إذن، فنحن أمام فيلم تدور أحداثه في لاهاي، مُستوحى من واقع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وربما نلاحظ أن المُخرجة تميل في أسلوبيتها السينمائية إلى انتهاج أسلوبية السينما الوثائقية في تقديم فيلمها الذي كان جزءا كبيرا منه يدور في قاعة المحكمة بشكل فيه من الرشاقة ما لا يمكن له أن يدفع بالمُشاهد إلى الشعور بالملل، وهو شكل من أشكال التحدي الخطير للمُخرجة حيث حرصت على الاهتمام بمشاهد المُحاكمة الطويلة التي أخذت جزءا كبيرا من وقت الفيلم، والتي كان من المُمكن لها أن تميل بفيلمها إلى الشعور بالتوقف؛ ومن ثم انصراف المُشاهد عن المُتابعة، لكننا لاحظنا أن هذه المشاهد تميزت بالكثير من الرشاقة والجاذبية، الأمر الذي ساعدها في الحفاظ على المُشاهدين.
يبدأ الفيلم داخل قاعة المحكمة الدولية في لاهاي حيث نشاهد المُدعي العام الصارم كاثرين- قامت بدورها الممثلة الفرنسية Romane Bohringer رومان بوهرينجر- القادرة بمهارة على الإمساك بخيوط المُحاكمة وتضييق الخناق حول كريستيتش- أدى دوره المُمثل البلغاري Krassimir Dokov كراسيمير دوكوف- مُجرم الحرب الصربي الذي ارتكب الكثير من الجرائم الإنسانية في البوسنة عام 1992م.
يواجه المُدعي العام/ كاثرين في هذه القضية الدفاع ميخائيل- أدى دوره المُمثل السويدي samuel fröler صموئيل فرولر- الذي تولى مُهمة الدفاع عن كريستيتش؛ لإيمانه القاطع بأن القانون هو المُنظم الأساس للعلاقات بين البشر.
تستعين كاثرين بشهادة ديان الشاب البوسني في القضية- أدى دوره المُمثل البلغاري الجنسية الأرميني الأصل Ovanes Torosian أوفانز توروسيان- والذي يؤكد أنه كان مُجندا ومتعاونا مع كريستيتش في جرائم الحرب التي تم ارتكابها، ويدعي أنه يتيم الأبوين لا يعرف والديه ولا ديانتيهما، وقد انضم هو والكثيرين من فريق كرة القدم الوطني الذي كان يلعب فيه كمتطوعين إلى إحدى الحركات شبه العسكرية الصربية، كما ساهم في إشعال بيوت المُسلمين ومساجدهم، وعزل رجال القرية عن نسائها، ثم إطلاق النار على الرجال، ورؤيته للجنود الصرب بقيادة كريستيتش يغتصبون نساء القرية، لكن المُتهم كريستيتش يعترف بهذه الجرائم في نفس الوقت الذي يؤكد فيه إنكاره بمعرفة الفتى أو رؤيته له من قبل.
يتشكك الدفاع ميخائيل في شهادة ديان، وحينما تنتهي الجلسة ينفرد به مع المُترجم ليسأله عن صدق ما قاله الفتى، لكنه يؤكد له مرة أخرى أنه لم يره من قبل، ولا يعرفه مما يثير حيرة الدفاع ليسأله عن السبب الذي يجعل الفتى يشهد عليه هذه الشهادة؛ ليرد عليه: الله نفسه سيعجز عن مُساعدتك على الفهم، إنه شيء مُختلف، شيء في دمائنا، لقد ولدنا به، البوسنة هي أرض الكراهية، وأي شخص لا يرغب في الانخراط في هذه الكراهية يصبح شخصا غريبا، وغالبا ما يكون شهيدا- مستشهدا في حديثه بكلمات للروائي أيفو أندريتش- لكنه حينما يتركه ويخرج برفقة المُترجم البوسني يبدأ المُترجم يحكي له عن الصرب وما فعلوه من مجازر في أهله، ومدى صلفهم الشديد وعدم اهتمامهم بأي شكل إنساني؛ لذلك يخبر ميخائيل في نهاية الأمر أن الصرب ليسوا في حاجة إلى الحماية كي يقوم بالدفاع عن المُجرم الصربي كريستيتش، أي أن تولي ميخائيل مُهمة الدفاع عن المُتهم يراها المُترجم البوسني في حقيقتها مُجرد مُهمة وضيعة وتواطؤ مع القتلة ممن لا يستحقون الحياة؛ فيرد عليه ميخائيل بهدوء: إذا لم يكن القانون موجودا كمُنظم للعلاقات بين البشر؛ سيتحول العالم إلى مكان مُرعب، إيمانا منه بأن القانون هو الذي لا بد له أن يسود، وربما كان المُتهم مظلوما فيما يوجه إلى من اتهامات.
لا يمكن إنكار أن ثمة مُباراة قانونية حقيقية بين كل من كاثرين/ المُدعي العام، وبين ميخائيل/ الدفاع، فهي ترى أن المُتهم الصربي مُجرم لا بد من مُحاكمته وسجنه جراء ما قام به من جرائم، وأن هذه العقوبة لا بد له أن ينالها بأي شكل من الأشكال لتحقيق العدالة التي تراها، بينما يرى ميخائيل أنه إذا كان لا بد من مُعاقبة المُدعى عليه وسجنه فهذا لا يمكن له أن يتم إلا في إطار القانون، أو الشكل المنطقي للقانون الذي لا بد له أن يؤكد إدانته، أما إذا عجزت الدلائل والقوانين على إدانة المُتهم فهو لا بد من خروجه والحصول على البراءة. أي أن كل منهما يحاول الوصول إلى تحقيق العدالة بطريقته الخاصة؛ الأمر الذي أدى إلى هذه المُباراة الشرسة بينهما.
يدفع تشكك ميخائيل في شهادة ديان إلى رحلة سافر فيها إلى البوسنة حيث قرية جلوجوفا محاولا من خلالها الوصول إلى حقيقة ديان، وهناك يلتقي بأبيه ألكسندر- قام بدوره الممثل البوسني Izudin Bajrović إزادين باجروفتش- وأمه التي قامت بدورها الممثلة المقدونية Labina Mitevska لابينا ميتيفسكا، ويسألهما عن وجود ولد لهما؛ فيؤكدان أنهما لم يعد لديهما أموال من أجل دفعها والبحث عنه، لكنه يؤكد لهما أنه لا يرغب في الأموال، بل يرغب في إيصالهما إلى ابنهما، وحينما يطلب منهما إحدى صوره يخبرانه أنه بسبب الحرب لم يعد هناك أي شيء لديهما؛ فلقد احترق كل شيء، لكن الأب يطلب من ميخائيل صورة الفتى الذي يتحدث عنه، فيخبره ميخائيل أن التصوير ممنوع في المحكمة، وهنا يطلب من الأب أن يرافقه إلى هولندا من أجل التوصل إلى ابنه والتأكد بأن الفتى هو ابنه بالفعل.
يسافر ألكسندر معه إلى هولندا، ويطلب ميخائيل شهادته في المحكمة، وحينما تبدأ الجلسة ينفي ديان معرفته بالرجل، لكن حينما يوجه القاضي نفس السؤال عن معرفة ألكسندر بالفتى؛ يلتفت إلى ديان ثم يترك كرسيه مُتجها إليه ليأخذه في حضنه باكيا؛ فيبادله ديان البكاء. هنا تتأكد المحكمة أن ديان قد كذب بشأن شهادته حينما أكد فيها أنه يتيم، ولا يعرف أبويه، وتُعاد الشهادة مرة أخرى، مع التوصية على إجراء تحليل DNA.
يتضح أن ديان اسمه الحقيقي ميرو لأم مُسلمة وأب مسيحي من البوسنة، وأنه كان مسجونا في سراييفو، وقد زاره مجموعة من الناس ليتفقوا معه على إرساله إلى هولندا- حيث كان هذا هو حلم حياته- في مُقابل الشهادة الزور ضد كريستيتش والتأكيد على أنه كان مُشاركا له في المذابح التي حدثت في البوسنة، كما عرضوا عليه صورا وفيديوهات تخص كريستيتش من أجل التعرف عليه في قاعة المحكمة؛ الأمر الذي يجعل شهادته بالكامل غير ذات فائدة؛ لعدم صدقها وإدعائها، وهو ما يعيد القضية إلى الصفر مرة أخرى؛ لعدم وجود أي دليل على المذابح أو الجرائم التي قام بها المُتهم.
تصر كاثرين، المُدعي العام، على الاستمرار في القضية مرة أخرى لإدانة كريستيتش الذي توقن بإدانته وإن كانت لا تمتلك بين يديها الدليل المادي على هذه الجرائم، لكنها تقول في مُقابلة تليفزيونية لها: أنا أؤمن بالعدالة العليا للقانون، أي أنها مُصرّة على إدانة المُتهم مهما كانت الأسباب. في حين يشعر ميخائيل بالكثير من الراحة والاطمئنان لسببين: الأول أنه قد نجح في إعادة الفتى ابن الثامنة عشر من عمره إلى أبوية المكلومين، والسبب الثاني أنه قد نجح في نفي التُهم التي تم توجيهها إلى المُتهم بشكل فيه من الادعاء والباطل ما لا يمكن قبوله، أي أن القانون هو المُنظم الأساس في العلاقات، ومن دون القانون لا يمكن أن تستمر الحياة، أو توجيه أي تهمة باطلة إلى المُتهم حتى لو كان مُدانا بالفعل، ولكن نتيجة لانتفاء الأدلة لا يجب لأحد الحكم عليه بالإدانة.
