السبت، 20 نوفمبر 2021

سقطة ألبير كامي أم السقوط الأخلاقي لأوروبا؟!

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أعاد المُجتمع الأوروبي النظر في كل مُفردات الحياة المُحيطة به؛ نتيجة شعوره بالذنب الأخلاقي الذي أدى به إلى كل هذا الدمار والموت اللذين حاقا بالقارة العجوز بأكملها. كان ثمة شعور ضاغط بالسقوط الأخلاقي على كل المستويات- السياسية، والثقافية، والاجتماعية- هذا الشعور أدى إلى مُحاكمة الأوروبي لنفسه، ومحاولة إعادة تشكيل ثقافته وبنيان المُجتمع فيه، وبالتالي ظهرت لنا العديد من التيارات الثقافية المُتباينة والجديدة في كل المجالات كتعبير عن الرغبة في التجديد، أو التطهر، أو انتزاع الأوروبي لنفسه من ماضيه ليبدأ في رسم حياة جديدة تليق به بعد الانتكاسة العُظمى التي أحدثها لنفسه وللقارة بأكملها.

رأينا هذه التيارات الجديدة في كل المجالات الأوروبية، ففي مجال السينما ظهرت العديد من المدارس السينمائية الجديدة والتي كان منها- على سبيل المثال- الواقعية الإيطالية الجديدة التي دفعت بصُناع السينما للخروج إلى الشارع بآلاتهم ومُعداتهم من أجل التصوير خارج الاستديوهات- لا يمكن إنكار الدور الاقتصادي الذي كان الدافع الجوهري لهذا الخروج- ومن ثم بدأوا، فيما بعد، بقيادة المُخرج الإيطالي روبرتو روسيليني للتكريس لهذه الواقعية التي نشأت بسبب ظروف الحرب، وما أدت إليه. كذلك في مجال الأدب رأينا، على سبيل المثال، الاتجاه العبثي والعدمي كناتجين للسقوط العظيم الذي حدث للقارة طوال حربين من الدمار الكامل لكل شيء؛ ومن ثم رأينا العديدين من رواد هذين الاتجاهين مثل التشيكي فرانز كافكا، والإيطالي لويجي بيرانديللو، والروماني أوجين يونسكو، والأيرلندي صمويل بيكيت، والبريطاني هارولد بنتر، وصولا إلى الفرنسي ألبير كامي، وهم الكتاب الذين رأوا أن كل شيء لا هدف له، ولا قيمة؛ فالحياة وما حدث فيها- خلال الحربين- جعلتهم يرون ألا هدف لأي شيء، وأن ثمة سقوط أخلاقي مروع قد ارتكبته الإنسانية مُمثلة في القارة الأوروبية؛ لذلك اكتسب كل شيء لديهم الكثير من اللامنطقية، والسخرية، واللاهدف، واللاجدوى. بمعنى آخر نستطيع القول: بأنهم حينما بدأوا يعيدون النظر في ترتيب ثقافتهم ووعيهم مرة أخرى بعدما حدث في القارة من أهوال وضعوا حرف النفي "لا" قبل كل القيم التي من المُمكن تخيلها، ورأوا أن كل شيء في الحياة قد بات مُنتفيا، وغير مُهم، وأن الحياة مُجرد مكان للعبث، والعدم. ومن هنا جاءت تسمية هذه التيارات الأدبية الجديدة.

هل كان أصحاب هذه التيارات الثقافية، والأدبية الجديدة يتفلسفون بما يفعلونه، أو بمعنى آخر هل كان لجوئهم لمثل هذا التفكير من قبيل الرفاهية الأوروبية؟

لا يمكن الإقرار بذلك؛ فالكارثة الإنسانية التي حاقت بالقارة الأوروبية في الحربين قد دمرتها تماما؛ وهو الأمر الذي دفع مُفكريها، بل وساستها إلى إعادة النظر في كل ما يدور من حولهم، بل وفي طريقة تفكيرهم أيضا، وهو ما أثقلهم بالكثير من الذنب الذي لم ينمحِ حتى اليوم، وهو الذنب الذي نراه في الكثير من أدبياتهم، بل وفي سياساتهم، أيضا، التي تهتم بما هو إنساني نتيجة وخز الضمير الذي ما زال مُلازما لهم!

هذه الفترة أدت إلى الكثير من الدُرر الأدبية والسينمائية التي ما زالت تعيش حتى اليوم، بل ما زال الأوروبي يفكر في هذه الفترة ويصنع عنها الكثير من الأعمال الفنية، وكأنما الأمر سيظل ندبة لا تنمحي من الجبين الأوروبي؛ وبالتالي فهم يتذكرونها بين الفينة والأخرى ليصنعوا الكثير من الأعمال الفنية التي يقومون من خلالها بلوم أنفسهم، وإدانتها، بل وجلدها أحيانا على ما اقترفوه في حق العالم بشكل عام، والقارة الأوروبية بشكل خاص، ولعل الكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية الحديثة التي تدين هذا الحدث خير دليل على عدم مقدرتهم على تجاوز الأمر، أو محوه من الذاكرة!

حينما نقرأ رواية "السقطة" للروائي الفرنسي ألبير كامي، وهي الرواية الأخيرة التي كتبها قبل موته؛ لا بد لنا من تذكر هذه الفترة الدامية من تاريخ العالم، وهي الفترة التي كانت بمثابة حلقة مفصلية في التاريخ لإعادة ترتيبه وأخذ العظة مما حدث كي لا يتكرر مرة أخرى، لذلك فكامي من خلال روايته يدين كل شيء من حوله، وينتقد الحياة ذاتها. ينتقد السياسة، والمشاعر، والحب، والإنسان، والموت، والدين، والله ذاته! لقد تحول كل ما يحيط به إلى مادة خصبة، صالحة للانتقاد والسُخرية المريرة نتيجة ما آل إليه الأمر، وهو ما قد يدفعنا في نهاية الأمر إلى القول: إنها رواية تنحو باتجاه الرغبة في التطهر باعتبار أن الفنان في جوهره هو ضمير العالم- بشكل لا شعوري- وبالتالي فهو يلوم نفسه باعتباره يلوم الجميع على هذا السقوط المروع!

الروائي الفرنسي ألبير كامي

لكن، إن مُجرد الانتقاد والسُخرية العبثية من كل ما يُحيط بنا قد يحول العمل الأدبي إلى محض مقال طويل، أو تأمل فلسفي في طبيعة الأشياء، وهو الأمر الذي سيخرج العمل من نطاقه وجنسه الأدبي إلى مجال آخر بالضرورة. هنا لا بد لنا من طرح سؤال الماهية أو الأسلوبية التي لجأ إليها كامي للحفاظ على إبداعية وفنية نصه ليظل داخل إطار العمل الأدبي.

لجأ ألبير كامي إلى أسلوب سردي يتخيل من خلاله شخصية ما قابلها في أحد البارات؛ ومن ثم بدأ في الحديث إليه عن نفسه، وعما يدور من حوله، وعن حياته، وتاريخه وعمله، مُصطحبا إياه في العديد من الأماكن، ثم لا يلبثا أن يتقابلا في البار مرة أخرى عدة مرات إلى أن أنهى نصه الروائي، أي أنه تخيل وجود شخصية تستمع إليه، ويفضي إليها بما يرغب في قوله. هذه الشخصية المُتخيلة في جوهرها هي القارئ الذي يتوجه إليه بالحديث حتى ينتهي من نصه الروائي/ ذنبه الثقيل.

إذن، فلقد نجح كامي في إيهام القارئ، مُنذ السطور الأولى، بوجود شخصية ما تستمع إلى الراوي، ولن يكتشف القارئ عبثية وجود هذه الشخصية، أو أن المُؤلف قد أوقعه في الإيهام إلا مع انتهاء النص الروائي الذي سنعرف مع نهايته عدم وجودها، وأنها مُجرد شخصية مُتخيلة. هذا ما سنُلاحظه مع الجملة الأولى من الرواية: "هل بوسعي يا سيدي أن أعرض عليك خدماتي دون أن أبدو متطفلا؟ أخشى أنك لا تعرف كيفية التواصل مع "الغوريلا" المُحترم الذي يُسَطِّرُ المصائر في هذا المكان، إذ أنه في الواقع لا يتحدث سوى اللغة الهولندية، وفي هذه الحالة فإنه لن يخمن أنك ترغب في احتساء مشروب "الجن"، إلا إذا منحتني تفويضا لأترافع عن قضيتك. انظر، بمُستطاعي أن آمُلَ أنه قد فهمني، فحركة رأسه لا بد وأنها تعني أنه استسلم أمام حُجَّتِي، إنه يتحرك، والحق أنه يخطو بِخِفَّةٍ مع الاحتفاظ بِتَأنٍّ حكيم، أنت محظوظ كونه لم يتذمر، إذ عندما يرفض خدمة أحدهم يكفي أن يتأفف: لا أحد يستطيع الإلحاح عليه حينها، وهنا يكمن امتياز الحيوانات الضخمة، إذ أنها سيدة مزاجها. لكن يتوجب عليّ الآن أن أنسحب سيدي. سعيد بأنني أسديت خدمة لك. أشكرك، سأقبل دعوتك إذا كنتُ متأكدا من عدم إزعاجك. أنت طيب للغاية. إذن سأضع كأسي بجَانب كأسك".

ربما سنُلاحظ في هذا الاقتباس الذي بدأ به الروائي روايته أنه حريص على الإيهام بأن ثمة شخص ما قابله الراوي في أحد البارات، وأنه قد بدأ في الحديث معه، وبما أن الراوي قد أسدى إليه خدمة طلب "الجن"؛ فلقد دعاه هذا الشخص إلى مُشاركته الشراب، كما سنُلاحظ- مع التقدم في قراءة الرواية- أن مشروب "الجن" الذي طلبه الراوي للشخص الآخر هو المشروب المُفضل لدى الراوي، مما يُدلل على أنه قد طلب لنفسه مشروبه، وأن ثمة شخصية مُتخيلة غير واقعية يتحدث معها، أو لكأنما الراوي قد انقسم إلى شخصين في حالة من حالات الهذيان، أو الازدواجية؛ ومن ثم بدأ في الحديث إلى ذاته!

هذه الازدواجية التي يتمتع بها الراوي الذي سنعرف فيما بعد بأن اسمه جان بانيست كلامنس، وأنه كان يعمل مُحاميا، ثم قاضيا إلى أن تاب- على حد قوله- سنراها واضحة في حديثه حينما يتحدث عن حبه للخير ومُساعدة الناس- ظاهريا- بينما هو في جوهر الأمر لا يعنيه الآخرين بقدر ما يعنيه شكله أمام الناس، ووصفه بأنه رجل خيّر ويُساعد الآخرين: "أتدري، بعد وقت قصير على المساء الذي حدثتك عنه اكتشفت شيئا، عندما كنت أودع أعمى ساعدته على العبور إلى الرصيف، كنت أحييه عن طريق رفع قبعتي، مع أنه لم يكن بوسعه أن يرى ذلك، لِمَنْ إذن كنتُ أرفع قبعتي؟ للجمهور. بعد لعب دورنا ينبغي أن نُحَيِّي الجمهور، لا بأس بذلك، أليس كذلك؟"! أي أنه يدين المُجتمع الأوروبي بالكامل من خلال اعترافه وإدانته لنفسه أمام الشخصية التي يتخيلها. إنه المُجتمع الأوروبي الذي يُبدي في العلن الرغبة الخالصة في الأخذ بيد الآخرين وإن كان يفعل ذلك، في حقيقة الأمر، من أجل مصالح خاصة به فقط، وليس من أجل الآخرين، أي أنه حريص على تجميل صورته فحسب!

الروائية والمُترجمة المغربية سلمى الغزاوي

سنُلاحظ هذه الازدواجية غير مرة في الرواية؛ حيث سيحاول كامي التأكيد عليها لدى الآخرين، وليس لديه فقط- أي أنه يحاكم المُجتمع بالكامل من حوله، أو يحاول التبرؤ من الذنب الذي يستشعره بإشراك الآخرين فيه- حينما نقرأ: "عرفتُ أيضا روائيا مُلحدا كان يصلي كل ليلة، ومع ذلك لم يكن هذا يمنعه من الإساءة إلى الرب في كتبه! ويا لها من إساءات! حدثتُ أحد مُفكرينا الأحرار المُناضلين عن هذا الكاتب، فرفع يديه إلى السماء وتأوه قبل أن يقول: "أنت لا تخبرني بأي شيء جديد، إنهم كلهم هكذا"! وحسب قوله فإن ثمانين بالمئة من كُتَّابنا كانوا سيكتبون مديحا للرب لو كان بإمكانهم نشر كتبهم دون أن يضعوا أسماءهم الحقيقية عليها، ولكنهم يصدرون كتبهم بأسمائهم لأنهم يحبون أنفسهم، ولا يمدحون الرب على الإطلاق لأنهم يتقززون من أنفسهم، وبما أنهم لا يستطيعون منع أنفسهم من إصدار الأحكام فإنهم يحاضرون حول الأخلاق، الخلاصة هي أنهم يعانون من شيطنة فاضلة، زمن عجيب بحق! كم هو مُدهش هذا الاضطراب الروحي! أحد أصدقائي كان مُلحدا عندما كان زوجا مثاليا، ثم أصبح مؤمنا وصار زانيا!".

ألا نُلاحظ، هنا، أن كامي يشعر بوطأة السقوط الأخلاقي للمُجتمع الأوروبي بالكامل، وهو السقوط الذي يجعله راغبا في التخلص منه؟

إن جان كلامنس من خلال حديثه/ اعترافاته للشخصية المُتخيلة يتعرى تماما أمامها، يحاول التطهر بقدر ما يستطيع؛ لشعوره بالكثير من الأدران النفسية العالقة به، إنه يرتقي إلى آفاق أكثر صفاء بالاعتراف- كعادته الدائمة في الرغبة بالارتقاء- صحيح أنه أثناء حياته التي سيحكيها كان يرغب في الارتقاء، أو العلو؛ لأنه يرى نفسه أفضل من الجميع، وأنهم مُجرد عبيد لديه، لكنه أثناء اعترافه كان يصبو إلى ارتقاء آخر مُختلف تماما عما كان يمارسه في حياته، إنها الرغبة الصادقة، هذه المرة، في التطهر من كل آثامه التي ارتكبها في حياته، وهي في جوهرها آثام المُجتمع الأوروبي بالكامل!

لذلك فهو يؤكد مُنذ البداية على تأثير المُجتمع في سلوك الآخرين، حتى لكأنه يلقي باللوم على المُجتمع بتغيير نمط السلوك عند الأفراد؛ ومن ثم يبدأون في لومه، فيما بعد، بعدما نجحوا في إفساد هذا السلوك، وهو ما نراه حينما يتحدث إلى صديقه المُتخيل عن صاحب البار واللوحة التي كانت مُعلقة على جداره: "انظر، على سبيل المثال، إلى المُستطيل الفارغ الذي يشير إلى مكان لوحة تمت إزالتها من الحائط الخلفي الذي يعلو رأسه، لقد كانت هناك فعلا لوحة مُثيرة للاهتمام، كانت تُحفة فنية حقيقية، في الواقع، كنت حاضرا هنا حينما تلقَّاها وكذا عندما تخلى عنها. وفي كلتا الحالتين قام بذلك بنفس الحذر، بعد أسابيع من التفكير. ارتكازا على هذه النقطة، يتوجب أن نُقِرَّ بأن المُجتمع قد أفسد شيئا ما البساطة الواضحة لطبيعته. اعلم جيدا أنني لا أحكم عليه، فأنا أُقَدِّرُ حذره الذي له دوافعه، بل كنتُ سأشاطر حذره عن طيب خاطر لو لم أكن ذا طبيعة تواصلية كما ترى. أنا ثرثار للأسف! وأربط علاقات بسهولة، ولو أنني أعرف كيفية الحفاظ على المسافة اللازمة، كل الفرص تبدو لي سانحة للتواصل". أي أنه يحاول الهروب من الشعور بالذنب الفردي ليكون ذنيا جماعيا في نهاية الأمر، وهو الإحساس الحقيقي الذي شعر به الأوروبي بعد انتهاء الحربين؛ فالذنب حينها لم يكن، ولا يمكن أن يكون مُجرد ذنب/ سقطة فردية بقدر ما كان ذنبا/ سقطة جماعية يتحمل مسؤوليتها المُجتمع الأوروبي بالكامل.

إذن، فهو يمهد بذكاء وروية، وفنية لما يريد أن يخوض فيه، ولأن موضوع العمل الروائي هنا يكاد أن يكون شائكا، وفكريا أكثر من كونه فنيا؛ فهو يعمل بهدوء من أجل إكسابه الجانب الفني بمحاولة خلقه للشخصيات المُختلفة كي تساعده في الحفاظ على فنية العمل في نهاية الأمر.

الكاتب الروماني أوجين يونسكو

يحرص كامي على انتقاد الجميع في روايته؛ فينتقد هولندا بقوله: "الهولنديون؟ كلا، إنهم أقل تحضرا بكثير! انظر إليهم، إنهم يملكون الوقت لكن ماذا يفعلون؟ حسنا، هؤلاء السادة الجالسون هنا، يعيشون من عَرَقِ هؤلاء السيدات. علاوة على ذلك، جميعهم، ذكورا وإناثا، كائنات تعشق البورجوازية، لذا قَدِمَتْ إلى هنا كالعادة، مدفوعة بالحماقة أو هوس الكذب، بخَيال فقير أو خصب. خلاصة القول، بين الفينة والأخرى يلهو هؤلاء السادة بِسِكّين أو بمُسدس، ولكن لا تظنَّ أنهم جادون في ذلك، كل ما في الأمر أن الدور الذي يلعبونه يتطلب ذلك، بل حتى إنهم يموتون رعبا وهم يطلقون رصاصاتهم الأخيرة"! وهو إن كان ينتقد الهولنديين فليس الأمر نابعا من تعصب أو عنصرية ما، بل هو ينتقد الجميع، صحيح أنه سينتقد هولندا مرة أخرى في قوله: "أخيرا، جلبوا لنا شراب الجن. في صحتك. أجل. الغوريلا فتح فمه ليُناديني بالدكتور. في هذه البلدان يُلَقِّبون الجميع بدَكاترة أو أساتذة، إنهم يعشقون إظهار احترامهم للغير، وهذا راجع إلى طيبتهم وتواضعهم، على الأقل هنا، الشَّرُ ليس عادةً وطنية. بالمُناسبة لستُ دكتورا إذا كان هذا يهمك، كنتُ مُحاميا قبل أن آتي إلى هنا، حاليا أنا قاضٍ تائب"! لكننا سنراه فيما بعد ينتقد الفرنسيين أيضا! هو هنا ينتقد الهولنديين باعتبارهم يمتلكون الوقت ولا يفعلون به أي شيء سوى الحياة على عرق النساء، كما يرى في تظاهرهم بالأدب المُبالغ فيه محاولة منهم للعيش على غير طبيعتهم وحقيقتهم، ومن ثم يتعدى انتقاده إلى الإنسانية كلها حينما يقول: "عرفتُ فيما مضى قلبا طاهرا كان يرفض أخذ حذره. لقد كان مُحبا للسلام ومُناصرا للحرية، وكان يحب، على قدر سواء، الإنسانية جمعاء وكذا الحيوانات. كان من صفوة الأشخاص، نعم، هذا مُؤكد. حسنا، خلال الحروب الدينية الأخيرة في أوروبا انعزل في الريف. كان قد كتب على عتبة منزله: من حيث ما أتيتم، ادخلوا على الرحب والسعة. من في نظرك استجاب لهذه الدعوة الخَيِّرَةِ؟ مُرتزقة اقتحموا منزله وبَقَرُوا بطنه"!

ألا نُلاحظ هنا مدى الثقل الأخلاقي الذي يشعر به الراوي/ كامي، فضلا عن السُخرية من كل شيء؟ إنه يسخر من الجميع- وهو ما يميز الاتجاه العدمي أو العبثي فنيا- لكنها سُخرية مريرة تعمل على التعرية من خلال الإيغال في القسوة اللامتناهية. هذا الشعور بالمرارة يدفعه- بالضرورة- إلى انتقاد المثقفين باعتبارهم الضمير الجمعي للمُجتمعات، وإذا ما كان المثقف فاسدا، فهو دليل على انهيار المُجتمع بالكامل؛ لأنه في جوهر الأمر يمثل القاطرة التي تقود هذا المُجتمع: "عندما كنت أعيش في فرنسا، لم أكن أستطيع أن أُفَوِّتَ فرصة مُصادقة أي رجل مُثقف أصادفه. آه، أعترف بضعفي أمام الكلام المُنَمَّقِ للمُثقفين عموما، وهو ضعف ألوم نفسي عليه. صدقني أعلم جيدا أن الأسلوب الناعم كثيرا ما يتماهى مع قماش حريري يخفي طفحا جلديا. أُعَزِّي نفسي بقَولي إنه في النهاية حتى أولئك الذين يتلعثمون في حديثهم ليسوا بأنقياء بدورهم. أجل، لنطلب المزيد من شراب الجن"، فكامي هنا باعتباره من المُثقفين الفرنسيين إنما يعريهم بقسوة، ويؤكد أنهم يتحدثون كلاما مُنمقا وإن كان غير صادق في حقيقة الأمر، فضلا عن انتقاده للفرنسيين أنفسهم، أي أن كل شيء من حوله قد بات شائها، كابوسيا، مُدمرا أخلاقيا للجميع، وهي أزمة الضمير الأوروبي التي وقعت فيها أوروبا بعد الحربين.

كل هذه الانهيارات الأخلاقية التي يراها من حوله، والتي تدفعه دفعا إلى تعريتها وانتقادها تقوده بدورها إلى التعري الذاتي أمام شخصيته المُتخيلة/ القارئ/ نفسه؛ بسبب شعوره الشديد بالذنب، وهو الذنب الذي اقترفه المُجتمع بالكامل قبل أن يقوم هو بدوره باقتراف العديد من السقطات المثيلة؛ فهو يحكي مثلا عن الرجل الذي خان زوجته، ثم قتلها لمُجرد شعوره بالذنب باعتبار أن قتله لها سيخلصه من هذا الشعور: "عرفت فيما مضى رجل صناعة، كانت لديه زوجة مثالية تحظى بإعجاب الجميع، ورغم ذلك كان يخونها، كانت قناعة هذا الرجل بأنه مُخطئ تجعله يستشيط غضبا، لأنه يستحيل أن يحصل على شهادة الفضيلة، وكان الغضب يجتاحه أكثر كلما أظهرت زوجته مثاليتها. في النهاية صار خطأه بالنسبة إليه كَحِمْلٍ سيزيفي. ماذا تعتقد أنه فعل إذن؟ توقف عن خيانتها؟ لا، لقد قتلها، وهكذا تعرفت عليه"!

الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت

إن الشعور بوطأة السقوط الأخلاقي لدى الرجل لم يجعله يتوقف عن سقوطه، بل أوغل فيه؛ لأنه لا يستطيع تخيل الآخرين أفضل منه أخلاقيا، أو أكثر مثالية، فمثالية الزوجة- موضوع الخيانة- تؤدي به إلى المزيد من وخز الضمير، والأكثر من الاحتقار لذاته؛ لذلك قام بالتخلص منها تماما؛ لأن تخلصه منها سيجعل ضميره في حالة سكون كامل ومن ثم سيحيا حياته كما يحلو له من دون الشعور بهذا الذنب!

إن هذه النماذج الاجتماعية التي يحرص كامي على الحديث عنها لصديقه/ نفسه كنماذج حياتية قابلها في رحلة حياته إنما تُشكل في مُجملها لوحة فنية فسيفسائية كبيرة ومُكتملة لشكل المُجتمع الأوروبي في هذه الفترة من تاريخه، لكنها رغم فنيتها لوحة شديدة التشوه لا بد من إعادة تشكيلها مرة أخرى بسبب عبثيتها؛ لذلك فهو لا يخجل من الحديث عن تشوهه النفسي أيضا باعتباره جزءا من هذا المُجتمع الشديد التشوه! فرغم أنه يفضي ذات مرة لصديقه بقوله: "إلى الغد إذن سيدي وابن بلدي العزيز. لا، ستجد الآن طريقك لوحدك. سأتركك قرب هذا الجسر، لا أعبر أبدا أي جسر ليلا، وهذا راجع إلى عهد قطعته على نفسي أمام الله. افترض مثلا أن أحدهم سيقفز في الماء، ثمة احتمالان: إما أن ترتمي بدورك في الماء لتحاول إنقاذه، إلا أنك ستُخاطر كثيرا عندما يكون الطقس باردا وقد تلقى مصيرا سيئا! أو ستتخلى عنه وتتركه يُجَابِهُ قَدَرَهُ، وهذا سيتسبب لك في ألم روحي رهيب"، إلا أنه مع هذا الاعتراف الذي يحاول التجمل فيه، سنعرف لاحقا أنه قد شاهد إحدى الفتيات التي تستعد لإلقاء نفسها من فوق أحد الجسور، ورغم ذلك لم يسرع لنجدتها، بل تخطاها تاركا إياها لتلقى مصيرها المُرعب بالغرق!

 إنه التشوه الذي كان يشعره طوال الوقت بأفضليته على الآخرين- رغم أنه لم يكن كذلك- لذلك يقول:" كان المكان الذي أتنفس فيه بشكل أفضل هو شرفة مُطلة على منظر طبيعي، على ارتفاع خمسمئة أو ستمئة متر عن سطح البحر، بحر غارق في ضياء الشمس، كنت أتنفس بشكل أفضل كما قلت خصوصا إذا كنت وحيدا، وأنا أطل من الأعلى على البشر الذين يبدون لي من عَلٍ كالنمل. وكنت إذ ذاك أستوعب بلا عناء لماذا في الأزمنة البعيدة كانت تُقام الطقوس والمواعظ المصيرية وقرابين النار في الأعالي، فبالنسبة إليّ، التأملات غير مُمكنة في الأقبية أو الزنزانات (باستثناء لو كانت تتواجد في برج مع إطلالة شاسعة)، في الواقع كان المرء يتعفن بداخلها، وكنت أتفهم ذاك الرجل الذي كان يدخل إلى الدير ليخدم الرب، ليتخلى بعدها عن مكانته المُقدسة لأن محرابه، عوض أن ينفتح على منظر طبيعي هائل كما كان يتوقع، كان يطل على جدار. كن مُتأكدا أنه فيما يخصني لم أكن مُعرضا للتعفن، لأنني كنت على مدار الساعة أتسلق الأعالي سواء داخليا أو وسط أقراني، كنت أوقد نيرانا قدسية؛ فيعلو السلام الروحي المُبهج في قلبي، وهكذا كنت أستمتع على الأقل بالحياة وبتفوقي الخاص"، هذا الشعور بالأفضلية/ النرجسية هو ما نلمحه غير مرة بشكل مرضي؛ لذلك يقول: "كانت مهنتي تُرضي، لحسن الحظ، نزعتي السامية، كونها كانت تُجردني من كل مرارة أستشعرها تجاه من أعرفهم، والذين كنت أنعم عليهم دوما بعطاياي دون أن أكون مدينا لهم بشيء، كانت تضعني في مرتبة أعلى من القاضي الذي كنت أحاكمه بدوري، وكذا من المُتهم الذي كنت أجعله مُجبرا على الامتنان لي. تأمل هذا جيدا سيدي العزيز: لقد كنتُ مُحصنا من العقاب، لم يكن هناك أي حُكم يعنيني، لم أكن متواجدا في مسرح المحكمة ولكن في مكان ما في الأعالي، تماما كالآلهة التي، من حين إلى آخر، تهبط إلى الأرض لتحول مجرى الأحداث وتمنحها معنى. في النهاية الحياة في القمة تظل الطريقة الوحيدة ليراك ويحييك أكبر عدد مُمكن من الأحياء"، إنه الشعور بجنون العظمة الذي يقربه من مرتبة الآلهة، وبأفضليته على الجميع رغم أنه ليس بأفضل منهم في أي شيء.

هذا الشعور بأفضليته يجعله يتباهى- ككل الأوروبيين- بأدبه المُبالغ فيه، والذي هو في الحقيقة مُجرد تظاهر فنراه يقول: "لنتحدث، بالأحرى، عن التهذيب الذي أتمتع به، كنت مشهورا بتهذيب لا يختلف عليه اثنان، كوني مُؤدبا كان يشعرني في الواقع بفرح عارم، ولو حالفني الحظ في بعض الصباحات، لأتخلى عن مقعدي في الحافلة أو مترو الأنفاق لشخص يستحقه أكثر مني، أو لألتقط شيئا أسقطته سيدة مُسنة كي أعيده إليها، وأنا أرسم على وجهي ابتسامة وضّاءة، أو ببساطة، أن أتنازل عن سيارة الأجرة التي أوقفتها لصالح شخص على عجلة من أمره أكثر مني، حينها كان يومي يصير أكثر إشراقا! يلزمني القول إنني كنت أنتشي أيضا في الأيام التي كان النقل العمومي يخوض إضرابا فيها، إذ كنت أجد الفرصة لأقِلَّ في سيارتي بعضا من إخوتي المواطنين التعساء، الذين تعذرت عليهم العودة إلى منازلهم. أما ترك مكاني في المسرح لأسمح لحبيبين بأن يجلسا بالقرب من بعضهما، أو مُساعدة فتاة على وضع حقائبها في المكان العالي المُخصص للأمتعة بالقطار، كانت بمثابة إنجازات أقوم بها أكثر من الآخرين، لأنني كنت أهتم وألاحظ جيدا فرص إسدائي للخدمات، وكنت أستقي منها مُتعا أتذوقها بلذة خاصة"!

الكاتب الإيطالي لويجي بيراندللو

ألا تدل كل هذه الأقاويل، والأحداث التي يخبرنا بها على مرض نفسي يتمتع به الأوروبي ولا يمكن له الخلاص منه، إن كامي يصر على إدانة الجميع من خلال سلوكياتهم التي قد تبدو في ظاهرها بريئة ومحمودة، وإن كانت في حقيقتها مشينة لا تدل إلا على نفسية مشوهة للمُجتمع الأوروبي وما آل إليه؛ لذلك فهو يتأمل كثيرا في التناقضات التي رآها أثناء رحلة حياته ساخرا منها، موغلا في جلد الذات/ المُجتمع حينما يكتب: "عرفت رجلا منح عشرين عاما من حياته لامرأة رعناء، بل ضحى بكل شيء من أجلها، صداقاته، عمله، وحتى حياته اللائقة، وذات مساء اعترف بأنه لم يحببها أبدا، كان يشعر بالضجر، هذا كل ما في الأمر، تماما كمُعظم الناس، ولهذا صنع حياة ملأى بالتعقيدات والمآسي. لا بد من أن يحدث شيء ما، ولو في حالات الخضوع بلا حُب، ولو في الحرب أو الموت، لتحيا إذن الجنائز!"، هذه التناقضات البشرية هي ما تجعله يعترف بسيكولوجيته التي تميل إلى استعباد الآخرين- لعل الأمر كان واضحا من خلال ما يمارسه ويدعيه من رغبة في مُساعدة الآخرين رغم عدم صدق ذلك- والتحكم فيهم: "أعلم جيدا أنه لا يمكننا التخلي عن السيادة أو خدمة الآخرين لنا، كل إنسان يحتاج إلى العبيد حاجته إلى الهواء النقي، أن تعطي الأوامر هو بمثابة أن تتنفس، هل تُشاطرني الرأي؟ حتى أشد الأشخاص بؤسا بوسعهم التنفس، إذ أن آخر رجل في السُّلَّمِ الاجتماعي لا يزال يملك شريكة حياته أو طفله، وإذا كان عازبا فإن لديه كلبه. الأهم باختصار هو أن نتمكن من إطلاق العنان لغضبنا دون أن يملك الآخر حق الرد علينا، هل تعرف العبارة القائلة: "ليس بوسع الإنسان أن يَرُدَّ على والده؟" إنها ذات معنى فريد من ناحية، فعلى من سنرد في هذا العالم إذا لم نفعل مع من نحبهم؟ من ناحية أخرى إنها مُقنعة، لأنه ينبغي أن تكون الكلمة الأخيرة مِلكا لأحدهم، وإلا سيتم الاعتراض على أي سبب بسببٍ آخر، ولن ننتهي أبدا. على العكس السُلطة تحسم في كل المسائل، لقد تأخرنا كثيرا لكننا استوعبنا هذا، على سبيل المثال، لا بد من أنك لاحظت أن قارتنا العجوز صارت تتفلسف أخيرا على نحو جيد، ولم نعد نقول كما في الأزمنة الساذجة: "أنا أفكر هكذا، ما هي اعتراضاتك؟"، لقد صرنا واعين وعَوَّضْنا المُحادثات بالبلاغات، وأصبحنا نقول: "هذه هي الحقيقة، بإمكانكم مُناقشتها الآن كما تشاؤون، هذا لا يهمنا، ولكن بعد سنوات ستكون الشرطة هي من ستوضح لكم أننا على حق".

ربما نُلاحظ في هذا الاقتباس الوضوح والمُباشرة التامة في إدانة القارة العجوز بالكامل بذكرها في النص بشكل مُحدد، إنه يتهمها بالتفلسف رغم ميلها الحقيقي إلى استعباد الآخرين، لكنها تعمل على تجميله في نهاية الأمر؛ لذلك سيمتلك من الشجاعة ما يجعله يطرح المفهوم الديني للحرية كيفما يراه هو باعتباره شكل من أشكال العبودية: "لقد تعلمت على جسور باريس أنني بدوري أخشى الحرية، فليحيا إذن السيد كائنا من كان، ليحل محل قانون السماء، فلنصل للسيد: "أبانا المُؤقت هنا.. يا مُرشدنا، يا قائدنا الصارم القاسي والمحبوب.."، أخيرا، جوهر الأمر هو ألا تكون حرا وأن تكون مُطيعا لأحقر شخص على الإطلاق، وعندما سنصبح جميعا مُذنبين سننعم بالديمقراطية، دون أن نحتسب، يا صديقي العزيز، أنه علينا أن ننتقم من اضطرارنا للموت وحيدين، إن الموت فردي في حين أن العبودية جماعية، والأهم أنها تجمعنا مع الآخرين في نفس الوقت، ولكن ونحن نجثو على ركبنا ونحني رؤوسنا"!

إن هذا المفهوم لعبودية الدين، يجعله يتنبأ بعبودية البشرية بالكامل في المُستقبل، ولعله كان صادقا فيما ذهب إليه؛ فالبشرية بالفعل قد باتت، حاليا، في فترة من أسوأ فترات العبودية، لا سيما العبودية للتكنولوجيا التي سيطرت على حياتنا بالكامل، ولم نعد نستطيع التخلي عنها لمُجرد دقائق. صحيح أنه لم يتنبأ بعبوديتنا للتكنولوجيا التي نعيش في كنفها الآن، لكنه تنبأ بعبودية البشرية بشكل عام حينما كتب: "لكنني لست بمجنون، وأنا أعي جيدا أن العبودية لن تتحقق غدا مُباشرة، بل ستكون إحدى مزايا المُستقبل، وفي انتظار ذلك عليّ أن أبحث عن حل لحاضري ولو كان مُؤقتا، ولهذا توجب عليّ أن أعثر على وسيلة أخرى ليشمل الحُكم الجميع عساني أخففه عن عاتقي، لقد عثرت على هذه الوسيلة"!

إن ألبير كامي الذي يصرّح بأنه يعشق استعباد الآخرين- تماما كغيره من الأوروبيين من خلال ما أثبته التاريخ- بل ويصفها بمُفردة "مزايا المُستقبل" في الاقتباس السابق، إنما يعترف بمثل هذا الاعتراف على سبيل السُخرية والتطهر من الأدران العالقة بالقارة الأوروبية بعد الحربين، بل هو يؤكد أن عشقه للاستبعاد لم يكن مُجرد استعباد للآخرين بالمفهوم الذي نعرفه على مرّ التاريخ فقط، بل تعداه إلى شعوره بالمُتعة في إخضاعه للنساء كشكل من أشكال الاستعباد باسم المشاعر- سواء العاطفية منها أو الجنسية- وهو ما يصرح به في: "أعترف بأنه لم يكن بوسعي العيش إلا بشرط أن تكون كل النساء، أو أكبر عدد مُمكن منهن يَدُرْنَ في فلكي، مُتاحات دوما، محرومات من حياة مُستقلة، ومُستعدات للاستجابة لندائي في أي وقت، محكومات بالعقم إلى أن يأتي اليوم الذي أتفضل فيه عليهن وأعززهن بضيائي. باختصار لأحيا سعيدا كان يتحتم على النساء اللواتي كنت أختارهن ألا يعشن مُطلقا، وألا يعرفن الحياة سوى من بعيد لبعيد، عبر مشيئتي ومُتعتي"!

إنها شخصية شديدة التشوه، شخصية تُمثل أوروبا التي يرغب الروائي في تعريتها بقسوة مُتناهية؛ لذلك فهو يشعر بالهوس بذاته المريضة، وهو أمر طبيعي مع شخصية تعاني من كل هذه الأمراض السيكولوجية، أي أنه لا بد له من الشعور بالتميز الذي نراه في: "كنت أموت من فرط رغبتي في أن أكون خالدا، كنت أحبني إلى درجة أنني كنت أرغب في ألا تختفي ذاتي الغالية أبدا، مثلما في حالة الصحوة، وحتى لو لم نكن نملك سوى القليل من المعرفة الذاتية، لا نعثر على أسباب واضحة لمَنح الخلود لقِرد شهواني، لذا يتحتم علينا أن نعثر على بدائل لهذا الخلود، وبما أنني كنت أرغب في الحياة الأبدية، فإنني كنت أضاجع العاهرات وأحتسي الشراب لِلَيَالٍ، وفي الصباحات بالتأكيد كنت أحس في فمي بالطعم المُرِّ لحالة الفَناء، ولكنني قبل ذلك ولساعات طويلة حَلَّقْتُ في سماء النشوة، بسعادة. هل سأجرؤ على الاعتراف لك بذلك؟ لا زلت أذكر بحنين بعض الليالي التي كنت أذهب فيها إلى ملهى ليلي قذر، لألتقي براقصة كانت تُغْدِقُ علي نِعَمَ جسدها، والتي تعاركتُ ذات ليلة مع مُلْتَحٍ مغرور لأدافع عن مجد الحصول عليها، كنت أختال كل ليلة في الملهى تحت الأضواء الحمراء والغبار الذي يغطي مكان الملذات هذا، وأنا أكذب كطبيب أسنان مُدَّعٍ، وأشرب بلا توقف، كنت أنتظر الفجر لأسقط أخيرا في السرير غير المُرتب دوما لأميرتي التي كانت تستسلم بآلية للمُتعة، ثم تنام مُباشرة، وكان النهار يأتي بنعومة ليضيء هذه الفوضى، فكنت أنهض مُسَرْبَلاً بالمجد"!

إن الرغبة العارمة في جلد الذات، وإعادة تصحيح المفاهيم التي سقطت فيها أوروبا بعد الحربين تبدو لنا أكثر وضوحا في انتقاده للديانات بالكامل، ولعلنا نعرف أن أوروبا قد سادتها موجة من رفض الديانات، وهي موجة إلحادية بعد الحربين العالميتين، إلحاد بكل شيء، وليس بالدين فقط، بل كانت في حقيقتها إلحاد بالإنسان ذاته، وعدم الإيمان بإنسانيته التي تمت تعريتها فبدت لنا شائهة لا يمكن الركون أو الاطمئنان إليها. يقول كامي: "صدقني، الديانات تخطئ ما إن تشرع في الوعظ الأخلاقي وإطلاق الوصايا، ليس من الضروري وجود الرب لابتكار الذنب ولا العقاب، فوجود أشباهنا كافٍ. لقد تحدثتَ عن يوم الحساب، اسمح لي بأن أضحك مع احترامي لك، أنا أنتظره بثبات: لأنني عرفت ما هو أسوأ منه ألا وهو حكم البشر، فبالنسبة إليهم لا وجود لظروف التخفيف، وحتى النية الحسنة ترتبط بالجريمة. هل سمعتَ على الأقل بزنزانة البُصاق التي اخترعها مؤخرا أحد الشعوب ليثبت أنه أعظم شعب على الأرض؟ إنها عبارة عن صندوق إسمنتي يقف فيه السجين دون أن يتمكن من الحركة، والباب المتين الذي يحجزه في قوقعته الإسمنتية يصل إلى مستوى ذقنه، ولهذا لا نلمح سوى وجهه الذي يقوم كل حارس يمر بالقرب منه بإغراقه بالبصاق، أما السجين العالق في زنزانته فليس بإمكانه أن يمسح وجهه ولكنهم يسمحون له بأن يغمض عينيه. هذا يا عزيزي اختراعُ بشري محض، ومن أجل إنجاز هذه التحفة لم يَحْتَجْ هؤلاء المُخترعون إلى الرب"، أي أن الإنسان، هنا، أكثر قسوة وإتقانا في التعذيب من الرب الذي يرى كامي أنه لا داعٍ لوجوده ما دام الإنسان قادرا على تمثله وأخذ دوره للقيام به!

الكاتب البريطاني هارولد بنتر

رغم محاولة ألبير كامي وإصراره على فضح الضمير الأوروبي بعد الحربين، ورغم أنه يُحاكم ذاته وأوروبا بالكامل من خلال هذه الرواية ليوضح لنا السقوط الأخلاقي الكامل الذي انغمست فيه القارة العجوز وأوغلت كثيرا، إلا أنه- من دون قصد- يحاول التماس العذر لنفسه، وللآخرين في ارتكاب مثل هذه الجرائم والسقطات الأخلاقية التي لا يمكن اغتفارها؛ لذلك يقول: "بعض المُجرمين الطيبين الذين ترافعت عنهم كانوا قد امتثلوا لذات الشعور وهم يرتكبون جرائمهم. أعتقد أن قراءة الصُحف في الوضع المُحزن الذي يتواجدون فيه كانت تمنحهم بلا شك نوعا من التعويض البائس، حيث إنهم مثل العديد من الناس، لم يعودوا يتحملون أن يظلوا نكرات، ونفاد صبرهم قادهم إلى حد كبير إلى عواقب مُؤسفة، في الحقيقة كي يصبح المرء مشهورا يكفي أن يقتل حارسة عمارته. لسوء الحظ يتعلق الأمر بشهرة مُؤقتة طالما أن هناك العديد من حراس العقارات الذين يستحقون الطعنات ويتلقونها"، أي أنه يعمل على تفسير دوافع الجريمة الأوروبية نفسيا كشكل من أشكال الدفاع الواهية، أو كمحاولة منه لرحمة ذاته التي يجلدها، ولكن، هل كانت الشهرة وحُب الظهور كافيين كمُبررين لكل هذه الجرائم التي أسقطت القارة الأوروبية في سوءتها الأخلاقية؟!

تأتي رواية "السقطة" للروائي الفرنسي ألبير كامي باعتبارها من الروايات المُهمة التي حرص مُؤلفها على مُحاكمة الرجل الأوروبي على جرائمه الأخلاقية التي سقط فيها- خلال- وبعد الحربين العالميتين، كما تُعبر بشكل صادق عن مدى انهيار النفسية الأوروبية بسبب ما حدث؛ الأمر الذي أحدث شرخا عميقا داخلها، وهي من الأعمال التي تنقل لنا الفكر الثقافي لأوروبا الخربة بعد الحربين، الشاعرة بتأنيب الضمير، وما أصاب الناس هناك من شعور بالخزي جعلهم يشعرون بالكثير من الذنب الذي لا بد لهم من التطهر منه بالاعتراف بكل ما اقترفوه؛ كي يعملوا على إعادة بناء مُجتمعاتهم مرة أخرى بعد هذا التطهر، ولعله لا يمكن لنا إنكار وصول هذا المفهوم للقارئ بشكل واضح من خلال الترجمة التي قامت  بها المُترجمة المغربية سلمى الغزاوي؛ فهي- فضلا عن اهتمامها البيّن باللغة العربية وأسلوبيتها في الترجمة لا سيما انتقاء المُفردات بدقة مُعبرة بحيث لا يمكن استبدال مُفردة مكان الأخرى- نجحت في نقل العمل من الفرنسية إلى العربية بطريقة جعلتنا نظن بأننا نقرأ الرواية في لغتها الأصلية، حتى لكأن ألبير كامي قد كتبها بالعربية في الأصل، وهو ما يُدلل على مقدرة المُترجم على نقل نص أجبني بشكل أمين من خلال فهم وإتقان ووعي باللغتين اللتين يتعامل بهما، أو تشويه النص بالكامل مما يفقده جوهره وحميميته الفنية إذا لم يكن مُتقنا لهاتين اللغتين.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

9 نوفمبر 2021م.

هناك تعليق واحد: