الخميس، 29 فبراير 2024

ماندرلاي: سينما فون ترير التخريبية!

ما زال المُخرج والسيناريست الدانماركي Lars Von Trier

لارس فون ترير مُصرا على تخريب الشكل والمفهوم الفني لكل ما يحيط به- سواء على مستوى الأفكار، والمُثل، والأخلاق، والأيديولوجيات، والسياسات، أم على مستوى شكل صناعة السينما في العالم- مُنهمكا في مُتابعة أفكاره الخاصة التي تدور في ذهنه- وهي الأفكار المُنتقدة لكل شيء- عاملا على استنفاد إمكانياتها حتى الرمق الأخير قبل الانتقال إلى فكرة جديدة من المُمكن لها أن تصلح لمشروع ثلاثية سينمائية جديدة، واثقا من أن صناعة السينما الجيدة لا تكون إلا من خلال الثورة على الشكل التقليدي، والنمطي الذي يراه من حوله؛ ومن ثم فهو يفضل صناعة أشكال سينمائية مُختلفة تمتلك الكثير من الأسلوبية المُدهشة التي كثيرا ما تلاق الكثير من الاعتراض، وربما السُخرية- رغم لا مبالاته من ردود الفعل، واستغراقه فيما يصنعه مُعرضا عما يُقال عن سينماه التي تخصه؛ الأمر الذي يجعله مُستمرا في صناعة الأفلام التي يرى أنها لا يمكن لها إلا أن تكون كما يراها هو، وليس كما يراها الآخرون- ساخرا من كل ما يدور من حوله باستعلائية واضحة لا يمكن لها إلا إنتاج شكل فني جديد يتميز بأسلوبية خاصة مُثيرة للكثير من الجدل- والتسليم بفنية ما تم إنتاجه!

نحن أمام مُخرج مُزعج، شديد الإزعاج للجميع- فالفن في جوهره شكل من أشكال الإزعاج- وهو إن لم يجد من يزعجه سيقوم بإزعاج نفسه بالثورة على ما يقوم بصناعته من أفلام! لذا فهو يزعج أمريكا بثلاثيته غير المُكتملة USA:The Land of Opportunity Trilogy ثلاثية أمريكا: أرض الفرص التي يؤكد فيها على عنصرية أمريكا، وديمقراطيتها الزائفة، ورأسماليتها البشعة التي تسلب جميع شعوب العالم حقوقهم بإعادة تدوير أموالهم والاستيلاء عليها، وفتح أسواق محلية لها في الدول التي تستعمرها لقنص أموال الشعوب! وهو يزعج القارة العجوز، أوروبا، بثلاثيته الأولى Europa Trilogy ثلاثية أوروبا التي يصر من خلالها على إدانة القارة الأوروبية بالكامل، واحتقارها، وتحميلها مسؤولية خرابها وخراب العالم نتيجة الحربين العالميتين، بل ويرى أنها باتت غير صالحة للاستمرار أو الحياة فيها، وهو يزعج كل المُجتمعات الحديثة من حوله وما تواضعوا عليه من قيم ومُثل، ويؤكد أنها مُجتمعات ذات أعراف كاذبة، وقاسية، وشكلية من خلال ثلاثيته Golden Heart Trilogy القلب الذهبي، بل هو مُزعج للأيديولوجيات والأديان، ساخرا منها، محاولا- دائما- الحط من شأنها كما نرى في جل ما قدمه من أفلام، وهو مُزعج لصناعة السينما نفسها بالثورة عليها وعلى شكلها النمطي بإصراره على مُخالفتها وصناعة سينما ذات أسلوبية مُختلفة!


إذن، فلارس فون من المُخرجين، القلائل، الذين لا يرضيهم كل ما يدور من حولهم؛ مما يجعله في حالة تأمل وتفكير دائمين، وهو ما يفضي به، بدوره، للجوء إلى الكثير من الأفكار والفلسفات الكبرى من أجل تحويلها إلى شكل سينمائي يخصه، لكنه في هذا التحويل الفني للأفكار يمارس شكلا من أشكال القسوة التي تقترب به من السادية التي يمارسها على الجميع من حوله! فهو يمارس قسوته على الصناعة ذاتها بانتقادها الدائم، وسُخريته منها، محاولا العمل على تغييرها تبعا لرؤيته الفنية لها، وهو يقسو على مُمثليه المُشاركين له في أفلامه بوضعهم في مواقف شديدة القسوة من الناحية النفسية، وهو يقسو على المُشاهد بما يدور في رأسه من أفكار كمُخرج وسيناريست، هذه القسوة يمكن سحبها إلى مداها الأقصى حينما نُلاحظ أنها مُمتزجة دائما بالسُخرية والازدراء من الجميع، فهو يزدري المُجتمع من حوله، والصناعة نفسها، وجمهوره، بل ومُمثليه!


لارس فون يصنع السينما بطريقته الخاصة، ويمتلك من الإصرار والدأب ما يجعلانه ماضيا في ذلك بعزيمة واضحة لا يعنيها رأي الآخرين فيه، وإذا ما كان قد قدم لنا فيلمه السابق على فيلمنا هذا Dogville دوجفيل 2003م- الذي يمثل الجزء الأول من ثلاثيته عن أمريكا- بشكل يختلف تماما عن صناعة السينما؛ حيث لجأ إلى مسرحة الفيلم بوضع جميع المُمثلين والأحداث على مسرح عملاق تدور عليه جميع الأحداث؛ مما جعل جميع أفراد فريق العمل في حيز مكاني واحد ومحدود، وإذا ما كان قد حدد الأماكن والشوارع والمنازل، بل والحدائق في دوجفيل من خلال الرسم على أرضية المسرح بالطباشير، باعتبار أن هذه الخطوط الطباشيرية الوهمية تُمثل ما يرغب لنا في تخيله، أو رؤيته، وإذا ما كنا قد رأينا الأبواب والحوائط في الفيلم السابق مُجرد أشياء مُتخيلة- لا وجود حقيقي لها- بل يتظاهر المُمثلون بوجودها بالدق على الفراغ، أو الإمساك بمقبض باب وهمي لفتحه أو غلقه بينما نستمع إلى صوت الطرق على الأبواب أو الحوائط، أو الفتح والإغلاق الوهمي، فهو يصر على استكمال هذا الشكل المسرحي الإيهامي في فيلمه التالي Manderlay ماندرلاي- الذي يمثل الجزء الثاني من ثلاثية أمريكا- ولعلنا نُلاحظ أن المُخرج هنا يلجأ- للمرة الأولى- إلى ربط أحد أفلامه الجديدة بما سبقه في أي ثلاثية من ثلاثياته، صحيح أنه كان ثمة رابط بين الأفلام، فيما قبل، يتمثل في الفكرة التي يعمل على نقاشها، أو تحويلها إلى فيلم- أي أن الأفكار وحدها هي التي تربط بين أفلامه- لكنها رغم ذلك يمكن لنا رؤيتها مُنفصلة عن بعضها البعض بحيث لا يؤثر ترتيب المُشاهدة على فهم الفيلم، إلا أنه هنا ربط الفيلمين التاليين بشكل يجعلنا من الأفضل لنا رؤيتهما بشكل متتالٍ، وليس بشكل مُنفصل، ولعل هذا هو السبب الذي دفعه إلى الاستمرار في نفس الأسلوبية الفيلمية التي لجأ إليها في صناعة فيلمه السابق- مسرحة السينما- أو جمع الأحداث بكاملها، وطاقم العمل على مسرح عملاق من أجل تصوير العمل.


سبق لنا الذهاب إلى القول عن فيلمه السابق، دوجفيل: إن لارس فون مُتأثر تأثرا بينا بالمُخرج الألماني المسرحي برتولد بريخت- سواء من ناحية الأفكار، أو من ناحية الأسلوبية المسرحية التجريدية- لكنه في هذا التأثر- ورغم صناعته لفيلمه بشكل مسرحي ظاهريا- لم يستغرق في الانسياق إلى أسلوبية المسرح بقدر ما جذبها إلى الشكل السينمائي، أي أن الفيلم بدا لنا في نهاية الأمر- رغم ميله للشكل المسرحي- مُنتميا إلى السينما وآلياتها- لا سيما التصوير السينمائي، وأداء المُمثلين- منه إلى المسرح؛ الأمر الذي أكسبه شكلانية جديدة ومُختلفة عن صناعة السينما في العالم، وهي الشكلانية التي تخص المُخرج وحده، وتجعله مُنفردا عن غيره من صُناع السينما.


لذا يستمر ترير في الاستغراق في أسلوبيته التي ابتكرها لنفسه في فيلمه السابق، وبنفس الطريقة السابقة، حيث يكتب على الشاشة قبل بداية الأحداث: فيلم ماندرلاي كما حُكي في ثمانية فصول مُتتالية، وسُرعان ما يختفي هذا العنوان، لنقرأ على الشاشة: الفصل الأول: ما حدث في ماندرلاي واللقاء بالناس هناك.

إذن، فلارس فون ما زال مُحافظا على أسلوبه الأثير في تقديم أفلامه السينمائية على شكل كتاب مكون من عدة فصول بينما يوجد راوٍ عليم في الخلفية يعلق على الأحداث التي تدور أمامنا على الشاشة، بل ويبدي رأيه فيها أحيانا، وهي الأسلوبية التي تُميز جل أفلامه السينمائية.


يبدأ فون ترير فيلمه- بعد كتابته عنوان الفصل الأول- بخريطة للولايات المُتحدة الأمريكية مرسومة على الشاشة، بينما نرى أسطولا من سيارات الليموزين السوداء تنتقل بين الولايات، مُتجهة جنوبا لتصل إلى ولاية ألاباما عام 1933م، أي في فترة الكساد الأمريكي، وهي الفترة التي دارت فيها أحداث فيلمه السابق، بينما نستمع إلى صوت المُعلق الذي يخبرنا أن والد جريس/ رجل العصابات- قام بدوره المُمثل الأمريكي Willem Dafoe وليام دافو- بعدما خرج من دوجفيل- التي قتل جميع سُكانها ثم أحرقها- قد اتجه جنوبا مع عصابته وابنته التي سلمها السُلطة كما اتفقا؛ ليصلا إلى مزرعة نائية اسمها ماندرلاي، مرا عليها أثناء رحلتهما إلى الجنوب، أي أن المُخرج هنا يؤكد لنا على أن فيلم ماندرلاي هو الامتداد الطبيعي لفيلمه السابق، وكأنه حلقة جديدة من حلقات انتقاد أمريكا، والهجوم على سياستها وثقافتها، وبنفس الشخصيات الأساسية لفيلمه السابق- جريس التي قامت بدورها في هذا الفيلم المُمثلة الأمريكية Bryce Dallas Howard بريس دالاس هوارد بدلا من المُمثلة الاسترالية الأصل الأمريكية الجنسية نيكول كيدمان، ووالدها رجل العصابات.


إذن، فالمُخرج هنا يريد القول: إن هذا الفيلم هو الحلقة التالية لما قدمته من قبل في دوجفيل، لنرى وجها آخر من الوجوه الشائهة للثقافة الأمريكية، وعليك- كمُشاهد- مُتابعة جريس- الفتاة المُندفعة التي لم تنضج بعد، والتي تؤدي بها أفعالها المثالية والعنيدة والطفولية إلى العديد من المآزق التي تقع فيها؛ حيث تُعرض حياتها للكثير من الأخطار، بل والاستعباد لها، والإيذاء النفسي؛ ومن ثم لا تجد مُنقذا لها في نهاية الأمر سوى أبيها/ رجل العصابات الذي يُمثل الوجه الحقيقي للمُجتمع الأمريكي- لنرى من خلال أفعالها الوجه القبيح للمُجتمع الأمريكي الذي لا يحكمه سوى قانون القوة والبطش، والازدواجية، والزيف!

يتوقف أسطول السيارات عند مزرعة ماندلاري حيث تظهر فجأة فلورا/ الفتاة السوداء- قامت بدورها المُمثلة الإنجليزية Suzette Llewellyn سوزيت لويلين- مُستغيثة بجريس من أجل إنقاذ تيموثي- قام بدوره المُمثل الساحل العاجي الأصل الفرنسي الجنسية isaach de bankolé إسحاق دي بانكولي- مُخبرة إياها بأنهم سيقومون بجلده، وهو لم يرتكب أي جرم يستحق عليه الجلد، وحينما تندهش جريس مما تخبرها به فلورا وتستفسر منها عما يدور؛ تشرح لها فلورا بأنهم مجموعة من الزنوج السود الذين يعيشون في هذه المزرعة تحت إمرة سيدة المكان، السيدة مام- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Lauren Bacall لورين باكال- كعبيد لها؛ وبالتالي فهي لها الحق في التصرف في شؤونهم وعقابهم كيفما يحلو لها باعتبارها مالكتهم. هنا تندهش جريس مما سمعته، مُؤكدة لها على أن العبودية قد انتهت في أمريكا مُنذ سبعين عاما- كان تحرير العبيد في أمريكا عام 1865م- وليس من المعقول أن يكون هناك أناس عبيدا حتى هذه اللحظة. تُسرع جريس من أجل إنقاذ تيموثي من الجلد، ورغم أن والدها يحاول منعها بقوله: انظري جريس، إنها أمور محلية، ليس علينا أن ندس أنوفنا فيها. إلا أنها ترد عليه برعونة ومثالية مُندهشة كعادتها: لمُجرد أنها مسألة محلية؟ فيقول: إنها ليست مسؤوليتنا. لكنها ترد بغضب: هل تعتقد أن الزنوج قد رغبوا في مُغادرة إفريقيا؟! ألم نكن نحن من أحضرناهم إلى هنا؟ لقد ارتكبنا خطأ فادحا في حقهم، إن إساءة مُعاملتنا هي التي جعلتهم على ما هم عليه الآن.


إذن، فها هي جريس- من خلال مبدأ رومانسي مثالي غير ناضج كما رأينا في الفيلم السابق- تحاول التدخل في شؤون قرية جديدة لتصحيح الأوضاع فيها، ونقلها إلى شكل أكثر مثالية، لكن هذا التدخل سيؤدي بها مرة أخرى في نهاية الفيلم إلى مأزق جديد لا يمكن لها الخروج منه إلا باستخدام قوة والدها وعصابته المُسلحة بعدما ينالها الكثير من الأذى النفسي، أو الجسدي، أي أن المُخرج يرغب في التأكيد على أن المبادئ المثالية لا مكان لها في الثقافة الأمريكية، وأن قانون القوة الغاشمة هو المبدأ الأساس الذي بُنيت عليه هذه المُجتمعات وثقافتها!

تُسرع جريس عابرة لأسوار المزرعة الحديدية من أجل إنقاذ تيموثي المربوط إلى أحد البوابات الحديدية بعد خلعها، وقد تمت تعرية ظهره بينما يستعد أحد الرجال البيض لجلده بالسوط، لكنها تنزع السوط من يده، وحينما يعترض محاولا مُهاجمة جريس يُهدده رجال أبيها بأسلحتهم؛ مما يجعل مام تظهر حاملة لبندقيتها محاولة تهديد جريس، لكن رجال العصابة ينزعون السلاح منها، لتقول لها جريس غاضبة: لقد ألغيت العبودية مُنذ سبعين عاما، وإذا لم تلتزمي بهذا القانون من تلقاء نفسك؛ فسنجبرك على القيام بذلك.

سنعرف أن مام/ صاحبة المزرعة امرأة مُتقدمة في العمر، ومريضة، وهو ما سيجعلها تموت بعد عدة ساعات من وصول جريس إلى المزرعة مع أبيها وعصابته، لكنها قبل موتها ستطلب من جريس إحراق كتاب أسفل مرتبة فراشها؛ لأنها لا تريد لأحد أن يراه، إلا أن جريس لن تهتم بالأمر.


بمُجرد موت مام سيتساءل فيلهلم- قام بدوره المُمثل الأمريكي Danny Glover داني جلوفر- الذي كان كبير العبيد في المزرعة، والمُقرب لمام: أخشى مما سيحدث الآن، أخشى أننا لسنا مُستعدين لأسلوب حياة جديد، في ماندرلاي، نحن العبيد، تناولنا العشاء في السابعة، متى يتناول الناس العشاء عندما يكونون أحرارا؟ نحن لا نعرف هذه الأشياء. فترد عليه جريس: الرجال الأحرار يأكلون حينما يشعرون بالجوع، والنساء الحرة كذلك.

ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل هذه الجملة القاسية التي قالها فيلهلم/ الزنجي؛ فالرجل رغم أنه قد نال حريته للتو، ورغم أنه لا بد له أن يشعر بالكثير من السعادة لذلك، إلا أنه- على النقيض- يشعر بالكثير من الخوف، والاضطراب، والحيرة من مُستقبله الذي بات بالنسبة إليه غامضا ومُخيفا، بل إن الجملة تفضي إلينا بمعنى شديد القسوة؛ فهم قد عاشوا حياتهم بالكامل مُعتمدين على وجود سيد مُتحكم فيهم، يأمرهم بأوقات أكلهم، ونومهم، واستيقاظهم، وعملهم، أي إله مُطلق يتحكم فيهم تحكما كاملا؛ ومن ثم فلقد تشكلت سيكولوجياتهم على هذا الخنوع، وتلك الاتكالية على السيد المُطلق؛ الأمر الذي جعله حينما نال حريته حائرا، مُتسائلا عن الموعد الذي من المُمكن للرجل الحر أن يتناول فيه عشاءه، أي أن العبودية قد أدت بهم إلى التشوه تشويها مُطلقا؛ ومن ثم يصبح التحرر منها بمثابة عبء مُخيف لا قبل لهم بتحمله، حتى لكأنهم قد وجدوا أنفسهم فجأة في فراغ ضخم لا يستطيعون- من خلاله- اختيار خطوات أقدامهم في اللحظة القادمة؛ الأمر الذي قد يجعلهم عاجزين تماما عن الحياة، أو هم أشبه بالطفل الذي تركته أمه في مُنتصف الطريق واختفت؛ فشعر بالضياع والضآلة في عالم ضخم مُخيف!


ألا نُلاحظ هنا قدرا هائلا من القسوة التي يمارسها لارس فون على شخصياته الفيلمية، بل وعلينا أيضا كمُشاهدين يرون مثل هذا المشهد غير الرحيم؟ إنها أسلوبية ترير الأثيرة التي يحلو له مُمارستها في سينماه من أجل المزيد من الكشف عن قبح الواقع من حولنا، أي أنه يمعن في إيلامنا دائما بوضعنا أمام أنفسنا وكشف زيفنا بإسقاط جميع الأقنعة.

إذن، فلارس فون يصر، هنا، على مُمارسة انتقاده القاسي، ومقته للثقافة الأمريكية، هذه الثقافة المزدوجة التي ما زالت تُمارس استعبادها للزنوج رغم تحرير العبيد مُنذ فترة طويلة، ولكن هذه السيدة البيضاء/ مام لم ترغب في إخبارهم بما حدث في العالم من حركات تحرر، بل أخفت عنهم الأمر ليستمروا عبيدا عندها في مزرعتها النائية في ولاية ألاباما!

تخبر جريس فيلهلم بأن ثمة كتاب يستطيع استخدامه لمُقاضاة أسرة مام واسترداد حقوقهم، وحينما تنصرف عائدة إلى سيارة أبيها بعدما منحت العبيد حريتهم، ترفض تحرك السيارات لتظل مُراقبة لهم، مُنتظرة خروجهم لمُغادرة المزرعة والانطلاق إلى حياة الحرية التي حصلوا عليها للتو، لكنها تظل مُنتظرة لفترة من دون خروج أي منهم؛ مما يجعلها تتساءل: لم لا يخرجون؟! فيرد عليها أبوها: هذا بالضبط ما قلته في المرة السابقة، هل تذكرين حينما كنت في السادسة من عمرك؟ كنت تعتقدين إنه لأمر مُحزن حبس طائرك الحبيب تويتي في قفص مُغلق، ولم يستطع أحد إقناعك بعدم السماح له بالخروج. فتقول له مُعترضة: كان تويتي طائرا صغيرا فخورا. ليقول: حسنا، خروجه الكريم لم يفعل شيئا رائعا؛ فلقد وجدناه في صباح اليوم التالي مُجمدا حتى الموت تحت نافذتك. فتقول: أعلم أنه كان طائرا داخليا، ولم تكن لديه فرصة. هنا يرد عليها: إذن، فما رأيك بهؤلاء الزنوج هناك؟ في رأيك، كم عدد الأجيال الذين صنعوا منازلهم خلف هذا السياج؟ أراهن أن مُعظمهم عملوا ذلك في وظائفهم السابقة، والآن سيحصلون على بضعة دولارات، لكنهم سيشربون بها، وربما يقترضون أكثر من أصحاب العمل الذين سيفتتحوا، بلا شك، متجرا مليئا بالأواني الملونة من أجلهم فقط، ولن يكونوا في النهاية بقادرين على تسديد الأموال، وسيحاصرون مرة أخرى. كل ما فعلته كان نبيلا جدا يا ابنتي، لكن، عندما يأتي الدفع وسداد المال؛ فأنت قد جعلت الأمور أسوأ تماما كما فعلت مع تويتي.


ربما كان هذا الحوار الذي دار بين جريس وأبيها من الخطورة بمكان ما يجعلنا نتأمله عن كثب؛ فهو أولا يتشابه إلى حد كبير مع الحوار الذي دار بينه وبينها في نهاية فيلم دوجفيل حينما أكد لها والدها أن مثاليتها المُفرطة بمثابة الخطأ الفادح، وأن هذه المثالية قد أدت بأهل دوجفيل إلى استعبادها، وإيذائها، بل واغتصابها من قبل جميع رجال دوجفيل، ولم ينقذها منهم سوى قوة عصابته المُسلحة في نهاية الأمر- أي أن المثالية ليست سوى وهم لا مكان له في الثقافة الأمريكية- وهو ثانيا يؤكد لنا على عدم نضجها، وقلة خبراتها، وتعاملها مع حقائق الأمور بطفولية تدفعها في النهاية إلى التمسك برأيها غير الصحيح؛ مما يؤدي إلى خلق الكثير من الفوضى التي لا تستطيع مواجهتها؛ فيكون الحل في النهاية بيد أبيها/ رجل العصابات وقوته الغاشمة المُسلحة- لاحظ هذه الطفولية في دوجفيل سابقا حينما ظنت أنها قادرة على تغيير أهلها إلى ما هو أفضل، وإصرارها على ذلك، ثم قصة تويتي حينما كانت طفلة، وهو الأمر الذي أدى إلى موته بسبب رغبتها في منحه لحريته- وهو ثالثا يؤكد على أن العبيد من الزنوج لا يمكن لهم، ولا يليق بهم الحصول على الحرية، بل إن العبودية هي الأفضل لهم، حيث تجعلهم يعيشون في أمان أكثر مما لو نالوا حريتهم، أي الوصاية الأمريكية- المُقارنة غير المُباشرة بين الطائر، وما فعلته جريس حينما منحت العبيد حريتهم- وهو رابعا يؤكد على أن العبيد من الزنوج قد اعتادوا على هذه العبودية التي شكلت سيكولوجياتهم؛ ومن ثم فهم حينما سينالوا حريتهم سيتخبطون في حياتهم، وينفقون أموالهم على السُكر؛ لأنهم لا يعرفون كيفية إنفاقها- بما أنهم لم يمتلكوا الأموال من قبل- وبالتالي سيلجأون إلى أصحاب عملهم السابقين الذين كانوا يستعبدونهم للاقتراض منهم؛ الأمر الذي سيعيدهم مرة أخرى إلى العبودية باسم هذا المال، أي أن هذا الحوار الخطير الذي ساقه لارس فون بين جريس وأبيها إنما يرغب من خلاله على التأكيد على شكل الثقافة الأمريكية، وما تؤمن به من أن العبيد من الزنوج لا تليق بهم الحرية؛ لأنهم لا يستطيعون التكيف معها، أو الحياة من خلالها، وهم يسوقون هذه المُبررات في شكل فلسفي يحمل في ظاهره الكثير من الحكمة والرحمة، وإن كان يحمل في جوهره الأكثر من البراجماتية، والإمبريالية، واستعباد جميع البشر الذين يراهم الأمريكيون أقل منهم!


يظهر فيلهلم خارجا من أسوار المزرعة؛ الأمر الذي يجعل جريس تشعر بالسعادة وبأن ما قاله أبوها شيئا خاطئا، ويطلب منها العبد العجوز الهبوط معه من السيارة؛ لأن أهل ماندرلاي راغبون في شكرها، وبالفعل تذهب معه، لنستمع إلى صوت المُعلق على الأحداث يقول: في الواقع: لم تر جريس الكثير من التوهج الذي كانت تأمله، والذي كان من المُمكن أن يقنعها، لن ينتهي الأمر بواحد منهم مثل طائر الكناري الأصفر الصغير، لقد كانوا بشرا، لكنهم تم إلحاق الكثير من الألم بهم، هكذا اعتقدت.


إن رؤية جريس لأهل ماندرلاي من العبيد السابقين الذين مُنحوا حريتهم للتو- ومن دون أي بهجة أو رغبة منهم في شكرها- يؤكد لنا على ما سبق أن ذهب إليه أبوها/ رجل العصابات من أن الزنوج لا يمكن لهم الاستمتاع بمفاهيم الحرية، وهو ما بدا عليهم من الحيرة والاضطراب حينما دخلت إليهم مرة أخرى، بل إن حديث أبيها إليها رأته يتحقق أمام عينيها حينما لاحظت أن ورثة مام قد أعدوا عقودا يحاولون بها إرغام عبيد المزرعة على توقيعها ملوحين لهم بالمال الذين هم في أمس الحاجة إليه؛ فيبدأ جميع العبيد في الموافقة على توقيع العقود التي تعيدهم إلى العبودية مرة أخرى. هنا تلجأ جريس إلى أبيها مُخبرة إياه بأنها ستظل في المزرعة لتعديل أوضاعها وتعليم العبيد السابقين معنى الديمقراطية والتصويت على حقوقهم، وأنها لن تغادرها إلا بعدما يتعلمون ذلك، ويصبحون مواطنين أمريكيين خالصين، بل وبعد موسم حصاد كامل للقطن. هنا تطلب من أبيها أن يترك معها أربعة من رجاله المُسلحين لفرض الديمقراطية على العبيد، بل وتطلب منه ترك مُحاميه أيضا معها لكتابة مجموعة من العقود القانونية التي تضمن لهم حقوقهم.


ربما لا بد لنا من التوقف هنا مرة أخرى أمام ما رغبت جريس في فعله للعبيد السابقين؛ فهي قد منحتهم حريتهم التي لم يعرفوا عنها شيئا من قبل، لكنها رغبت في الإقامة معهم من أجل تعليمهم الديمقراطية الأمريكية، بل وفرضها عليهم بالقوة المُسلحة! ألا يوحي لنا مثل هذا الموقف بالإمبريالية الاستعمارية الأمريكية التي تمارسها في جميع دول العالم الضعيفة؟ إنه نفس الموقف الذي رأيناه من أمريكا سابقا حينما حاولت فرض الديمقراطية بالقوة الغاشمة في العراق؛ فاستعمرتها تحت دعوى فرض القيم الديمقراطية؛ ومن ثم يصبح بقاء جريس في ماندلاري بمثابة الاحتلال الاستعماري تحت دعوى فرض الديمقراطية وتعليم أهل المزرعة إياها بالقوة العسكرية المُسلحة، رغم أن الأمر يبدو في ظاهره غير ذلك، وهو ما يبدو دائما من الحكومات الأمريكية المُتتالية. إنه أيضا ما لاحظناه في قول جريس لأهل المزرعة: فيما يتعلق بوجودي أنا ورجالي، سنعمل فقط كمُستشارين لكم، والأسلحة هي مُجرد إجراء احترازي في حالة وجود أي تهديدات للمُجتمع الجديد، ونحن نعتزم البقاء هنا حتى بداية الحصاد الأول- نفس سيناريو أمريكا في العراق سابقا!


إن لارس فون هنا يمعن في سُخريته من الثقافة الأمريكية وديمقراطيتها التي تتغنى بها دائما، إنها ديمقراطية القوة الغاشمة المُسلحة التي ترغب في فرضها على الجميع، ورغم أن جريس هنا تنطلق من مُنطلق يبدو لنا مثاليا- منح العبيد حريتهم، وتعليمهم إياها- إلا أنها تفعل ذلك من مُنطلق الثقافة الأمريكية التي لا تعرف سوى القوة سبيلا لتحقيق ما ترغبه في أي مكان من العالم، وهي القوة الغاشمة التي نراها أيضا في منع عائلة مام من مُغادرة المزرعة، واحتجازهم فيها بدعوى: عندما أتأكد من أن فهمكم لقيمة البشر الآخرين قد وصل إلى الشكل المرغوب؛ سيتم السماح لكم بالرحيل! أي أن الرعونة الأمريكية والاستعلاء الذي تتميز به، والذي يجعلها ترى في نفسها إله العالم وحاكمه الذي يحق له تشكيله تبعا لرؤيتها- بما أنها وحدها التي ترى الحق والصواب الذي لا بد أن يكون عليه العالم- تتمثل خير تمثيل في جريس التي ترى نفسها تنطلق من مُنطلق شديد المثالية، وإن كان مُعبرا بصدق عن الغطرسة الأمريكية، وهي الغطرسة التي سبق والد جريس أن وصفها بها في حوارهما السابق في نهاية فيلمه السابق، دوجفيل.

ينتهي الفصل الأول من الفيلم بمُغادرة والد جريس وعصابته بعدما ترك معها أربعة رجال مُسلحين، بالإضافة إلى المُحام الذي طلبته من أجل تحرير العقود للعبيد السابقين، ليكتب لارس فون على الشاشة: الفصل الثاني: مشروع ماندرلاي المُحرر.


هنا نستمع إلى صوت الراوي: انتقلت جريس إلى المزرعة المُحررة بين مُساهميها الجُدد، كانت مُجرد حارثة لا أكثر، لكن، لم يستطع أحد منعها من إبداء مُلاحظاتها الخاصة على أهل ماندرلاي، كانت تأمل في اكتشاف التغيير الذي يجب أن تحققه الحرية، لكنها للأسف لم تر سوى القليل من ذلك، رأت فيكتوريا تسترق النظر في البئر أملا في العثور على جثة بيرت، ورأت فلورا وإليزابيث تتلصصان على تيموثي، كما كان الحال دائما، كما رأت الرجال يضيعون أوقاتهم في لعب الورق في مُقابل خصلات من القطن تحت سقفهم الذي يُسرب الماء.

أي أن جريس حينما منحت العبيد حريتهم، بل ومنحتهم الحق في إقامة مُجتمع جديد من الأحرار داخل المزرعة التي كانوا عبيدا فيها، لم يجد أي جديد في حياتهم، بل تحولت حياتهم إلى فوضى من الكسل، حتى أنهم لم يهتموا بإصلاح كبائنهم التي يعيشون فيها، تاركين سقوفها الخربة تسمح لمياه الأمطار بالتساقط عليهم، فضلا عن تضييع أوقاتهم في لعب الورق بدلا من القيام بزراعة القطن في موعد زراعته.


إذن، فلقد تحول الأمر في ماندرلاي إلى فوضى شاملة، بدلا من التحول إلى مُجتمع جديد من الأحرار المُنتجين؛ وهو ما دفع بجريس إلى سؤال العديد من الزنوج عن موعد زراعة القطن الجديد، إلا أنها لم تجد من يعطيها إجابة واحدة ذات فائدة، وبات الجميع يتهربون منها، وحينما قال لها أحد رجال أبيها بأن القطن كان من المفترض أن تُدفن بذوره في الأرض بعد إعدادها مُنذ أسبوعين؛ أسرعت إلى فيلهلم لسؤاله عن الأمر، حيث قال لها: كان من المُفترض أن تكون الحقول قد حُرثت قبل ثلاثة أسابيع، وزُرع القطن مُنذ أسبوعين. فتسأله: هل يعلم الجميع بذلك؟ فيرد: نعم، لكني أعتقد بأنهم يفكرون بأن ثمة شخص آخر سيخرج إلى الحقول أولا، في الأيام الخوالي، كان المُشرف يدفعنا لذلك، ربما لأنه لا أحد يثق بك.


ألا يُدلل ذلك على أن سيكولوجية العبيد قد تشوهت تماما، حتى أنهم لا يمكن لهم اتخاذ قراراتهم في حياتهم إلا من خلال من يأمرهم بذلك، وبما أنه لم يعد هناك مُشرفا، أو آمرا يأمرهم بتقليب التربة ودفن البذور من أجل الزراعة؛ فلقد ظنوا أنهم ليسوا مُلتزمين بفعل أي شيء، حتى ولو فات أوان الزراعة؟ إنها السيكولوجية المشوهة للعبيد من طول فترة عبوديتهم على يد الأمريكيين.

إن الحديث السابق مع فيلهلم دفع جريس إلى العودة للكتاب الذي كانت مام قد حدثتها عنه قبل وفاتها، وهو الكتاب المُسمى بقوانين مام، وبالتالي بدأت في قراءته لتفهم ما الذي يدور في المزرعة؛ لذا نستمع إلى صوت الراوي يقول بينما جريس تقرأ الكتاب على فراش مام: على فراش مام تصفحت الكتاب المليء بالأنظمة الغريبة والشريرة، وجدت صفحة مألوفة بشكل غريب، طاولة بها أرقام من واحد إلى سبعة، رأت جريس شيئا مُشابها لذلك في مكان ما، كشف قانون مام عن ذلك؛ فمزرعة ماندرلاي بقصرها الأمامي الساحر والخلفية البائسة حيث تم إبقاء العبيد في قبضة حديدية نجحت في ذلك بهذه القوانين التي قسمتهم من خلالها تقسيما نفسيا، سامي كان في المجموعة الخامسة، مُهرج، فيكتوريا الهائلة كانت بالطبع رقم 4، لا عجب أن زوجها بيرت قد قبل يد المُساعدة حتى لو كانت من لون غير لونه. كانت ويلما ومارك زنجيين خاسرين، وكان ويلهلم رقم 2، زنجيا مُتحدثا، وفلورا كانت زنجية باكية، كان هناك زنوج مبهجون وزنوج مجانين، الفئة الأخيرة، رقم 1، هم الزنوج الفخورون، تمثل في الوقت الحاضر تيموثي. وإليزابيث، لا، لقد قالت رقم 7 وليس 1، كانت زنجية مُبهجة، تُعرف أيضا باسم الحرباء، امرأة يمكنها تحويل نفسها إلى الشكل الذي يريد الناظر رؤيته تماما. كانت هذه هي الطريقة التي من خلالها تم الحفاظ على نظام العبيد حيا لفترة طويلة في ماندرلاي، عبودية من خلال علم النفس!


أي أن مام من خلال كتابها "قوانين مام" قد قامت بتقسيم العبيد إلى مجموعة من المجموعات تبعا لسيكولوجياتهم، ومن خلال هذه السيكولوجيات تستطيع التعامل معهم، وعقابهم، أو إثابتهم، وغير ذلك من الأمور، وهو ما جعلها ناجحة في إدارتهم؛ لأنها تتعامل معهم تبعا لشخصياتهم وما يتميزون به.

ينتقل لارس فون إلى الفصل الثالث من فيلمه بكتابته على الشاشة: الفصل الثالث: حديقة السيدة العجوز، وفي هذا الفصل تواجه جريس ورثة مام بكتابها الذي يحتوي على القوانين التي كانوا يتعاملون من خلالها مع العبيد، لكنهم يؤكدون لها أن الأمر ليس بالغريب، وأن كل العبيد لا بد أن تتم مُعاملتهم بهذه الطريقة، بل ومنحهم القليل من الطعام؛ الأمر الذي يجعل جريس تشعر بالكثير من الغضب، ومن ثم تلجأ إلى عقاب ورثة مام بدهن وجوههم باللون الأسود، وجعلهم يقدمون الطعام للعبيد السابقين.


صحيح أننا نُلاحظ في هذا الفعل الذي قامت به جريس تجاه ورثة مام شكلا من أشكال العقاب، لكن العبيد لم يروا ذلك، بل استاءوا من الأمر، ورأوا أن دهن ورثة مام باللون الأسود فيه الكثير من الإساءة إليهم، أي أن جريس ما زالت تفكر، وتتعامل بالكثير من الرعونة التي تظنها الحق، لكن الأمر في النهاية مُجرد خطأ فادح لا يمكن القيام به.

أثناء تناول العبيد السابقين لطعامهم تسأل جريس: أليس صحيحا أن شخصا فقيرا وملونا لا يزال قادرا على تحمل عناء الحفاظ على منزله؟ في إشارة منها إلى أن العبيد بالكامل لا يهتمون بإصلاح منازلهم، أو سقوفها التي تُسرب إليهم المياه. لكن تيموثي- الكاره لها- يرد عليها بغضب: كيف تجرؤين على قول ذلك؟ أتعتقدين أن الأشخاص الملونين يفضلون الثقوب في أسقفهم والغرق في الوحل؟! لترد: إذن، فكل ما عليك فعله هو إصلاح تلك الثقوب.


هنا يؤكد لها فيلهلم أنهم لا يمتلكون المواد الخام التي من المُمكن لها أن تُساعدهم في إصلاح سقوف كبائنهم، لكنها تؤكد بدورها أنها حينما كانت تتجول في المزرعة؛ لاحظت أن ثمة مواد خام وافرة موجودة في حديقة السيدة العجوز، وهي عبارة عن أعداد وافرة من الأشجار التي يمكن قطعها، وإصلاح السقوف بها، أو حتى بناء كبائن جديدة لهم. هنا يوافقها الجميع على اقتراحها الذي يبدأون في أخذه مأخذ الجدية.

سنُلاحظ هنا مرة أخرى أن جريس إنما تفكر بطفولية وجهل، وأن كل ما تقترحه ليس إلا رعونة نابعة من جهلها بالحياة وعدم نضجها؛ فهذه الأشجار الوافرة الموجودة في مزرعة السيدة العجوز إنما تعمل كمصدات للرياح حينما تأتي العواصف الترابية الشديدة، وبالتالي فهذه الأشجار تحمي الحقول المزروعة من الإبادة، فضلا عن أنها تحمي أهل المزرعة أنفسهم ومن يعيشون فيها من الأمراض الصدرية، حيث تمنع هذه الأشجار الغبار الكثيف بنسبة كبيرة من التسرب إليهم.

حينما تُلاحظ جريس العداء الذي يتعامل به تيموثي تجاهها، بل وتعاليه الواضح؛ يلفت انتباهها، مما يجعلها تسأل عنه فلورا المُرتبطة به عاطفيا، فتخبرها فلورا: إنه منسي Munsi، إنها سُلالة ملكية إفريقية، وهي سُلالة فخورة للغاية، إنه لا يشرب، ولا يقامر كما يفعل الآخرون بخصلاتهم الصغيرة من القطن، المنسي لا يقامرون لأنهم لا يؤمنون بالمكاسب، يعتقدون أنهم يجب أن يكونوا متواضعين لمحاصيلهم، وأخذ ما هو ضروري فقط.


إن تميز هذه السلالة من الزنوج تجعلهم دائما محط أنظار النساء اللاتي يرغبن فيهم؛ نظرا لنقائهم وترفعهم، وكبريائهم، وهو ما يجعل فلورا وغيرها من النساء موتورات بتيموثي المُتعجرف.

هنا يبدأ أهل المزرعة من الزنوج، وغيرهم من ورثة مام بالعمل من أجل قطع أشجار حديقة السيدة العجوز وإعادة بناء كبائنهم، وإصلاح سقوفها، لكن جريس تلمح رجلا غريبا في المزرعة يلعب الورق مع الآخرين/ دكتور هيكتور- قام بدوره المُمثل السلوفيني الأصل الأمريكي الجنسية Željko Ivanek زيليكو إيفانيك- فتسأله عن شخصيته ليخبرها بأنه مُجرد مُغامر يقوم بالمُتعة، وأنه يقامر مع العبيد ويغش في اللعب من أجل استعادة المال الذي يربحونه، ويعيد هذا المال إلى من يمتلكون هؤلاء العبيد مخصوما منه نسبته التي لا تتعدى 20% في مُقابل إعادة المال مرة أخرى إلى مانحيه- نفس الأسلوب الأمريكي في منح المال إلى الدول الفقيرة التي تستعمرها، ثم استعادة هذا المال مرة أخرى بالعديد من الطرق المُختلفة، منها فتح أسواق محلية لنفسها في هذه الدول- يخبرها هيكتور عن رغبته في عقد صفقة معها من أجل سلب هؤلاء الزنوج أموالهم بعدما يحصدون ما سيزرعونه ويحصلون على المال قائلا: 15 مالك مزرعة كان لديهم الكثير من الأراضي، لكن لا أحد يعمل بها؛ لذا تعاقدوا مع عبيدهم السابقين، لكنهم لم يكونوا يمتلكون نفس السيطرة على الأوغاد كما في الأيام الخوالي، بالطبع أقرضوهم المال، لكن عددا قليلا من الزنوج ادخروا وسددوا ديونهم، لذلك شعر أصحاب المزارع بالقلق، لقد ذهبتُ إلى هذه المزارع بدعم كامل من أصحابها للترفيه عن موظفيهم، وكانوا في حاجة ماسة إلى التحويل، لقد لعبنا للتو لعبة ورق صغيرة، وإذا ما كان أي شخص على وشك سداد ديونه؛ فسأخلع القميص عن ظهره، وأنا على استعداد لتقديم نفس الخدمة اليوم سيدتي. كما يؤكد لها بأنه يغش في لعب الورق من أجل استعادة هذه الأموال مرة أخرى من العبيد!

إن لارس فون هنا يُصرّ على فضح الإمبريالية الأمريكية التي تُمارس ألاعبيها بشكل قد يبدو قانونيا من الناحية الظاهرية، وإن كان يحمل في باطنه الكثير من الخداع، والنفاق للجميع، إنها الثقافة الأمريكية التي لا تعنيها سوى مصلحتها فقط حتى لو أدت هذه المصلحة إلى تدمير جميع دول العالم؛ لأنها ترى أنها الأحق بهذا الكوكب، بينما غيرها من الدول مُجرد أدوات لديها لتحقيق أغراضها، والمزيد من الربح، بل واستعبادهم جميعا!


تطرد جريس دكتور هيكتور من المزرعة مُخبرة إياه بأنها غير راغبة في رؤيته فيها مرة أخرى، لكنه يؤكد لها بأنه سيعطيها الفرصة للتفكير في عرضه، ولكي يثبت لها حُسن نيته تجاهها يعطيها أحد الخطابات التي أعطاها له أحد ورثة مام المُحتجزين من قبلها داخل المزرعة، وهو الخطاب الذي تقرأ فيه بأن ورثة مام قد كتبوا بأنهم مُحتجزون بالقوة المُسلحة، ويستغيثون بالشرطة من أجل تحريرهم من داخل المزرعة!

يكتب لارس فون على الشاشة: الفصل الرابع: حيث جريس في مُنتهى الجدية، وهو الفصل الذي تبدأ فيه جريس تتبع الكثير من الصرامة باستخدام القوة المُسلحة لرجال العصابات؛ حيث تجمع جميع أهل المزرعة بالقوة من أجل إلقاء العديد من الدروس عليهم، وهي الدروس التي تعلمهم من خلالها الديمقراطية، وتكوين مُجتمع حر جديد يستطيعون فيه التصويت على العديد من الأمور بشكل ديمقراطي، وهنا يبدأ أهل المزرعة في تعلم التصويت على ما يحيرهم أو ما لا يعجبهم في شؤون حياتهم، مثل ضحك أحدهم دائما بصوت عالٍ مما يزعجهم جميعا، وغير ذلك، كما يبدأون في تجهيز التربية وتقليبها، بل وغرس البذور من أجل اللحاق بموعد زراعة القطن، وحصاده، إلا أن الأمور تأتي دائما بما لا تشتهي السُفن، ومن ثم تصل العاصفة الترابية إلى المزرعة بعدما قاموا بغرس البذور وانتظار الحصاد، وبما أنهم قد قاموا بقطع جميع أشجار حديقة السيدة العجوز بعدما أشارت عليهم جريس بذلك من أجل إصلاح بيوتهم؛ فالعاصفة تُدمر كل شيء في المزرعة، وتغطيها بأكوام من التراب، بل وتصيب عددا كبيرا منهم بالالتهاب الرئوي. في هذه الأثناء- أثناء هبوب العاصفة- تُلاحظ جريس أن تيموثي يركب حصانه محاولا مُحاربة العاصفة في مشهد أسطوري، عاملا على عدم تكون كومات كبيرة من التراب؛ الأمر الذي يجعلها تُعجب به وبشجاعته، لكن الطفلة كلير- ابنة روز- تُصاب بالتهاب رئوي شديد نتيجة العاصفة، كما أن مخازن الطعام التي تعيش عليها المزرعة تفسد بالكامل ويواجهون نقصا كبيرا في طعامهم، كما يفسد أكبر قدر من محصول القطن.


يكتب لارس فون على الشاشة: الفصل الخامس: كتفا بكتف، وهو الفصل الذي يجتمع فيه جميع أهل المزرعة من أجل النقاش في أمر المحصول الذي أفسدته العاصفة، حيث يقول تيموثي: هناك مليون نبتة تحت الغبار، إذا ما استطعنا إنقاذ 50 منها فربما يمكننا زراعة كمية صغيرة بجودة رائعة، والحصول على سعر أفضل لها، أظن أن علينا التحرك.

ربما نُلاحظ في هذا الفصل أن العبيد السابقين قد بدأوا يهتمون بشأن مُجتمعهم الجديد، بل ويدلون بدلوهم فيما يجب عليهم أن يقوموا به، وهو ما يبدأون في فعله من أجل إنقاذ محصولهم، بل ويتعاونون جميعا من أجل إنقاذ أنفسهم من الجوع، ويقتسمون مع بعضهم البعض القليل من الطعام المتوافر، أو أكل التراب كما كان العبيد يفعلون فيما سبق وهم تحت العبودية، إلا أنهم يقومون بذبح الحمار الموجود في المزرعة من أجل إنقاذ الطفلة كلير المُصابة بالالتهاب الرئوي، والتي هي في حاجة ماسة إلى التغذية، وبما أن العاصفة قد دمرت مؤونتهم بالكامل، فلم يعد مُتاحا لهم إلا لحم الحمار الذي خصصوه من أجل إنقاذ الطفلة الصغيرة.

في الفصل السادس يكتب المُخرج على الشاشة: أوقات صعبة في ماندرلاي، حيث نرى جريس وقد بدأت تنتابها مجموعة من الهواجس والتخيلات الجنسية تجاه رجال ماندرلاي السود- في إسقاط من المُخرج على فكرة الفحولة الجنسية للسود، وهي الفكرة الشائعة بين البيض عن السود دائما- أي أن ترير هنا يسخر من الجنس الأبيض بتخيلاته الجنسية عن أهل الشرق من السود، وهو ما يجعل جريس في حالة من الهياج الدائم، ومراقبة الرجال أثناء استحمامهم عاريين؛ لتبدأ تخيلاتها الجنسية أثناء نومها، ورؤيتها لهم يعرونها، ويتحسسون جميع فتحاتها من أجل مُضاجعتها. هنا نستمع إلى صوت الراوي بينما نرى جريس: في نوبة جنون، أو ما يطلق عليه الآخرون قسوة، ألقت بنفسها على بطنها في الفراش مُتناسية العار والإصلاح السياسي الذي تقوم به، وفعلت ما لم تفعله مُنذ الطفولة عندما لم تكن تعلم أنه كان خطأ بلا حدود، ضغطت على العقدة التي شكلتها غريزيا من خلال تجميع لحافها، من الصعب معرفة ما إذا كان الأمر مُمتعا أم مُؤلما، لكنها استمرت فيه، فقد كان خارج نطاق سيطرتها، مع عدم مُراعاة النساء الأخريات أو اللياقة العامة، استولى الانفجار النابض بين فخذيها على عالمها.

أي أن جريس قد انساقت خلف تخيلاتها الجنسية عن الرجال السود الذين كانت قد بدأت تتجسس عليهم عراة أثناء استحمامهم، بل وبدأت في مُمارسة عادتها السرية، مُتناسية تماما مهمتها التي تقوم بها من أجل إنشاء مُجتمع جديد من المواطنين الأمريكيين الأحرار، لكن إحدى النساء أيقظتها أثناء مُمارستها لعادتها السرية لتخبرها بأن الطفلة كلير المُصابة بالالتهاب الرئوي قد ماتت؛ تسرع جريس معها إلى منزل والديها، لكنها تجد جاك- والد الطفلة- مُمسكا بالعجوز ويلما- قامت بدورها المُمثلة الصينية الأصل الجامايكية الإنجليزية الجنسية Mona Hammond منى هاموند- مُتهما إياها بأكل طعام ابنته من لحم الحمار؛ الأمر الذي أدى إلى موت الصغيرة.


تحاول ويلما العجوز الدفاع عن نفسها بقولها: كنت جائعة، أصاب بدوار شديد، وساقي تؤلمني عندما أشعر بالجوع، لقد أكلت الكثير من الأوساخ في حياتي، ولم يعد من المُمكن لأسناني تحمل المزيد.

تنهمك ويلما العجوز في البكاء على حالها، بينما يصر جاك- والد الطفلة- على قتل العجوز التي تسببت في مصرع ابنته الصغيرة، لكن جريس تحاول منعه من فعل ذلك؛ فيطلب التصويت من أهل المزرعة على القصاص من العجوز. هنا تحاول جريس إقناعه بالعدول عن هذا القرار، وتقترح عليه طرد العجوز من المزرعة، وهذا سيؤدي بها في النهاية إلى الهلاك، لكنه حينما يصر على التصويت؛ تضطر إلى جمع أهل المزرعة بالكامل في غياب ويلما من أجل التصويت، وتكون النتيجة بموافقة الجميع على قتلها؛ يسرع جاك مُتجها إلى ويلما من أجل قتلها، لكن جريس تمنعه بالقوة المُسلحة مُستخدمة رجال أبيها، وتخبره بأنها لا تريد أن يكون الأمر انتقاميا، وأنها ستقوم بنفسها بقتلها، وحينما تنتهي من الأمر ستخبره.

يوافق جاك بينما تتجه جريس إلى منزل ويلما مُخبرة إياها بأنهم لم يصوتوا على مقتلها، محاولة طمئنتها، كما تطلب منها أن تنام في هدوء، وحينما تخلد ويلما للنوم تقوم جريس بقتلها بطلقة في رأسها، لتحقيق العدالة التي رغب فيها المُجتمع الأسود الجديد.


نقرأ على الشاشة: الفصل السابع: الحصاد. حيث ينجح أهل مندرلاي في حصد محصولهم الوفير من القطن، وتجهيزه للبيع؛ الأمر الذي يعود عليهم بقدر وافر من المال. هنا يستعد رجال العصابة جميعا للرحيل من أجل اللحاق بوالد جريس في أعماله الإجرامية، وبعدما أدوا مهمتهم في إنشاء مُجتمع جديد من الأحرار، كما يأتي أحد رجال العصابة لها برسالة من أبيها يخبرها فيها بأنه سيمر عليها بعد يومين في الثامنة تماما، وسينتظرها خمس عشرة دقيقة فقط في سيارته أمام بوابات المزرعة، وإذا لم تخرج إليه سيرحل إلى المزيد من الأعمال الإجرامية، كما تُطلق جريس سراح ورثة مام، وتبقى المزرعة للعبيد السابقين فقط.

تفكر جريس في الأمر، وترى أنه من الأفضل لها استمرار حياتها في المزرعة؛ وبالتالي تقرر عدم اللحاق بأبيها أو المُغادرة معه، وبما أنها قد نجحت في تحقيق الديمقراطية؛ فلم يعد هناك داع لاستخدام القوة من خلال رجال أبيها الذين أمرتهم بالمُغادرة، كما يعود تيموثي إلى المزرعة بمال وفير مُقابل المحصول الذي باعوه.

أثناء اجتماع أهل المزرعة من السود للاحتفال وتناول العشاء تُلاحظ جريس أن تيموثي يجتنبهم غير راغب في مُشاركتهم الطعام، لكنه يراقبها، وحينما تتوجه إليه من أجل دعوته لمُشاركتهم؛ يأخذها إلى بيت مام السابق، ويقوم بمُضاجعتها على سرير مام، لكنها أثناء نومها تنتبه إلى صوت حصان تيموثي الذي يهرب من المزرعة مُحترقا، بينما الحرائق قد اشتعلت في جنبات المزرعة. تحاول جريس إيقاظ تيموثي لكنها لا تستطيع؛ فتسرع للخارج لتعرف أن هناك من أشعل النيران في المزرعة، بل وسرق أموال الحصاد التي ربحوها، ويخبرها ويلهلم: كان من السابق لأوانه إرسال الأسلحة بعيدا؛ فلم نكن مُستعدين تماما بعد!

ألا نُلاحظ في هذا التصريح من ويلهلم بأن الزنوج يرون أنهم لا يمكن لهم الحياة في أمان من دون وجود قوة باطشة مُسلحة تعمل على حمايتهم؟ بل ويتهم أحدهم رجال عصابة والد جريس بأنهم من قاموا بسرقة أموال الحصاد أيضا. في هذه الأثناء يصل الدكتور هيكتور إلى المزرعة؛ فتسرع إليه جريس مُخبرة إياه بأنها سبق أن قالت له: إنها لا تريد رؤية وجهه في المزرعة مرة أخرى. لكنه يخبرها بأنه قد عاد كي يثبت لها بأنه رجل أمين، ولا بد له من أن يعطيها حقها مُخرجا لها مبلغا كبيرا من المال، ليخبرها أن هذه الأموال هي أموال الحصاد مخصوما منها 20% كما سبق له أن قال لها، بل ويقول: خضت لعبة صغيرة مع شاب جاء لرؤيتي، علمت أنه قد أتى من هنا؛ لذا عدت مرة أخرى بشكل متواضع، ألا تعتقدين أنك ربما كنت مُخطئة بشأني؟ فتسأله: من كان ذلك الرجل؟ ليرد: وصل على ظهر حصان أسود.


تنتبه جريس إلى أن تيموثي كان هو المسؤول عن أموال المزرعة، فتؤكد لهيكتور أن تيموثي "منسي" Munsi أي أنه لا يُقامر ولا يشرب الخمر؛ فيخبرها بأنه يخادعهم، ويدعي بأنه منسي كي يجتذب النساء المفتونة بهذه النوعية من الزنوج فقط.

تُسرع جريس إلى كتاب قوانين مام مرة أخرى لنستمع إلى صوت الراوي يقول: نظرت جريس عن كثب إلى الرقم المكتوب بخط اليد، وقارنته بالرقم 7 بجانب اسم إليزابيث، الزنجية اللطيفة من نوع الحرباء، والخبيرة في تغيير الشخصية إلى أي شيء مُناسب، ما من شأنه إثارة إعجاب الشخص الآخر، وجذب انتباهه. لم يكن رقم تيموثي 1، بل 7، كانت ترغب فقط في قراءته على أنه 1، بل كانت هناك مُلاحظة بجانب اسمه، الحذر، ذكي شيطاني.

أي أن تيموثي كان من العبيد المُخادعين كما سبق لمام أن صنفتهم في كتابها، وليس من المنسي؛ لذلك فلقد فُتنت به جريس، واستسلمت له حينما قام بمُضاجعتها، يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل الثامن: حيث تستقر جريس في ماندرلاي وينتهي الفيلم.

في هذا الفصل الختامي يجتمع أهل القرية بالكامل في الوقت الذي كانت فيه جريس قد قررت الرحيل مع أبيها/ رجل العصابات حينما يأتي في تماما الثامنة مساء، وقد حضرت جريس الاجتماع ومعها كتاب قوانين مام، فأعطتهم مال الحصاد أولا مُخبرة إياهم بأن المسؤول عن حراسة المال- تيموثي- قد قامر به، وأن هيكتور قد أعاد المال مخصوما منه 20% مُقابل إعادته، كما تخبرهم بأن تيموثي مُجرد مُخادع وليس منسيا حقيقيا. هنا يتحدث فيلهلم قائلا: كنت أنا ومام صغيرين جدا عندما انتهت الحرب فجأة، وهذا النظام الجديد أرعبنا، حاولنا تخيل نوع هذا العالم الذي سمح لهؤلاء العبيد بالخروج إليه، هل هم مُستعدون لذلك؟ أو بالأصح، هل كان جاهزا لهم؟ قدم المُشرعون وعودا، لكننا لم نصدقها، ثم حثتني مام على الالتزام بالأوراق بالطريقة التي اعتقدت أن الأمور ستتم من خلالها إذا ما بقي الجميع في ماندرلاي. أي أن فيلهلم قد اتفق مع مام على إخفاء أمر الحرية التي نالها العبيد من أجل الاستمرار في العبودية تحت دعوى أنهم غير جاهزين لهذه الحرية، كما أنهم لن يستطيعوا مواجهة العالم الذي لم يكن جاهزا لهم بعد!

المخرج الدانماركي لارس فون ترير

فترد عليه جريس: لكن هذا امتداد للعبودية! ليقول: ربما تطلقين عليها ذلك، وربما أيضا تسمينها أهون الشرين. فتسأله مُندهشة: لكن، هل علم الآخرون بأنك كتبت هذا الكتاب؟! ليقول: المجموعة 2، و3، و5 عرفوا دائما، كان من الأفضل ألا يعرف عدد قليل من أعضاء المجموعات الأخرى، لكن الجميع يعرفون الآن، لقد كتبت قانون مام من أجل خير الجميع. تقول جريس: إنها وصفة للقمع والإذلال من بدايتها لنهايتها. ليقول: أظن أنك قرأتيه من وجهة نظر خاطئة إذا ما جاز لي قول ذلك. فلم تكن أمريكا مُستعدة لاستقبال الزنوج مُنذ 70 عاما، وما زالت غير مُستعدة، وبالطريقة التي تسير بها الأمور فهي غير مُستعدة حتى بعد 100 عام من الآن؛ لذا اتفقنا على أننا نود التراجع خطوة إلى الوراء في ماندرلاي، وإعادة فرض القانون القديم، كما تعلمين، للأسف، فقدنا مام، ولسوء الحظ نحن بخير وخائفون من أحفادها، باختصار نحن نفتقر إلى مام، ولقد حصلت على جميع الأصوات، مع كل ما تبذلينه من مثالية، أظن أنه يمكنك الاستمتاع بكونك الحارس لنوع من الحيوانات التي ليس لديها فرصة في البرية، تماما كما كنت تعتقدين أن فكرة المُجتمع ستكون مُفيدة لنا!

إن لارس فون هنا يستغرق في قسوته الشديدة الإيلام، وهي القسوة التي يؤكد من خلالها على أن الزنوج من العبيد قد دفعوا بأنفسهم إلى العبودية بأيديهم رافضين نيل حريتهم؛ بسبب اعتقادهم بأنهم غير مُؤهلين لهذه الحرية من ناحية- التشوه النفسي بسبب الاستعباد الطويل، لاحظ أيضا وصف فيلهلم لأبناء جنسه بالحيوانات- كما أن الأمريكين قد أوحوا إليهم بأن المُجتمع غير مُهيأ بعد لاستقبالهم كمواطنين أحرار، وربما لن يتهيأ لسنين طويلة قادمة، أي أن الزنوج مُجرد كائنات لا تليق بهم الحياة سوى كعبيد للجنس الأبيض فقط، وأن المُجتمع الأمريكي لا يراهم سوى هكذا رغم حركات التحرر الطويلة التي بذلها السود من أجل نيل حريتهم، ورغم الحروب الطويلة من أجلها، ولكن حينما خضعت أمريكا لرغبتهم كان الأمر مُجرد خضوع ظاهري، وليس اقتناعا بأنهم كائنات بشرية لهم الحق في الحياة بحرية مثلهم!

الممثل الأمريكي داني جلوفر

هنا ترفض جريس عرض فيلهلم عليها بأن تستعبدهم بإرادتهم لتأخذ مكان مام، وتحاول الانصراف، لكن فيلهلم يخبرها بأنها إذا ما كانت قد استخدمت القوة المُسلحة فيما قبل معهم من أجل بناء مُجتمع حر ديمقراطي؛ فهم سيستخدمون معها الآن نفس القوة الغاشمة من أجل إرغامها على أن تستعبدهم، بل وأكد لها بأنهم قد قاموا بإغلاق بوابات المزرعة، وأنها لن تستطيع الهروب منهم.

تكتشف جريس بأنها قد باتت في مأزق، وعليها أن تتظاهر بقبولها لعرضهم من أجل استعبادهم إلى أن يأتي أبوها في الثامنة تماما. هنا تحاول إقناعهم بأنها قد قبلت عبوديتهم لها، وتخبرهم بأنه لا بد من مُعاقبة تيموثي لأنه كان مُخادعا، كما أنه لم يحافظ على أموال الحصاد، وبما أن قانون مام لا يوجد فيه ما يشير إلى ذلك؛ فلا بد من اختراع أي شيء من أجل عقابه، وهنا تقترح أن يضعوا له زجاجة خمر في سرج الفرس من أجل عقابه، وبالفعل يقومون بذلك سُعداء، لتطلب منهم تقييده إلى جزء من بوابات المزرعة الحديدية، وتعرية ظهره من أجل جلده بالسوط.

يفعل أهل المزرعة ذلك بسعادة، ويناولونها السوط من أجل جلده، لكنها تخبره بأنها تحتقره، وأنه عليه أن يتضرع إليها من أجل مُسامحته، لتلقي بالسوط أرضا محاولة الخروج من المزرعة، إلا أن تيموثي يخبرها بأنها على صواب، ولكنه صنيعتها؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالكثير من الغضب الجامح لتتناول السوط وتستغرق في جلده بقسوة مُتناهية بينما ينظر أهل المزرعة من الزنوج إلى بعضهم البعض بخوف، وقلق مما تقوم به جريس.

أثناء استغراق جريس في تفريغ غضبها بجلد تيموثي يصل والدها، وحينما تتأخر يهبط من سيارته للاطمئنان عليها، لكنه حينما يراها تقوم بجلد تيموثي يبتسم مُطمئنا عليها، ويتأكد بأنها قد تغيرت تماما وقامت باستعباد أهل المزرعة؛ الأمر الذي يجعله فخورا بها، وينصرف مُطمئنا بعدما يترك لها خطابا يخبرها فيه بشعوره بفخره بها لما آل إليه الأمر.

ما أن تنتهي جريس من تفريغ شحنة غضبها إلا وتسرع خارج المزرعة باحثة عن أبيها الذي كان قد انصرف، لتجد خطابه الذي يخبرها فيه بفخره بها، وأنهما لا بد سيلتقيا مرة أخرى، بينما يجتمع أهل المزرعة مُطاردين لجريس من أجل إرغامها للعودة مرة أخرى، ومنع هروبها من أجل استعبادهم!

الممثل الأمريكي وليام دافو

هنا نستمع إلى الراوي يقول: كانت أمريكا قد قدمت يدها، ربما في تكتم، ولكن إذا ما رفض أي شخص رؤية يد المُساعدة؛ فلا يلومن إلا نفسه! أي أن يد المُساعدة التي تقدمها أمريكا دائما لجميع شعوب العالم ظاهريا، لا بد من قبولها، رغم أنها ليست مُساعدة حقيقية، بل هي اليد المُمتدة من أجل تخريب الجميع، واستعبادهم، ومن يجرؤ على إنكار ذلك؛ فسيواجه القوة الغاشمة للمُجتمع الأمريكي في نهاية الأمر.

يبدو لنا الفيلم الدانماركي Manderlay للمُخرج لارس فون ترير موغلا في القسوة، والسُخرية، والازدراء، والكشف، والعدائية تجاه أمريكا من فيلمه السابق دوجفيل، وهو في هذا الفيلم أكثر مُباشرة ووضوحا مما كان عليه في الجزء الأول من ثلاثيته غير المُكتملة. إنها الثلاثية التي تؤكد على أن أمريكا من أولى الدول التي تسعى إلى إيذاء الجميع، وتخريب الدول باسم الديمقراطية الزائفة التي هي في حقيقتها ديكتاتورية ترغب من خلالها في السيطرة على العالم، فضلا عن إشارته إلى الكذب الأمريكي في مد يد المُساعدة التي هي في جوهرها الرغبة الحقيقية في سلب الجميع لحقوقهم من أجل بقائها وحدها على رأس العالم، لكن لا يمكن لنا أن تفوتنا تلك النزعة التخريبية التي تمتلك ترير تجاه كل شيء، سواء على مستوى الشكل في صناعة السينما؛ الأمر الذي يؤدي به إلى أسلوبية وشكلانية تخصه، أو على مستوى الأفكار التي يؤمن بها العالم من حوله، وهي الأفكار التي يحرص على تخريبها بمتعة موغلة في القسوة ليضع العالم أمام نفسه مُتأملا قبحه وزيفه اللامتناهيين.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة نقد 21

عدد فبراير 2024م