الخميس، 26 يوليو 2018

جنة الشياطين.. فلسفة حياتية تتحدى الموت!

تُعد رواية "الرجل الذي مات مرتين" للروائي البرازيلي جورج أمادو من الروايات المهمة التي عالجت الموت باعتباره وجهة نظر؛ فكل شخص قادر على أن يرى الموت من زاويته وثقافته وبيئته التي تخصه؛ وإذا كان البعض في رواية أمادو يرى بطل الرواية "كينكاس هدير الماء" ميتا بشكل يقيني، فهناك غيرهم رأوا أنه ما زال حيا يرزق لكنه يخادعهم كما سبق له أن خادعهم غير مرة؛ لذلك تعامل معه معظم من في الرواية باعتباره يسخر منهم.
تعتمد الرواية منذ بدايتها على حدث واحد هو موت "كينكاس هدير الماء" الرجل الأسطوري بالنسبة لمن يعيشون في العالم السفلي من مقامرين وسكيرين ومتشردين ولصوص وقتلة وقوادين وعاهرات، أو "جواكيم سواريس دا كونيا" رب الأسرة المحترم والموظف المثالي والزوج الدمث الأخلاق المطيع لزوجته الذي يحظى بمكانة اجتماعية يحسده عليها الجميع في المجتمع البرجوازي، صاحب الأخلاقيات البرجوازية والذي يتمرد فجأة على هذه الحياة الطويلة التي عاشها بهذا الشكل الجدي ليُحدث انقلابا غريبا في حياته ويفضل هجر هذه الحياة المستقرة والاختفاء منها؛ ومن ثم يتحول إلى "كينكاس هدير الماء" السكير العربيد الذي يحتقر مجتمعه القادم منه ويقدس حياة الليل مع القوادين والعاهرات والسكيرين والمُشردين، وحول هذا الموت للرجل ذي الشخصيتين المتناقضتين يعمل أمادو على بناء روايته التي تسخر من كل الحقائق الثابتة؛ لتحيلها إلى أمور نسبية لا يمكن لأحد أن يستقر عليها، وينجح في السخرية من كل ما يدور حولنا في حياتنا، لدرجة السخرية من مفهومي الموت والحياة في حد ذاتيهما.
لكن كيف تعامل السيناريست مصطفى ذكري، والمخرج أسامة فوزي مع هذه القصة التي قد لا تجد لها جمهورا كبيرا من المشاهدين؛ ومن ثم يكون تحويلها إلى عمل سينمائي من قبيل المغامرة؟
نلاحظ أن السيناريست مصطفى ذكري كان حريصا على بعض التغييرات في القصة الأصلية؛ لتتناسب أولا مع الوسيط السينمائي الذي ينقلها إليه، ثم لتتناسب مع المجتمع المصري وثقافته فيما بعد؛ لذلك رأينا أنه قد جعل ابنته في الفيلم- فندا في الرواية- تميل إلى الأب، وتحمل من صفاته الفكرية والرغبة في التمرد الكثير، حتى أنها تثور على أسرتها وتسخر منهم متخذة جانب أبيها فيما ذهب إليه رغم أنها في الرواية تحمل الكثير من صفات أمها التي تميل إلى السيطرة وفرض رأيها ووجهة نظرها، وإذا كانت سيطرة كل من الأم والابنة في الرواية من الأسباب التي أدت به إلى هجر هذه الحياة للتحرر منهما، فلقد كانت في الفيلم بسبب سيطرة الأم فقط.
كما نلاحظ في الرواية أن الابنة والعمة قد تركا الحي الفقير الذي ترقد فيه جثة الأب عند حلول الليل؛ لأنهما لا يمكن لهما البقاء في مثل هذه الأحياء الخطيرة، لكنهما تركا العم مع الجثة حتى الصباح لإقامة الجنازة؛ حيث خشيت الابنة أخذ الجثة للمنزل للخروج بالجنازة من هناك حتى لا ينتبه الجيران ويبدأون في النميمة، ولكن العم كان ضجرا وراغبا في النوم؛ ومن ثم ترك الجثة مع أصدقاء "كينكاس" الثلاثة ليحرسونها؛ إلا أنهم أخذوا الجثة لقضاء السهرة معها. لكننا نلاحظ في الفيلم أن الابنة أخذت الجثة فعليا إلى منزلها لتخرج جنازتها من هناك، وحينما ذهب أصدقاؤه الثلاثة إلى المنزل لرؤية الجثة قاموا باختطافها من أجل قضاء السهرة، ثم فكروا فيما بعد في بيع الجثة، وهذا ما لم يكن في الرواية.
نجح مصطفى ذكري كسيناريست في إضافة بعض التفاصيل من عنده؛ فجعل الجثة ذات "سنة" ذهبية، حاول أحد أصدقائه سرقتها من فمه بقسوة باعتبار أن "الحي أبقى من الميت"، كما حاول الآخر بيع الجثة لطلبة كلية الطب، في حين أن الرواية تؤكد أن أصدقاءه الثلاثة كانوا يقدسونه، ولا يمكن لهم أن يتجرأوا على جثته بمثل هذا الشكل، كما أبقى على الزوجة حية في السيناريو ليكون هناك صراعا بينها وبين الابنة في صالح الأب، في حين أن الرواية تؤكد موت الزوجة، وأن الابنة كانت مؤمنة بشكل يقيني بأن أبيها قد جلب لهم العار، ومن ثم كانت متوافقة مع أفكار أمها تماما.
ربما كانت هناك بعض الأمور التي أدخلها مصطفى ذكري على القصة الأصلية لتتناسب مع الوسيط الفيلمي، كما أبقى على بعض التفاصيل الروائية الأخرى كما هي تماما في الرواية، لكن ما حرص عليه ذكري حرصا حقيقيا- وإلا أفسد مغزى القصة بالكامل- هو الحفاظ على فلسفة الموت والحياة، باعتبارهما وجهتي نظر، كذلك حفاظه على السخرية من الشكلانيات والمظاهر الزائفة التي يؤدي إليهما الحرص على عادات المجتمع السقيمة والخوف من حديث الآخرين، وهو ما دفع البطل إلى هجر هذا الزيف إلى حياة أخرى قد يراها هذا المجتمع وضيعة، وإن كانت أكثر صدقا من المجتمع الذي تركه، ولعل أهم السمات التي حافظ عليها ذكري في فيلمه هي السخرية العميقة من مفهومي الموت والحياة.
فلسفة الموت والحياة
ثمة محور رئيس نستطيع من خلاله فك شفرات ذلك العالم الذي قدمه لنا "أسامة فوزي" في فيلمه الثاني "جنة الشياطين"، هذا الفيلم الكابوس الذي يقدم لنا رؤية طالما تمنيناها من طول ما فكرنا فيها إلا أننا نعجز دائما عن تحقيقها- القسوة الجريئة في مواجهة الموت- إلا أن جرأة "مصطفى ذكري" كسيناريست متميز جعلته يقدمها لنا بكل وضوح- بعد اقتباسها بتمكن وعمق من رواية "الرجل الذي مات مرتين" للروائي البرازيلي "جورج أمادو Jorge Amado- فأثارت في ذواتنا العديد من التساؤلات الفلسفية حول مفهومي الموت والحياة، بل إن أسماء شخصيات الفيلم جميعها أثارت العديد من التساؤلات حول مدلولها.
"طبل" (محمود حميدة) هذا الاسم ذو الرنين العالي وكأنه يواجه الموت بالجلبة العالية التي يتخذها أسلوبا للحياة، "ننّه" (عمرو واكد)، "بوسي" (صلاح فهمي)، "عادل" (سري النجار) أصدقاء "طبل" الثلاثة بأسمائهم التي توحي لنا بطفولتهم الجميلة الشقية رغم قسوتهم وعنفهم الشديد في مواجهة الحياة، هذه الطفولة التي نلاحظها في المشهد الذي كان بينهم وبين "سلوى" (كارولين خليل)- ابنة طبل- حينما دخلوا الفيلا لوداع طبل الوداع الأخير، فما أن فتحت لهم الباب إلا ورأيناهم يدخلون مصطفين بجانب بعضهم البعض بينما وجوههم تنظر إلى الأرض وكأنهم مجرد أطفال أمام والدتهم.
تلك الطفولة نلاحظها أيضا في لعبهم مع "طبل" و"شوقية"- صفوة- بعدما اختطفوا جثته ليقضوا معها سهرة الوداع، فنراهم يلعبون لعبة جميلة ويجيء أحدهم ليقول: "إما أن ألعب معكم، وإلا فليس هناك لعبا" بروح طفولية، بل إن "شوقية" حينما تمسك يد أحدهم وهي مغمضة العينين وتفصح عن اسمه يضحكون بهستيريا لينفوا ذلك، رغم أنها قالت بالفعل على صاحب اليد التي أمسكتها.
"شوقية" هذا الاسم الدال على الحياة بكل فورانها وزخمها والرغبة الشديدة فيها- لاحظ الاشتقاق من مفردة الشوق- مثلما يدل على مهنتها كفتاة من فتيات الليل بها شوق ورغبة.
"حُبّة" (لبلبة) اسم دال على حب الحياة والتفاني فيها- لاحظ الاشتقاق من مفردة الحب- والرغبة في امتلاكها حتى الرمق الأخير.
إنها أسماء دالة بالفعل على الرغبة في الحياة، بل إن عنوان الفيلم نفسه- جنة الشياطين- دال على مفهوم جميل؛ فتلك الحياة التي يحياها هؤلاء- نُنّه، وعادل، وبوسي- هي بالفعل جنة لهم بمفهومهم الخاص، إنها الحياة التي يرونها أقدس وأبهى من الجنة الحقيقية رغم ما يسودها من فقر وبؤس وسُكر وعربدة وعُهر، فهذه هي الحياة التي يرغبونها، الحياة المُحررة من كل قيد قد يُثقل نفوسهم المنطلقة الطفولية التواقة للحياة.
إذا كان لا بد من الحديث عن ذلك الكابوس الذي قدمه لنا الفيلم، فنحن نرى أنه لا بد من تقسيمه إلى محورين رئيسيين: "الموت"، و"الحياة"- إذا جاز لنا الفصل بينهما-.
الموت
هذا القميء الذي يحيطنا من جهاتنا الأربع؛ فنقدسه ونخافه، لكننا في ذات الوقت نرفضه محاولين التخلص منه بشتى الطرق، حتى ولو كان بالسخرية القاسية منه، بل ورفضه وعدم الإذعان له، فنرى "شوقية"- صفوة- فتاة الليل التي تُصادق "طبل" وأصدقاءه الثلاثة- نُنّه، بوسي، وعادل- إنها تشعر بالخجل الشديد، بل بالخوف من قداسة الموت عندما ترى "طبل" ميتا لا حول له ولا قوة؛ فتحاول إغلاق فتحة صدرها التي قطعها أصدقاؤه الذين كانوا يرغبون في مضاجعتها وإشراك "طبل" معهم، بل إنها تتجه إلى "حُبّة"- عشيقة طبل- لتغلق لها فتحة صدرها؛ فتخيطها لها باكية ذلك الذي كان ممتلئا بالحيوية منذ قليل- إنه الخوف من قدسية الموت وضراوته القاسية- هذه القدسية نفهمها من قول "شوقية" "لحُبّة": إن عينيه كانتا مغمضتين، لكنها كانت تشعر بهما تنظران نحوها. إنها لا تقصد عيني "طبل" هنا بالطبع بل تقصد عيني الموت الذي ينظر إليها متفحصا بشراهة جعلتها تخجل خائفة منه.
في حين نرى موقفا مغايرا تماما عند "طبل" الذي يواجه الموت ساخرا مستهزئا وكأنه يقول له جملته المألوفة التي لا تفارق لسانه "الحي أبقى من الميت"، فنراه يواجه الموت باسما تلك الابتسامة التي ظلت على وجهه طيلة أحداث الفيلم؛ مما يوحي لنا بالبرود القاسي في مواجهة الموت والسخرية منه، بل إنها تعطينا مدلولا آخر، وهو الانتصار للحياة، هذه الحياة التي تمثلت في ابتسامته المنحوتة على وجهه لتظل خالدة معه حتى بعد موته.
إنها السخرية البالغة التي نراها في كيفية التعامل مع الجثة في مشهد خلع أسنان "طبل" الذهبية على يد "نُنّه" موحيا لأصدقائه أن "طبل" هو الذي طلب منه ذلك بجملته المألوفة- الحي أبقى من الميت- فنراه يخلعها بالمطواة من دون أية مهابة لقداسة الجثة، بل نراه يرغب في الشجار مع "طبل" حينما يعلم أن الأسنان لم تكن ذهبية؛ فيصرخ فيه قائلا: "هشرب حبتين صليبة وابلعهم ببُق براندي واعملها معاك يا طبل"، مخرجا مطواته راغبا في الشجار معه.
هل نستطيع الجزم هنا بأنها سخرية غير مؤدلجة بموقف وجودي؟
بالتأكيد هذا التساؤل لا بد له أن يتبادر إلى أذهاننا؛ فالتعامل مع الموت هنا ليس هينا، بل هو نابع من موقف فلسفي خاص لا نستطيع من خلاله الجزم بأنه نابعا من الشخصيات؛ فهي شخصيات بسيطة مسطحة في حياتها لا يهمها سوى الخمر والنساء والقمار، لكننا نقصد هنا أنها فلسفة من صناع الفيلم أنفسهم، ولعل التعامل مع الجثة بمثل هذه البساطة والقسوة هما خير دليل على ذلك؛ فلننظر إلى سخريتهم الوحشية حينما يسقونه الخمر وكأنه حي يرزق بينهم، ألا يدل ذلك على الاستهانة بكل شيء؟
لكنه أسلوب حياة ارتضاه هؤلاء الأطفال القساة؛ فصار أشبه بالفلسفة الموجهة للموت، هذا الموت الذي أراد "أسامة فوزي" تعميقه في نفس المشاهد؛ فصور مشهد تغسيل الجثة بتفصيل قاس، فكانت الكاميرا تستعرض ذلك الجسد الفاقد للحياة، الضامر البطن حتى أننا كدنا نشعر بالموت فعلا وكأنه كائنا خرافيا يجثم على صدورنا، إلا أنه بقدر ما عمّق ذلك في نفوسنا سرعان ما أفاقنا مرة أخرى بذلك المشهد السيء الذي اقتربت فيه الكاميرا إلى حد كبير من جسد "محمود حميدة"؛ فظهر لنا بوضوح جلده المقشعر من فرط البرد؛ ومن ثم أيقنا أننا أمام فيلم يُؤدى بعدما رسخ في أذهاننا أننا نحيا معهم في كابوس حقيقي، وهذا عيب ما كان ينبغي أن يقع فيه مصور مثل "طارق التلمساني"، ومخرج جيد مثل "أسامة فوزي".
الحياة
رغم سيطرة جو الموت على الأحداث حتى نكاد نشعر به يخنقنا إلا أنه يمتزج بالحياة امتزاجا قويا يصبح الفصل فيه بين الموت والحياة نوعا من عدم الموضوعية والتجني؛ فالشباب الثلاثة "نُنّه، عادل، وبوسي" بما فيهم "شوقية"، و"حُبّه"، بل و"طبل" أيضا متشبثون جميعا بالحياة أيما تشبث، فهم يصورون الحياة في أقوى صورها.
"طبل" المثقف الذي يعيش حياة اجتماعية هادئة بين أسرة محترمة ومستوى اقتصادي مستقر نراه يترك كل ذلك رافضا إياه متمردا عليه؛ ليعيش في العوالم السفلية- عالم الليل والغرز والنصابين والقمار والدعارة- فهو لا يرغب في حياته الرتيبة، التي تسودها مجموعة من التقاليد والقيم والمُثل التي يشعر بها كالقيود تُكبله حتى تكاد أن تخنقه فتميته، ولعل مشهد تغسيل جثة "طبل" في بيته وفوق مكتبه كان خير دليل على ذلك؛ فاستعراض الكاميرا لمكتبته هو إسقاط على فهمه وثقافته، وكم كان جميلا تركيز الكاميرا على صور "طبل" مع ابنته وعائلته، تلك الصور التي كانت أسفل زجاج المكتب الذي يُغسّل عليه "طبل". فتساقط مياة الغُسل على الصور العائلية هي رغبة صادقة وقوية لمحو حياته السابقة وغسلها تماما وكأنه يمسحها من ذاكرته، فهو قد رفض هذه الحياة ولفظها من أجل الحرية.
إنها الرغبة القوية في الحياة بشتى أشكالها، هذه الحياة نجدها عند أصدقائه الثلاثة "نُنّه، هادل، وبوسي" الذين يحيون حياتهم بعنف، هذا العنف غير المبرر الذي يشبه البرق- سرعان ما نشاهده وسرعان ما يختفي- وليس المقصود هنا العنف الجسدي فقط، بل هو العنف الجنسي أيضا الذي نشاهده بينهم وبين "شوقية" بعد انتهاء اللعبة التي لعبوها وشاركهم فيها "طبل" بوضع يديه على عيني "شوقية"؛ فنجد "شوقية" تمسك عانة أحدهم بقسوة حتى تكاد أن تقتله.
نلاحظ كذلك "العنف السلوكي" في المشهد قبل الأخير حينما كاد يقع أحد رواد المقهى بسبب قدميّ "طبل" الممدودتين، وحينما يُبدي الرجل تبرمه قائلا له: "ما تحاسب يا أخ" فإنه لا يكاد أن يتم جملته إلا ويتحرك الأولاد الثلاثة بكل عنف كي يضربه "بوسي" بزجاجة البيرة التي في يده؛ لتنكسر على رأس الرجل؛ ومن ثم تقوم مشاجرة قاسية. إنه العنف الذي يريد أن يأخذ من الحياة كل ما فيها قبل مجيء الكابوس الذي يُدعى الموت.
هذه الحياة نجدها أيضا عند "شوقية"، و"حُبّه" هاتان المرأتان اللتان أعلنتا الحداد على "طبل" أسبوعا كاملا، ثم سرعان ما نقضتا ذلك العهد الذي أخذتاه على نفسيهما، فنرى "شوقية" (صفوة) تُساوم أحد الرجال على ثمن ليلة يقضيانها معا طالبة منه عشرين جنيها، كذلك "حُبّه" (لبلبة) تعترف بنفسها لـ"طبل" فتقول له أنها اشتاقت للزبائن وفلوس الزبائن؛ فاضطرت إلى قطع الحداد، وضاجعت خمسة رجال رغم عدم شعورها بالانتشاء.
إنها الرغبة الشديدة في الحياة ومواجهة ذلك الكئيب المدعو الموت، فالرغبة في الحياة نجدها عند "نُنّه" عندما يخلع أسنان "طبل" الذهبية لأن "الحي أبقى من الميت" على حد تعبير "طبل"، كذلك نجدها في بيع "عادل" لجثة "طبل" كي يأخذه مجموعة من طلبة كلية الطب لأن "الحي أبقى من الميت" كذلك.
الرغبة الشديدة في الحياة والتمسك بها نراها عند "سلوى"- كارولين خليل- ابنه "طبل" التي أخذت من أبيها الكثير من فكره وفلسفته في الحياة، فهي ترغب أن تحيا حياة أبيها، بل تكاد أن تحسده عليها وإن كانت لا تستطيع إعلان ذلك خوفا من القيم/ القيود التي تكبلها- القيم التي تخلص منها طبل- فهي تُظهر للجميع معارضتها لسلوك والدها الشائن، لكنها في النهاية ترضخ لشعورها الصادق؛ لأنها تعي جيدا أنه قد سلك سلوكا كلنا تقريبا نرغب في سلوكه، لكننا نخشى المجتمع فنخجل منه.
إنها الرغبة الضمنية في الحياة، الرغبة التي جعلتها تضحي بالتابوت المصنوع من خشب الأرو المدفوع فيه ما يزيد على الألف جنيه. الرغبة التي جعلتها تضحي بالنعي المنشور في الأهرام والسيارتين الليموزين من أجل إعادة والدها لأصدقائه؛ لأنهم أحق به منها هي ووالدتها.
إن تأمل "سلوى" للعالم المحيط بوالدها هو خير دليل على رغبتها في أن تكون مثله، فنراها تتأمل "حُبّه"- حينما كانت معها في السيارة وهي متجهة لأخذ جثة أبيها-؛ فتهمس قائلة: "هي دي اللي سبت ماما عشانها؟ ماما برضه هتعرف تعيّط عليك"، فكأنها تتحدى نفسها برفضها لمجتمع والدها- أو تُراجع موقفها الرافض- الراغبة فيه، لكن القيود التي تكبلها تمنعها من ممارسة الحياة فيه، لكننا نلاحظ في النهاية أنها استطاعت الخلاص من هذه القيود حينما قالت لزوجها وأهلها أن يبقوا على التابوت المصنوع من الأرو؛ فربما يموت أحد منهم ويحتاجه، وحينما قالوا لها: "وليه ميكونش أنت؟"، ردت باشمئزاز واضح: "مظنش إني أقدر أنام في تابوت زي دا". إنه انتصار الحياة على الموت، بل هو الرفض التام لتلك القيود التي كانت تكبلها.
أسامة فوزي بين عفاريته وشياطينه
عند الحديث عن "جنة الشياطين" لأسامة فوزي لا بد لنا من الربط بينه وبين "عفاريت الإسفلت"- فيلمه الأول-؛ نظرا للصلة القوية بينهما. ففلسفة الموت والحياة نراها قائمة قوية كالجسر الذي يربط بين الفيلمين، إنها الحياة المتحدية للموت في مشهد موت الجد- محمد توفيق- حيث يدخل "سيد" (محمود حميدة) المطبخ راغبا في "بطة" (منال عفيفي) فيطوقها من الخلف معانقا إياها لتكتشف أنه سكران، وحينما توبخه قائلة: إن دم جده لم يبرد بعد، يرد قائلا: "أنا كنت أعرف إنه هيموت النهاردا؟".
نرى تلك الحياة كذلك في مشهد "إنشراح" (سلوى خطاب) مع "رنجو" (عبد الله محمود) حيث يختلي بها فوق سطح البيت في نفس الوقت الذي كان جدها لم يُدفن بعد. هل هي مواجهة الموت بالحياة المرادفة للجنس، أم السخرية منه؟
هذه الرغبة الشديدة في الحياة نراها عند الجد حينما يمسك "الساندويتش" بكلتا يديه ملتهما إياه بجوع غريب يدل على رغبته الشديدة في التمسك بالحياة قبل مفاجأة الموت.
هذه السخرية الجميلة من حقيقة الموت نراها كذلك في المشهد الذي يجمع بين (أمل إبراهيم) والدة "رنجو" والأسطى "عبد الله" (جميل راتب) والد "سيد" حيث تجمعهما المقابر التي ذهبت إليها والدة "رنجو" لزيارة زوجها المرحوم، فيذهب إليها الأسطى "عبد الله" ليأخذ منها موعدا في البيت القديم الذي كان مكان لقائهما الجنسي.
إنها السخرية من الموت في مكانه الطبيعي وعقر داره- المقابر-، وعندما نرى هذه الفلسفة هي المسيطرة على المخرج أسامة فوزي، والسيناريست مصطفى ذكري؛ فنحن لا نمتلك سوى تحيتهما؛ حيث استطاعا استخراج الرغبة في الحياة من قلب الموت.



محمود الغيطاني

 النص العربي للمقال المنشور في مجلة "بانيبال" Banipal اللندنية
العدد 62 صيف 2018م

الثلاثاء، 17 يوليو 2018

شكسبير والسينما.. مارتن سكورسيزي عصره

في كتاب "شكسبير والسينما.. رجل لكل الفنون" الصادر على هامش فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثامن والثلاثين يحاول الناقد السينمائي عصام زكريا الربط الوثيق بين ما قدمه المسرحي والشاعر الإنجليزي وليم شكسبير وبين علم النفس لاسيما ما قاله عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد في التحليل النفسي لمسرحية "هاملت" في كتابه "تفسير الأحلام"، كذلك ما كتبه المحلل النفسي "ن.ن. دراكوليس" في كتابه "هاملت.. دراسة في التحليل النفسي"؛ حيث أصبحت مسرحية "هاملت" بعد هذه الدراسات النفسية: "نصا عن الإسقاط الذي يقوم به عقل الطفل والكبير حين يزيح رغباته المكبوتة ويتهم بها الآخرين. ذلك أن عقل الأمير هاملت الذي يعاني من عقدة أوديب يرفض أن يعترف بسعادته في التخلص من أبيه ورغبته التي تستيقظ في أمه، وبالتالي يتهم الأم نفسها بالشهوانية، ويتهم أباه البديل- عمه- بأنه قتل أخاه وأنه يتآمر لقتله هو أيضا".
من خلال هذا الربط بين ما كتبه شكسبير وما ذهب إليه فرويد يحاول المؤلف التأكيد على أن النص الفني يحمل داخله وعيا باطنيا يتخاطب بشكل سري مع الوعي الباطني للقارئ أو المشاهد، وهو يتجاوز المعنى السطحي الظاهري الذي يتناوله هذا العمل، وأن هناك وعيا باطنيا للجماعة ككل، يُطلق عليه الوعي الباطني الجمعي.
يذهب زكريا إلى أن قيمة أعمال شكسبير لا تكمن فقط في أنها "عالمية"، بمعنى الشهرة، ولكن في أنها "ملكية عامة" مثل الحكايات الشعبية التي تنتقل وتتكيف عبر اللغات والبلاد والأزمنة. ومن الطريف أن شكسبير استمد معظم أعماله، بل كلها، من حكايات شعبية رائجة "عامة"، فهاملت دنماركي، وجان دارك فرنسية، ولو رسمنا خريطة للعالم الذي تدور فيه قصص شكسبير سوف نجد أنه يمتد من شمال غرب أوروبا إلى شمال إفريقيا وغرب آسيا، مارا بحوض البحر المتوسط والشرق الأوسط.
إذن- وكما يذهب المؤلف- فقد اهتم شكسبير وأهل عصره بكل حدود العالم وتاريخه المعروفين لدى الأوروبيين في ذلك الوقت، الذي رُسمت فيه أول خريطة للعالم، وهو عصر مفصلي يقع على حدود نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، وقد أصبح شكسبير بحكم الزمان والمكان، وبحكم موهبته النادرة حلقة وصل مفصلية ومهمة في تاريخ الشعر؛ فقد أخذ كل ما أُتيح له الحصول عليه من ثقافة شعبية وراقية في عصره، من الحكايات والأمثال والتعبيرات الشعبية إلى كتب التاريخ والشعر المكتوبة بالإنجليزية واللاتينية ولغات أخرى- غير محسوم كيف اطلع عليها- وقام بهضم كل هذا وأعاد تدويره بحيث يخرج في صورة مسرحيات مصبوغة بدراما ولغة وفلسفة شكسبيرية شديدة التميز والفردية.
ولكن يبقى هنا التساؤل الأهم: هل أخذ شكسبير من كل ثقافات عصره، ومن كل الدول المحيطة به قد جعله سببا لأن يظل حتى اليوم صالحا لكل العصور والفنون لاسيما فن السينما؟
هذا هو التساؤل الذي يُجيب عليه المؤلف من خلال كتابه. يذكر زكريا أن موقع IMDB وهو أكبر المواقع الإليكترونية المخصصة للأفلام يرصد حوالي 2000 من الأعمال السينمائية المأخوذة عن شكسبير، إلا أن الرقم قد يصل إلى عدة أضعاف؛ لأن هناك أفلام من جنسيات ولغات كثيرة غير مسجلة على هذا الموقع، ومنها معظم الأفلام المصرية مثلا. كما يذكر أنه قد قام ببحث عن كل الأفلام المصرية المنسوبة لشكسبير بين الأفلام المسجلة على الموقع فلم يجد معظمها ولم يجد اسم شكسبير مذكورا على المسجل منها.
معنى هذا العدد الضخم من الأفلام التي أخذت من نصوص شكسبير المسرحية أن الرجل كان هو الأوفر حظا في التاريخ الذي تحولت كتاباته إلى أعمال سينمائية حتى اليوم وما زالت القائمة تتنامى إلى ما لا نهاية فضلا عن الأعمال المسرحية، كما أن الأخذ عن أعمال المسرحي الإنجليزي لم يكن نقلا حرفيا فقط بل كان هناك العديد من الطرق والوسائل التي تم من خلالها نقل أعماله إلى السينما؛ فمنها الأفلام التي تكتفي "بالثيمة" فقط وتقوم بتعديلات واسعة على بقية النص، وهي كثيرة، ولعل أحدث مثال على ذلك فيلم "حرب النجوم.. انتقام السيث" الذي يرى البعض أنه اقتباس حر من "عطيل"، وهناك أيضا أفلام المرآة أو الانعكاس، التي تعرض النص الشكسبيري داخل نص الفيلم، وأحدث مثال على تلك النوعية هو فيلم "اللبيس" The Dresser إخراج ريتشارد آير 2015م الذي يلعب فيه أنطوني هوبكنز دور ممثل يؤدي مسرحية شكسبير وتتقاطع المسرحية مع حياته، كذلك هناك الأفلام الموسيقية والراقصة، ولعل أشهرها فيلم "قبليني يا كيت" المأخوذ عن "ترويض النمرة" إخراج جورج سيدني 1953م، أيضا توجد الأفلام الوثائقية وأفلام التحريك وحتى ما يُطلق عليه "الطفيلية" أي التي تقتبس جزءً أو شخصية أو جملا من أعمال شكسبير داخل فيلم لا يعتمد على قصة لشكسبير.
إذن فمن خلال هذه الاقتباسات المتعددة عن نصوص شكسبير يتضح لنا أن الرجل كان عابرا للقارات والثقافات حتى أن السينما لم تستطع التخلص من تأثيره عليها؛ ومن ثم اهتم صانعوها بأعماله حتى اليوم معتبرين أنه منجم لا ينفذ من الأفكار التي يمكن البناء عليها.
لكن يبقى التساؤل الأهم هنا الذي لم يُجب عليه المؤلف بعد: لم اهتمت السينما كل هذا الاهتمام بأعمال شكسبير من دون غيره؟
الناقد عصام زكريا
يؤكد المؤلف أن شكسبير لم يترك ثقافة من الثقافات من دون أن يأخذ منها وينسج عليها عملا مسرحيا أو شعريا، كما أنه عمل على تدوير هذه الثقافات داخله ليخرج منها بعمل فني، ولعل تفسيره الأهم في اهتمام السينما به يعود إلى أن شكسبير كان منتقدا لكل ثقافات عصره فيقول الكاتب: "في تعليقه على فيلم "ريتشارد الثالث" إخراج ريتشارد لونكرين 1996م كتب جاك كرول ناقد مجلة "نيوزويك": "إن الفيلم يذكرنا بأن شكسبير كان أوليفر ستون عصره" وهي ملاحظة ذكية فيما يتعلق بمسرحيات شكسبير التاريخية بالذات، فقد كتب شكسبير تاريخ ملوك انجلترا من أوائل القرن الثالث عشر حتى مولد إليزابيث الأولى في القرن السادس عشر في مسرحيات تدين هؤلاء الملوك وتصور جرائمهم، كما تفعل أفلام أوليفر ستون الحالية عن رؤساء أمريكا- باستثناء مسرحية واحدة هي "هنري الخامس؛ ففيلم "ريتشارد الثالث" مثلا جعل الأحداث تدور في بريطانيا الثلاثينيات من خلال ملك مشوه مريض نفسيا يستولي على السلطة بمساعدة الفاشيين، ويحتوي الفيلم على مشاهد عنف من أسوأ المشاهد التي ظهرت على الشاشة بالإضافة إلى السخرية اللاذعة وهما من صفات أعمال أوليفر ستون".
من هنا يتضح أن شكسبير المنتقد والمستوعب لكل ثقافات عصره، والمتأمل لهذه الثقافات قد جعله هذا الاهتمام محط أنظار سينما العالم بالكامل حتى أنه لم تكن هناك ثقافة واحدة على وجه الأرض لم تأخذ منها إلى السينما منذ بدايتها، حتى أن أول "شريط مصور" يحمل اسم شكسبير هو "الملك جون" الذي أُنتج عام 1899م في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أقل من خمس سنوات على اختراع السينما، وهو متاح مع عدة أفلام شكسبيرية صامتة أخري في "دي في دي" يحمل اسم "شكسبير صامتا" من إصدار معهد الفيلم البريطاني، وحتى وقت قريب كان يُعتقد أن أول فيلم عن شكسبير هو "هاملت" الذي ظهر في فرنسا عام 1900م الذي لعبت فيه الممثلة الشهيرة سارة برنار دور أمير الدنمارك الشاب .
يوضح المؤلف أن أعمال شكسبير في السينما قد مرت بمرحلة السينما الصامتة منذ صناعة السينما مرورا بالحرب العالمية الأولى وهي الفترة التي أُنتجت فيها الكثير من الأعمال المقتبسة عن أعماله وإن لم تلاق الكثير من الإقبال الجماهيري بسبب تقيد الممثلين في هذه الفترة بالأداء المسرحي الذي لا يتناسب كثيرا مع الكاميرا والتصوير السينمائي، أو الوسيط السينمائي. ولكن مع بداية السينما الناطقة بدأ الأمر يختلف تماما، ويُذكر أن أول فيلم ناطق عن أعمال شكسبير هو "ترويض النمرة" إخراج سام تيلور 1929م من بطولة اثنين من أكبر نجوم السينما الأمريكية وقتها، وهما ماري بيكفورد، وزوجها دوجلاس فيربانكس، كما أن "ترويض النمرة" هو أكثر أعمال شكسبير شعبية، وأنها الورقة الرابحة دائما في سينما شكسبير بداية من فيلم المخرج ديفيد وارك جريفيث الصامت 1908م الذي لعبت بطولته فلورانس لورانس، وهو أنجح عمل سينمائي قُدم عن شكسبير طوال فترة السينما الصامتة، وحتى فيلم "10 أشياء أكرهها فيك" إخراج جيل جونجار 2000م الذي لعبت بطولته جوليا ستايلس والراحل هيث ليدجر، وهو معالجة عصرية "لترويض النمرة" حققت نجاحا جماهيريا كبيرا.
رغم هذا الاهتمام من السينما عما كتبه وليم شكسبير من أعمال مسرحية يقول المؤلف: "مع ذلك يجب الأخذ في الاعتبار أن أفلام شكسبير، مثل بقية الكلاسيكيات الجادة، لم يكن لها جمهور كبير في سوق السينما الوليد، الذي طغت عليه الأفلام الكوميدية والأكشن والويسترن وغيرها من الأنواع الفنية التجارية؛ حتى أنه عندما أعلنت شركة "إخوان وارنر" عام 1935م عن نيتها لإنتاج سلسلة أفلام عن أعمال شكسبير بدأتها بالفعل بفيلم "حلم منتصف ليلة صيف" إخراج ماكس راينهارد اضطرت إلى التراجع عن مشروعها بعد الفشل الذريع الذي تعرض له الفيلم، كما شهدت الثلاثينيات والأربعينيات إنتاج بعض الأعمال الكبيرة مثل "روميو وجولييت" إخراج جورج كوكور في أمريكا 1936م الذي سجل باعتباره أضخم إنتاج لفيلم شكسبيري حتى ذلك الوقت، و"كما تحب" إخراج بول زينر في بريطانيا، الذي شارك في بطولته لورانس أوليفييه، ولكن لم يحقق أي منها الأمل المنشود في شباك التذاكر".
لكن هل معنى هذا الإعراض الجماهيري عن أعمال شكسبير السينمائية انصراف صناع السينما عن أعماله؟
لم ينصرف صناع السينما عن النهل مما كتبه شكسبير بل زادت الأفلام السينمائية المأخوذة عنه زيادة كبيرة كلما تقدم الزمن، ويفسر الكتاب ذلك بقول المؤلف: "في عام 1997م نشرت مجلة "تايم" تحقيقا مطولا وأفردت عنوان غلافها الرئيسي للحديث عن الازدهار المفاجئ الذي تشهده أعمال شكسبير في السينما وذلك بمناسبة ظهور فيلم "روميو+ جوليت" للمخرج باز لورمان الذي لعب بطولته النجم الشاب وقتها ليوناردو دي كابريو، وهي نفس الفترة التي شهدت إطلاق أفلام أخرى عن شكسبير مثل "هاملت" إخراج وتمثيل كينيث براناه، و"ريتشارد الثالث" إخراج ريتشارد لونكرين، و"عطيل" إخراج أوليفر باركر، و"ماكبث" في نسخة اسكتلندية من بطولة جيسون ابن الممثل شون كونري، و"الليلة الثانية عشرة" في نسخة بريطانية جديدة وغيرها من الأفلام".
بوستر فيلم ريتشارد الثالث
هنا يفسر المؤلف هذا الاهتمام المتزايد بقوله: "إن الاهتمام بأعمال شكسبير كان دائما جزءً من اهتمام الممثلين والمخرجين خاصة الذين تلقوا تدريباتهم في المسرح، ولكن سمعة الأفلام المأخوذة عن أعماله لم تكن أبدا جيدة في مكاتب المنتجين والموزعين، لذلك كان غريبا هذا الاهتمام المفاجئ بشكسبير من قبل المنتجين في هوليوود التي لا تعرف سوى لغة المال. الذي حدث هو أن القائمين على الاستديوهات الكبرى لاحظوا أن بعض الأفلام المأخوذة عن شكسبير حققت إيرادات كبيرة رغم أنها أفلام مستقلة صغيرة الإنتاج نسبيا مقارنة بأفلام المؤثرات الخاصة والمعارك الكونية والوحوش المدمرة التي تتكلف عشرات الملايين من الدولارات، ورغم خلو هذه الأفلام من أسماء نجوم العشرين مليون دولار فما فوق. واكتشفت هوليوود أنها يمكن أن تصنع فيلما ممتازا عن شكسبير لا يكلفها سوى أجر نجم واحد. "روميو+ جوليت" مثلا تكلف 20 مليون دولار فقط، وهي لا تساوي أجر نجم واحد أو تكلفة بضع دقائق من المؤثرات الخاصة في فيلم عن غزو الفضائيين للأرض، وقد تكلف فيلم "تيتانك" مثلا أكثر من 150 مليون دولار منها حوالي 20 مليونا ذهبت لشركات المؤثرات. المال إذن يمكن أن يفسر سبب إقدام هوليوود وترحيبها بأعمال شكسبير خاصة أنها تضمن اسما معروفا لن يطالب بحقوقه كمؤلف. ولكن المال لا يُفسر سر إقبال الجمهور المتزايد والمدهش على مشاهدة أعمال شكسبير".
لكن في تفسير لهذا الإقبال الجماهيري يقول: "في تعليقه على فيلم "روميو+ جوليت" إخراج باز لورمان كتب ناقد أن: "باز يحاول أن يقنعنا بأن شكسبير كان سكورسيزي عصره"، والمخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي كما هو معروف يعتمد في أسلوبه على تحويل "التجاري" و"الجماهيري" إلى عمل فني جمالي يتحول فيه رجال العصابات إلى أساطير دينية ويعبر فيه العنف عن أفكار فلسفية، وهو يميل إلى معالجة الموضوعات الشعبية وعالم الجريمة والمافيا في قالب فني محكم وصياغة إنسانية عميقة، وهو نفس الأسلوب الذي اعتمده شكسبير في تحويل الحكايات الشعبية الرائجة في عصره إلى أعمال قوية الدراما، محكمة البناء الفني، مركبة من مستويات وطبقات مفعمة بالدلالات والإيحاءات والتعبيرات المزدوجة".
رغم هذا الإقبال من السينما العالمية على أعمال شكسبير إلا أن السينما المصرية لم تهتم كثيرا بأعماله في السينما ولم توفه حقه، وهذا ما ذهب إليه المؤلف مؤكدا عليه بقوله: "يمكن القول أن السينما المصرية لم تف أفلام شكسبير حقها من الاقتباس والمعالجة، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا التاريخ الطويل والعريض للسينما المصرية الذي يزيد عن مئة عام وأربعة آلاف فيلم، وميل هذه السينما الواضح للاقتباس المباشر وغير المباشر للأعمال الأجنبية"، لكنه أكد أن أعمال شكسبير كانت جلية وواضحة في كل ما قدمه المخرج "يوسف شاهين" من أفلام سينمائية حيث كان متأثرا كثيرا بهاملت في معظم أعماله.
كتاب "شكسبير والسينما" من الكتب المهمة التي تُبحر في في عالم السينما الشكسبيرية وتوضح أثرها في تاريخ السينما العالمية وأهميته من خلال دراسة عميقة على المستويين السينمائي والأدبي فضلا عن مستوى التحليل النفسي.



محمود الغيطاني
 مجلة عالم الكتاب
عدد مايو 2018م

الأحد، 15 يوليو 2018

من العدم.. العدالة ليست حكرا على السماء

ثمة تساؤل مهم يثيره الفيلم الألماني Aus dem Nichts " من العدم" تبعا لعنوان الفيلم الأصلي، الذي تختلف ترجمته إذا ما نظرنا إلى عنوانه في الإنجليزية In The Fade "في التلاشي"، وإن كان إيحاء المعنى الذي يعطيه العنوان الألماني أكثر ارتباطا بمفهوم الفيلم من العنوان الإنجليزي.
نقول: إن ثمة تساؤلا لا بد من فرضه على ذهن المشاهد طوال أحداث الفيلم الذي أخرجه وكتب له السيناريو وأنتجه المخرج التركي الأصل، الألماني الجنسية Fatih Akin فاتح أكين وهو ماذا لو انتفت العدالة على الأرض رغم تأكد الجميع من الحقيقة، لكن القوانين التي يمكن التلاعب بها تقف دائما مكتوفة الأيدي غير قادرة على اتخاذ قرار العدل؟ هل يتحول تحقيق العدل في هذه اللحظة بشكل فردي من قبل من وقع عليهم الظلم/الضحايا بمثابة الخروج على القانون وإشاعة الفوضى في المجتمع؟ أم هو في جوهره مجرد فعل يُعيد الحق لأصحابه بعدما عجزت القوانين عن فعل ذلك؟
ربما يتفق معظمنا على أن تحقيق العدل لا يمكن أن يكون من خلال فعل فردي، وأن المجتمع تحكمه مجموعة من القوانين التي تواضع عليها المجموع الجمعي؛ لتنظيم الحياة فيه؛ ومن ثم يصبح تحرك فرد بعينه من أجل تحقيق العدالة خارج إطار هذه القوانين من قبيل إشاعة الفوضى حتى لو كان ما يفعله هو الحق، لكنه يظل خارج إطار المجتمع وقانونه؛ وبالتالي يتحول هذا الشخص الذي نجح في تحقيق العدالة إلى مجرد خارج على القانون، ومرفوض اجتماعيا رغم أنه لم يفعل سوى إقرار ما يجب أن يكون، وما عجز القانون عن تحقيقه.
حول هذه الإشكالية يدور الفيلم الألماني "من العدم" للمخرج فاتح أكين، وهو الفيلم الذي قسمه إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء منه بعنوان؛ ليمنح المشاهد الفرصة للمزيد من التأمل والتفكير؛ كي يكون مقتنعا ومتعاطفا، وينجح في استمالته، بل ومشاركا لبطلة الفيلم فيما تذهب إليه في نهاية الفيلم من فعل الانتقام وإقرار العدالة التي عجز القانون عن إقرارها.
في الجزء الأول من الفيلم الذي كان بعنوان "العائلة" Die Familie يستعرض أكين زواج "كاتيا" Diane Kruger الألمانية الأصل من "نوري" Numan Acar الكردي الأصل الذي يعيش في ألمانيا ومسجون لمدة أربع سنوات؛ بسبب إتجاره في المخدرات وضبطه بخمسين كيلوجرام من الحشيش، ونعرف فيما بعد أن كاتيا تعرفت عليه حينما كانت في الجامعة حيث كانت تشتري منه المخدرات، ثم تزوجته وهو يقضي فترة عقوبته؛ ليقفز بنا الفيلم بعد ست سنوات من هذا الزواج وتكوين أسرة سعيدة بعدما خرج نوري من السجن وبدأ فترة تأهيله الاجتماعية حيث درس التجارة في السجن وخرج ليعمل في التجارة والترجمة بعيدا عن حياته الإجرامية السابقة، وقد رزقا بطفل صغير عمره ست سنوات هو "روكو".
بوستر الفيلم
حرص المخرج على استعراض حياة الزوجين في القسم الأول من الفيلم ليتعاطف معهما المشاهد؛ لا سيما أن ما سيأتي من أحداث فيما بعد تعتمد اعتمادا كليا على هذا الجزء من الفيلم؛ فالزوجين يعيشان حياة سعيدة مستقرة، كما أن الزوج ترك تماما حياة الإجرام السابقة، ومن ثم نرى كاتيا تذهب إلى نوري في مكتبه في الحي التركي لتترك معه ابنهما روكو لحين الذهاب إلى أحد المنتجعات مع صديقتها الحامل، وتخبره أنها ستأخذ سيارته، ثم تعود إليهما في نهاية اليوم لنقلهما إلى المنزل، وحينما تخرج من مكتب الزوج تلاحظ إحدى الفتيات وقد تركت دراجتها الجديدة أمام المكتب من دون أن تربطها؛ فتطلب منها كاتيا ربطها حتى لا يسرقها أحدهم، إلا أن الفتاة تخبرها أنها سرعان ما ستعود إليها، لكنها حينما تعود في نهاية اليوم تمنعها الشرطة من المرور؛ لأن ثمة انفجار قد وقع في المنطقة؛ فتترك سيارتها وتسرع لرؤية ابنها وزوجها، لكن الشرطة تخبرها أنهما كانا من ضحايا الانفجار وأن القنبلة كانت أمام المكتب مباشرة ولم يبق منهما سوى مجرد أشلاء.
تفقد كاتيا الزوج والابن معا وتعيش مأساة حقيقية نجحت الممثلة ديان كروجر في التعبير عنها من خلال دورها بشكل مذهل تستحق عليه الكثير من الجوائز، وهو ما جعلها تحصل على جائزة أحسن تمثيل في مهرجان "كان". ولعل المشهد الذي تُخاطبها فيه أمها حينما تقول لها: "لقد كان متورطا في شيء ما" كان من المشاهد المهمة التي نرى فيه الزوجة الجريحة المتألمة وقد تحولت كل مشاعرها وقسمات وجهها لتعبر عن الغضب الشديد فجأة لترد على أمها: "مثل ماذا يا أمي؟ فتقول: عليك معرفة ذلك، ربما كان يخفي عنك شيئا". هنا ترد كاتيا بكل صرامة وغضب في تحول حقيقي بمشاعرها يليق بالحديث: لا تقولي هذا الكلام مُجددا عن زوجي.
هذه القدرة التمثيلية من قبل الممثلة ديان كروجر كانت من أهم عناصر الفيلم اللافتة للنظر، لا سيما وأن الممثلة تكاد تكون في كل مشهد من مشاهده، أي أن الفيلم يعتمد على أدائها اعتمادا كليا، وهو ما استطاعت التعبير عنه بنجاح ومقدرة قلّ أن نلاحظها لدى غيرها من الممثلات، ولعل القدرة التمثيلية والأداء الحركي لكروجر كانا من أهم عناصر الفيلم، والميل بالمشاهد عاطفيا تجاهها؛ الأمر الذي يجعل المشاهد متورطا معها في نهاية الأمر موافقا على ما ذهبت إليه من فعل الانتقام رغم رفضه للفعل في حد ذاته.
تذهب كاتيا إلى "دانيلو" Denis Moschitto محاميها وصديق زوجها بعد أن زرعت أمها الشك داخلها، وتسأله عن تورط نوري في أي شيء بعد خروجه من السجن؛ ليؤكد لها أن زوجها قد ترك كل شيء من أجل حياته معها هي والطفل، وأنه ما كان له أن يعرضهما لأي شكل من أشكال الخطر، فتخبره بأنها تشك في النازيين الجدد وأنهم من كانوا وراء هذا الانفجار، وتخبره عن الفتاة التي تركت دراجتها أمام مكتب زوجها، فيطلب منها إخبار الشرطة عن ذلك. هنا تطلب منه أي مخدرات لتهدئتها فيعطيها كيسا قد أهداه له أحد العملاء وكان سيتخلص منه.
تحاول كاتيا أن تهدئ نفسها بتناول المخدرات إلا أن المحقق الأكبر في القضية يذهب إلى منزلها ومعه إذن تفتيش له بحثا عن أي شيء يمكن أن يُفيده في القضية لا سيما وأن الشرطة لديها العديد من الشكوك في أن يكون الألبان هم من قاموا بالتفجير، أو أحد المسلمين، أو أحد تجار المخدرات ممن كان زوجها على علاقة بهم، لكنهم يعثرون على المخدرات التي أخذتها من "دانيلو" وحينما يسألها كبير المحققين عنها تخبره أنها تخصها. ولأنها كمية صغيرة فالأمر لم يكن في حاجة إلى المحاكمة وإن كان قد تم إثباته في معلومات القضية.
في الجزء الثاني من الفيلم الذي كان بعنوان العدالة Gerechtigkeit وهو الجزء الأطول من الفيلم تنتاب المشاهد أكثر من مرة السعادة لقرب تحقق العدالة؛ فكل الأدلة والشواهد تؤكد أن الفتاة التي كانت قد تركت دراجتها والتي أرشدت عنها كاتيا متورطة تماما هي وزوجها في التفجير، بل إنهما سبق أن تمت إدانتهما من قبل في قضية تفجير سابقة، وأنهما لهما نشاطا معاديا بالفعل لغير الألمان، وهذا ما أكده والد المتهم الذي شهد على ابنه وقال: إن ابنه يقدس أدولف هتلر، وأنه قد رأى بنفسه في جراج السيارة أدوات التفجير والمواد التي تم تصنيع القنبلة منها؛ الأمر الذي جعله يذهب إلى الشرطة للإبلاغ عن ابنه ومنعه من الجريمة لكنها لم تلحقه.
كما أن محامي كاتيا "دانيلو" قدم الكثير من الدلائل على تورط الزوجين في الانفجار كذلك، لكن محامي المتهمين كان دائما ما يلجأ إلى التشكيك في كل الدلائل منها أن مفتاح الجراج كان يتم تركه تحت حجر خارج الجراج وهذا قد يجعل شخص ثالث يدخل إلى الجراج إذا ما كان يعرف مكانه، ومنها أن الشرطة قد وجدت مخدرات تخص كاتيا في بيتها وهذا دليل على التشكيك في أهليتها للشهادة، ومنها وجود بصمة لا يعرف أحد صاحبها، فضلا عن الشاهد اليوناني الذي ينتمي إلى أحد الأحزاب النازية الجديدة الذي حاول تضليل المحكمة بإثبات أن المتهمة كانت في اليونان وقت الانفجار.
كل هذه التشكيكات أدت إلى التلاعب بالمحكمة، ولعل النقلات والقطع الذي قام به المخرج فاتح أكين على وجه الممثلة ديان كروجر أثناء المحاكمة كانت من المشاهد المهمة في الفيلم والتي لا يمكن تجاهلها؛ حيث النقلات على وجهها وتعبيرات وجهها حينما ترى القاتلة في المحكمة لأول مرة، وعدم قدرتها على الثبات في كرسيها ومحاولة التمسك بمكانها وعدم الهجوم على القاتلة كانت من المشاهد التي لا يمكن للمشاهد تجاهلها أو عدم التأثر بها؛ الأمر الذي يجعلنا كمشاهدين في حالة تقمص حقيقي وتعاطف مع مشاعرها.
يتضافر مع هذه المشاهد مشهد دخول القاضي والمحلفين إلى قاعة المحاكمة للنطق بالحكم؛ حيث جاء مشهد دخول القاضي Slow Motion بالحركة البطيئة بينما كان المخرج ينقل على الحضور في القاعة بالحركة الطبيعية، ثم لا يلبث العودة بالحركة البطيئة على القاضي ومحلفينه ليجعلنا كمشاهدين في حالة انتظار لاهثة؛ لينطق في النهاية بالحكم الكارثي بتبرئة كلا المتهمين، بل والتأكيد على أن الدولة ستقوم بتغطية تكاليف المحاكمة والنفقات ذات الصلة، وسيتم تعويض المتهمين عن الوقت الذي قضياه في الاحتجاز.
يقول القاضي: تبرئة اليوم لا تستند على إيمان المحكمة أن المتهمين أبرياء، لكن الأدلة المُقدمة تترك مكانا معقولا بشأن اتهامهما استنادا إلى مبدأ "الشك في صالح المتهم"، وهذا الشك يلزم بتبرئتهم!!
أظن أن المفاجأة المدهشة بسبب الحكم لم تكن من نصيب الزوجة ومحاميها فقط، بل كانت من نصيبنا نحن أيضا كمشاهدين؛ نظرا لأن المخرج نجح فعليا في تقديم محاكمة رصينة وقوية تُدين المتهمين وتؤكد على هذه الإدانة، لكن الحكم الذي لم يكن منتظرا من أحد جاء كالكارثة على الجميع؛ لذا تُصرّ كاتيا على إثبات إدانتهما بطريقتها الخاصة، ولعل قولها للمحامي: أتخيل لو كان قد حدث ذلك لي ولروكو ونجا نوري، لم يكن ليتوقف من أجل هذه الدردشات السخيفة التي تقصد بها جلسات المحكمة، بل سينتقم مباشرة ممن قاموا بهذه الجريمة؛ لذلك هي حريصة ومصممة على الانتقام لزوجها وابنها.
في الجزء الثالث من الفيلم "البحر" Das Meer تعرف كاتيا أن المتهمين قد ذهبا إلى اليونان في عطلة مجانية على حساب الدولة كتعويض لهما بسبب احتجازهما في فترة المحاكمة، وهنا تُقرر تتبعهما إلى اليونان لتحقيق العدالة التي عجزت المحكمة عن تحقيقها، وأقرت في الحكم الذي نطقت به أنها غير مقتنعة ببرائتهما رغم حكم البراءة.
تحاول كاتيا الوصول إلى الفندق الذي يعمل فيه الشاهد اليوناني، لكنه يحاول قتلها فتهرب منه، وأثناء توقفها لشراء علبة من السجائر ترى سيارته فتتبعه حيث يذهب إلى مكان منزوي في غابة على البحر ليحذر المتهمين اللذين يقيمان في "كارفان" متحرك على الشط، ويؤكد الزوج المتهم لزوجته: لو أتت هذه العاهرة التركية إلى هنا لحطمت جمجمتها ووضعتها مع زوجها وابنها، في تأكيد منه على عنصريته ورؤيته لكاتيا الألمانية الأصل باعتبارها تركية ما دامت قد تزوجت من تركي.
تعود كاتيا إلى المنزل الذي استأجرته في اليونان، وتبدأ في التحضير لصناعة قنبلة مسمارية مثل القنبلة التي انفجرت في زوجها وابنها، وحينما تنتهي منها تذهب إلى البحر حيث يقطن المجرمان وبمجرد خروجهما من "الكارفان" لممارسة رياضة الجري على الشط تضع القنبلة أسفل "الكارفان" وتنتظر عودتهما لتفجيرها، لكنها بعد فترة زمنية، وبعد رؤيتها لعصفور يقف على مرآة "الكارفان" تتراجع عما تنتويه وتأخذ القنبلة مرة أخرى وتذهب.
ربما كان سبب تراجع كاتيا عن تفجير المتهمين والانتقام منهما يعود إلى أنها لم تأتها دورتها الشهرية منذ موت الزوج والابن؛ مما يعني أن ثمة أمل في أن تكون حاملا من الزوج الذي مات، لاسيما وأنها أخبرت صديقتها أن الدورة لم تأتها منذ الحادث، لكن بعدما تراجعت عن فعل الانتقام وجلست أمام البحر متأملة نراها تمد يدها بين فخذيها لتخرج بالدم؛ مما يعني أن الدورة قد عاودتها. هنا ينتفي أي أمل في حياتها تماما، فإذا كان الأمل هو الذي جعلها تتراجع عن الانتقام؛ فإن انتفائه الآن يجعلها غير راغبة في الحياة بعد الزوج والابن لاسيما أنها حاولت في لحظة ضعف أن تنتحر بقطع شرايين رسغيها بعد موتهما.
تعود كاتيا مرة أخرى حيث يقطن الزوجان على البحر وتنتظرهما لحين عودتهما من رياضة الجري اليومية، وحينما يصعدان إلى "الكرفان" تضع الحقيبة التي بداخلها القنبلة على صدرها وتمسك المفجر في يدها، وتفتح باب "الكرفان" لتفتحه وتدخل إليه مع المجرمين، ثم ينفجر الكرفان بثلاثتهم لينتهي الفيلم بلقطة علوية على الكرفان المشتعل الذي يحرق الشجرة التي تعلوه.
نجح المخرج فاتح أكين كسيناريست ومخرج في تقديم فيلم مبني بناء قويا من خلال السيناريو الذي قسمه بشكل متماسك لو سقط منه جزء أو اختلف ترتيبه لما استطاع اكتساب المشاهد معه، كما أن الفيلم كان تعاطفا مع الاضطهاد الذي يواجهه غير الألمان في ألمانيا من قبل النازيين الجدد؛ حيث كتب بعد اتهاء الفيلم: بين عامي 2000، و2007م في ألمانيا قام "التجمع الاشتراكي القومي السري" باغتيال تسعة أشخاص من أصول مهاجرة وشرطية، وقاموا بالعديد من التفجيرات، وقد كان الدافع الوحيد وراء هجماتهم أن ضحاياهم من أصول غير ألمانية.
إذا كان الفيلم الألماني "من العدم" قد وجد الحل في الانتقام الفردي وتحقيق العدالة، وهو الأمر الذي يتنافى مع أخلاقيات المجتمع ويحوله إلى فوضى كما يرى الكثيرون؛ لأن أحداث الفيلم تعني في نهاية الأمر أن الدولة فاشلة وغير قادرة على تحقيق العدالة؛ ومن ثم فليس من طريق آخر سوى الحل الفردي الذي يراه المجتمع مجرد فوضى، إلا أن بناء السيناريو الذي كتبه فاتح أكين، والأداء الشديد الاتقان من الممثلة ديان كروجر كانا عنصرين مهمين في تعاطف المشاهد وجعله مشاركا في الجريمة سعيدا بها حتى وإن كان يرفضها اجتماعيا وأخلاقيا، وأظن أن المشاهد الذي نجح الفيلم في اكتسابه إلى جانب البطلة ما كان له أن يرضى بغير هذه النهاية لتحقيق العدالة التي عجز القانون عن تحقيقها.


محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد يوليو 2018م