الاثنين، 24 أكتوبر 2022

مدن بلا نخيل: رجل في متاهة تحركه الصُدف!

هل ثمة حياة من الممكن لها أن تنبني على المصادفات البحتة، بمعنى أن صيرورة هذه الحياة بالكامل لا يمكن لها أن تسير في مسارها الطبيعي من دون المصادفة؟ وهل من الممكن أن ينبني العمل الإبداعي بالكامل على المُصادفات المُتكررة والملفقة التي لو انتفى وجودها؛ انتفت إمكانية استمرارية الأحداث السردية، ومن ثم يتوقف السرد الروائي ولا يمكن للعمل أن يكتمل من دونها؟

ربما كانت هناك العديد من الأسئلة المُختلفة- غير السابق ذكرها- التي لا بد لها أن تدور في ذهن من يقرأ رواية "مدن بلا نخيل" للروائي السوداني طارق الطيب منها أيضا: هل يصح- إبداعيا- أن يرسم الكاتب العمل الروائي بالكامل في ذهنه، بمعنى أنه يراه رؤية كلية متكاملة بشكل عام، لكنه لا يمكن له أن يكتب هذه الرؤية الكلية- كيفما رسمها- إلا من خلال تفاصيل يعمل من خلالها على ليّ عنق منطقية الأشياء؛ كي يصل إلى ما يريده؟

يتناول الطيب في روايته رحلة سريعة- شديدة الفقر والبؤس- لحياة حمزة، السوداني، منذ نشأته في قريته المنسية في السودان- ودّ النار- مرورا باتجاهه إلى العاصمة في الشمال، ثم مروره إلى مصر، ومنها إلى أوروبا مرورا بإيطاليا، وفرنسا، وهولندا، ثم عودته مرة أخرى إلى مسقط رأسه؛ ليجد شقيقتيه الصغيرتين وأمه قد رحلن بسبب الأمراض والفقر الشديد اللذين لم يجعلهن قادرات على الصمود من أجل عودته.

منذ السطر السردي الأول يضعنا طارق الطيب في قلب عالمه البائس الفقير وما يدور فيه من هوان لا ينتهي؛ فيكتب: "جالسا على حجر أمام باب دارنا المبنية من الطين، ماسكا في يدي عودا يابسا، إلى طرف منه تسري أفكار كثيرة متزاحمة، وفي طرفه الآخر تعبث يدي بخطوط وحروف غريبة؛ فأرسم على الأرض حروفا وأشكالا ربما تعني ما لا أعني؛ فأنا غارق في أفكاري الحزينة. أضغط بالعود اليابس على الأرض المتشققة الجدباء في غل وغضب، وثورة عنيفة في داخلي تستقر مرارتها في حلقي؛ فأبصق على الأرض لاعنا هذا الفقر وهذا الجدب الذي حلّ بنا بلا رحمة"، محاولا تصوير الهوان الذي يعيش فيه الراوي- حمزة- وما يعاني منه من تشتت وفراغ وقلة حيلة تجعله شاردا فيما آل إليه حال قريته وأسرته التي لا تجد قوت يومها، لا سيما وأنه مسؤول عن شقيقتيه الصغيرتين وأمه بعدما هجرهم أبوهم واختفى تماما من الحياة ولم يعد إليهم مرة أخرى، بل وانقطعت أخباره عنهم.

هذا الفقر البائس يحرص الروائي على إبرازه من خلال سرده؛ لا سيما أن الرواية تنبني وتنشأ بسببه؛ ومن ثم كان لا بد له من الإغراق في توصيفه: "فجأة زحف إلينا هذا الحيوان الكريه، امتص كل ما هو أخضر، وحوله إلى لون واحد، لون العدم يحمل معه فناء وموتا، حتى السحابات التي كانت تحبو على قريتنا تقيها القيظ أحيانا، أو تغمرها مطرا أحيانا أخرى، امتنعت عن زيارتنا، وإن برزت مرة فهي بعيدة، لا تقي من القيظ، بقدر ما تملأ النفوس بالغيظ؛ لفرارها السريع وشحها القاسي"، أي أن الروائي هنا كان بارعا في إدخال القارئ إلى عالمه الروائي للوهلة الأولى؛ كي يندمج معه في بؤس القرية وفقرها، وما أصابها من دمار بسبب الجفاف الذي حل بها، هذا البؤس نراه غير مرة في بداية الرواية؛ مما يُدلل على اهتمام الروائي بتصوير العالم الذي ستنطلق منه الأحداث الروائية؛ فيقول: "الآن حين أتذكر أختيّ، إحداهما تبلغ من العمر ست سنوات، والأخرى أربعا، الصغرى تعاني من آلام في بطنها، ولا تختلف عن جيل القرية الجديد في نحول جسمها، والكبرى تعاني دائما من رمد في عينيها، تذهب بها أمي كل حين إلى الشيخة سلمى؛ لتضع لها شيئا في عينيها، أمي هي الأخرى مُصابة دائما بهزال من قسوة حياتها، ومن كثرة ما أسقطت من أجنة بيني وبين أختي الأصغر مني. كلما أتذكر هذه الحياة وهذه المعاناة مع المرض والفقر؛ أشعر بحسرة وألم ومرارة؛ فواقعنا الآن ينسف كل ذكريات حلوة وجميلة، يجبرنا أن نعيش كخنافس الأرض، نسير عليها ببطء حتى نلقى أقدارنا".

هذا البؤس يعمل الروائي على الإمعان فيه حتى أنه يصف حال أطفال القرية قائلا: "أطفال قريتنا مساكين ضعفاء، ليس لديهم أي وسيلة من وسائل الترفيه أو اللعب، وليست لديهم مدارس المدن التي أسمع عنها، بل إن معظمهم عراة يلهون كما ولدتهم أمهاتهم. إنهم جيل جديد، جيل معجون بألم الفقر والمجاعة، يردمهم التراب يوما بعد يوم، وتفيض فيهم الأمراض كل ساعة، ويزحف الموت إلى نفوسهم المسكينة كزحف الحية إلى طائر جريح فقد القدرة على الحركة، بعد أن فقد قدرته على الطيران، لقد تحولت قريتنا التي كنت أفتخر بها صغيرا وأسعد بذكرياتي بين خضارها ونخيلها إلى مقبرة كبيرة تبتلع ضحاياها وتعْلكهم بتؤدة يوما بعد يوم". إن رغبة الروائي منذ البداية في الإمعان في وصف ما آل إليه حال القرية كان من الأهمية بمكان ما يبرر فيما بعد الرغبة القاهرة من قِبل حمزة من أجل الهجرة وترك قريته؛ ليستطيع إعالة أمه وأختيه، ومحاولة إنقاذهم من خطر الموت الذي يحيق بالجميع في هذه القرية التي أصابها خطر المجاعة والفقر والشظف والبؤس المُصاحب للعديد من الأمراض الخطيرة، وهي الأمراض التي ستؤدي إلى موت أسرته فيما بعد، كما أن هذه المقدمة الوصفية لحال القرية تنبع أهميتها الروائية من أن الرحلة بالكامل لا يمكن لها أن تكون من دون الإمعان في وصف الخطر المحدق بالجميع ومنها أسرة الراوي؛ فلولا إحساسه بالعجز والحاجة والخطر لما كان هناك أي رحلة ولما كان هناك أي داع للسرد الروائي.

إذن، فنحن أمام روائي يعرف ما يريده؛ ومن ثم حاول التمهيد الجيد لروايته من خلال هذا الوصف في شكل سريع وموجز منذ البداية، وإن كان قد ساعد ذلك على إدخال القارئ إلى قلب عالمه السردي مباشرة؛ ليكون متفاعلا مع ما يسرده الروائي، ولعلنا نلمح هذه المقدرة على التوصيف حينما يقول: "تأتي إليه أمه لترضعه من ثدي أشبه بكيس نقود أمي الخالي. أنظر إلى الطفل فلا أرى في وجهه إلا عينين كبيرتين تنتظران، إحدى يديه تتعلق بثدي أمه والأخرى بضفائرها، والذباب يحتفل حول عينيه، وحول بثوره وإصابات هيكله المتداعي، ثم ينتقل ليشاركه لبن أمه، فإن لم يجد، فإنه يعود ليهاجم جسده النحيل، ليقع على كل جرح في جسده، فإن لم يكن لبنا فليكن دما. إن الذباب مُصرّ على البقاء حتى ولو ماتت القرية جميعها، فإنه يمتص دماء الأطفال نهارا، إلى أن يأتي البعوض ليلا ويأخذ حصته. حصة البقاء من الدماء".

إن حرص المؤلف على هذه الحالة الوصفية المهمة منذ بداية سرده تجعله يسوق، من خلال هذا السرد، العديد من العادات الاجتماعية التي يتميز بها معظم الشعوب العربية ويشتركون فيها؛ ليتبين لنا مدى البؤس الفكري الذي نعيش فيه، وهو البؤس الذي يتضافر مع بؤس الحالة الاقتصادية، وظروف الطبيعة المحيطة ليحيل الحياة بالكامل إلى شكل مُدمر للجميع لا يمكن التكيف معه بأي شكل من الأشكال: "أريد أن أبكي ولا أستطيع، أجاهد حتى تسقط قطرة دمع واحدة من عيني؛ فتأبى السقوط، كأني أنا أيضا أصبحت جافا خاويا تماما مثل قريتنا. ألعن أبي مرة أخرى؛ فقد علمني قبل أن يتركنا أن البكاء للنساء فقط، وعلى الرجل ألا يبكي مهما حدث له. لعنة الله عليك أيها الحكيم الجبان! كان من الأولى أن تحتكم بهذه الحِكم لنفسك"، أي أن محاولات أهل المشرق الدائمة في تعليم أولادهم الرجولة والجلد، هي مجرد محاولات لإفقادهم إنسانيتهم، وقتل الشعور الإنساني الطبيعي فيهم؛ وبالتالي يصبحون غير قادرين على الحياة الطبيعية والتفاعل مع ما يدور من حولهم، باعتبار أن البكاء من صفات المرأة فقط، ولا يليق بالرجل أن يفعل ذلك، رغم أنها صفة إنسانية يشترك فيها البشر جميعا.

هذه العادات غير الطبيعية نراها مرة أخرى حينما تتحدث حياة- زوجة الكيال- عن نفسها وحياتها البائسة مثل حياته؛ فتقول لحمزة: "كان أبي يريد تزويجي لأول طارق لباب الزواج؛ فله من البنات سبع تزوجت منهن اثنتان، وكنت الثالثة، أراد أن يخفف حمله؛ فزوجني إياه بأسرع ما استطاع، وزوج بعدي ثلاث أخوات لي في عامين، وما زال يحمل لليوم هم الأخيرة، ومعظم زيجاتنا لم يكن موفقا تماما بسبب العجلة الشديدة، فالبنات همّ والخلاص منهن تزويجهن، كان هذا دستور أبي ونظريته، وكأننا قفزنا للحياة من أرحام أمهاتنا بمحض إرادتنا وأثقلنا ظهره بما لا يد له فيه"، هنا، ومن خلال حديث حياة تتضح لنا المعتقدات العربية ونظرتها تجاه النساء، وهي نظرة تشترك فيها معظم الدول العربية التي ترى أن البنات مجرد شيء لا بد من التخلص منه في أقرب فرصه؛ خشية العار، أو إثقال كاهل الأسرة بالمزيد من النفقات الاقتصادية التي لا يستطيعها الكثيرون.


هكذا يبدأ الطيب عالمه الروائي المنطلق من الفقر والجوع والمرض والبؤس والحاجة والحرمان؛ ومن ثم تكون رغبة حمزة في هجرة قريته إلى عالم أوسع من أجل محاولة إعالة أسرته وإنقاذهم مما هم فيه منطقية وطبيعية؛ فيسافر حمزة إلى المدينة التي لم يرها مرة واحدة في حياته، وهناك لا يعرف ماذا سيفعل وكيف سيلتحق بعمل يسد جوعه وجوع أسرته: "يا ألله! ماذا سأفعل في هذه المدينة الكبيرة. أشعر بالضياع. أشعر أني في بحر كبير ليست له نهاية، وعلى الكل أن يسبح، وعليّ أيضا أن أسبح معهم وإلا فسأهبط إلى القاع. أفكر في أن أعرض نفسي على بعض المحال والدكاكين التي رأيتها، ربما يمكنني العمل في أي منها. أعود في طريقي الذي جئت منه، وأعرض نفسي كالسلعة على كل أصحاب المحال والدكاكين، منهم من ينظر إلى كأنه لا يسمع شيئا، ومنهم من يشيح عني بوجهه، أو يشير إليّ بيده كي أبتعد، ومنهم من يرد بلطف ويعتذر لعدم توفر أي عمل لي. أسأل نفسي: أين أشتغل إذن؟ يجب أن أجد أي عمل وبأي شكل وإلا فسأموت ويموت من تركتهن هناك في القرية".

إن حرص طارق الطيب على وصف معاناة حمزة في العثور على عمل وفشله في ذلك كان من الأهمية التي ستبرر لنا فيما بعد سلوكه وقبوله للسرقة؛ لا سيما أنه لم يترك قريته إلا من أجل إنقاذ أسرته التي هي على وشك الموت بسبب الجوع؛ لذلك حينما يلتقي، مصادفة، "بالخطّاف" الذي يتجاذب معه الحديث ويعرف أنه غريب عن المدينة، ويبحث عن عمل ومأوى وفشل تماما في ذلك؛ يأخذه الخطاف إلى مأواه الذي يتشارك فيه هو ومجموعة غيره، ويعرض عليه العمل معهم. يعرف حمزة أن الخطاف ومجموعته يعملون في سرقة البنزين في الليل، حيث تعاني المدينة من أزمة في البنزين، وفي النهار يقومون ببيع حصيلتهم من هذه السرقة. يضطر حمزة للعمل معهم مترددا في البداية، لكنه يألف السرقة فيما بعد إلى أن يختلف أفراد التشكيل العصابي مع بعضهم البعض وينفصلون واحدا تلو الآخر؛ فيتركهم حمزة ويعود مرة أخرى بلا مأوى يلجأ إليه، وعاطلا عن العمل. يحاول حمزة غير مرة البحث عن عمل شريف في سوق التوابل لكنه يفشل؛ الأمر الذي يجعله يقرر العودة إلى السرقة مرة أخرى، لكن هذه المرة منفردا من دون مساعدة أحد: "سأضطر للسرقة، ولست نادما هذه المرة، فمن جرب الجوع بحق، حلّت له السرقة"!

ربما نلاحظ هنا بعض الملاحظات المهمة في أسلوب الروائي طارق الطيب، وهي أنه يعتمد على تداخل الأجناس الفنية اعتمادا كبيرا لا سيما اعتماد الرواية على التقنيات السينمائية التي دخلت إلى عالم السرد الروائي وأفادته أيما إفادة. نلحظ ذلك في: "أذهب معهم إلى السينما، نقفز في خفة من على السور ونجلس واحدا بعد الآخر نتابع أحد الأفلام الأمريكية. يطغى على تفكيري مهمتي هذا المساء- أرى قبلة- ربما يأتي أحد ليسألني عن ثمن التذكرة- أرى امرأة جميلة بلا ملابس تقريبا- أنظر إلى أصدقائي الجدد بريبة وهم يتابعون الفيلم ويضحكون- البطل يحمل سيفا ويضرب الشرير- الخوف يغطيني لا أستطيع رفض الأمر- امرأة تقتل أخرى بالسم. أتابع الفيلم، يبهرني ويدهشني ما أرى والخوف يرعبني ويفسد عليّ متعة المشاهدة". نلاحظ في الاقتباس السابق مقدرة الروائي الفنية على التقطيع السينمائي وكأنه ينتقل من لقطة إلى الأخرى بالتوازي، وهو نفس أسلوب المونتاج السينمائي في الانتقال بين المشاهد واللقطات التي تعمل على تقطيع الفيلم بشكل يجعل كل لقطة تعتمد على سابقتها باعتبارها تستند عليها في وجودها؛ الأمر الذي يجعل اللقطة السابقة لا مبرر لتواجدها إذا لم تستند على اللقطة التي تليها، كما أن الأسلوب الروائي الذي كتب من خلاله الطيب هذا المشهد السابق يُدلل على أنه مُدرك بشكل كامل ما يفعله، وأنه لجأ إلى الكتابة بمثل هذا الأسلوب؛ كي يصور لنا الحالة النفسية التي يعيشها حمزة ببراعة وإتقان، وهنا يعيش القارئ/ المشاهد نفس حالة التوتر النفسي والقلق اللذين يسيطران على الراوي وهو مُقدم على أول سرقة في حياته مع مجموعة الخطاف.

هذا الأسلوب الروائي المعتمد على التقنيات السينمائية لم يكن وليد المصادفة مع طارق الطيب، بل إنه يدركه جيدا، ويلجأ إليه عن عمد لإيصال ما يريده من خلال بلاغة الصورة السردية- أي محاولة استخدام تقنيات السينما المعتمدة على الصورة من خلال السرد الروائي- ولعل الدليل على ذلك عودة الروائي لنفس التقنية والأسلوب مرة أخرى حينما نقرأ: "تجلس بالقرب من مكان نومي ولا تتكلم، أريد أن أخفف من ارتباكي؛ فأسألها إن كانت ترغب شيئا، فتمسك يدي لأجلس. المصباح خلفي يسقط ضوءا ضعيفا على وجهها. أراها كأني أراها للمرة الأولى، كأنه حلم جميل لا أرغب أن أفسده. أترك لها يدي. أستيقظ قبل الفجر، أشعر برائحة عطر يملأ المكان. الدفء ما زال يغطينا، ورائحة الصندلية تفوح في المكان، وأصوات الفجر في الخارج تؤذن بمولد يوم جديد، وشيء جديد لم أعهده في حياتي. حب من الأعماق. التقاء ولقاء. جرأة وخوف. سعادة وندم، وتبدأ دوامة عقلي وقلبي تدور. وتتكرر الحكاية كل يوم عدا يوم الخميس".

هنا، ومن خلال هذا الاقتباس السردي السابق يتأكد لنا أن الطيب يدرك جيدا أنه يلجأ إلى التقنيات السينمائية في وصف الحالة التي يريد إيصالها للقارئ في شكل بلاغة بصرية؛ فهو حينما وصل بحديثه إلى جملة "أترك لها يدي" كانت الجملة السردية قد انتهت، ووضع المؤلف نقطة لانتهاء السطر ليبدأ سطرا جديدا يقول فيه: "أستيقظ قبل الفجر"، أي أن الروائي اختصر كل ما حدث بينه وبين حياة، زوجة الكيال، من فعل جنسي ولم يصرح به، بل استخدم تقنية سينمائية هي أشبه بتقنية الإظلام ثم القطع ليبدأ في السطر الذي يليه مشهدا جديدا بعدما انتهى ما فعله حمزة مع حياة، أي أن الطيب- فضلا عن استخدامه هذه التقنية السينمائية- يلجأ إلى الحذف البلاغي، أو الحذف الذي يؤدي إلى بلاغة الوصف، فهو لم يكن يعنيه أن يصف تفاصيل الحالة الجنسية الأولى بين حمزة وحياة بقدر ما كان يعنيه إخبار القارئ بأنها حدثت- بعيدا عن الكيفية التي حدثت بها- وفي هذا الفعل السردي ما يُدلل على مقدرة الكاتب السردية والروائية، وإدراكه الكامل بالتقنيات السينمائية التي يلجأ إليها والعمل على توظيفها داخل المتن الروائي بما يفيد تراكم السرد حتى نهايته.

لكن، رغم المقدرة السردية الحقيقية للروائي طارق الطيب، ورغم أنه يمتلك عالمه، ويستطيع إدارته بإدخال تقنيات سينمائية إليه من أجل المزيد من الجودة الأسلوبية والروائية إلا أننا نلاحظ اعتماده بالكامل على الصدف المتعمدة، والملفقة، وغير المنطقية، والمصطنعة من أجل إكمال عالمه الروائي، أو من أجل إنهاء رحلة حمزة والعودة مرة أخرى إلى قريته في شكل دائري؛ فإذا كانت المصادفة الأولى في عالم حمزة قد رأيناها بمجرد وصوله إلى المدينة من خلال لقائه "بالخطاف" الذي جعله يعمل معهم في سرقة البنزين ليلا: "فجأة بلا مقدمات يقف أمامي شاب طويل، أشعث الشعر، تميل خصلاته إلى الحمرة الداكنة، يلبس ملابس الإنجليز. قديمة ومتسخة. يبدو عليه المكر والدهاء، ويمسك في يده علبة سجائر ويدخن في سحبات طويلة ملتذا، ويخرج الدخان مرة واحدة من فمه وفتحتي أنفه معا"، فالمصادفة الثانية سنراها حينما يبدأ حمزة التفكير في سرقة التوابل؛ حيث يعمل الروائي على تمهيد كل السُبل أمامه بحيث يكون الطريق إلى السرقة سهلا ومُعبدا: "في الليل آخذ طريقي من السينما إلى مطعم الفول، ومنه إلى سوق التوابل. أصمم أن أسرق توابل هؤلاء التجار وأبيعها في اليوم التالي. التجار في هذه السوق لا يغلقون محلاتهم تماما، ويمكنني أن أتسلل وأسرق بعض التوابل دون أن يشعر بي أحد، فلا أحد ينام فيها، ولا أحد يدخلها في الليل، وقد تدربت خلال الشهرين الماضيين على السرقة، ولن يكون هذا صعبا عليّ". في هذا الاقتباس نرى أن المؤلف يُعبد الطريق تماما أمام حمزة من أجل أن يجعله سارقا للمرة الثانية، ولكي يفعل ذلك فلقد جعل الصدفة مُهيئة له تماما، فالتجار لا يغلقون محلاتهم تماما- كما قال- ولا أحد ينام في هذه الدكاكين؛ وبالتالي فلن يشعر به أحد، كذلك فلا أحد يدخلها في الليل. هنا لا بد لنا من التوقف والتأمل: لماذا كانت دكاكين سوق التوابل فقط هي الوحيدة التي لا يمكن إغلاقها بشكل كامل، كما لا يوجد أحد يبيت فيها رغم أننا بعد قليل- حينما سيتعرف حمزة على الكيال- سيجعل حمزة يبيت في دكانه كمأوى أثناء الليل؟ هل لا توجد حالات مشابهة من العمال الذين بلا مأوى في سوق التوابل بالكامل؟ وإذا ما تغاضينا عن هذه المصادفة باعتبار إمكانية أن يكون الأمر كما وصفه الروائي فهل لنا أن نتجاوز عن مصادفة لقاء حمزة بالكيال فيما بعد من أجل أن تظهر شخصية حياة- زوجة الكيال- وارتباط حمزة بها ثم حملها منه، وتركه العمل مع الكيال ليبدأ مغامرة، أو محطة جديدة في رحلته؟

"في أحد الأيام يأتيني "الكيال" أحد كبار التجار في السوق، رجل تعدى الأربعين قليلا، طويل القامة، ذو شارب كثيف ووجه صارم كالصقر، حاد الطباع، سريع الغضب، سريع الخطو. في أوائل أيامي بالسوق كان ينظر إليّ كل صباح كأنه يرى حشرة، أحاول بابتساماتي وتحياتي أن أكسب وده، ولم يزده ذلك إلا صرامة وعبوسا، يقترب مني حيث أجلس وسط توابلي ويسألني في صوت استجوابي". هنا نلحظ أن حمزة حينما اعتاد على سرقة التوابل في الليل وبيعها في السوق بالنهار تابعه الكيال؛ ومن ثم جعله الكاتب يصرّ على التعرف على حمزة من أجل الاتفاق على العمل لديه في دكانه، وبالتالي يتعرف على حياة ويقع في حبها وتحمل منه؛ فتكون هناك مغامرة جديدة أو محطة جديدة في رحلة حمزة، وهي المحطة التي سيغادرها حينما تهجره حياة بعد حملها منه، وظن الكيال أن زوجته قد حملت أخيرا بعد زواجه من ثلاث نساء يعتقد أنهن عاقرات، وبالتالي تكون حياة الوحيدة التي ليست بعاقر لأنها قد حبلت له بالطفل، ورغم أن حمزة كان يكسب ضعف ما يعطيه له الكيال من راتب شهري إلا أنه قبل العمل لديه بدعوى رغبته في العمل الحلال، لكننا نرى أنه قبل العمل من أجل استمرار السرد في ذهن الروائي من خلال صورته المُكتملة المرسومة في ذهنه سلفا، وهذا ما سيتضح بعد قليل.

الروائي السوداني طارق الطيب

حينما يغادر حمزة محطة الكيال وزوجته يقرر السفر إلى مصر لمحاولة إيجاد عمل يعوله ويعول أسرته في قريته، ورغم أنه لا يحمل أوراقا تساعده على السفر إلا أنه نجح في استخراجها ببساطة متناهية، لكن بغض النظر عن مقدرته في استخراج هذه الأوراق، ومع محاولة قبولها سرديا نُفاجأ بالمصادفة الجديدة وهي التقاء حمزة بمجموعة من الشباب الذين يتوددون له عاملين على جعله ينخرط بينهم على ظهر السفينة المغادرة إلى مصر: "الساعة الرابعة فجرا أصل إلى القاهرة. يعرض عليّ ثلاثة من الشباب أن نبيت في إحدى اللوكاندات الرخيصة السعر. أوافق. نمشي إلى الناحية المقابلة للمحطة في شارع طويل به محلات ومقاة متلاصقة، أرى بعضها مفتوحا في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ونصل إلى لوكاندة. تكون الليلة الأولى في عمري التي أبيت فيها على سرير، أرغب في النوم على الأرض كعادتي وطبيعتي؛ فأنا كثير الحركة أثناء النوم، وأخشى أن أقع من فوق هذا الصندوق الغريب، لكن التعب والإرهاق لا يتركان لي وقتا للاختيار. أنام".

هذه المصادفة المصنوعة الجديدة يؤكدها الكاتب حينما يكتب على لسان أحد هؤلاء الشباب لحمزة: "ستألف كل شيء هنا. إن كنت تفكر في عمل فلا تخف، فقد قررنا جميعا أن تبقى معنا، فنحن نحتاج إليك"!

هنا لا بد من التساؤل: لِمَ نرى كل الشخصيات التي يقابلها حمزة في رحلته بكل هذه الطيبة، والحاجة إليه؛ ومن ثم فكلها تقريبا تمهد له الطريق من أجل إتمام رحلته، أو إتمام الرواية كما يريدها الكاتب؟! ولِمَ يحرصون جميعا على مساعدته والوقوف إلى جانبه؟!

يعلم حمزة أنهم يعملون في تهريب الذهب والفضة من السودان من أجل بيعهما في مصر، ثم يذهبون إلى بور سعيد عدة مرات في الأسبوع من أجل تهريب الملابس، ثم يعودون من أجل بيعها في القاهرة، ومع انخراطه يذهب معهم ذات مرة إلى السودان وينجح في التهريب، وهناك يعلم أن حياة قد أجهضت نفسها وأن الكيال قد طلقها وأغلق دكانه؛ فيقرر عدم العودة معهم إلى السودان مرة أخرى من أجل تهريب الذهب، ويظل في القاهرة منتظرا لهم، ويقضي وقته في الانتظار وتهريب الملابس من بور سعيد وهو ما تعلمه منهم. لكن، في المرة الأخيرة لذهابهم إلى السودان وانتظاره لهم يخبرنا الكاتب: "يقرر الزملاء القيام بعملية كبيرة نسافر فيها جميعا إلى السودان، أذكر لهم عدم رغبتي في السفر هذه المرة، يختلف الزملاء حول رفضي. يعتقد أحدهم أنني خائف ويعتقد آخر أنني أعشق الفقر. يبقى الخضر في صفي ويقول لهم: عدم سفره لا يضر أحدا، فليبق هنا في انتظارنا، وليتابع عمليات الشراء والبيع بين بور سعيد والقاهرة. يسافر الثلاثة، وأبقى في انتظارهم ثمانية عشر يوما في الفندق، أذهب فيها ثلاث مرات إلى بور سعيد وأعود لأبيع ما اشتريت، وفي المرة الأخيرة أشتري الدمية لحليمة وأخرى لكريمة، كانت نقودي كافية للبقاء شهرا واحدا فقط بالقاهرة، أظل في نهار هذه الأيام أسير في شوارع القاهرة، أتأمل الحركة العجيبة السريعة والضجيج. تعجبني الحياة فيها. أعود يوميا إلى اللوكاندة أجر أقدامي من التعب. أسير إلى أماكن بعيدة، أريد أن أستكشف كل شيء".

يستكمل الكاتب سرده لنعرف أن رفاقه لم يعودوا مرة أخرى، وربما يكونوا قد ألقي القبض عليهم أثناء محاولة التهريب، وهنا يعود حمزة إلى متاهته التي لا تنتهي ويبقى وحيدا محاولا البدء في حياته من جديد. لكننا لا بد من التوقف هنا لنتأمل هنيهة. إذا كان حمزة قد تعلم من هؤلاء الرفقاء كيفية تهريب الملابس من بور سعيد وإعادة بيعها في القاهرة، وإذا كان قد قال في المقطع السابق أنه قد ذهب إلى بور سعيد ثلاث مرات أثناء انتظاره لهم؛ فهذا يعني أنه قد بات قادرا على الإنفاق على نفسه، وأنه قد وجد السبيل من أجل التكسب والعيش من دون الاعتماد على أحد من خلال التهريب؛ إذن فلم جعله الكاتب يقع في ورطة عدم القدرة على إكمال حياته من دون زملائه، ولم جعل عدم عودتهم انتهاء لهذه المرحلة، ولم بات مفلسا رغم أنه يعرف الطريق للتكسب، ولم ترك اللوكاندة التي لم يعد يستطيع دفع إيجارها؟! كل هذه الأسئلة لا بد أن تُثار في ذهن من يقرأ؛ لأن الأمر هنا غير منطقي وغير مقنع، وفيه الكثير من التناقض؛ لأن حمزة في هذا الموقف قادر على الحياة من خلال التهريب، ولا يهدده شبح الإفلاس كما ذهب الروائي، ولكن، لأن الروائي يريد أن ينهي هذه المحطة إلى محطة جديدة تنقله إلى العالم الجديد الذي رسمه في ذهنه مسبقا؛ فلقد جعله غير قادر على الحياة من دونهم وبالتالي صار مُفلسا! أي أن المؤلف لو كان قد انتبه إلى هذه التفصيلة المهمة؛ لكانت أحداث روايته قد توقفت، ولما كان قد استطاع استكمالها تبعا للسيناريو المرسوم في ذهنه سلفا؛ لذلك تجاهل هذه النقطة متجاوزا إياها وكأنه لا يعرفها أو لم ينتبه لها، رغم كتابتها.

إن توقف الحياة بحمزة بعد مغادرته للوكانده يجعله- بالمصادفة الجديدة- يقابل أحد السودانيين كي تكتمل الرحلة: "ثلاثة أسابيع ولا خبر ولا أمل. ربما حدث لهم مكروه. ماذا سأفعل وحدي هنا، في هذه المدينة الجديدة وهذه الغربة البعيدة؟ نقودي تكفيني لأسبوع واحد وبعدها يُلقى بي في الشارع. وينتهي الشهر وينتهي الأمل والانتظار. أهيم على وجهي في شوارع القاهرة أسأل عن عمل. أقابل سودانيا يقف في سوق كبيرة، يبيع بعض المنتجات السودانية، أسأله عن كيفية إيجاد عمل لي هنا، يعطيني عنوانا في منطقة تُسمى "عين شمس" فيها جالية كبيرة من السودانيين". نرى هنا في الاقتباس السابق أنه بدأ البحث عن عمل رغم عدم منطقية ذلك؛ فهو يعرف الطريق للكسب من خلال تهريب الملابس، لكن بما أن المؤلف يريد ذلك؛ كان لا بد لنا من الاستمرار معه والانقياد خلفه لنرى إلام يريد بنا أن نصل مع بطله؛ فنعرف أن حمزة ذهب إلى الجالية السودانية في عين شمس، وهناك لم يجد سوى العمل كنادل في أحد النوادي، لكننا ندخل إلى المصادفة الجديدة التي لا بد أن يقابلها من إجل إتمام حكايته التي لا يمكن لها أن تتم من دونها.

"يعرض عليّ البعض محاولة استخراج جواز سفر لي من السفارة، ربما تتاح لي فرصة السفر إلى دولة عربية. يعود لي الأمل مرة أخرى، وأسعى لاستخراج جواز السفر". نلاحظ هنا مصادفة جديدة تجعل بعض السودانيين يعرضون عليه استخراج جواز السفر الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لِمَ لمْ يفعلوا ذلك لأنفسهم؟ ولم يطرحون عليه الحلول وينسون أنفسهم فيها؟! وحينما يقع حمزة في ضائقة مالية ويحتاج إلى المال تأتي المصادفة التالية: "فيما بعد، أفكر في كيفية جمع نقود للسفر، أسأل آدم صديقي في النادي؛ فيقول لي: إنه يمكنني أن أخبز كِسْرَةً هنا في النادي، وأذهب بها أمام السفارة؛ فهم يشترونها هناك بكثرة، فالكسرة لا توجد هنا في المطاعم المصرية، والسودانيون يتوقون إليها ولا يجدونها"! فتكون المشكلة التي يقع فيها لها حل من خلال المصادفة التي تتكرر بعد قليل حينما يستخرج جواز سفره: "بعد عذاب أيام الانتظار، ثلاثة أشهر وسبعة أيام، أحصل على جواز سفر لي، ويكون السؤال الثاني بلا إجابة: إلى أي دولة عربية سأذهب؟ أعود إلى النادي والمحاولات اليائسة بلا نتيجة، فلست أملك مهنة أو شهادة. الوقت يضيع، أخبز الكسرة، أبيعها، أسأل، أدفع الفِردة، أنتظر ولا حل. الصيف يبدأ وكثير من الطلبة يسافرون إلى الخارج. يسألني آدم: ألا تريد السفر إلى الخارج؟ إلى أوروبا مثلا؟ سؤاله لم يخطر أبدا على بالي من قبل".

هنا يتأكد لنا أن تتالي المصادفات غير المنطقية وغير المُبررة من خلال السرد الروائي لا يمكن تقبلها، وأن الحلول دائما جاهزة وبسيطة وسريعة في ذهن الكاتب؛ لأنه يريدها من أجل الانتقال من محطة إلى أخرى خلال رحلة الراوي- حمزة- لذلك يفكر الآخرون دائما بالنيابة عنه ويجدون له الحلول، وهو ما يجعلنا نتساءل مرة أخرى: لم لم يفعل آدم لنفسه ما ينصح به حمزة، ولم لم يفكر في نفس الأمر لنفسه؟

يحاول آدم مساعدة صديقه في السفر إلى الخارج وينجح بالفعل في أن يأتي له بتأشيرة إلى إيطاليا ويسافر بحرا: "بعد أسبوعين يأتيني آدم بجواز سفري وقد حصلت على تأشيرة السفر إلى إيطاليا، ويأتي بصديق آخر كان يعمل هناك في الصيف الماضي ليعطيني بعض نصائحه وخبراته. يعطيني هذا الصديق عنوان مرقص كان يعمل فيه. وعنوان بعض الأصدقاء هناك"! أي أن كل شيء ممهدا له ومُجهزا حتى العنوان الذي سيسافر إليه!

إذا ما توقفنا للتأمل هنيهة سنرى أن تتالي المصادفات المصنوعة بمثل هذا الشكل توحي لنا بأن العالم حولنا أكثر إنسانية مما كنا نتخيله؛ فالجميع يرغب في المساعدة من دون سابق معرفة وكأن العالم شديد المثالية، وهو ما يتناقض مع عالمنا الحقيقي الذي نعيشه ونألفه ونخبره، والذي لا نرى فيه من يؤثر غيره على نفسه أو يحاول مساعدته بمثل هذا الشكل المثالي، بل يتحين الآخرون- في الواقع- الفرص من أجل أخذ فرص غيرهم في الحياة؛ لذلك يبدو لنا ما يسوقه الروائي في روايته منبت الصلة تماما بالواقع المعيش؛ الأمر الذي يجعل الرواية منفصلة عن الواقع، وتدور في فلكها الذي يخصها بعيدا عن أي حياة طبيعية، بل من خلال مثالية لا وجود لها على أرضنا.


هذه المصادفات تستمر مع حمزة حتى بعد وصوله إلى إيطاليا: "ننتهي من إجراءات الدخول، وأخرج من الميناء، أبحث عن القطار المتجه إلى روما ولا قريب لي ولا منتظر. أقابل شخصا تبدو لي ملامحه عربية، أكلمه بالعربية عن مقصدي؛ فيذكر لي أنه متجه هو الآخر إلى روما"! أي أن المصادفة تجعله أيضا يلتقي بعربي منذ لحظة وصوله، وكأنما الأقدار دائما في خدمته، ورغم أن حمزة يفقد هذا الرجل ويضيع منه، إلا أنه كان تمهيدا لسلسلة جديدة من التلفيقات المتعمدة لإكمال الرواية؛ فحينما يصل حمزة إلى العنوان الذي أعطاه له آدم يساعده نادر في الحصول على عمل في مرقص ليلي، لكن صاحب العمل الإيطالي يطرده؛ لأنه لا يرغب أن يعمل أحد السود الأفارقة في ملهاه، وهنا تأتي المصادفة الجديدة التي تنقل حمزة إلى فرنسا: "يكاد نادر يتمزق من الغيظ، وأتوقف عن العمل. تزداد مساعيه في البحث عن عمل لي، لكنه لا يجد، لا أشاء أن أثقل عليه، أسأله إن كنت أستطيع الذهاب إلى مدينة أخرى ربما أجد أي عمل مناسب، يفكر طويلا، ثم يقول لي: ليس هناك غير حل وحيد في هذا الوقت: الذهاب إلى فرنسا والعمل في مزارع العنب هناك، وأنا لي صديق فيها، سأوصيه بك خيرا، وسأرسل له رسالة مني معك"!

إن التلفيقات هنا يتم ترتيبها بعمدية من أجل خدمة حمزة الذي ينتقل من محطة إلى أخرى في رحلته السيزيفية، والطريق مُمهد له تماما دائما؛ لذلك وجد السبيل السريع للخروج من أزمته بالاتجاه إلى فرنسا من خلال نادر، أي أننا هنا أمام سلسلة لا تنتهي من المصادفات التي تسلم لبعضها البعض في متتالية عددية لا تنتهي: "أصل إلى "ليون" ويكون أدهم صديق نادر بانتظاري في محطة القطار، يعرفني ولا أعرفه. يحييني ويحمل شنطتي الجديدة، ثم ينقلني في سيارته إلى حيث يسكن. يسكن مع مجموعة من الشباب في بيت قديم. يعمل البعض منهم في أعمال مختلفة، ومنهم من لا يعمل إطلاقا. يرحب بي الجميع في اليوم الأول".

يظل حمزة مع المجموعة الجديدة، حتى يبدأون في العمل في إحدى مزارع العنب، ولكن حينما ينتهي العمل فيها يعودون إلى عطلتهم وعدم مقدرتهم على العمل، وهنا تأتي المصادفة الجديدة التي تنقله إلى دولة جديدة ومحطة جديدة حينما يقترح أحدهم الهروب إلى هولندا من أجل العمل هناك: "بعد أيام يقرر الجميع الرحيل إلى هولندا، تصلهم الأخبار أن العمل هناك متوفر، والأحوال أفضل مما في فرنسا. أقرر أن أجرب معهم المغامرة حتى آخرها". هنا يتأكد لنا أن الطريق يتم تمهيده لما في ذهن المؤلف الذي رسم الخطوط العريضة لروايته في ذهنه سلفا قبل البدء فيها، لكنه حينما لجأ إلى التفاصيل لم يجد سوى هذه السلسلة غير المنطقية من الأحداث والمصادفات المتعددة، وهي المصادفات التي تجعل جميع من معه يتم القبض عليهم أثناء عبور الحدود في القطار فيما عدا واحد فقط؛ من أجل أن يصل مع حمزة إلى هولندا وتستمر الحكاية التي يريدها الطيب: "نبحث عن الآخرين فلا نجدهما بالعربة إطلاقا، نعرف أنه تم القبض عليهما. قبضوا على صاحب الفكرة، خبير السفر. أجلس مرعوبا منتظرا مصيري، هل أكمل سفري إلى هولندا، أم أبقى مختفيا في بلجيكا؟ أعلن خوفي وارتيابي لزميلي، يهدئني ويقول لي: إن التفتيش على الحدود بين بلجيكا وهولندا ليس بالدقة التي بين فرنسا وبلجيكا".

إن المصادفة تلعب دورها الأثير في هذه الرواية التي من الممكن أن نطلق عليها "رواية المصادفات البحتة": "نكرر عملية الاختفاء مرة أخرى. وننجح هذه المرة في عبور الحدود ونصل إلى أمستردام في المساء. ننزل إلى المحطة، بها الكثير ممن يتحدثون العربية، نسألهم عن مبيت، ويسهل لنا أحدهم المبيت عنده نظير مبلغ كبير، ندفعه مضطرين لنريح أنفسنا من عناء البحث وإرهاق السفر"، أي أن العرب كانوا في انتظارهم بالصدفة من أجل توفير السكن والمأوى لهم، وهي من المصادفات غير المقبولة قلبا وقالبا؛ لأن الأمر يبدو فيه الكثير من القصدية المعدة سلفا.

يشعر حمزة أنه لن يستطيع الاستمرار على هذا المنوال، وأنه لا بد له من العودة إلى أمه وأختيه مرة أخرى، وبالفعل يشتري تذكرة طيران، ويتم ترحيله حينما لا يجدون معه تأشيرة دخول إلى هولندا، ويبدأ في رحلته العكسية إلى قريته في السودان "ودّ النار". هنا يظن القارئ أن مسلسل المصادفات التي لا تنتهي قد انتهت فعليا، لكننا نُفاجأ بها مرة أخرى حينما يعود إلى قريته: "نصل إلى القرية المجاورة. تبدو لي ملامحها وهياكلها أكثر عبوسا من ذي قبل. أرى جارة لنا عجوزا تجلس منفردة على ركن صغير من الحصير. لا أتعرف عليها جيدا إلا حينما أقترب منها، أنظر لعينيها. أسألها في لهفة عن ودّ النار وعن أمي وأختيّ، تنظر إليّ، تشيح بوجهها عني، وتسب الدنيا والدين. أكرر سؤالي وأنا أكاد أصرخ في وجهها، لكن دون جدوى. لقد أصيبت المرأة في عقلها ويبدو أن ما حدث كان أقسى مما توقعت. أتخذ طريقي صوب القرية أهرول. صوت أعرفه جيدا يوقفني. إنه الشيخ الفكي. فرحتي بلقائه لا توصف. يغمرني إحساس ما بأنه ما زال في قريتنا من يحيا. الشيخ الشاب يبدو في كهولة لم يبلغها الكهول، تدمع عيناه وهو يرفع كفيه أمامي قائلا: الفاتحة على أرواح من ماتوا ومن يعيشون"!

أي أن الكاتب مُصرّ على التلفيق حتى نهاية روايته؛ فرغم أن حمزة لم يصل إلى قريته بعد، ووصل إلى القرية المجاورة؛ فلقد وجد الشيخ الفكي الذي أخبره أن القرية تم هجرها تماما ولم يعد فيها أحد من الأحياء، وأن أمه وأختيه قد متن جميعا بسبب الجوع ووباء الكوليرا. كان من الممكن للمؤلف أن يتخلى عن المصادفة التلفيقية هنا في نهاية روايته بجعله لحمزة أن يذهب بنفسه إلى قريته ليعرف ما حدث فيها، لكنه آل على نفسه أن يكون كل شيء يحرك أحداث هذه الرواية سهلا ومعتمدا على هذه التلفيقات التي ستصل به إلى ما يريده في النهاية؛ لذلك لم يتخل عن المصادفة حتى اللحظة الأخيرة وجعل حمزة يعرف ما آلت إليه الأمور من خلال الشيخ الفكي.

إن رواية "مدن بلا نخيل" للروائي السوداني طارق الطيب من الأعمال الروائية التي لا يمكن أمامها إنكار مقدرة الروائي الروائية، وخياله الخصب فيها، كما لا يفوتنا فيها تمكنه وأسلوبيته في مزج التقنيات السردية الروائية مع تقنيات السينما بشكل مقتدر يجعل من السرد مجموعة من المشاهد السينمائية التي يراها القارئ رؤية العين، لكن، لا يمكن لأي عالم روائي أن يقوم على سلسلة لا تنتهي من المصادفات الملفقة غير المقنعة كما فعل الروائي الذي رسم عالمه بدقة من خلال خيوطه العريضة في ذهنه، وحينما بدأ يتجه إلى التفاصيل عمل على تلفيق الأحداث التي لا يمكن لها أن تقنعنا من أجل الوصول لما يريده.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد أكتوبر 2022م.

 

 

 

 

 

 

 

الاثنين، 10 أكتوبر 2022

مجدي أحمد علي: شاعرية النضال من أجل المرأة!

المخرج مجدي أحمد علي
خرج المُخرج مجدي أحمد علي من رحم صناعة السينما المصرية؛ لذلك حينما رغب في تقديم فيلمه الأول "يا دنيا يا غرامي" 1996م، قدم فيلما من أهم أفلام هذه السينما، وأكثرها شاعرية وانحيازا للحياة والمرأة لافتا نظر المُتابعين لهذه السينما بأنها قادرة على الانبعاث من الموات الذي يصيبها على فترات متفاوتة.

صحيح أن المُخرج قد تخرج في كلية الصيدلة 1976م، لكن عشقه للفن السينمائي جعله مُصرا على دراسة السينما؛ فحصل على بكالوريوس المعهد العالي للسينما قسم الإخراج عام 1980م؛ ومن ثم بدأ حياته الفنية كمُساعد مُخرج لعدد من أهم مُخرجي الواقعية في السينما منهم محمد خان، وخيري بشارة، ويوسف شاهين، ومما لا يمكن إنكاره أن عمل المُخرج مع هؤلاء المُخرجين المُهمين في مسيرة السينما المصرية قد ترك بأثره على رؤيته الفنية وتفكيره تجاه صناعة سينما مُختلفة يستطيع من خلالها أن يتميز بها عمن سبقوه من مُخرجين، ويستمر في مسيرتهم التي تشتبك مع الواقع محاولة استعراضه وتأمله من دون طرح حلول، أو إلقاء أحكام أخلاقية، أو أيديولوجية مُسبقة، أي أن المُخرج هنا كان راغبا في تقديم ما هو كائن من خلال أسلوبيته الخاصة التي تتميز بالكثير من الشاعرية والانحياز للمُهمشين والفقراء والمرأة من دون إدانتهم أو إلقاء اللوم عليهم في شيء؛ فالمُجتمع والسياسات المُختلفة هي التي أدت بهم إلى الوقوع في براثن ظروفهم الاجتماعية القاسية التي يحاولون التكيف معها من أجل الاستمتاع بالحياة، حتى لو كانت هذه المُتعة مُجرد مُتع صغيرة كضحكة عابرة، أو تناول فنجان من "الكابتشينو".


رغم بداية مجدي أحمد علي في حياته العملية كمُساعد مُخرج مع العديد من المُخرجين إلا أنه لم يفته الاهتمام والاتجاه لصناعة السينما التسجيلية- المصنع الحقيقي لصناعة السينما- وهي السينما التي تعمل على تدريب المُخرجين وإصقال مواهبهم من أجل صناعة أفلام روائية؛ فقدم العديد من الأفلام التسجيلية منها فيلم "الفرح لا يؤجل" 1998م، وهو الفيلم الذي صنعه بعد تقديم فيلمه الروائي الأول عن تجربة تبناها الفنانان التشكيليان عادل السيوي، ومحمد عبلة، والناقدة الراحلة فاطمة إسماعيل عن تجميل منازل حي "كوم غراب"؛ الأمر الذي دفع الدولة إلى الاهتمام بالحي، وتحسين مرافقه.

في عام 1996م يقدم المُخرج فيلمه الأول "يا دنيا يا غرامي"، وهو الفيلم الذي كتب له السيناريو السيناريست محمد حلمي هلال، وتحمس لإنتاجه المُخرج رأفت الميهي من خلال "ستوديو 13"، ولعل السيناريو الذي كتبه هلال كان من أهم السيناريوهات التي ساعدت المُخرج كثيرا على تقديم نفسه كمُخرج تعرفه السينما المصرية لأول مرة؛ حيث اعتمد السيناريست على تقديم شخصيات بسيطة تماما تنتمي للجزء الأكبر من المُشاهدين؛ لدرجة تجعل المُشاهد يشعر بأن الفتيات الثلاث اللاتي يتحدث عنهن الفيلم هن أخت أو ابنة عم، أو ابنة خال أي واحد منا؛ الأمر الذي جعل المُشاهدين ينتمون إلى العمل ويشعرون بما تعانيه بطلاته.

يتحدث الفيلم عن ثلاث فتيات صديقات من الطبقة الفقيرة يعملن في مهن مُختلفة وقد وصلن إلى العقد الثالث من عمرهن وقارب قطار الزواج على الابتعاد عنهن. الأولى "فاطمة" أو "بطة" التي تعمل في مصنع للملابس الجاهزة وتعيش مع أمها وأبيها المقعد، وأخيها "عبده" المُنضم لجماعة دينية مُتطرفة. تجد فاطمة نفسها مُرغمة على تولي مسؤولية الأسرة بعدما تاه أخوها في خضم الجماعات الإسلامية ولم تجد الأسرة من ينفق عليها في وجود الأب المُقعد. تحب بطة ابن خالتها "يوسف" ميكانيكي السيارات والمخطوبة له مُنذ عشر سنوات، لكنه لا يجد المال الكافي لإتمام زواجه منها. يُقابل يوسف العجوز "زهيرة هانم" وهي من نسل أسرة محمد علي باشا التي تأمل في أن تُدفن في مقابر الأسرة الخديوية بجامع الرفاعي في القلعة، ولكن ينقصها إتمام الإجراءات؛ فتسلم ليوسف 1500 جنيه لإكمال إجراءات التصاريح، إلا أنه يشتري بالمال شبكة لبطة ويُقيم لها عُرسا في الحارة، كما يسطو على سيارة فارهة ملك لأحد السياح العرب؛ ليزف فيها عروسه ويحقق آمالها، لكنه يُقبض عليه ويُسجن ثلاث سنوات، وترفض بطة طاعة أخيها المُتطرف بالحصول على الطلاق من يوسف والزواج من أحد المُتطرفين.


أما الثانية فهي "سكينة" التي تعيش مع أمها وأخيها النرجسي العاطل "حسن" والذي أصابته لوثة عقلية تُشعره بالعظمة دائما، وتعمل سكينة في محل لبيع الملابس الجاهزة، ويحبها مُدير المحل "عادل" وقد كانت سكينة على علاقة سابقة بعبده شقيق بطة الذي استسلمت له وفقدت عذريتها، وسافر عبده للكويت لجمع المال، ولكن حينما قامت الحرب؛ عاد كما سافر من دون مال وانضم لجماعة مُتطرفة، وطلب من سكينة الالتزام الديني على طريقته كشرط للتستر عليها. ترفض سكينة ويصبح موقفها صعبا حينما يتقدم عادل للزواج منها؛ فتنصحها بطة بإجراء عملية رتق لبكارتها، لكنها ترفض وتُصارح عادل الذي يهرب منها، وتشاء الظروف أن تفوز سكينة في أحد البرامج الدعائية بالإقامة في شقة بالمُهندسين لمدة 15 عاما، وهي الشقة التي تكون سببا في تقدم أحد المُدرسين للزواج بها؛ فتجري عملية رتق بكارتها هذه المرة استعدادا لزواجها. أما الصديقة الثالثة فهي "نوال" التي تعمل في محل لبيع الزهور وتتعرض لتحرش صاحبه، وقد كانت نوال على علاقة حُب مع "حسن" شقيق سكينة، والذي كان يرى أنه أعظم من أن يتزوج نوال، وحتى تلحق نوال بقطار الزواج توافق على الزواج العرفي من "رياض" المتزوج من امرأة ثرية، وذلك نظير شقة باسمها، وشبكة، ومهر كبيرين. تذهب زهيرة هانم إلى بطة وتخبرها بالمال الذي أخذه زوجها المسجون، وترفض استرداد المبلغ في مُقابل صداقة بطة؛ حتى إذا ما ماتت يكون هناك من يعتني بجثمانها وبالفعل يصرن صديقات. تموت زهيرة وتدفنها بطة في مقابر الأسرة الخديوية، ولكن في زفاف سكينة يقوم عبده بطعن أخته بطة انتقاما، وتدخل المُستشفى ويتم إنقاذها، وتخرج مع صديقتيها يستقبلون الحياة من جديد في تأكيد من الفيلم على أن الحياة لا بد لها من أن تستمر، ومن المُمكن لمن يحياها أن يقتنص منها الفرحة البسيطة أيا كانت معوقات هذه الحياة.


ربما نُلاحظ في الفيلم الذي قدمه مُخرجه مجدي أحمد علي مدى اشتباكه مع الواقع المعيش ومشاكله الآنية سواء على مستوى الفقر الذي تعيشه شخصيات الفيلم، أو الإسلام السياسي الذي بدأ يُظهر وجهه الجهم في هذه الفترة الزمنية، أو أخلاقيات المُجتمع الجهمة التي تجعل من المرأة مُجرد ضحية من ضحاياه ويلقي باللوم عليها دائما في كل سقطاته رغم أنهن لا حيلة لهن بسقطات هذا المُجتمع، كما لا يفوتنا مدى الشاعرية التي تناول بها المُخرج مُشكلات بطلاته الأربع- زهرة هانم منهن- ومدى مقدرته على التعبير عن حاجاتهن النفسية والجسدية، وانهزامهن أمام مُجتمع يُلقي بالتبعة الأخلاقية عليهن طوال الوقت، إلا أنهن يقاومن كل هذه الاتهامات وهذا الحزن بمحاولة اقتناص الفرح حتى لو كان مُجرد لحظات بسيطة لا قيمة لها لدى الآخرين.

نستطيع القول: إن المُخرج مجدي أحمد علي كان من أهم المُناصرين للمرأة من خلال هذا الفيلم، كما أنه تبنى مشاعرهن، وقضيتهن من دون فجاجة أو مُباشرة، بل نجح في التعبير عنهن من خلال التوحد معهن وتقمص مشاعرهن التي يشعرن بها؛ فخرج الفيلم مُشبعا بروح شاعرية شديدة النسوية للتعبير عن روحهن وأزماتهن اللاتي لا يستطعن التعبير عنها في المُجتمعات العربية المُنغلقة.

لكن، هل نستطيع من خلال هذا الفيلم القول: إن مجدي أحمد علي قد كان أكثر تحررا وانطلاقا من مُخرجي الواقعية الجديدة الذين تتلمذ على أيديهم وعمل معهم؟


بالفعل إذا ما تأملنا فيلم "يا دنيا يا غرامي" لرأينا كيف كان الفيلم مُشتبكا اشتباكا حقيقيا مع الواقع، مُحاولا نقاش أوضاع وهموم، ومشاكل الطبقة الوسطى وما يعانون منه، لكنه لم يكن مُقيدا بأيديولوجية ما، أو أفكار سياسية، كما لم يحاول إلقاء اللوم على السياسات التي اتبعتها الأنظمة المصرية المُتتابعة- السبب الحقيقي فيما وصل إليه حال المُجتمع المصري من أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة- بل حاول التعاطي مع مُشكلات هذه الطبقة، لا سيما ما تُعاني منه المرأة من ضغوط داخل هذا المُجتمع. صحيح أن خان وغيره من مُخرجي الواقعية قد ناقشوا الضغوط التي تتعرض لها المرأة في المُجتمع المصري، وهذا ما رأيناه في "أحلام هند وكاميليا" مثلا للمُخرج محمد خان، لكن المُقارنة بين ما قدمه المُخرجون السابقون من واقعية في مُقابل ما قدمه مجدي أحمد علي في فيلمه الأول يجعل هؤلاء المُخرجين مُجرد مُحافظين، لم يستطيعوا الانطلاق ومُناقشة مشاكل المرأة الخاصة جدا، سواء منها العاطفية أم الجنسية مثلما رأينا لدى أحمد علي في فيلمه الأول، ومثلما سنرى فيما بعد في فيلمه "أسرار البنات" 2001م الذي كان أكثر جرأة وانطلاقا في التناول، بل والأكثر انغماسا في الشاعرية والحنو على بطلته والتعامل معها من دون أي شكل من أشكال الإدانة الاجتماعية أو الأخلاقية، وهذا ما يؤكد عليه المُخرج نفسه بقوله: "كان لدي إحساس بأنه الفن ما هواش السياسة بالضبط، أعتقد هو دا اللي خلاني لما قررت أعمل "يا دنيا يا غرامي"، وأعمل "أسرار البنات" كان إن الوطن ما هواش كلام في السياسة، لكن إن كل كلام في قضايا المواطن المصري، وخاصة الطبقة الوسطى اللي هي.. يعني موكل إليها قيادة حركة التنمية والتقدم، الكلام عن المواطن هو المُهم، الكلام عن البشر هو المُهم، والكلام عن البشر العاديين بأخطائهم، بهمومهم، بأحلامهم، بإخفاقاتهم، بنجاحاتهم هو دا المُهم.. يعني إن أنا رميت نفسي في التجربة السياسية والاجتماعية للوطن كله في السبعينيات، ودي كانت فترة حية وخصبة جدا خلّت في الآخر الواحد يبقى عنده الروح دي.. روح عدم الربط المُباشر، وعدم وجود سينما مُباشرة، أو تعبير مُباشر عن أفكار سياسية لها طبيعة دوجماتيكية.. يعني في الفن"[1].


لكن، هل استمر المُخرج على هذه الشاعرية والاهتمام بما تعانيه المرأة في الطبقة المتوسطة المصرية بعدما قدم فيلمه الأول؟

في عام 1998م قدم المُخرج فيلمه الثاني "البطل"، وهو الفيلم الذي يقول عنه: "في "البطل" أقدر أقول: إن دي إضافة أنا عملتها، يعني بمعنى إنه السيناريو كان بيتكلم عن البطولة كقيمة، وهي قيمة في حد ذاتها تعمل فيلم فعلا، يعني مش متعملش، إنما أنا في الوقت دا استلفت نظري إنه الفيلم دا بيتعمل في أيام العشرينيات، يعني إذن لماذا لا نربطه بثورة 1919م وشخصية سعد زغلول نفسه، وإنه سعد زغلول في الوقت دا كان بيطرح فكرة إعادة القومية المصرية.. يعني قبله مُصطفى كامل كان بيدافع أصلا عن فكرة إن احنا مصريين، يعني كان فيه ناس الإنجليز كانوا بيقولوا لهم أدبيات في الوقت دا، في التاريخ دا بتقول: ليس هناك شيء اسمه الشعب المصري، دول مزيج من الأتراك والهجرات العربية والهجرات الأجنبية وبتاع، مين هو الشعب المصري؟ في الوقت دا احنا كنا طبعا عددنا في حدود ثمانية مليون أو أقل، منهم كتير أجانب، ومنهم كتير مُتمصرين، فكان فيه كلام عن الهوية نفسها، هوية المصري نفسه، فلما.. اللي كان بيتكلم على دا مُصطفى كامل، لما جاء سعد زغلول وطلعت ثورة الشعب كلها توحدت حول شخص سعد زغلول كان دا مُهم جدا، إنت بتتكلم على فكرة أخرى غير فكرة البطولة، فكرة إن مصري يصبح بطل عالمي في رياضة ما، فبطل عالمي كمصري.. كهوية مصرية دا كان جديد، دا اللي أنا كنت عايز أؤكده، وكنت عايز البطل دا يبقى عنده الحلم بتاع سعد زغلول نفسه"[2].

لكن، هل كان فيلم "البطل" بمثل هذه الأهمية التنظيرية التي يحاول المُخرج إسباغها على فيلمه؟ بمعنى آخر، هل خرج الفيلم في شكله النهائي بمثل هذا الشكل الذي كان يأمله المُخرج؟ وهل استمر على منهاجه الذي اتبعه في فيلمه الأول من الشاعرية في التعامل مع أبطاله من المُهمشين والمطحونين اجتماعيا، أو مُناصرة المرأة في مشاكلها الاجتماعية التي تُعاني منها؟


يدور فيلم "البطل" أثناء اندلاع ثورة 1919م بقيادة الزعيم سعد زغلول، حيث جمعت الصداقة بين النجار "حودة كلاوي"، والبارمان "بيترو غطاس"، وعامل المطبعة "حسن حليم"، وهم جميعا من أبناء الطبقة الفقيرة. كان حودة كلاوي الذي يهوى المُلاكمة ويعمل في ورشة نجارة يعيش مع أمه وشقيقته الشابة "فاطمة". تغويه الخواجاية "غادة عبد الرازق" زوجة الخواجة صاحب ورشة النجارة لمُمارسة الجنس معها، وينصاع لرغباتها، بينما كانت جارته "حنيفة" واقعة في غرامه، وهي ابنة الشيخ الكفيف "عبد البديع" بينما هو لا يستجيب لحنيفة؛ بسبب سعيه لتحقيق بطولة الإسكندرية للمُلاكمة، وتطلعه للصعود إلى طبقة اجتماعية أعلى.

يظن حودة أن البطولة هي جواز مروره إلى هذه الطبقة الجديدة، كما كان من أشد المُعجبين والمُؤيدين للزعيم سعد زغلول ويحلم بلقائه؛ لذلك حينما يراه في أحد المُؤتمرات يندفع نحوه ويصافحه، ويكتمل حلمه في نفس اليوم عندما يشاهد الفتاة الأرستقراطية "ياسمين" تبتسم له، والتي أُعجبت به؛ لسعيه نحو الزعيم، وطموحه للخروج من طبقته عن طريق البطولة. كانت ياسمين ابنة "محمد باشا شفيق" قد فشلت في زواجها مرتين، ونصحها الزعيم سعد زغلول في زيارة لمنزل والدها الباشا أن تقترب من الناس ولا تتعالى عليهم؛ فأنشأت جمعية خيرية؛ لتقترب من عامة الشعب، ووجدت في حودة نموذجا طموحا لهذا الشعب، ورحبت به عندما اقتحم منزلها ليبثها حبه، غير أن اختلاف أسلوب حياة وسلوكيات طبقتها الأرستقراطية عن طبقته الفقيرة حالت بينهما، بينما كان بيترو يعمل بارمان ويهوى الغناء ويمارسه في نفس البار، وعلى علاقة عاطفية بمغنية البار "أوديسا"، ويعيش في نفس الوقت مع أبيه، موظف شركة السجائر، ومُغني البارات السابق الذي كان متزوجا من والدة بيترو التي كانت تعمل كمُغنية في البارات أيضا، لكنها تركت غطاس وبيترو وهربت إلى الخارج، وعاش غطاس وحيدا مع بيترو مُمارسا العشق مع جارته "عديلة" التي سبق لها أن دعت بيترو لدخول شقتها ليلا، لكنه كان مشغولا بإدخال أوديسا لمخدعه، وعندما فوجئ عم غطاس بوجود أوديسا في أحضان بيترو بينما كانت عديلة في أحضانه يقوم بطردهما من الشقة ليلا؛ لأنه لا يحب المسخرة!


أما حسن العامل في المطبعة نهارا، فكان خطيبا لفاطمة شقيقة حودة ويعيش مع والده "عم حليم"، مبيض النحاس"، وكان لديه كابينة على البحر بصحراء شاطئ "أبو قير" يصطاد فيها الساقطات بمُصاحبة حودة وبيترو، حتى تعرف على "نور"، عامل شركة البيرة، والذي قاده للاشتراك في المُظاهرات المُناهضة للإنجليز عقب نفي الزعيم سعد زغلول، ولقى نور مصرعه برصاص الإنجليز على صدر صديقه حسن الذي تغيرت حياته من بعدها؛ ليواصل كفاح صديقه ضد الإنجليز؛ فيشترك في طباعة المنشورات، ويُساهم في توزيعها؛ الأمر الذي قاده للقبض عليه وإلقائه في السجن.

يطمع حودة في الزواج من ياسمين انسلاخا من طبقته، ويشعر بالغيرة من أصدقائها وتحررها الزائد، وتُعاني هي من تصرفاته السوقية، ويفرح حودة حينما يرى "بلليني"، بطل العالم في المُلاكمة، يزور مصر. ينسى ياسمين ويسعى لاستقبال بلليني بالأحضان، ويوافق على لقاء البطل الإيطالي "زفاريللي" في لقاء يُحكمّه بلليني رغم أنه لقاء مُراهنات، لكن بلليني ينحاز لمصلحة زفاريللي رغم تفوق حودة الملحوظ، ويعلن هزيمة حودة الذي قرر قتل بلليني، لكن مُدرب المُلاكمة "فرانك" يمنعه من فعل ذلك وتعهد له بإيصاله إلى الأوليمبياد. يتجه بيترو للعمل مع فتوة بلطجي يعمل لصالح الآخرين، ويصطحب معه حودة مُتنكرين في زي ضباط؛ لاختطاف أحد تجار المُخدرات لمصلحة تجار آخرين، لكن الضباط الحقيقيين يسبقونهم، وهنا يتشاجر حودة مع بيترو الذي يُفاجأ برغبة والده غطاس في الزواج من عديلة، سيئة السُمعة؛ فيترك والده وأصدقاءه وحبيبته أوديسا ويرحل إلى إيطاليا للبحث عن مُستقبل آخر. يستمر حودة في العمل مع البلطجي، ويخرج حسن من السجن ويتزوج من فاطمة شقيقة حودة، ويواصل حسن كفاحه ضد الإنجليز، لكن الكفاح هذه المرة كان كفاحا مُسلحا؛ الأمر الذي أدى لمُطاردته من الإنجليز، بينما يعود بيترو خائبا من الخارج ويصالحه حودة على والده غطاس الذي تزوج من عديلة، ويحضر بيترو مع حودة حفلا راقصا أقامته ياسمين، ويقيم بيترو علاقة مع ليلى صديقة ياسمين، بينما يتشاجر حودة مع أصدقاء ياسمين ويسافر لأولمبياد باريس 1924م، ويصل للدور النهائي، لكنه يرى في الصحف خبر زواج ياسمين؛ مما يؤثر على حالته المعنوية؛ فيلقى هزيمة من بلليني ويعود خائبا يائسا، ويعمل كسائق تاكسي، ويتزوج من جارته حنيفة، ويبدأ في البحث عن حسن الذي اختفى عن أعين الإنجليز في كابينة "أبو قير". هنا تُرسل ياسمين في استدعاء حودة بعدما تزوجت وأنجبت؛ فقد ساءها أن يفقد طموحه نحو البطولة، ويكتفي بالعمل كسائق، وتُشجعه على العودة إلى التدريب خاصة بعدما لقى حسن مصرعه على يد الإنجليز، وترك زوجته فاطمة حاملا. يكتشف حودة أنه مُنذ البداية كان يحب حنيفة، إلا أن محاولته للانسلاخ من طبقته قد جعلته لا يرى هذا الحُب، وهو الكلام الذي جعل حنيفة تفقد الوعي حينما يخبرها به. يسافر حودة إلى أوليمبياد أمستردام 1928م  وينجح في انتزاع بطولة العالم من بيلليني، ويعود لمواصلة حياته مع حنيفة وينجب عدة أبناء، بينما تنجب عديلة أخا لبيترو.


إذ ما تأملنا الفيلم الذي قدمه مجدي أحمد علي للاحظنا أن السيناريو الذي اعتمد عليه يكاد يكون سيناريو مُلفقا من الناحية الفنية، لا مُبرر في مُعظم أحداثه لما يحدث فيه؛ فما هو الغرض الفني الذي يجعل المُخرج يعود بمثل هذه القصة- لثلاثة من الأصدقاء- إلى فترة العشرينيات من القرن الماضي، ولم يُصرّ على الزج بثورة 1919م وسعد زغلول إلى أحداث الفيلم، وما المُبرر القوي الذي قد يجعل ياسمين تعود للاهتمام بحودة وتحثه على العودة لتدريباته من أجل نيل البطولة في المُلاكمة، اللهم إلا أن المُخرج والسيناريست يريدان ذلك؛ كي تكتمل الصورة الجاهزة في ذهنيهما، أي أنهما عملا على ليّ أحداث الفيلم وتلفيقها لمُجرد الوصول إلى هدفيهما الذي يريدانه؟

إن القصة الأساسية هي لثلاثة من الأصدقاء في مُجتمع فقير وطبقة اجتماعية مطحونة، وهذا هو الجوهر الأساس للفيلم، ورغبة أحدهم للقفز اجتماعيا إلى طبقة أخرى مفهومة، كما أن النضال من خلال الصديق الثالث حسن مفهومة أيضا، وكان من المُمكن أن يكون مُناضلا سياسيا في الفترة الآنية لإنتاج الفيلم أو في فترة السادات مثلا، أي أن المُخرج لم يكن في حاجة إلى العودة لعشرينيات القرن الماضي والزج بثورة 1919م إلى الأحداث، كما أن الأجانب الموجودين في الإسكندرية لم يختفوا تماما منها؛ وبالتالي لم يكن هناك داعٍ، أيضا، أو مُبرر للعودة إلى هذه الحقبة الزمنية، صحيح أن المُخرج كان يمتلك من الشاعرية التي تميزه، ومن الأسلوبية ما ساعداه على تقديم فيلمه، لكن الفيلم في النهاية خرج مُصطنعا، وغير مُقنع، بل كان فيه من الخطابية والمُباشرة السياسية ما كان الفيلم في غنى عنها ولا يحتاجها؛ لأن القصة الأساس هي قصة الصداقة التي تربط الأصدقاء الثلاثة، ومُعاناتهم الاجتماعية، والاقتصادية التي يحيون فيها، أي أن السياسة لم يكن لها أي علاقة بالموضوع رغم أن المُخرج كان مُصرّا على الزج بها- ربما لمحاولة اكتساب تعاطف المُشاهد الذي لم يتعاطف، ولم يفهم لِمَ كل هذا الإصرار غير المُبرر- هذه المُعاناة التي يتحدث فيها الفيلم عن الأصدقاء الثلاثة ربما كانت ستصل بسهولة إلى المُشاهد إذا ما أكسب فيلمه المزيد من الواقعية بأن تدور الأحداث في الثمانينيات من القرن الماضي أو في التسعينيات؛ لأن هذا الفقر الذي يعيشونه، وهذه الرغبة في القفز الاجتماعي تليق بأي فترة من الفترات الزمنية لا سيما إذا ما كانت في الثمانينيات التي عانى فيها المُجتمع المصري كثيرا من سياسات السادات وأثرها عليه، وتسييد الكثيرين من الجهلاء وأنصاف المُتعلمين على المُجتمع المصري بالكامل بينما تمت إزاحة الطبقة الوسطى تماما إلى الهامش وتم نسيانها.

السيناريست محمد حلمي هلال

إن فيلم "البطل"، وهو الفيلم الثاني للمُخرج مجدي أحمد علي، كان من المُمكن له أن يكون من الأفلام الجيدة التي تُناقش أثر العديد من السياسات الاقتصادية على المُجتمع المصري وتفكيكه، لكنه انساق مع السيناريست خلف وهم- لا ندري ما سببه- في أن الزج بالسياسة بشكل مُباشر من خلال ثورة سعد زغلول سوف تُكسب الفيلم المزيد من المصداقية والأهمية في حين أن لجوئهما إلى ذلك أدى إلى فقدان الفيلم الكثير من أهميته في مسيرة المُخرج.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد أكتوبر 2022م

من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"

الجزء الثالث من الكتاب "قيد الكتابة"



[1] حلقة مُسجلة مع المخرج على موقع "الجزيرة نت"، وتم تفريغها كتابة بعنوان "مجدي أحمد علي: سينما الواقعية"/ Aljazeera.net/ من دون تاريخ.

[2] انظر المرجع السابق.