الخميس، 6 أكتوبر 2016

الأديب المصري محمود عبد الغني: "متحف النسيان" رواية تلاعب التاريخ: أكد أنه يتلصص على العالم ليكتب بصدق





  كتب عنه العديد من النقاد احتفاء بروايته معتبرين أنها شكل جديد من أشكال الكتابة التاريخية، أو أنها الجيل الثاني من شكل كتابة الرواية التي تتناول التاريخ، ورغم أنها روايته الأولى إلا أنها لاقت اهتماما نقديا وضعها في مكانة تليق بها؛ مما أهلها للفوز بجائزة ساويرس لشباب المبدعين 2013م. تخرج محمود عبد الغني في كلية التربية قسم التاريخ، وربما كان هذا هو السبب في اهتمامه بالتاريخ في كتابته الإبداعية، وسبق أن فازت قصته القصيرة "أجواء سبتمبر القادم" بجائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة.


-          يرى البعض أن روايتك "متحف النسيان" هي رواية تاريخية، بمعنى أنها تحاول استلهام التاريخ؛ كي تنسج من خلاله سردك الروائي، هل ترى أن هذه الرؤية تتناسب مع ما كتبته؟

في البداية لم يكن القصد أن أكتب رواية تتناول شخصيات تاريخية معروفة، وإنما كنت أرغب في كتابة تتناول التاريخ ذاته، وكيف أن الناس العاديين يؤثروا ويتأثروا بالحوادث الكبيرة، التي هي بالتالي مكونة من جزيئات صغيرة يُحدثها عموم البشر لتتجمع وتُشكل الحدث الكبير، هنا لا يوجد قائد أو ملهم أو مُوجّه، بل حدث مبني على الفعل ورد الفعل، تستطيع القول: إن "متحف النسيان" رواية ترغب في اللعب مع التاريخ، وتميل إلى المراوغة، وعندما كنت أكتب، كنت أشعر بأني أتلصص على العالم.

-          و لكن من خلال ما قرأته في الرواية، لاحظت أنها كانت خالية تمامًا من أي سرد تاريخي، هي مجرد هاجس سيطر على أحد الباحثين في مجال التاريخ، وحاول أن يتوصل إلى صدق هاجسه رغم عدم وجوده.

تماما، لا يوجد فيها حدث تاريخي واضح، ولا ترتيب زمني للحوادث، فقط زمن حلزوني أشبه بشكل مجرتنا درب التبانة. لا تستطيع أن تقرر ما الذي حدث أولا وما الذي يليه، وهذا الباحث الذي تتكلم عنه سيظل يبحث عن ضالته إلى الأبد من دون جدوى، لأنه يرغب في معرفة كل شيء عن كل شيء، وهنا تبدأ المراوغة start the game   شيء يثبت ما حدث وآخر ينفي، أنت لا تستطيع الهروب، لا تستطيع الخلاص، كما أنك لا تستطيع ترك الكون، وليس من حقك نفي وجود الأشياء أو تأكيد وجودها، فقط دعنا نأمل أنني وأنت والعالم موجودين، فقط "اذهب إلى وهمك ولا تعد قبل أن تثبت لنفسك وللآخرين أنه حقيقة"، هذه هي الجملة التي صدّرت بها الرواية.

-          ألاحظ في الرواية أنك تحاول البحث عن تاريخ الناس البسيطة، الناس الذين تمضي حيواتهم وكأنها لم تكن؛ مما يجعلك تطلق على هذه الحياة اسم متحف النسيان.

الناس البسيطة بالمفهوم الذي أعرفه هم حقيقة هذا العالم، والوقود الذي تتحرك به آلية الحوادث، أما الحيوات التي تمضي كأنها لم تكن هي ذرات صغيرة في كون كبير، وهي التي تجعله دائم الحركة لا يهمد، وكل ذلك يحدث بشكل غير محسوس؛ حتى أننا لم نستطع حتى الآن اختراع تليسكوبا متناهي الدقة؛ لكي نرصد هذه المنظومة، لقد أخترعنا تقنيات للكشف عن العوالم بالغة الصغر (الميكروسكوب)، والعوالم بالغة الضخامة (التلسكوب)، ولكننا حتى الآن لم نخترع تلك التقنية التي تكشف عن العوالم بالغة التعقيد، الغارقة في الظاهر في الفوضى، ولكنها تحمل قوانينها، ثمة قانون كوني ينظمها، هي تصنعه بما يوافق حركتها، لكننا لا نستطيع فك طلاسمه، أما اسم "متحف النسيان" ففيه تناقض واضح؛ فالمتحف نضع فيه الأشياء التي نرغب في تذكرها، فلماذا بنيناه هنا من أجل النسيان؟

-          تعمدت في الرواية أن يتداخل الهاجس مع الحياة الحقيقية للباحث التاريخي؛ فأوقعت القارىء في مأزق: أين الحقيقي من المتخيل هنا؟

لم يكن هناك أي تعمد لإيقاع القارىء في أي مأزق، القارىء هو من أخذ نفسه لهذا المأزق، هو أراد تقمص دور الباحث، وأنا لم أطلب منه ذلك، أو أدفعه ليكون هكذا، القارىء يرغب في معرفة الحقيقة وأنا لا أمتلك تلك الحقيقة لأقدمها له، إليك هذه الحكاية: أرسلت لي إحدى القارئات واسمها "سارة" بعد أن انتهت من قراءة الرواية هذه الرسالة: (أنا كنت عايزة أعرف مين البنت ذات العيون الملونة بالأخضر الربيعي والكتيب الأصفر)، وسألت هل الرواية سيكون لها جزء ثان؟ هذا هو مضمون رسالتها، لقد أرادت سارة الوصول للحقيقة، وهذا حقها، بالدرجة التي جعلتها تسأل عن جزء ثان للعمل، وأنا لم أطلب منها أن تعطي فرصة للخيال، فقط قدمت لها الذريعة لذلك.

-          ألا ترى أن أسلوب السرد الروائي كان صعبا بالنسبة للقارىء غير المتمرس، بمعنى أن التداخلات بين العالم الذي يبحث عنه الباحث التاريخي- الذي هو في خياله فقط- و بين عالم الراوي نفسه لم يكن بينهما مسافة معقولة لدرجة أنها جعلت العالمين يكادا أن يكونا عالما واحدا؟

لم يكن صعبا، وأغلب قرائي على ما أعتقد عاديين، وتداخل العوالم في الرواية كان من وجهة نظري ضرورة فنية تفهمها القراء، لكنك على حق في أنه قد يسبب مشكلة أثناء القراءة، كنت أشعر بها وأقلق منها، لكني انحزت في النهاية للضرورة الفنية التي فرضتها الرواية، معوّلاً بعد ذلك على ذكاء القارىء، الذي فاق كل ما توقعت، كنت دائما أذكر نفسي بعبارة " كن واثقا بالقارىء؛ هو أذكى مما تتخيل، وإن استطعت أن تشركه في الكتابة فافعل".

-          وقع الباحث التاريخي في نهاية الرواية داخل مخطوطه- الذي ليس له وجود في الحقيقة- فعاش فيه وصار شخصا من ضمن شخصيات القرية التي يبحث عنها في شكل من أشكال التماهي عما يبحث عنه، هل تريد أن تقول: إننا إذا لم ننتبه إلى هؤلاء المسكوت عنهم على مر التاريخ، فنحن لابد أن نكون مثلهم في نهاية الأمر مسكوتا عنهم؟

لسان حال الباحث التاريخي في الرواية كان يقول: "إن لم أستطع امتلاك الحقيقة فلأكون جزءً منها"، و نحن أيضا علينا أن نكون جزءً من هذه الحقيقة، وألا ننفي وجود ما كان؛ كي لا يأتي أحد بعدنا وينكر وجودنا.
 
-          هل نستطيع القول مثلا:  إن قرية " كوم أبو شيل" تكاد أن تمثل المنطقة العربية بالكامل في شكل من أشكالها، وأننا قد يأتي علينا الوقت الذي يتناسانا فيه التاريخ مثلها؟

"كوم أبو شيل" هو المكان الذي ولدت فيه، و بداخله رأيت العالم، هو بالنسبة لي يمثل الكون في بدايته، وهو عزيز ومقدس عندي؛ لأنه منحني الوجود، وقدم لي جذورا أعود إليها كلما انتابني التعب، لكني لم أقصد أن الأمر له علاقة بأحوال المنطقة العربية، كما أني لا أنكر أنني تأثرت بهذه الأحوال.

-          هل تمثل لك جائزة ساويرس أي مردود أدبي أو مادي بالنسبة لهذه الرواية؟

الجائزة منحتني مزيد من الثقة في الكتابة، مثلها مثل الثورة التي منحتني الثقة في التاريخ.

-          قسمت روايتك منذ البداية إلى خطين متوازيين الأول أطلقت عليه المتحف، وهو الذي يمثل الحياة الآنية والحقيقية للباحث، بينما أطلقت على الخط الثاني اسم المخطوط، وهو الذي يحكي أو يؤسس لأسطورة قرية "كوم أبو شيل" التي يتجاهلها التاريخ في العالم كله؛ لتأتي النهاية بالمزج بين المتحف والمخطوط وتتماهى الحواجز بينهما ليصبحا عالما واحدا، هل عمدت إلى صفع القارىء بهذه النهاية؟

الخط الذي أطلق عليه "المتحف" هو رحلة الباحث عن الحقيقة داخل متحف كوني كبير محفوظ فيه تذكارات تعبر عن عالم كان موجودًا حقيقة في هذا الكون، والأزمة التي وقع فيها الباحث أن هذه التذكارات خرساء، وأن صمتها يخبىء أكثر مما يبوح؛ فلجأ لمعرفة الحقيقة من خلال المخطوط الذي يسرد أحداثا خيالية، وما كان أمام الباحث لكي يصل إلى نتيجة إلا أن يمزج بين الحقيقة والخيال، أو بين المتحف والمخطوط، وهذه النهاية لم تكن متعمدة أو حتى مخطط لها أثناء كتابة الرواية، ولكني وجدت نفسي مدفوعًا نحوها دفعًا، من دون أي إرادة مني. 

حاوره: محمود الغيطاني



جريدة "الجريدة" الكويتية
7 أكتوبر 2016م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق