الأربعاء، 29 مارس 2023

الجبل: الطريق إلى الوهم مُعبد بالجثث!

إن التأمل في فيلم "الجبل" للمُخرج خليل شوقي في أولى تجاربه الإخراجية الروائية الطويلة 1965م، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية للروائي فتحي غانم بنفس العنوان لا بد أن يُثير العديد من المُقارنات بينه وبين فيلم "المُومياء" للمُخرج شادي عبد السلام 1969م، وهما الفيلمين اللذين تم إنتاجهما من خلال المُؤسسة المصرية العامة للسينما؛ لوجود الكثير من التقاطعات بينهما، هذه التقاطعات التي لا يمكن أن تعني، بالضرورة، الاقتباسات أو النقل بقدر ما تعني تشابه الموضوعات والشخصيات إلى حد ما، وإن كان فيلم عبد السلام أكثر عُمقا فنيا من فيلم "الجبل" رغم كونه تاليا عليه.

إن كلا الفيلمين يتحدث عن سرقة الآثار المصرية في الجنوب والاعتياش على بيعها للأجانب، صحيح أنه في فيلم الجبل كان الناس يعيشون في قلب الجبل وكهوفه من أجل الحفر "الكحت" للتنقيب عن الآثار خفية وبيعها، بينما في فيلم المُومياء كانوا يعيشون في قرية، لكن الموضوع لا يختلف بين الفيلمين. كما أن شخصية حسين- قام بدوره المُمثل صلاح قابيل- المُمزقة بين الانتماء الهوياتي إلى أهله من سكان الجبل، وتاريخهم، وإيمانهم بما يفعلونه، وبين الرغبة في النزول منه للسكنى في المساكن التي بناها المُهندس فهمي- قام بدوره المُمثل عمر الحريري- والحياة بعيدا عن سرقة الآثار، لا تختلف كثيرا عن شخصية "ونيس"- قام بدوره المُمثل أحمد مرعي- وهو ابن قبيلة "الحربات" الشهيرة بالتنقيب عن الآثار في جنوب مصر من أجل بيعها، وهو الذي يرفض العمل مع قبيلته في سرقة الآثار ويقع في مأزق التمزق أيضا بين الانتماء للقبيلة وبين الخروج عليها، هذا المأزق الذي ينتهي به إلى الهروب من القبيلة وإبلاغ الشرطة وبعثة الآثار عما تقوم به القبيلة من أعمال. صحيح أن حسين في فيلم "الجبل" حاول التملص من أهل الجبل بالنزول إلى الوادي والسكنى في البنايات منذ البداية، وصحيح أنه قد نجح في ذلك بعدما مات أبوه تحت ركام الحفر في السرداب، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى إلى الجبل وعاود "الكحت"/ الحفر والبحث إلى أن تأكد له وهم ما يبحثون عنه، أي أنه لم يقم بإبلاغ الشرطة عن أهل الجبل، بل تأكد له أن ما يعيشونه مُجرد وهم يسلبهم حيواتهم وأعمارهم فقط، بينما في فيلم "المُومياء" يخرج ونيس من مأزقه الوجودي بين انتمائه لقبيلته، وبين رفضه ما يتم على أيديهم، ويختار في نهاية الأمر الإبلاغ عنهم لبعثة التنقيب، أي أنه مع تشابه الشخصيتين إلى حد بعيد إلا أنهما لم يسلكا نفس المسلك في كل من الفيلمين. فضلا عن المشاهد التي تكاد أن تتشابه في الديكورات بين الفيلمين وإن كانت ديكورات شادي عبد السلام أكثر اكتمالا وفنية في فيلمه.


مع هذه التشابهات بين الفيلمين تتبين لنا أهمية الفيلم الذي قدمه المُخرج خليل شوقي في فيلم "الجبل" الذي نستطيع القول عنه: إنه كان بمثابة الإرهاصات الأولى التي مكنت شادي عبد السلام من التأمل وصناعة فيلمه المُومياء.

يبدأ المُخرج خليل شوقي فيلمه في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre بداية ذكية ومُتقنة وقوية؛ فرغم عدم معرفتنا لفحوى الفيلم المُقدم لنا، ولا موضوعه إلا أن المُخرج يفتتح الفيلم بمجموعة من المشاهد الذكية باعتبارها مشاهد تأسيسية للفيلم بالكامل تدعو بالضرورة إلى تساؤل المُشاهد عما يقصده المُخرج منها؛ فنرى سردابا طويلا لا نفهم مغزاه، ثم لا يلبث الانتقال إلى مشاهد مجموعة من الرجال الذين يعملون بجد على تكسير الصخور في أحد الأماكن المُغلقة، ثم سقوط الصخور على قدم أحدهم ليفقدها، كذلك موت رجل آخر داخل هذا المكان المُغلق بكومة من الصخور المُتساقطة.


إن هذه اللقطات الاستهلالية تمتلك من الإتقان والجودة الفنية والذكاء ما يجعل المُشاهد في حالة تأهب وانتظار وتساؤل دائم عن المقصود من هذه المشاهد القصيرة المُختصرة؛ ومن ثم يكون المُخرج قد كسب انتباه المُشاهد معه لفترة طويلة من زمن الفيلم، وهو المقصود أساسا من هذه البداية، حيث يكون اكتساب المُشاهد إلى صف العمل من أهم أساسيات العمل الفني.

إن قصة الفيلم التي تتحدث عن مُهندس موهوب تكلفه الحكومة ببناء مجموعة كبيرة من البنايات؛ ليؤسس قرية لأهل الجبل الذين يقطنونه، راغبين في ذلك إخلاء الجبل منهم، لاسيما أنهم يقومون بالحفر فيه والتنقيب عن الآثار من أجل بيعها لا بد أن تلقي بظلالها على المُهندس المصري الشهير حسن فتحي الذي بنى قرية القرنة في جنوب مصر، خاصة وأن البنايات التي رأيناها في الفيلم تحمل قدرا غير قليل من البصمات المعمارية المُميزة لحسن فتحي، وإن كان اسمه في الفيلم هو المُهندس فهمي.


يبدأ الفيلم بالمُهندس فهمي الذي يركب جواده مُتجها إلى قلب الجبل وحده رافضا اصطحاب الشرطة له، ورغم أن صعوده للجبل وسط ساكنيه قد يعرض حياته للخطر إلا أنه يصر على الصعود ومقابلة عمدة الجبل وحده- قام بدوره المُمثل عبد الوارث عسر- أملا في إقناعه وإقناع سكان الجبل بالنزول من كهوفه والتخلي عن سكناه إلى القرية التي بناها في الوادي المُحيط به، لكن حسين/ ابن الجبل يقابله في مُنتصف الطرق ويطلب منه العودة وعدم الاستمرار في الصعود لأنهم من المُمكن لهم أن يقتلونه لا سيما أن جميع سكان الجبل ينتظرونه بسلاحهم ومعهم العُمدة؛ فيقول للمُهندس: اسمع الكلام يا أفندي، أنا وحدي، راجلين تلاتة ونسوانهم وعيالهم ينزلوا، لكن أهل الجبل كلاتهم ميتنازلوش، ولو عطاك ربنا قوة تنقل بيها الجبل ميتنقلوش. لكن المُهندس فهمي يُصرّ على استكمال صعوده مُقابلا للعمدة الذي يؤكد له أنهم يستحيل لهم الهبوط وترك الجبل الذي ولدوا فيه وعاش فيه أجدادهم بدعوى حماية الآثار والسائحين الذين يزورون المنطقة، كما أنهم يرون في سكنى البنايات مُجرد موت وليس حياة؛ فالحياة الحقيقية بالنسبة لهم هي سكنى الجبل وكهوفه فقط، وإذا ما ابتعدوا عنه لا بد أن يموتوا جميعا.


يعود المُهندس فهمي مرة أخرى إلى الوادي بينما يعتمل داخله الأمل وعدم الاستسلام لليأس بعد بنائه قريته الضخمة والتي بذل فيها كل قوته ووضع في مبانيها كل ما يحمله من موهبة معمارية. نعرف أن حسين غير راضٍ عن الحياة في الجبل و"الكحت"/ الحفر للبحث عن الآثار وسرقتها وبيعها للأجانب، ويرتبط بعلاقة صداقة قوية مع المُهندس، ويرغب في الهبوط إلى الوادي للسكن في البنايات كما أنه يرتبط بابنة الجبل مسعدة- قامت بدورها المُمثلة سميرة أحمد- وهي الفتاة التي تعشق حسين وترى أن البقاء في الجبل مُجرد وهم وضياع لأعمار الرجال الذين يموتون تحت ركام الحفر، أو تتقطع أيديهم تحت الحجارة المُتساقطة مع الحفر للتنقيب؛ لذلك تحث حسين على ترك الجبل من أجل السكنى في البنايات وتكليل قصة حبهما بالزواج في الأسفل.

ثمة مُلاحظة لا بد أن يلاحظها المُشاهد حينما يرى سميرة أحمد في دورها الذي تؤديه؛ فهي ابنة من أبناء الجبل الذين يتميزون بالفقر الشديد، والذين لا يجدون المال إلا في موسم السياحة، أو في حالة العثور على مقبرة جديدة يسطون عليها ويبيعونها للأجانب، وهذا يعني أنها مُجرد فتاة بسيطة تماما، لكننا نراها طوال أحداث الفيلم ومنذ أول مشهد لها مُكتحلة العينين وذات رموش اصطناعية طويلة، وهو الأمر الذي يجعلنا غير قادرين على الاقتناع بمكياجها أو كونها امرأة فقيرة من أهل الجبل، فهي بمثل هذا الشكل قد تتوافق مع أبناء المدينة، ولا يمكن لها حتى أن تتلاءم مع أبناء الوادي المُحيط بالجبل.


نلمح أن حسين يكاد أن يقع في أزمة نفسية ووجودية خطيرة بين انتمائه للجيل وأهله فيه، وبين رغبته ورغبة مسعدة في تركه إلى الوادي والسكنى في البنايات؛ لذلك يحاول الهروب من الجبل بالفعل إلا أن أباه الذي سبق له أن فقد قدمه بسبب "الكحت" يضبطه أثناء محاولة الهبوط إلى الوادي ويهدده بإطلاق النار عليه إذا ما فعل؛ لأن هذا الفعل لا بد أن يجلب عليه العار مدى الحياة؛ ومن ثم يرغمه على العودة إلى المنزل حيث بداية السرداب الطويل الذي يعملون فيه والذي يوصلهم إلى مقبرة من المقابر المُغلقة من أجل البحث فيها عن الكنز الذهبي، أو "مسخوط" من "المساخيط"/ جثة مُحنطة؛ لذلك حينما يعلم العُمدة بأمر محاولة حسين يقول غاضبا: عوضين طفش وترك أهله، وسعداوي طفش وخده المهندس في البنايات، أندال ملهمش قيمة، نساوين تركناهم لحالهم، لكن حسين أخو مريم مرتي يهجرنا؟! لا، عار علينا كلنا، عار على الجبل من يوم ما شاء ربنا؛ فيرد أبو حسين قائلا: هقتله!


ربما يبدو لنا الأمر هنا مُرتبطا بالعار والعيب أكثر من ارتباطه بالتمسك بحياة الجبل التي نشأوا عليها، أي أن الأمر يتشابه تماما مع شرف المرأة وجسدها الذي لا يمكن له الانكشاف على غريب أو أن تتصرف فيه كيفما يحلو لها وإلا حُق عليها القتل بسبب العار. كذلك فإن ترك أحد الرجال لحياة الجبل يجعله مُكللا بالعار مدى عُمره هو وكل من يمت إليه بصلة قرابة؛ لذلك فهم لا يمكن لهم التخلي عن حسين أو الانصياع له في رغبته في الهبوط وإلا أصابهم العار جميعا باعتباره ذي نسب مع عمدة الجبل.

لكن أثناء "كحت" حسين في السرداب الطويل الذي أُرغم على العودة إلى العمل فيه يدخل والده إليه ليسأله لم يحفر وحده بعد رحيل الرجال، إلا أن الأب يلمح عتبة إحدى المقابر في السرداب، وهي العتبة التي لم ينتبه إليها أحد؛ فيخفيها بحجر من دون أن يلمحه حسين راغبا في اكتشافها وحده، كما يضرب كشاف الجاز بحجر ليخرج حسين ويسرع الأب إلى الخواجاية- قام بدورها المُمثلة زوزو ماضي- المُقيمة معهم في الجبل من أجل شراء أي شيء من المُمكن لهم أن يكتشفونه، ويخبرها أنه قد توصل إلى الكنز؛ فتطلب منه إخراجه لحين ذهابها إلى البر الشرقي والإتيان بالمال من أجل شراء الكنز.


يتجه والد حسين إلى داخل السرداب وحده ويبدأ في الحفر مُستندا على عكازه رغم كونه قد فقد إحدى قدميه من قبل بسبب الحفر، وأثناء حفره في المقبرة تدخل ابنته مريم/ زوجة العمدة- قامت بدورها المُمثلة ماجدة الخطيب- وحينما تسمع صوت الدق يأتيها من داخل السرداب تشعر بالقلق على أبيها وتزحف على بطنها من أجل الدخول إليه ومُساعدته، لكنها حينما تصل إليه يدق عنقها بالمعول الذي يدق به الصخر حتى لا تخبر أي شخص باكتشافه للكنز الذي يرغب في الاستحواذ عليه وحده، ويستكمل حفره وكأنه لم يقتلها، لكن الحفر يؤدي إلى انهيار الجدار عليه مما يؤدي لمقتله بدوره!

ألا نلاحظ هنا أن البحث عن الكنز المزعوم من المُمكن له أن يجعل الأب يقتل ابنته وكل من يمت إليه بصلة؟ إنه الفقر والعوز والطمع الشديد وإيثار الذات الذي يجعل مُعظم سكان الجبل يتمسكون بالبقاء فيه رغم الفقر الشديد الذي يعانونه، لكنه الأمل في الحصول على المال الذي لا يمكن له أن يتركهم حتى لو فقدوا عائلاتهم بكاملها من أجل العثور عليه!

إن موت والد حسين وشقيقته مريم في ذات الوقت داخل السرداب يعد بمثابة انتقالة محورية في السيناريو؛ حيث يجعل حسين يشعر بالثورة الشديدة ويتغلب على تردده في الهبوط إلى الوادي؛ ومن ثم يدعو أهل الجبل في الهبوط معه إلى البنايات، وبالفعل يوافقونه على دعوته ويهبطون إلى الوادي من أجل تعمير البنايات التي كانوا قد سبق لهم أن أحرقوها بإيعاز من العُمدة؛ فيرحب بهم المُهندس فهمي ويمنح لكل منهم يومية عمل تبلغ ثمانية قروش كاملة؛ فيسعد الرجال ويعملون بهمة من أجل إعادة إعمار البنايات مرة أخرى.


لكن سمو الأميرة- قامت بدورها المُمثلة ليلى فوزي- وهي التي تكفلت بالإنفاق على البنايات مرة أخرى تصل إلى موقع العمل مع أحد الرجال الذي يغازلها طوال الوقت، وتطلب من المُهندس فهمي أن يريها أحد البنايات، وبالفعل يجعلها تتجول داخل إحدى البنايات التي من المُفترض أنها مُخصصة لعُمدة الجبل في حال هبوطه منه، وتطلب منه أن يريها غرفة النوم لتنفرد مع الرجل الذي معها فيها، كما تخبر المُهندس بأنها ستقيم حفلا راقصا في المكان هذه الليلة.

أثناء الحفل يتلصص عليهم أبناء الجبل ويرون الرجال والنساء يتراقصون بينما يشربون الكحوليات؛ مما يجعل أبناء الجبل غاضبين؛ فيتجه أحدهم إلى حسين قائلا له: أنتم قاعدين هنا والخبص والمسخرة والنسوان الفاجرة بيترقصوا قدام الجامع؟! فيذهب حسين إلى المُهندس فهمي مُستفسرا منه عما يدور، وهنا يحاول المُهندس تهدئته مُخبرا إياه بأنهم ضيوفهم وعليهم أن يحتملونهم حتى النهاية لا سيما أن الأميرة هي التي تُنفق على البنايات التي سيعيشون فيها.

تحاول الأميرة مراودة حسين عن نفسه لكنه يرفضها؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالغضب والحقد الشديد عليه، وبعدما يتم الانتهاء من إعمار البنايات يبدأ أهل الجبل في الهبوط إليها؛ ومن ثم تقيم الأميرة حفلا بهذه المُناسبة يحضره رجال الشرطة، لكن العُمدة يهبط إلى الحفل ويحاول الدخول فيمنعه رجال الشرطة ويتعاملون معه بطريقة مُهينة تجعل المُهندس فهمي يسرع للسماح له بالدخول ومصافحة سمو الأميرة؛ فيقول العُمدة لها: اسمعي يا أميرة، قولي للملك احنا ما ننتقل من الجبل، احنا عشنا في الجبل وهنموت في الجبل؛ فترد عليه: أنت تعرف الملك؟! لكنه يرد مُشيرا إلى المُهندس: الراجل دا نصاب، ووالرجالة اللي عم يترقصوا قدامك دول مش رجالتنا، جابهم من البر الشرقي، فترد الأميرة موجهة حديثها للمُهندس: أنت نصاب، بيقول إنك نصاب، لازم يموتوك. فيستمر العُمدة في حديثه: والبنايات دي ما تنفعنا، كيف نعيش في البنايات؟! دا بانيها قُبب، ما يرقد فيها إلا الأموات، البنايات دي للمسخرة وشُرب الخمرة يا أهل جهنم، احنا ما نقعد فيها يا كفرة يا قلالاة الدين.


هنا تشعر الأميرة بالإهانة الشديدة ويهجم رجال الشرطة على عُمدة الجبل؛ مما يجعل رجال الجبل بالكامل يهاجمون الشرطة وينقذون العُمدة من بين أيديهم ويعودون إلى الجبل مرة أخرى باختيارهم هذه المرة، وعدم رغبة منهم في الهبوط مرة أخرى بعدما تمت إهانة كبيرهم.

بعودة أهل الجبل إليه مرة أخرى يكتسب العُمدة مشروعيته وقوته التي كان قد فقدها فيما قبل، بل ويصبح من الضروري على جميع رجال الجبل العودة إلى "الكحت"/ التنقيب عن الآثار/ الكنز من أجل الحصول على المال الذي سيساعدهم على المعيشة، لكن حسين يقع في الحيرة مرة أخرى؛ فعودته هذه المرة إلى الجبل كانت برضاه الكامل، لكنه غير راضٍ عن عمليات التنقيب في ذات الوقت؛ لذلك تحاول الخواجاية التقرب منه وتسحبه معها إلى بيتها وتراوده عن نفسها مُقدمة جسدها له، وهنا يقرر حسين بعد العديد من المُضاجعات معها أنه سيعود مرة أخرى إلى "الكحت"؛ فهو لا يعرف شيئا في الحياة سواه.

ثمة مُلاحظتين مُهمتين هنا لا بد من التوقف أمامهما هنيهة: أولاهما: أن بناء القرية في الوادي/ البنايات وتسكين أهل الجبل فيها كان حلما لا بد من تحقيقه بالنسبة للمُهندس فهمي، أي أن البناء في حد ذاته كان مسألة حياة أو موت بالنسبة للمُهندس، وهو الأمر الذي سنلاحظه في الحديث الذي دار بين المُهندس وبين سعيد بيه ضيفه حينما يقول سعيد بيه: أهي دي رسومات بيوت الأهالي؛ ليقول المُهندس بحسرة: الأهالي؟ هما فين الأهالي؟ فيقول سعيد: يا ابني أنت بنيت مدينة مسحورة من غير سكان، صرفت فيها فلوس الحكومة، وحطيت فيها فنك اللي محدش راضي يفهمه، يمكن أنا كمان مش فاهمه، فيرد المُهندس: سعيد بيه، قصدك إيه؟! يقول سعيد: أنا بكلمك بصراحة؛ لأنك تلميذي وزي ابني، وأظن إني مقبلتش دعوتك إلا عشان أتكلم معاك بصراحة، أنا حاسس إن أنا مسؤول عن كل اللي حصل. المُهندس: سعيد بيه، مع حبي واحترامي لك، أنت معلمتنيش حاجات زي دي. فيقول سعيد: أنت لسة مش فاهمني، أنا عايز أراجعك وأشوف أد إيه أنت فاهم العمل اللي عملته، لمين أنت عملت البنايات دي؟ المُهندس: أنا مُهندس، معملتش حاجة لنفسي، خمس سنين وأنا قاعد أشتغل، بدرس طبيعة الأرض، الطوب، الضوء، بدرس حركات الناس، حركات أهل الجبل. فيرد سعيد: درست مفارحهم؟ الناس عايشة في كهوف، لكن عندها حلم بالكنوز، بالدهب والجواهر، بالجنة، هتجيبهم وتسكنهم في البنايات دي؟! عشان تديهم إيه؟ عشان يعترفوا إنك فنان عظيم؟ عشان يعترفوا إنك مُهندس عبقري؟! فيقول المُهندس: أنا عملت لهم كل حاجة، مدرسة، بيوت، سوق. فيرد سعيد: عملت لهم سوق عشان يتاجروا فيه، تسمح تقول لي هيتاجروا في إيه؟ عملت لهم بيت يسكنوا فيه، عظيم جدا، هياكلوا منين؟ وبصراحة، أنت معملتلهمش حاجة أبدا، أنت كنت عايز تبني مجد لنفسك بس، أنت عايز تكبر على حساب الناس دول، دي غلطتنا احنا كلنا، كلنا عايزين نكبر على حساب الناس دول واللي زيهم، بنتصور إننا بنعمل لهم المُعجزات وبننسى الأهم، إنهم يقدروا يعملوا المُعجزة بأنفسهم.


هذا المشهد الحواري المُهم يؤكد لنا أن مسألة بناء البنايات بالنسبة للمُهندس كانت مسألة جوهر وجودي يستطيع من خلالها إثبات ذاته وموهبته وتحققه في الحياة؛ لذلك فإن عدم مقدرته على إقناع أهل الجبل بالهبوط إلى البنايات، أو فشل ذلك بسبب التعدي على عُمدة الجبل كان بمثابة الموت الحقيقي له، كما أنه يجعلنا نتعاطف إلى حد بعيد مع أبناء الجبل الذين يعيشون على سرقة الآثار وبيعها للأجانب؛ فهم لا يعرفون في حياتهم أي شيء آخر غير هذه الحياة التي نشأوا عليها ومات عليها آبائهم وأجدادهم، ولكن السلطات الحكومية- غير الراغبة في مُشاركة أهل البلد لهم في الآثار ورغبتهم في تسكينهم في الوادي للتخلص من سرقاتهم- لم تدرس الأمر بعمق، ولم تلتفت إلى أنهم لا يتقنون أي شيء في الحياة سوى التنقيب؛ لذلك فلقد رأت السلطات أن مُجرد بناء قرية لهم في الوادي وتسكينهم فيها بمثابة الهبة والنعيم الذي قدمته إلى أهل الجبل، بينما الحقيقة تؤكد أن الحكومة لم تقدم إليهم أي شيء، بل ستدفعهم بالنزول إلى الوادي إلى المزيد من الإفقار والحاجة؛ حيث لا يعرفون ما الذي من المُمكن لهم أن يفعلونه بعد هبوطهم من أجل مُساعدتهم على الحياة. كان من الأجدى بناء المصانع لهم، أو تعريفهم كيفية العمل، وما هو العمل الذي من المُمكن لهم أن يعملونه من أجل استمرار الحياة قبل التفكير في بناء البنايات لهم.


المُلاحظة الثانية: إن موضوع التنقيب عن الآثار/ الكنز، والمساخيط/ الجثث المُحنطة بالنسبة لأهل الجبل هو موضوع حياة أو موت أيضا، أي أنه بمثابة موضوع وجودي بالنسبة لهم؛ ومن ثم فهم لا يستطيعون التخلي عنه ببساطة، وهو الأمر الذي يدفعهم إلى مقاومة الهبوط من الجبل رغم شظف الحياة التي يعيشونها، لكنهم يحيون على الأمل الدائم في العثور على الكنز الذي سينقلهم إلى حياة أكثر رغدا؛ وبالتالي يكون كل من أهل الجبل، والمُهندس متساوين من حيث المُنطلق ومن حيث الهدف أيضا وإن اختلفت طريقة التنفيذ.

يعود حسين إلى العمل في "الكحت" بهمة- بما أنه لم يعد أمامه من سبيل للحياة إلا الاستمرار في مُشاركة أهل الجبل ما يفعلونه- ورغم اعتراض ورفض وغضب مسعدة منه بسبب استسلامه للحياة في الجبل ونسيان الهبوط إلى البنايات إلا أنه يستمر فيما يفعله إلى أن يتم اكتشاف شيء ما يؤكد لهم أنهم قد وصلوا بالفعل إلى الكنز؛ مما يجعله يخبر الجميع ومنهم العُمدة، ويسرع بالتالي من أجل إخبار الخواجاية التي تتجه إلى البر الشرقي من أجل الإتيان بالمال اللازم للكنز.

يعود حسين إلى العُمدة ويخبره بأنه قد أخبر الخواجاية، ثم يسأله عن المصدر الذي تأتي من خلاله الخواجاية بالمال، فيخبره بأنها تأتي بالمال من زملائها الخواجات في البر الشرقي، وكان هناك من يزورها يوميا منهم في بيتها، وحينما يعرف حسين بأمر زيارتها من قبل أحد الرجال يشعر بالغضب الشديد، لكنه العُمدة يلمح غضبه ويخبره أنها أجنبية ولها الحرية في حياتها، وأنه لا بد له من الزواج من مسعدة بمُجرد استخراجهم للكنز.

يدخل العمدة وحسين وحدهما إلى السرداب من أجل استخراج الكنز، ولكن بمُجرد إحداث حسين فجوة في الجدار وفتحه، ومحاولة رؤيته لما خلف الجدار يكتشف أنه لا يوجد سوى بئر عميق لا قرار له خلف الجدار الذي أحدث فيه ثقبا؛ مما يجعله يشعر بالذهول الشديد ليصرخ حينما يسأله العمدة عما رآه: بير، بير غويط، طريق كداب يا بوي، أبوي، مريم، لينتهي الفيلم على صراخ حسين المُتألم بسبب ضياع أعمارهم جميعا خلف البحث عن الكنز الذي لم يكن سوى وهما يبحثون عنه ضاعت في سبيله الكثير من الحيوات منها حياة أبيه وأخته، وغيرهما من سكان الجبل، كما ضاعت أطراف العديد من أهل الجبل.

إن فيلم الجبل للمُخرج خليل شوقي في تجربته الإخراجية الروائية الأولى يُعد من الأفلام المُهمة في حقبة الستينيات التي حاولت تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال سينمائية، كما لا ننكر أن الفيلم كان من الإتقان الذي جعله يحول الرواية إلى فيلم جيد بالنسبة إلى الحقبة الزمنية التي تم إنتاج الفيلم فيها، لكننا لا يمكن لنا غض النظر عن التشابهات الكبيرة بينه وبين فيلم المُومياء للمُخرج شادي عبد السلام؛ مما يؤكد على أن فيلم الجبل كان هو الإرهاصة الأولى التي مهدت لفيلم شادي عبد السلام الذي كان أكثر إتقانا فنيا من الفيلم الذي سبقه، أو الفيلم التأسيسي له.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد مارس 2023م.

 

 

الأربعاء، 15 مارس 2023

أيام الجموح: الزمن بمثابته منفى!

في الفيلم الصيني Days of being Wild أيام الجموح للمخرج الصيني Wong Kar- Wai وونج كار واي ثمة مأزق عاطفي يدفع إليه المخرج جميع شخصيات فيلمه، حتى أنها تقع أسيرة لهذا المأزق غير قادرة على الخروج منه، وكأنه المأزق الوجودي بالنسبة لهم جميعا؛ لكن رغم هذه العلائق العاطفية التي يدفع إليها المخرج شخصياته للانغماس فيها إلا أننا نلاحظ الكثير من الأسى والوحدة القاسية التي يعانون منها، وهي الوحدة التي تكاد أن تدفع بهم إلى الجنون، والشعور بمدى اتساع العالم من حولهم وضآلتهم أمام هذا العالم!

ربما كان أهم ما نلاحظه في الفيلم منذ الوهلة الأولى أن المخرج هنا لا يعتمد على قصة متنامية تتصاعد فيها الأحداث بالمُشاهد إلى قمة تناميها وتوترها ليكون الحل الفني في نهايتها، أو باعتماده على تراكم المَشاهد؛ كي تكون في النهاية الذروة التي هي الحل الفني للفيلم، بل هو يعتمد على ما يجوز لنا وصفه "باللاقصة"؛ حيث اعتمد المخرج على المشاهد المتجاورة، والقصص المتوازية لشخصياته السينمائية والتي لا تكتمل جميعها في نهاية الأمر، بل تظل نهاياتها مفتوحة على الفراغ، أي أنه اعتمد القصص والحكايات المبتورة لشخصياته في شكل من البناء الفلسفي والجمالي والبصري المبني في الفراغ، أو في متاهة مدينة لها خصوصيتها الثقافية التي تشعرك بالوحشة والوحدة مثل مدينة هونج كونج- المدينة المُحايدة بين الثقافتين الصينية والإنجليزية، والتي تتمتع بحكمها الذاتي وثقافتها المُختلفة عن الصين منذ رحيل الإنجليز عنها وانضمامها للصين- واكتفى بتصوير الأحداث اليومية فيها والتي قد تتقاطع مع بعضها البعض.

يبدأ الفيلم في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre على مشهد "يودي" الذي أدى دوره ببراعة الممثل الصيني Leslie Cheung ليزلي تشانج يسير في أحد الممرات المُظلمة ليعرج على أحد أكشاك بيع المرطبات ويتناول زجاجة من الكوكاكولا ثم يسأل البائعة بثقة وعدم اكتراث عن اسمها، لكنها ترد عليه بدهشة وعدم اهتمام: ولماذا قد أخبرك؟! إلا أنه يجيبها بكل ثقة: إنه يعرف اسمها ويخبرها به، ثم يؤكد لها أنها ستراه الليلة في أحلامها ويتركها منصرفا، ثم يكون المشهد التالي مباشرة ليودي يعبر نفس الممر المظلم ليعرج على كشك المرطبات كما رأينا تماما في المشهد الأول، ويتناول زجاجة من الكوكاكولا بنفس الثقة واللامبالاة لتخبره الفتاة المرهقة أنها لم تره في نومها؛ فيرد عليها ساخرا: لأنك لم تحاولي النوم، أي أنها امتنعت عن النوم حتى لا تراه بالفعل في أحلامها، وسرعان ما ينتقل المخرج إلى مشهده الثالث مباشرة ليودي يعبر نفس الممر في نفس التوقيت الليلي ليعرج على الكشك، وفي هذه المرة يؤكد للفتاة أنها قد رأته بالفعل في نومها، وحينما تسأله: ماذا يريد منها؟ يخبرها أنه يريد أن يكونا أصدقاء، لكنها حينما ترفض يطلب منها أن تنظر في ساعته لمجرد دقيقة واحدة، وبعد انتهاء هذه الدقيقة يسألها عن تاريخ اليوم، ويقول بثبات واثق في 16 إبريل 1960م الساعة الثالثة إلا دقيقة كنا هنا معا، سأتذكر دائما تلك الدقيقة بسببك، من الآن فصاعدا نحن أصدقاء الدقيقة الواحدة، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها؛ فقد حدثت، وهو ما يدفع الفتاة إلى التساؤل بينها وبين نفسها: هل سيتذكر هذه الدقيقة بسببي، لا أعلم، لكني تذكرته.


إذا ما توقفنا هنيهة أمام هذه المشاهد الثلاثة المتتالية بسرعة ورشاقة وتوتر للاحظنا العديد من المُلاحظات التي يتميز بها أسلوب وونج واي السينمائي: أولها أن المخرج قد حدد بإيجاز الزمن الذي تدور فيه أحداث فيلمه من خلال الحوار وهو عام 1960م، وثانيها، وهو الأهم، الاختزال البصري والابتعاد عن الثرثرة، وربما التأكيد على التكرار الزمني في سيميترية منتظمة، وهو ما جعل المخرج يحرص على تكرار المشهد الأول لثلاث مرات متتالية مع التركيز دائما على مشهد الساعة المُعلقة على الحائط، أو ساعة يده مع سماع صوت عقرب الثواني الذي كان ينافس صوت الممثلين، وهو ما يُدلل ويؤكد لنا على أهمية دور الزمن في عالم وونج السينمائي؛ الأمر الذي سيجعله طوال أحداث الفيلم مهتما بالتركيز على الساعات وصوت عقارب الساعة الذي لن يتركنا حتى نهاية فيلمه، أي أن المخرج يرغب في التأكيد على أثر الزمن في العلاقات والسلوك بين البشر وبعضهم البعض، وكأنما الزمن هو المُحرك الأساس والجوهري لعلاقات البشر. نقول: إن المخرج من خلال هذه المشاهد الثلاثة المتتالية نجح في اختزال الكثير من الوقت السينمائي ووضح لنا كيفية نشوء علاقة بين يودي و سو لي تشن- قامت بدورها الممثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل Maggie Cheung ماجي تشانج- من دون أي تزيدات أو ثرثرات.


ربما نلاحظ،هنا، أن المخرج يحرص، بشكل دقيق، على التركيز على الجانب السيكولوجي لشخصياته بشكل لافت، لا سيما شخصية يودي اللامكترث- فالثقة واللامبالاة المفرطتين اللتين يشعر بهما ويتعامل من خلالهما مع كل ما يحيط بحياته لا سيما النساء هما السبب في انجذاب النساء إليه؛ بل ويجعلهن أسيرات لعالمه بشكل فيه الكثير من الإهانة والاستسلام الكامل لرغباته الأنانية التي لا يرى فيها سوى نفسه فقط؛ فهو حينما أكد لسو لي تشن أنها ستراه تلك الليلة في أحلامها رغم عدم معرفتهما لبعضهما البعض نلاحظ أنها تحرص على عدم النوم؛ لثقتها في أنها بالفعل من الممكن لها أن تراه. هذه الثقة أو اليقين من جانبها بأنه صادق فيما قاله لها تأتي من ثقته هو في نفسه أثناء حديثه إليها وكأنه يخبرها بحقيقة لا مناص منها، أي أنه لعب على الجانب النفسي لديها، الأمر الذي جعلها تراه بالفعل حينما نامت؛ نظرا لتهيؤها النفسي لذلك. هذا السحر في شخصية يودي الواثقة اللامبالية الشاعرة بالسأم إلى حد بعيد من كل ما يدور في حياته هو ما كان يجذب إليه النساء مهما كان تعامله معهن شديد الفظاظة وفيه الكثير من الإهانة لهن، لكنهن يكن قد وقعن في شرك العاطفة التي لا يستطعن الخروج منها فيما بعد بسهولة، وهذا ما نقصده بالمأزق العاطفي في الفيلم، ليس بالنسبة للنساء فقط، بل لجميع شخصياته حتى الرجال؛ فالجميع في مأزق عاطفي لا يمكن الفكاك منه.


هذا المأزق هو ما يوضحه المخرج ببساطة في المشهد التالي لنزول التيترات حينما نشاهد كل من يودي وسو في الفراش لتسأله: كم من الوقت قد مر منذ تعارفنا؛ فيرد بلامبالاة وسأم: وقت طويل، لقد نسيت. هنا تسأله: هل يوافق على الزواج منها، إلا أنه يجيب بالرفض؛ الأمر الذي يجعلها ترتدي ملابسها وتخبره بأنها لن تعود إليه مرة أخرى، فما كان منه إلا أن اتجه بهدوء باتجاه المرآة مُعطيا لها ظهره ليصفف شعره صامتا غير مبدٍ لأي رد فعل إلى أن تخرج!

هذا الافتتان بالذات الذي نلاحظه لدى يودي سنراه غير مرة طوال مشاهد الفيلم؛ فحينما تهاتفه خادمة أمه وتخبره بأنها قد وقعت مُغشيا عليها بعدما أفرطت في تناول الكحول، يعرف أنها على علاقة بشاب يصغرها كثيرا وأنه يسرقها؛ فيذهب إليه ويوسعه ضربا ليأخذ منه قرطيها اللذين سرقهما، وبمجرد ما ينتهي من ضربه ويخبره أنه سيقتله إذا ما عرف أنه قد عاد لعلاقته مع أمه مرة أخرى نراه يقف أمام المرآة وكأنه لم يفعل شيئا مهتما بتصفيف شعره. إن هذه الشخصية التي لديها هوسا بشكلها الظاهري تفسر لنا سلوكه اللامبال مع كل ما يحيطه؛ فهي شخصية ترى العالم من خلال ذاتها فقط وكأنها مركز الكون الذي يدور في فلكها، وربما كان هذا هو السبب الذي جذب إليه ميمي لولو- قامت بدورها الممثلة الكندية الجنسية الصينية الأصل Carina Lau كارينا لاو- راقصة الملهى التي رأته يضرب عشيق أمه ثم يخرج للعناية بمظهر شعره وترتيبه.


تطمع ميمي لولو في القرطين اللذين نسيهما يودي وخرج، لكنه عاد مرة أخرى وأخذهما منها إلا أنه يتوقف قبل الخروج ويعطيها قرطا منهما ويخرج؛ الأمر الذي يجعلها تلحقه لتسأله عن القرط الثاني؛ فيخبرها بثقة أنه سينتظرها في الأسفل. هذا الأسلوب المُفرط في الثقة يجعلها بالفعل تتبعه للأسفل وتركب معه سيارته، وحينما يتوقف بها تسأله: أين نحن؟ فيجيبها بأنهما أمام منزله، فتقول له أنها لا تذكر بأنها واقفت على الذهاب معه إلى منزله، لكنه يخبرها بأنها لم تذكر العكس أيضا، ليهبط من السيارة ويتجه إلى مدخل المنزل الأمر الذي يجعلها تتبعه إلى الأعلى.

علنا نلاحظ المعاملة الفظة الواثقة الممتزجة بالكثير من السأم التي يتعامل بها يودي مع الجميع، وهو ما نراه مرة أخرى في تعامله مع ميمي لولو حينما تصعد معه وتسأله: لم هذه الغرفة فارغة؟ فيرد عليها: أنت تحبين التطفل بمنازل الآخرين، ورغم هذا الأسلوب المُهين فهو يحاول الإيقاع بها مثلما سبق له أن فعل من قبل مع سو من خلال حيلة الساعة التي نظرت فيها لمدة دقيقة، لكنه هنا يجذبها ميمي ويحاول تقبيلها إلا أنها تزم شفتيها؛ فيضغط على أنفها قائلا: لنر كم من الوقت بإمكانك عدم التنفس، الأمر الذي يجعلها في نهاية الأمر تستسلم له ولقبلته، ومن هنا تبدأ علاقتيهما.


يصعد صديق يودي إلى شقته من خلال الشرفة ليفاجأ بأنه مع ميمي لولو التي تجذب انتباهه، لكنه يعتذر وينصرف وقد علقت الفتاة بذهنه. وينتظرها حتى الصباح ويتعارف عليها، لكنها تحذره من أن يقع في حبها حينما تلمح ذلك في عينيه.

نعرف من خلال المشاهد المتتالية أن ريبيكا أم يودي- أدت دورها الممثلة الصينية Rebecca Pan ريبيكا بان- ليست أمه بالفعل بل كانت مومسا قديمة قد تبنت يودي من أمه الفلبينية؛ لتحصل على خمسين دولارا كل يوم نظير رعايتها له، بعدما اتضح لها أن أمه الحقيقية غير راغبة فيه، لكنها حينما أخبرته بالحقيقة لم تخبره بها كاملة، بل بنصفها فقط رافضة إخباره بأمه الحقيقية حتى لا يتركها ويرحل إلى الفلبين، ولعل هذه المعلومة كانت من الأهمية ما يجعلنا نفسر كثيرا سلوك يودي تجاه العالم وكل من يحيط به؛ حيث اللامبالاة والسأم اللذين يحيا من خلالهما، بل ويفسر لنا طريقة تعامله مع أمه- السيدة التي قامت بتربيته ورعايته- ريبيكا.


تشعر سو لي تشن بوحدة قاتلة بعدما تهجر يودي، ولا تستطيع التغلب على مشاعرها تجاهه؛ فتذهب كل يوم للجلوس أمام منزله علها تقابله بالمصادفة، لكن الشرطي الليلي "تايد"- أدى دوره الممثل الصيني Andy Lau أندي لاو- يلاحظها ويسألها عن سبب تواجدها، وحينما تخبره بأنها في انتظار صديقها يصعد الشرطي ويخبره بأن ثمة فتاة في الأسفل تدعي بأنها صديقته، ولا بد له من الهبوط معه للتأكد. حينما يراها يودي يسألها ببرود عن السبب في عودتها؛ فتخبره بأنها قد عادت لأخذ متعلقاتها الشخصية، ثم تخبره بأنها راغبة في العودة إليه مرة أخرى، لكنه يرفض مؤكدا لها أنه غير صالح لها، وأنه رجل لا يتزوج، إلا أنها توافق على البقاء معه منحية فكرة زواجهما من ذهنها؛ الأمر الذي يجعله يرفض تواجدها ويطلب منها الانتظار بالخارج لحين جمع متعلقاتها. هنا تسأله سو لي: هل سبق لك أن أحببتني بصدق؟ فيرد: لا أستطيع معرفة عدد النساء اللاتي سأقع في حبهن في حياتي، لن أعرف من هي أكثر من أحببت منهن حتى نهاية حياتي، ثم يدخل لجمع حاجياتها؛ الأمر الذي يجعل ميمي لولو تثور حينما يطلب منها خلع حذاء المنزل الذي في قدميها لأنه لا يخصها، وهنا تصعد سو لي لتراها وتنصرف، وتصر ميمي لولو بأنه ملكها وحدها ولن تتخلى عنه لأي فتاة أخرى مهما كانت رغم معاملته الفظة معها.


ربما كانت هذه الطريقة من الفظاظة المُبالغ فيها، والتي تعامل بها يودي مع سو لي كفيلة بأن تجعلها تكرهه وتبتعد عنه، إلا أننا نلاحظ أنها تظل بالأسفل لا تنصرف وتظل منتظرة باكية، وحينما يسألها الشرطي عن السبب في عدم انصرافها تخبره أنها في حاجة للنقود كي تستقل تاكسيا فيمنحها المال. تعود سو لي في ليلة أخرى إلى أسفل المنزل لتعطي الشرطي المال الذي اقترضته منه، لكنها تكون غير راغبة في الانصراف، وتطلب منه أن تتحدث معه ويستمع إليها؛ لأنها تشعر بأنها ستجن إن لم تتحدث مع أحد. هنا يبدآن في التسكع في شوارع هونج كونج الفارغة من البشر ليلا لتحكي له ما تشعر به من آلام بسبب حبها ليودي، كما تخبره بأنها تشعر بالحنين في العودة إلى الصين؛ فمدينة هونج كونج قاسية، ويخبرها بأنه لم يشعر بالفقر من قبل إلا حينما دخل المدرسة  حيث كان زملاؤه يرتدون زيا جديدا كل عام بينما لا يجد سوى زيه الوحيد الذي يرتديه كل عام، كما أنه كان يحلم بأن يكون بحارا، ولكن صحة أمه لم تكن جيدة، ولم يكن هناك غيره للعناية بها؛ فاضطر للبقاء والعمل كشرطي. يشعر كل منهما بالارتياح حينما يتحدثان لبعضهما البعض، ويخبرها في نهاية الليلة أن تعود إليه إذا ما شعرت بالاحتياج إلى من تتحدث معه، لكنها تخبره بأنها لا ترغب في مقاطعته أثناء عمله؛ فيخبرها بأن تهاتفه على التليفون العمومي في أي ليلة في نفس هذا الوقت حيث يكون موجودا، كما ينصحها باتخاذ قرار الابتعاد عن يودي لتستريح في حياتها، أو أن تصعد إليه وتخبره بأنها لا تستطيع الحياة من دونه.


يعلم يودي من والدته ريبيكا أنها قد ارتبطت برجل وستسافر معه إلى أمريكا، وتطلب منه أن يرافقها في السفر حتى لا تتركه، لكنه يرفض، ويخبرها بأنها قد احتجزته معها طوال حياتها ولم ترغب في إخباره عن أمه الحقيقية حتى لا يرحل ويتركها، وليس من حقها الآن أن ترحل وتتركه؛ فتخبره بأنها ستترك له المنزل وترسل له أموالا كل شهر؛ إلا أنه يرفض ذلك، ويتعامل معها بطريقة فظة؛ الأمر الذي يجعلها تخبره بالحقيقة كاملة عن أمه الفلبينية؛ فيبدأ في الاستعداد للسفر إليها. يقابل يودي صديقه ويمنحه مفاتيح سيارته، وشقته، ويطلب منه إخبار ميمي لولو أنه قد رحل إلى الفلبين، بل ويخبره بأنه يعرف حبه لميمي لولو، وأنه قد تركها له. وحينما تعرف ميمي برحيل يودي تشعر بالغضب والألم الشديدين، وتبدأ في البحث عنه في كل مكان لتتأكد فيما بعد أنه قد رحل بالفعل إلى الفلبين، ويحاول صديقه أن يتقرب منها إلا أنها تنهره وتؤكد له أنها لن تكون له، وأنها قد حذرته من قبل من الوقوع في حبها؛ فيحاول أن ينالها بصفعه لها محاولا اتباع طريقة يودي في التعامل مع النساء لكنها تتركه مؤكدة له أنها راغبة في الذهاب إلى الفلبين خلف يودي.


يبيع الرجل السيارة ويذهب إليها مانحا إياها المال كي تسافر إلى الفلبين خلف يودي، ويطلب منها العودة إليه إذا لم تجده. يسافر يودي إلى أمه لكنها ترفض أن تقابله، فيبقى في الحي الصيني في الفلبين غير راغب في العودة إلى هونج كونج التي تشعره بالسأم والوحدة والخواء، وهناك يقابله تايد/ الشرطي حيث يجده في أحد الشوارع ليلا وقد وقع على الأرض غير شاعر بنفسه بعد الإفراط في تناول الخمور؛ فيأخذه تايد معه إلى غرفته في الفندق. حينما يفيق يودي لا يتذكر أنه قابل تايد من قبل، ولا ينتبه إلى أنه الشرطي الليلي الذي كان يعمل في منطقة سكنه؛ فيسأله عن عمله، ويخبره تايد أنه يعمل بحارا، وأنه سيبقى في المدينة لعدة أيام لحين تفريغ السفينة، وقد كان يعمل شرطيا من قبل. يبقى يودي في غرفة تايد حتى الصباح ليذهبا معا إلى محطة القطار، وهناك يقابل يودي أحد رجال العصابات الذي اتفق معه على أن يجهز له جواز سفر أمريكيا وحينما طلب من يودي المُقابل يطعنه يودي ويحاول الهرب إلا أن رجاله يحاولون قتله فينقذه تايد بقتله لعدة رجال منهم بمسدسه الخاص، ثم يهربان في القطار.

يلوم تايد يودي على تعريض حياتهما للخطر، وحينما يذهب إلى عربة أخرى ليسأل أحد رجال الشرطة عن الوقت الباقي للوصول إلى المحطة التالية يعود ليجد يودي مقتولا من قبل أحد رجال العصابة الذي اقتفى أثرهما.


يستمر المخرج وونج كار واي في متابعة باقي شخصياته، فنرى ميمي لولو قد سافرت إلى الفلبين ونزلت في الحي الصيني بحثا عن يودي، وسو لي تشن التي تبيع تذاكر إحدى المباريات ثم تغلق شباك التذاكر في نهاية الليلة وحيدة، ثم اتصالها بالهاتف الثابت أمام بيت يودي لمحاولة الحديث مع تايد الذي لم يعد يعمل شرطيا واختار أن يكون بحارا متنقلا في كل مكان وسافر إلى الفلبين، لينتهي الفيلم على غرق الجميع في وحدة مُكتملة غرقت فيها جميع الشخصيات.

إن الشعور العميق والقاتل بالوحدة القاسية هو ما يجعل جميع شخصيات الفيلم في حاجة إلى بعضها البعض، ومحاولة التمسك بعلائقها رغم قسوتها، وربما تقبل الكثير من الإهانة والإساءة؛ فسو لي تشن قد عادت إلى يودي رغم عدم اكتراثه بها، ورفضه الزواج منها نتيجة شعورها بوحدتها العميقة التي جعلتها تتخلى عن فكرة زواجه منها، وميمي لولو تقبلت من يودي كل إهاناته اللفظية والجسدية وقسوته؛ لأنها لا تستطيع أن تكون وحدها، بل حينما رأته ذات مرة في مزاج سيئ عرضت عليه- رغم فقرها الشديد- أن تعيله من خلال عملها كراقصة في الملهى الشرقي؛ فالأهم لديها هو سعادته التي تجعله في مزاج متزن معها، وتنتشلها من الوحدة، وتايد الشرطي يعيش وحيدا في شوارع هونج كونج ليلا لديه شعور عميق بنفس الأمر؛ لذلك نراه يتجول في الطرقات الخالية مع سو لي ليؤانس كل منهما الآخر، فضلا عن صديق يودي الواقع في عشق ميمي لولو التي ترفضه ولا تستطيع الخروج من فلك عشقها ليودي، حتى أمه ريبيكا يدفعها الشعور القاسي بالوحدة إلى مُصادقة الشباب الصغار والدخول معهم في علاقات هربا من شعورها رغم إدراكها بأنهم يدخلون حياتها من أجل مالها فقط، كذلك فإن عدم رغبتها طوال حياتها في إخبار يودي عن أمه الحقيقية كان بسبب عدم احتمال رحيله إلى الفلبين وتركها وحيدة، هذا الشعور هو ما يجعل سو لي تقول لتيد: إن لم أقل ما بداخلي سأجن، حتى يودي نفسه يشعر بالكثير من الوحدة القاتلة التي تعمل على نهشه نفسيا رغم وجود الكثير من الشخصيات من حوله، وهي الشخصيات التي تقع في أسره وحبه والرغبة في الارتباط به، لكن رغم كل ذلك فشعور الوحدة القاتل داخله لعدم معرفته بأمه الحقيقية يكاد أن يقتله، أي أننا أمام مجموعة كبيرة من الشخصيات المشوهة نفسيا نتيجة شعورهم العميق والقاسي بالوحدة في مدينة هونج كونج.

المخرج الصيني وونج كار واي

هذه الرغبة في التعبير عن الوحشة العميقة التي تسود مدينة هونج كونج- مدينة المخرج- نجح المخرج في نقلها ليس من خلال شخصياته فقط، بل من خلال التصوير الذكي في كل مشاهده؛ فالمتأمل للفيلم سيجد أن جميع المشاهد التي تم تصويرها في هونج كونج- وهي المشاهد التي استمرت حوالي السبعين دقيقة من مدة الفيلم التي بلغت 100 دقيقة- كانت كلها مشاهد ليلية تميل للقتامة المُعبرة عن الاكتئاب الشديد، فضلا عن تصويره دائما لجميع شوارعها فارغة تماما، خالية من البشر، وكأنه يريد التأكيد على وحشية مدينة هونج كونج التي تعمل على تآكل البشر داخلها، فضلا عن تركيزه الدائم على الوقت من خلال معظم مشاهده التي تركز على الساعات وصوت عقارب الساعة العالية التي تبدو لنا كالضجيج في تأكيد منه على أن المدينة والزمن يلعبان دورا مهما في تشكيل السلوك الإنساني للبشر تجاه بعضهم البعض.

كما لا يمكن تجاهل الدور الجوهري للتصوير الذي أكد على أسلوبية المخرج وونج كار واي من خلال كاميرا المصور الأسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل الذي كان يعبر عن فلسفة وأسلوبية المخرج بشكل زكي، سواء من خلال نقل وجهة نظره، أو من خلال الكاميرا المحمولة التي كان يستخدمها في مكانها الصحيح لا سيما في مشهد يودي حينما رفضت أمه الفلبينية أن تقابله وابتعد عن المنزل غاضبا؛ حيث كان التصوير بالكاميرا المحمولة التي تشعر المشاهد بالغضب الشديد والتوتر أثناء انصرافه، أو المشهد الذي رأينا فيه الكاميرا تصعد على سلالم محطة القطار في الفلبين، ثم دخولها إلى المطعم؛ حيث نشعر هنا بأن الكاميرا كائن حي قادر على نقل وجهة نظره بنفسه، وليس وجهة نظر الممثلين أو المخرج، بل إن الكاميرا هنا تشعر، وتتحرك، وتتصرف، وربما تقول رأيها أيضا؛ مما يُدلل على الاختيار الذكي من المخرج لمصور بارع قادر على نقل ما يرغبه المخرج نفسه، ولعل التأمل المُتمهل لأحداث الفيلم يجعلنا ننتبه إلى أن الكثير من المشاهد ظهرت فيها الشخصيات كلها تقريبا من خلف سياج حديدي أو ما يشبهه؛ للدلالة على معاناتها النفسية جميعا وشعورهم بأنهم داخل سجن نفسي قاتل ربما هو الوقت، أو الشعور بالوحدة؛ مما يُدلل على أن المصور كان يدرك جيدا ما يفعله وكيفية تحريك الكاميرا وتكوين المشهد بناء على ما رغبة المخرج.

الممثل الصيني آندي لاو

لعل البطل الحقيقي في هذا الفيلم الجيد- الذي توافرت له كل أسباب التميز سواء على مستوى الإخراج أو التمثيل، أو التصوير، أو المونتاج- هو الموسيقى التصويرية للموسيقي Terry Chan تيري تشان الذي ألف موسيقى بقيت في الذهن لفترة طويلة بشكل أقرب إلى السيمفونية التي تتميز بالكثير من الشجن.

لكن، رغم أن المخرج الصيني وونج كار واي قد ترك جميع شخصياته معلقين في الفراغ، ولم يهتم بإكمال أو إغلاق أي حكاية من حكاياتهم سوى يودي الذي قُتل في القطار، مما قد يصيب المشاهد بالكثير من الدهشة لهذه الحكايات البائسة غير المكتملة، ولهذه الأسلوبية غير المعتادة بالنسبة للمشاهد العادي، إلا أننا نلاحظ أن مشهد النهاية- رغم أنه قد يبدو متزيدا ولا علاقة له بالفيلم- من الأهمية بمكان ما يجعلنا ننتبه إليه ويلفت انتباهنا؛ فبعدما قُتل يودي في القطار، وسافرت ميمي لولو إلى الفلبين للبحث عنه، وأغلقت سو لي تشن شباك التذاكر وحاولت الاتصال بتايد للحديث معه، وبقي صديق يودي منتظرا عودة ميمي لولو إلى هونج كونج، واستعداد الأم ريبيكا للسفر إلى أمريكا مع صديقها اعتقدنا أن الفيلم بالفعل قد انتهى على ذلك، إلا أننا نُفاجأ بالمخرج قد أضاف إليه مشهدا جديدا لم يكتمل أيضا ولن يكتمل أبدا في هذا الفيلم؛ حيث نرى إحدى الشخصيات التي لم تظهر في الفيلم من قبل وقد ارتدى بدلة فاخرة، ويستعد للخروج في سهرة أشبه بالمقامرة؛ حيث يضع الكثير من علب السجائر في جيبه، والأكثر من الأموال، وورق اللعب، ويقف أمام المرآة لتمشيط شعره والعناية به- تماما كما كان يفعل يودي- ثم ينتهي الفيلم على هذا المشهد، ولكن إذا ما تابعنا السينما التي يقدمها وونج كار واي، وعرفنا فيما بعد أن هذا الفيلم كان بداية لثلاثيته التي قدمها، والتي كان الجزء الثاني منها فيلم In the Mood for Love مزاج للحب 2000م، ثم فيلمه الأجمل 2046 عام 2004م؛ سنفهم أن هذا المشهد الختامي كان امتدادا لما سيأتي فيما بعد من أفلام تعمل على استكمال هذا العالم الساحر الذي بدأه.

 

محمود الغيطاني

مجلة نقد 21

عدد مارس 2023م.

من كتاب "سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية" للمُؤلف

 

 

 

 

الأربعاء، 8 مارس 2023

الكنز.. التاريخ الروماني بشكل هزلي!

رغم أن المُخرج والسيناريست الروماني Corneliu Porumboiu كورنيليو بورومبويو يقدم لنا- ظاهريا- قصة تكاد أن تكون هزلية للبحث عن كنز مدفون في حديقة أحد البيوت الرومانية من خلال أحداث فيلمه- الذي كتبه- The Treasure الكنز، أو Comoara حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة الرومانية، إلا أن المُتأمل لما هو خلف المشاهد الظاهرية سيتأكد له أن بورومبويو وأبطاله لم يحاولوا الحفر في التربة الطينية من أجل البحث عن الكنز في حقيقة الأمر، بل كانوا يحفرون في التاريخ الروماني نفسه وما حدث فيه من ثورات واحتلال من قِبل الشيوعيين، ثم ثورة تحررية أخرى فيما بعد لتترك رومانيا على ما هي عليه الآن، وهو من خلال هذا الحفر في التاريخ الروماني يعمل على تقديم صورة واقعية للمُجتمع الآن وما يعاني منه من أزمات سواء على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي.

إذن، فنحن أمام فيلم يقول أكثر مما يبدو ظاهريا؛ وبالتالي فهو في حاجة إلى مُشاهد مُدقق يستطيع فك شفرات الفيلم، أو الوصول إلى ما هو تحت السطح الظاهري الهادئ والخادع معا.

يبدأ المُخرج فيلمه على كوستي- قام بدوره المُمثل الروماني Cuzin Toma كوزين توما- في سيارته مع ابنه الصغير الذي يشعر بالغضب من أبيه لأنه تأخر عليه في التقاطه من المدرسة لتوصيله إلى البيت، ويدور بينهما حوار يبيّن علاقة الصداقة بين الأب وابنه، حيث يقول كوستي لابنه: روبين هود لا يتأخر أبدا، إنه يختفي فقط؛ فيرد عليه الابن: أنت لست بروبين هود، كما أنك لا تختفي.

إن الحوار الذي يدور بين كوستي وابنه يؤكد أن ثمة علاقة قوية بينهما، كما يوضح أن كوستي يحاول تمثُل دور البطل أمام ابنه؛ وبالتالي يتظاهر بأنه روبين هود الذي يقرأ حكاياته لابنه حينما يعودان إلى البيت، أي أن الأب هنا يحاول التمازج مع الشخصية البطولية التي يحبها الطفل؛ ليكون هو البطل في نظره.

نعرف أن كوستي يعمل في إحدى شركات العقارات، وأنه موظف من الطبقة المُكافحة المتوسطة التي تعيش الشهر بالكاد تحت ضغط المصروفات والأقساط التي يدفعها لسيارته وشقته. يطرق جاره أدريان- قام بدوره المُمثل الروماني Adrian Purcarescu أدريان بيركيريسكو- الساكن في الدور الرابع باب شقته رغم عدم وجود علاقة قوية بينهما طالبا منه أن يساعده في إقراضه مبلغ 800 يورو في حاجة ماسة إليه، لكن كوستي يسأله عن سبب حاجته للمبلغ؛ فيخبره أدريان أنه إذا لم يحصل على المبلغ فإن البنك سوف يحجز على شقته، ويخبره بالمبلغ الكبير الذي أخذه من البنك، والفائدة الكبيرة عليه، بعدما أفلست دار النشر التي كان يمتلكها بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت رومانيا؛ فيقول له كوستي: تقول الاستطلاعات أن 2% فقط من الرومانيين يقرأون أكثر من كتاب واحد في العام، لكن أدريان يوضح له أنه لم يكن ينشر كتبا من خلال داره بل كان يقوم بطباعة إعلانات حملات ترويجية حيث كانت تُدر عليه قدرا كبيرا من المال، لكن كوستي يعتذر له بأنه لا يمتلك هذا المبلغ، وأنه يعاني بالفعل في سداد الأقساط التي عليه.


يشكره أدريان مُنصرفا، لكنه يعود إليه بعد دقائق مُخبرا إياه أن ثمة أسطورة في بلدته تؤكد أن الناس كانوا يدفنون كنوزا في حدائق منازلهم، وأن جده الأكبر قد دفن كنزا في حديقة منزله، وهو في حاجة إلى المبلغ، 800 يورو، من أجل استئجار كاشف عن المعادن لتحديد مكان الكنز، وإذا ما دفع كوستي المبلغ لعامل الكشف عن المعادن فسوف يقتسم معه الكنز بالنصف. يسأله كوستي عن مدى يقينه من وجود كنز بالفعل؛ فيخبره أنه سمع عنه، وأن جده قبل أن يموت قد أكد عليه أن يعتني بالبيت، وإن لم يقل له أن ثمة كنز فيه.

يفكر كوستي في الأمر بعمق، ويخبر زوجته بالأمر طالبا منها أن تستدين من أبيها مبلغ 300 يورو؛ لأن حسابه الشخصي لا يوجد فيه سوى 300، كما لو أنه لم يدفع فواتير هذا الشهر سيتوفر معه 200 إضافية، أي أنه في حاجة إلى 300 آخرين. ترفض الزوجة أن تطلب من أبيها شيئا قائلة له: إنه عليه أن يطلبها بنفسه، لكنه يؤكد لها أن أباها لن يقف إلى جانبه؛ لذلك يريدها هي أن تفعل، لكنها تؤكد له أن أباها لا يحبه بالفعل، لكنه لن يمتنع عن الوقوف إلى جواره.


يظل الأمر يدور في ذهن كوستي؛ مما يجعله يطلب من زميلته في العمل التظاهر بأنهما سيخرجان إلى مُهمة عمل ميدانية كي يستطيع الذهاب إلى إحدى الشركات للكشف عن المعادن قبل موعد إغلاقها، وبالفعل توافق زميلته ويذهب للاتفاق مع الشركة على استكشاف الحديقة؛ فيخبره مدير الشركة بأن المتر يتم البحث فيه بيورو واحد، وبما أن مساحة الحديقة 800 متر مربع؛ فالمطلوب منه 800 يورو، لكنه يؤكد عليه بأنه لا بد له من إخبار الشرطة قبل بداية البحث حتى لا يُسجن؛ لأن التنقيب عن الكنوز لا بد أن يكون تحت وصاية الشرطة قائلا: إذا كان ما اكتشفته جزءا من التراث الوطني؛ فهو لا يزال ملك الدولة، وسيعطونك 30% من قيمة ما وجدته.

يتفق كوستي مع مُدير الشركة على أن يكون البحث في عطلة نهاية الأسبوع، وأثناء انصرافه يوقفه أحد الموظفين في الشركة/ كورنيل- قام بدوره المُمثل الروماني Corneliu Cozmei كورنيليو كوزمي- مُخبرا إياه بأنه يستطيع أن يبحث له عن المعادن في مُقابل 400 يورو فقط، وأنه لا علاقة له بالشرطة سواء أخبرها أم لا؛ فهو سيقوم بمُهمته ويخبره عن المكان الذي لا بد له أن يحفر فيه وينصرف إلى حال سبيله باعتبار أنهما لم يعرفا بعض من قبل.


يتفق معه كوستي بالفعل على البحث مقابل 400 يورو، ويقول زوجته: أعتقد أن فرصة العمر تجيء مرة واحدة؛ فتطلب من أبيها 300 يورو.

يخبر كوستي جاره أدريان بأنهما لا بد لهما من إخبار الشرطة، لكن أدريان يقول له: لو ذهبنا ووجدنا أي شيء سنضعه في السيارة ونقود حتى بوخاريست، ثم نبيع الذهب للغجر الذين سيعملون على صهره، ولن يعرف أحد أنه كان عملات ذهبية تخص التراث الروماني.

حينما يعود كوستي إلى عمله في اليوم التالي يطلب منه المُدير ملف الرحلة الميدانية، لكنه يعترف للمدير بأنه لم يكن في عمل، بل في شركة للتنقيب عن المعادن، ويخبره بحكاية جاره الحقيقية، لكن المُدير لا يصدقه قائلا: هي تظن إني لا أعرف بأنك على علاقة غرامية مع زميلتك ليليانا؟ فيرد كوستي: لا توجد أي علاقة مع ليليانا، ليقول المُدير: كلانا رجل، وأنا أتفهمك، هذه هي الحياة، وذلك يحدث كثيرا، لكن، كوستي أنت رجل متزوج، يجب عليك أن تتذكر بأن الأبناء أكثر أهمية من أي شيء آخر، آمل أنك لا تفكر بالطلاق. يؤكد له كوستي أنه ليس على علاقة مع زميلته، وحينما يجد المُدير مُصراّ على عدم تصديق حكايته يخبره- كي يتخلص من مأزقه- بأنه على علاقة بامرأة أخرى تعمل في شركة للتنقيب عن المعادن؛ لذلك أخبره بحكاية الكنز.


ربما نلاحظ في حوار المُدير مع كوستي تأملا اجتماعيا لحالة المُجتمع الروماني الذي يبدو فيه الأمر طبيعيا أن يكون الزوج على علاقة بأي امرأة أخرى غير زوجته، لكن المُهم هنا هو الحفاظ على قوام أسرته وعدم هدمها. عشية سفر كوستي مع جاره للبحث عن الكنز تسأله زوجته: أين بلدة جارنا؟ فيخبرها بأنها بلدة اسمها Islaz إيسلاز، فتقول له: إيسلاز حيث صدر إعلان 1848م، هنا بدأت ثورة 1848م، فقد بدأت الثورة من قبل أبناء أصحاب العقارات الأغنياء ممن درسوا في الخارج وأرادوا تغيير رومانيا، لو كان جارنا من إحدى تلك العائلات؛ فهناك فرصة جيدة لوجود كنز بالفعل.

ألا نلاحظ هنا أن المُخرج كورنيليو بورومبويو يحرص من خلال حواراته البسيطة على بث العديد من المعلومات التاريخية عن تاريخ رومانيا وما حدث فيها؟ إن إيسلاز من أهم المُدن تاريخيا في تاريخ رومانيا؛ حيث حدثت فيها الثورة الكبرى من أجل تحريرها قبل دخول الشيوعيين إليها، كما سنلاحظ من خلال حوار كوستي مع أدريان أن المنزل الذي يخص جد الجار استولى عليه الشيوعيون وطردوا العائلة منه عام 1947م، أي بعد مئة عام من الثورة الرومانية في بلدة إيسلاز، ولم يسترد أدريان المنزل إلا بعد انتهاء الحكم الشيوعي، أي عام 1998م، وهذا يعني أن منزل جد أدريان يكاد أن يمثل تاريخ رومانيا بالكامل وأحداثها السياسية التي مرت بها.


حينما يصل عامل التنقيب عن المعادن يبدأ في العمل على أجهزته؛ فنلاحظ أنه لا يجيد العمل عليها بحرفية، وأنه يكاد أن يكون مجرد هاوٍ؛ حتى أنه لا يستطيع تشغيل جهاز الكمبيوتر الخاص بالجهاز من أجل رؤية الصور التكعيبية التي يصورها الجهاز لمستويات التربة وما يوجد أسفلها. يسأله أدريان عن العمق الذي من المُمكن للجهاز أن يقرأه؛ فيخبره بأنه يقرأ حتى 30 متر تحت سطح الأرض؛ فيقول أدريان ساخرا: على بُعد 30 مترا ربما نعثر على الحضارة الرومانية.

يكاد يكون الجزء الأكبر من زمن الفيلم في مشاهد التنقيب عن المعادن في حديقة منزل أدريان، ولعل المُخرج قد حرص على أن يكون زمن التصوير في التنقيب يكاد أن يُقارب الزمن الحقيقي إذا ما حاول أحدهم فعل ذلك؛ كي يبدو المشهد أكثر واقعية، ورغم طول التصوير في التنقيب إلا أنه لم يكن مُملا بالنسبة للمُشاهد؛ لأن المُخرج كان حريصا على أن يتخلل التنقيب الكثير من الحوارات عن رومانيا وتاريخها؛ ففهمنا ما دار في هذا البلد من أحداث سياسية.

لذلك نعرف أن هذا المنزل قد استولى عليه الشيوعيون حينما دخلوا رومانيا بعد ثورة 1848م بمئة عام، كما تحول عدة مرات إلى مجموعة مُختلفة من الأنشطة، فتارة كان بارا، وتارة أخرى كان مرقص تعري، وتارة ثالثة إلى صالة من صالات القمار، كما استولت عليه شركة كهرباء وغير ذلك الكثير، أي أن التحولات التي حدثت لمنزل جد أدريان، تكاد تكون مُتشابهة مع نفس التحولات التي حدثت لرومانيا، مما يعني أن المُخرج هنا يرغب في القول: إنهم لا ينقبون عن الكنز في حديقة المنزل، بل ينقبون عن تاريخ رومانيا في حقيقة الأمر.


يُحدد لهم كورنيل المكان الذي من المُمكن لهم أن يحفروا فيه من أجل الكشف عن الكنز، ويخبرهم أنهم سيجدونه على بُعد مترين تحت سطح الأرض، ويبدأ أدريان بالفعل في الحفر في مناوبات مع كوستي بينما يتابعهما كورنيل من أجل التأكد من أن الكنز في المكان الصحيح الذي يحفرون فيه، لكن أدريان يقول لكورنيل: إذا لم نعثر على شيء؛ فمن العدل ألا ندفع لك، ليسأله كورنيل: لماذا؟ يرد أدريان: لأنك جعلتنا نحفر بلا طائل؛ فيقول كورنيل: لقد عملت طوال حياتي ولم أركض خلف كنز؛ ليسخر أدريان: إنه شعار شيوعي حقيقي، لكن كورنيل يقول: ماذا تقصد؟ يرد: اعتاد الشيوعيون على القول: نحن نعمل، لا نُفكر، فيرد كورنيل: لم يقولوا ذلك تماما؛ فيسخر أدريان: لا، أنسيت بالفعل؟ إلا أن كورنيل يقول: لم أنس، لكني كنت أشير إلى شيء آخر.

ربما نلاحظ في هذه المُشادة المُهمة بين كل من كورنيل المُنقب عن المعادن، وأدريان، صاحب المنزل والحديقة، نقدا للمفاهيم والأخلاقيات التي باتت تسود المُجتمع الروماني الحديث؛ حيث بدا عدد كبير من المواطنين متواكلين على البحث عن الكنوز الوهمية بدلا من قيمة العمل التي يحرص كورنيل على الإعلاء منها بينما يسخر منها أدريان المتواكل على الكنز المزعوم الذي لا يعرف حقيقة وجوده من عدمها.


لكن، حينما يطول الحفر والبحث الذي استغرق يوما ونصف ليلة يشعر أدريان بالكثير من التوتر واليأس من العثور على أي شيء؛ لذلك يبدو فظا في التعامل مع كورنيل باعتباره خدعهم، رغم أنه لم يفعل ذلك؛ الأمر الذي يؤدي إلى مُشادة كادت أن تتحول إلى مُشاجرة بينهما بالأيدي؛ فيخبر كورنيل كوستي بأنه سيغادر للعودة إلى بوخاريست. يحاول كوستي تهدئة كورنيل واستبقائه قليلا مُلتمسا العذر لأدريان الذي يعاني من الكثير من المشاكل المالية، لكن كورنيل يقول له: كلنا لدينا مشاكل، أنت لديك مشاكل، وكذلك أنا، إن الشخص يصنع مشاكله الخاصة؛ فالمشاكل لا تنزل من السماء.

بعدما يغادر كورنيل تتلبس أدريان حالة عميقة من اليأس ويطلب من كوستي الصعود من الحفرة العميقة للعودة إلى بوخاريست، مؤكدا له أنه لا يوجد ثمة كنز في الحديقة، لكن كوستي يتجاهله ويستمر في الحفر بهمة؛ مما يجعل أدريان ينتبه إليه، وبالفعل يجدا علبة معدنية شديد القدم في الحفرة التي حفراها.

يحاول كل منهما فتح العلبة لكنهما يفشلان في ذلك، فيقترح كوستي أن يعودا بها إلى بوخاريست ثم يحاولان فتحها هناك، لكنهما أثناء المُغادرة من أمام البيت تصل سيارة الشرطة التي تأخذهما إلى القسم، وحينما يفشل رجلا الشرطة في فتح العلبة يستعينان بأحد اللصوص المشهورين في المدينة؛ من أجل فتحها، وهو اللص الذي ينجح في ذلك بالفعل، لكنهم لا يجدون في العلبة إلا مجموعة من الأوراق المُتشابهة المكتوبة باللغة الألمانية، وحينما يحاول اللص معرفة محتواها بألمانيته الضعيفة؛ حيث عمل لفترة في ألمانيا، يخبرهم بأن هذه الأوراق هي شهادات أسهم في شركة مرسيدس الألمانية، وتعود إلى عام 1969م كما هو مكتوب عليها، وأنه حينما كان في ألمانيا قد سرق منها مجموعة لكن صلاحيتها كانت قد انتهت؛ فباع الواحدة منها بمئة يورو.


ربما نلاحظ في هذا المشهد شكلا من أشكال النقد الاجتماعي للمؤسسة الأمنية التي تستعين بأحد اللصوص من أجل أن يفتح لهم الصندوق الذي عجزا عن فتحه، أي أنهم يعرفون اللصوص والمجرمين جيدا، لكنهم يتركونهم أحرار طلقاء، بل ويستعينون بهم فيما يرغبونه؛ مما يُدلل على فساد المؤسسة الأمنية.

هنا يؤكد كوستي لرجلا الشرطة أن الكنز الذي عثرا عليه لا يخص التراث التاريخي لرومانيا؛ ومن ثم يصبح من حقهما فقط، ينصرف كل من كوستي وأدريان، ويعدا الشهادات فيعرفا أن عددها 156 شهادة سيقتسمانها معا بالنصف، لكنهما حينما يذهبان إلى البنك في اليوم التالي يعرفان أن قيمة الشهادة الواحدة حسب سعر السوق هو 15075 يورو، وإذا ما رغبا في بيعها فالبنك له عمولة 7% من قيمة البيع. يوافق كل منهما على البيع الذي وصل إلى ما فوق المليون يورو، ويطلب أدريان من كوستي في حالة ما جاء أخاه وسأله عما أخذه من هذه الشهادات مُقابل المُساعدة أن يخبره بأنه لم يأخذ سوى عشر فقط؛ لأن أخاه محامي، وأرض الحديقة في ملكية أمهما، ومن المُمكن له أن يتهمهما أخوه بالسرقة ويقاضيهما.

يوافق كوستي ويسرع إلى أحد محلات الذهب والجواهر ليشتري كمية كبيرة جدا من الذهب ويضعها في العلبة التي عثرا فيها على الشهادات، وهنا يتجه إلى مدرسة ابنه الذي يلهو مع أقرانه ويفتح له العلبة المليئة بالذهب أمام الأطفال الذين يطلبون منه أن يتلمسونها؛ فيسمح لهم. هنا يأخذ الأطفال الذهب في أيديهم ويسرعون بعيدا لاهين به، مُطاردين بعضهم البعض، بينما تعلو الكاميرا باتجاه السماء وينتهي الفيلم.

المخرج الروماني كورنيليو بورومبويو

ربما كان مشهد النهاية الهزلي الذي اختاره المُخرج، وهو المشهد المُخيب لآمال بعض المُشاهدين إذا لم يفهمونه جيدا، من المشاهد المُهمة التي لا بد أن تعود بنا إلى بداية الفيلم مرة أخرى حيث يحاول كوستي طوال الوقت التأكيد لابنه بأنه البطل الشبيه لروبين هود، راغبا في أن يراه الابن كبطل حقيقي، وحينما عاد كوستي من إيسلاز بعد العثور على الكنز سأله الطفل: أين الكنز؟ لذلك اشترى مجموعة كبيرة من الذهب وذهب إلى مدرسة ابنه كي يكون هذا المشهد الذي يبدو فيه الأب أمام ابنه في صورة البطل الحقيقي الذي أتى له بالكنز ليجعله فخورا أمام أقرانه من الصغار.

إن الفيلم الروماني الكنز للمُخرج كورنيليو بورومبويو من الأفلام المُهمة في حركة السينما الرومانية، ورغم أنه يبدو، ظاهريا، مجرد فيلم بسيط هزلي، إلا أنه يحمل في أعماقه الكثير من الأهمية التي تتأمل التاريخ السياسي والاجتماعي لرومانيا وما مرت به قديما، وكيف وصل بها الحال في الوقت الآني، ولعل المُخرج قد حرص على عدم الاستعانة بالموسيقى التصويرية طوال أحداث الفيلم اللهم إلا مع نزول تيترات النهاية على الشاشة؛ حيث استمعنا إلى أغنية Live is life الشهيرة في الثمانينات من القرن الماضي، وإن كان المُخرج قد لجأ إلى عزفها على آلات معدنية تُسبب الكثير من الضجيج والضوضاء، كما أن اختياره لهذه الأغنية يكاد أن يقول من خلاله بأن الحياة مجرد هزل، ولا أهمية لها في كل شيء، وفي كل أحداثها. كما نلاحظ أن المُخرج كان بارعا من الناحية الفنية لا سيما في التصوير الذي حرص على أن يكون بطيئا وطويلا في تصوير المشهد بشكل مُتعمد؛ لإثارة المزيد من التفكير، والإيحاء بواقعية الحدث الذي يراه المُشاهد، ولإعطاء الفرصة لمُمثلينه كي يديروا الحوار المكتوب لهم، وهو الحوار الذي كان البطل الرئيس في الفيلم؛ لأننا من خلاله عرفنا الأحداث التاريخية التي مرت بها رومانيا.

إذن، فالفيلم الروماني الكنز، هو فيلم ينقب- في حقيقته- في التاريخ الروماني، ويزيل الكثير من الطبقات المخفية التي لا يعرفها الكثيرون. صحيح أنه يقدم ذلك بشكل هزلي، لكن لولا هذا الشكل ما استطاع المُخرج الحديث في هذا الأمر الجاد.

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية.

عدد مارس 2023م.