تتخذ كاثرين قرارا بعدم مُحاكمة ديان على الحنث باليمين في شهادته حتى لا تشوه صورة المحكمة وتدينها، بل يكون القرار الثاني لها هو ترحيل الفتى إلى البوسنة بشكل رسمي رغم أن هذا الترحيل لا بد له أن يعرض حياته للخطر هناك، واضطهاده من قبل سلطات بلاده؛ لأنه قد شهد عليهم شهادة ضمنية واتهمهم بالتواطؤ حينما أخبر المحكمة بالصفقة التي تمت في السجن هناك.
رغم أن القانون والدستور الهولندي يسمحان بإقامة الفتى في هولندا للحفاظ على حياته، ورغم أن الإجراء الذي كان لا بد أن يُتخذ هو تسليم الفتى إلى أبيه، إلا أن كاثرين قررت بقسوة ترحيل الفتى من دون توديع والده أو إخباره بالأمر، وكأنها في ذلك تحاول غلق باب هذه الشهادة من أجل الاستمرار مرة أخرى في محاولة إدانة المُتهم، ورغم أنها من خلال هذا الفعل تعمل على التضحية بالفتى وتعريض حياته للخطر مُناقضة في هذا الفعل إيمانها بالعدالة الذي دائما ما تدعيه.
تعمل الصحافة على مُهاجمة كاثرين/ المُدعي العام لمُخالفتها الدستور الهولندي في إعادة الفتى وترحيله، واتهامها بالقسوة مُخالفة في ذلك طبيعتها الأنثوية، ولكن لأن كاثرين كانت امرأة تؤمن بالعدالة العظمى- حتى لو لم يكن هناك دلائل قوية- ولأنها كاثوليكية مُتدينة؛ لم تعر الصحافة اهتماما وحاولت الاستمرار في قضيتها، بينما اتجه ميخائيل إلى السويد حيث والده العجوز ابن المُهاجر الروسي الذي يعيش في إحدى المصحات لرعاية كبار السن نتيجة إصابته بالزهايمر، وهناك يلتقي بالأب بينما يشعر بالكثير من راحة الضمير على ما فعله في المحكمة، ويبدأ في الحديث إلى الأب مُعتذرا له عن انشغاله طيلة الوقت رغم أنه يوقن تماما بأن أباه لا يعي أي شيء مما يحدثه فيه.
تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على ختام فيلمها بميخائيل الذي يأخذ أباه إلى حديقة دار الرعاية للمشي، بينما تكتب على الشاشة: أعاد المُدعي العام المُعين حديثا فتح القضية ضد كريستيتش وأُدين فعليا، ولا توجد معلومات رسمية يمكن الوصول إليها لمعرفة ما حدث للشاهد K109/ ديان، كما أصبحت القرية البوسنية التي كان يعيش فيها أبوي الفتى مأهولة بالسكان.
من خلال فيلم يسوده الكثير من التشويق ورشاقة المُونتاج تحرص المُخرجة البلغارية إيجليكا تريفونوفا على التأكيد بأن العدالة الحقيقية لا يمكن تحقيقها بسهولة، فهي تختلف في مفهومها من شخص إلى آخر، وإذا كان مفهوم العدالة بالنسبة للمُدعي العام/ كاثرين يتحدد في إدانة كريستيتش بأي وسيلة من أجل الجرائم التي قام بها، فإن نفس المفهوم بالنسبة للدفاع/ ميخائيل ينحصر في سيادة القانون، واستحالة إدانة أي شخص مهما كان الشك في جرائمه إلا من خلال دلائل قانونية قاطعة على هذه الإدانة، في حين أن نفس المفهوم بالنسبة للأب ألكسندر يراه في أن العمر ليس بالطول الكافي الذي يجعلنا نكره الآخرين، وأننا لا بد لنا من التسامح في نهاية الأمر، كما أنه يرى أن إدانة وحبس جميع المُتهمين في هذه القضايا لا يمكن له أن يعيد إليهم أهلهم وأحبابهم مرة أخرى، وبالتالي فالتسامح هو السبيل الأهم من أجل تحقيق العدالة!
كما لا يفوتنا ميل المُخرجة في فيلمها إلى المُقارنة المُهمة بين الغرب القاسي في تعاملاته وتعاليه على الآخرين، والشرق الطيب المُتسامح الذي يعيش الحياة بحب من دون أي تعقيد، كذلك المُقارنة بين الجنوب الأوروربي الكاثوليكي المُتشدد الذي يتمثل في المُدعي العام كاثرين في مقابل الشمال البروتستانتي المُتسامح دينيا الذي يتمثل في ميخائيل، وهي المُقارنة التي نجحت فيها المُخرجة بشكل جيد يميل إلى التلقائية والبساطة؛ وبالتالي ابتعدت عن القصدية التي كان من المُمكن لها أن تفسد فيلمها.
محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية.
عدد 15 إبريل 2022م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق