الاثنين، 31 أكتوبر 2016

"جاليريا" القصة القصيرة المحلقة في الفراغ



ثمة تساؤل مهم يفرض نفسه علينا أثناء قراءة المجموعة القصصية "جاليريا" للقاصة مروى عليّ الدين وهو: ما هو مفهوم القصة القصيرة؟ وهل من الممكن أن تكون القصة عبارة عن مجموعة من الثرثرات التي لا طائل من ورائها؟ وهل يمكن صياغة القصة على شكل مجموعة من الأسئلة باعتبارها استمارة عليك ملؤها؟ وهل تُعتبر التساؤلات مادة قصصية كي نعتبر الأسئلة الموجّه للقارئ مباشرة نوعًا أدبيًا كذلك؟
إن افتقاد التماسك والإحكام والدلالات بسطحها وعمقها وتشويه مفهوم القصة من باب الجهل لا التجريب هو ما يميّز المجموعة القصصية "جاليريا".
لعل كل هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات كانت لُب تفكيرنا ومحوره كلما تقدمنا خطوة في قراءة هذه المجموعة القصصية؛ لذلك كان لابد لنا من التوقف أولا أمام تعريف ماهية القصة القصيرة قبل المضي قدمًا في القراءة.
القصة في اللّغة تعني: الخبر، وقصّ عليّ خبره يقُصُّه قصًّا وقصَصاً: أي أورده. والقَصصُ: الخبر المقصوص، بالفتح، وُضع موضعَ المصدر حتى صار أغلب عليه. والقِصَص بكسر القاف: جمع القِصّة التي تُكتب، والقصّة الأمر والحديث. والقصة: هي سرد لأحداث واقعيّة أو خياليّة، قد تكون نثرًا أو شعرًا يُقصد من خلالها إثارة الاهتمام والإمتاع والتّثقيف للسامعين أو القرّاء.  والقصّة عبارة عن سرد قصصيّ قصير، يهدف إلى إحداث تأثير مُهيمن ويمتلك عناصر الدراما. والكثير من القصص القصيرة تتكوّن من شخصية- أو مجموعة من الشّخصيات- تُقدّم في واجهة خلفيّة. والصّراع الدرامي في القصة يعني اصطدام قوى متضادّة تخلق التوتّر من العناصر البنائيّة للقصّة القصيرة، والقصّة كثيرًا ما تعبّر عن صوت منفرد لواحد من جماعة مغمورة.
لكن إذا التفتنا إلى ما كتبته المؤلفة مروى عليّ الدين سنتيقن من عدم تحقق أي شرط من شروط القصة، سواء ما نعرفه عنها من خلال القواعد الأدبية الموضوعة لفن القصة القصيرة، أو حتى المفهوم البسيط الذي يعرفه القارئ العادي البسيط الذي لم يقرأ هذه التعريفات، فنحن من خلال حياتنا المعيشة اليومية البسيطة نرى الطفل يقول لنا: اقرأ لي قصة، أو احك لي قصة، أي أخبرني بحكاية ممتعة، وهذا ما يعرفه أي إنسان بشكل بديهي من دون الالتفات إلى التعريفات الأكاديمية والنقدية. السرد والتسلسل وتكشّف الشخصية والعقدة والصراع والمعنى الذي وراء القصة فيما يعكسه من واقع اجتماعي أو سياسي أو وجودي هي عناصر لا بد لها أن تتوافر في أية لمحة قصصية.
لابد من الانتباه أولا إلى البناء الذي انتهجته المؤلفة أثناء كتابتها لمجموعتها القصصية هنا، ولعلنا نلاحظ أن عنوان المجموعة هو "جاليريا" أي مجموعة كبيرة من الألوان، ثم لا نلبث حينما ندخل إلى متن المجموعة والشروع في القراءة إلى ملاحظة حرص المؤلفة على أن تكون جميع القصص بأسماء الألوان، فكل قصة من هذه القصص عُنونت بلون من الألوان، وهنا يكون المتن متناسب إلى حد بعيد مع عنوان المجموعة القصصية من حيث الشكل، ولكن هل الشكل وحده كافٍ لمحاورة عنوان المجموعة بتنحية المتن القصصي نفسه؟
حينما نبدأ في قراءة المجموعة القصصية سنلاحظ أن المؤلفة اعتمدت على شكل من أشكال البناء الذهني البحت والمُحكم؛ بحيث تكون القصص عبارة عن ألوان معينة، ولكن هذه الفكرة التي سيطرت عليها وشكلت هاجسًا عندها كانت من الإجحاف ما جعل المجموعة غير مقنعة في اختيار الشكل الذهني الذي أرادته لها؛ فكلما أوغلنا في قراءة قصة من قصصها لاحظنا أن العنوان لا علاقة له بالنص سوى أن الكاتبة أرادت له ذلك فقط؛ لسيطرة الفكرة الذهنية المسبقة عليها. أي أنها أرادات بناء مجموعة قصصية يوحي عنوانها بمجموعة كبيرة من الألوان، وخططت في مرحلة ما قبل الكتابة بأن كل قصة من هذه المجموعة لابد أن تحمل لونا من الألوان، ولكن هذا التحديد الذهني الصارم لا يمكن أن يكون في الأدب؛ لأن الأدب من الفنون التي تحمل روحا، ومن ثم لا يمكن إخضاعه لذهنية العقل الصارم والمقولب مسبقًا، بمعنى أنه لا يمكن ليّ عنق النص الأدبي كي يكون متوافقًا مع عنوان خططنا له منذ البداية، فالنص هو الذي يكتب الكاتب في النهاية. ومن هنا إذا ما حاول الكاتب إخضاع النص الأدبي إلى ذهنيته المتواجدة في ذهنه؛ فسد النص، وهذا ما رأيناه في المجموعة القصصية التي أصرت فيها الكاتبة على أن تكون كل قصة منها حاملة في عناوينها الداخلية للون من الألوان وكأنها تُخضع النص الأدبي للتجربة المعملية باعتبارها في مُختبر؛ مما أدى في النهاية إلى اختلاق نصوص مفتعلة ومقحمة العناوين لا سلاسة ولا عفوية فيها ولا منطق يمسكها.
في قصة "برتقالي" سنلاحظ أن كل ما كتبته المؤلفة عبارة عن مجموعة من التأملات التي تغلب عليها المسحة النسائية في مفرداتها المعهودة، بالإضافة إلى التساؤلات المتعددة التي لن تُفضي إلى شيء؛ مما يؤدي بنا في النهاية إلى التساؤل: ما الذي تريده المؤلفة من كل هذه الثرثرات التي لا معنى لها؟! تقول عليّ الدين: "سقط الطلاء عن الحائط فعاد لوحة أسمنتية قبيحة.. اهتزت الجدران للحظة، سقطت بعدها الملصقات الملونة تباعا، فالجدران لا تحتمل الحرارة مدى الحياة، ولا ترتدي حتى الطلاء بلون خفيف للأبد! كيف يتردد الصوت في الأماكن الضيقة؟ ما الفرق بين سماع الصوت حين يشق السكون في المرة الأولى، وانعكاسه في المرة الثانية حين نسمع صداه؟ هل تثق في الحب؟ مثله مثل الشمس.. يبعث الحرارة في الجسد. الشمس البرتقالية تغيب؛ كذلك مهما كنت تثق في جسدك فهذه المضغة تحت كتفك الأيسر خائنة! والعالم كذلك لا يرقد في القاع، ولا فوق السطح، ولا قُرب الشاطئ. العالم يتسلل إلى عيوننا وآذاننا ورئتينا كهمس الحقول مع بدايات شهر أكتوبر- هذا الشهر الذي يبدأ في اليوم الخامس- كدمية بيضاء ترقد فوق صفحة الماء وساقاها في وضع اليوجا، وترفرف بكفيها مُغمضة العينين، وتحرك رأسها يُمنة ويُسرة"؛ ربما حرصتُ هنا على سوْق نصف القصة بالكامل؛ كي يتضح من خلالها أن المؤلفة بالفعل لا تقول شيئا، وأن كل ما تتضمنه المجموعة عبارة عن مجموعة من التساؤلات والتأملات الهائمة التي لا تجمعها وحدة عضوية، أي أنها تكتب في نهاية الأمر في الفراغ كي تفضي بنا إلى الفراغ! وبالتالي فهذا التسويد الذي لا طائل من ورائه للصفحات لا يمكن تصنيفه إلا كنوع من الثرثرة التي لا يمكن لنا أن نُطلق عليها - في كل الحالات- اسم قصة، ولا حتى يمكن اعتبارها أدبًا، بل هو شكل من أشكال الهذيان الذي تكتبه المؤلفة من دون أي هدف.
تبدأ المؤلفة بعد ذلك في استكمال ما تُطلق عليه القصة، فتتحدث عن الدمية باعتبار أنها شبّهت شهر أكتوبر بالدمية، ثم تتأمل الحب وعلاقات الحب، لتقول في النهاية: "البنايات تميل. السحب هناك وكل البنايات تغيب.. اللون الأزرق خفيف، والأصفر خفيف، والأحمر خفيف لكن الغالب أزرق. الشمس هكذا تغيب.. تعتدل الدمية في جلستها فوق الماء، تفرد ساقيها وترفرف. ترفض أن تغيب الشمس، تُرى هل غابت الشمس قبل هذه اللحظة في الليالي التي سبقت المطر؟"، هنا ينتهي هذا العبث الذي كتبته المؤلفة باعتباره قصة قصيرة؛ لنخرج نحن بعد قراءتها وقد دارت رؤوسنا متهمين أنفسنا بالغباء، ومُحمّلين بالعديد من الأسئلة الاستنكارية والاستفهامية حول الخلاصة التي تريد لنا المؤلفة أن نحصل عليها في النهاية، وما علاقة الطلاء بالبنايات؟ وما علاقة هذا بالأصوات التي تتردد في الأماكن الضيقة؟ ثم لماذا جاء سؤالها: "هل تثق في الحب" بعد ذلك مباشرة وما علاقته بما قبله؟ وهل بالفعل لشهر أكتوبر علاقة بكل ما سبق؟ وهل معنى أنها أرادت لقصتها أن تكون بعنوان "برتقالي" أنها لابد أن تذكر في قصتها أي شيء له علاقة بالبرتقالي، ولو على شكل مفردة عابرة، وبالتالي يكون ذلك مبررا كي تكون القصة بهذا العنوان؟ لقد حرصت "عليّ الدين" على ذكر الشمس البرتقالية التي تغيب، في حين أن الشمس لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما قالته، كما أن كل ما قالته لا تجمعه علاقة عضوية أو نفسية ببعضه البعض داخل النص، أي أننا في النهاية قرأنا جملاً غير متماسكة ومفتقدة المعنى في شكلها ومضمونها ولا تفضي إلا إلى الفراغ.
من خلال القصة السابقة يتضح لنا أن المؤلفة ترغب في الكتابة، ولكن التساؤل المهم الذي لابد من توجيهه لها: كتابة ماذا؟ وهل ستقدمين لنا شيئا ما من خلال كتابتك أو ثرثراتك؟ وما هو الهدف من الكتابة في النهاية؟! وهذا ما سنلاحظه في جميع قصصها تقريبا؛ ففي قصة "بنفسج" نلاحظ أنها مجرد مجموعة من التهويمات التي لا معنى لها؛ ومن ثم سنتساءل مرة أخرى: ماذا تريد المؤلفة أن تقول؟ وإلام ترغب في الوصول بنا حينما نقرأ: "تكرر الانتظار.. لا تحتاج أن تبحث في على الكآبة، وأزمة الصداع، كل ما تريده هو أن تجد المرآة التي ترى انعكاسك فيها.. ربما.. تريد أن تلتفت فجأة فلا يتحرك ظلك، وتواجهه ربما.. أو أنك لا تعرف ما الذي تريده.. نوبة عارمة من الصداع.. الصداع العلة النفسية، أشعر بالرغبة، لكن رغبتي لم تصنع أي شيء، مثل الذي يشعر بجوع وهمي، فهو لا يشتهي أي نوع من الطعام ولا تُغريه أية رائحة بحثت عن نفسي بين الرسائل، لم أتبين من تُخاطب، ربما تستدعي روحا سحرية تهمس إليها بمنتهى الحرية والاطمئنان والشغف والشوق، ربما مزيج من عدة أطياف حقيقية تقابلها في حياتك، ربما هي، حلمك التائه في مساحات الزمن ومسافات الحياة.. أنا متأكدة أن هذه التي تتحدث إليها في الغالب هي الروح طبق الأصل منك.. تستدعيها لتجئ.. فربما تصلها الرسائل..ربما ستأتي"؛ هنا كنت حريصا أيضا على سوْق حوالي ثلثي القصة للبرهنة على أن المؤلفة لا تقول شيئًا على الإطلاق من خلال كتابتها، وكل ما تفعله هو أنها تدور حول نفسها في حلقة مفرغة قوامها رصف الكلمات. كما أنني حاولت جاهدا البحث عن علاقة العنوان "بنفسج" بما قالته، لكنه بالفعل كان منتفيا كحال كل القصص تقريبا، فلا علاقة بين المتن والعنوان كي أتفهّم حرصها الشديد على أن تكون كل قصة مسمّاةً بلون، فهي لم تُرد بهذا التكنيك المفكك غير المبني على أي أساس إلا أن يتحقق لها في النهاية ما أرادته وهو أن يكون عنوان المجموعة "جاليريا"؛ وبالتالي صارت ضرورةً – من وجهة نظرها- أن تكون تحمل قصصها أسماء الألوان التي نعرفها، لدرجة أن المؤلفة لم تذكر كلمة "بنفسج" مرة واحدة داخل متن هذه القصة، كما أن الهراء الذي سردته لا يوحي بأي لون من الألوان وليس البنفسجي فقط!
حينما نوغل في المجموعة التي كتبتها عليّ الدين أكثر؛ لابد من طرح التساؤل بشكل من الإصرار: ماذا تريدين أن تقولي لنا؟! ولعل هذا يتضح أكثر في قصة "فضي" التي سنحرص على كتابتها كاملة: "القمر الليلة كامل الاستدارة وممتلئ الوجه بلونه الفضي؛ فهل أنت مستعد؟! عبر الشقوق.. هناك بين مربعات الكون نبحث عن خارطة تعني الحقيقة! نجمع فيض النهر من هناك لنمنح الغارمين فرصة! في زاوية مربع هناك ثقب سنمر منه، سنفوت نحو موت لنختبر النهاية! هي هناك، تحت الرمل والتراب.. كانت جميلة وكانت هنا، ومرت هناك. كانت تجيد التأني وقت الكسل، ووقت الكسل يزيد الهرب، كانت حنونة تُحاكي الظباء، تحوك الشباك فتوقع الدببة، تطعمها طعامها كله وتتركها. ربتت أنوف الذئاب، وحاربت من أجل الذباب. كانت ضعيفة.. كانت قوية.. كانت قصيرة.. كانت ثرية.. كانت تجيد الرقود فوق رأس الجبل هناك.. تلوح لعاصفة ثلجية. أجادت لغة واحدة خاطبت بها الجميع. جففت هدية حبيبها- وردتين- لقاء حصتين من السجائر، ظنها أتت تسأل عن جدته فقالت نعم. صدقها.. كانت تُغني، حاكت من أجل آخرين الأمنيات. كانت تصيد المحار ليلا بأحلامها لتعطيها في الفجر لأبناء المحارب.. سجنوه.. فقد السلاح.. كان عهدا أن تمنح الجميع ثروة المُلوّن.. هذا الحكيم يضحك.. يبكي. ويضحك، ويبكون لأجله.. كانت هنا.. مرت هناك.. كانت.."!!
هذه هي القصة بشكلها الكامل كما كتبتها المؤلفة، أوردتها حرفيًا محاولاً فهم ما ترمي إليه المؤلفة أو الإمساك بما تسميه قصة، ولكني عجزت عن فهم أي شيء، ولو اعتبرنا حتى أن دافع هذا التشوه سيرياليا فإن السيريالية تحمل معنى عبقريًا في إظهار الاغتراب والتشظي الإنساني وفيها وحدة عضوية ما، أما هذا النص فهو عبارة عن مفردات وجمل، لكنها جمل لا معنى لها، وتراكيب ومفردات لا تؤدي إلى شيء، فكأن المؤلفة بالفعل تهذي هذيان الخمر أو الهلاوس، وهنا نتساءل: من هذه التي كانت هنا؟ ومن هو هذا المحارب، ولم سجنوه، ولم فقد سلاحه؟ وكيف كانت ضعيفة وقوية في ذات الوقت؟! وما علاقة ذلك بكونها كانت قصيرة أو ثرية؟ وغير ذلك الكثير من التساؤلات التي لابد من طرحها ونحن نعرف ضمنيًا أنه لا يمكننا أن نتلقى عليها أية إجابة؛ لأن المؤلفة في حقيقة الأمر لا تكتب شيئا من الممكن أن تقدم لنا مبررًا له معتمدةً على السببية، كما أنه لا يمكن أن يفوتنا أمر آخر مهم وهو أن عنوان القصة "فضي" الذي ظنته المؤلفة مُناسبا للقصة لأنها ذكرت في أول سطر القمر الفضي اللون، والذي لم يكن له علاقة بالكلام الذي أتبعته في النص، واقتصرت علاقة العنوان بالنص على مفردة غير محورية ولا تلقي بأي ظلال على المادة المطروحة في القصة.
إذا كان كل هذا الهراء السردي الذي لا معنى له مقبولا من قبل البعض- رغم عدم إمكانية قبوله بأي حال من الأحوال- فإننا إذا واصلنا القراءة بالتأكيد سيصيبنا الكثير من الذهول من الحال الذي وصلت إليه الكتابة من قِبل مُدّعي الأدب، وأيضًا من هؤلاء الناشرين الذين يرون في كل هذه التخاريف نوعًا ما من الكتابة التي يمكن أن يضمها كتاب بين دفتيه؛ وبالتالي يقومون بالنشر والترويج لمثل هذه الأعمال التي لا تحمل أي قيمة فنية. ولعل في هذا الأمر جريمة مزدوجة ممن يدعي الكتابة وممن ينشر له بالضرورة؛ لأنهما يعملان معًا وبتواطؤ على تسفيه وتسطيح الكتابة الأدبية التي بلغت حالة غير مسبوقة من الحضيض الذي تتهاوى فيها على مرأى من القراء ومسمعٍ.
في قصة بعنوان "مُحايد1"، وربما اختارت المؤلفة هذا العنوان لأنها فرغت من تدرجات الألوان وفي فمها بعض الثرثرات التي لم تثرثرها بعد، ولم تجد المزيد من الألوان فاختارت هذا اللالون؛ فقالت: "1- ما الفارق الذي تظنه بين البالون العادي وبالون محشو بالهيليوم؟ 2- ما الفارق بين التفاح الأحمر والأخضر والأصفر غير طعمه؟ كيف ترى هذا التفاح وهذا التفاح؟ 3- ما اللحظة التي تقرر فيها تصويب المسدس نحو رأس صديقك؟ رأس حبيبك أو حبيبتك؟ رأس حصانك؟ رأس كلب الشارع؟ 4- ما انطباعك عن مساحيق الغسيل؟ وهل تؤدي الغرض وتزيل تماما بقع الذكريات من فوق الثياب التي ارتديتها يوما من أجل شخص ما؟ 5- ماذا يعني لك كتاب قديم لم يفتح صفحاته أحد غيرك؟ هل ستشتريه أم تفضل أن يهديك إياه أحد؟ هل ستسرق هذا الكتاب يوما ما لأي سبب؟ 5- هل يمكن أن تدفع ثروة في شكل حصان وحيد القرن مصنوع من الزجاج؟ 5- هل تصدق كل ما يقوله الآخرون عن النوم والأحلام؟ 8- هل لاحظت أنني كررت الرقم 5 ثلاث مرات متتالية؟ أنا لم ألاحظ وعندما لاحظت الخطأ لم أقم بتصحيحه، هل تصنع مثل هذا الخطأ وتقوم بنفس رد الفعل؟ 9- من مِن شخصيات الكارتون يروقك؟ أخبرني عن فيلم الكارتون العالق بذهنك، ولا تنس أن تخبرني السبب؟ 10- اختر لنفسك اسما آخر"؛ هنا تنتهي المؤلفة مما ادّعت أنه قصة.
هذا يستوجب أن نطرح سؤالاً مهمًا: هل من الممكن لأي عاقل أن يدعي بأن هذه الأسئلة المباشرة والصريحة التي تم توجيهها من قِبل الكاتب إلى القارئ بشكل مباشر قصة فنية؟! وهل هذا هو مفهوم الأدب عند البعض؟! إن الأمر هنا لا يمكن أن يعدو عبارة عن استبيان تقوم به المؤلفة لغرض ما! كما أن الاستبيانات لا تكون من خلال الكتابة الأدبية وإنما من خلال اللقاء المباشر بينها وبين الطرف الآخر الذي توجه إليه أسئلتها، ثم ما الهدف من هذه الأسئلة؟ ومن هذا الافتعال في تكرار الرقم 5 ثم تنبيهنا إلى هذا الخطأ؟! إنها مجرد لعبة سخيفة لا يمكن لها أن تصلح كـ"بوست" على الفيس بوك بسخافته وتسطيحه، فما بالنا بالأدب الذي لا يحتمل أي لون من ألوان الهراء والاستفاضات المفرغة؟! كما أن كسر حائط الإيهام بين القارئ والمؤلف والتوجه إليه بهذا الشكل المباشر اعتمادا على مفهوم المسرحي الألماني برتولت بريخت لا يمكن أن يكون بمثل هذا الشكل الفج والمباشر مطلقا، بل يحتاج إلى آليات فنية فيها من الحنكة والإحكام ما لا يشبه هذا الإسفاف والتمادي في الافتعال.
مثل هذا الهراء والفجاجة والمباشرة والفراغ الذي تحيا فيه المؤلفة نراه مرة أخرى في قصة تالية بعنوان "محايد2" فتقول: - ما أول مكان في جسدك تحس فيه بالسعادة؟ - ما أول مكان يؤلمك في جسدك عندما يضربك الحزن؟ - أي مكان في جسدك يستجيب أولا للموسيقى؟ - أيبدأ إحساس الجوع عندما تشم رائحة الطعام؟ - أي لون يعبر أكثر عن الفرحة وأيها يعبر عن الألم؟ - كوّن خليط الألوان الخاص بك واخبرني به، ولماذا اخترت هذه الألوان تحديدا؟ - اختر لونا واحدا لتكونه ما تبقى لك من حياتك. – حدد لونا للدخان؟ - اختر لونا آخر لفستان العرس بدلا من الأبيض. – اختر لي لونا ليكون اسما جديدا لي."، وهكذا تكون ما أطلقت المؤلفة عليه اسم قصة قد انتهت لتزهق أرواحنا معها في غثائها الذي تكتبه.
إن هذا الشكل من الكتابة التي لا معنى لها لا يمكن أن نطلق عليه سوى هذيان امرأة قررت أن تضيّع لنا وقتنا لأن عندها الوقت لذلك، أو كأنه فُرض عليها كتابة الأدب وهي ليست أهلاً لذلك فقررت أن تزحم رؤوسنا بالكلمات المجردة من أية دلالات.
إن الإشكالية التي بتنا نواجهها في الآونة الأخيرة هي أنه صار لا بد لنا، بل ومن الضروري، أن نتقبل كل ما تكتبه المرأة من هذيان لا معنى له، وإلا بتنا عنصريين نحيا في مجتمع ذكوري يرفض المرأة وكل ما تقدمه، ومن ثم فلا بد من تقبل كل ما تنتجه المرأة مهما كان سقيما ومُملا وفارغا حتى لا نُتهم بالعنصرية والذكورية والرجعية وكأنّ كون المؤلف امرأة يشفع للنص مهما بلغت رداءته، أو كأنّ المرأة تسمح لنفسها بطرق باب الأدب والفن بتطفّل وهي آمنة الجانب من النقد لأن مادّتها التي تتميز بالركاكة والضعف ستُلاقى بالتعظيم! فإذا ما رفضنا هذا الغثاء الذي تدرجه صاحبته أيًا كانت تحت اسم الأدب والفن؛ فنحن بالتأكيد أعداء المرأة وعنصريون ومتخلفون وغير تقدميين وغير مثقفين وغير ذلك، وكأنه يجب الحكم على النص من خلال جنوسة الكاتب وتصنيفه الجندري لا حسب المادة التي يقدمها.
إن الاستهانة بالكتابة بمثل هذا الشكل وتفريغها من مضمونها هي الجريمة القصوى التي نتواطأ عليها اليوم مجتمعين كنقاد وأدباء وقرّاء وأصحاب دور نشر باسم التقدمية والثقافة، في حين أن ما قرأناه لا يمكن أن يصلح لأي شيء سوى لهذيان الكحول والحشيش!
إذا ما تأملنا المجموعة القصصية للكاتبة مروى عليّ الدين سنخرج منها باللاشيء في النهاية، ويمكن اتهامها بأنها لا تدرك ماهية الكتابة قبل الإقبال عليها، وهذا يجعلنا نتساءل: هل يظن البعض أن الكتابة قد تمنحه مكانة اجتماعية ما؛ وبالتالي يُقبل عليها باستسهال رغم أنه لا يفهمها ولا يتقنها؟!
إن الكتابة في الحقيقة لا تمنح من يباشرها أي شكل من أشكال المكانة الاجتماعية، بل هي شكل من أشكال المعاناة التي لابد أن يعايشها الكاتب فعليا كي يستطيع في النهاية أن يكتب لنا شكلا أدبيا حقيقيا له روح تؤثر بالقارئ سواء بالسلب أم بالإيجاب، لكن ما كتبته مروى عليّ الدين لا يمكن أن يترك فينا سوى الرغبة في الانتحار بعد الممل الذي بالتأكيد سيصيب كل من يقرأ هذا الكلام الذي فقد معناه كما فقد صلته ببعضه.
لا ننكر أن الكاتبة كان لها قصة واحدة من الممكن بالفعل أن نطلق عليها مُسمى القصة رغم ضعفها وهي قصة "أبيض"، التي تتحدث فيها عن طفلة صغيرة توجه مجموعة من الرسائل على مدى سنوات عمرها لـ"سانتا كلوز" أو "بابا نويل" كي يُحقق لها أمنياتها، وظلت هذه الطفلة الصغيرة تبعث برسائلها إليه منذ سنّ التاسعة حتى عمر الثامنة عشر، لكنها حتى في القصة التي من الممكن اعتبارها "قصة" تفتقد بالفعل إلى مقومات القصة الحقيقية؛ فهي عبارة عن أفكار نسوية قد تنضوي على روح طفولية ما، لكنها لا تعبّر عن احتكام القاص الذي يحيط بمفهوم القصة لأدواته، لذلك كان من الأجدى بها أن تنشر هذه القصة منفردة في أي وسيلة إعلامية بدلا من الإصرار على زجها في مجموعة مكونة من تسعة عشر قصة لا معنى لها.
الكتابة الأدبية في نهاية الأمر مسؤولية، وهي مسؤولية الكاتب والناشر معا، وبالتالي يتوجّب على الكاتب الذي لا يقبض على آليات الكتابة أن يكون قارئا جيدًا فهذا خير له ولنا من الكتابة فيما لا يفهمه. كما أن فوضى النشر التي نراها اليوم تتيح لمدّعي الأدب نشر مثل هذه الكتابة السقيمة، وهو ما يؤدي في النهاية إلى سيادة وتكريس وتعميم الكتابة الأدبية الضعيفة والضحلة والتي ستؤدي بدورها إلى انهيار الأدب الحقيقي والحلول مكانه مفسدين بذلك الذائقة الفنية لدى الأجيال القادمة.





محمود الغيطاني

جريدة القاهرة
عدد 1 نوفمبر 2016م







الخميس، 13 أكتوبر 2016

السينما المنسية في موريتانيا

تُعد السينما الإفريقية من أكثر السينمات التي لا يلتفت إليها الكثيرون من المشاهدين على مستوى العالم رغم أن هناك العديد من الأفلام المتميزة التي قدمها عدد لا يستهان به من المخرجين الأفارقة حول القارة السوداء ومشكلاتها ومعاناتها سواء مع حكامها الذين تميزوا بطغيانهم في الحكم، حتى أن الكثيرين منهم تمت ملاحقتهم في جرائم ضد الإنسانية، أو معاناتهم مع الاحتلال والتنكيل بهم واستعبادهم باعتبارهم مجرد خدم لغيرهم من الدول المحتلة.
ربما كانت الفكرة التي توجد في أذهان الكثيرين تجاه إفريقيا هي فكرة القارة التي تعاني من الفقر والجهل والبطالة والدمار الدائم فقط، أو أنها القارة التي لا يوجد فيها سوى الغابات والسكان البدائيين، ويعود هذا التنميط في تخيل القارة الإفريقية إلى انعدام الاطلاع على هذه الثقافات سواء من ناحية الأدب المُنتج عبر كتّاب القارة الإفريقية السوداء، أو الجهل بأنها فيها صناعة سينمائية مهمة قدمت للعالم العديد من الأفلام التي نالت الكثير من الجوائز السينمائية العالمية المهمة سواء في مهرجان "كان" أو غيره من المهرجانات العالمية، ولكن لأننا لا نطلع على هذه السينما أو هذه الثقافة ظلت داخلنا الصورة النمطية حول إفريقيا البدائية أو التي تعاني من الفقر والجهل والأمراض هي الفكرة الراسخة في أذهان العامة والكثيرين من جمهور السينما وغيرهم.
يأتي المخرج الموريتاني الأصل عبد الرحمن سيساكو على رأس المخرجين الأفارقة الذين قدموا العديد من الأفلام السينمائية المهمة التي حصدت الكثير من الجوائز العالمية، وقد وُلد سيساكو في مدينة "كيفه" شرق موريتانيا 1961م، وهي مدينة موريتانية عاصمة ولاية "لعصابة"، لكنه نشأ في مالي؛ حيث هاجرت عائلته، وفي العشرين من عمره عاد سيساكو مرة أخرى إلى موريتانيا ليقضي فيها فترة من الدراسة والقراءة في السينما الأوروبية والروسية، ليسافر في عام 1983م إلى روسيا من أجل منحة حصل عليها لدراسة السينما حيث تأثر تأثرا كبيرا  بمخرجين مهمين من أمثال فورد وفاسبندر وغيرهم من المخرجين. في عام 1989م أخرج سيساكو فيلمه الأول "اللعبة" الذي كان عبارة عن مشروع تخرج وهو الفيلم الذي تم تصويره في تركمانستان ويحكي قصة الحرب من خلال أب يقضي عطلته الأسبوعية في اللعب مع أطفاله قبل عودته مرة أخرى إلى الجبهة، ورغم أن الفيلم كان مجرد مشروع تخرج إلا أنه تم عرضه بعد عامين في مهرجان "كان" السينمائي، وفي عام 1993م يقدم سيساكو فيلمه "أكتوبر" أو "إدريسا" وهو الفيلم الذي حصد جوائز في مهرجانات "كان" الفرنسي، و"بلفور" الفرنسي أيضا، و"قرطاج" التونسي، حيث يحكي الفيلم قصة الشاب الإفريقي "إدريسا" الذي يستعد للرحيل عن موسكو تاركا حبيبته "إيرنا" الحامل في طفلهما، ويصور حيرته بين الاحتفاظ بهذا الحمل الذي لا ترحب به أسرة حبيبته، وبين التخلص منه وبذلك تنتهي العلاقة بينهما تماما.
في عام 1994م يقوم عبد الرحمن بإخراج فيلمه الثالث "الجمل والعصا المترنحة" عن قصة أدبية للكاتب الفرنسي "جان لافونتين" الذي اشتهر بكونه أكثر كتاب قصص الخيال في تاريخ الأدب الفرنسي وكانت معظم قصصه تدور على ألسنة الطيور والحيوانات، ليأتي فيلمه الرابع "صابريا" 1996م، وهو فيلم روائي طويل تم تصويره في الصحراء التونسية ويحكي قصة صديقين يمضيان كل وقتهما في لعب "الطاولة" إلى أن تأتي فتاة إلى المدينة فتغير حياتهما تماما، وقد حصد الفيلم جائزة "لا موسترا دو فونيس"، وفي عام 1997م يقدم لنا فيلمه "من روستوف إلى لواندا"Rostov-luanda  وهو فيلم وثائقي يحمل جانبا من الخيال والدراما، ويحمل الفيلم جزءً من السيرة الذاتية للمخرج حيث يتحدث عن سفره للبحث عن صديقه الذي انقطعت عنه أخباره تماما بعدما عاد الصديق إلى وطنه "أنجولا" التي مزقتها الحرب الطويلة، ويحاول المخرج من خلال فيلمه استعراض آثار الحرب من دون العمل على نقلها بشكل مباشر، كما حصد الفيلم العديد من الجوائز أيضا منها جائزة مهرجان السينما الإفريقية في ميلانو بإيطاليا، "لادوكمانتا دوكاسل"، وجائزة "لافيسير ليدوك" في مارسيليا.
يستمر المخرج عبد الرحمن سيساكو في تقديم المزيد من الأفلام الناجحة والحاصدة للجوائز العالمية حتى أنه يستحق اسم لقب "حاصد الجوائز"؛ لحصول معظم أفلامه على العديد من الجوائز المهمة فيقدم لنا عام 1998م فيلمه "الحياة على الأرض" بعدما أسس شركة "ديو فيلم" للإنتاج الوثائقي، وهو الفيلم الذي يرصد مرور عام 2000م على قرية صغيرة في عمق "مالي" وهي قرية "سوكولو"، أي أنه يحكي حكاية القرية لحظة عبورها القرن العشرين باتجاه القرن الواحد والعشرين؛ ليحصد الفيلم الكثير جدا من الجوائز في مهرجان "كان" الفرنسي، ومهرجان "تورنتو" في كندا، ومهرجان "ساندانس" للفيلم المستقل في ولاية "يوتا" الأمريكية، ومهرجان "قرطاج" التونسي، ومهرجان "نيويورك"، ومهرجان "فيسباكو" الأكبر للسينما الإفريقية في "واغاداغو" ببوركينا فاسو، ومهرجان "فريبورغ" في سويسرا، ومهرجان "ميلانو" الإيطالي، ومهرجان "بلفور" الفرنسي، بعد هذه الجوائز المتعددة يخرج سيساكو فيلمه الروائي المهم "في انتظار السعادة" Waiting for Happiness عام 2002م، وهو الفيلم الذي أنتجه من خلال شركته بالتعاون مع arte الفرنسية ويكاد يكون في الفيلم أصداء من سيرة المخرج الذاتية حيث يتحدث عن مراهق في السابعة عشر من عمره يعود من مالي إلى موريتانيا وطنه الأم ويلتقي بأمه التي تعيش في غرفة صغيرة في أحد أحياء العاصمة الاقتصادية "نواذيبو"، وفي نفس المنزل يسكن العديد من الأفراد الأجانب المختلفين أصحاب الحيوات والتاريخ المختلف ويستعرض المخرج حيوات جميع هؤلاء السكان، حيث نرى الفنانة "سكينة" التي لا تجد عملا وتقطن في الغرفة المجاورة لأمه، كما يرتبط الشاب العائد "عبد الله" بعلاقة عاطفية مع الفتاة "الغينية" التي تسكن الغرفة المقابلة لغرفة أمه والتي تعيش في حماية مواطنها "باري" الذي يدير مغسلة في نفس السكن، ويحاول المخرج استعراض حياة جميع سكان البيت ليحكي قصصهم وحيواتهم التي تعبر عن الاغتراب والمنفى سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الواقعي، كما يصور لنا المخرج صدمة الجيل المتعلم في الغرب والمثقف ثقافة فرنسية حين يرجع إلى موريتانيا، وهو الجيل الذي يعود بعد رحلته بعادات ونمط حياة جديد، يجعل حاله مختلفا عن حاله قبل السفر، ويسجل الفيلم انعزال هذا الجيل بشكل تام وعدم استطاعته الاندماج في الوسط الشعبي، الذي يعجز عن التواصل معه، وقد عُرض الفيلم في مهرجان "كان" الفرنسي وحاز على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما، كما حصل على جائزة الثقافة الفرنسية في مهرجان "كان".
في عام 2006م أخرج سيساكو فيلمه الذي كان رحلة بين الوثائقي والروائي "باماكو"، وهو الفيلم الذي تم تصويره في العاصمة المالية "باماكو" وشارك فيه الممثل الأمريكي من أصور إفريقية "داني جلوفر" وقد أثار الفيلم الكثير جدا من الجدل، وعُرض في مهرجان "كان" الفرنسي، وفي "مانهاتن" بواسطة "نيويوركر فيلمز" 2007م، وقد تم ترشيح الممثلة السنغالية عيسى مايجا لجائزة سيزار أفضل ممثلة واعدة عن دورها في الفيلم، كما حصل الفيلم على جائزة من مهرجان "اسطنبول" للفيلم عام 2007م، وحاز على جائزة أفضل فيلم ناطق بالفرنسية الخاص بالسينما الفرانكفونية، كما حاز على جائزة الجمهور في سينما باريس عام 2006م، وقد أقام هذا الفيلم الدنيا ولم يقعدها حينها؛ إذ عالج لأول مرة مشاكل الدول الإفريقية من خلال محاكمة صورية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي باستغلالهما الفظ لاحتياجات الدول الإفريقية إلى القروض، والفيلم عبارة عن محاكمة صورية تخيلية لدعوى قضائية يرفعها المجتمع المدني الإفريقي ضد مؤسسات التمويل الغربية التي تتمثل في البنك وصندوق النقد الدولي، تلك المحاكمة تجري مرافعاتها داخل منزل كبير يسكنه العديد من السكان المتعددي الأهواء والمشارب ويوحدهم الأمل في غد أكثر إشراقا، وتمضي المحاكمة جنبا إلى جنب مع الحياة اليومية لهؤلاء السكان، حيث "ميلي" المطربة الشابة في ملهى ليلي وزوجها العاطل عن العمل "شاكا"، والحارس الغريب الأطوار، وسيدة تحترف الصباغة التقليدية ونشر الغسيل أنى واتتها الفرصة، وبائع نظارات شمسية، ومصور يحلم باقتناص لحظة المكاشفة، وشاب طريح الفراش، وأطفال يلعبون، ونساء يجلبن الماء إلى بيوتهن، وحفل زفاف ومأتم عزاء، وصخب وضجيج وحياة مليئة بالتفاصيل الصغيرة، كل هذا بينما تدور محاكمة أحداثها ساخنة على مرأى ومسمع من الجميع من محامين وقضاة وشهود وحراس، ويبدو هنا المجتمع المدني الإفريقي بالكامل وهو يضرب بكل ثقله لإثبات التهمة الموجهة للممولين الدوليين وعلى رأسهم البنك الدولي الذي أثقل كاهل القارة الإفريقية عن عمد وسبق إصرار بديون لا قبل لها بقضائها ولو بعد قرون وبدلا من إيجاد حل منطقي للمشكلة، يواصل البنك الدولي زيادة ديونه، وهو بذلك يواصل سياساته التحكمية في القارة، ويغرقها في الديون عاما بعد آخر.
في عام 2014م أخرج سيساكو واحدا من أهم أفلامه السينمائية وهو فيلم "تمبكتو" Timbuktu الذي حصد سبع جوائز سيزار الفرنسية كأفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل سيناريو، وأفضل توزيع للصوت والصورة والموسيقى رغم أن الفيلم كان في منافسة مع الفيلم الفرنسي "سان لوران" للمخرج الفرنسي برتران بونيللو الذي لم يحصل سوى على جائزة أفضل أزياء، كما تم ترشيح الفيلم للأوسكار الأمريكية في فئة الأفلام الأجنبية، كما رحب رئيس الوزراء الفرنسي "مانويل فالس" بالفيلم؛ حيث كتب على حسابه في "تويتر": "إنه تكريس يستحقه فيلم تمبكتو في مقاومة الوحشية"، ويتحدث الفيلم عن مدينة "تمبكتو" منذ مجدها الموغل في التاريخ إلى أن باتت مسرحا لعمليات جهادية في الفترة الأخيرة، وتعرضت بعض المواقع الأثرية فيها للنهب والتدمير، خاصة بعد التدخل العسكري الفرنسي في "مالي" حيث الحرب العبثية بين إسلاميين متطرفين في "مالي" وسكان "تمبكتو"، وقد تطرق سيساكو في فيلمه إلى سيطرة الإسلاميين المتطرفين من جماعة "أنصار الدين" على شمال "مالي" في 2012م حيث دمروا الكثير من الأضرحة في مدينة "تمبكتو" التاريخية، وقاموا بتحطيم مواقع في المدينة الصحراوية المُدرجة ضمن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، كما عمدوا إلى إحراق آلاف المخطوطات القديمة، وقد قال سيساكو في مؤتمر صحفي يخص الفيلم: إن أسباب صنع هذا الفيلم متعددة، لكن كان منها حادثة مهمة دفعته إلى التفكير في هذا المشروع وهي اتهام رجل وامرأة بالزنا ورجمهما عام 2008م في قرية شمال مالي، كما أكد المخرج أن: "الدافع الأساسي لم يكن وقوع هذه الحادثة وإنما السكوت الذي أحاط بها"، مضيفا: "كأننا صرنا لا نبالي بالأحداث المرعبة"، كما كان من أكثر مشاهد الفيلم تعبيرية مباراة كرة قدم يلعبها مجموعة من الشباب ولكن من دون وجود كرة، ويُذكر أن هذا الفيلم حينما فكر فيه سيساكو كان يرغب في إخراج فيلم وثائقي لكنه تحول إلى فيلم روائي بسبب ظروف خاصة، ولم يحاول المخرج من خلال هذا الفيلم تقديم الشخصيات في صورة نمطية واحدة، إما أنها تمثل الخير فقط أو الشر فقط بل عبر عن هذه الشخصيات من خلال دوافعها وتركيباتها الإنسانية كما هو الواقع الذي نحياه؛ فرأينا "الجهادي" الذي كان مغني راب سابقا ومن ثم لا يستطيع أن يتحدث العربية ويفشل في إتمام جملته بينما علم التوحيد وراءه وكاميرا أمامه تسجل شهادته، كما نرى "جهادي" آخر يدخن سرا ويحب سرا، وتميز الفيلم بجماليات الصورة السينمائية، وقد تم اختيار سيساكو في لجنة تحكيم مهرجان "كان" عام 2007م ليكون بذلك أول إفريقي ينال هذا الشرف، كما تُوج في أكتوبر 2009م بوسام فارس في الثقافة والفنون في نظام الاستحقاق الفرنسي.
ليس معنى الحديث عن عبد الرحمن سيساكو أن السينما الموريتانية لم يكن فيها غيره من المخرجين، بل كان هناك الكثير من الأفلام السينمائية المتميزة التي قدمها غيره من مخرجين آخرين؛ حيث ترجع بدايات السينما الموريتانية إلى السبعينيات من القرن الماضي مع المخرج "همام أفال" الذي كان رجل أعمال مهتما بالسينما؛ فقدم ثلاثة أفلام سينمائية هي "تيرجيت"، و"ميمونة"،  و"بدوي في الحضر"، وبلغ عدد دور العرض السينمائية التي يمتلكها 11 دارا في العاصمة نواكشوط، ولا يمكن إغفال المخرج محمد هندو الذي ينحدر من أب موريتاني وأم مالية، وهو الحاصل على جائزة التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية سنة 1974م بفيلمه "عمال عبيد"، كما أخرج هندو عدة أفلام توثيقية عالجت في أغلبها مواضيع الهجرة والعنصرية والتمييز ومشاكل القارة الإفريقية ومن أشهر أفلام هندو فيلمه الأول "جولة في المنابع، 1967م، وهي قصة إفريقي أسود هاجر إلى فرنسا، لكنه قرر طواعية العودة إلى وطنه، فدفع ضريبة هذا القرار، وفيلمه الأشهر "أيتها الشمس"Soleil O  1969م الذي وضع فيه قدرا غير قليل من سيرته الذاتية وحاول فيه أن يعالج بعمق وروية مشكلة الرق، ويربطها بالاستعمار من خلال بطل الفيلم الذي ذهب إلى باريس بحثا عن عمل ومسكن؛ فيصبح في النهاية على شفا الجنون بعد سلسلة من المضايقات العنصرية والتمييزية؛ فينطلق باتجاه الغابة من دون أن نفهم خطوته الموالية، كما أن عنوان الفيلم هو مقطع من أغنية إفريقية قديمة كان يدندنها الرقيق في طريقهم إلى أسواق النخاسة الأوروبية، وفيلمه "كل مكان ولا مكان، 1969م الذي يحكي قصة زوجين فرنسيين من خلال واقع إفريقي، وفيلميه "جيراني" 1973م، و"العرب والزنوج أو جيرانكم" 1973م، وفي هذين الفيلمين يلقي محمد هندو الضوء على واقع الأفارقة السود في فرنسا لكن هذه المرة يضيف إليهم العرب المهاجرين ويمنحنا الفيلمان تأشيرة دخول إلى المصير الموحد بين الأفارقة والعرب في أوروبا، وقد قدم هندو العديد من الأفلام الأخرى منها: "ملك الحبال" 1969م، و"يكفينا من النوم حين نموت" 1976م، و"البوليساريو.. شعب مسلح، 1978م، و"ساراوينا" 1986م، و"ضوء أسود" 1994م، و"وطني" 1998م، و"فاطمة" 2004م، لينتهي به المطاف مُقيما في العاصمة الفرنسية حيث يعمل الآن مُدبلجا لصوت النجم الأمريكي "إدي ميرفي"، كما لا يمكن نسيان المخرج عبد الرحمن ولد أحمد سالم الذي عمل كمساعد مخرج مع سيساكو في فيلمه "في انتظار السعادة" ودرس السينما فيما بعد ليعود إلى موريتانيا ويؤسس "دار السينمائيين" التي أنتجت منذ تأسيسها ما يربو على الخمسين فيلم سينمائي، كما أخرج ولد سالم العديد من الأفلام التي كان من أهمها "نواكشوطي" 2005م، وهو فيلم وثائقي يقدم بطاقة تعريف من زوايا خاصة لمدينة نواكشوط في يوبيلها الفضي، وفيلم "رجل وخيمة وعلم" 2005م، وهو فلم وثائقي أيضا يتحدث عن بداية تأسيس موريتانيا الجديدة سنة 1960م مباشرة بعد الاستقلال حينما لم تكن هناك إلا خيمة وعلم قيد التخيل، ورجل هو أبو الأمة الموريتانية، أول رئيس لموريتانيا المختار ولد داداه، ثم فيلمه "جذور مشتركة، 2006م الذي يعتمد على الموسيقى ويسعى إلى اكتشاف أوجه الشبه بين الموسيقى الموريتانية والفلامنكو، وفيلم "1،2،3,4" 2008م الذي يحكي تجربة المخرج مع تعلم اللغة الفرنسية، في بلد عربي كان يوما ما مستعمرة فرنسية؛ "وادان تي في، 2008م، وهو ثمرة ورشة تدريبية أشرف عليها ولد أحمد سالم في فرنسا لشباب فرنسيين وموريتانيين حول السينما؛ وفيلم "تاكسي الديمقراطية" 2007م الذي كان فيلما روائيا يطرح مفهوم الديمقراطية في العالم الثالث للنقاش من خلال مجموعة من الركاب في حافلة نقل عمومية، وفيلمه "جمعيتنا" 2009م وهو فيلم وثائقي عن البرلمان الموريتاني، ولعل أهمية "دار السينمائيين الموريتانيين" التي أسسها ولد أحمد سالم تعود إلى حرصها على النهوض بالحركة السينمائية الموريتانية بتنظيمها لمهرجان نواكشوط للفيلم القصير في الفترة من 23 حتى 29 أكتوبر من كل عام، كما تُقام بالتوازي مع أيام المهرجان، ورشات تهتم بالسيناريو والإخراج والمونتاج يشرف عليها مختصّون من الخارج.
لعلنا لا ننسى المخرج الموريتاني سيدني سوخنا أيضا الذي قدم أفلاما مهمة حينما هاجر إلى فرنسا ودرس السينما هناك وأخرج أفلاما مثل "الجنسيات المهاجرة" 1975م الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم في "فيسباكو" سنة 1977م، كما قدم فيلمه الثاني "سافرانا" 1978م، لكنه عاد فيما بعد إلى الوطن الموريتاني مرة أخرى لينسى السينما تماما ويبتعد عنها متفرغا للعمل في السياسة؛ فتقلد العديد من المناصب الدبلوماسية والحقائب الوزارية كما أصبح عضوا في البرلمان الموريتاني.
هناك أيضا مخرجين آخرين قدموا العديد من الأفلام الجيدة التي اشتركت في الكثير من المهرجانات العالمية منهم المخرج الموريتاني محمد سالم ولد دندو الذي أخرج فيلمه "القلب النابض" 2007م، وفيلم "رحلة التامركيت" 2007م، وغيرهم من المخرجين.
ربما كانت السينما الموريتانية حديثة العهد في لحاقها بالسينما العالمية، لكن رغم هذه الحداثة استطاعت تقديم العديد من المواهب السينمائية المهمة التي قدمت الكثير من الأفلام المختلفة ذات الخصوصية المختلفة عن غيرها من السينمات الأخرى؛ مما يدل على خصوصية ثقافتها وتجربتها؛ وهو ما رشح معظم مخرجيها لحصد المزيد من الجوائز العالمية المهمة، وتسليط الضوء على هذه السينما المنزوية.



محمود الغيطاني

مجلة الثقافة الجديدة
عدد أكتوبر 2016م