الجمعة، 15 أبريل 2022

الموجة.. السينما النرويجية في مواجهة رابحة مع السينما الأمريكية!

رغم اعتياد مُشاهدي السينما في العالم على أن السينما الأمريكية هي الأكثر براعة وإتقانا في صناعة أفلام الكوارث الطبيعية؛ نتيجة وفرة العدد المُنتج من الأفلام، وتوفر الميزانيات الضخمة المُتاحة من أجل صناعة هذه الأفلام الكبيرة الكلفة، إلا أن ثمة سينمات أخرى قادرة على صناعة هذه النوعية من الأفلام ببراعة تستطيع من خلالها، وإتقانها، وفنيتها المُتميزة على تحدي السينما الأمريكية، بل والتفوق عليها أيضا في هذا اللون من السينما.

هذه المُنافسة الحامية في الصناعة تتضح لنا بشكل جلي حينما نشاهد الفيلم النرويجي The wave الموجة، أو Bølgen حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة النرويجية للمُخرج النرويجي المُتميز Roar Uthaug روار أوثوج الذي نجح في تقديم فيلم يكاد أن يصل إلى درجة الكمال الفني مُستغلا في ذلك كافة الإمكانيات الفنية المُتاحة أمامه من أجل نجاح فيلمه لا سيما التصوير الذي كان هو البطل الرئيس في هذا الفيلم؛ وبالتالي نجح في المُنافسة مع السينما الأمريكية، بل وتغلب عليها في صناعة هذا الشكل من الأفلام؛ الأمر الذي يضع الصناعة الأمريكية في مأزق مخزي أمام ما قدمته السينما النرويجية.

نحن أمام فيلم قادر على أن يجعلك مشدودا على أطراف مقعدك، غير قادر على الطرف بعينيك للحظة واحدة إلا بعد انتهاء أحداثه؛ نتيجة للتوتر الشديد الذي ستشعر به مع توالي مشاهد الفيلم المُتميزة بالحيوية والسرعة، والمُنذرة دائما بالخطر والكارثة التي هي على وشك الوقوع، ساعد المُخرج في ذلك المُونتاج الحيوي المُتلاحق الذي يجعلك غير قادر على التقاط أنفاسك فتظن أنك تلهث مع جميع أبطال الفيلم، واختياره المُوفق للتعاون مع المصور النرويجي John Christian Rosenlund جون كريستيان روزنلوند الذي قدم لنا مجموعة من اللقطات والمشاهد الساحرة التي يصلح كل منها- على حدة- لأن يكون كارت بوستال للمناظر الطبيعية الخلابة في النرويج، أي أن المُخرج قد نجح أيما نجاح في جعل المُشاهد يشعر بالمُتعة البصرية البالغة بالتعاون مع مصوره الماهر.

يتخيل المُخرج النرويجي روار أوثوج السيناريو الذي من المُمكن له أن يحدث في حالة انهيار جبل أكيرنيست غير المُستقر جيولوجيا، والذي تقع أسفله بلدة سياحية بمثابة القنبلة الموقوتة إذا ما حدث أي انهيار مفاجئ للجبل في قلب المضيق البحري الذي يفصل المسافة بين البلدة وبينه، إن هذا الانهيار المُوشك والمُنتظر سيؤدي بالضرورة إلى حالة ضخمة من المد والجزر العنيف الذي من شأنه أن يغرق القرية بأكملها بجدار مائي هائل ويدمرها تماما.


مثل هذه القرية السياحية موجودة بالفعل في النرويج أسفل الجبال المُتحركة التي تمثل الطبيعة الصخرية والجبلية للنرويج بالكامل؛ لذلك يبدأ المُخرج فيلمه في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre بتقرير إخباري على التلفاز يصحبه فيلم تسجيلي عن الانهيارات الجبلية السابقة في النرويج؛ وهو الفيلم الوثائقي الذي يؤكد أنه في ليلة 15 يناير 1905م ثمة شيء ما أزعج الناس من نومهم عندما حدث انهيار جبلي ضخم بلودلاين في نوردفورد، والذي سبب فيضانا هائلا أودى بحياة 63 شخصا، حيث اجتاحت مياه الفيضانات بلدة لوفاتنت بارتفاع 50 مترا، كما مرّ 58 عاما على كارثة تافورد بمُقاطعة سانمور حيث خسر 40 شخصا حياتهم بعد سقوط صخرة ضخمة في البحيرة، ويذكر الفيلم الوثائقي أن الباحثين يؤكدون أن هناك ثلاثمائة جبل غير مُستقر في النرويج اليوم، وأن الجميع يعرفون أنها مسألة وقت فحسب قبل حدوث الانهيار التالي، ويُذكر أن قرية جيرانجير قد تعاني من الكارثة التالية، وهي القرية التي تقبع مُباشرة فوق مضيق بحري، وكتل صخرية ضخمة غير مُستقرة ومُستعدة للانهيار، حيث سيسقط معها 7 مليون متر مُكعب من الصخور؛ لتصنع موجة تسونامي مهولة، ويؤكد أن الصدوع تتسع بالفعل، ولا يوجد مكان كهذا فيه نشاط جيولوجي مُستمر، والسؤال هو: هل يمكن تحذير الناس قبل انهيار الجبل في الممر المائي؟


إن هذا التقرير التليفزيوني- الذي حرص المُخرج على سوقه في مشاهد ما قبل التيترات- والمصحوب بالفيلم الوثائقي عن الانهيارات الجبلية التي سبق لها أن حدثت من الأهمية بمكان ما يجعلنا نفهم الأحداث التي يمهد لها المُخرج من أجل عرضها؛ فهو من خلال هذا التساؤل الإخباري يتخيل إمكانية تحرك الجبل في قرية جيرانجير وسقوطه في المضيق البحري بالفعل؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى موجة هائلة من المد والجزر التي ستشكل جدارا مائيا مندفعا بارتفاع 80 مترا فوق مستوى سطح البحر! ولا يمكن في هذه الحالة إنقاذ السكان- الذين لن يكون أمامهم أكثر من عشر دقائق- إلا بالصعود إلى التلة التي تعلو فوق الثمانين مترا.

نشاهد مع بداية الفيلم كريستيان- قام بدوره المُمثل النرويجي Kristoffer Joner كريستوفر جونر- الجيولوجي الذي يعمل في مركز الإنذار المُبكر في القرية السياحية، وهو المركز الذي يتابع عن كثب مدى تحرك صخور جبل أكيرنيست، ومستوى المياه الجوفية فيه، لكننا نعرف أن كريستيان يستعد لهجرة القرية هجرة دائمة والانتقال مع أسرته إلى المدينة ليعمل هناك مُهندسا للبترول.

تعمل إدين/ زوجة كريستيان- قامت بدورها المُمثلة النرويجية Ane Dahl Torp آني دال تورب- في فندق القرية السياحي الشهير، ونلاحظ أنها غير مُتحمسة هي وابنها الكبير المُراهق/ ساندري- قام بدوره المُمثل النرويجي Jonas Hoff Oftebro جوناس هوف أوفتيبرو- بمغادرة القرية، لكن كريستيان يرى أن المغادرة هي الأفضل لمُستقبلهم جميعا.

يتجه كريستيان إلى مركز الإنذار المُبكر، حيث يعمل، من أجل جمع مُتعلقاته، وهناك تعطي الأجهزة إشارة إلى أن منسوب المياه الجوفية في الجبل قد انخفض فجأة كما أن الإشارة قد انقطعت؛ الأمر الذي يجعله يشعر بالكثير من القلق، لكن زملائه يؤكدون له أن كل شيء على ما يرام، وأن الجبل مُستقر تماما.


في الوقت الذي تنشغل فيه أسرة كريستيان في جمع حاجياتهم من أجل مُغادرة القرية في اليوم التالي، نراه يجلس أمام جهاز اللاب توب مُراقبا منسوب المياه الذي انخفض في الجبل، لكن زوجته تخبره أنه قد ترك العمل وعليه ألا يشغل باله بالأمر، وأثناء خروجه من البلدة بسيارته مع ابنته/ جوليا، وابنه يعود أدراجه مُسرعا إلى مركز الإنذار المُبكر ليؤكد لزملائه أن الجبل في طريقه للانهيار، وأن انقطاع الإشارة سببه انهيارات مبدئية أدت إلى اختفاء المياه الجوفية وقطع الكابلات التي توصل إليهم الإشارة من الجبل، ويتجه بالفعل مع زميل له للنزول في الصدع الجبلي وهناك يتأكدون أن الكابلات قد انقطعت بسبب حركة الصخور.

