الخميس، 8 أغسطس 2019

العذراء التي شاركتني الفراش.. الجهل بالسرد والتأسيس للخرافة

ثمة أسباب قاهرة تجعل كل من يمسك بالقلم من أجل الكتابة يكون مرغما على هذا الفعل الوجودي؛ من أجل تفريغ شحنة انفعالية وثقافية، وصياغة تجربة حياتية، أو مُتخيلة، أو تأمل لموقف من خلال عينين مختلفتين تستطيعان رؤية الأشياء على غير ما تبدو للآخرين؛ ومن ثم يصوغ هذه التجارب في شكل فني يختلف عن الشكل العادي والطبيعي الذي يراه الآخرون، أي أن الفنان يمتلك من الذائقة والثقافة، وتفسير الأشياء والنظر إليها ما لا يمتلكه الغير، ومن هنا كانت موهبة الفن بوجه عام، ومن هنا أيضا كان تميزه على غيره من الآخرين.
لكن، هل كل من يمتلك هذه الخصائص السابقة يستطيع تقديم فنا حقيقيا ولائقا، قادرا على المنافسة مع ما سبق أن أنتجه غيره؟ وهل من الممكن أن نُقدم فنا من دون إتقان- أو حتى معرفة القليل- من قواعد هذا الفن وآلياته، وكيفية صناعته، وتاريخه؛ من أجل الثورة عليه فيما بعد باسم التجريب؟ فالفن يمتلك في مفهومه معنى الصناعة أيضا، وليس الموهبة فقط. وهل الجهل بكيفية بناء عمل فني، أو صياغته من الممكن تعويضه بالموهبة فقط؟
تكتسب مثل هذه التساؤلات وغيرها في ماهية الفن، ومفهومه وصناعته مشروعيتها لتصبح في الصدارة لدى كل من يقرأ رواية "العذراء التي شاركتني الفراش" للروائي السوداني جعفر همد؛ فالقارئ لرواية همد لا بد له من التساؤل: لم فكر هذا الروائي في الكتابة ما دام لا يمتلك لا الحكاية، ولا القواعد الفنية التي تساعده على البناء السردي؟ فالشخصيات لديه تنبع من الفراغ لتتلاشى في الفراغ من دون فهم لِمَ ظهرت هذه الشخصيات، وأين اختفت، وما هو دورها في السرد سوى العبث والمزيد من اللامعنى والإيغال في الخرافة والتكريس لها، وتسيير الحكاية تبعا لرغبة الكاتب من دون احترام أي منطق أو تفكير للمتلقي، فضلا عن لغة سردية قلقة مضطربة، مهلهلة وركيكة الصياغة تؤدي بنا إلى المزيد من الغموض والاضطراب؛ ومن ثم عدم القدرة على فهم أو تلقي العمل.
تؤسس الرواية منذ بدايتها للخرافة والماورائيات بتجلياتهما المختلفة سواء كانت الدينية منها، أو عالم الجن والعفاريت وسيطرتهما على عالم البشر، وامتلاكهما ما لا يمتلكه البشر، والسحر والشعوذة والأعمال السحرية، ليصبح هذا العالم هو متن الرواية التي تنتصر لمثل هذه الخرافات في نهاية الأمر من خلال أسامة الذي يترك منزله طيلة الوقت ليلوذ بالمسجد وينام فيه، بل ويمارس عادته السرية دائما في مرحاضه بعد تعريه تماما، ثم يتوضأ ليؤدي صلاته.
ثمة أصوات غريبة تُحادث أسامة دائما أثناء نومه، بل تجعله يستيقظ من نومه وتترك له المال وهو نائم داخل المسجد، في حين أنه لا يعرف ماهية هذه الأصوات الأنثوية التي تُحادثه وتترك له المال. كما أنه لديه شهوة عالية طول الوقت؛ الأمر الذي جعله حينما جاءت له وصال أمام المسجد راغبة فيه يُضاجعها في الشارع على جدار المسجد، ثم يهرب من المدينة لأن وصال خطيبة صديقه أحمد، وهو يريد التخلص من علاقته بها، لكن تظهر له فجأة الغجرية التي لا نعرف من هي، ومن أين أتت، لكنه يُصادقها وتكون بينهما حياة جنسية وتظل مرافقة له، لدرجة أنه يحكي لها عن مغامراته الجنسية السابقة مع سماح أيضا، وهي صديقة وصال، إلى أن يتم اتهامه فجأة في قضية قتل وصال التي كانت تدعي أنها حاملا منه بسبب المرة الوحيدة التي ضاجعها فيها على جدار المسجد، وتشهد سماح وأحمد- خطيب وصال- ضده.
