الأحد، 20 فبراير 2022

العطر الفرنسي.. في انتظار الوهم!

ما معنى أن تؤسس حياتك بالكامل وتوقفها على انتظار حدوث أمر ما في القريب العاجل؛ فتتحول كل مفردات الحياة ومعانيها، وما يحدث فيها إلى محاولة للتكريس لهذا الحدث فقط؟

إن فكرة الانتظار في حد ذاتها هي فكرة قاتلة لمن يقوم بها، لا سيما إذا استحوذت على حياته وظل الشخص المُنتظر لها يدور في فلك تلك الفكرة فقط خارجا من إطار الحياة الواقعية والطبيعية إلى الخيال وما سيحدث في المستقبل من أمور قد تحدث كما تخيلها الشخص، أو لا تحدث مطلقا؛ ليظل الأمر مجرد خيال لصاحبه، لكنه لم يتحقق.

لكن المشكلة الحقيقية هي إذا لم يتحقق الشيء المُنتظر الذي أسس من ينتظره- بناء على انتظاره- حياة كاملة، ومشاعر، وأحداث، وأحاسيس؛ حينها قد يتحول كل هذا الانتظار والخيال الذي عاش فيه إلى كابوس حقيقي ربما أدى به إلى الحياة داخل الوهم والخيال، ومن ثم يخرج من إطار حياتنا الواقعية إلى حياة أخرى تخصه فقط ويعيش فيها وحده؛ فيرى ما لا نراه، ويشعر بما لا نشعر به.

هذه الفكرة القاسية- الانتظار المضفر بالخيال الخصب لما سيحدث في المستقبل- كانت هي الفكرة الرئيسة المُسيطرة على العالم الروائي في رواية "العطر الفرنسي" للروائي السوداني أمير تاج السر؛ حيث يؤدي هذا الانتظار إلى انهيار عالم قائم حقيقي وواقعي، وقيام عالم آخر مفترض وغير حقيقي وإن كان قد سيطر على صاحبه وجذبه إليه من عالمه المحيط ليعيش فيه وحده مصدقا إياه.

نلاحظ من خلال قراءة رواية تاج السر أنها رواية لا تخرج عن الشكل الكلاسيكي للرواية العربية، فلا ألعاب سردية، ولا تجديد في بنية النص، بل هي رواية تبدأ من حدث ما، ثم لا تلبث أن تقدم لنا شخصياتها المتعددة الكثيرة وتعرفنا بهم من أبناء الحي، وتظل تسير في طريقها إلى النهاية- غير المنتظرة- في شكل هو الأقرب إلى السرد الكلاسيكي القديم الذي لا يعيبها بشكل فني؛ حيث كان الروائي واعيا تماما لما يكتبه ممسكا بتلابيب السرد التي مكنته من الوصول إلى النهاية بشكل فيه الكثير من الفنية ما يمنع من السقوط في المباشرة أو الترهلات والزوائد السردية التي قد نراها كثيرا في النصوص التي تعتمد الأشكال الكلاسيكية في السرد.

ربما كان يقين تاج السر بأنه يكتب شكلا كلاسيكيا في الرواية هو ما جعله حريصا على صياغة العديد من الحكايات المدهشة عن شخصيات العمل الروائي؛ الأمر الذي يزيد الشكل طرافة ويجذب انتباه القارئ إلى هذه الشخصيات التي تحدث في حياتها أمور ليست بالمعهودة أو الطبيعية، كما نجح في سوق هذه الحكايات المدهشة عن شخصياته بشكل أقرب إلى التقريرية وكأنه يحكي أمرا عاديا، وإن كانت هذه التقريرية التي تبدو لنا ظاهريا هكذا تحتوي في داخلها الكثير من الدهشة التي لا بد لها من أن توقف القارئ ليتأملها بإعجاب، ومن ثم يكوّن وجهة نظر عن صاحب هذه الشخصية الطريفة المدهشة.

نرى هذه الحكايات المثيرة للدهشة في: "كانت السادسة صباحا، في الواقع، ساعة غريبة، تلك التي اختارها حكيم النبوي لتكون وقتا لاجتماعات مكثفة ستجرى في بيته باستمرار، بعد أن انتهك جرجار قيلولته المقدسة، وأخبره بخبر الفرنسية القادمة للسكنى في حي غائب. إنها الساعة التي حدثت فيها ثورات عظيمة، وانقلابات عسكرية طائشة أيضا. الساعة التي تصفو فيها الأذهان حتى من جريرة التذكر.. الساعة التي يشاهد فيها موسى خاطر، الذي كان يعمل في إحدى الدوائر الأمنية ويتخذ الحي مادة لتقاريره اليومية، راكضا في الأزقة والحفر، في رياضة عنيفة تلهيه عن قراءة النصوص المكتوبة والمسموعة، والمرسومة على الوجوه. والساعة التي انتحر فيها الرومانسي الرقيق طه أيوب، منذ أكثر من سبع سنوات حين اكتشف فجأة أن عرق الأنثى لا يختلف أبدا عن عرق الذكر في جميع مراحل تكوينه وتصببه على الأجساد".

في هذا الاقتباس نلحظ أن أمير تاج السر يحاول إثارة دهشة القارئ من خلال بعض الأحداث؛ فحكيم النبوي حينما يذهب إليه علي جرجار في ساعة القيلولة مخبرا إياه بأمر الزائرة الفرنسية، يخبره النبوي أن يجمع الآخرين من أجل اجتماع يناقشون فيه الأمر في السادسة صباحا، وهنا نرى الروائي يتحدث عن توقيت السادسة صباحا باعتباره توقيتا كونيا حدثت فيه الكثير من الأحداث المهمة في العالم، لكن الدهشة الفنية الحقيقية حينما يذكر الرومانسي الرقيق طه أيوب الذي انتحر "حين اكتشف فجأة أن عرق الأنثى لا يختلف أبدا عن عرق الذكر في جميع مراحل تكوينه وتصببه على الأجساد". هنا يعمل الروائي على التأصيل لشخصياته الروائية بشكل مدهش غير مُنتظر من القارئ، لكن التساؤل هنا: إذا كان الروائي تاج السر يرى أن هذه الدهشة لا بد منها فنيا- وهذا حقيقي- للإحاطة بشخصياته الروائية، فلماذا لم يعمل على تنمية هذه الشخصيات روائيا لتخدم العمل الفني بشكل أكثر فنية؟

إن وجود شخصية ترى أن اختلاف عرق المرأة عن عرق الرجل أمر جدير بأن تنتحر من أجله، كان من الحري بها أن تدفع الروائي إلى المزيد من الحكايات عن هذه الشخصية، أو العمل على تنميتها روائيا، أو أن يكون لها أي دور مؤثر في هذا العمل الفني. لكن أن يذكر الروائي هذه الشخصية في هذا المقطع فقط ثم يتناساها تماما ولا يذكرها مرة أخرى في روايته جعلها مجرد شخصية معلقة في الفراغ كنا في حاجة إلى المزيد عنها أو عدم ذكرها في الرواية مطلقا؛ لأنها لم تُفد أكثر من جذب انتباه القارئ لها جاعلة إياه منتظرا المزيد عنها، وهو ما لم يحدث على طول الرواية.

هذه الدهشة أو الحكايات الغرائبية عن شخصياته الروائية رأيناها في العديد من المقاطع التي حرص عليها تاج السر لتأسيس عالمه الروائي منذ البداية فنقرأ: "تعيس الذي كان اسمه شاكر، واكتسب ذلك الاسم لأنه الوحيد الذي لم يذق ماء زمزم حين أرسله إلى الحي أحد المحسنين واصطف الناس طوابير شرهة ومجنونة لتذوقه أو الاغتسال به"، كما نقرأه في: "فجأة اخترق وقفتنا الأمني موسى خاطر، سمعنا ضجيج دراجته النارية ساخنا، ثم جهازه اللاسلكي، يحكي شفرة عن صيادين سكارى يحلبون تيسا بستة قرون، وعنزة ذات أجنحة سوداء تطير وتحط، ونهر صغير بدأ يتحول إلى بحر".

من خلال هذه المقاطع السردية في بداية رواية "العطر الفرنسي" نلحظ أن الروائي يحاول أن يحيط شخصياته بعالم غرائبي يخص هذه الشخصيات؛ فيكسبها من الثراء الروائي والفني الكثير مما يجعل القارئ منتبها تماما منذ بداية السرد حتى نهايته مع هذه الشخصيات الفقيرة ماديا غير الطبيعية فيما يحدث لها.

يبني الروائي روايته من خلال فصلين رئيسيين، الأول الذي لا يتعدى 14 صفحة بعنوان "حين يأتي خبر ما"، وهو الفصل التأسيسي للعمل الروائي؛ حيث جاء السرد من خلال الضمير الثالث- ضمير الغائب- ونراه من خلال هذا الفصل حريصا على تقديم جميع شخصيات الرواية وما يحيط بهم من أساطير وحكايات، مضفورة في الخبر الذي جاء إلى مبنى المحافظة ويخبر به "مبروك" المسؤول الحكومي على جرجار، فيقول له: "ستأتي الفرنسية كاتيا كادويلي في الأيام القادمة، للإقامة معكم في الحي فترة من الوقت، ضمن دراسة عالمية.. استضيفوها في أي مكان بينكم، وعيشوا حياتكم كما هي".

هذا الخبر المقتضب الذي أخبر به المسؤول الحكومي علي جرجار يمسى صلب الرواية ولبها حتى نهايتها، وهنا يبدأ خيال علي جرجار الخصب في العمل: كيف سيخبر أهل الحي الشديد الفقر بالخبر؟ وما هي البهارات اللازمة كي يضيفها إلى الخبر؟ وكيف سيتقبل أهل الحي هذا الخبر؟ وبالفعل يضيف جرجار بعض التوابل إلى الخبر من خلال خياله الخصب لتكون صيغته النهائية هي: "ستزورنا في القريب العاجل، النجمة الفرنسية كاتيا كادويلي، لتجرب الحياة الشعبية وسطنا، وذلك بخصوص مشروع عالمي كبير يخص الدعاية والإعلان تقوم بالمشاركة فيه، ثم تعود بعد ذلك إلى بلادها، وتذكرنا بالخير. كانت عبارة "تذكرنا بالخير" قد جاءت بعد نحت شديد للذهن وليست مصادفة، إنها تعني أشياء عديدة مهمة مثل أن تجعلنا مشاهير في العالم كله بتوثيقنا في شريط تسجيلي.. ترسل لنا المال اللازم لتطوير الحي ودفن بالوعاته وحفره.. تعتني بكلابنا وقططنا الضالة. تطلب بعضنا للهجرة والإقامة معها في باريس، وربما تحب أحدنا بجنون، وتعرض عليه الزواج. كانت "تحب أحدنا بجنون، وتعرض عليه الزواج" بالذات تخصه هو شخصيا من دون سائر سكان الحي، فقد كان علي جرجار برغم وصوله لسن تسمح لـ"تنقو" بائع الآيس كريم، وعمر الحلاق، وصليحة الممرضة في المستشفى، أن ينادوه يا جدي، ما يزال مقتنعا بأنه صاحب جاذبية لا تقاوم، ويمكن أن يكون العريس المناسب، حتى لرقية الطالبة في الصف الثالث الابتدائي.. وبنات صفها كلهن".

إذن فمن خلال هذا الفصل التأسيسي يحرص الروائي على تقديم لب الحكاية وهيكلها، بل وجميع الشخصيات داخلها، وإن كان يؤخذ عليه ذكر العديد من الشخصيات التي تم ذكرها فقط في الفصل الأول ولم يعد إليها مرة أخرى ليحاول تنمية هذه الشخصيات فنيا وروائيا، فإذا كان قد ذكر من قبل طه أيوب الذي انتحر حينما عرف حقيقة عرق المرأة، فهو قد ذكر أيضا "تنقو"  بائع الآيس كريم، وعمر الحلاق، وصليحة الممرضة في المستشفى الذين لم يعد إليهم مرة أخرى ولم نعرف عنهم أي شيء آخر، وهذا ليس في صالح الأعمال الروائية؛ لأن الشخصية التي يذكرها الروائي في عمله إذا لم يكن لها أي أهمية كي يبني عليها فيما بعد تُعد نبوا ونتوءا في العمل الروائي لا معنى، ولا داعي لوجودها أساسا، وهو عيب فني في بناء العمل الروائي.

بعد هذ الفصل مباشرة يبدأ الفصل الثاني من الرواية وهو الفصل الأخير المستمر معنا في السرد حتى النهاية بعنوان "القصة بلسان علي جرجار"، أي أن الرواية تنبني على فصلين فقط وصوتين مختلفين، الصوت الأول وهو ضمير الغائب، والصوت الثاني وهو ضمير المتكلم على لسان علي جرجار حتى نهاية السرد. لكن إذا ما تأملنا الرواية جيدا لوجدنا أن وجود الفصل الأول الذي ورد بضمير الغائب لم يكن هناك أي ضرورة فنية له كي يأتي بهذا الضمير؛ لأن علي جرجار نفسه كان من الممكن له أن يروي هذا الفصل الذي تم فيه تقديم الحكاية والشخصيات الروائية على لسانه من دون أن يكون هناك أي مشكلة فنية، لكن تاج السر رأى أنه لا بد أن يأتي بهذا الفصل بضمير مختلف لرغبة ما منه غير مفهومة لنا، وإن لم تضر السرد الفني.

يبدأ الحي بالكامل في تجهيز نفسه وانتظار الضيفة الفرنسية بناء على رواية علي جرجار؛ ومن ثم تقوم العديد من المحلات ومنها محل البقالة الرئيسي في الحي بتغيير اسمه إلى اسم كاتيا، بل ويشتري العديد من البضائع التي لا رواج لها في حي غائب ظنا منه أن كاتيا الفرنسية حينما ستأتي ستطلب هذه البضائع التي منها الفوط الصحية التي لا تستخدمها نساء الحي الفقيرات ولا يعرفن عنها شيئا، ويظل جرجار يتخيلها طول الوقت ويرى أنه سيروق لها، بل ويبدأ في تخيل الحكايات التي ستحدث بينهما. يعود جرجار غير مرة إلى مبروك المسؤول الحكومي ليسأله عن تأخر وصول كاتيا، إلا أن مبروك يخبره في كل مرة أن أحد حكماء الدول الإفريقية قد وجه لها دعوة ولبت دعوته؛ الأمر الذي يجعل جرجار يسب كل حكماء الدول الإفريقية الذين يصرون على دعوتها دعوات متتالية تجعلها تتأخر في الوصول إلى حي غائب المنتظر لها، والذي جهز أهله أنفسهم لاستقبال هذه الفرنسية، حيث ستنزل ضيفة في إحدى غرف بيت قارئة الكف حليمة المرضعة.

يؤكد تاج السر من خلال سرده الروائي وبشكل لا مباشرة فيه ومتناسب مع الحدث أن السلطة السياسية كثيرا ما تكون حريصة على إطلاق الشائعات بين المواطنين لأغراض تخصها هي وتعضد من مكاسبها السياسية غير مهتمة في ذلك بالبلبلة التي من الممكن أن تسببها بهذه الشائعات؛ لذلك حينما يموت الأستاذ حكيم النبوي الذي كان هو البوق الأول والأخير لنشر الأخبار داخل حي غائب نرى مبروك المسؤول الحكومي يقول لجرجار: "ومن تظنه مناسبا ليخلفه في تأصيل الإشاعات ونشرها في الحي؟ ابتسمتُ، لكن الحكومي لم يبتسم أو يغير تعابير وجهه، وفي لحظة استغراب شديد تملكتني أخبرني بأن تأصيل الإشاعات ونشرها في الأحياء الفقيرة، مهنة رسمية لدى الدولة، وأن النبوي كان يتلقى راتبا شهريا على ذلك، النبوي ينشرها، وموسى يكتبها تقارير.. وبقية الأجهزة تتصفح التقارير لإجراء اللازم، هل فهمت يا جرجار؟ أنا أخبرك بذلك لأنك صديق.. هل تفهم؟". أي أن بقاء السلطات السياسية معظم الوقت رهين للشائعات التي تطلقها بين المواطنين والفقراء والجهلاء والعوام؛ ومن ثم تكتسب هذه السلطات الفاسدة شرعية وجودها من خلال هذه الشائعات ومن يساعدها من المواطنين الفاسدين الذين يتلقون على هذا العمل راتبا شهريا، ولكن رغم هذه الصداقة الكاذبة التي يدعيها المسؤول الحكومي، مبروك، نراها تختفي تماما ويحاول التنكر منها حينما يتغير الحال ويصبح وزيرا لشؤون الأقليات رغم عدم أحقيته لذلك: "لم يكن ذلك أمرا مستبعدا بالنسبة لمبروك، ولا لأي شخص آخر في بلد أصبح فيها زكريا حنقة ناظر محطة السكة الحديد وزيرا للمواصلات، وكردي الذي كان مشردا يشم البنزين في محطات تموين السيارات، وينام في الأزقة، رائدا بجهاز الأمن العام، والممثل الفكاهي فتحي فتاح سفيرا للبلاد في إحدى دول أمريكا اللاتينية".

إذن فالفساد السياسي يضرب بعمق في السودان، وهذا ما جعل مبروك يتبرأ من معرفته بجرجار حينما يصبح وزيرا لا يناسبه أن يعرف شخصا فقيرا من حي غائب: "قلت لهم: أنا علي جرجار صاحب صيحة التخيل الشهيرة التي يعرفها أي شخص. فلم يعن لهم ذلك شيئا. قلت: أنا صديق الوزير مبروك ويتوقع أن أزوره اليوم، فابتسم أحدهم قائلا: صديقه قبل أم بعد؟ وما الفرق؟ الفرق كبير جدا.. قبل تعني ماضيا سيندفن عميقا، وبعد تعني مصلحة ستتم بين الطرفين لاحقا. هل فهمت؟ وكان صادقا في حديثه، لأنني رابطت أمام مبنى المحافظة حتى خف الضجيج كله، وخرج مبروك برفقة حارسين من ذات شركة لا مخاطر، يضعانه في وسطهما ويتلفتان حولهما في حذر، صحت: مبروك.. مبروك.. سعادة الوزير.. أنا علي جرجار، لكن الوزير لم يلتفت، وكان وجهه منتفخا بعض الشيء، في عينيه طرب ما، وهاتفه المحمول يرن بلا انقطاع في جيبه من دون أن يمد يده ليسكته". هذا هو شكل العلاقات مع السلطة والتي يعمل تاج السر على التعرض إليها بشكل فيه الكثير من الفنية بحيث يكون متسقا مع الحكاية الرئيسية وليس من خلال سرد أو إشارة مباشرة.

ربما نندهش قليلا أو كثيرا من موقف مبروك الذي جابه جرجار به بعدما أصبح وزيرا لا سيما أن جرجار كان مقربا بشكل كبير منه، بل وكان جرجار من الأشخاص القلائل جدا الذين دخلوا "المخزن"، أو الغرفة الخاصة والخفية التي تخص مبروك والموجودة في مكتبة بشكل لا يعرف عنها أحد شيئا: "لمحت عبر الباب نصف المفتوح للخزانة الخشبية، ما بدا لي معرضا نسائيا ممتلئا بالشبق حتى القاع. ثمة قمصان نوم حمراء وزرقاء وبنفسجية، حمالات صدر منتفخة كأنها تحتوي صدورا يانعة، وتفاصيل أخرى لم أحدد معالمها جيدا، لكنني تخيلتها بجدارة. انهزمت في الدومينو خمس مرات وخرجت، وقد صغر الوطن في عيني". يؤكد الروائي أن هذا هو حال السلطات السياسية الفاسدة التي تنتقي الأشخاص لمرحلة زمنية محددة فقط كي تستفيد من خدماتها لهم ثم سرعان ما تلقي بهم إلى أقرب سلة للقمامة متنكرة لهم وكأنها لا تعرفهم مهما عرف عنهم هؤلاء الأشخاص من أسرار؛ فهي لا تهتم لأن أرواحهم في النهاية بيدها هي فقط.

هذه الأمراض الاجتماعية التي تغص بها المجتمعات الفقيرة يحرص الروائي على سوقها بشكل روائي جيد حينما يتعرض لميخا المسيحي ابن حي غائب الذي رفض الهجرة مع أسرته إلى أستراليا، بل وبصق على أوراق الهجرة في السفارة الأسترالية؛ الأمر الذي جعله ممنوعا من دخول الأراضي الأسترالية للأبد؛ لأنه لا يريد أن يترك تاريخه وذكرياته التي عاش من أجلها ويذهب إلى أراض أخرى لا يعرف عنها شيئا ولا تاريخ يربطه بها، ولكن حينما زالت الذكريات والأماكن تماما زال معها تاريخ ميخا الذي بدأ يبحث عن أي فرصة للهجرة؛ لذلك يذهب إلى جرجار ويرجوه أن يتوسط له عند كاتيا حينما تأتي كي تساعده في الهجرة إلى فرنسا، ويجعل تعيس يحدث جرجار باسمه: "يريدك أن تقدمه إلى الفرنسية كاتيا كادويلي حين تأتي إلى الحي.. يريد الهجرة إلى فرنسا.. سيكمل تعلمه آلة الأورج ويصبح عازفا محترفا.. وقاطعته مستغربا، وملتفتا إلى القبطي الذي احمرت إحدى عينيه فجأة، وبدأت قدمه الأخرى تشارك في الاهتزاز: وقبر أبيك ميخائيل دقندس؟ ومقهى روماني اللذيذ؟ وكنيسة العذراء التي شاركت في طلائها؟ وشيخوخة الأب مكارس؟ حدثت تطورات يا أخي. رد القبطي في توتر. تطورات؟ نعم، تطورات كثيرة.. قبر أبي، أزاله السيل الأخير ولم أعثر عليه أبدا.. مقهى روماني اشتراه أحد المستثمرين الأجانب، سيحولونه إلى مصرف إسلامي.. كنيسة العذراء رُفع عنها الدعم البابوي مؤخرا بسبب سوء حالتها.. وغالبا ستهدم هذا العام. والأب مكارس؟ مات بالأمس".

من خلال هذا الاقتباس يؤكد الروائي أن زوال التاريخ أو الذكريات يكون سببا رئيسا في تغيير طريقة التفكير؛ ومن ثم رغب ميخا- الرافض للهجرة- في أن يهاجر إلى فرنسا من خلال الفرنسية المنتظر قدومها. لكن لعلنا نلاحظ أن الروائي أمير تاج السر قد وقع في خطأ كثيرا ما يقع فيه الآخرون حينما يطلقون على المسيحي أو النصراني مفردة "قبطي" التي هي في حقيقة أمرها تخص المصريين القدامى، أو السكان الأصليين لمصر. والقبطي في اللغة هي كلمة يونانية الأصل بمعنى سكان مصر، ويُقصد بها اليوم: المسيحيون من المصريين، باعتبار أن من دان بالمسيحية هم سكان مصر الأصليين ثم دخل عليهم العرب من المسلمين فيما بعد، ولكن كلمة القبطي لا يمكن أن تُطلق على المسيحيين بشكل عام.

يتأثر جرجار كثيرا بحال ميخا ويحاول مساعدته إلا أن كاتيا تتأخر في الوصول؛ فيحاول أن ينقذه مما هو فيه ويفكر أن يستعين بـ"عركي" صاحب البقالة ويجعله يتصل بإحدى الجمعيات الخيرية في السعودية ويخبرهم أن هناك مسيحيا أعلن إسلامه مؤخرا وهو في حاجة كبيرة إلى المساعدة المالية؛ وبالفعل يأخذ ميخا إلى صلاة الجمعة ويخبر المصلين أن هناك مسيحيا يريد أن يعلن إسلامه؛ فيضع ميخا في موقف لا يستطيع التصرف فيه، وبالفعل يهجم عليه المصلون ويلقنونه الشهادة لنرى الديكتاتورية الدينية التي قد تؤدي به إلى القتل لمجرد أنه نطق الشهادتين: "أفلته الإمام، واقترب مني ليهمس لي بضرورة أخذه إلى المستشفى لختانه حتى يكتمل إسلامه، وتدريبه على أمور الدين متى ما تيسر الأمر. كدت أضحك وأنا أتخيل كهلا في الستين، تُجز لحمته التي عاش بها كل ذلك العمر، وأنجب بها أطفالا كبروا، وهاجروا إلى أستراليا، وحين خرجنا ووقفنا أمام المسجد، لنتلقى تبرعات أهل الخير وتهنئتهم ووعودهم بمستقبل جديد لميخا، كما هي العادة في مثل تلك الأحوال، لم يأتنا أحد. قفز الوجهاء إلى عرباتهم وانصرفوا، ليتركونا برفقة رجل من السجل الشرعي، وثق إسلام ميخا، واسمه الجديد على دفتر كبير يحمله، ولوّح له بحد الردة، الذي هو القتل، إذا راودته نفسه بالعودة إلى النصرانية مرة أخرى"!!

هذه الديكتاتورية الإسلامية التي تهدد ميخا بالقتل إذا ما عاد إلى دينه مرة أخرى، أو تأخر في ختان نفسه نراها مرة أخرى في: "قدته إلى بيته الذي لم يكن بعيدا عن بيتي، وهناك وجدنا بابه مكسور القفل، وقد اختفت كل حياته النصرانية التي عاشها لأكثر من ستين عاما. لا صليب.. لا وشاحات.. لا تراتيل، ولا كتاب مقدس. لم يبق شيء من الماضي إذن. لا أدري هل هو الذي قالها، أم أنا، أم لا أحد لكنني تخيلتها. أرقدته على سريره الخشبي المترنح، كأنني أم ترقد طفلها"، هنا يؤكد الروائي على سلطة الدين القمعية على الجميع، بل وأحيانا استخدامه تبعا للمصالح والمجاملات فقط حينما نقرأ بعد موت النبوي وفي عزائه: "المعزين الثمانين هجموا على الولدين وهم يمدون أيديهم بسورة الفاتحة، وكان في وسطهم ملتح، بثوب قصير وصوت جبار، قدموه باسم الشيخ أسامة، وسمعته يصرخ: الغريق شهيد.. المحروق بالنار شهيد.. الساقط من حالق شهيد.. والميت أثناء كتابة الشعر، أيضا شهيد ما لم يكتبه في معصية. وكان موت كاتب الشعر شهيدا، ترفا جديدا أسمع به لأول مرة"، في الاقتباس السابق نلاحظ التجارة بالدين من أجل المجاملات لمجرد أن النبوي مات وهي يكتب قصيدة شعر؛ مما يدلل على فساد الحياتين السياسية والدينية.

يظل جرجار وأهالي حي غائب بالكامل في انتظار كاتيا، ويصطحبه الصبي أيمن داؤود الحضاري- الوحيد من أهل الحي الذي يفهم في الإنترنت- إلى مقهى الإنترنت ذات يوم ويبحث عن كاتيا كادويلي على موقع البحث "جوجل" وهناك يجد ثلاث صور لثلاثة نساء ينطبق عليهن الاسم، إحداهن مغنية فرنسية، والثانية يهودية هاجرت إلى فرنسا وهي كاتبة تناضل من أجل حقوق الفلسطينيين، والثالثة تعمل ممرضة وقد أُطلق عليها لقب الملاك لأنها كشفت غش الأدوية ذات مرة حينما كانت في رحلة إلى إفريقيا، ويطبع الصور الثلاث لجرجار الذي يأخذهن معه إلى بيته ويتخيلهن طول الليل، إلا أنه كان يشعر بميل غير طبيعي لكاتيا الملاك الممرضة، وذات مرة يسأل مبروك المسؤول الحكومي حينما تأخر وصولها بسبب حكماء إفريقيا الذين يدعونها إلى بلدانهم كلما تركت بلدا إفريقيا: هل هي ممرضة؟ فيندهش مبروك ويسأله: كيف عرفت ذلك؛ ليخبره جرجار أنه عرف من شبكة الإنترنت.

يعود جرجار إلى بيته ويتخلص من الصورتين الأخريين ويحتفظ بصورة كاتيا الملاك التي يظل يتأملها ويتخيل معها الكثير من المواقف حتى يقع في عشقها تماما، بل ويذهب إلى أحد ستوديوهات التصوير الشهيرة بألعابها بالصور "فوتوشوب" ويطلب منه أن يصنع له العديد من الصور لكاتيا في كل مراحل حياتها: وهي تبكي، وهي تضحك، وهي في قمة نشوتها الجنسية، صور لها بعد سنوات عديدة، وصور لها وهي أم وغير ذلك، وبالفعل يقوم الاستوديو بتقديم ما لا يقل عن 30 صورة لجرجار تمثل كاتيا في الكثير من الحالات والمواقف: "وبعد عدة أيام سلمني كاتيا الملاك عروسا في ليلة الزفاف، وفي لحظة العناق الحميم، وبعد خمس سنوات من الزواج، وحين تصبح جدة بشعر مشوه كشعر الإثيوبية زهورات. كنت منتشيا بشدة، يدق قلبي بعنف، وأنا أرتب بيتي للحدث الكبير، عقد قراني على الفرنسية حتى لو كانت صورة، حتى لو كانت خيالا. كنت ممتلئا بالعشق حتى القاع، ولم تعد لي طاقة لانتظار أولئك الأفارقة غريبي الأطوار إلى أن يفلتوا المرأة التي انتظرتها زمانا، فأنا الآن أمتلكها.. وأمضي بها لمستقبل جديد". هنا يتحول الأمر بجرجار إلى شكل من أشكال الهوس بكاتيا التي ينتظرها ولم تأت بعد؛ فيضع صورها في كل مكان من البيت، ويتعامل معها باعتبارها حقيقية واقعة وتعيش معه فعليا، ويتحدث معها، ويحبها، ويبادلها الكثير من المشاعر والأحاديث لدرجة أن يتفق معها على الزواج ويلزم بيته برفقة صورها.

هذا العشق والحياة الوهمية مع كاتيا المنتظرة التي لم تصل يستمر في إيغاله وتضخمه داخل جرجار الذي لم يعد طبيعيا: "في اليوم الذي رتبت فيه كل شيء، ولم يتبق على زفافي من كاتيا الملاك سوى عدة دقائق فقط بعد أن تأنقت بأناقتي الزرقاء وارتديت حذاء الباتا، وتعطرت بعطر رائع اشتريته خصيصا، حدث ما لم أكن أتوقعه، ولم يخطر ببالي على الإطلاق.. سمعت طرقا عنيفا على الباب أطار الفرحة من وجهي، ووجه عروسي الجميلة التي كانت أمامي على الكرسي المواجه، تنتظر عقد القران بلهفة، وهي تحدق في الشموع الملونة والزينة الورقية التي علقتها على السقف، وقالب الحلوى الذي اشتريته من حلواني رامونا، وكتبت عليه بخط متعرج لكنه واضح "علي وكاتيا إلى الأبد". حاولت ألا أهتم للطرق وأواصل طقوس فرحي، لكني أحسست أن الباب يترنح ويكاد يسقط، انطفأت تماما، استأذنت من عروسي، وذهبت أستطلع الأمر"!!

إذن فقد وصل الحال بجرجار إلى درجة لا يمكن تصديقها؛ حيث الحياة الموغلة في التوهم وتصديق هذا الوهم والتعامل معه باعتباره حقيقة لا مناص منها: "خمسة أيام مضت على شهر عسلي الذي حرصت على جعله شهر عسل حقيقيا، بلا ظهور لافت للنظر في الحي، بلا رد على كل مكالمة ترد إلى هاتفي الذي كان في معظم أوقاته مغلقا، ولا فتح للباب حتى لو تكسر من شدة الخبط. ونوعا من الرغبة في تغيير المزاج كما يحدث في شهور العسل والحياة الزوجية عموما، ذهبنا أنا وكاتيا الملاك مرة إلى تلك الغرفة المستأجرة في بيت حليمة المرضعة، أخبرت الإثيوبية التي رأتني أفتح الباب، أنني جئت لأضع اللمسات الأخيرة على الحجرة، قبل أن تأتي الضيفة، بناء على تكليف رسمي من المحافظة، وأنني قد أغفو قليلا بها لأن بيتي محاط بعمال يحفرون الأرض ويحدثون ضجة، كنت أكذب حتى لا ينتشر الخبر قبل أوانه، فانصرفت وفي وجهها علامات استفهام كثيرة من كيس ضخم كنت أحمله وفي داخله عروستي اليانعة بشتى أوضاعها، حتى وهي عرقانة، أو تستحم. قضينا النهار بطوله نحتلب المتعة ونضخها، جسدانا يلتحمان ويتفككان، يتفككان ويلتحمان، وأنفاسنا تفور وتبرد، وخرجنا في المساء من أجل الذهاب لعرس شاكر تعيس وسلافة الذي كان مقررا له ذلك اليوم".

الروائي السوداني أمير تاج السر

من الاقتباس الأخير يتأكد لنا أن جرجار رغم انغماسه في أوهامه غير الحقيقية مع عروسه كاتيا، إلا أنه ما زال يدرك أن ما يفعله غير حقيقي، وأن كاتيا مجرد صور يتخيلها وليست حقيقة؛ بدليل قوله للإثيوبية أنه قد جاء من أجل إعداد الغرفة للضيفة التي هي على وشك الوصول، لكن الأمر يتطور معه فيما بعد فيصدق أن كاتيا حقيقة لا يمكن إنكارها، بل ويبدأ في تقديمها إلى أهالي الحي باعتبارها موجودة أمامهم فعليا: "كنا نقترب من نهاية شهر العسل حين اتفقنا أنا وكاتيا في صوت واحد، أن نعلن زواجنا رسميا، نوثقه بكل المواثيق، ونظهر في الحي والمدينة كلها، جنبا إلى جنب كما يظهر الأزواج. كنت معتزما تعميق الصلة ببعض الأسر في الحي، بعد أن انتهت عزوبيتي الطويلة، وفتح بيتنا أمام الضيوف كأي بيت ينفتح. وقد رأت كاتيا أن تستقر لفترة في حي غائب قبل أن نحزم أمتعتنا، ونشد الرحال إلى باريس". إن هذا التصديق يجعله غارقا حتى النخاع في وهمه اللذيذ بالنسبة له؛ لذلك يبدأ في التعامل مع الأمر باعتباره واقعا لا غبار عليه، بل بدأ يظن أن الجميع يرونها كما يراها هو: "أول مكان ظهرنا فيه أنا وحبيبتي كاتيا علنا في الحي، كانت بقالة عركي، أخبرتني برغبتها في شراء بعض الحاجيات لها وللبيت، وأخذتها إلى هناك، كنت أرتدي أناقتي الزرقاء مغسولة ونظيفة وأنتعل حذائي الباتا بعد أن لمعته بالورنيش، وكانت هي بفستان أزرق فريد في التفصيل، ويبرز الكثير من فتنتها، وقد جعلت شعرها مرسلا حتى لامس كتفيها الناعمين. سرنا قليلا في الشوارع وأنا ألاحظ نظرات الحسد والدهشة من كل صوب، وحين وقفنا أمام عركي، سألني بطرف لسانه: ماذا تريد يا جرجار؟ تغاضيت عن عدم ترحيبه، وأشرت إلى زوجتي، قلت: ليس أنا ولكن هي تطلب زجاجة من زيت عباد الشمس، وستة أرطال سكر، وخمس علب تونا، وعلبة كريم نيفيا، ومشطا للشعر بعد أن ضاع مشطها الباريسي في فوضى شهر العسل، ولم تعثر عليه. رأيت عركي يتلفت ببله، ويمد بصره من خلف طاولة دكانه إلى الطريق، ثم يسألني: أين هي يا رجل.. هل جننت؟ بل أنت المجنون.. تقف أمامك أجمل نساء الأرض، ولا تراها؟ صرخت في وجهه. والآن اذهب واحضر ما طلبته كاتيا. كان يرتعد بشدة، يتلفت خلفه في هلع، وهو يصعد سلما خشبيا في البقالة ليأتي بعلبة النيفيا التي لم تكن من ضمن السلع الرائجة في حي غائب، يعود ببقية الأشياء ليقف أمامنا مرتعدا ما يزال، ولاحظت أنه لم يفتح دفتره على اسمي ليسجل المشتريات، كما كان يفعل دائما. قيد الحساب على اسمي.. لماذا ترتجف؟ لا ضرورة لذلك يا جرجار.. هذه هديتي لزوجتك".

يبدأ جرجار في العامل مع الأمر كواقع لا يمكن إنكاره؛ ومن ثم يأخذها إلى مقهى الإنترنت باعتبار أنها ترغب في التواصل مع أهلها في باريس وتفتح إيميلها الإليكتروني، وغير ذلك من الأمور، إلى أن تنتابه مجموعة من الهلاوس يرى فيها أن أهل الحي يتحرشون بها جنسيا وأنها تقبل منهم هذ الشكل من التحرش؛ الأمر الذي يجعله يحبسها في البيت ويمنعها من الذهاب إلى مقهى الإنترنت، بل ويوغر صدره باتجاه الكثيرين من أهل الحي راغبا في الانتقام منهم لتحرشهم بزوجته: "وقفت أمام عركي صاحب البقالة، وأنا أستعر، كان عنده رجل مسن، يسأل عن صبغة بيجون الرخيصة ليفاجئ بها امرأته، حين يعود شابا، أزحته جانبا بلا رحمة، وأخرجت سكيني، ورأيت رعبا في عيني البقال، لم أره أبدا في عيني أحد من قبل، لوحت بالسكين في وجهه، فتفاداها، وهويت على رأسه بالعصا ليخرج الوجع والدم. عثرت على المشرد كنكل ساكن الشوارع رابضا في إحدى الحفر يعبث بهاتفه المحمول، انتزعته من الحفرة، جرحته في ساقيه بالسكين، وحطمت هاتفه، انطلقت في الشوارع، وسكينتي حمراء يقطر منها الشر والدم كنت أبحث عن أيمن الحضاري ولم أجده، وأبحث عن سوكارنو النبوي ولم أجده، ورأيت الحي فائرا عن آخره، بعضهم يهربون من وجهي، وبعضهم يحاولون تهدئتي أو الإمساك بي". هنا وصل الأمر بجرجار إلى الجنون الحقيقي؛ لذلك يلقون القبض عليه ويأخذونه إلى الشرطة، لكن الروائي أمير تاج السر في المشهد/ الصفحة الأخيرة من روايته يفاجئنا بذكاء الروائي الذي يتلاعب بنا بوصول كاتيا الفرنسية الحقيقية في نفس اللحظة التي يتم فيها ترحيل جرجار إلى الشرطة، أي أنها وصلت إلى الحي في اللحظة التي وصل فيها إلى قمة جنونه بسبب حبه لها وانتظاره الطويل لوصولها: "كنت في سيارة مكشوفة لونها أحمر داكن، وقد رسم على جانبها شعار ما. يداي مقيدتان إلى هيكلها بسلاسل من حديد، وجسدي في قمة تهيجه، يناضل، ويناضل، ولكن لا شيء سوى الألم والدم. بجواري الأمني موسى وعشرات آخرون يشبهونه، ويحملون الأسلحة، وأجهزة اللاسلكي التي تنطق بشفرة عن هطول المطر أخيرا، وعودة الخضروات إلى السوق، وسقوط فرعون في قبضة موسى. كان حي غائب ممتلئا بالفوضى، والتساؤل. رأيت لافتات محلات البيع كلها تسقط، وترتفع مكانها لافتات أخرى.. بقالة كاتيا.. ملحمة كاتيا.. مغسلة كاتيا.. إيجار الدراجات.. كاتيا.. خياط الفساتين، كاتيا، وحين عبرنا بجوار بيت حليمة المرضعة، شاهدت زينة من الورد والفوانيس الخضراء معلقة عليه، وسيارة حكومية سوداء تقف فجأة ويهبط منها رجل طويل نصف وجهه مشوه، يرتدي الثوب والعمامة، وبرفقته فتاة أوروبية شقراء، ترتدي فستانا أزرق، ولم أستطع تأملها جيدا، لأن عينيّ أظلمتا، وسقط رأسي على كتف الأمني موسى خاطر".

بهذا الاقتباس الأخير يحرص الروائي السوداني أمير تاج السر على إنهاء روايته القيمة "العطر الفرنسي" بذكاء وتمكن من روائي يعرف جيدا كيف يصوغ عالمه الروائي- حتى لو كان كلاسيكي الشكل والبناء- باقتدار وتمكن؛ فيجتذب القارئ معه حتى آخر سطر من سطورها وقد انغمس فيها وشعر مع جرجار بالحب الحقيقي تجاه كاتيا التي لم تكن سوى خيالا يسوقه لنا الروائي، ونتواطأ معه كقراء على هذا الخيال المحبب لنا إلى أن يصدمنا في النهاية بوصول كاتيا التي كان ينتظرها الجميع بعد تدمير حياة علي جرجار تماما.

إن رواية "العطر الفرنسي" من الروايات المهمة سواء على مستوى اللغة، أو الموضوع، أو البناء، نجح الروائي في صياغتها بشكل يمسك بتلابيب القارئ حتى الكلمة الأخيرة.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد فبراير 2022م

 

 

 

 

الخميس، 17 فبراير 2022

سبقها إليه.. تنويعات قصصية على عالم فقير!

ما الذي يعنيه فقر العالم الإبداعي الذي يلجأ إليه الكاتب من أجل بناء عالمه السردي- الروائي منه أو القصصي؟

إنه يعني أن السارد هنا إنما يُقيد ذاته وخياله ومُفرداته وشخصياته في عالم ضيق لا آفاق خيالية فيه؛ الأمر الذي يجعله حبيس هذا العالم الذي لا يستطيع الخروج من إطاره؛ ومن ثم يكون كل ما يكتبه مجرد تنويعات تكاد أن تكون مُتشابهة- إن لم تتطابق- مع بعضها البعض، فتظهر لنا قصصه ورواياته في نهاية الأمر وكأنها قصة واحدة، أو رواية واحدة وإن حاول الكاتب عرضها من جميع زواياها باختلاف الرؤية ووجهة النظر التي ينظر منها، لكنه في هذا الاختلاف البسيط- من حيث الزوايا- لا يقدم لنا جديدا بقدر ما يحاول الكتابة فقط، لكنه لا يجد من حوله ما هو جديد من أجل تقديمه؛ فيسعى إلى ما سبق أن تأمله من قبل وقدمه، ليعيد فيه التأمل والتقديم مرة أخرى؛ الأمر الذي يجعل الكاتب هنا يُكرر نفسه مرات مُتتالية، غير قادر على الخروج من أسر عالمه الذي بات فقيرا مُفتقرا للخيال والتجديد؛ نتيجة وقوفه في محله غير قادر على إطلاق العنان لخياله الذي هو في حقيقة الأمر أسير لأفكار واحدة تتكرر بتكرر عميلة الكتابة. إن هذا العالم الذي يمتح منه الكاتب دائما قصصه يمكن أن نُطلق عليه: العالم الفقير- إذا جاز لنا التعبير- لأنه هنا لا يمكن له أن يقدم لنا جديدا؛ وهو ما سيدفعنا دائما كلما قرأنا للكاتب قصة جديدة إلى القول: إنها لا تختلف كثيرا عن القصة السابقة، أي أن الكاتب يُعيد سرد نفسه، ونفس شخوصه، ونفس أفكاره مُستخدما نفس الآليات والأدوات عدة مرات من دون اللجوء إلى ما هو جديد.

هذه الأفكار السابقة لا بد لها أن تنثال على ذهن من يقرأ المجموعة القصصية "سبقها إليه" للقاصة نهلة عبد السلام، وهي القصص التي تجعلنا كلما انتقلنا من قصة إلى أخرى لا نجد فيها الكثير من الاختلاف عما قرأناه في القصة السابقة اللهم إلا في العنوان وبعض التفاصيل والشخصيات- التي تكاد أن تكون واحدة في أفكارها وآرائها وردود أفعالها- أي أن القاصة هنا حريصة على طول مجموعتها التي بلغت 275 صفحة، قدمت فيها 25 قصة على تكرار نفسها بشكل غريب كان من الأدعى لها فيه أن تختصره إلى ما دون النصف؛ لعدم الإفادة فيما تكتبه!

ربما كان من اللافت للنظر في هذه المجموعة ما فعلته الكاتبة في افتتاحيتها، أو في الصفحات الأولى منها؛ فقبل قراءة أي قصة من قصصها سنلاحظ وجود صفحة بعنوان "مُقدمة"! وهو الأمر الذي لا بد له أن يثير الكثير من دهشتنا؛ فمنذ متى بات من المُمكن لنا كتابة مُقدمة للأعمال الروائية أو القصصية؟ وما الذي يمكن لنا أن نقوله في مُقدمة لعمل أدبي سردي؟! هل سنقول للقارئ كيف كانت كتابتنا له، أم ما هي المُعاناة التي عانيناها ككتاب من أجل خروج هذا العمل، أم ستكون المُقدمة بمثابة المُذكرة التفسيرية للعمل- تماما كما يكون في القوانين التي هي في حاجة إلى المُذكرات التفسيرية من أجل شرحها؟! إن حرص أحد الكتاب على أن تكون ثمة مُقدمة يكتبها لعمله الإبداعي هو بمثابة الهراء الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الهراء؛ لأن الكاتب لا يمكن له أن يقدم للقارئ أي شيء في مُقدمته التي سيكتبها لعمله الإبداعي؛ لذلك فالأمر يكون مُثيرا للكثير من الدهشة حينما نمسك رواية أو مجموعة قصصية يحرص الكاتب فيها على أن يكتب لها مُقدمة ما.

إذا ما انتقلنا إلى قراءة ما أطلقت عليه القاصة "مُقدمة"؛ سيتأكد لنا ما سبق أن قلناه الآن حينما نقرأ: "إلتقيا.. إفترقا.. في أول المشوار.. منتصفه.. اخره.. وما بين البداية والنهاية سطور أبدا لم تكن لتتشابه.. فلكل ظروفه وملابساته.. وبرغم الريش المقصوص والجناح المكسور.. إلا إننا مازلنا قادرات على التحليق.. فوق أكوام الرماد.. تلك التى خلفتها حرائق الهزائم والخيبات.. على الطيران.. إلى أرض جديدة.. مُحرم على الخوف أن يطأها.. على اليأس أن يسكنها.. فقط الطمأنينة والأمل. لكل من ضاقت عليها الأرض بما رحبت.. في السماء مُتسع لكل الحالمات.. الطموحات.. المتألقات.. فهذا ما يليق بالنجمات. لكل من صادف وألتقيتها.. ربما تشبهك أحداهن".

مع تأمل هذا الحديث الذي أطلقت عليه كاتبته مُقدمة، وهو الحديث الذي حرصنا على نقله كما كتبته الكاتبة تماما في كتابها من دون تصحيح أي خطأ فيه؛ لهالنا ما قرأناه سواء على مستوى المعنى، أو حتى مستوى اللغة التي كتبت بها الكاتبة. من حيث المعنى لا بد لنا من التساؤل: ما معنى هذا الكلام المهوم في الفراغ؟ وهل من المُمكن لنا الخروج منه بجملة مُفيدة نستطيع من خلالها القول: إن الكاتبة تريد أن ترشد القارئ إلى أمر ما، أو أن توصل له رسالة ما؟! وما الغرض من هذا الكلام الذي لا يمكن لنا القبض عليه نتيجة تسربه من قبضتنا وفهمنا كلما حاولنا؟

إن الكاتبة هنا تكتب كلاما مُفرغا ينبت- فعليا- من الفراغ- ولا يمكن أن يؤدي بنا إلا إلى المزيد من الفراغ الذي امتلأت به نفوسنا حينما قرأناه! ما معنى أن نقول: "التقيا، افترقا، في أول المشوار، منتصفه، آخره، وما بين البداية والنهاية سطور أبدا لم تكن لتتشابه"؟ ألا يبدو لنا الحديث هنا كشخص لديه مشاكل هذيان سيكولوجية؛ ومن ثم فهو غير قادر على القبض على الفكرة أو المُفردة أو حتى المعنى الذي يريد أن يوصله لنا؟! حتى على مستوى السرد إذا ما ذهبنا إلى أن هذا الكلام مُجرد مجاز لغوي في شكل قصصى- وهو ما لم تصرح به الكاتبة، بل صرحت بأنه مُجرد مُقدمة- ولكن دعنا نذهب بعيدا بأن هذه المُقدمة مُجرد مجاز لغوي قد يكون القصد منه هنا قصة ما، فهل من المُمكن قبول هذا الهذيان باعتباره قصة قصيرة، أو مُجرد مجاز؟! بالتأكيد لا، وهنا تتبدى لنا الصدمة التي لا بد للقارئ أن يلاقيها مع الصفحة الأولى للمجموعة، وهي صدمة من الأحرى بها أن تجعل القارئ يغلق المجموعة ولا يستمر في القراءة؛ فإذا ما كانت هذه هي الجمل المُفككة التي لا معنى لها التي تبدأ بها القاصة مجموعتها؛ فبالتأكيد ستكون بقية المجموعة مُجرد محض من الهراء الذي يهوم بنا في الفراغ، والقارئ لا يمتلك- في الواقع- رفاهية التهويم في الفراغ-.

أما على مستوى اللغة- وهو ما جعلنا ننقل الاقتباس بالكامل كما كُتب- فهي لا بد لها أن تُصيب القارئ بالهلع من مستوى لغة الكاتبة التي تجعل من يقرأ يظن بأنها لم تتحصل على الشهادة الابتدائية؛ ومن ثم فهي لا تعرف شيئا من اللغة العربية التي من الحري بها أن تجعلها تكتب بشكل سليم، ولنتأمل مرة أخرى ما كتبته، سنلاحظ أن الكاتبة لا علم لها مُطلقا بمواضع الهمزات، ولا تعرف أن ثمة فارق بين ما نُطلق عليه همزة القطع، وألف الوصل؛ ومن ثم فهي تضع الهمزات أينما يحلو لها، وتحذفها وقتما تظن أنها لا بد لها أن تحذفها، كما لا تعرف الفارق بين ألف المد، والياء المنقوطة؛ فنراها تكتب "التى" بدلا من "التي"، فضلا عن النقطتين المُتجاورتين اللتين تحرص على استخدامهما في كل سردها مُستعيضة بهما عن الفاصلة، ولعلها لم تعلم من قبل أن علامات الترقيم في اللغة العربية، أو أن اللغة العربية بكاملها لا يوجد بها هاتين النقطتين اللتين لا معنى لهما مُطلقا فيها، أي أن الصحيح هو الفصل بين العبارات والجمل بالفاصلة فقط، وليس بالنقطتين المُتجاورتين اللتين لجأت إليهما للفصل بين الكلمات وفي أي موضع منها بشكل مجاني.

إذن، لم لا ننتقل من هذه المُقدمة- التي كانت كحجر عثرة أمامنا يفصل بيننا وبين مجموعتها القصصية- ونقرأ قصتها "أصلان وصورة"؟

في قصة "أصلان وصورة" سنلاحظ أن القاصة تعتمد في بناء قصتها على الحوار المكتوب باللهجة العامية أكثر من اعتمادها على السرد- وهو الأمر الذي سنلاحظه في كل قصص المجموعة- أي أن الحوار بالنسبة للكاتبة هو جوهر القصة في النهاية بينما يتحول السرد القصصي إلى مُجرد هامش بعيدا عن المتن الحواري، وهو ما لا يمكن لنا أن نأخذه على القاصة؛ فكل قاص يمتلك من الحرية التي تجعله يبني مشهده القصصي بالكيفية التي يراها مُناسبة له، وأكثرها فنية، لكننا سنلاحظ أن اعتماد القصة على الحوار المكتوب باللهجة العامية قد انزلق بالعمل القصصي في النهاية إلى العادية والمجانية سواء على المستوى الفني، أو على مستوى اللغة التي لا تحمل أي شكل من أشكال الجماليات أو الإيحاءات، أو الإحالات- فضلا عن الجرائم اللغوية التي ترتكبها القاصة؛ نظرا لعدم إجادتها للغة العربية ولا حتى العامية- صحيح أن العمل نراه في النهاية- على مستوى الشكل- بناء قصصيا لا يمكن إنكاره، لكنه مُجرد بناء قصصي شديد الفقر على كل المستويات، ولا يمكن له أن يمنح صاحبته أي ميزة فنية أو جودة، بل يمر علينا كمشهد عادي، أو مقطع من مقاطع الحياة التي لا تتميز عن غيرها بأي ميزة من المُمكن لها أن تجعلنا نتوقف أمامها؛ بسبب افتقاده للجماليات الفنية التي تخلو منها قصص الكاتبة.

تتناول الكاتبة هنا ميرا السكرتيرة الحريصة على أن يبدو عملها مُتقنا ومُكتملا من أجل إرضاء صاحب العمل، وهو الرجل الذي فقد زوجته بعدما أنجبت له ابنته زينة، وهي الابنة التي حرص الأب على العناية بها هو وأمه. تشعر ميرا بالكثير من العشق تجاه صاحب العمل، وهو ما يجعلها تهتم- بالضرورة- بابنته وأمه كذلك، حتى أنها تصاحب أمه حينما ترغب في التسوق وتصبر عليها كثيرا لحين شرائها ما ترغب في شرائه؛ مما جعل الأم تميل إلى ميرا وصحبتها، وتشعر تجاهها بالراحة القصوى، ولأن الطفلة زينة كانت مريضة؛ فميرا تتواصل مع الجدة وتطمئن عليها وتضطر إلى الخروج معها في عطلة نهاية الأسبوع هي والصغيرة لمشاهدة أحد الأفلام وتناول الغداء، كما أنها تشتري هدية للصغيرة. تتعامل الصغيرة مع العروس التي تشتريها لها ميرا باعتبارها شقيقتها الصغيرة، وهو ما يجعلها تطلب من أبيها في الصباح أن يقلي لها البيض رغم أنها تحبه مسلوقا؛ لأن شقيقتها- العروس- تفضل البيض مقليا، وهو الأمر الذي يجعله مُندهشا؛ فتؤكد له الأم أن الفتاة في حاجة إلى شقيقة وأنه لا بد له من أن يتزوج من ميرا التي تميل إليه وتراها الأم مُناسبة له!

صحيح أن هذه القصة هي مُجرد مشهد عادي من مشاهد الحياة التي نراها كثيرا في حياتنا، وصحيح أن الفن لا يمكن له أن يولد إلا من رحم المشاهد العادية التي تحدث أمامنا يوميا، لكن الفارق بين الواقع والفن هو الخيال الذي يجعل من العادي والمُعتاد أمرا غير عادي ولا يمكن اعتياده. هذا هو الدور المنوط بالفن، وهو ما يجعل الحياة بالكامل- رغم عاديتها- عبارة عن لوحة فنية ضخمة؛ فنرى فيما هو مُعتاد ما لم نره من قبل، وننظر إليه نظرة مُختلفة، ولكن كي نصل إلى هذه النظرة المُختلفة التي لا يمكن اعتيادها لا بد لنا من امتلاك مجموعة من الأدوات الفنية القادرة على تحويل المُبتذل إلى ما هو فني، والطبيعي إلى ميتافيزيقي، والقبيح إلى جميل، والمؤلم إلى شجن لا بد من تأمله وغير ذلك الكثير. هكذا هو الفن الحقيقي إذا ما امتلكنا أدواته، لكن القاصة هنا لا تمتلك سوى السرد العادي بلغة مبتذلة، فضلا عن حوار جوهري في البناء القصصي وهو حوار شديد الابتذال في لغته التي تستخدمها القاصة، أي أنها لا يمكن لها أن تحيل هذا المشهد العادي والمألوف إلى شكل فني يجعلنا نتوقف أمامه هنيهة، بل سيمر علينا وكأننا لم نره، أو كأنه لم يكن في الأساس، فضلا عن إمكانية تساؤلنا: وماذا بعد؟

لغة الحوار تلك نلاحظها في: "ماما لا، سيبي البيض أن هأقليه. بس زينة بتحبه مسلوق. وجنى بتحبه مقلي. يعني مش بس هنمشي على مزاج زينة دحنا كمان هنشوف مزاج ست جنى. واضح إني آخر شخص يتعرف على جنى في البيت، ما علينا، ماما. نعم. في سؤال محيرني. دا باينه محيرك أوي، اسأل يمكن أجاوبك وأريحك. مش الطبيعي إن زينة تعتبر جنى بنتها مش أختها؟ مهو الطبيعي برضه إنها ما كانتش تتحرم من أمها قبل حتى ما توعى لشكلها، يا ابني مهما أنا وأنت اهتمينا ودلعنا مش هنقدر نملى الفراغ اللي جواها، بنتك حاسة بالوحدة، محتاجة ونس، أخت تلعب معاها مش بنت تلعب بيها. ياريت كان بإيدي أي حاجة كنت عملتها. الحاجة في إيدك، بس خوفك الزايد على زينة واللي ملوش أي مُبرر هو اللي مخليك مش قادر تعمل، مش قادر تخلقلها حياة جديدة، حياة عادية طبيعية. ماما أنتي قصدك...".

إن هذا الاقتباس الحواري الذي سقناه، وهو الاقتباس الذي انتهت به القصة يُدلل على أن لغة الحوار المُستخدمة مجرد لغة عادية ومُبتذلة لا يمكن لها أن تنشئ لنا بناء فنيا، فإذا ما كانت القاصة تعتمد في الأساس على بناء أعمالها القصصية على الحوار في المقام الأول مُستخدمة فيه هذه اللغة؛ فهي لا يمكن لها بالضرورة أن تقدم لنا عملا فنيا مُتميزا من المُمكن له أن يكون لافتا للنظر أو نتوقف أمامه لبعض الوقت، فضلا عن أنها تقع في الخطأ الفني حينما تلجأ إلى التعليق على ما تكتبه كقولها: "انجذبت إليه، ربما لأنه يشبهها إلا أنها كانت تفوقه قدرة على مداراة أحزانها، اختارت قلبها لتودعه إياها، إنه المكان الأكثر أمانا؛ فما من أحد قادر على كشف سر القلوب إلا خالقها"!

ألا يبدو لنا الأمر كحكمة تسوقها الكاتبة لنا ولم يكن ينقصها في ذلك سوى إصدار صوت مص شفاهها تحسرا؟ إن جملة "إنه المكان الأكثر أمانا؛ فما من أحد قادر على كشف سر القلوب إلا خالقها" التي حرصت القاصة على سوقها لم يكن لها أي داع فني أو غير فني؛ فهي بمثابة التعليق على ما سبق، كما لا يفوتنا صوت الحكمة المُستخلصة منها في النهاية.

في قصة "أكثر من وعاء" تتناول القاصة النظرة الاجتماعية التي ترى أن المرأة التي لا تنجب سوى البنات هي امرأة مُذنبة لا أهمية لها؛ ومن ثم يحق للزوج الزواج بأكثر من واحدة غيرها من أجل إنجاب الذكور رغم أن العلم أثبت أن نوع الجنين يتحدد تبعا للرجل، وليس للمرأة في الأمر شيء. تتحدث الكاتبة عن امرأة حامل للمرة الثالثة وتخشى أن يخبرها الطبيب بنوع الجنين؛ حيث أنجبت من قبل أنثيين وتخاف أن يكون المولود الثالث أنثى أيضا بعدما هجرها زوجها بسبب إنجابها لبنتين من قبل. سنعرف أن هذه المرأة/ سحر كانت من أسرة متوسطة الحال؛ الأمر الذي جعل تعليمها أمرا مُستحيلا؛ فلجأت للعمل في إحدى المحال لبيع ملابس الزفاف، وهو المحل الذي يمتلكه رجل طيب متزوج وأب لأربع بنات، لكنه يعجب بسحر ويطلب أن يتزوجها لتنجب له الذكور، كما نعرف أنها كانت مُرتبطة عاطفيا بمُحاسب يعمل في نفس المحل، لكن ظروفه لا تساعده على التقدم لها وخطبتها. تشعر سحر بالتردد في قبول عرض صاحب العمل عليها بالزواج، لكن أسرتها ترى في الأمر الزيجة المُناسبة؛ فترضخ للأمر بعدما تتأكد أن حبيبها لن يخطو أي خطوة مُستقبلية. تتزوج سحر وتعيش في هناءة مع الرجل لكنها حينما تحبل منه في أنثى يبدأ الفتور يدب بينهما، بل إنه يجافيها، ويصبح بخيلا معها سواء على مستوى المشاعر أو مستوى المال، وحينما تلد له أنثى مرة أخرى يقاطعها ويتركها وحدها مع بنتيها ويمنع عنها المال؛ مما يجعلها تبيع الكثير من مصاغها وما تمتلكه، لكنها الآن حامل للمرة الثالثة وترى أنه من المُمكن له أن يطلقها إذا ما أنجبت فتاة مرة أخرى.

لا يمكن إنكار أن القاصة هنا تتناول إحدى القضايا الاجتماعية المُهمة التي تعاني منها المُجتمعات العربية، لكننا إذا ما تأملنا البناء القصصي الذي تناولت من خلاله هذه القضية سنلاحظ أنها لم تقدم لنا فيه أي جديد، أو ما يمكن أن يجعلنا كقراء نتعاطف مع الشخصية المحورية/ سحر، بل هي تقدم لنا مشهدا عاديا شديد الابتذال، وموغل في العادية، أي أنها لم تستعن بالفن للمرة الثانية من أجل انتشال العادية في الحدث وتحويلها إلى موقف فني يستدعي التأمل والتعاطف معه، بل تستخدم لغة الحوار المُبتذلة أيضا في البناء القصصي وهو ما يضعف القصة فضلا عن أن لغة السرد تكاد أن تكون موغلة في العادية أيضا وربما التفكك أحيانا.

تبدأ القاصة قصتها بكتابتها: "مدام سحر، مدام سحر. آه، نعم. دور حضرتك، اتفضلي. بالكاد كانت تبتلع ريقها وهي في انتظار حكم الطبيب، هذا الذي سيحدد مآلها لنعيم مُقيم أو لجحيم لا رحمة فيه، صامت هو يحرك هذا الشيء على بطنها جيئة وذهابا، لا تفهم شيئا مما يظهر على الشاشة، مرت الدقائق ثقيلة، أثقل مما تحمله من هموم، هم أن يحرك شفتيه بالكلام؛ فخيل لها أن قلبها توقف للحظة ولكنه سرعان ما عاد للخفقان في انتظار المزيد من كؤوس العذابات يرشفها واحدا تلو الآخر".

ربما نلاحظ هنا ارتباكا في تركيب هذه الجملة: "بالكاد كانت تبتلع ريقها وهي في انتظار حكم الطبيب، هذا الذي سيحدد مآلها لنعيم مُقيم أو لجحيم لا رحمة فيه"؛ مما يجعلنا نتساءل: لم حرصت الكاتبة على كتابة "هذا الذي سيحدد" وهو الأمر الذي يؤدي إلى ارتباك الجملة وثقلها في حين أن الصحيح هو: "في انتظار حكم الطبيب الذي سيحدد"؟!

ألا نلاحظ هنا عادية السرد الذي لا يحمل من المُفردات الغنية التي يمكنها الإحالة أو الدلالة على أي معنى من المعاني؟ هذه العادية والابتذال نلاحظه بشكل أكبر في الحوار: "طول عمرك رزقك واسع يا بت. لا ما هو باين يا أخويا. لا والله، دا أنتي أمك دعيالك، الحاج سيد طلب إيدك. طلبها يعمل بيها إيه؟ هيعمل كتير، هيصيغها ويريحها مالشيل والحط ويرحمها مالفرد واللم. لا، أنا عاوزة أتعبها. وهي لسة مشبعتش تعب؟ نصيبها بقى واللي ميرضاش بنصيبه الهم يصيبه. يا عيني عالحكم، إلا الآنسة كام سنة؟ تديني كام؟ أديكي للي يقيمك. تاني، دا متجوز وعندة أربع بنات عرايس. وماله! متجوز واحدة يعني فاضله تلاتة. نعم؟! لا مانتي بتلاتة وتلاتين، خلصينا بقى. دا جواز مينفعش يتاخد كدا قفش، سيبني أفكر. برضه حلو، التقل صنعة، وكل ما نتقل نُجبر أكتر".

إذا كان هذا هو مستوى الحوار في القصة، وهو المستوى الذي تستمر عليه الكاتبة حى نهاية قصتها، فهل من المُمكن لها أن تنقل القصة من مستوى عاديتها وابتذالها وتكرارها بشكل يومي إلى المستوى الفني الذي يجعلنا نتأمل ونتعاطف ونفكر؟ بالتأكيد لا؛ فلغة القص في حقيقتها تحمل الكثير من الأهمية والضرورة اللتين تجعلان من القصة شكلا فنيا، كما أن القاصة التي تحرص على المستوى العادي للحدث تستمر فيه حتى النهاية كما تفعل في مُعظم ما قدمته؛ لذلك نقرأ: "قادتها قدماها لمنزل الأسرة، رمقت طفلتيها بنظرة خائفة من غد مجهول، وأب أفقده عقله طول انتظاره لصبي، كانت مع جميع الصغار في مكان أضيق من أن يتسع للهوهم؛ فجلسوا يتبادلون النكات والضحكات بينما يلقين بالنرد على صفحة السلم والثعبان، حتى اللعب يتأرجح بين صعود وهبوط، وحدها هي عالقة ما بين بين، كسرت والدتها صمتها بالحديث: شكلك تعبان يا حبيبتي، اجمدي كدا، بكره تقومي بالسلامة وكل التعب هيروح. بكره لسة التعب هييجي".

ألا نلاحظ هنا أن انتهاء القصة يكسبها المزيد من العادية، وهو الأمر المُتوقع والطبيعي من القصة التي عمدت الكاتبة إلى كتابتها؟

إن من أهم مُميزات القصة القصيرة هي المُفارقة التي يحرص الكاتب على سوقها في قصته، أو حُسن التخلص الذي قد يحمل للقارئ المُفاجأة التي ترغمه على إعادة قراءة القصة مرة أخرى بعدما يقرأ مُفاجأتها في نهاية الأمر، لكن القاصة هنا لا تحمل أي مفاجآت في قصها على طول مجموعتها، بل يستطيع أي قارئ تخيل ختام جميع قصصها، وهو الختام العادي الذي لا يحمل أي دهشة أو مُفاجأة، كما أننا حينما نتحدث عن اللغة التي تكتب بها القاصة هنا لا نقصد، في الحقيقة، مدى إجادتها للغة العربية من عدم إجادتها- رغم أن الكاتبة لا تعرف العربية مُطلقا- ولا نقصد بها القاموس اللغوي الذي يحمل مُفرداتها الثرية أو غير الثرية، بل نقصد اللغة الفنية التي تصوغ من خلالها لغة القص وهو ما تفتقده القاصة أيضا، وإذا ما كان القص هنا يفتقد للغة الفنية، فضلا عن لغة المُفردات، وابتذال العامية والفصحى- المُستخدمة في السرد- فضلا عن جهلها بالسلامة اللغوية؛ فالقص هنا يتهاوى تماما في القاع؛ ومن ثم لا يحمل أي أهمية تُذكر له.

في قصتها "أكذب حتى إشعار آخر" سنلاحظ- بعدما استعرضنا عالم القصتين السابقتين- أن العالم في هذه القصة لا يختلف كثيرا عن السابقتين، وهذا ما قصدناه في البداية حينما قلنا أن الكاتبة تنهل من عالم واحد لا جديد فيه، بل تأتي القصص كتنويعات مُختلفة على حدث واحد لا يكاد أن يختلف كثيرا، وهو ما وصفناه بالعالم الفني الفقير لدى الكاتبة.

في هذه القصة ثمة عمة تحاول إقناع ابنة أخيها بالزواج من أحد الرجال الذين تقدموا للزواج منها، ولأنها لديها ابن من زيجة سابقة كانت من أحد الثوار في ثورة يناير؛ فإنها تستعرض بشكل سريع علاقتها السابقة به، وحبهما القديم وتعرفها على ذاتها حينما شعرت بالحب تجاهه، ثم لا يلبث ابنها أن يأتيها باكيا من مدرسته لأن أحد زملائه أكد له أنه قد انتقل من مدرسته إلى مدرسة أخرى لقلة المال، وليس لقرب المدرسة الجديدة من بيته، وهنا يظن أن أمه كانت تكذب عليه كثيرا، لكنها تؤكد له العكس فيسألها عن إمكانية زواجها من الرجل الذي تقدم إليها بعدما سمع عمتها تخاطبها في هذا الشأن لكنها تحزم أمرها وتؤكد له أنها لن تفعل، بل ستعيش له!

هذه هي القصة بالفعل، وهي القصة التي كان الحوار فيها المتن الخالص بينما السرد فيها هامشا نادرا تماما. ألا نلاحظ هنا أن الكاتبة تأتي بعالمها القصصي من القصص التي نسمعها من النساء على نواصي الحارات ونميمتهن حول فلانة التي تزوجت، وغيرها التي تطلقت، ولا شيء آخر غير ذلك؟

لعلنا إذا ما تأملنا الحوار لتأكد لنا ما سبق أن ذهبنا إليه من ابتذال لغته التي تمثل لب القصة وقلبها هنا: "هو مالوش آخر يا مريم؟ العمر بيجري وأنتي مُصرة تعيشي في امبارح. وهو ينفع آخرتها أبيع واحد ضحى بعمره مش بس علشاني دا عشانا كلنا؟ متضحكيش على نفسك يا بنتي، دا يا عيني عليه وعاللي زيه راحوا بلاش، وأديكي شايفة الحال سينا زي سونيا. لا، أنا مش معاكي، وحتى بفرض إن كلامك صح مين أولى مني يصون ولا يقدر؟ العيشة غلا وأنتي وابنك محتاجين اللي يراعيكم ويشوف طلبتكم، وتبقي عبيطة لو مستنية الأوهام اللي في راسكم يتحقق عشرها. دي مش أوهام، دي حقوق. بلا حقوق بلا تجارة، جايلك عريس متفصل على ظروفك، زي ما انتي لازمك أب لابنك، هو لازمه أم لابنه، اتسندوا على بعض يا بنتي، اللي بيساعدوكي النهاردا إن كان أبوكي ولا أخوكي مش هيدومولك. بس ابني ما كانش عنده أي أب. على راسي يا ستي، بس أهو أحسن من مفيش خالص، فكري بعقلك شوية، ولا أقولك بلاش عقلك أنتي بالذات، دحنا ياما شوفنا منه. أكتر حاجة وجعاني انكوا كنتوا شايفني صداع علشان بس بعرف أقول لا. متخليني ساكتة بقى، هو قليل علينا لما نلف وراكي في الأقسام ونحفى لحد ما نوصلك؟ يعني وهو أنا كنت باتمسك آداب؟ ما دام بنت وفي القسم يبقى كله محصل بعضه، دا أبوكي كان بيبقى هيروح فيها ومش عارف يودي وشه فين مالناس، وهو رضي بمحمود من قليل؟ شافه من طينتك. عمتي، محمود مفيش حد زيه، وكفاية تقطيم بقى. يا بنتي مش قصدي، أنا بس عاوزة اتطمن عليكي وعلى ابنك، وهاشم حد كويس أوي وابن ناس متضيعهوش من ايدك. غريبة أوي، خايفين ليضيع العريس، إنما حلم عمرنا عادي في داهية. بلا حلم بلا زفت، دحنا في كابوس ميعلمبوش إلا ربنا، طب دا أنا الست الكبيرة مبقتش أأمن على نفسي، خطف وسرقة وقتل عادي جدا، ما هي زاطت بقى وما عادشي ليها كبير. يعني هو كان ليها؟ ليها ملهاش أهو اللي جرى جرى وربنا يستر، المُهم دلوقتي يبقالك أنتي كبير يضلل عليكي ويحميكي، أنتي لسة في عز شبابك، وما شاء الله بدر منور، ريحي قلبنا يا بنتي واكسبي ثواب في أبوكي اللي نفسه يطمن عليكي قبل ما يفوت الدنيا".

تنبني القصة بالكامل على الحوار بمثل هذا الشكل، وهو ما لا يمكن تقبله على المستوى الفني؛ حث تسودها لغة حوار شديدة الابتذال لا يمكن أن تقترب من اللغة الفنية في أي شيء، كما أنها حكاية يومية تتكرر في الأحياء الشعبية، فضلا عن أن الكاتبة لم يكن لديها أي شكل من أشكال الحرص على أن تسمو وتعلو بقصتها العادية جدا إلى المستوى الفني الذي يجعلها حدثا جديرا بتأمله والتوقف أمامه، بالإضافة إلى أنها تتخير أحداث قصصها من بئر واحدة وحكايات مُتكررة تدور كلها في فلك الزواج، والإنجاب، ولا يمكن لها الابتعاد عن هذا الفلك الضيق.

في قصتها "أنف قذر" لا يختلف الأمر كثيرا عما سبق في القصص السابقة، صحيح أن القاصة تتناول إحدى القضايا الاجتماعية التي نراها يوميا في مُجتمعاتنا وهي قضية كذب رجال الدين واحتيالهم وتجملهم أمام الآخرين فقط، لكنها لم تأت بجديد حينما تناولت هذا الحدث؛ فبات شديد الابتذال كما نراه في حياتنا اليومية.

تبدأ القاصة قصتها بأم تحكي لابنتها الصغيرة حكاية الثعلب المكار، ثم لا تلبث أن تفتح التلفاز بعد نوم ابنتها لترى أحدهم يقول في أحد البرامج: "الإشهار شرط أساسي لصحة الزواج، أي حد يقولك غير كدا يبقى مش بس بيتلاعب بيكي، لا دا كمان بيتلاعب بشرع ربنا. حضرتك مُمكن تكون فيه ظروف تمنعه في الوقت الحالي من الإشهار وتوثيق الجواز بالشكل المعروف. يبقى تستنا لما يظبط ظروفه، إنما تجازف بسُمعتها ومُستقبلها دا جنون هي بس اللي هتتحمل عواقبه".

تعود بطلة القصة بذاكرتها إلى حياتها السابقة وكيف انفصل والداها وهي صغيرة وأخذها أبوها إلى بيت زوجته الجديدة، وهو البيت الذي لم تكن تشعر فيه بالراحة، ثم اتصال إحدى صديقاتها بها لأخذها معها إلى أحد الدروس الدينية التي يحاضر فيها أحد الدعاة؛ فتذهب معها لترى شابا أربعينيا يرتدي الجينز ويهتم بالجميع بلباقة. يهتم الشاب بها كثيرا ويتقرب منها ويوظفها في إحدى الشركات إلى أن يطلب منها الزواج السري بسبب أسرته وأولاده، وتوافق بالفعل على ذلك، لكنها حينما تحبل منه ينقلب عليها ويهددها إذا ما نسبت الطفل إليه، ويرحل عنها تاركا إياها. تقطع حبل ذكرياتها ابنتها حينما تخرج من غرفتها: "خرجت لمى من غرفتها، ألقت نظرة على الرجل الجالس خلف الشاشة، ثم أعادت النظر لوالدتها: مين دا يا ماما؟ دا التعلب".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق الذي أنهت به القاصة قصتها سنعرف أن الداعية الذي كان يتحدث بهذا الحديث على التلفاز هو نفس الشخص الذي كان قد تزوجها سرا، وسرعان ما تنكر لها حينما حبلت منه بطفلتها.

إنها قصة يومية نراها في كل مكان، ونعرف أن مُعظم رجال الدين مُجرد نصابين مُتلونين يقولون ما لا يفعلون بل يحاولون التجمل أمام الآخرين فقط، لكن هل أتت الكاتبة هنا بأي جديد سواء على المستوى الفني، أو المستوى اللغوي، أو أي شيء؟ تلك هي المُعضلة الحقيقية فيما تقدمه لنا الكاتبة نهلة عبد السلام.

في قصة "زوجة ترانزيت" تتناول الكاتبة أيضا إحدى المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها النساء في المُجتمعات الفقيرة ومنها مصر، وهي الزواج من الأغنياء الخليجيين الذين يأتون بأموالهم الوفيرة من أجل إغراء الآباء والبنات بالزواج في حين أنه لا يبتغي من وراء ذلك سوى امرأة يمارس معها الجنس لفترة من الزمن ثم سرعان ما يلقيها كنفاية بعدما يدفع فيها مُقابل مُضاجعته.

نهلة عبد السلام

تتحدث الكاتبة عن فتاة تخرجت في جامعتها منذ شهرين، وأنها كانت دائما ما تنفق كل مالها على شراء مُستلزمات الزواج في انتظار العريس المُستقبلي، لكن أمها بدأت في التذمر لجلوسها في البيت من دون زواج وتحدثها دائما عن جارتهما نجلاء التي تزوجت من ثري عربي وتعيش في خير وفير، إلا أن الفتاة تعترض على حديث أمها وتؤكد لها أنها مُجرد زوجة ترانزيت تنتظر قدومه كل عدة أشهر لكنه سرعان ما يعود إلى زوجته وبلده مرة أخرى لينساها. تتمنى الأم لابنتها زيجة شبيهة بزيجة نجلاء إلا أن الفتاة تستنكر الأمر رافضة أن تكون مثلها، لكن في يوم تخبرهم نجلاء أن زوجها قد جاء ومعه رجل آخر يمتلك الكثير من المال ويرغب في الزواج وأنها لم تفكر سوى فيها. ترفض الفتاة بينما تشعر الأم بفرحة كبيرة وتقابله، وسرعان ما يتم الزواج، إلا أن نجلاء بعد فترة تذهب إليهم باكية مُؤكدة أن زوجها قد طلقها حينما علم بحملها، طالبة من جارتها الاتصال بزوجها كي يعلمه بأمر حمل نجلاء، لكن حينما تفعل جارتها تجد أن زوجها بدوره لا يرد على مُهاتفتها له، أي أنه قد تركها بدوره.

إن النهاية التي أغلقت بها الكاتبة قصتها كانت كالعادة متوقعة ومُنتظرة من القارئ؛ مما يُدلل على عادية السرد وابتذاله وافتقاره إلى الفنية. كما نلاحظ من خلال السرد أن القاصة هنا تعتمد على الحكايات العادية التي تلوكها النساء ليل نهار من أجل تمضية وقتهن المُمل بالحديث عن فلانة التي تزوجت وغيرها التي طُلقت؛ فنقرأ في بداية قصتها: "كعادتها تجلس في المُدرج وحدها؛ فهي لم تحظ بصداقة واحدة حقيقية رغم أنها في السنة النهائية، فقط الكثير من الزميلات، الزميلات فقط، بسيطة في مظهرها كما في أفكارها؛ فما ارتادت الجامعة إلا لتضيف ورقة تُعزز بها ملف زواجها، لذا لم تعر اهتماما لاختيار نوع دراستها قدر اهتمامها بنوع خامات مفروشات زفافها. أنهكها ارتياد الأسواق على مدار أربعة أعوام، أنفقت كل ما وسعها ادخاره لشراء مُستلزمات الجهاز، هذا الذي ابتلع كل ما طالته يدها ولم يكن ليترك قرشا واحدا لشراء كتاب".

إذا ما قرأنا هذا الاقتباس الذي تبدأ به القاصة قصتها للحديث عن عقلية هذه الفتاة التي لا يعنيها سوى الزواج كسائر أبطال قصصها، ثم انتقلنا إلى حوار أمها معها: "مش لو كنتي اتنصحتي شوية كنتي اتخرجتي إيد فيها الشهادة وإيد فيها العريس بدل القعدة اللي مش شايفلها آخر دي؟ قعدة إيه؟ دا أنا يدوب متخرجة من شهرين، ثم عريس إيه اللي كنت أجيبه؟ دول شوية عيال بياخدوا مصروفهم من أهاليهم، يعني آخرهم الكام فسحة اللي في أول الفيلم، إنما الرقصة والفستان حلّني بقى أكون اتحللت وأنا مستنياهم".

نقول: إذا ما قرأنا بداية القصة ثم انتقلنا إلى الحوار الطويل النفعي بين الأم وابنتها لتبين لنا أننا نجلس على أحد النواصي بين مجموعة من النساء اللاتي يلكن الحديث لوكا نميمة في الآخرين؛ لذلك لم تكن نهاية القصة التي قرأناها مُفاجئة للقارئ، بل هي النهاية التي كنا ننتظرها منذ البداية حينما تكتب: "انقضى شهر العسل وسافر خاتم سليمان وعادت الفتاة أدراجها، سارت الحياة بشكل يبدو طبيعيا إلى أن دق بابهم بشكل انخلع له قلبها، فتحت؛ فكانت نجلاء باكية العين مُنهارة: جرى إيه؟ أبو عبد الله طلقني. ليه؟ معرفشي، باتصل بيه مبيردش، قولت آجيلك تكلمي جوزك يفهم منه الحكاية، يقوله إني حامل. هاتفت هند زوجها وما من رد، عاودت الاتصال ثانيا وثالثا وعاشرا ليسقط الهاتف من يدها وتنضم للصف".

أظن أن الكاتبة لم تكن في حاجة إلى جملتها الأخيرة "وتنضم للصف" قبل ختام القصة؛ لأننا كقراء نوقن أن هذا ما حدث بالفعل بسبب عدم فنية القصة التي لا بد لها أن تحمل لنا شيئا من المُفارقة التي تفتقدها الكاتبة في قصها.

إن المجموعة القصصية "سبقها إليه" للقاصة نهلة عبد السلام تحمل داخلها أسباب أسباب تقويضها وخروجها عن فنية السرد في القصة القصيرة؛ فالقاصة تمتح أحداث عوالمها من عالم واحد شديد الضيق يدور في فلك واحد لا يمكن أن يخرج عنه، وهي قصص الفتيات والزواج والطلاق، والخيانة، وغدر الرجال- وهو نفس عالم قصتها التي كانت عنوانا للمجموعة، حيث امرأة يتزوج عليها زوجها بعد عمر طويل، وحقدها عليه ثم مرضه وموته الذي سبقها إليه قبل أن تبدي له تشفيها في هذا المرض- وهو الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن الكاتبة تمتلك عالما شديد الفقر، لا مجال للخيال فيه؛ الأمر الذي يفقد القصة الكثير من فنيتها، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ابتذال اللغة- سواء على المستوى العامي أو الفصحى- تكون قصصها التي قدمتها مُجرد مشاهد مُبتذلة للحياة اليومية التي نعيشها، لكنها تفقد أي شكل من أشكال الإبداع أو الفنية، صحيح أنه لا يمكن إنكار أن ثمة حكايات ما في القصص التي تقدمها القاصة، لكنها الحكايات العادية التي من المُمكن سماعها في أي حارة من حواري القاهرة إذا ما ذهبنا إليها للجلوس في الطرقات بجوار النسوة اللاتي يمارسن النميمة على الرائح والغادي، أي أنها غير صالحة للقص بشكل فني ما لم تمتلك شروط فنيتها.

كما لا يفوتنا المذبحة اللغوية التي مارستها الكاتبة في هذه المجموعة، وهي المذبحة التي تكاد أن تجعلنا نطالب بعدم تخرج أي طالب من الجامعات إلا بعد إجراء اختبار لغوي ليقيس مستوى إتقانه للغة العربية أولا؛ فالنسبة الغالبة من المُتخرجين الحاملين لشهادات جامعية لا يعرفون الكتابة بالعربية- ليس على مستوى السلامة اللغوية فقط أو النحو، بل على مستوى الشكل اللغوي أيضا- وهي الأخطاء التي لا يمكن أن يقع فيها الطالب في المرحلة الابتدائية، ولعل الكاتبة هنا قد وقعت في ما لا يعد ولا يحصى من أخطاء؛ ما يجعلنا نظن أنها لم تتحصل على أي شهادة تُتيح لها معرفة العربية من الأساس، فإذا كان الكاتب جاهلا بلغته، فكيف له أن يلجأ للكتابة في حين أن اللغة هي الأداة الوحيدة والأولى بالنسبة له من أجل إيصال أفكاره ومشاعره؟!

كما أن دور النشر تتحمل قدرا ليس هينا من المسؤولية مع الكاتب في هذه الجريمة؛ فإذا ما كان الكاتب جاهلا باللغة؛ فعلى دار النشر أن تدفع بالكتاب إلى التصحيح قبل طباعته، ولكن معنى أن يصدر كتاب بمثل هذا الاهتراء اللغوي؛ فهذا يعني أن الدار لم تلق أي نظرة على ما دفعته الكاتبة إليهم، بل طبعوه من دون قراءته واكتفوا بما قدمته إليهم الكاتبة من مال من أجل هذه الطباعة، أي أن دار النشر هنا مجرد سوبر ماركت فقط.

إن الكاتبة هنا لا علم لها مُطلقا بأي من علامات الترقيم في اللغة العربية، حتى أننا نادرا ما رأينا سطرا واحدا في المجموعة قد انتهى بنقطة في نهايته، كما أنها تستخدم النقطتين المُتجاورتين بشكل مجاني بديلا عن الفاصلة، ولا علم لديها بأماكن أي من الهمزات في اللغة؛ فنقرأ على سبيل المثال: "إنتظار" بهمزة القطع، و"أسف" بدلا من آسف، و"ألتحقت" بهمزة قطع، و"إما المُستقبل" بدلا من "أما المستقبل"، و"بإبنته" بهمزة قطع، و" إداب" بدلا من "آداب"، و"أبه" بدلا من همزة المد "آبه"، و"إلتفتى كما شئتي" وهي هنا ارتكبت العديد من الأخطاء بوضع همزة قطع في بداية الكلمة، وحذف الياء المنقوطة في التفتي، ووضع ياء في نهاية "شئت" بدلا من الكسرة، وقولها: "تفهم شيء" بدلا من "تفهم شيئا"، كما أنها تعتبر جميع حروف الجزم مُجرد حروف للزينة فقط، أو أنها حروف غير عاملة وبالتالي لا يمكن لها الجزم؛ فنقرأ: "لم تلتقي" بدلا من "لم تلتق"، و"لم تدري"، بدلا من "لم تدر".

واستخدامها صيغة المُفرد بدلا من صيغة المُثنى أو الخلط بينهما في "عيناه حائرة" بدلا من "حائرتان"، و"عينيه تحمل" بدلا من "تحملان"، وكتابتها "يضحى طفل" بدلا من "طفلا"، و"حملها أبيها" بدلا من "أبوها"، وكتابتها "تليق بيها" بدلا من "بها"، و"لأيا" بدلا من "لأي" مُتجاهلة في ذلك حرف الجر، و"بملأ" بدلا من "بملء"، و"ثورت" بدلا من "ثُرت"، وكتابتها "لأسوء" بدلا من "لأسوأ"، و"جأها" بدلا من "جاءها"، و"من عشرون" بدلا "من عشرين"، وكتابتها "الله وأعلم" بدلا من "الله أعلم"، وجملتها المُدهشة التي تستخدم فيه أسماء الإشارة بشكل غريب: "في الصيف القادم لن ترى في حجرتها هذا الجبل القائم، تلك الذي يوشك أن يصطدم بالسقف"!

إن الخطأ في استخدامها لأسماء الإشارة كاد أن يغطي المجموعة بالكامل مثل: "جالسة هي على الأريكة، تتوتر ملامحها من حين لآخر، تصم أذنيها بكفيها، تلك الطنين يجعلها على حافة الجنون"، أو هذه الجملة التي لا بد من تأملها جيدا؛ حيث سنسوقها بكل أخطائها "أستقبل والدها وأخيها أبو الفضل هذا الاسم الذي ما لبثت أن سمعته أول مرة حتى ضحكت حد البكاء.. لا إستهزاءا منه وإنما سخرية من تلك الرابط بين اسمه وما سيسديه من معروف لها"؛ مما يُدلل على أن الكاتبة نهلة عبد السلام من الأجدى لها أن تنسى أمر الكتابة الأدبية تماما، وتتجه مُباشرة إلى أي معهد أو مدرسة لتعليم اللغة العربية أولا؛ فإذا ما أتقنتها تبدأ مرة أخرى في مُمارسة الكتابة ثانية.

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عدد ديسمبر 2021م.

 

 

 

 

 

الاثنين، 7 فبراير 2022

داود عبد السيد: فلسفة السينما

المُخرج داود عبد السيد
كما جاء مُعظم مُخرجي الواقعية الجديدة من قلب السينما نفسها بصناعتهم للأفلام التسجيلية قبل عملهم في مجال السينما الروائية الطويلة؛ راغبين، في ذلك، تغيير وجه السينما المصرية وما تقدمه من أفلام تغييبية، آملين في التعبير عن الواقع وما يعاني منه البسطاء من الناس، كان داود عبد السيد، كذلك، من هؤلاء المُخرجين الذين قدموا رؤاهم السينمائية في شكلها التسجيلي قبل التفكير في تقديم أفلامه الروائية الطويلة.

تخرج داود عبد السيد في المعهد العالي للسينما في نفس العام الذي تخرج فيه المُخرج خيري بشارة 1967م، وعمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج كمال الشيخ في فيلمه "الرجل الذي فقد ظله" 1968م، ثم مع المخرج ممدوح شكري في فيلمه "أوهام الحُب" 1970م، والمُخرج يوسف شاهين في فيلم "الأرض" 1970م، أي أنه لم يفكر في صناعة فيلمه التسجيلي الأول الذي يقدم من خلاله رؤيته السينمائية- وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم- إلا في عام 1976م بعد تسع سنوات من تخرجه في معهد السينما وعمله كمُساعد مُخرج في ثلاثة أفلام سينمائية.

الفنان التشكيلي حسن سليمان

لم يحب عبد السيد عمله كمُساعد مُخرج مع غيره من المُخرجين؛ ولعل هذا هو ما دفعه للتفكير في صناعة فيلمه التسجيلي الأول، وفي هذا الأمر يقول: "لم أحب مهنة المُساعد، كنت تعسا جدا وزهقان أوي، لم أحبها، إنها تتطلب تركيزا أفتقده، أنا غير قادر على التركيز إلا فيما يهمني جدا، عدا ذلك، ليس لدي أي تركيز"[1]، أي أنه لم يجد نفسه إلا فيما يمثل رؤيته السينمائية الخاصة، وليس ما يمكن أن يمثل رؤية غيره من المُخرجين؛ لذلك بدأ التفكير في صناعته سينماه التي تخصه وحده.

مثل غيره من المُخرجين الجُدد الذين مثلوا اتجاها خاصا في السينما المصرية، فيما بعد، رغب عبد السيد أن يُعبر عن رؤيته للواقع وللسينما من خلال منظور مُختلف يخص ثقافته وحده، مُخالفا في ذلك الاتجاه السائد في السينما المصرية، وهو الاتجاه الذي يرى أن الإلهاء والتسلية والتغييب عن مشاكل الواقع هم أفضل السُبل من أجل تقديم سينما ترفيهية لا يعنيها ما يدور حولها، بقدر ما يعنيها أن تكون مُنكفئة على ذاتها وعالمها من دون التشابك مع الواقع المصري الحقيقي- أي أن مُعظم صُناع السينما في هذه الفترة كانوا يرون أن السينما مُجرد فن ترفيهي لا يعنيه ما يدور في المُجتمع المصري سواء على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي؛ ولذلك ابتعدوا في مُعظم تجاربهم السينمائية في السبعينيات من القرن الماضي عن معالجة هذه الأمور أو مُجرد التعرض لها بجدية، وفضلوا على ذلك أن يعملوا على المزيد من إلهاء المُشاهد في سينما لا تخصه، ولا تقدم له شيئا مُهما؛ وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط السينما المصرية، في هذه الحقبة الزمنية، إلى الحضيض؛ فقدمت أضعف أفلامها من الناحية الفنية.

الفنان التشكيلي راتب صديق

جاء داود إلى السينما من خلال هذا الواقع السينمائي الضحل؛ ولأنه من المُخرجين الذين عاشوا صخب الأحداث المتواترة منذ 1952م بثورتها العسكرية، والحقبة الناصرية ذات المد القومي، ثم الهزيمة العظمى والانكسار في 1967م، ثم فترة السادات الاستهلاكية التي أدت إلى المزيد من الاندحار واليأس للمواطن المصري، والتي زادته فقرا على فقره، فضلا عن شيوع الفساد في كل المجالات، ثم انتصار 1973م الذي تلاه مُعاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام التي زادت المصريين- لا سيما المُثقفين منهم- قنوطا ويأسا وانكسارا على كل المستويات. نقول: إن عبد السيد كان ابن هذه الأحداث الصاخبة المتواترة التي جعلته- هو وغيره من المُثقفين والمُخرجين- يتأملون الواقع وما يدور فيه عن كثب من خلال ثقافتهم التي استقوها؛ ومن ثم كانت لديهم الرغبة في إعادة ترتيب هذا الواقع؛ لفهم آلياته، وما ذهبت إليه الأحداث، وما يمكن أن تؤول إليه. هذا التأمل جعله يقدم فيلمه التسجيلي الأول "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" 1976م الذي لم يعمد فيه إلى "التسجيل المُباشر للواقع الذي يريد أن يلقي بالضوء على سلبياته، وإنما يعمد إلى التناقض الكامل بين شريط الصورة والصوت؛ فأنت تسمع صوت "الرجل الحكيم" يتحدث بطريقة الخطاب الرسمي خلال السبعينيات. يبدو في ظاهره بليغا مُؤثرا، لكنه في أعماقه يُخفي قدرا مُفزعا من الجهل بحقيقة الواقع أو تجاهله، فكل وصايا هذا الرجل الحكيم تدعو إلى أن نترك القرية على حالها، بينما ترى بعينيك على الشاشة هذه الحال التي لا تليق بالحياة الإنسانية؛ لذلك فإن الفيلم يريد- من خلال الوعي بجمالياته- أن يحرضك على أن تسعى إلى إصلاح هذا الواقع أو تغييره، من خلال تغيير السياق الذي صنعه"[2].

الناقد محمود الغيطاني والمخرج داود عبد السيد

إذن، فلقد كان المُخرج مُشتبكا مع قضايا مُجتمعه، راغبا في تصحيح الكثير من الأوضاع التي انقلبت إلى فوضى حقيقية بعد العديد من المُمارسات السياسية والاقتصادية التي مارستها الأنظمة السياسية؛ مما ترك بأثرها السلبي على المُجتمع المصري، وهو من خلال هذا الفيلم يؤكد أن السينما- التسجيلية منها والروائية- ليست مُجرد فن ترفيهي يعمل على تغييب الوعي والانسلاخ عن قضايا الواقع، بل هي فن لا بد له من الاشتباك ونقاش الأزمات التي تمر بها المُجتمعات من أجل محاولة إيجاد حلول لها، وإلا انهار المُجتمع بالكامل إذا ما استسلم لأزماته.

في عام 1979م يقدم عبد السيد فيلمه التسجيلي الثاني "العمل في الحقل" عن الفنان التشكيلي حسن سليمان و"العمل في الحقل هو اسم لوحة تشكيلية للفنان الكبير حسن سليمان، وهي تُصور بقرتين تجران عربة "النورج" الصغيرة في عملية درس القمح. حركة النورج في دائرة مُغلقة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد في دورة لا نهائية، نراها أيضا في السواقي القديمة، ونعرفها في دورة الشمس والكواكب، وتعيشها حياة الكائنات ومنها البشر؛ حيث تهدف الحياة في جوهرها للاستمرار من أب وأم إلى أبناء يعيدون سيرة الآباء والجدود"[3]. من خلال هذه اللوحة وغيرها من لوحات الفنان التشكيلي حسن سليمان، ومن خلال تأمل عبد السيد لهذا العالم الفني استقى فيلمه الجديد مُطلقا عليه اسم لوحة سليمان نفسها؛ حيث قدم عالما فنيا يهتم بما يفعله الفنان محاولا تأمل هذا العالم.

فيلم الصعاليك

يقول الناقد أحمد يوسف عن هذا الفيلم: "في "العمل في الحقل" تجربة فريدة في عالم الفيلم التسجيلي؛ فهو للوهلة الأولى يبدو كأنه يُحاكي الأفلام التسجيلية التي تحصر نفسها في دائرة الحديث عن لوحات تشكيلية لفنان بعينه- هو هنا الفنان حسن سليمان- لكن الفيلم في جوهره رحلة في وجدان ووعي الفنان حسن سليمان، بل في وجدان ووعي الفنان داود عبد السيد نفسه. (إن هذه الحالة من التوحد بين شخصيات الفيلم وبين صانعه هي إحدى سمات السينما المصرية الجديدة، لكنها سوف تصبح أقوى عناصر داود عبد السيد الجمالية التي تمنح أفلامه حرارة وصدقا)، وكما لجأ داود عبد السيد إلى التناقض بين شريطي الصورة والصوت في "وصية"، فإنه يصنع هنا تقابلا بين لوحات الفنان حسن سليمان وعالمه الفني من ناحية، والواقع الذي استمد منه الفنان مادته من ناحية أخرى، أو التقابل بين "الأتلييه" المُغلق، والحياة الحقيقية خارجه. كان إذن طرفا التقابل عنده (وسوف يستمران كذلك) المُثقفون والبسطاء، أو الفن والحياة، طرفان يخوضان دائما صراعا جدليا، ولنتأمل كيف يشير الفيلم إلى أن الفنان حسن سليمان في كهولته ووحدته وابتعاده عن الحياة قد هجر موضوع "العمل في الحقل" الذي كان أثيرا عنده في شبابه؛ ليختار موضوع البحر مُترامي الأطراف، فكأن داود عبد السيد يلخص، في بلاغة شاعرية، كيف يمكن للفنان أن يحمي نفسه من الانزلاق إلى مأزق الوحدة والتشاؤم بأن يظل مُؤمنا على الدوام بضرورة "العمل في الحقل"، حقل الواقع والفن في آن واحد"[4].


 ربما يؤكد داود من خلال هذا الفيلم أنه مُخرج صاحب مزاج سينمائي خاص، وكما سبق أن قال: إن العمل في مشاريع غيره السينمائية تفقده الكثير من التركيز، أو لا يستطيع التركيز فيها، فهو هنا يؤكد هذا القول حينما يلجأ إلى صناعة هذا الفيلم الذي يهتم اهتماما خاصا بشخصية الفنان حسن سليمان وعالمه الفني الخاص، وهو العالم الذي جذب داود إليه، ولم يكن ليجذب غيره من المُخرجين لتأمله ومحاولة تقديم فيلم خاص عنه؛ لذلك فعبد السيد يؤكد أنه راغب في تقديم سينما خاصة جدا، لا بد أن تمسه هو شخصيا أولا؛ كي يبدأ في التحرك والتفكير فيها من أجل صناعة فيلم سينمائي جديد.

لم ينتظر عبد السيد كثيرا بعد فيلمه "العمل في الحقل"؛ فقدم في العام التالي مُباشرة- 1980م- فيلمه المُهم "عن الناس والأنبياء والفنانين" وهو الفيلم الذي صنعه داود عن الفنان التشكيلي راتب صديق وزوجته، ولعلنا نلاحظ أن اهتمام المُخرج بالفن التشكيلي والفنانين كانا من أهم ما يميزانه، أي أنه كان له اتجاه خاص في تأملهم وصناعة الأفلام التسجيلية عنهم، وهو الأمر الذي سيفسر لنا، فيما بعد، الاهتمام البيّن بالصورة في أفلامه الروائية القادمة- حيث الكادر السينمائي عبارة عن لوحة تشكيلية مُتكاملة ومُختارة بعناية- بل واهتمامه بتحويل الأفكار-أيا كانت- إلى صورة سينمائية- سنلحظ في أفلامه الروائية القادمة الكثير من الأفكار سواء كانت دينية، أم فلسفية، وهي ما نجح في تحويلها من مجرد أفكار مُجردة إلى صورة مُتحركة ثرية تحمل داخلها العديد من المستويات المُتباينة- أي أن داود لم يكن مُجرد مُخرج سينمائي راغب في تقديم سينما مُختلفة فقط، محاولا الاشتباك مع الواقع وفقا لرؤيته وأفكاره السينمائية التي تدور في ذهنه، بل كان فنانا يعمل على صياغة وصناعة فن مُختلف يحمل بصمته وحده، وكأنه يعيش داخل عالمه/ أفكاره التي من المُمكن لها الاشتباك مع الواقع أو الإسقاط عليه، كما يمكن لها أن تظل مُغلقة ومُنكفئة على ذاتها وجمالياتها الخاصة مُمثلة لعالم مُتكامل من الأفكار التي من المُمكن لنا وصفها بأنها أفكار فنية رغم فلسفيتها وتجريدها في بعض الأحيان.


في عام 1985م قدم المُخرج فيلمه الروائي الأول "الصعاليك"، وعن هذه اللحظة يقول: "عشت أحلم بهذه اللحظة، وللأسف رحلتي مع الأفلام التسجيلية لم تُحقق أي شيء؛ لأنه لا يوجد من يهتم بها، وطالما نادينا بعرضها في دور السينما قبل الفيلم الروائي؛ ومن هنا وجدت أنه لا يمكن الوصول لعقل المُشاهد إلا من خلال الفيلم الروائي الطويل"[5]، يدور الفيلم عن مفهوم الصداقة بين اثنين، ورغم أن الفيلم كان يعنيه في المقام الأول هذا المفهوم- الصداقة وتحولاتها- إلا أنه لم يكن مُنفصلا عن نقاش الواقع والمُجتمع الذي يعيش فيه، لا سيما فترة الانفتاح الاقتصادي وأثرها على المُجتمع المصري من انهيار منظومة الأخلاق والقيم والمُثل. تدور قصة الفيلم حول صديقين من الصعاليك/ هامش المُجتمع هما "مرسي"، و"صلاح" القاطنين في الإسكندرية. يتزوج الأول من "صفية"- إحدى بائعات الهوى- ويصدم مُرسي بسيارته أحد الشباب، ويُحكم عليه بالسجن، ويتكفل صلاح بزوجته وابنه، وعقب ذلك يتجه الاثنان إلى صفقات تهريب المُخدرات التي تنقلهما من قاع المُجتمع إلى قمة الثراء والنفوذ.


إن مفهوم الصداقة الذي كان يعني داود في فيلمه يوضحه من خلال نموذجيه: مُرسي وصلاح، وهو من خلال هذا المفهوم يحاول دائما الربط بين ثنائية العقل والقلب؛ فأحدهما شديد العقلانية، ولا يمكن أن يخطو خطوة واحدة في حياته قبل تحكيم عقله أولا، بينما الثاني يترك نفسه وأفعاله لمشاعره وانفعالاته. هذه الثنائية رغم أنها ستكون الرابط الأساس بينهما، إلا أنها ستكون السبب أيضا في قتل أحدهما للآخر في نهاية الفيلم؛ فرغم أننا في بداية الفيلم نرى كل منهما يريد التضحية بنفسه من أجل الآخر، إلا أننا حينما نصل إلى نهاية الفيلم، وبعدما يتركا طبقتيهما الفقيرة إلى قمة المُجتمع الاستهلاكي سنجد العقل هو الذي يتغلب؛ وبالتالي يقتل مُرسي صلاح؛ لأن صلاح الذي تركته حبيبته "مُنى" لا يريد الاستسلام لمافيا الانفتاح الاستهلاكي ممن عملوا على تخريب البلد؛ ومن ثم يرغب في الإبلاغ عنهم؛ فيقتله مُرسي.

إننا في هذا الفيلم أمام رحلة تتأمل المُجتمع المصري في فترة الانفتاح التي دمرت كل شيء في مصر؛ فنرى في بداية الفيلم مُرسي وصلاح اللذين يلطخان ثياب أحد الرجال الأرستقراطيين لمُجرد اللهو وترك بصماتهما على ثيابه، ثم يمران ضاحكين على ما فعلاه، وكأنهما لا يرغبان من هذا الفعل إلا اللهو وترك بصماتهما اللاهية، والمُنتقمة من هذه الطبقة الاجتماعية التي لا يمكن لها أن تشعر بهما ولا تدري عنهما أي شيء، لكننا سنلاحظ من خلال هذه الرحلة صعود هذين الصعلوكين إلى قمة المُجتمع الاستهلاكي الانفتاحي بمُتاجرتهما في المُخدرات؛ وهو الأمر الذي سيجعلهما يلوثان المُجتمع أيضا تاركين بصماتهما عليه، أي أن هذه الطبقة مع صعودها لا يمكن لها إلا أن تترك بآثارها على المُجتمع بالكامل، وهما في ذلك لا يمكن لومهما، كما نلاحظ أن المُخرج لا يدينهما؛ لأن سياق المُجتمع وما يتم مُمارسته من سياسات داخله هي التي أدت إلى تفريخهما؛ ومن ثم فهما لا ذنب لهما فيما هما فيه، بل السياق بالكامل هو السبب في حياتهما، وفي تلويثهما للمُجتمع المصري. ولعل داود كان عامدا إلى وصول هذا المعنى لنا في فيلمه حينما رأينا مشهد البداية يتكرر مرة أخرى في نهاية الفيلم رغم قتل أحدهما للآخر، لكنه يريد التأكيد على أن هذه الدورة من التلويث ستستمر ولن تنتهي إلا إذا تغير المُجتمع بالكامل وعمل على تأمل أسباب هدمه وتلوثه؛ لذلك نستطيع وصف من أوصل المُجتمع المصري إلى هذه الدرجة والانهيار من خلال مُمارسة العديد من السياسات الاقتصادية والسياسية بأنهم هم الصعاليك الحقيقيون، وليست شخصيات الفيلم- مُرسي وصلاح ومن يدورون في فلكهما.

فيلم الصعاليك

هنا، في هذا الفيلم، يحرص المُخرج على إعمال ذهنه، وتأمل ما يدور من حوله، والعمل على تحليله؛ لنصل في النهاية إلى أسباب الانهيار علّنا نعمل على تجنبها وتصحيح الأوضاع. وإذا كان داود يحاول التأكيد دائما على أن فيلمه لم يكن يحمل أي شكل من أشكال الإسقاط السياسي، ولا يعنيه الحديث عن فترة الانفتاح: "موضوعي الصداقة بين شابين، وكان من المُمكن أن تدور العلاقة في جو آخر غير الانفتاح؛ فالصعاليك ليس عن صعود اثنين، بل عن صداقتيهما"[6]، فنحن لا يمكن لنا الذهاب معه فيما ذهب إليه؛ لأنه هو نفسه يقول: "أي عمل فني جيد هو أشبه بالبئر الذي كلما نزلت فيه أكثر؛ كلما حصلت على مياه أنقى وأعذب، وبالتالي ستأخذ منه على قدر الجهد الذي ستبذله"، أي أننا حتى لو ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن فيلمه كان يهتم أكثر بآثار الانفتاح الاقتصادي على المُجتمع المصري، وما آل إليه، وما سيؤدي إليه الأمر في النهاية؛ فنحن لسنا مُتجاوزين في هذا التفسير؛ لأن العمل الجيد أشبه بالبئر كما ذهب هو نفسه.

رغم أن داود عبد السيد من المُخرجين الذين لا يمكن فصلهم عن موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، ورغم أن كل نقاد السينما تقريبا وضعوه في هذا التصنيف، إلا أننا نلاحظ أنه لم يكن كغيره من مُخرجي الواقعية الجديدة؛ لأنه لم يكن من المُخرجين الذين يميلون إلى التصوير الخارجي بقدر رغبته بالتصوير داخل الاستوديو، وفي هذا يقول: "لا أكره التصوير في الاستوديو، بالعكس أفضله، وهذه هي السينما. أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن تُعيد الواقع في شكل قد يكون أقوى اكتمالا من الواقع"[7]، وهو الأمر الذي يقول فيه أيضا: "لو كان في إمكاني بناء الميناء في الصعاليك لما ترددت"[8]؛ الأمر الذي دفعه إلى بناء حارة شعبية كاملة في الاستديو في فيلمه "الكيت كات" 1991م، بدلا من التصوير الخارجي في الأماكن الواقعية، ولكن هذا الإعراض، أو الميل إلى التصوير داخل الاستوديو بدلا من التصوير الخارجي لا يمكن له أن ينفي اعتباره من أهم مُخرجي سينما الواقعية الجديدة المصرية؛ لأن الواقعية الجديدة لم تكن تعني التصوير الخارجي فقط، بل التعبير الحقيقي عن الواقع، والاشتباك معه، ونقاشه، ومحاولة تحليله، وهو ما فعله عبد السيد في أفلامه الروائية كلها تقريبا، رغم أن الكثير من هذه الأفلام قد مالت إلى التفلسف، أو مُناقشة الأفكار المُجردة بشكل سينمائي، لكن "فلسفة السينما"- أي دفعها باتجاه أن تكون لها فلسفة خاصة، وليس التفلسف- لم يكن عائقا أمام المُخرج كي يشتبك مع الواقع المُحيط به اشتباكا حقيقيا، بل كان ذلك سببا قويا للاندماج مع الواقع بشكل أكثر عمقا مما تناوله غيره من المُخرجين المُجايلين له؛ لذلك سنرى في جل أفلامه العديد من مستويات التلقي التي تُناسب جميع المُشاهدين سواء كانوا بسطاء، أو مُنعدمي الثقافة، أو مُثقفين، أو حتى يبحثون عن الرفاهية في السينما فقط، أي أن أفلام عبد السيد باتجاهها الخاص الذي رآه كانت سينما تتناسب مع كل الأذواق، وكل المستويات الثقافية أو الفكرية.

المخرج كمال الشيخ

سيحاول عبد السيد فيما بعد تقديم سينماه التي تخصه، وسيستغرق أكثر داخل ذاته، وثقافته، وأفكاره؛ الأمر الذي قد يدفع سينماه، أحيانا، باتجاه الغموض والتجرد، وضرورة التفكير العميق فيها من أجل القدرة على فهم رموزها الكثيرة التي يبثها المُخرج في طيات مشاهده/ أفكاره. إن هذا الاستغراق في الأفكار والثقافة الخاصة بالمُخرج هو ما جعله يصنع ما يمكن أن نُطلق عليه- فلسفة السينما- وليس المقصود بهذا القول أن داود قد حاول التفلسف السينمائي، بل إنه من خلال رؤاه السينمائية والفكرية قد دفع السينما التي يقدمها إلى أن تكون لها فلسفة خاصة، ومنطق فني خاص جدا يخص عبد السيد نفسه، ورغم أنه يريد الحديث عن الواقع، لكنه كان دائما ما يؤكد "أن السينما، بطبيعتها، هي كيفية خلق شيء يُشبه الواقع، لكن ليس الواقع"؛ لهذا لم يكن مُتشابها في ذلك مع غيره من المُخرجين المُجايلين له في تجاهه السينمائي، وهو ما سنراه لاحقا في الأفلام التي قدمها فيما بعد في حقبة التسعينيات.

 من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد فبراير 2022م.

 



[1] انظر دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة هنا البحرين/  27 يناير 1993م.

[2] انظر مقال "داود عبد السيد: جوهر الشعر وبناؤه" للناقد أحمد يوسف/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 25/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.

[3] انظر مقال "التصدي بالثقافة" للمُخرج داود عبد السيد/ جريدة الوطن/ الأحد 15 يوليو 2012م.

[4] انظر مقال "داود عبد السيد: جوهر الشعر وبناؤه" للناقد أحمد يوسف/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 25/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.

[5] انظر دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة هنا البحرين/  27 يناير 1993م.

[6] انظر دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة هنا البحرين/  27 يناير 1993م.

[7] انظر دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة هنا البحرين/  27 يناير 1993م.

[8] انظر المرجع السابق.