يطلب منهم كريستيان إطلاق صافرة الإنذار، لكن زملائه يعترضون مهونين من الأمر، ويؤكدون له أنه يبالغ في قلقه. ينصاع كريستيان لهم ويخرج ليجد أبنائه ليسوا في السيارة وقد كتبوا له رسالة بأنهم قد ذهبوا إلى أمهم في الفندق.


يعود كريستيان إلى زوجته الغاضبة لتركه الفتاة والفتى في السيارة وعودته إلى المركز الذي لم يعد يعمل فيه، وبما أن الوقت قد تأخر على الرحيل خارج البلدة تعرض على الأبناء أن يبيتا ليلتهما في إحدى غرف الفندق؛ نظرا لإخلائهم المنزل، لكن الفتاة الصغيرة تطلب من أبيها أن تبيت ليلتها في البيت لتلقي عليه النظرة الأخيرة؛ فيوافق كريستيان ويذهب إلى البيت معها، ليبقى ساندري مع أمه في الفندق.

يظل كريستيان مُنشغلا بالصخور المُتحركة في الجبل، وهو الأمر الذي ينذر بكارثة، وتتعطل الأجهزة جميعها بالفعل في مركز الإنذار المُبكر لتشير إلى انخفاض مستوى المياه الجوفية في كل المستويات، وهنا يحاول مهندسان في المركز الهبوط ليلا إلى الصدع لمعرفة ما الذي يحدث هناك في الحين الذي يهاتفهم فيه كريستيان ويعرف ما حدث، ويؤكد لهم أن هذه مُؤشرات انهيار للجبل وأنهم عليهم أن يطلقوا صفارات الإنذار، ويطلب من زميليه الصعود فورا من الصدع، لكن الجبل لا يعطيهم أي فرصة ويبدأ بالفعل في التصدع.


تنطلق صفارات الإنذار في القرية التي لا يكون أمامها سوى عشر دقائق فقط للإنقاذ قبل انطلاق التسونامي الذي من شأنه أن يدمر أي شيء قد يعترض طريقه، ويسرع كريستيان بسيارته مع ابنته للصعود إلى أعلى التلة، لكن الطريق يتوقف بسبب اختناق السيارات، ويحاول الذهاب إلى زوجته في الفندق، لكنها تطلب منه النجاة والصعود مع الطفلة، وأنها ستلحق بهما مع أتوبيس الفندق بعد إخلائه من النزلاء.

حينما يتوقف الطريق وينظر كريستيان في ساعته ويعرف مدى ارتفاعهم، يسرع بالنزول من سيارته طالبا من جميع المُنتظرين الهبوط والركض جريا على الأقدام إلى أعلى التلة لعدم وجود وقت كاف لهم، ولأن إحدى السيارات ترجع إلى الخلف بعد هبوط صاحبها وهربه فتضغط على ساق جارته مع السيارة الواقفة خلفها ولا تستطيع الحركة مع اقتراب الجدار المائي الضخم الذي بدا لهم في الأفق، يسلم كريستيان ابنته إلى زوج السيدة ويطلب منه الإسراع في الصعود ويخبره أنه سيعمل على إنقاذ زوجته، لكنه بعدما يخلصها من المأزق الذي كانت فيه يتأكد له أنهما لم يعد لديهما المزيد من الوقت فيدخلا إحدى السيارات ويربطا حزام الأمان ويغلقان السيارة في انتظار اصطدام المياه بهما، وبالفعل يضيعا معا في غيبوبة طويلة.


يحرص المُخرج على الانتقال المُونتاجي بين ما يحدث مع كريستيان، وما يحدث مع زوجته في الفندق التي تنجح في إخلائه تماما من الضيوف لكنها في اللحظة التي كانت تتأهب فيها لركوب الأتوبيس للهروب تتذكر أنها لم تر ابنها ساندري، فتعود مرة أخرى إلى داخل الفندق للبحث عنه، وحينما تجده في ممر قبو الفندق يلعب بلوح التزلج وقد وضع السماعات لسماع الموسيقى على أذنيه تسرع معه للحاق بالأتوبيس الذي كان قد غادر. هنا تسرع مع سيدة وزوجها إلى المخبأ الموجود في قبو الفندق بينما المياه الغاضبة تلاحقهم وينجحون في دخول المخبأ بعدما تكون السيدة المُصاحبة لهم قد ماتت غرقا.

حينما يفيق كريستيان تكون جارته الجالسة إلى جواره في السيارة قد ماتت، فيحاول تخليص نفسه جاهدا والخروج للبحث عن ابنته التي يجدها مع جاره، ويحاول الاتصال بزوجته لكنه يجد الهاتف خارج نطاق الخدمة، هنا يقرر ترك الصغيرة/ جوليا مع جاره والتوجه للبحث عن الزوجة والابن. لكنه أثناء تجوله بين الخرائب التي نتجت عن الفيضان الضخم يجد أتوبيس الفندق مقلوبا، وحينما يدخله متجولا بين الجثث لا يجد زوجته أو ابنه؛ الأمر الذي يجعله يسرع إلى الفندق.


يتجول كريستيان في خرائب الفندق، ويعثر على مُتعلقات ابنه في إحدى الغرف، فيظنه قد مات، ويضرب بقضيب حديدي غاضبا على الجدار، وهو ما يجعل زوجته العالقة داخل المخبأ الذي امتلأ بالماء حتى حافته تسمع ضربه فتغوص تحت الماء للبحث عن شيء معدني تستطيع به الطرق على فتحة التهوية المعدنية علّ من في الخارج ينتبه إليها.

يصل صوت الطرق المعدني إلى كريستيان الذي يهبط إلى ممر القبو المغمور تماما بالماء، وحينما يغطس محاولا فتح باب المخبأ المعدني يجد الكثير من الحجارة التي تعوقه فيحاول تحريكها من أجل فتح الباب، وينجح بالفعل في إنقاذ زوجته، ويعود مرة أخرى لإنقاذ الابن.


يغطس الأب وابنه من أجل الخروج من خلال ممر القبو المغمور بالماء، ولكن الابن يكاد أن يلفظ أنفاسه؛ الأمر الذي يجعل الأب يمسك أنفه ويدفع بالهواء من صدره في فم الابن كي يستطيع المواصلة للخروج، لكن هذا الفعل يؤدي إلى نفاذ الهواء من رئتي الأب وغرقه أسفل الماء.

تغطس الزوجة لإنقاذ زوجها، وتسحبه إلى الخارج محاولة، جاهدة، هي وابنها الضغط على صدره ومنحه قبلة الحياة من أجل إعادته للتنفس مرة أخرى، لكنها تيأس في نهاية الأمر وتغلق عينيه، وهو الأمر الذي لا يقبله ساندري/ الابن الذي يعاود المُحاولة جاهدا حتى يعود التنفس مرة أخرى إلى كريستيان، ويعود ثلاثتهم إلى أعلى التلة حيث الابنة الصغيرة جوليا.

يحرص المُخرج على أن يكتب على الشاشة بعد مشهد النهاية: الشقوق في أكيرنيست تتم مراقبتها يوميا، والصدوع تزداد 15 سنتيمتر في العام، وكل الخبراء مُتفقين على الانهيار الحتمي، لكنهم لا يعرفون متى سيحدث، أي أن المُخرج يؤكد لنا من خلال هذه الجمل على الشاشة في نهاية فيلمه، أن الفيلم الذي قام بصناعته كان مجرد صرخة تحذيرية، ومجرد سيناريو مُستقبلي لما يمكن له أن يحدث في هذه القرية إذا ما انهار الجبل فجأة؛ ومن ثم فعلى السلطات المعنية بالأمر اتخاذ احتياطاتها أو محاولة إخلاء القرية المُعرضة للخطر الدائم، والتي تُعد بمثابة قنبلة موقوتة في انتظار كارثة طبيعية وإنسانية في أي وقت.

إن الفيلم النرويجي الموجة للمُخرج روار أوثوج يُعد من أهم أفلام الكوارث الطبيعية في تاريخ السينما النرويجية، وهو الفيلم الذي استطاع مُخرجه إثبات أن الأفلام الكبيرة ليس شرطا لصناعتها توفير ميزانيات ضخمة كما تفعل هوليوود، بل يمكن صناعة أفلام كبيرة تتميز بالإتقان الفني من خلال ميزانيات صغيرة؛ حيث لم تتجاوز ميزانية هذا الفيلم الستة ملايين دولار رغم أهميته وقدرته على المُنافسة مع السينما الأمريكية الضخمة الإنتاج، بل ووضعها في مأزق مُخجل يؤكد لها أن إتقان صناعة أفلام الكوارث الطبيعية من المُمكن لغيرها من السينمات أن تقدمه بشكل أفضل منها، وأكثر فنية.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية

عدد إبريل 2022م

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق