامنا بشكل يومي، حيث تتحدث عن سيدة تقدم بها العمر تتأمل نفسها أمام المرآة في انتظار تكريمها في مسابقة للأم المثالية مستعيدة حياتها الماضية في شكل ذكريات؛ حيث زواجها صغيرة بعد الثانوية العامة واكتفائها من التعليم بهذا القدر، ثم إنجابها لأربعة أبناء ووفاة زوجها في حادث سير؛ الأمر الذي يجعلها تتحمل مسؤولية أبنائها وعدم تفكيرها مرة أخرى في الزواج. تعمل الأم في دار للمسنين، وحينما تلمحها صاحبة الدار تقرأ في كتاب بالفرنسية ذات يوم تندهش، لكنها تعرف منها أنها تتقن اللغة من خلال تعليمها السابق؛ فتساعدها بإلحاقها في مكتب للترجمة إلى جانب عملها معها في الدار. تنجح السيدة في تربية أبنائها وتعليمهم؛ فيكون هناك الطبيب والمهندس، وثالث يسافر إلى أوروبا للحصول على الدكتوراة من خلال منحة، وتتزوج ابنتها من زميل دراستها. تقابل السيدة نورا الفتاة الشابة التي تلتحق للعمل في دار المسنين والتي تتعلق بالسيدة باعتبارها أما ثانية لها بعدما انفصلت أمها عن أبيها وتزوجت وتخلت عنها وسافرت مع زوجها الجديد إلى الخليج. نتيجة حب نورا وسماعها لكفاحها من أجل تربية أبنائها تُقدم لها في مسابقة الأم المثالية وتفوز بالفعل. حينما تعرف السيدة تشعر بسعادة جمة وترى أن كفاحها من أجل أبنائها قد تم تتويجه، إلا أنها تُفاجأ بالأبناء يرفضون هذا التكريم شاعرين بالعار من وجود أمهم في مثل هذا الحفل غير راغبين في تواجدهم أيضا معها في هذه الليلة: "حان وقت الحصاد حان وقت الاحتفال بعد انتهاء الرحلة.. حان وقت رد الجميل والعرفان والفرحة وسط الأبناء والأحفاد وجني الثمار نظرت لساعة الحائط المعلقة خلفها التي تشير للرابعة.. ما زال الوقت مبكرا.. تنتظر أن يمر عليها ابنها البكر ليقلها إلى الحفل فيما سيأتي ابنها وابنتها على الموعد هل تتصل به أم تنتظره.. لماذا شعرت بعدم حماس في ردود أبنائها حينما أخبرتهم بالجائزة.. اتصلت بابنها فلم يرد، بعد دقائق اتصلت بها زوجته الدبلوماسية دوما وقالت لها: إيه رأيك يا ماما نخرج نحتفل إحنا بالمناسبة دي ومفيش داعي لحضور التكريم علشان شهادة ورق لا تعني شيئا ولا توازي عطاءك التعب اللي اتحملتيه في رعاية ولادك.. لم ترد الأم وارتسمت على وجهها علامة وجوم ودهشة.. أيرفض أبناؤها تكريمها أم يخجلون من أن تروي قصة صعودهم!! استطردت زوجة الابن في ارتباك واضح.. ها يا ماما قلتي إيه؟ سألت الأم في وجوم: دا رأيك يا رباب ولا رأي علي؟ ردت زوجة الابن في محاولة لتخفيف ما تقول: بصراحة يا ماما علي شايف إن الموضوع محرج شوية ومش حابب إن الكلام يبقى على الملأ كدا في أسرار حياتكم، وبيقول إن حضرتك مش محتاجة الشكر ولا التكريم من حد، كفاية إن ولادك مقدرين اللي عملتيه علشانهم والمناسبات اللي زي دي بتبقى شوشرة وصور ورغي فاضي والناس مبتسكتش، وهو برضو دلوقتي دكتور له اسمه وبقية ولاد حضرتك ناس لها وضعها وسمعتها و.. قاطعتها الأم بهدوء، إديني علي أفهم منه يا رباب لو سمحتي.. ردت زوجة الابن بحرج فعلي: هو مكسوف يكلمك ومش عايز يزعل حضرتك".

حينما تقرر الأم وهي حزينة عدم الذهاب من أجل أبنائها تقنعها نورا أن هذا حقها وأنها لا بد لها من حضور التكريم، وبالفعل تذهب الأم مع نورا ويتم تكريمها؛ فتشعر بفرحة جامحة وحينما يسألونها عن أبنائها تشير إلى نورا وتقول لهم: إن ابنتها موجودة معها، لكن باقي الأولاد مسافرون، في تأكيد ضمني أنها لم يعد يعنيها الأولاد الذين يشعرون بالعار من كفاح أمهم، وأنها قد تبنت نورا لتكون ابنتها الوحيدة.

رغم أن القصة تبدو جيدة إلا أنها وقعت في التقليدية والتكرار؛ بسبب الموضوع الذي اتخذته الكاتبة متنا لها للعمل عليه، كما أنها- كالعادة- أهملت كل علامات الترقيم التي تؤدي إلى الارتباك بين الجمل، ولعلنا نلاحظ جملة شديدة الارتباك حينما تكتب: "ولأنها اكتفت بالثانوية وتزوجت أو اكتفى أهلها في الحقيقة أسرة محافظة رأت أن الفتاة جميلة والزمان لا أمان له فخافوا عليها، ورأوا أن الأمان ممثل في تزويجها وإلقاء مسؤولياتها على عاتق رجل لتكن شرفه ومسؤوليته". حينما نقرأ هذه الجملة سنشعر بعدم الفهم وضرورة العودة إليها مرة أخرى لفهم ما ترغب الكاتبة في قوله؛ فثمة فجوة ما في الكلام تجعلنا نسقط فجأة في الفراغ؛ لنفاجأ بها تتحدث عن محافظة أسرتها من دون الإشارة السابقة لها حيث إن التركيب الصحيح للجملة كي تكون متسقة ومفهومة: "ولأنها اكتفت بالثانوية وتزوجت أو اكتفى أهلها الذين يتميزون بكونهم أسرة محافظة حيث رأوا..". ولعلنا نلاحظ ملاحظة أخرى من خلال هذه الجملة وهي التأكيد والتكريس من قبل الكاتبة على أن المرأة مجرد عبء، أو شيء في مجتمعاتنا العربية لا بد من وجود من يتحمل مسؤوليتها؛ حتى أن الأهل سرعان ما يقذفون بها لأول عابر سبيل؛ راغبين في التخلص من عبئها بإلقائها في معية شخص آخر باسم الزواج ليتحمل هو المسؤولية. إن هذه الإشارة من الكاتبة بمثابة تكريس لما تعتقده مجتمعاتنا العربية حيث نلاحظ هذه السمة في كل قصصها تقريبا من دون رفضها أو الاعتراض عليها، بل نلاحظ خنوع الكاتبة لمثل هذه النظرة المستضعفة للمرأة التي لا بد لها من رجل كي تستطيع الحياة.

في قصة "الجيلي" تبرع الكاتبة في تصوير الشظف والحرمان والفقر والحاجة وأثر ذلك على مشاعر ومشاهدات طفلة صغيرة من خلال أم تعمل كخادمة لدى إحدى الأسر وتأخذ طفلتها التي انتهت من اختباراتها المدرسية معها. ترى الطفلة صاحبة البيت وهي تصنع "الجيلي" وتقف أمامها مبهورة بهذه الحلوى التي كثيرا ما رأتها في التليفزيون ولم تذقها من قبل. تطلب الأم من الطفلة أن تساعدها في الكنس ومسح الأرضيات بينما الطفلة تسبح في عالم آخر ترى نفسها فيه تتذوق "الجيلي" وترتدي ملابس مثل ملابس ابنتي صاحبة البيت، وتلعب معهما بألعابهما، وتجلس على الكرسي أمام التلفاز لتقلب في قنواته وترى ما يحلو لها من قنوات: "وقفت الصغيرة من خلف زجاج شرفة حجرة الجلوس التي تنظفه تراقب الفتاتان تلهوان بالدمى التي لم ترها أبدا ولم تعلم بوجود مثلها في الواقع وارتسمت على وجهها ابتسامة، وهي تحلم حلم يقظة جعل منها إحدى البنتين أو ربما ثالثتهما.. تصورت نفسها وقد حلت ضفيرتيها ليصبح شعرها مموجا مثل الفتاتين وبالطبع هي شعرها ناعم فسيكون أجمل وتصور نفسها ترتدي تنورة قصيرة زهرية اللون وحذاء أبيض به فراشات ملونة وتوب أبيض اللون قطني بنصف كم.. لا لا سيكون بحمالات رفيعة.. رأت نفسها تجري في أنحاء البيت وتمسك بدمية شقراء جميلة كثيفة الشعر وتمسك بيدها الأخرى تفاحة حمراء قانية.. ثم تجلس على الأريكة المخملية الوثيرة أمام التلفاز كبير الحجم تشاهد أفلام الكارتون بالألوان البراقة، أخذها خيالها لأبعد من تلك الجلسة ورأت نفسها في منامة وردية في سريرها الذي تزينه رسومات أميرات ديزني وحجرتها بجدرانها التي يكسوها ورق حائط فاتح اللون به ورود صغيرة وفراشات مزركشة وتلتحف بغطاء ملون جميل وترى أمامها لعب وملابس لا حصر لها.. وفجأة تذكرت الجيلي فاتسعت ابتسامتها وهي تراه وتلهو به في خيالها".

من خلال هذا المقتطف نلاحظ أن الفتاة الصغيرة تعيش في عالم آخر يخصها فقط وقد انفصلت عن عالم أمها الذي يميزه الفقر والشقاء والعمل في بيوت الآخرين، ويبدو أن حلم الفتاة كاد أن يتحول إلى واقع فجأة حينما تنتهي الأم من عملها وتستعد للرحيل بينما ابنتي سيدة البيت تتشبثان بالفتاة الصغيرة كي تبقى للعب معهما بألعابهما. تلح صاحبة البيت على الأم كي تترك ابنتها هذه الليلة مع الفتاتين واعدة إياها أنها سترجعها إليها بنفسها في الصباح الباكر، وتحت ضغط سيدة البيت توافق الأم على مضض، غاضبة من ابنتها التي وافقت، وبمجرد رحيل الأم تشعر الفتاة بالسعادة وتبدأ في تحقيق حلمها الذي رأته منذ قليل، منتظرة تماسك الجيلي في الثلاجة كي تتذوقه لأول مرة في حياتها، لكن الكارثة تحل عليها حينما تعود الأم بعد قليل لتطلب ابنتها متعللة بأن الأب حينما عرف غضب ورفض أن تبيت ابنته خارج البيت- رغم أن ذلك لم يحدث، لكن الأم رأت الأمر من خلال نظرة طبقية باعتبار أن صاحبة البيت رأت في طفلتها مجرد دمية ستلهو مع ابنتيها وتحاول إكسابهما الفرحة بها-.

تخرج الطفلة مع أمها للعودة إلى بيتهما بينما انهار العالم تماما على رأسها بعدما تبخرت كل الأمنيات التي رأتها في خيالها: "مسحت دموع ابنتها في رفق وصعدا الأتوبيس وجدت كرسيا فجلست وأجلست ابنتها في حضنها وهمست: خلاص بقى بتعيطي ليه دلوقتي؟! ضمت ابنتها لحضنها وشعرت بخطئها؛ لأنها اصطحبتها معها وجعلت الفتاة ترى عالما آخر لم تكن تدري بوجوده.. أغمضت الفتاة عيونها وغفت على صدر أمها وهي تحلم بشكل الجيلي وطعمه الذي حُرمت منه واحتل مخيلتها!!".

نلاحظ في هذه القصة مقدرة الكاتبة على صياغة قصة جيدة من خلال عالم الطفلة وتخيلاتها، كما نلاحظ من خلال كل القصص تقريبا استغراق الكاتبة في الحديث عن عالم أنثوي محض، تعاني فيه المرأة من الكثير من الأمور والمنغصات- فتارة نراها هي المعيلة إما لوفاة الزوج، أو لبخله وعدم رغبته في الإنفاق عليها، أو لتعطله وإفراطه في السكر، وتارة نراها مظلومة اجتماعيا، وغير ذلك-، وإن كان حديث الكاتبة عن معاناة المرأة لا يبدو لنا مفتعلا أو بنبرة خطابية عالية فيها من الضوضاء ما يُفسد السرد، بل جاءت كل هذه المنغصات والمشكلات التي تعاني منها شخصياتها الأنثوية في صورة عفوية طبيعية لا خطابية فيها.

هذه العفوية في الحديث عن مشكلات المرأة نراها في قصتها المكتملة "مذكرات لم تُقرأ بعد" التي كانت من أكثر قصص المجموعة اكتمالا حيث تبين من خلالها مدى قدرة المرأة على الصبر والتظاهر بغير الحقيقة إذا ما رغبت في فعل ذلك،  من خلال زوجة ماتت بعد 25 عاما من الزواج وبعدما تزوج ابنها الكبير، وسافر الآخر إلى الخارج. يبدو لنا الزوج- طبيب الأسنان- مندهشا من رحيلها المفاجئ: "لم يعتد على غيابها ولم يفكر يوما ماذا سيفعل بعدها؛ إذ دوما تخيل أنها ستظل حية للأبد.. بل لم يتصورها ستمرض أو تموت أو ترحل لأي سبب!!".

لذلك تنقلب حياته رأسا على عقب؛ حيث كان يعتمد عليها في كل شيء في حياته، بداية من مسؤوليات الولدين وتربيتهما، حتى أدق التفاصيل في مشاكله في العمل التي كانت تجد الحلول لها حينما يرويها، رغم أنه لم يكن يهتم بأي شيء من حوله في البيت، أو بها، أو الولدين، وتفرغ تفرغا تاما للنجاح في حياته العملية حتى صار له عيادتين: "لم يكن يشغل باله بأي شيء واقتصر دوره على التمويل المادي المعتدل واستطاع التفرغ لبناء مستقبله كطبيب أسنان ذاع صيته وصار له بدل من العيادة اثنان وتمكن من ادخار رصيد لا بأس به، ولم يسلم الأمر من بعض نزوات ومغامرات نسائية بدت قليلة ومتباعدة ثم تناسبت طرديا مع نجاحه في عمله وتقدمه في العمر والمركز وانسلاله من مسؤوليات الأسرة التي حملتها وحدها".

يشعر الطبيب بالوحدة وبأهميتها التي لم يكن يشعر بها من قبل في حياته؛ لذا يبكي كثيرا كطفل فقد أمه، ثم يبدأ في التقليب في الكم الهائل من الصور التي كانت حريصة على التقاطها بمناسبة ومن دون أي مناسبة أيضا. كان يعرف أنها تنظم الألبومات تبعا لتواريخها؛ لذا بدأ بأقدمها وظل يتأمل في كل مراحل حياته معها، ومع ولديه، إلا أن هناك صورة في المصيف لفتت نظره، ورغم أن وجهها كانت ترتسم عليه ابتسامتها المعهودة دائما إلا أن نظرة عينيها اللتين تبدوان وكأنما فيهما لوم وعتاب جعلته يشعر بالحيرة والتساؤل. تتبع باقي الصور ليتوقف كثيرا أمام هذه الصورة، تذكر أنه حينما ظهرت الهواتف النقالة كانت حريصة على اختيار أحدثها من أجل التصوير به واحتفاظها بهذه الصور في جهاز الكمبيوتر الخاص بها والذي لم يكن له أو لهاتفها أي كلمة مرور. بدأ البحث في جهاز الكمبيوتر عن باقي الصور، لكنه لفت نظره ملفا خاصا لها. حينما فتحه وجد لها فيه الكثير من الصور الشخصية التي لم يرها من قبل. صور لها وهي تمشط شعرها، وأخرى هي بقميص نوم مكشوف، وغير ذلك؛ الأمر الذي جعله يشك في أنها التقطت هذه الصور لشخص ما كانت على علاقة إليكترونية معه. تشكك الزوج أن الزوجة كانت ترسل صورها لشخص ما مثلما كان يفعل مع العديد من الزوجات على الإنترنت. بدأ يبحث في جهات اتصالها إلا أنه لم يجد شيئا. حينما عاود البحث وجد مجموعة من الدفاتر التي كانت تدون فيها مذكراتها على فترات غير منتظمة. وفيها قرأ في مقدمتها: "قررت اليوم أن أعاود ما كنت أفعله في سنوات المراهقة.. قررت أن أكتب لأفرغ طاقاتي السلبية وإحباطاتي وأوجاعي التي لن يستمع إليها أحد.. حاولت كثيرا أن أحتفظ بهامش الصداقة بيني وبين زوجي ليشاركني مشاعري وأفكاري، لكنني دوما كنت أصطدم بصداقة من طرف واحد فدوما أنا المستمعة وهو المتحدث، دوما هو البطل وأنا الدور الهامشي.. لم أعد أجد من أتحدث معه.. لا أريد تعكير صفو الحياة بالشكوى.. ولا أجرؤ على البوح لصديقة أو قريبة ترى في عائلتنا صورة مثالية للحياة المستقرة فأعري نواقص وخيبات حياتي أمامها ولئن أشفقت عليّ اليوم فلربما عايرتني غدا".

يستمر الزوج في قراءة مذكرات زوجته الراحلة ليفهم سر الصورة ونظرتها اللائمة فيها، منتظرا مفاجأة خيانتها له وتفسير صورها الشخصية: "أعود للكتابة بعد شهور اعتقدت أني عشت فيها أوقاتا مستقرة لم أحتج فيها للفضفضة؛ لأنني اعتقدت أنني بمأمن وأن الحياة على ما يرام.. لكنني اكتشفت وراء هذه الفترة القصيرة من الهدوء وعدم شكواه من شيء وبعض التقدير الخفي أنه فقط كان يقارن بيني وبين من يعرفها في الخفاء.. علمت أنها زوجة أحدهم!! واندهشت وتألمت حين نسى هاتفه ووجدت رسائلهم الحميمية والصور الخاصة بينهم.. أشعر باستعار نار بداخلي، كيف له أن يكتب كل عبارات الغزل تلك وأنا لا أسمع منها معشارها! كيف يثني على صورة امرأة وقحة مبتذلة ولا يرى أو يلاحظ احتفاظي برشاقتي بعد إنجاب ابنيه، ولا يمتدح اهتمامي بنفسي الذي يثني عليه الجميع أي غبي هذا؟!!".

مع استمرار الزوج في القراءة يعرف السبب في نظرتها اللائمة في الصورة حينما يعرف أنهما حينما كانا في المصيف لم يترك واحدة إلا وطاردها بنظراته، غازل الكثيرات من عاملات الفندق؛ الأمر الذي جعلها تكتم ذلك في نفسها حى لا تعكر صفو الرحلة لكنه ظهر على عينيها.

يفهم الزوج كيف كانت زوجته تشعر بالألم في البداية، وكيف حاولت التحمل من أجل أسرتها، ثم فقدت فيما بعد الاهتمام، رغم حبها العميق له، ثم لم تلبث أن تحولت إلى ممثلة لتبدو طبيعية أمام ما يحدث في حياتها، ورغم أنه تأكد أن هذه الصور كانت تلتقطها لنفسها لتشعر بأنوثتها التي لا يشعر هو بها ولا يراها فيها، إلا أنه ظل يتساءل: إذا كانت بمثل هذه الدرجة من التمثيل التي لم يلحظها في حياته معها، فهل كانت بالفعل على علاقة مع أحدهم مثلما كان يفعل هو مع زوجات الآخرين؟

لا يمكن لنا إنكار أن القاصة غادة ضاحي لديها من الموهبة والقدرة على كتابة القصة الفصيرة ما يجعلها فيما بعد قاصة متميزة وذات مكانة في مجال القصة القصيرة، ورغم أن كل قصصها تقريبا غارقة في عالم المرأة ومشكلاتها ومعاناتها إلا أنها ليست بالأدب النسوي الفج الذي لا يعنيه سوى الصراخ والضجيج والبكاء، كما أن تناولها لهذا العالم يجعلها متميزة فيه بعرضه ومناقشته بشكل فني، لكن المشكلة أن الكاتبة لا تعرف شيئا في اللغة العربية التي تكتب بها، أي أنها جاهلة بها تماما وفي حاجة ماسة لأن تتعلمها من جديد مرة أخرى، ولعل هذا ما لاحظنا شيئا منه في الاقتباسات التي حرصنا على سوقها بأخطائها كما وردت في المتن القصصي، وهو ما رأيناه أيضا في استخدامها معظم الوقت لضمائر الجمع مكان ضمائر المثنى والعكس مثل "قورنوا" بدلا من "قورنا"، و"معترف بهم ولا لهم" بدلا من "معترف بهما ولا لهما"، وكتابتها لمفردة "الرذيلة" هكذا "الرزيلة"، وعدم معرفتها الكاملة بوظيفة حروف العلة ومن ثم جاءت جميع الكلمات المعتلة بعد الحرف الجازم من دون حذف حرف العلة، وجهلها الكامل بهمزات القطع وألف الوصل وموضعهما؛ ومن ثم تخلط بينهما، لكن الكارثة الكبرى لدى الكاتبة- وهو ما يُدلل على أنها لم تدرس اللغة العربية من قبل- أنها تضع دائما الياء للمؤنث في نهاية المفردة بدلا من الكسرة- وهذا ما يقع فيه غير المتعلمين- مثل "أين كنتي" بدلا من "كنتِ"، و"متسع لكي" بدلا من "لكِ"، و"هربتي منه أنتي" بدلا من "هربتِ منه أنتِ"، و"لن يحميكي كما اعتقدتي" بدلا من "لن يحميكِ كما اعتقدتِ"، واستخداما مفردة "ملفتا للنظر" بدلا من "لافتا للنظر" الأصح، وكتابتها "خرصا" بدلا من "خرسا"، وكتابتها "يجعله عريس" بدلا من "عريسا" حيث الفعل "جعل" ينصب مفعولين كفعل متعد، و"سمعت صوت" بدلا من "صوتا" لأنها مفعول به، وقولها "عيناها الصغيرة" بدلا من "الصغيرتان"، وكتابة مفردة "الله" بعد النداء من دون همزة، ومن المعروف أن الله إذا ما جاء بعد النداء نضع على الألف همزة ونقول: "يا ألله"، وغير ذلك الكثير جدا من الجرائم اللغوية التي من شأنها أن تُفسد أي فن قصصي مهما كان بديعا وجيدا وتجعل القارئ ينصرف عنه بسهولة؛ نظرا لأن الكاتبة جاهلة باللغة وهي أداتها الأولى والوحيدة من أجل إيصال ما تكتبه إلينا.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عددا يونيو/ يوليو 2021م.