الخميس، 28 أبريل 2022

بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات.. التأمل السياسي والثرثرة الروائية

من الأمور التي لا يمكن إنكارها أن الروائي لا بد له أن يكون على صلة وثيقة بما يدور في مجتمعه من تغيرات وأحداث كثيرة تحيطه كعضو في هذا المجتمع؛ حيث أن الروائي المنفصل عما يدور حوله من أحداث سيكون بالضرورة غير قادر على التعبير عن هذا المجتمع في شكل روائي؛ ومن ثم سيلاقي قصورا كبيرا فيما يقدمه من فن؛ حيث الرواية هي فن التعبير عن المجتمعات التي ينطلق منها كتابها. ولكن ليس معنى هذا الانخراط فيما يدور حول الكاتب أن يتحول من سارد روائي أو قصصي إلى مجرد مؤرخ للأحداث التي يعيشها أو تدور حوله؛ لأنه في هذه الحالة سيتحول إلى مؤرخ أو راصد أو مجرد ناقد لما يدور؛ ومن ثم يفسد السرد الروائي، أو على الأقل تذوى روح النص الروائي التي تُمثل حجر الأساس في أي نص إبداعي، وهي الروح التي يصبح النص الإبداعي شديد الجفاف من دونها، فيه من الرتابة والإملال ما لا يتماشى أو يتسق مع النصوص الإبداعية التي لا يمكن إنكار أنها نصوص للمتعة في نهاية الأمر مهما حملت داخلها القليل أو الكثير من المعرفة.

هذه الروح التي نتحدث عنها هي ما يمكن أن نُطلق عليها الحياة داخل النص الروائي، التي تحمل داخلها عفويتها وعدم القصدية، أو التفلسف، أو صف الأحداث وتراكمها كما حدثت تماما في الواقع وإلا تحول النص الروائي إلى نص تأريخي لا متعة فيه، وهو ما يخرجه من دائرة الرواية إلى دائرة التأريخ بروح روائية.

لعل هذه الروح التي تميز السرد الروائي دائما هو ما تفتقده النصوص الإبداعية كلما كان الكاتب موغلا في التجريب راغبا أن يأتي بأشكال جديدة ومختلفة عما عهده القارئ- صحيح أن التجريب ميزة مهمة من ميزات الكتابة، ولكن الإيغال فيه والإصرار على الغرابة يُفقد النصوص في نهاية الأمر روحها؛ ومن ثم تصبح شديدة الجفاف، بعيدة عن التشويق الذي يحتاجه النص الإبداعي دائما-.

كما أن إغراق الكاتب في التفاصيل التي تدور من حوله في مجتمعه لا سيما التفاصيل والأحداث السياسية من الأمور التي تُفسد النص الروائي تماما وتُحوله إلى مجال النقد السياسي، وكأنما الكاتب يكتب مجموعة من الآراء أو المقالات التي تتعاطى الأحداث التاريخية فقط، وهو ما يُبعد النص الروائي عن قيمته السردية الحكائية- حيث الرواية أو القصة مجرد حكاية في نهاية الأمر- إلى مجرد سرد يعمل على التأريخ ومناقشة السياسة. لذلك فإن دخول السياسة والحديث عنها إلى متن النص الروائي لا بد أن يكون بشكل فيه الكثير من الحذر من قبل الروائي وإلا أفسدت السياسة المتن السردي، وهذا ما رأيناه من قبل في الكثير من الروايات لروائيين يفهمون جيدا كيفية السرد الروائي، إلا أن انخراطهم في تناول الأحداث السياسية داخل نصوصهم أدى إلى إفسادها في نهاية الأمر وإفقادها قدر كبير من السردية والمتعة مثل رواية "الحب في المنفى" للروائي بهاء طاهر على سبيل المثال.

هذه الرغبة في كسر الشكل/ التجريب، ومناقشة العديد من الأمور السياسية وتأملها بروية، بل والتعليق عليها- وهي ليست من مجال الكتابة الروائية- هو ما رأيناه بشكل نموذجي في رواية "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات" للروائي المغربي محمد برادة؛ حيث يحرص برادة بدأب على متابعة الأحداث والتقلبات السياسية التي حدثت في تاريخ المغرب الحديث منذ فترة الحماية الفرنسية حتى انتهائها وما حدث بعدها حتى قيام ثورات الربيع العربي متناولا أحداث نصف قرن من التحولات والتغيرات السياسية وما دار فيها من سطوة المخزن، الممثل للملك وحاشيته، على الحياة السياسية، وتحولات الأحزاب من رغبة حقيقية في التغيير إلى مجرد الخضوع ومهادنة المخزن، والحديث عن حكومات التكنوقراط، وسقوط المعنى اليوتوبي لليسار المغربي، ونهب ثروات المغرب، وظهور التيارات الدينية المتشددة، وبطالة الشباب وغير ذلك من الأحداث التي دارت فيما يُسمى بأزمنة الرصاص، وكأنما أراد الروائي أن يجمع كل الأحداث السياسية في المغرب بين دفتي كتاب واحد محاولا مناقشتها، ثم أطلق على هذا الكتابة توصيف "رواية" في نهاية الأمر.

تبدأ الرواية على لسان "الراجي"/ مساعد المؤرخ وهو شاب تخرج في كليته وقد درس التاريخ لكنه لم يجد أي مجال للعمل وظل معتمدا على ما تعطيه له أمه من مال قليل، ونعرف فيما بعد أنه قد ارتبط بعلاقة جنسية مع رقية، إحدى قريباته، التي ترملت، والتي تخبره ذات يوم أن صديقتها زوجة المؤرخ الأستاذ الرحماني قد سألتها عن متخرج في قسم التاريخ كي يعمل مساعدا لزوجها في كتاب تاريخي يعده عن التاريخ السياسي الحديث للمغرب منذ انتهاء الحماية الفرنسية حتى الوقت الآني مقابل 2000 درهم في الشهر، وبما أنه ليس أمامه ما يفعله، وبما أنه سيعمل مع الأستاذ الرحماني ذائع الصيت؛ فهو يوافق على ذلك، ويطلب منه المؤرخ أن يجمع آراء كل من عاصروا هذه الفترة منذ انتهاء الحماية الفرنسية حتى اليوم في جميع أرجاء المغرب؛ ولأن الأستاذ الرحماني قد تقدم به العمر؛ الأمر الذي يجعله غير قادر على هذا العمل؛ فقد أوكل الأمر للراجي كي يقوم به بالنيابة عنه. بالفعل يبدأ الراجي بجمع المعلومات والآراء للكثيرين في أنحاء المغرب، لكنه يجد من ضمن الآراء والحكايات التي جمعها ما يصلح أن يكون قصصا روائية يجمعها في رواية واحدة؛ ومن ثم يخبرنا من خلال سرده أنه سيقدم لنا رواية لثلاث من الشخصيات التي رأى أن حكاياتها مهمة وتصلح للسرد الروائي.

يبدو من هذا الفصل، وهو الفصل الذي جاء على لسان الراجي في 32 صفحة قبل البدء في سرد روايته المزعومة أن الروائي لديه رغبة متعمدة وقصدية في كسر الشكل، وإضافة التخييل على التخييل، أي أنه جعل من هذا السرد الذي جاء على لسان الراجي مجرد إطار أساس يحيط الرواية التي هو بصدد سردها علينا، كما أنه يرغب في إضافة شكل من التخييل/ الرواية المزعومة على التخييل داخل الرواية الأساس/ حكاية الراجي، وهو شكل أيضا من أشكال التجديد في البناء الروائي، ونحن لا يمكن لنا إنكار حق أي كاتب في التجريب وكسر الأشكال النمطية للسرد، ولكن المهم أن ينجح الروائي فيما يذهب إليه ويكون قادرا من خلال السرد على إقناع القارئ بهذه المقدرة، وهذا الشكل الجديد الذي ابتدعه، أي أن الأمر لا يجب أن يكون مجرد رغبة في التجديد فقط من دون القدرة على فعل ذلك؛ فيحيل النص الروائي إلى شكل مهترئ لا علاقة له بالرواية بقدر ما له علاقة بالثرثرة والرصد للأحداث السياسية والتعليق عليها، وتحويل النص إلى ساحة أشبه بالمعامل المخبرية لتجربة العديد من الأشكال السردية.

لكن هل نجح الروائي في إتقان هذا الشكل؛ بحيث يقنع القارئ بشكل جديد رغب أن يقدمه له؟

إن محاولة الروائي في أن يجعل لروايته إطارا خارجيا يجمعها من خلال الراجي؛ ومن ثم السرد على لسانه قبل بداية الرواية، ثم دخوله كسارد مشارك داخل فصولها، بل والتعليق على أحداثها أفقد السرد الروائي الكثير من انسيابيته بالتدخل غير مرة والتعليق من الخارج، كما بدا هذا الفصل التمهيدي/ الإطار مُقحما تماما على السرد الروائي؛ الأمر الذي أثقل كاهله ووبدا لنا زائدا؛ مما أدى إلى الكثير من الترهل، أي أن محاولة التجديد لم تُفد النص الروائي بقدر ما سلبته الكثير من فنيته وسلاسته؛ لذلك بدا لنا الفصل الأول بأكمله، وهو الفصل الذي يتحدث فيه مساعد المؤرخ- كما أطلق عليه الروائي- مجرد عبء ثقيل الوطأة على النص، ولا قيمة له، ولا يفيد الرواية في أي شيء اللهم إلا المزيد ن الترهل؛ حيث ظن الكاتب أنه من خلال هذا الفصل يستطيع التمهيد للرواية في شكل روائي جديد، لكنه في الحقيقة كتبه لرغبته في شرح روايته مُقدما، وهذا ما لا يمكن في السرد الروائي، أي أننا لا يمكن لنا أن نعمل على شرح العمل الروائي الذي نكتبه ونفسره؛ كي يفهمه القارئ، ومن ثم لا يمكن كذلك كتابة مقدمات للأعمال الإبداعية، وإلا كان الأمر لا يخرج من إطار أن الروائي يظن الغباء في قارئه، أو أنه عاجز عن إيصال ما يكتبه من إبداع بشكل مباشر للقارئ؛ وبالتالي يحتاج إلى الشرح والإيضاح وكأن النص لا يستطيع التعبير عن نفسه بنفسه- وهذا من دلائل الفشل السردي-.

إن المتأمل لرواية برادة سيتأكد له أن هذا الفصل برمته لا علاقة له بالعمل الروائي؛ لذلك بدا لنا منفصلا انفصالا تاما عن السرد خلافا لما كان مأمولا له؛ حيث نرى الرواية فيما بعد عبارة عن ثلاث شخصيات روائية تتحدث كل منها من خلال الضمير الأول/ المتكلم وتحكي حكايتها. قد يقول البعض: إن الفصل الأول كان لا بد منه؛ حيث هو الرابط بين هذه الشخصيات وإلا بدت الشخصيات وحكاياتها عبارة عن مجموعة من الجزر المنعزلة. ولكن هذا الكلام لا يمكن له أن يكون صحيحا أو ينطبق على هذا العمل الروائي؛ نظرا لأنه سيتضح لنا مع التقدم في قراءة النص أن الشخصيات الثلاث ترتبط ببعضها البعض، وتتقاطع حيواتهم مع بعضهم البعض، أي أن الكاتب لم يكن في حاجة ماسة بالفعل إلى رابط خارجي يتمثل في مساعد المؤرخ كي يكتب لنا هذا الفصل الإطار الذي بدا ركيكا وجافا، وبعيدا عن آليات الكتابة الروائية؛ حيث نقرأ في هذا الفصل مثلا: "انتهيت إلى أن مقصده من مشروعه هو الوصول إلى معرفة العوامل التي جعلت فترة مقاومة الاستعمار، أفضل من حاضر الاستقلال: هل هي نوعية المناضلين ومعدن القيادة؟ أم هي الأهداف التي كانت تتخايل للشعب من وراء إنهاء الحماية الفرنسية؟ وفي ثنايا هذه التساؤلات، لمستُ لديه حرصا على استكشاف طريقة لاسترجاع حماس يشبه ذاك الذي رافق الكفاح الوطني". من خلال هذ الاقتباس نلاحظ أن الروائي يلخص لنا- على لسان مساعد المؤرخ- الهدف من روايته، وهو ما سيتبين لنا بالفعل مع الإيغال في القراءة، أي أن الروائي لم يُقدم على كتابة هذه الرواية إلا لمجرد مجموعة من التساؤلات والتأملات التي تدور داخله كلما ألقى نظرة على تاريخ المغرب الحديث؛ ومن ثم قرر أن يصوغ هذه التساؤلات والتأملات في صيغة روائية، لكنها للأسف كان فيها الكثير من التقريرية والمباشرة والثرثرة التي سنراها فيما بعد.

في موضع آخر من الفصل الأول/ الإطار نقرأ: "ملخص القول: اخترتُ ثلاثة تواريخ ليس لأن لها دلالة خاصة ضمن الأحداث التي تشمل الخمسين سنة الفارطة، وإنما لأنها تتباعد عن بعضها بقدر يتيح افتراض نشوء أجيال بشرية وفكرية متباينة. ثم وزعت المحكيات التي استمعت إليها أو تخيلت بعضها على ثلاثة تواريخ تُحيل على ميلاد الشخصيات الأساس، لكي أستعيد السمت والنبض والسلوكات، وأوجِد ما يشبه لُحمة متنامية تصل بين الفترات أو تفصل بعضها عن بعض: 1931م، ميلاد توفيق الصادقي؛ 1956م، فالح الحمزاوي؛ 1956م، نبيهة النعسان. لعلها سنوات تعني شيئا بالنسبة لمن ينحصر همهم في التأريخ، لكنني أنا مع الذين يقولون بأن عمق الزمن لا يُرصد فقط من خلال السنين. لقد حاولت، انطلاقا من الشخصيات الثلاث التي اخترتها، أن أسرد ما تجمع لدي من أحداث ومسارات حياتية، مهما تباعدت زمنيا فإنها تظل متقاربة قد يفسر بعضها بعضا، خاصة إذا اعتمدنا مفهوم التاريخ البعيد المدى". من خلال هذه اللغة التقريرية الشرحية الجافة يظن الروائي محمد برادة أنه يكتب رواية يحاول التمهيد لها من خلال هذا الفصل الذي يظنه روائيا، وإن افتقد أي سمة من سمات الرواية؛ فاللغة بعيدة عن لغة السرد الروائي، أقرب إلى لغة التقارير، أو اللغة التاريخية العقلانية، أي أن الروائي هنا من خلال هذا الفصل كان يكتب بالفعل ما يشبه المقدمة الجافة لروايته وكأنه يحاول أن يقدمها ويشرحها للقارئ من خلال هذه اللغة التي لا يمكن لها أن تتناسب مع لغة السرد الروائي وانسيابيته. كما أننا نلاحظ من خلال المقطع السابق كتابة برادة على لسان الراوي: "1956م، نبيهة النعسان" وهي الشخصية الروائية الثالثة التي تمثل الطبيبة النفسية، لكننا حينما نصل إلى الفصل الذي يخصها سنجد أن اسمها "نبيهة سمعان" وليس "النعسان"، أي أن برادة لم يعمل على مراجعة الرواية، ولم ينتبه إلى ما وقع فيه من خطأ، كذلك الأمر بالنسبة لدار النشر، بل وكل من كتب عنها من النقاد، وهذا أمر- عدم المراجعة- سنعود إليه فيما بعد.

هذا ما سنراه كذلك في قوله: "أعلم أنني لست شخصية أساسية في روايتي التي ستقرؤونها، وأن ليس مهما أن يتعرف القارئ على السارد أو المؤلف، خاصة إذا لم يكن فاعلا، مشاركا في الأحداث. غير أنني تنبهت وأنا أكتب عن شخوص ووقائع تعرفت عليها في عجالة أو سمعت من يحكي عنها، أن مسألة الوصول إلى "الحقيقة" أو الوقوف على جوهر ما يشكل التاريخ، تظل مسألة جد نسبية وزئبقية. فضلا عن ذلك، هي تبقى مفتوحة على عناصر أخرى كامنة لدى من يقرأ أو يستمع. لذلك، يكون من الأفضل أن نقدم كل ما نظن أو نتخيل أن له وشائج بما نستشعر أنه قد ينطوي على حقيقة معينة، ونريد أن نُشرك القارئ معنا في اقتناصها. من هنا وجدت أن ما أسرده عن حياتي، بوصفي كاتبا وساردا، يفتقر إلى الكثير من الأحداث والتفاصيل. صحيح أن الأمر لا يتعلق بسيرتي الذاتية، ومع ذلك أجد في ما كتبته عن شخصيات روايتي وهمومها، ما يتقاطع ومسيرتي التي لم تبلغ بعد ثلاثين سنة.. ما الضرر، إذن، في أن ألخص ما أظن أنه مضيء لموقعي الملتبس، المُجاور لعالم الرواية؟".

يبدو من خلال هذا الاقتباس أنه أكثر صلاحية لأن نقرأه في مقال أدبي وليس سردا روائيا يمثل رواية في حاجة إلى الأسلوبية واللغة، وليس إلى لغة المنطق والعقل الجافة والتنظير الأدبي، كما أن الروائي هنا يقع في التناقض منذ بداية سرده حينما يقول على لسان الراجي/ السارد في هذا الفصل: "وأن ليس مهما أن يتعرف القارئ على السارد أو المؤلف، خاصة إذا لم يكن فاعلا، مشاركا في الأحداث"؛ لأن هذا الحديث يتناقض تماما مع ما سنراه في الفصل الثالث على الأقل حيث كان الراجي شخصية فاعلة في هذا الفصل وفي أحداثه؛ الأمر الذي يجعل الفصل لا يمكن له أن يكون من دون وجوده؛ حيث تعتمد الطبيبة نبيهة على السرد له، ودعوته، وأخذ رأيه، كما يبدو دوره الفاعل أيضا حينما يدعوه فالح الحمزاوي في حفل عشاء لمقابلة السفير الفرنسي؛ ومن ثم مناقشته مع الحمزاوي حول عدم لياقة أن يستدعي راقصة أمام السفير، وهو الأمر الذي جعل الرجل الفرنسي يستاء وينصرف.

هذه التناقضات، واللغة الذهنية الجافة، الصالحة أكثر لكتابة المقالات النقدية، والإسهاب في توضيح خطة الكتابة جعلت هذا الفصل بالكامل عبئا لا يمكن تجاهله في الرواية؛ الأمر الذي أثقل كاهلها؛ ومن ثم بدا كزائدة ضخمة مترهلة في رواية زاد من ترهلها الثرثرات السياسية التي سنراها كلما توغلنا في السرد، كما أن وجود شخصيات الراجي، والمؤرخ، ورقية الذين رأيناهم في هذا الفصل بدا كنتوء ضخم؛ حيث لا علاقة لهم بالرواية ولا حاجة للسرد إليهم؛ ومن ثم يكون حذف هذه الشخصيات، والفصل برمته في صالح السرد الروائي أكثر من وجودهم، أي أن الفصل الذي رغب الروائي له أن يكون تجديدا وكسرا للنمطي بدا في نهاية الأمر مجرد ثرثرة وبناءا شائها ساهم في تشويه العمل الروائي.

ربما كان أهم ما نلحظه في السرد الروائي لدى محمد برادة في روايته هو الثرثرة التي لا طائل من ورائها في الإضافة للرواية بقدر ما تؤدي بالقارئ إلى الشعور بالملل والانصراف عنها وعدم إكمالها، هذه الثرثرات نراها على طول العمل السردي، بل إن الروائي أحيانا يعود لسرد ما سبق أن قاله في صفحات سابقة، وكأنه نسى أن هذا الكلام قد سبق له وكتبه من قبل. نرى هذه الثرثرات مثلا في قول الراجي: "لكنني بعد جمع وطرح، بعد تمحيص وغربلة، كما يقال، وجدت أن المسألة التي تستحق الإضافة هي علاقاتي النسائية، أي الجنس اللطيف أو الأنثى بالأحرى"! هنا لا بد أن نتساءل: هل ثمة فارق بين العلاقات النسائية، وبين الجنس اللطيف؟ وهل ثمة فارق أكبر بين الجنس اللطيف وبين الأنثى؟! إن الكاتب هنا يفسر لنا الماء بالماء، أو كأنه يجلس مع صديق له على المقهى يحادثه حديثا عفويا تلقائيا لا علاقة له بالكتابة فيزيد ويسترسل في المفردات والكلمات التي تتساوى في المعنى من دون داع لذلك. ثم لا يلبث برادة أن يسترسل شارحا ما قاله في العبارة السابقة؛ فيقول بعدها مباشرة: "الأنثى بما تنطوي عليه من سحر وجاذبية متدثرة في غلائل الرمز وسطوة الرغبة. ذلك أنني أستشعر ضرورة الحضور الأنثوي في دلالته الإيروسية المطلقة". أظن أن الجملة السابقة التي جاءت مباشرة بعد الجملة الأولى من الزيادات التي لا داعي لها؛ لأن مفردة الأنثى في حد ذاتها تحمل من الدلالات والإيحاءات والمعاني ما حاول شرحه في جملته الثانية التي لم يكن لها أي داع ليكتبها.

كذلك قوله: "منذ سنتين، أصبحت رقية أرملة فبادرتُ إلى تعزيز علاقتي بها، كما حكيتُ ذلك في صفحات سابقة. هي جزء من طفولتي ولديها شيء لا أجده عند سناء". هذه الجملة تجعلنا نتساءل: إذا كان الكاتب يعي جيدا أنه قد سبق له أن قال لنا ذلك بدليل قوله: "كما حكيت ذلك في صفحات سابقة"؛ فلِمَ يحاول الآن أن يُعيد كتابة ذلك وترديده علينا مرة أخرى؟! وإذا كان قد قال: كما حكيت ذلك في صفحات سابقة"؛ فلم يستمر في السرد ويخبرنا أنها جزء من طفولته، في حين أنه أخبرنا أيضا من قبل أنها كانت جزءا من هذه الطفولة؟! إن الروائي هنا يبدو وكأنه يدور حول نفسه، أو يتلفظ الكلمة ثم سرعان ما ينسى أنه قالها فيعيدها علينا بصيغة جديدة لا يمكن لها إلا أن تؤدي نفس المعنى والغرض الذي قاله من أجلها من قبل! هذا ما نلمحه أيضا في: "أظن أنني أوردت كل ما أعتبره مهما في حياتي، ولو أنني غير مُطالب بذلك لأن القارئ، كما سبق القول، لا يهتم بمعرفة شخصية السارد إذا لم يكن فاعلا في واقع النص الذي يحكيه"، ولعل مثل هذا الكلام سبق أن قرأناه منذ دقائق في موضع آخر، لكنه يُصرّ على الإعادة والتكرار وكأنما القارئ لا يفهم؛ فيعمل على تذكيره في غير موضع بما سبق أن قاله له في العديد من مواضع الرواية.

"آن الأوان لأترككم مع الرواية التي كتبتها أثناء ما كنت أجمّع المعلومات والأجوبة على أسئلة الأستاذ الرحماني الذي لولاه لما تذوقت متعة العمل والأجرة الشهرية طوال عامين، أحسست خلالهما أن قيمتي زادت في عيني وفي أعين الناس"، الحقيقة أن الجملة السابقة سبق أن قالها لنا الروائي وأوضحها، وشرحها وأسهب في ذلك فيما سبقها من سرد، لكن الرغبة لديه في تكرار نفسه، أو ربما زيادة عدد صفحات الرواية قدر الإمكان، يُكسبه رغبة عارمة في زيادة عدد الكلمات من دون وجهة ما يهدف إليها، وهو تماما ما يفعله حينما يكتب مرة أخرى: "كما أشرت سابقا: استوحيت محكيات هذه الرواية من لقاءاتي بفئات متباينة من الناس الذين قبلوا أن يجيبوا على أسئلة المؤرخ الرحماني؛ وفي الأثناء نفسها كان الحديث يجرنا إلى استطرادات تبعد قليلا أو كثيرا عن الأسئلة المطروحة"؛ الأمر الذي يجعلنا راغبين في الانصراف عن إكمال القراءة التي تبدو لمن يقرأها كأنها رواية أحد الشبان اليافعين الذين يكتبون لأول مرة؛ ومن ثم يقعون في إشكالية التكرار والثرثرة كلما تقدموا في كتابة صفحة واحدة، رغم أن هذه الكتابة لا تضيف شيئا للنص الروائي.

يقول الروائي على لسان نبيهة سمعان: "عند عودتي، كنت مزودة بعُدة من المفاهيم والنظريات، مقتنعة بقدرة علم النفس وتطبيقاته العلاجية خاصة في مجال التحليل. لكنني وجدتني، عند الممارسة، أفتح دائما بابا للتخييل أستعين بها لأنسج سيرة من يُفضي إلىّ بنتف وتذكرات تستحضر رحلته الدنيوية. وجدت أن الاستعانة بالتخييل لا تخلو من متعة، مصدرها أنني أغوص في تفاصيل سلوك أناس يبدون غرباء عني قبل الشروع في الاستماع إليهم؛ لكن يكفي أن أستمع إلى بداية محكيات المرضى لأحسّني معنية ومتجاوبة مع ما يعيشونه"، هذا الاقتباس السابق نقرأ بعده بإحدى عشر صفحة ما يلي: "الطريف في هذ التجربة، أنني اكتشفت منذ الأيام الأولى، أن لدي ميلا إلى التخييل وتخليق القصص انطلاقا من محكيات المرضى، فبدأت ألجأ إليه لأبتعث الحياة في مشاهد مندثرة، وأتماهى مع شخوص تبدو متناثرة في ذاكرة الساردين الممددين على الأريكة. وجدت من حقي أن أبحث عن المتعة في عملي، وأن أزاوج  بين توفير العلاج وإرضاء رغبتي في توسيع دوائر الإمكان عن طريق التخييل ولعبة التوليف بين نتف المحكيات والوقائع"!

إذا ما قرأنا الاقباس الأول في صفحة 200 من طبعة دار الآداب، ثم قرأنا الاقتباس الثاني في صفحة 211، هل نستطيع أن نقول أن ثمة فارقا بين الاقتباسين؟ بالتأكيد لا، بل سنتساءل: لم يكرر الروائي هذا الكلام كما سبق أن قاله تماما، وكأنه نسى أنه كتبه من قبل اللهم إلا إذا كان الروائي قد شرع في كتابة هذه الرواية من أجل الثرثرة فقط والمزيد منها إلى ما لا نهاية، أو أنه بالفعل يظن أنه كلما زاد عدد صفحات روايته كلما كان ذلك جيدا له، وليذهب السرد الروائي الذي يجب أن يكون خاليا من كل هذه الترهلات إلى الجحيم. كما أن هذه الثرثرات المتكررة تفتح أمامنا باب التساؤل مرة أخرى حول مراجعة الرواية قبل نشرها؛ فهل راجع محمد برادة ما كتبه قبل نشره في صورة رواية؟ وهل راجعت دار النشر ما قامت بنشره؟

بالتأكيد لم تتم مراجعة هذه الرواية لا على مستوى البناء، ولا الأسلوب، ولا حتى على المستوى اللغوي، والقواعد النحوية وتصحيح المفردات؛ وليس أدل على ذلك من عنوان الرواية الذي نلحظ فيه خطأ لغويا فادحا لا يمكن لكاتب أن يقع فيه حينما يستخدم حرف الجر "من" بديلا عن "عن"- بعيدا من الضوضاء-، فالصحيح هنا لا بد أن يكون "بعيدا عن"، وليس "بعيدا من"، وهذا ما نراه في متن العمل غير مرة، فنراه يكتب: "بعيدا من متاهات العواطف وعواقبها" بدلا من "عن"، كذلك "بعيدا من التملك، بعيد من الضوضاء"، فضلا عن الكثير من الأخطاء اللغوية التي سنعود إليها لاحقا، وهي أخطاء لا يمكن لناقد في قدر برادة أن يكتبها ويقع فيها، فضلا عن استخدام اللغة الجاهزة، لغة الكليشيهات المحفوظة، حينما نقرأ  قوله: "وافته المنية بعد مرض عضال"، وغير ذلك من العبارات المبتذلة لفرط استخدامها؛ مما يؤكد ما ذهبنا إليه في عدم مراجعة ما كُتب قبل نشره.

تنبني رواية "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات" للروائي المغربي محمد برادة على حكي ثلاث شخصيات في شكل هو أقرب إلى الاعتراف الكنسي المسترسل في أدق تفاصيل حياتهم متخذا من الأحداث السياسية التي ألمت بالمغرب منذ الحماية الفرنسية حتى الاستقلال وبداية فترة الربيع العربي كإطار لهذا الاعتراف، وهو ما لا يمكن قبوله منطقيا أو سرديا؛ لا سيما أن هذا الشكل الاعترافي تحكيه جميع الشخصيات للراجي أو مساعد المؤرخ. صحيح أننا نستطيع فهم وقبول حكاياتهم ورواياتهم عن الأحداث السياسية التي دارت، وانخراطهم في هذه الحياة من خلال الأحزاب المتعددة باعتباره يقوم باستبيان تاريخي عن هذه الأحداث بوصفه مؤرخا، لكننا لا يمكن منطقيا قبول أن جميع الشخصيات تحكي له عن حياتهم الجنسية، ومغامراتهم، وخياناتهم الزوجية باستفاضة وبالتفصيل، لا سيما نبيهة سمعان؛ فمن أين جاءت هذه الحميمية في العلاقة بين الشخصيات وبين مساعد المؤرخ كي يستفيضوا في حكي هذه الأمور له، ولِمَ يثقون فيه كي يحكون له خياناتهم الزوجية؟ ولِمَ يحكون له أساسا عن علاقاتهم الجنسية المتعددة في حين أنه يقوم باستبيان تاريخي عن الأحداث السياسية من خلال العديد من المواطنين المغاربة الذين لا تربطهم به أي رابطة؟!

إن حكي جميع الشخصيات حكاياتهم الحميمية لا تشبه طقوس الاعتراف الكنسية للتطهر فقط، بل هي تشبه اعتراف المريض النفسي لطبيبه ومشاركته في تفاصيل حياته، وهذا غير منطقي لانتفاء السبب الذي يجعل الشخصيات تتعرى أمامه مثل هذا التعري، أي أن رواية برادة هنا تفتقد المنطقية والعقلانية فيما قدمه، وهو ما يؤدي إلى انهيار البنيان الروائي من الأساس تبعا للقاعدة القانونية القائلة: "ما بني على باطل؛ فهو باطل"، وهي القاعدة التي يصح تطبيقها في الأدب؛ حيث ما بني على ما هو غير عقلاني؛ فهو غير عقلاني وغير مقبول.

عدم الانتباه إلى منطقية الأحداث ونبوها عن الواقعي والمقبول والمُبرر لم يكن فقط في حكي الشخصيات للراجي عن حياتهم الجنسية، بل تعدى ذلك إلى سلوك الطبيبة نبيهة، وهي الطبيبة النفسية التي لا بد أن تكون مؤتمنة على أسرار جميع مرضاها؛ ومن ثم لا يمكن لها، ولا يحق أن تفشي أسرار هؤلاء المرضى أو حكيها لأي كان، لا سيما لو كانت الشخصية التي تحكي عنها شخصية شهيرة؛ فهي هكذا تعمل على التشهير بها وفضحها، لكننا نرى الروائي يكتب على لسانها بينما تحكي لمساعد المؤرخ: "أتذكر، مثلا، جلستي مع رئيس مصلحة الحسابات في وزارة الفلاحة الذي جاء يعرض عليّ حالة انحراف مفاجئ: "... هذا عمره ما حصل لي، أنا قرّبت من ستين عام، ومتزوج منذ أكثر من ثلاثين سنة. وهاد الأيام، بمجرد ما تدخل السكرتيرة الجديدة إلى مكتبي، وهي تبارك الله ما فضّلْتها عليك، عندها ابتسامة خلابة وعينان عسليتان، أحس أنني لم أعد أنا هو أنا. الاضطراب والارتباك يسيطران عليّ وأنا أتحدث إليها، بالأخص عندما تنحني مقرّبة وجهها وأنفاسها العطرة مني لتقلب صفحات الملفات التي يجب أن أوقعها.. لا أريد أن أرتكب المحظور يا دكتورة، لأنني متزوج من سيدة فاضلة، وتعاهدنا على الوفاء والإخلاص أثناء طوافنا بالكعبة في السنة الماضية".

إذا ما قرأنا هذه الفقرة التي تفضح فيها الطبيبة أسرار مريضها الشهير "رئيس مصلحة الحسابات في وزارة الفلاحة" في صفحة 200 من الرواية، ثم عدنا إلى صفحة 18 في بدايتها لنقرأ قول الراجي/ مساعد المؤرخ: "ليس من حقي أن أطلعكم على مضمون تلك الحوارات والأجوبة لأنها ملك الأستاذ الرحماني، إلا أنني أريد أن أشاطركم بعض الحكايات والتعليقات التي أثارت انتباهي". نقول أننا إذا ما قرأنا هذا، وعدنا إلى ذاك؛ سنعود مرة أخرى إلى تناقض الروائي في سرده، أو بنائه الروائي، أي أن السرد الروائي ينبني في الأساس على مجموعة من التناقضات غير المقبولة أو المفهومة التي تهدم هذا البناء تماما وتعطي معنيين أخلاقيين متناقضين عن مفهوم واحد؛ فلِمَ ليس من حقه أن يخبرنا عن مجموعة من الحوارات عن الحياة السياسية المغربية في بداية الرواية، بينما يكون من حق الدكتورة نبيهة أن تفشي أسرار مرضاها التي هي أخطر كثيرا مما جمعه من معلومات سيتم التأريخ على أساسها؟!

تبدو اللغة الروائية لدى الروائي محمد برادة كلغة جافة، شديدة التقريرية، تخلو من الأسلوبية، أقرب إلى التأريخ والاهتمام برصد تاريخ الصراعات السياسية والحزبية في المغرب، وكأنما الرواية في مجملها مجرد تقرير عما كان من فساد سياسي ميز الحياة السياسية في المغرب لا سيما بعد انتهاء فترة الحماية الفرنسية، وهذا ما سبق أن ذهبنا إليه من إفساد السياسة للسرد الروائي إذا ما انخرط فيها الروائي واهتم بها أكثر من أحداثه الروائية. نلاحظ ذلك في قول فالح الحمزاوي: "ما لاحظته ونبهني إليه أيضا حفيظ، هو أن الحزب لم ينجح، بعد مرور سنتين على التناوب، في إشراك أكثر من ربع مناضليه في تدبير شؤون الحكومة، بينما بقي قسط مهم من المنخرطين على الشاطئ يتطلع إلى ما يجري بين أحزاب غير متجانسة، ويحاول أن يفهم العلاقة الملتبسة مع القصر الملكي وديوانه العتيد، وهو مشدوه أمام بلاغة التفاؤل الإرادوي، قبل أن يتحول المناصرون إلى متفرجين غير مبالين بهذا المسلسل الذي آل إلى "محلك سر"! لعلني أبالغ، لأن بعض المشاريع التنموية صُودق عليها، ونزعة الإصلاح بدأت تنشر معجمها، والسكتة القلبية تباعد شبحها مع مجيء ملك جديد يُلوّح بالإصلاح وتقليص الطقوس والفخفخة.. غير أن مطلع القرن الواحد والعشرين شهد نوعا من التقهقر يتجلى في العودة إلى طقوس المخزن (تقبيل يد الملك، تقديم الهدايا من لدن الأعيان، إقامة حفل الولاء..) والتخلي عن "المنهجية الديمقراطية" بحسب تعبير قيادة الحزب الذي قاد التناوب التوافقي ثم وجد نفسه، بعد انتخابات 2002م وعلى رغم تصدره في الترتيب، يُبعَد عن رئاسة الحكومة لصالح أحد خدماء القصر، نصف تكنوقراط ونصف رجل أعمال!".

هل من الممكن اعتبار الاقتباس السابق مقطعا روائيا؟! إنه أصلح لأن يكون مقالا سياسيا في إحدى الصحف؛ ومن ثم فمكانه لا يمكن له أن يكون في رواية فنية، ولعل ما أدى إلى هذه اللغة هو الإغراق في رصد الأحداث السياسية كما هي من دون توظيفها فنيا في أحداث وشخصيات ولغة فنية تليق بالفن الروائي وتكون إليه أقرب.

هذه اللغة الرتيبة المملة الصالحة للمقالات السياسية نراها في الغالب الأعم من الرواية؛ ولنتأمل حديث مساعد المؤرخ يقول: "كدت أيأس من طول الانتظار وأنا أتشبث بالمؤقت الذي يمنحني لحظات بهية تشحن النفس وتُعيد لها الإقبال على الدنيا. فجأة، من دون أمارات منبئة، انفجرت أصوات الشباب في ميادين تونس والقاهرة، ثم في الدار البيضاء والرباط، ثم في صنعاء والبحرين وكل أرجاء سوريا.. شعارات قد تتباين كلماتها قليلا، لكن لغتها لا تُهادن أو تُداري: لغة تُسمي الداء، وتجهر بالعلاج الباتر للعلل. سارعت الصحف ووسائل الإعلام السمعية والبصرية إلى تعميد انفجارات الشباب بالربيع العربي، على غرار ما أطلقته من تسميات مشابهة على انتفاضات حدثت في بعض أقطار أوروبا الشرقية أيام الإمبراطورية السوفياتية. لكن، ما يحدث الآن، هو إعلان عن ولادة جديدة لمجتمعات عربية بلغت سن اليأس، وكادت أن تفقد الأمل في إنجاب مولود من صلبها، يجدد الشرايين ويُطلق النهضة المؤجلة منذ قرن من الزمان، ويستأصل طبائع الاستبداد". إن الحديث هنا عن الثورات فيه قدر غير قليل من الملل، والمباشرة، والتقريرية، واللغة الصحفية التي لا تليق بالسرد الروائي، بل تصلح كقال.

يبدو لنا السرد الروائي لدى محمد برادة كأنه لا يفهم معنى اللغة والأسلوب الروائيين، بل نلاحظ أنه يظن الرواية مجرد مجال معرفي كالنقد تماما لا بد من حشوها بالكثير من المعارف والثقافات التي اكتسبها، وكأنه يستعرض من خلال الرواية ثقافته. صحيح أننا لا ننكر أن الرواية من الممكن لها أن تكون مجالا معرفيا مهما، بل ويمكن للروائي من خلالها استعراض ثقافته، لكن يجب أن يكون هذا الاستعراض والبث للمعلومات مضفورا في أحداث الرواية ولغتها الروائية بحيث يبدو في النهاية جوهريا في السرد الروائي وليس مجرد حشو لا أهمية له بقدر ما يثقل كاهل النص ويهدمه ويجعل القارئ منصرفا عنه؛ لذلك نكاد أن ننصرف عن متابعة ما يكتبه على لسان الطبيبة نبيهة سمعان حينما تقول: "فوجئت عند وصولي إلى باريس، بالتعرف إلى سيرة امرأة مصرية لم أكن قد سمعت بها. أثارت انتباهي صديقة كانت تحضّر أطروحة عن حركة تحرير المرأة العربية، إلى اسم درية شفيق (1908- 1975م) التي درست في باريس وحملت لواء الدفاع عن حقوق المرأة المصرية، متحدية سدنة المعبد الذين يتذرعون بالإسلام لتبرير وصايتهم على المرأة. مفاجأة التعرف على درية حركت لدي سؤال المرأة، انطلاقا من تجربة مرت فصولها في مجتمع له ملامح مشتركة مع مجتمعي. وعلى رغم أنني كنت مطّلعة على كتابات قاسم أمين وهدى شعراوي، إلا أن تفاصيل حياة درية وكتاباتها المتنوعة بين دراسات ومقالات وقصائد، جعلتني أحس بتعاطف وانجذاب إليها. في العمق، أنا لا أتجاوب كثيرا مع الشخصيات المرموقة، التاريخية والمعاصرة، التي لا تكتب عن نفسها وعن أسئلة مجتمعاتها وعذاب الرحلة إلى أعلى الهرم. أجد في مثل تلك الكتابات، حتى وإن تدثرت بتضخيم الأنا وإعلاء شأنها، مدخلا إلى الاقتراب من اللحظات الكاشفة عن جوهر الشخصية ومدى اختلافها عن الآخرين والأخريات. في الكتابة وشاية بملامح الأنا المستترة التي تتحدى الأقنعة والصور الجاهزة. درية شفيق، على رغم إعجابها الكبير بهدى شعراوي، سلكت طريقا مغايرا هو أصعب وألصق بأسئلة حاضر المرأة العربية. لم تكن تحتمي بحزب أو طبقة غنية، ولم تكن تُهادن أو تُراوغ لتحقيق مكتسبات ذاتية؛ بل اعتمدت على مجهوداتها الخاصة، متوسلة بالمعرفة التي اكتسبتها من دراسة الفلسفة في باريس، ومن تأسيسها مجلتين نسائيتين، واتحادا للمرأة وعلائق عبر العالم تُعرّف بمطالب المصريات في مجال المساواة السياسية ودخول البرلمان.. في عهد الملك فاروق، كما في عهد جمال عبد الناصر، حافظت على سمة التحدي والجذرية. لم تكن تقبل وصاية الرجل، ولا الفروق الموروثة، فانطلقت وراء تحقيق أحلامها في التحرر والمساواة، متسلحة بالعلم والجمال والأناقة والقدرة على الإقناع. ذهبتْ، وهي الزعيمة الجميلة، في رحلة حول العالم لتُسمع صوت المرأة المصرية: من أمريكا إلى الهند حيث استقبلها جواهر لال نهرو، ومن باريس إلى إفريقيا، داعية ومبشرة. ومع مجيء الثورة الناصرية، استمرت في المطالبة وتعبئة طلائع النساء، ما جعل السلطات تضعها تحت الإقامة الجبرية سنة 1957م......"، وهكذا يستغرق الكاتب في التأريخ لدرية شفيق وحياتها ومطالبتها بحقوق المرأة، ويستمر في ذلك على طول خمس صفحات كاملة يتحدث فيها عن سيرة شفيق، وهي السيرة التي لا تفيد السرد في شيء، حيث لو كان قد ذكر تأثر الطبيبة بها في ثلاثة أو أربعة أسطر فقط ما كان النص قد تأثر، ولكان ما رغب أن يقوله لنا قد وصل إلينا. لكننا نراه راغبا في استعراض المعلومات، أو أنه يفترض جهل القارئ؛ ومن ثم يصرّ على تعريفه بهذه المرأة التي يجهلها قارئه؛ فبدا الأمر لنا مجرد حشو لا طائل من ورائه.

الناقد والروائي المغربي محمد برادة

هذه الرغبة الاستعراضية المعلوماتية الجافة هي ما نراها أيضا حينما تقول الطبيبة: "على رغم تشبعي بنظريات فرويد والإضافات التي اغتنت بها على يد محللين لاحقين، خاصة لكانْ (Lacan) فإنني كنت أتابع الانتقادات التي تُوجّه إلى التحليل النفساني من لدن مجموعة علماء نفس غير مقتنعين بعلمية هذه النظريات ولا بنجاعتها في الاستشفاء. قرأت "كتابا أسود" يهاجم التحليل ومبتكره، وكتبا تعتبر أبحاث فرويد مجرد تجارب عائلية هي أبعد ما تكون عن المنهج العلمي. مع ذلك، أظل مقتنعة بأهمية النافذة التي فتحها على مناطق مجهولة من تكوين سلوك البشر: الكبت الجنسي، عقدة أوديب، اللاوعي، تأويل الأحلام، وظيفة الإعلاء.. مجموعة مناطق مسكوت عنها تسلل إليها فرويد ليكشف الغطاء عن الإنسان المتواري الذي طالما طُمست حقيقته وسط أمواج من التعاليم الدينية والأفكار المثالية. جاء فرويد ليحطم سلاسل الماضي، على حد تعبير خصمه العنيد يونغ. لم يعد بالإمكان أن يحتمي الإنسان داخل ماض وردي، مُزخرف بالخرافات وأناشيد الإعلاء والتسامي المجردة. أصبح السؤال الفرويدي المقلق في نظري، هو: كيف يستطيع الفرد، وقد انكشف باطنه وفقد هالة الماضي وحُجُبه، أن يواجه عالما معقدا، عنيفا، كابتا للرغائب والشهوات، مقلصا لفضاء الحرية والاندفاع الحيوي؟....".

هكذا يستمر الكاتب في الحديث الجاف مستعرضا معلوماته عن علم النفس والتحليل النفسي عند سيجموند فرويد وغيره من المحللين النفسيين ونظرياتهم المتعارضة مع بعضها البعض، وكأنما السرد قد تحول إلى كتاب في التنظير والتأريخ لعلم النفس، وليس رواية قائمة على التخييل والأحداث الروائية في المقام الأول؛ الأمر الذي يجعل السرد هنا شديد الإملال.

إن الفساد السياسي في الحياة السياسية المغربية يكاد يكون هو لب السرد منذ بدايته حتى النهاية، رغم أن الروائي كثيرا ما ينصرف عن هذا الرصد السياسي إلى بعض الأمور الجانبية مثل استعراض المعلوماتية الجافة، أو التعليق من جانبه على الأحداث على لساني الراجي. ولكن رغم أن السرد يقوم على رصد الحياة السياسية إلا أنه كان جافا أيضا غير مضفور بشكل فني في السرد باعتبار أن ما يكتبه برادة رواية، وليس كتابا للتاريخ السياسي. رأينا في خضم أحداثه  الروائية كيف يكون الفساد في رأس السلطة السياسية نفسها؛ ومن ثم تلفيق التهم للجميع، فيقول على لسان توفيق الصادقي: "أستعرض هذه الأحداث فيبدو لي كما لو أن "أزمنة الرصاص" تُغيّر جلدها بعد أن بلغت سرعتها القصوى: هناك الآن هدف أسمى على الشعب أن يحققه بتحرير صحرائه، ومحاولة لإعادة تأصيل أسس الدولة العريقة مع الانفتاح على الكفاءات الجديدة، ولكن هناك أيضا العصا لمن عصا أو اعترض على سياسة من بيده المُلك والأمر والنهي وإمارة المؤمنين. كل ما حدث، رغم فداحته، يُقدم لنا على أنه مجرد "حادث سير" لا ينال من هيبة الدولة المتدثرة بالمقدسات التي تحول دون التطاول أو التشكيك في صلابة النظام وديمومته. المحاكمات لا تكاد تتوقف على مدار السنة. المحامون، وأنا من ضمنهم، يتطوعون للدفاع عن المعتقلين، والملفات تُحضّر بتواطؤ مع المخابرات السرية ووزير العدل والقضاة المعينين من فوق. وعلى رغم المرافعات الكاشفة للتلفيق والتزوير في الملفات، تصدر الأحكام وفق ما يُرضي السلطات العليا! يندد المحامون وقوى المعارضة وجمعيات حقوق الإنسان بالمحاكمات المطبوخة، وتنتقد الصحافة الدولية لعبة الديمقراطية الشكلية، لكن النظام مصمم على الاستفراد بالقرار، محتميا بالكلام المزوّق والتصريحات المدعية، ممعنا في نهب الثروات، مرددا عبر الأبواق أن قاطرة الأمة تسير على "المحجة البيضاء"، وأن شعار لإغناء الفقير دون إفقار الغني هو المعجزة التي ستقدم حلولا ناجعة للمشاكل العويصة المتراكمة". هكذا يحاول الروائي بأسلوب لا علاقة له بالسردية الروائية التدليل على أن الفساد السياسي قد طال كل شيء في المغرب، وأنه لا حيلة للجميع من المواطنين في فعل أي شيء أمام سطوة الدولة ونظامها وقبضتها الحديدية الفاسدة في كل شيء.

هذا الفساد الذي أصاب رأس السلطة في المغرب أدى إلى ضلوع المخزن في الاغتيالات وتصفية المعارضين له بشكل يكاد يكون علنيا: "اغتيال عمر بنجلون، ديسمبر 1975م، على يد متطرف ينتمي إلى جماعة أصولية، نبّه الجميع إلى ما يحوكه المخزن من مناورات بعد نجاح مؤتمر الحزب الثالث (يناير 1975م) وبروز تأثير عمر على جموع الشباب والمناضلين. لا يمكن لمثل هذه الجريمة أن تتم دون تواطؤ الأجهزة السرية التي حاولت، قبل أشهر، استعمال الطرود البريدية المتفجرة لتصفية عمر ومعه قياديون آخرون. التحقيق جار كما يردد مسؤولو الأمن والقضاء، إلا أن الدلائل تتواتر باتجاه تواطؤ المخزن مع منفذي الاغتيال. ردود الفعل عارمة في سخطها، وإصرار المناضلين يبدو أكثر صلابة، وأنا وحفيظ متحمسان لرفع التحدي"، أي أن الحياة السياسية فسدت كليا، وبات الجميع غير قادرين على المواجهة مع رأس النظام.

هذا الفساد الكامل الأركان أدى إلى الانكسار النفسي لمعظم المغاربة؛ نظرا لعجزهم عن الفعل، سواء على مستوى الفترة التالية للاستقلال مباشرة أو ما تلتها بعد عدة سنوات: "شيء ما مُطفأ في العيون والوجوه ومعجم الكلمات، حين أقابل الزملاء المحامين في المحاكم، وعند الاستماع إلى زبائني وهم يشرحون قضاياهم، يتولد لدي إحساس عارم بذلك الانطفاء والانكسار. لا أستطيع ألا أقارن بين سنوات ما بين الاستقلال وتلك التي تلتها لأمد قصير، وما بين الذي أعايشه منذ عقدين. أحار في تعليل ما أعاينه من فروق، فأعزوه إلى فقدان الحماس. هذا ما يردده أيضا خالي المنزوي، أكثر فأكثر، داخل المرارة وخيبة الأمل. لا أكاد أصدق ما آل إليه حال الخال العزيز، أهمل هندامه وأطلق شعر لحيته، وأصبح حاد الطبع ينهر زوجته من غير سبب، ويتردد كثيرا على المواسم الدينية منفسا عن توتره بالانغمار في حلقات الأمداح وطقوس الجذبة". وهو الانكسار الذي نلمحه أيضا حينما يتم فهم التاريخ المزيف، واللعبة التي حاكها النظام ببراعة في: "يردد على مسامعي ما قاله أخوه أثناء لقائهما: أنا لا ألومك أنت، لأنك لم تدخر جهدا في رعاية مسيرتي الدراسية، وكنتُ معجبا بقدرتك على الإنجاز مزاوجا بين العمل ومتابعة تعليمك العالي. لكنني أدرك الآن أنني، في مناخ فورة ما بعد الاستقلال وبداية سن الشباب، كنتُ مثل ورقة نشاف تتشرب كل ما تفرزه أجواء الطلبة المتلهفين على التغيير والعدالة. وكل ما كنت أسمعه أو أقرؤه كان يقنعني بصدقية ما تقترحه مبادئ إيديولوجيا الاحتجاج.. ستينيات القرن الماضي في جميع أنحاء العالم، كانت متدثرة بشعار "الثورة الآن وليس غدا". والرموز الفاتنة تنبثق من كل الأصقاع: الصين، كوبا، كونغو- لومومبا، مصر عبد الناصر، كوبا- كاسترو وشي غيفارا، فرنسا وهبّة 1968م.. كنت مشدودا إلى هذا الأفق الخارجي الذي يجعل الحياة مقبولة في إهاب صورة ما يجب أن تكون عليه العلائق والأشياء؛ لذلك أعتبر نفسي مسؤولا وحدي عن اختياري تلك الطريق الطوبويّة. كان اختيارا في مرتبة الإيمان الذي يحجب ما عداه؛ وهو ما جعلني أتخذك أنت، أقرب الناس إليّ، موضوعا لانتقاداتي". يتبين لنا هنا أن الأخ الأصغر للصادقي حينما تبين له زيف كل الشعارات السياسية التي آمن بها وهو في مقتبل حياته؛ تأكد من زيف التاريخ وأصابته- كغيره- الكثير من المرارة، والأكثر من الانكسار.

يحاول برادة رصد الفساد الذي أنهى الحياة السياسية في المغرب من خلال الدور الذي يقوم به المخزن، وكيف توغل المخزن للسيطرة على كل شيء، وإرهاب الجميع، ومن ثم إنهاء أي حقوق أو مطالب بالإصلاح السياسي: "كان حفيظ أصغر المعتقلين في هذه المجموعة، إلا أنني وجدته رائق المزاج يحلل الأحداث، كما عهدته، بطريقة متأنية دون تساهل أو مهادنة. قال لي قبل أن تبدأ جلسة هذا الصباح: حملة الاعتقالات وما صاحبها من عنف هي إشارة من المخزن أنه لن يسمح لقوى المعارضة أن تستعيد صوتها.  سندفع الثمن بضع سنوات من عمرنا ثم نخرج لنستأنف دورنا في تمثيلية يُخرجها المخزن. على رغم المرافعات المسنودة بالحجج القانونية التي هيأناها في لجنة الدفاع، موضحين أن المعتقلين كانوا يمارسون حقا مثبتا في الدستور، فإن الأحكام صدرت متراوحة بين سنتين وأربع سنوات، ما يؤكد الطابع التأديبي، الزجري للمحاكمة"، أي أن المخزن سيطر سيطرة كاملة على الحياة السياسة وعاث في المزيد من إفسادها وتكميم أفواه كل من يرغب في الإصلاح. هذا ما نقرأه على لسان حفيظ في: "علّق حفيظ على ما يعيشه المغرب منذ عقدين، بأن المخزن وقد استأثر بالسلطة، بات يظن أن الاحتفاظ بها سهل خاصة وأن وسائل المراقبة وأجهزة القمع غدت جد متقدمة، ويكفيه أن يناور ويشتري الذمم ليحقق الاستمرار في ظل شرعية موروثة". إن محاولة المخزن شراء الجميع كي يكونوا في صفه، هي ركيزة أساسية تتبعها كل النظم السياسية الاستبدادية؛ لإسكات الجميع بالأموال إذا لم يسكتوا من خلال الإرهاب الذي تمارسه على المواطنين.

هذه الأساليب السياسية الموغلة في الفساد أتت أكلها بالفعل على العديد من الأشخاص، بل والأحزاب السياسية أيضا التي انخرط بعضها في لعبة الفساد السياسي؛ كي تضمن لنفسها بعض المكاسب والمواقع في الدولة، بل حاول كل شخص أن يكسب لنفسه ميزة ما: "فقد كاشفت ابني رابح بعد تخرجه من المعهد الزراعي بما أعتبره خلاصة مفيدة له إذا اهتدى بها. قلت له أنت تعرف أن لي رأس مال سياسيا في الحزب والمجتمع، وعليك أن تستثمره لكي لا تحاسبني أيام شيخوختي بأنني أضعت وقتك في النضال والاجتماعات. أنا أريدك أن تهتم بتدعيم وتوسيع مكانة وثروة العائلة مستفيدا من الإمكانات التي أوفرها لك ومن تخصصك في الفلاحة لتصبح اسما لامعا يحوز احترام الناس والمؤسسات، لأن التقدير بات مرتبطا بموقع القوة الذي توجد فيه وبالثروة التي تحتضنها. بعد ذلك يمكنك أن تُمارس السياسة وتقفز بين جنباتها كيف شئت"! أي أن القبضة الحديدية التي يمارسها المخزن، وانهزام الأحزاب والأفراد في إقامة حياة سياسية صحية وجديدة في المغرب؛ أديا إلى الانهزام النفسي للجميع، بل والنكوص ومحاولة الالتفاف خلف المصالح فقط؛ لاكتساب مواقع اجتماعية.

ربما كان أسوأ ما فعله برادة في روايته- وهو ما أسقطها فنيا تماما وأكسبها الكثير من الركاكة وعدم الإحكام- هو اختياره الحكاية الإطار التي يحكيها الراجي/ مساعد المؤرخ ظنا منه أن هذه الحكاية مجرد تجديد في البناء الروائي؛ لأنه جعل الراجي يتدخل في النص الروائي وقتما يحلو له باعتباره كاتب الرواية الأساس. صحيح أنه من الممكن لصوت الراجي أن يتدخل، ولكن هذا التدخل مرتبط بالضرورة الفنية التي يحتاجها النص من أجل تدخله، لكن الروائي جعل الراجي يتدخل في كل الأوقات، لا سيما حينما يرغب في التعليق على أحداث الرواية وشخصياتها، بل وانتقادها أيضا، وهذا بالتأكيد ليس من الفن الروائي في شيء؛ فبدا لنا الأمر وكأنما برادة الناقد يرغب في التعليق على الحدث الروائي، أي أن ثمة تنازعا بين الناقد والروائي في هذا النص ربح فيه الناقد عن جدارة في إفساد ما يكتبه الروائي: "لم أكن أنوي أن يكون صوتي هو ما تُختتم من خلاله الرواية، لأن أصوات الشخصيات الأساس الثلاثة، كافية لرسم معالم سرد يلملم مكونات تنقلنا إلى أجواء لا يتضمنها الاستطلاع الذي أنجزته لحساب المؤرخ الرحماني عن خمسين سنة من استقلال المغرب. إلا أن إعادة قراءتي لما كتبته عن مسارات توفيق الصادقي وفالح الحمزاوي ود. نبيهة سمعان، وضعتني أمام أسئلة متشعبة قد يكون إدراجها في نهاية هذا النص مُكملا لما كتبته في شكل روائي ترسخ في ذهني عبر قراءاتي في هذا الفن التعبيري. أيضا وجدت، ولعل هذا هو الأهم، أن ما أنجزته من توضيب للحوار وصياغة لسير حيوات سجلها أصحابها مشافهة، إنما يخاطبني أنا قبل غيري".

 مع تأمل هذا الاقتباس، ومع الاستمرار في قراءة هذا الفصل يتبين لنا أن المؤلف يحاول التعليق على ما سبق أن كتبه من شخصيات وأحداث يظنها روائية، بل ويقول لنا رأيه الشخصي في هذه الأحداث والشخصيات ويعمل على تحليلهم على لسان الراجي، وهذا ما لا يمكن اتساقه مع السرد الروائي؛ فبدا لنا الأمر كأنما محمد برادة يكتب مقالا نقديا عن روايته داخل الرواية نفسها.

لذلك حينما نقرأ: "أنا في المنطلق، كتبت الرواية لأنني انجذبت إلى نصوص سردية قرأتها ووجدت فيها متعة واستفادة، فقلت مع نفسي: لِمَ لا أجرب بدوري، خاصة وأنني عاطل عن العمل وفي ذلك ما يشغلني ويبعد عني الكسل والاجترار.. ثم إن مفهومي للتاريخ من خلال ما درسته في الجامعة، كان أقرب إلى معلومات ووثائق وتحليل للشروط الموضوعية التي تُحدد سياق الأحداث، وتبحث عن العبر التي يمكن أن نتزود بها من قراءة التاريخ". أظن أننا حينما نقرأ هذا الكلام على لسان الراجي، لا بد أن نرده في الحقيقة إلى محمد برادة نفسه؛ فهذا الحديث يصدق على برادة المؤلف وليس الشخصية الروائية التي حاول ابتكارها، أي أن برادة قال لنفسه فعليا: لم لا أجرب بدوري وأصبح روائيا، لكننا كنا نتمنى ألا يرد مثل هذا الخاطر على باله؛ لأنه حينما أخرجه إلى حيز التنفيذ أفسد السرد الروائي كثيرا، كما أفسد صورته في أذهان من يقرؤونه؛ فظهر لنا روائيا فاشلا أمامه الكثير من السنوات كي يتحسن- بافتراض إمكانية إجادته يوما في كتابة رواية-.

رواية "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات" للروائي المغربي محمد برادة من الأعمال الروائية التي تحاول جاهدة رصد الفساد السياسي في المغرب، لكنه لم ينجح في هذا الرصد الذي لا بد له أن يكون مضفورا مع الحكاية الروائية بشكل فني متقن، إلا أننا فوجئنا ببرادة يحرص على الرصد فقط وينقله كما هو من دون التواشج مع الشخصيات والأحداث الفنية؛ الأمر الذي جعل الرواية مباشرة تماما، ركيكة، تخلو من التخييل، أقرب إلى النقد السياسي، مما جعلها تخلو من اللغة الفنية، وتنحو باتجاه اللغة الصحفية التقريرية، كما أن أجزاء كبيرة منها تصلح كمقالات وليست صالحة للسرد الفني، هذا فضلا عن عدم اهتمام الروائي بمراجعة روايته في كل مستوياتها لا سيما المستوى النحوي والتدقيق اللغوي الذي جعل الرواية مهترئة لغويا حينما نقرأ "مبدإ" بوجود الهمزة تحت الألف بدلا من "مبدأ"، وقوله حينما يتحدث عن صديقته صاحبة الصيدلية: "أفسحتُ للصيدلية موقعا في حياتي" بدلا من قوله "الصيدلانية"؛ لأنه حينما يقول: أفسحت للصيدلية فالمقصود من ذلك هو المكان وليس صاحبة المكان، وكتابته "أثقل من ما" وكأنما الروائي لم يعرف من قبل أن حرفي "من، وما" إذا ما جاءا متتالين؛ فلا بد له من إدغامهما ليصيرا "مما"، ومثلها "أعطني من ما أعطاك الله" بدلا من "مما"، وقوله: "أستلقي إلى جانب العروسة" بدلا من "العروس"؛ لأن العروس في اللغة مذكر، وكتابته "مشاهد العشاء اللاتنسى" والصحيح "التي لا تُنسى"، و"تغيرت ملامحه عن ما" وهي مشكلة محمد برادة الذي لا يدغم ما يستحق الإدغام، والصحيح "عما"، وكتابته "الأسوإ" بدلا من "الأسوأ" بالهمزة فوق الألف وليس تحتها، وقوله في سابقة لم أقرأها في العربية من قبل: "حضور المعيوش" بدلا من "المعيش"؛ فليس هناك في اللغة العربية سوى "المعيش" فقط، أما المعيوش فهو ابتكار جديد ينفرد به برادة، وجهله الحقيقي لقواعد اللغة العربية التي تؤكد على أن الحرفين "في"، و"ما" إذا ما جاءا متتالين وكانت "ما" بمعنى الاسم الموصول؛ يظل الحرفين منفصلين، أما إذا لم تكن "ما" موصولة هنا يجب إدغام الحرفين ليصيرا "فيما" إلا أن برادة يستخدمهما على طول الرواية استخداما واحدا ويرتكن إلى الفصل الدائم بينهما "في ما".

 

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد إبريل 2022م

 

 

 

 

 

 

 

السبت، 23 أبريل 2022

المدعي العام والدفاع والأب وابنه وأوهام تحقيق العدالة!

في فيلم يعتمد اعتمادا أساسيا على وقائع حقيقية حدثت أثناء حرب البوسنة والهرسك حيث المذبحة التي وقعت في قرية جلوجوفا عام 1992م في البوسنة، وهي المذبحة التي راح ضحيتها 64 شخصا من المدنيين تعتمد المُخرجة والسيناريست البلغارية Lglika Triffonova إيجليكا تريفونوفا في تقديم فيلمها المهم The Prosecutor, Defender, Father And His Son المدعي العام، والدفاع، والأب وابنه؛ رغبة منها في إثبات أن العدالة لا يمكن لها بالضرورة أن تتحقق مهما سعينا إليها، وأنها ذات مفاهيم مُتعددة، بل إن المفهوم الأعمق للتسامح من المُمكن أن يكون أهم من هذه العدالة، كما أنها رغبت من خلال أحداث فيلمها تقديم رؤية مُقارنة مُهمة بين الشرق الأوروبي وغربه، وبين الجنوب الكاثوليكي الصارم المُتشدد، والشمال البروتستانتي الأكثر تسامحا.

إذن، فنحن أمام فيلم تدور أحداثه في لاهاي، مُستوحى من واقع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وربما نلاحظ أن المُخرجة تميل في أسلوبيتها السينمائية إلى انتهاج أسلوبية السينما الوثائقية في تقديم فيلمها الذي كان جزءا كبيرا منه يدور في قاعة المحكمة بشكل فيه من الرشاقة ما لا يمكن له أن يدفع بالمُشاهد إلى الشعور بالملل، وهو شكل من أشكال التحدي الخطير للمُخرجة حيث حرصت على الاهتمام بمشاهد المُحاكمة الطويلة التي أخذت جزءا كبيرا من وقت الفيلم، والتي كان من المُمكن لها أن تميل بفيلمها إلى الشعور بالتوقف؛ ومن ثم انصراف المُشاهد عن المُتابعة، لكننا لاحظنا أن هذه المشاهد تميزت بالكثير من الرشاقة والجاذبية، الأمر الذي ساعدها في الحفاظ على المُشاهدين.

يبدأ الفيلم داخل قاعة المحكمة الدولية في لاهاي حيث نشاهد المُدعي العام الصارم كاثرين- قامت بدورها الممثلة الفرنسية Romane Bohringer رومان بوهرينجر- القادرة بمهارة على الإمساك بخيوط المُحاكمة وتضييق الخناق حول كريستيتش- أدى دوره المُمثل البلغاري Krassimir Dokov كراسيمير دوكوف- مُجرم الحرب الصربي الذي ارتكب الكثير من الجرائم الإنسانية في البوسنة عام 1992م.


يواجه المُدعي العام/ كاثرين في هذه القضية الدفاع ميخائيل- أدى دوره المُمثل السويدي samuel fröler صموئيل فرولر- الذي تولى مُهمة الدفاع عن كريستيتش؛ لإيمانه القاطع بأن القانون هو المُنظم الأساس للعلاقات بين البشر.

تستعين كاثرين بشهادة ديان الشاب البوسني في القضية- أدى دوره المُمثل البلغاري الجنسية الأرميني الأصل Ovanes Torosian أوفانز توروسيان- والذي يؤكد أنه كان مُجندا ومتعاونا مع كريستيتش في جرائم الحرب التي تم ارتكابها، ويدعي أنه يتيم الأبوين لا يعرف والديه ولا ديانتيهما، وقد انضم هو والكثيرين من فريق كرة القدم الوطني الذي كان يلعب فيه كمتطوعين إلى إحدى الحركات شبه العسكرية الصربية، كما ساهم في إشعال بيوت المُسلمين ومساجدهم، وعزل رجال القرية عن نسائها، ثم إطلاق النار على الرجال، ورؤيته للجنود الصرب بقيادة كريستيتش يغتصبون نساء القرية، لكن المُتهم كريستيتش يعترف بهذه الجرائم في نفس الوقت الذي يؤكد فيه إنكاره بمعرفة الفتى أو رؤيته له من قبل.


يتشكك الدفاع ميخائيل في شهادة ديان، وحينما تنتهي الجلسة ينفرد به مع المُترجم ليسأله عن صدق ما قاله الفتى، لكنه يؤكد له مرة أخرى أنه لم يره من قبل، ولا يعرفه مما يثير حيرة الدفاع ليسأله عن السبب الذي يجعل الفتى يشهد عليه هذه الشهادة؛ ليرد عليه: الله نفسه سيعجز عن مُساعدتك على الفهم، إنه شيء مُختلف، شيء في دمائنا، لقد ولدنا به، البوسنة هي أرض الكراهية، وأي شخص لا يرغب في الانخراط في هذه الكراهية يصبح شخصا غريبا، وغالبا ما يكون شهيدا- مستشهدا في حديثه بكلمات للروائي أيفو أندريتش- لكنه حينما يتركه ويخرج برفقة المُترجم البوسني يبدأ المُترجم يحكي له عن الصرب وما فعلوه من مجازر في أهله، ومدى صلفهم الشديد وعدم اهتمامهم بأي شكل إنساني؛ لذلك يخبر ميخائيل في نهاية الأمر أن الصرب ليسوا في حاجة إلى الحماية كي يقوم بالدفاع عن المُجرم الصربي كريستيتش، أي أن تولي ميخائيل مُهمة الدفاع عن المُتهم يراها المُترجم البوسني في حقيقتها مُجرد مُهمة وضيعة وتواطؤ مع القتلة ممن لا يستحقون الحياة؛ فيرد عليه ميخائيل بهدوء: إذا لم يكن القانون موجودا كمُنظم للعلاقات بين البشر؛ سيتحول العالم إلى مكان مُرعب، إيمانا منه بأن القانون هو الذي لا بد له أن يسود، وربما كان المُتهم مظلوما فيما يوجه إلى من اتهامات.


لا يمكن إنكار أن ثمة مُباراة قانونية حقيقية بين كل من كاثرين/ المُدعي العام، وبين ميخائيل/ الدفاع، فهي ترى أن المُتهم الصربي مُجرم لا بد من مُحاكمته وسجنه جراء ما قام به من جرائم، وأن هذه العقوبة لا بد له أن ينالها بأي شكل من الأشكال لتحقيق العدالة التي تراها، بينما يرى ميخائيل أنه إذا كان لا بد من مُعاقبة المُدعى عليه وسجنه فهذا لا يمكن له أن يتم إلا في إطار القانون، أو الشكل المنطقي للقانون الذي لا بد له أن يؤكد إدانته، أما إذا عجزت الدلائل والقوانين على إدانة المُتهم فهو لا بد من خروجه والحصول على البراءة. أي أن كل منهما يحاول الوصول إلى تحقيق العدالة بطريقته الخاصة؛ الأمر الذي أدى إلى هذه المُباراة الشرسة بينهما.

يدفع تشكك ميخائيل في شهادة ديان إلى رحلة سافر فيها إلى البوسنة حيث قرية جلوجوفا محاولا من خلالها الوصول إلى حقيقة ديان، وهناك يلتقي بأبيه ألكسندر- قام بدوره الممثل البوسني Izudin Bajrović إزادين باجروفتش- وأمه التي قامت بدورها الممثلة المقدونية Labina Mitevska لابينا ميتيفسكا، ويسألهما عن وجود ولد لهما؛ فيؤكدان أنهما لم يعد لديهما أموال من أجل دفعها والبحث عنه، لكنه يؤكد لهما أنه لا يرغب في الأموال، بل يرغب في إيصالهما إلى ابنهما، وحينما يطلب منهما إحدى صوره يخبرانه أنه بسبب الحرب لم يعد هناك أي شيء لديهما؛ فلقد احترق كل شيء، لكن الأب يطلب من ميخائيل صورة الفتى الذي يتحدث عنه، فيخبره ميخائيل أن التصوير ممنوع في المحكمة، وهنا يطلب من الأب أن يرافقه إلى هولندا من أجل التوصل إلى ابنه والتأكد بأن الفتى هو ابنه بالفعل.

يسافر ألكسندر معه إلى هولندا، ويطلب ميخائيل شهادته في المحكمة، وحينما تبدأ الجلسة ينفي ديان معرفته بالرجل، لكن حينما يوجه القاضي نفس السؤال عن معرفة ألكسندر بالفتى؛ يلتفت إلى ديان ثم يترك كرسيه مُتجها إليه ليأخذه في حضنه باكيا؛ فيبادله ديان البكاء. هنا تتأكد المحكمة أن ديان قد كذب بشأن شهادته حينما أكد فيها أنه يتيم، ولا يعرف أبويه، وتُعاد الشهادة مرة أخرى، مع التوصية على إجراء تحليل DNA.


يتضح أن ديان اسمه الحقيقي ميرو لأم مُسلمة وأب مسيحي من البوسنة، وأنه كان مسجونا في سراييفو، وقد زاره مجموعة من الناس ليتفقوا معه على إرساله إلى هولندا- حيث كان هذا هو حلم حياته- في مُقابل الشهادة الزور ضد كريستيتش والتأكيد على أنه كان مُشاركا له في المذابح التي حدثت في البوسنة، كما عرضوا عليه صورا وفيديوهات تخص كريستيتش من أجل التعرف عليه في قاعة المحكمة؛ الأمر الذي يجعل شهادته بالكامل غير ذات فائدة؛ لعدم صدقها وإدعائها، وهو ما يعيد القضية إلى الصفر مرة أخرى؛ لعدم وجود أي دليل على المذابح أو الجرائم التي قام بها المُتهم.

تصر كاثرين، المُدعي العام، على الاستمرار في القضية مرة أخرى لإدانة كريستيتش الذي توقن بإدانته وإن كانت لا تمتلك بين يديها الدليل المادي على هذه الجرائم، لكنها تقول في مُقابلة تليفزيونية لها: أنا أؤمن بالعدالة العليا للقانون، أي أنها مُصرّة على إدانة المُتهم مهما كانت الأسباب. في حين يشعر ميخائيل بالكثير من الراحة والاطمئنان لسببين: الأول أنه قد نجح في إعادة الفتى ابن الثامنة عشر من عمره إلى أبوية المكلومين، والسبب الثاني أنه قد نجح في نفي التُهم التي تم توجيهها إلى المُتهم بشكل فيه من الادعاء والباطل ما لا يمكن قبوله، أي أن القانون هو المُنظم الأساس في العلاقات، ومن دون القانون لا يمكن أن تستمر الحياة، أو توجيه أي تهمة باطلة إلى المُتهم حتى لو كان مُدانا بالفعل، ولكن نتيجة لانتفاء الأدلة لا يجب لأحد الحكم عليه بالإدانة.


تتخذ كاثرين قرارا بعدم مُحاكمة ديان على الحنث باليمين في شهادته حتى لا تشوه صورة المحكمة وتدينها، بل يكون القرار الثاني لها هو ترحيل الفتى إلى البوسنة بشكل رسمي رغم أن هذا الترحيل لا بد له أن يعرض حياته للخطر هناك، واضطهاده من قبل سلطات بلاده؛ لأنه قد شهد عليهم شهادة ضمنية واتهمهم بالتواطؤ حينما أخبر المحكمة بالصفقة التي تمت في السجن هناك.

رغم أن القانون والدستور الهولندي يسمحان بإقامة الفتى في هولندا للحفاظ على حياته، ورغم أن الإجراء الذي كان لا بد أن يُتخذ هو تسليم الفتى إلى أبيه، إلا أن كاثرين قررت بقسوة ترحيل الفتى من دون توديع والده أو إخباره بالأمر، وكأنها في ذلك تحاول غلق باب هذه الشهادة من أجل الاستمرار مرة أخرى في محاولة إدانة المُتهم، ورغم أنها من خلال هذا الفعل تعمل على التضحية بالفتى وتعريض حياته للخطر مُناقضة في هذا الفعل إيمانها بالعدالة الذي دائما ما تدعيه.


تعمل الصحافة على مُهاجمة كاثرين/ المُدعي العام لمُخالفتها الدستور الهولندي في إعادة الفتى وترحيله، واتهامها بالقسوة مُخالفة في ذلك طبيعتها الأنثوية، ولكن لأن كاثرين كانت امرأة تؤمن بالعدالة العظمى- حتى لو لم يكن هناك دلائل قوية- ولأنها كاثوليكية مُتدينة؛ لم تعر الصحافة اهتماما وحاولت الاستمرار في قضيتها، بينما اتجه ميخائيل إلى السويد حيث والده العجوز ابن المُهاجر الروسي الذي يعيش في إحدى المصحات لرعاية كبار السن نتيجة إصابته بالزهايمر، وهناك يلتقي بالأب بينما يشعر بالكثير من راحة الضمير على ما فعله في المحكمة، ويبدأ في الحديث إلى الأب مُعتذرا له عن انشغاله طيلة الوقت رغم أنه يوقن تماما بأن أباه لا يعي أي شيء مما يحدثه فيه.

تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على ختام فيلمها بميخائيل الذي يأخذ أباه إلى حديقة دار الرعاية للمشي، بينما تكتب على الشاشة: أعاد المُدعي العام المُعين حديثا فتح القضية ضد كريستيتش وأُدين فعليا، ولا توجد معلومات رسمية يمكن الوصول إليها لمعرفة ما حدث للشاهد K109/ ديان، كما أصبحت القرية البوسنية التي كان يعيش فيها أبوي الفتى مأهولة بالسكان.


من خلال فيلم يسوده الكثير من التشويق ورشاقة المُونتاج تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على التأكيد بأن العدالة الحقيقية لا يمكن تحقيقها بسهولة، فهي تختلف في مفهومها من شخص إلى آخر، وإذا كان مفهوم العدالة بالنسبة للمُدعي العام/ كاثرين يتحدد في إدانة كريستيتش بأي وسيلة من أجل الجرائم التي قام بها، فإن نفس المفهوم بالنسبة للدفاع/ ميخائيل ينحصر في سيادة القانون، واستحالة إدانة أي شخص مهما كان الشك في جرائمه إلا من خلال دلائل قانونية قاطعة على هذه الإدانة، في حين أن نفس المفهوم بالنسبة للأب ألكسندر يراه في أن العمر ليس بالطول الكافي الذي يجعلنا نكره الآخرين، وأننا لا بد لنا من التسامح في نهاية الأمر، كما أنه يرى أن إدانة وحبس جميع المُتهمين في هذه القضايا لا يمكن له أن يعيد إليهم أهلهم وأحبابهم مرة أخرى، وبالتالي فالتسامح هو السبيل الأهم من أجل تحقيق العدالة!

كما لا يفوتنا ميل المُخرجة في فيلمها إلى المُقارنة المُهمة بين الغرب القاسي في تعاملاته وتعاليه على الآخرين، والشرق الطيب المُتسامح الذي يعيش الحياة بحب من دون أي تعقيد، كذلك المُقارنة بين الجنوب الأوروربي الكاثوليكي المُتشدد الذي يتمثل في المُدعي العام كاثرين في مقابل الشمال البروتستانتي المُتسامح دينيا الذي يتمثل في ميخائيل، وهي المُقارنة التي نجحت فيها المُخرجة بشكل جيد يميل إلى التلقائية والبساطة؛ وبالتالي ابتعدت عن القصدية التي كان من المُمكن لها أن تفسد فيلمها.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الشبكة العراقية.

عدد 15 إبريل 2022م.