يسلم أسامة نفسه للشرطة وهناك يتم الاعتداء عليه بالضرب من قبل الشرطة، ولكن يتم إنقاذه فجأة حينما يظهر الضابط إبراهيم إسماعيل العيسى الذي نعرف أنه صديق أسامة المقرب، والذي ينقذه من بين أيديهم، ثم يتفق إبراهيم العيسى مع الغجرية على معرفة ما وراء سماح التي تشهد على أسامة، إلا أن سماح تنقلب بها سيارتها، ولأنها تشعر أنها كانت على شفا الموت تذهب إلى الشرطة وتعترف أنها تدعي على أسامة بالاتفاق مع أحمد- خطيب وصال-، وأن أحمد هو من قتل وصال.
يخرج أسامة من قسم الشرطة ويعود مرة أخرى إلى التزام المسجد، وممارسة عادته السرية في مرحاضه، وتعود إليه الأصوات مرة أخرى، فيلجأ إلى صديقه إبراهيم العيسى الذي يستعين برجل مشعوذ يقوم بالأعمال السحرية ويطلب دم امرأة حائض، ويرفض أسامة الانسياق للرجل المشعوذ؛ ظنا منه أنه على علاقة بالجنية التي كان يعرفها، ويُقرر علاج نفسه بالالتزام بالمسجد والعبادة الحقة، ثم يعمل في شركة لتصميم الملابس النسائية لسيدة اسمها سمر، ثم نكتشف أن سمر هي نفسها الغجرية، التي هي في الأصل الجنية التي كانت على اتصال به، وتلبست سمر التي فقدت عذريتها بعدما سيطرت عليها الجنية وجعلتها تُضاجع أسامة من دون أن تكون في وعيها، ومن ثم يعيشان في تبات ونبات، وينجبا صبيان وبنات!!
هذه الحكاية الصبيانية البائسة هي متن رواية "العذراء التي شاركتني الفراش" التي يشعرنا فيها المؤلف أننا ما زلنا نحيا في عالم سليمان أو مجاهل إفريقيا الوسطى حيث السحر والشعوذة وقدرة الجان والعفاريت على التحكم في مصائر البشر الذين لا حول لهم ولا قوة لدرجة أن الغجرية/ الجنية هي التي افتعلت حادث السيارة بسماح من أجل أن تعترف بالحقيقة!
يبدأ همد روايته بقوله: "بعض الهدوء في كل مكان، إنها الخامسة صباحا موعد صلاة الصبح"، إذا ما تأملنا الجملة الافتتاحية للرواية: "بعض الهدوء في كل مكان" لا بد من التوقف أمامها لإعادة قراءتها مرة أخرى ومحاولة فهمها؛ فالجملة يشوبها الكثير من الارتباك في الصياغة بسبب استخدامه مفردة "بعض" وعودة الضمير على "الهدوء"، فكيف يكون هناك "بعض الهدوء"، أو حتى "كل الهدوء"، لكننا مع بعض التأمل نفهم أن المؤلف يرغب القول: "ساد الهدوء كل مكان" لكنه خانه التعبير والصياغة فجاءت صياغته مرتبكة بمثل هذا الشكل الذي يجعلنا نتوقف عن القراءة لمحاولة استساغة الجملة.
هذا الارتباك في الصياغة والعجز عن تركيب جملة سليمة نراه غير مرة على طول الرواية- التي لا علاقة لها بالرواية- في قوله: "على ناصية الطريق المقابل للمسجد تقف وصال في انتظار أسامة الذي لا بد وأن يمر من هذا الاتجاه وهي تُصر على مقابلته بعد أن أصابها الضجر؛ لعدم رده على الهاتف والتهرب منها، هو وقد يفعل ذلك متعمدا لأنه يخاف الفتنة أو ربما الوقوع ضحية لأنثى تبحث عن إشباع رغبتها وعمن يعنفها حتى تنام"، إذا ما عدنا لقراءة الفقرة السابقة لا بد أن نتوقف أمام قوله: "هو وقد يفعل ذلك متعمدا لأنه يخاف الفتنة" لنتساءل: لم استخدم الكاتب مفردة "قد"؟ وما هو الدور اللغوي أو الأسلوبي الذي من الممكن أن تؤديه هذه المفردة من أجل إيصال المعنى؟ إنه بالفعل يقوم بمثل هذا الفعل، وهو فعل التهرب من الفتاة؛ ومن ثم لا حاجة لنا لاستخدام مفردة "قد"، كما أن قوله: "الوقوع ضحية لأنثى تبحث عن إشباع رغبتها وعمن يعنفها حتى تنام" فيها الكثير من الالتباس، صحيح أني فهمت أن الضمير في "تنام" يعود على الرغبة وليس على الفتاة، لكن الجملة فيها الكثير من الالتباس والغموض الذي يجعل المتلقي غير قادر على تحديد من يعود عليه الضمير- رغبة الفتاة، أم الفتاة نفسها-.
إذا كان الروائي يقع كثيرا في صياغات مرتبكة وملتبسة مما يدل على عدم قدرته على صياغة أفكاره في قالب لغوي سليم؛ ومن ثم يفقد القدرة التواصلية بينه وبين المتلقي الذي لا يفهم بسهولة ما يرغب أن يقوله المؤلف، إلا أن هناك بعض الصياغات التي تُمثل ضربا من الأحاجي التي لا يمكن حلها بسهولة؛ فكل مفردة من مفردات الجملة مفهومة إذا كانت منفردة، لكنها حينما تنتظم في سياق جملة لغوية واحدة تفقد كل المفردات مفهومها ومعناها: "يبدو أنه لا يستطيع الاستمرار هنا بعد أن انقلبت حياته رأسا على عقب منذ أن استمنى بمرحاض المسجد ثم مضاجعته لخطيبة صديقه أحمد وقبل ذلك حين تسلل عبر المحراب ليسرق نقود المؤذن هو لا يعلم شيئا في لحظة لا وعي قرينة من إشارة إليه بمكانه".
هكذا كتب المؤلف جملته: "هو لا يعلم شيئا في لحظة لا وعي قرينة من إشارة إليه بمكانه" وأظن إني قادر على تحدي أي قارئ على أن يعطيني معنى هذه الجملة التي لا معنى لها رغم أنها مكتوبة باللغة العربية، لكن المفردات جميعها فقدت معناها حينما تم صفها إلى جوار بعضها البعض، وهذا دليل على أن الكاتب لا يفقه شيئا من اللغة التي يكتب بها، والتي هي الوسيط الأول والأخير بينه وبين المتلقي لإيصال ما يدور في ذهنه للقارئ، أي أن ثمة العديد من الأفكار التي تدور في ذهن الكاتب، لكنه يعجز عن إيصالها للقارئ من خلال اللغة، ومن هنا تنتفي العملية الفنية بالكامل لانتفاء الوسيط.
هذا الارتباك والركاكة نلاحظه أيضا في قوله: "الساعة الواحدة صباحا يتوقف أسامة أمام منزله يتنهد وهو لا يزال جالسا على سيارة المرأة الغجرية التي تحاول جاهدة معرفة ما حدث". لم لا نعود مرة أخرى إلى تأمل الجملة؟ "في الساعة الواحدة صباحا يتوقف أسامة أمام منزله" إذن فهو قد توقف أمام المنزل، ولم يخبرنا هل توقف أمام المنزل على قدميه، أم كان يستقل سيارة ما، ثم لا يلبث أن يُكمل الجملة بقوله: "يتنهد وهو لا يزال جالسا على سيارة المرأة الغجرية" إن مفردة "لا يزال" تعطينا معنى الاستمرارية، أي أنه كان جالسا، وهناك استمرارية للجلوس، وهذا ما لم نلحظه من قبل في أي مفردة من مفرداته، أي أننا وجدناه فجأة "ما زال" جالسا، ولنلاحظ أيضا أنه "لا يزال جالسا على سيارة المرأة الغجرية"، أي أنه يجلس على السيارة وليس فيها، وهذا يجعلنا نتساءل: متى جاء في سيارة المرأة الغجرية أساسا، وكيف يجلس على السيارة وليس فيها؟ وغير ذلك من التساؤلات التي تشعرنا نحن أنفسنا بالغباء بسبب غباء صياغة المؤلف نفسه التي لا معنى لها.
إذا ما تخطينا هذه الهلاوس اللغوية والأسلوبية لدى المؤلف- والتي يبدو أنها تتناسب مع طلاسم السحر والجن والعفاريت التي يتحدث عنها؛ ومن ثم جاءت لغته في أسلوب عفاريتي- لا بد من تأمل البناء السردي للرواية ومدى خضوعه لمنطقية الأشياء أو عدم خضوعه؛ فالرواية فن له بناء وليست مجرد حكايات في الهواء الطلق يُسيّرها الكاتب كيفما يرغب لأنه يريد ذلك.
يكتب همد في الصفحات الأولى من روايته: "لم يكن يقوى على أن يُحرك ساكنا من شدة النعاس، أسامة، يا أسامة، استيقظ مفزوعا يبحث عمن يناديه، لا أحد ولكن ثمة بعض نقود وضعت قرب رأسه، من فعل ذلك؟ غريب ينظر إلى الساعة في يده إنها الواحدة صباحا سوق البلد مغلق الآن"، وبعد هذا المقطع بصفحتين يكتب: "امرأة تجاوز عمرها الأربعين، على ما يبدو، تطلب من أسامة أن يساعدها، يهرول إليها يأخذ بعض ما تحمل من أمتعة وفي الطريق يستفسرها ليعرف من أي الحواري هي، تلتفت إليه لتخبره أنها من عالم الباطن، أسامة ضاحكا: أين عالم الباطن هذا؟ تنظر إليه قائلة: أقرب مما تظن. يتوجس أسامة منها خيفة، تسكت برهة ثم تضيف: لا تخف، لا شيء غريب فيما أقول ليس كل ضرير أعمى ولا كل ذي بصيرة ينظر ويرى. وكأنها رسالة ما أن تقول ذلك.. ثم تشكر أسامة بحجة أنها قد وصلت إلى مكانها المطلوب".
من خلال هذين المقطعين في بداية الرواية نلاحظ أن الراوي يغرقنا في عالم من الشعوذة والماورائيات التي لا معنى لها، بل يحاول التأسيس لذلك باعتبارنا نعيش في عالم من الجن والعفاريت التي تتدخل في حياتنا كيفما رغبت، بل وتمتلك المقدرة في التحكم في حياتنا حيث نعيش لا حول لنا ولا قوة أمام قدراتهم العجيبة التي لا قبل لنا بها؛ ومن ثم يكون الإغراق في الخرافة هو الهدف الأول من روايته.
كذلك فإن المؤلف يعمل على تسيير الأحداث داخل روايته وفقا لرغبته الشخصية وليس اعتمادا على أسباب منطقية أو مقدمات أو مبررات لما يحدث، بل إن رغبته في أن تكون الأحداث هكذا هي ما تحركه وتحرك الحدث معه: "كل شيء هنا أصبح غير مفهوم، تارة يفقد محفظته وأخرى يهيم بوجهه في ظلام الليل وشيخ علي الذي يشكو غيابه عن المنزل يبحث عن أسباب ذلك وطريقة معالجته على وجه السرعة"، فالمؤلف لم يخبرنا منذ بداية الرواية ولا حتى مع نهايتها عن الأسباب التي تجعل أسامة يترك المنزل دائما ويظل يهيم على وجهه في الليل ليستقر به المقام في نهاية الأمر داخل المسجد كي يمارس فيه تعريه وممارسة عادته السرية في مرحاضه، وهل من الممكن لمن يتلبسه العفاريت والجن- كما يحلو للمؤلف الإيعاز لنا- أن يتخذ من المسجد مكانا دائما لإقامته؟! إن الأسطورة الدينية في حقيقتها تنفي ذلك؛ حيث تؤكد لنا أن العفاريت والجن يخشيان القرآن وبيوت الله؛ ومن ثم فإذا كان أسامة- كما رغب المؤلف أن يؤكد- قد تلبسه الجن فمن غير المعقول أن يكون مكانه الدائم هو المسجد، أي أن المؤلف يتناقض هنا مع نفسه بسذاجة.
في مقطع لاعقلاني ولا يمكن لطفل أن يصدقه يقول جعفر همد: "الساعة التاسعة مساء، على ناصية الطريق المقابل للمسجد تقف وصال في انتظار أسامة الذي لا بد وأن يمر من هذا الاتجاه وهي تصر على مقابلته بعد أن أصابها الضجر لعدم رده على الهاتف والتهرب منها، هو وقد يفعل ذلك متعمدا لأنه يخاف الفتنة أو ربما الوقوع ضحية لأنثى تبحث عن إشباع رغبتها وعمن يعنفها حتى تنام. على باب المسجد يسمع همسا، هي تنادي عليه: أهلا وصال كيف حالك؟ الحمد لله أنا بخير. تصمت تنظر إليه قائلة: لماذا تتهرب مني؟ أسامة: غير صحيح فقط كنت مشغولا. حسنا لا بأس تعلم أنني أشتاقك. تقترب منه ضاحكة تدنو لتهمس في أذنه: أريدك أن تُسكن ألمي وأنت تعلم ذلك. يدنو منها قائلا: في كل مرة أحاول الابتعاد أخاف ألا أتمالك نفسي ولا زلت تُصرين. أُصر لأنني أحبك وأكره أن أكون في حضن شخص غيرك. تدنو من فمه، زفراتها تحرق وجهه وهي تتحدث إليه: حقا أحب أن أكون تحت رحمتك. تضع شفتيها في فمه تُقبله. يمسكها من خصرها وعلى حائط باب النساء الذي على ناصية المسجد يسكت ألمها ويضع في أحشائها ما كانت تتأوه لأجله"!!!
هنا ينتهي المقطع اللاعقلاني المنبت الصلة بالواقع والذي لا يمكن قبوله منطقيا أو تصديقه من قبل طفل صغير، فما بالنا بقارئ مثقف يفهم ويدرك جيدا؟ لذلك كانت علامات التعجب السابقة من عندنا؛ لأنه ليس من الممكن أن يضاجع أحدهم لأي فتاة في الشارع من دون وجود أي ساتر، كما أنه قد حدد الموعد جيدا "التاسعة مساء"، فهل تخلو الشوارع تماما من قاطنيها في التاسعة مساء لتصبح المدينة أو القرية مجرد مكان للأشباح؟! وحتى إذا كان الأمر كذلك وخلت الشوارع تماما من البشر، فهل من الممكن المضاجعة في الشارع من دون أي ساتر؟! كان من الممكن لي قبول هذا المشهد الساذج إذا ما كانا في سيارة مثلا، لكن هكذا في الهواء الطلق وعلى جدار المسجد الخارجي فهو من الأمور التي لا يمكن لها احتمال المنطقية، بل هي مجرد حكايات ساذجة لمراهق ساذج استبدت به الرغبة فتخيل الأمور كما تحلو له من دون أي اعتبار لعقل أو منطق، فالكاتب هنا لا تعنيه منطقية الحدث، ومدى تصديق المتلقي له بقدر ما يعنيه كتابة ما يرد على خياله المريض فقط.
عدم اهتمام الكاتب بالمقدمات السردية التي لا بد أن تؤدي إلى النتائج في حكايته، واستخفافه بمنطقية الحكايات هو ما جعل الغجرية تظهر فجأة من دون أي مقدمات: "روعة الحياة هنا تجعل أسامة في قمة السعادة التي ينشدها غير صوت المرأة الذي يُعاوده كل مساء، لم تنقطع حتى أصبحت حاضرة في فراشه، واليوم ليلة عرسها ربما تضاجع حبها تلامس أشياءه وهي عارية: يا للهول، هل أنت الغجرية؟ نعم. أسامة: سبحان القدير، أنت أجمل على الطبيعة وأحلى حتى من الصورة التي أرسلتها. أنا غجرية من قوم لا يحبون أن يروا نساءهم يقفن على أبواب البيوت في معية رجال. يقاطعها أسامة: آسف تفضلي. تفضلي، يردد ذلك وهو ينظر إلى مؤخرتها وملابسها الشفافة التي تُدلل على أنها جاءت لتمارس الرذيلة". في هذا المقطع السابق ثمة أمور نستطيع أن نُطلق عليه تخاريف ساذجة لكاتب ساذج؛ فالمقطع قد جاء كانتقال مفاجئ من دون مقدمات ولا معنى له، ولعل تأملنا للمقطع مرة أخرى يجعلنا نتساءل: من أين أتت هذه الغجرية التي يتحدث عنها وعمل على إقحامها في النص السردي ليكون لها دور فيما بعد؟ وكيف تكون أحلى في الطبيعة من الصور التي أرسلتها في حين أنه لم يذكرها بكلمة واحدة قبل هذا المقطع؟ أي أن هذه الغجرية التي يدعي أنه يعرفها وسبق أن أرسلت له صور نبتت فجأة من الفراغ لتفرض وجودها علينا من خلال السرد، وأين أرسلت له صورتها في حين أنه يهيم ليلا ويتخذ المسجد مكانا لإقامته؟ أي أنه ليس له مكان محدد للإقامة، ولا يوجد أي ذكر لوسائل اتصالات حديثة على طول الرواية. يبدو الروائي هنا وكأنه إذا أراد شيئا ليس عليه إلا أن يقول له: كن فيكون، من دون اعتراض من المتلقي المسكين، أو محاولة التبرير أو التمهيد، أو التقديم؛ فهو كمؤلف الحاكم بأمر الله في هذه الرواية، وليس من حق أي كائن أن يناقشه فيما يريد أن يفرضه علينا بالكيفية التي يرغبها!
مثل هذه التخاريف السردية التي يحرص عليها جعفر همد تجعله يستنطق الغجرية فيما بعد في أحد الأعراس التي حرصت على حضورها مع أسامة بقولها: "أوَتعلم أنني من الجن الذي يعشق حد الموت؟"، حينما نقرأ هذه الجملة لا بد أن نقول في سريرتنا: "غير ممكن، وهل يموت الجن؟! أتصدق نفسك يا رجل، هل تعتقد أن هذه الترهات بالفعل رواية؟!"، هنا يبدأ السرد ينحو باتجاه قصص الأطفال الساذجة وليس الفن الروائي. إن من أقنع همد بأن ما يصوغه هو فن روائي ظلم الرجل كثيرا ووضعه في مأزق وجودي خطير، ولعل ما يُدلل على أن السرد فعليا بدأ يأخذ اتجاهه للسرد للأطفال ما كتبه: "بعد التحري وتقديم الأوراق للمحكمة استمع القاضي إلى الشاهد واعتراف الجاني فنطق ببراءة أسامة أحمد الحاج من تهمة القتل العمد، امتلأت القاعة بالتصفيق، الكل حضور هنا عدا الغجرية هي فقط التي كان يُمني أسامة نفسه برؤيتها، اليوم هو بحاجة لتكون بجانبه لكن يبدو أن ذلك مستحيل هي لم تحضر وربما عادت أدراجها، يجزم شيخ علي بأنها ذهبت إلى كوكبها.. امرأة بهكذا جمال ليست من أهل الأرض ربما كانت من العالم العلوي أو هي الشيطانة التي جاءت في مهمة ثم عادت".
أظن أن هذا المقطع صالح لنحكيه لأطفالنا عن الغجرية الجميلة التي هبطت من كوكب آخر لتحب أحد الرجال ثم عادت، أو أنها من العالم العلوي الذي لا أفهم ما معناه، لكنه يؤكد بالمقابل أن ثمة عالم سفلي لا أفهمه أيضا، وبما أن هناك العالم العلوي والسفلي والكواكب الأخرى؛ فمن حق المؤلف هنا الإيغال في عالم الوهم والخرافة كيفما شاء؛ ومن ثم يكتب على لسان أسامة: "قديما عندما أكون لوحدي تجتاحني شهوة غريبة يُشل تفكيري على إثرها وتُسلب إرادتي لدرجة أنني أخلع ملابسي أتلذذ وأشعر بالنشوة دون أن تلامس يداي أي شيء بجسدي، شيء خفي كان يحدث وقتها، أنثى في خيالي أو أنها كانت في الواقع لا أعلم، كل ما أذكر حين أفيق إنها كانت تصرخ وترجو أن أترفق بمهبلها، صدقيني، كنت أمارس الجنس مع كائن لا أراه.. كان يُخيّل إليّ أنها تهمس في أذني أو أنها فعلا بجواري. لم أكن أعي كل ذلك إلا بعد أن أفيق وكأنني كنت نائما. أستيقظ لأجد نفسي كما خلقتني يا مولاي. تتعالى ضحكات المرأة الغجرية، ينظر إليها أسامة متسائلا عما بها، هي تقول: لا شيء. تصمت لتضيف: أعجبتني كما خلقتني يا مولاي.. خطؤك أنت يا عزيزي أنك جلبتني إليك، من قال لك نم قبل أن تتحصن"!!
هنا مع نهاية هذه الفقرة بالتأكيد ستتملكنا جميعا دهشة قصوى؛ فالروائي هنا لا يحاول الإيغال في الوهم والماورائيات فقط، بل هو يعمل على التأسيس للخرافة الدينية التي تؤكد أن الإنسان إذا لم يتحصن قبل النوم، أو ممارسة الجنس، أو فعل العديد من الأشياء؛ تتلبسه الشياطين والجن!! ومن ثم يصبح هذا النص الساذج المؤسس للخرافة بمثابة نص توجيهي وتعليمي لمن لا يتحصن بالأدعية والأذكار قبل فعل أي شيء في حياته!! فإذا لم تتحصن سيحدث لك ما حدث لأسامة.
الروائي السوداني جعفر همد
حينما ذهب أسامة إلى الشرطة وسلم نفسه بعد اتهامه في قضية القتل يكتب الروائي: "كانوا يضربونه حد أن الغجرية كانت تصرخ من شدة قسوتهم عليه ثم لولا تدخل إبراهيم العيسى في الوقت المناسب لحدث ما لا يُحمد عقباه بسبب تهور الجنود، أمر العيسى بفك قيد أسامة وإحضاره إلى مكتبه كان ذلك وسط ذهول الكل. سماح تنظر لأحمد وهي تقول: أوتعلم من كان ذلك؟ إبراهيم إسماعيل العيسى أنا لا أعلم متى أصبح ضابطا وكيف حدث ذلك. أحمد: من يكون؟ هذا يا حبيبي لو طلب منه أسامة أن يفقأ عينيك لما توانى عن ذلك.. لهذه الدرجة؟ وأكثر يا عزيزي، أسامة بمثابة شقيقه الأكبر لأنه اعتنى به عندما جاء للمدينة لكي يدرس وقتها لم يكن له مسكن يأويه، والآن يقول لك الجنود إنه من أخطر المتخصصين في جرائم القتل حتى إن وزارة الداخلية لا تستخدمه إلا في الجرائم الأكثر غموضا" في الاقتباس السابق نلاحظ ملاحظتين: الأولى أنه رغم ضرب الجنود لأسامة حتى أنه كاد أن يموت بين أيديهم نجد الغجرية تقف عاجزة عن فعل شيء لأسامة رغم أنها جنية تستطيع أن تحرق مخفر الشرطة، أو تقضي على الجنود أو تفعل من أفاعيلها التي تخص الجن الكثير- بما أننا أمام حياة الجن الذين يستطيعون فعل الكثير مما يعجز عنه البشر- ولكن يبدو أن الروائي نسى أنها جنية في هذا الموقف؛ فوقفت أمام تعذيب وضرب حبيبها عاجزة، والملاحظة الثانية: إن الكاتب يُصرّ على أن تنبع الشخصيات من الفراغ من دون أي تمهيد أو تقديم، أو تاريخ لمجرد أن يحل الموقف الذي وصل إليه في سرده الخائب، وبما أنه وصل إلى هذا المأزق- ضرب أسامة وإشرافه على الموت واتهامه في قضية قتل- كان لا بد له أن يخرج البطل من هذا المأزق؛ ومن ثم لا بد من ظهور شخصية لا علاقة لها بالسرد لأن المؤلف "عايز كدا"؛ فنبتت هذه الشخصية.
هذه الكتابة الصبيانية الساذجة هي ما تجعل سماح فجأة راغبة في الاعتراف على نفسها بأنها شهدت على أسامة كذبا: "سماح في ساحة النيابة وقد غطت ملابسها الدماء، تعرضت لحادث سير أدى إلى انقلاب السيارة التي كانت تقودها ثم ورغم إسعافها إلا أنها لا تزال تعاني من الرضوض والتورم الذي تسبب لها بذعر حتى إنها أصبحت تصرخ ظنا منها أنها ذاهبة إلى الموت.. ثم إنها وقبل ذلك تريد أن تعترف بالحقيقة حتى تُقابل الإله دون ذنوب"!! يبدو لنا الأمر هنا وكأنما هناك طفل يحاول اللهو والكتابة بسذاجة تتناسب مع طفولته وقلة خبرته الحياتية؛ ومن ثم يُكيّف الأحداث حسبما يرغب، وبالتالي كان لا بد من الحادث الذي حدث لسماح كي تعترف.
بالتأكيد تزداد دهشتنا والرغبة في شد شعورنا كقراء حينما نعلم أن حادث السير الذي حدث لسماح كان من تدبير الغجرية التي تنتمي إلى عالم الجن؛ كي تُنقذ حبيبها أسامة؛ مما يجعلنا نتساءل مرة أخرى: ولم لم تتدخل الجنية حينما كاد أسامة يموت بين أيدي الجنود الذين كانوا يضربونه؟!
هذا الهذيان السردي يجعل الروائي المنشغل بالهلاوس وعالم الخرافة والرغبات الجنسية المشتعلة يصل إلى شعوذة سردية تتناسب مع العالم الكارتوني الذي يتحدث عنه: "الأول من فبراير، يلاحظ أسامة أنه أصبح مدمنا على مشاهدة أفلام السحاقيات، يا للهول! وكأنه عاد للمربع الأول حين كان يمارس العادة السرية في التواليت ثم بعد إفراغه لحيواناته المنوية يعود ليندم على ما فعل ثم بعيد عن اللامبالاة التي قد تلازم الفعل عند الإقدام عليه يبقى الخوف من أضرار نفسية أو صحية حاضر لا يفارق مُخيلته. حتى أن الشعور بالذنب أصبح يقتله كلما قام بذلك الفعل وتذكر ما صنع سابقا حتى أنه وعندما ساءت حالته اتصل على إسماعيل وكيل النيابة فقص عليه ما حدث ويحدث. فاستعان إسماعيل بأحد أصدقائه، الذي دلهم بدوره على أحد الروحانيين الذين يعالجون مثل هذه الأشياء.. الشيخ أبو فلجة. يطلب دم امرأة حائض ومبلغا من المال. يبدو الأمر خطير وهو يحدثهم عن امرأة من العالم العلوي تعشق الرجل وأنها لن تخرج إلا بزفارة أنثى من البشر"، هنا يتحول السرد بالكامل إلى شعوذة سردية حقيقية لا علاقة لها بالسرد الروائي بقدر ما لها علاقة بشخص في حاجة إلى إعادة تأهيل نفسي وعقلي يحاول الإغراق في السذاجة والشعوذة والخرافة، بل تصل الخرافة الحقيقية عند نهاية الرواية حينما يكتب: "قرر أن يكتفي بالتقرب إلى الله والإحسان إلى خلقه، أصبح ليلا يناجي ربه، يصلي يُحسن إلى نفسه بالدعاء ثم وحين تشرق الشمس كالعادة يذهب ليباشر عمله الجديد كاتبا لمحتوى الإعلان بإحدى الشركات. العاملة في مجال تصميم الملابس النسائية وهي شركة تترأس إدارتها صديقته سمر التي كان يتلبسها الجن إلى حين خرج وكانت هي الخاسر الأكبر.. فقدت عذريتها برضاها ودون وعي منها حيث أخذها الجن من أهلها وأصحابها وأصبحت هائمة على وجهها تنام في حضن رجل لا تعرفه. الغجرية التي وبعد أن عادت إلى الأرض لم تتذكر شيئا من عالمها الذي جاءت منه إلا الرجل الذي أحبته ولأنها لا تزال كذلك كانت تبحث عنه ثم علمت أخيرا أنه يعمل عندها بالمصنع دون أن يعلم وكان الفضل في ذلك للضابط إبراهيم".
من خلال المقطع السابق وهو المقطع الأخير في هذا المسخ الذي لا يمكن أن يشبه الرواية يؤصل الكاتب ويؤسس تأسيسا حقيقيا للخرافة بتأكيده على أن الجنية هبطت من عالمها إلى العالم الأرضي في شكل جديد وهو سمر لتعيش مع حبيبها الأرضي، كما يُؤكد هذا المقطع على أن الكاتب ما زال يُصرّ على أن يختلق الشخصيات كيفما رغب من دون أي منطق أو مقدمات تمهد لذلك؛ لهذا ظهرت صديقته سمر التي لم نسمع عنها ولم يكتب عنها كلمة واحدة إلا في الصفحة الأخيرة من الرواية، ورغم أنها صديقته إلا أننا نفاجأ بأنها الجنية التي جاءت تبحث عنه ولم تكن تعلم أنه يعمل معها مع وجود الصداقة!
رواية "العذراء التي شاركتني الفراش" للروائي السوداني جعفر همد محض هراء ينشأ من الفراغ ليفضي بنا إلى المزيد من الهراء والفراغ تسبب فيه رغبة ساذجة ومراهقة لأحد الأشخاص الذي يعيش في عالم الخرافة بكل ما تعنيه من تجليات فأراد التأسيس لهذه الخرافة في شكل سرد روائي، ولكن جهله الحقيقي بآليات الكتابة السردية الروائية جعله يكتب هذه المهزلة التي أطلق عليها رواية، والتي لا يمكن لها أن تستحق قيمة الورق الذي طُبعت عليه.


محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد أغسطس 2019م