الثلاثاء، 5 أبريل 2022

هاني لاشين: سينما الحرب على الفساد

في حوار له مع الصحفي سعيد ياسين يقول المُخرج هاني لاشين عن السينما المصرية: "منذ العام 1990م والسينما تُشيع
جنازتها يوميا؛ إذ دخلنا في مجموعة كبيرة من المُشكلات، ولم يعد هناك حديث غير الكلام عن مُشكلة السينما من دون طرح حلول لها، ووسط هذا المناخ غير المُستقر، أو غير الواضح المعالم تحدث "لخبطة" لدى الفنانين. وما يحدث معي أن اللغة السائدة لا تتسق معي؛ لأن السينما بالنسبة إليّ ليست حرفة أعتاش منها، لكنها أمر مُقدس ورسالة كبيرة، تحديدا في مصر، ولا أقصد أن تكون سينما مُتعالية على الجمهور، أو تُناقش قضايا كبيرة، ولكن يمكن أن توجد أفلام بسيطة لكنها تحترم المُتفرج وترتقي به. قد تكون مشاريعي السينمائية مُكتملة فنيا، لكن فيها مُخاطرات كبرى من الناحية التجارية، ولا يُعقل أن أنفذ فيلما وأشاهده بمُفردي ولا يأتي بإيرادات؛ لأن السينما تجارة وصناعة وفن. وهذا الأمر واضح في المحاولات الجادة التي حدثت خلال الأعوام العشرة الماضية؛ إذ لم تلاق أفلام جادة لمُخرجين مُحترمين أي نجاح جماهيري، في وقت حققت فيه أفلام مُسفة نجاحا مُنقطع النظير"، وحول إجابته عن السؤال الذي يقول: يتهمك البعض بأنك هربت من السينما يقول: "ليس هربا؛ فأنا عاشق للسينما وحريص على جودة ما أقدمه فيها. يمكنني "اللعب في أي حتة" أخرى غير السينما؛ لأنها تُعتبر صلاة بالنسبة إليّ، وغياب المُنتج الفني كان سببا أساسيا في احتجابي عنها؛ لأن المُنتج الموجود الآن يبحث عن المكسب المادي فقط، وفي سبيل ذلك يعمل أي شيء ولا يرقى إلى مستوى قضية نتحدث فيها. وكان عليّ إما الوقوف من دون عمل، وإما الاتجاه إلى التليفزيون الذي له إيجابيات كثيرة، منها الحرية في اختيار المواضيع، وعدد الجمهور الذي يشاهدك، وأعتقد أن دخول مُخرجي السينما إلى التليفزيون مكسبٌ لهم؛ لأنه يُسهم في تغيير الشكل التقليدي للدراما التليفزيونية، وكما قلت لك: إن السينما منطقة شديدة القدسية، فأين محمد خان، وخيري بشارة؟ الأفلام المُهمة لا تنجح جماهيريا، فهل المطلوب منا عمل مسخرة؟!"[1].
من فيلم الأراجوز

إذن، فالمُخرج الذي ابتعد عن صناعة السينما المصرية يحاول هنا تبرير توقفه عن صناعتها ولجوئه إلى العمل مع التليفزيون الذي بدأ معه من خلال فيلمه الأول "أيوب" 1984م، أي أنه بدأ منه وانتهى إليه مرة أخرى؛ حينما وجد أن ظروف صناعة السينما لم تعد تناسبه، وهو لا يرغب في تقديم أي شكل من أشكال التنازلات على حساب العمل الفني.

حصل هاني لاشين على دبلوم المعهد العالي للسينما قسم الإخراج عام 1976م، وعمل في بداية حياته الفنية كمُساعد مُخرج مع المُخرج حسن الإمام، كما قام بصناعة الكثير من الأفلام التسجيلية، وفي عام 1984م فكر المُخرج في صناعة فيلمه الروائي الأول "أيوب" من خلال جهاز التليفزيون الذي كان يقوم بالإنتاج في ذلك الوقت، وهو الفيلم الذي قدم من خلاله المُمثل عمر الشريف مرة أخرى للجمهور المصري بعد توقف لمُدة تقرب من العشرين عاما كان الشريف حينها يعمل من خلال السينما العالمية بعيدا عن مصر.

من فيلم أيوب

في فيلمه التليفزيوني الأول "أيوب" يحاول المُخرج فضح الفساد الذي ساد المُجتمع المصري من خلال الكثيرين من رجال الأعمال الطفيليين الذين نشأوا بعد فترة الانفتاح الاقتصادي من خلال أحد رجال الأعمال. يتحدث الفيلم عن المليونير "عبد الحميد السكري" العائد من الخارج بعد حصوله على مقاولة مشروع كبير رغم صعوبة المُنافسة. يتوجه المليونير مُباشرة من المطار لمقر شركته؛ لمُتابعة بدء التنفيذ، غير أنه أُحبط بعد عدة معوقات أدت لإصابته بشلل نصفي. تُصرّ زوجته "أفكار" على سفره للخارج من أجل العلاج، ويتولى ابنه "وفيق" إدارة المُؤسسة بدلا منه. يعود السكري من رحلة علاجه على كرسي مُتحرك، ويلزم البيت، وكان حريصا على عدم تعاون مُؤسسته مع خصمه اللدود "فاضل بيه" الذي كان يكن له كراهية شديدة. في المنزل كانت الزوجة مشغولة بالمظاهر الاجتماعية وبأصدقاء النادي، كما كانت ابنته الوحيدة "نبيلة" الطالبة في كلية الطب مشغولة بصديقها المُهندس "حامد" الذي يسعى ليكون عصاميا ويرفض وساطتها له للعمل في مُؤسسة أبيها، ويسافر للخارج لكنه يفشل، ويقرر العمل في إحدى المُدن الجديدة في الصحراء، كما يتقدم لخطبة نبيلة مع وعد بالكفاح ليكون جديرا بها؛ فيوافق السكري على خطبة ابنته إذا ما وفى حامد بوعده له. يزور السكري زوج أخت زوجته ويتذكر رفيق شبابه الدكتور "جلال أبو السعود" الذي جاء لزيارته واستعادا ذكريات الماضي. يصارحه صديق الطفولة- جلال- أن استسلامه للكرسي المُتحرك سيؤخر شفاءه، وأن أكبر معوق لنا هو حجم الكذب بداخلنا، وأفضل شيء للتخلص من هذا الكذب هو مُصارحة أنفسنا والتصالح معها، وهنا ينصحه بكتابة مُذكراته لمُجرد التذكرة فقط، ولكن السكري يقرر طباعة مُذكراته ويسميها "مليونير يفتح أوراقه"، ويعهد بها لزوج شقيقة زوجته ليطبعها بعد تعديل العنوان إلى "أيوب يفتح أوراقه"، يذكر في المُذكرات أنه كان موظفا درجة ثامنة في وزارة الأشغال، ولأن طموحه أكبر من إمكانياته؛ فقد قبل رشوة من فاضل بيه، ولما كُشف أمره أُجبر على الاستقالة؛ فتلقفه فاضل بيه بمُرتب مُغر، وكان يسافر للخارج لإحضار حقيبة لفاضل بيه، وبها الكثير من الممنوعات، وحينما أراد الاستقلال بعمل خاص وطلب مُساعدة فاضل؛ طلب منه في المُقابل أن يتزوج صديقته الإيطالية "كريستينا"؛ لتحصل على الإقامة، ويسلمها لفاضل بيه فيما بعد. يبدأ عبد الحميد السكري مشروعه في الاستيراد والتصدير وسط حيتان السوق، وحينما أراد مبلغا كبيرا لدفع رشوة؛ استغل حاجة كريستينا للطلاق وطلب مبلغا كبيرا من فاضل، وصارت بينهما حربٌ، وهكذا باتت المُذكرات تروي أفعاله الدنيئة للوصول للثروة، وهي المُذكرات التي تدينه وتدين كل من تعاون معهم من المسؤولين؛ الأمر الذي أدى إلى حرق المطبعة التي ستطبع المُذكرات، لكن السكري يُصرّ على إعادة طبع المُذكرات رغم اعتراض عائلته، وفي أثناء نومه يتعرض لكابوس يؤدي إلى شفائه من الشلل، ويتابع طبع كتابه؛ ليُفاجأ بطلق ناري من قناص، ويحاول حماية وجهه بالمُذكرات.


من خلال الفيلم الأول الذي قدمه المُخرج هاني لاشين يتضح لنا حرص المُخرج على تقديم قضية مُهمة تتناول الفساد في صعود العديدين من رجال الأعمال إلى قمة المُجتمع المصري من خلال طُرق ملتوية؛ ليكونوا طبقة طفيلية لا هم لها سوى المزيد من الفساد والإفساد في هذا المُجتمع، وامتصاص دماء الفقراء، ولكن رجل الأعمال الذي أُصيب بأزمة طارئة وحاول بسببها أن يتطهر مما فعله طوال حياته لا يستطيع الاستمرار في فعل التطهر؛ لأن مافيا الفساد ومنظومتها- التي لا يمكن لها أن تسمح له بذلك وإلا سقطت- وقفت له بالمرصاد وفكرت في تصفيته جسديا؛ لمنع فضيحة الكثيرين منهم والمتورطين معه في أعمال الفساد التي قام بها، أي أن المُخرج رغم محاولته الحديث عن الفساد الذي لا بد له من أن ينتهي يؤكد في ذات الوقت أن شبكة الفساد أقوى كثيرا من الواقع، والآمال، والأحلام في التطهر، وأنه لا يمكن لشخص دخلها أن يخرج منها إلا من خلال تصفيته جسديا.

رغم أهمية الفيلم الذي قدمه هاني لاشين إلا أنه لم يكن من الأفلام التي اهتم بها النقاد كثيرا؛ لأنه من إنتاج التليفزيون المصري؛ ومن ثم اعتبروا أن البداية الحقيقية للمُخرج كانت مع فيلمه الثالث- كان بينهما فيلم "عندما يأتي المساء" 1985م، وهو من إنتاج التليفزيون المصري- "الأراجوز" 1989م الذي أُنتج للسينما، وهو الفيلم الذي تعاون فيه أيضا مع المُمثل عمر الشريف للمرة الثانية، وقد كان من أهم الأفلام التي قُدمت في هذه الحقبة من تاريخ السينما المصرية؛ حيث تميز الفيلم بقدر كبير من الشاعرية والإحساس الإنساني العذب، ومحاولته التعرض للانهيارات التي حدثت في المُجتمع المصري منذ نكسة يونيو 1967م حتى نكسة الانفتاح الاستهلاكي بعد حرب أكتوبر 1973م؛ فالأحداث تبدأ قبل حرب يونيو مُباشرة؛ لنرى الفساد الداخلي المُتمثل في العُمدة، وموظف الجمعية، وفي مُنتصف الفيلم تقع حرب أكتوبر، ثم لا نلبث أن نرى أبشع صور الانفتاح الاستهلاكي حيث يبيع الولد أمه، وزوجة أبيه، ويعذب زوجته، بل ويضع أباه في السجن.


يتناول الفيلم "محمد جاد الكريم" أراجوز القرية الذي لا يتوقف عن فضح الفساد أو قول الحق من خلال عمله كأراجوز، فهو يرى أنه يستطيع توعية الناس ومُحاربة الفساد من خلال بساطة مهنته وقوة تأثيرها المُباشر على الناس في نفس الوقت. لديه ابن اسمه بهلول، لكنه، للأسف، لم يستطع أن يعلمه القيم والأخلاقيات التي يتمسك هو بها. يستطيع جاد الكريم أن يعلم ابنه حتى يتخرج في الجامعة، لكن الابن يتبرأ من أبيه الذي يُخجله اجتماعيا فيما بعد ولا يرغب في رؤيته ويهاجر إلى المدينة. كان الابن مُتمردا ساخطا على مهنة أبيه ولديه طموح كبير وإصرار على أن يغير من أحواله الاجتماعية والاقتصادية، يقابل الابن أحد رجال الأعمال الفاسدين الذي كان من أهل بلدته؛ فيتقرب منه ويعمل لديه، ثم يتقرب من ابنته التي تحبه وتتزوجه. يريد رجل الأعمال إنشاء مشروع سياحي كبير في الأرض الزراعية في البلدة؛ فيقف له الأراجوز حائلا دون إتمام المشروع، وهنا يقف أمام ابنه بهلول الذي يُساند رجل الأعمال، لكن مقاومة الأراجوز للفساد تبوء بالفشل؛ بسبب الوعود والأماني والأحلام التي يعد بها الابن بهلول أهالي القرية الفقراء، ويكتشف رجل الأعمال أن زوج ابنته بهلول يُخطط لكي يكون هو صاحب المشروع وحده، وأن يدخل البرلمان بدلا منه؛ فيقف له، لكن بهلول يهدد الرجل بابنته؛ فيرضخ له، إلا أنه يسلط عليه أحد رجاله لقتله، وهنا تأتي الرصاصة في زوجة أبيه الأراجوز قبل أن تضع حملها؛ فتضع مولودا جديدا للأراجوز، بينما تتوفى هي ليصبح الأراجوز مرة أخرى وحيدا، ويعمل على أن يربي الأراجوز الصغير على القيم والمبادئ محاولا تصحيح ما وقع فيه من أخطاء سابقة في تربية ابنه بهلول.


في هذا الفيلم يحذر هاني لاشين من التجريف الحقيقي الذي وقع للمُجتمع المصري بأكمله لا سيما القرية المصرية التي بدأت تفقد خصوصيتها وطيبة أهلها بهجرة مُعظم أبنائها للمدينة بحثا عن المال ومن أجل الهروب من طبقتهم الاجتماعية إلى طبقة اجتماعية أعلى، فضلا عن الفساد الاجتماعي الذي ساد المُجتمع بالكامل نتيجة سياسة الانفتاح الفاسدة التي انتهجها وأصرّ عليها السادات منذ السبعينيات، وهي السياسة التي تركت بأثرها على الجميع حتى اليوم؛ الأمر الذي أدى إلى تغير جذري في شكل المُجتمع المصري فيما بعد.

إذن، كان المُخرج هاني لاشين من المُخرجين المُهمين الذين ساهموا بأفلام لا يمكن إغفالها في تاريخ السينما المصرية لا سيما في حقبة الثمانينيات؛ ليكون من المُخرجين المُتميزين في هذه الحقبة جنبا إلى جنب مع مُخرجي الواقعية الجديدة، وبالتالي كان امتدادا مُهما لهم فيما قدمه من أعمال سينمائية.

 

محمود الغيطاني 

مجلة نقد 21

عدد إبريل 2022م

 

من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م".

الجزء الثاني من الكتاب.



[1] انظر حوار المُخرج بعنوان: "أبرز أعماله "أيوب" و"الأراجوز". هاني لاشين: سينما الشباب أخرجتنا من البطل الأوحد"/ أجرى معه الحوار سعيد ياسين/ جريدة الحياة الدولية/ 30 مارس 2001م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق