الجمعة، 8 أبريل 2022

غرباء تماما.. جميعنا قابلون للكسر!

هل ثمة من يستطيع اليقين بأنه يعرف شريك حياته، أو صديقه، أو حتى والديه تمام المعرفة، وهل نحن واضحون تماما، صُرحاء مع الجميع بالشكل الذي يعكس سيكولوجياتنا وحقائقنا بشكل نقي لا شائبة فيه، وهل من المُمكن تحقيق ذلك على أرض الواقع؟

دعنا نطرح السؤال بشكل آخر: هل ثمة أمور نفعلها في حيواتنا ولا نخجل من أن يعرفها الآخر فنفضي بها إليه؛ أم أننا نضطر إلى الاحتفاظ ببعضها لأنفسنا فقط داخل صندوق أسود لا يمكن الاطلاع عليه من سوانا؟ هل الإنسان في حد ذاته نقيا بالشكل الذي يجعله شفافا بالنسبة للجميع، أم أن النفس البشرية دائما ما تحمل داخلها مناطق معتمة لا يمكن الاطلاع عليها؟ وهل إذا ما أفضينا بكل شيء في حيواتنا للآخرين سيستقيم ذلك مع خصوصية كل منا، واختلافه عن الآخر، وهل يستطيع أحد منا الحياة من دون خصوصيته؛ سعيا وراء فكرة النقاء المثالية؟!

لا يمكن إنكار أن النفس البشرية تحمل في داخلها الكثير جدا من التناقضات التي لا يمكن تفسيرها، حتى لصاحبها، أي أن ثمة مناطق معتمة تماما داخلنا لا يمكن لنا البوح بها لأحد غيرنا، هذه الجُزر المعتمة تختلف مساحتها من شخص لآخر تبعا لدرجة سعيه نحو التجمل الذي نبتغي من ورائه الكمال، وهي الفكرة التي لا يمكن للإنسانية الوصول إليها رغم سعيها الحثيث باتجاهها، وهو الأمر الذي لا بد له أن يفضي بنا إلى جهل كل منا للآخر؛ فليس الإنسان كما يبدو بالضرورة، وإن كنا نظن ذلك، أو نحاول الارتياح والركون إلى هذه الفكرة، كما أننا لا نعرف بعضنا البعض بالضرورة مهما كنا مُتقاربين، أو مُشاركين لبعضنا البعض في الحياة!


هذه التساؤلات والأفكار الكثيرة لا بد لها أن تُشعل أذهاننا أثناء مُشاهدتنا للفيلم الإيطالي Perfect Strangers غرباء تماما، أو حسب العنوان الأصلي للفيلم بالإيطالية Perfetti Sconosciuti، للمُخرج والسيناريست الإيطالي Paolo Genovese باولو جنويس، وهو الفيلم الذي يحرص مُخرجه على إدانة المُجتمع العالمي بشكل عام، وليس المُجتمع الإيطالي فقط؛ فبما أننا، في العالم، قد صرنا مُتشابهين إلى حد كبير في سلوكياتنا بفضل اعتمادنا شبه الكامل على التكنولوجيا ووسائل الاتصال، فلقد أصبحت أمراضنا الاجتماعية تكاد أن تكون مُتشابهة، نمطية، وبالتالي كاد الفيلم أن يكون انتقادا قاسيا للجميع!

هذا فيلم يُحاكمك أنت كمُشاهد، يدينك، يزدريك، يحتقرك، يكاد أن يبصق عليك بشكل غير مُباشر، وربما يحاول إفاقتك، أو العمل على تطهيرك؛ للوقوف أمام ذاتك وإعادة مُراجعتها مرة أخرى للتخلص من المناطق المعتمة، السوداوية داخلك، والتصالح مع ذاتك، ومع الآخرين! لذا لا بد من إعادة النظر في حيواتنا بعد الانتهاء من مُشاهدة هذا الفيلم الذي يؤكد لنا، كمُشاهدين، بأننا جميعا نمتلك قدرا غير هيّن من القذارة، والازدواجية التي نعرفها جيدا عن أنفسنا، لكننا لا نحاول التوقف أمامها من أجل تأملها، وإعادة الأمور إلى نصابها مرة أخرى!


يحاول المُخرج باولو جنويس التعبير عن هذه الفكرة من خلال فيلم محفوف بالكثير من المخاطر الفنية؛ فالفيلم- الذي يعتمد بكامله على الحوار- كان من المُمكن له، ومن السهولة، أن يتحول إلى مُجرد شكل من أشكال الثرثرة التي لا طائل من ورائها لمجموعة من المُمثلين الجالسين أمام الكاميرا التي تكاد أن تكون ثابتة، كما أن الفكرة كان من الأحرى بها تنفيذها للمسرح؛ لسهولة تلقيها وتنفيذها مسرحيا أكثر مما لو كانت كفيلم سينمائي، ولكن السيناريو المُحكم الذي شارك في كتابته المُخرج مع خمسة آخرين من كتاب السيناريو، ورغبة المُخرج في المُغامرة وتقديم فيلم مُختلف نجحا معا في تقديم فيلم فني مُتميز كان السيناريو فيه هو البطل الرئيس؛ حيث تمت إدارة الحوار فيه ببراعة وذكاء استطاعا الإفلات تماما من رتابة الثرثرة بوتيرة تصاعدية حريصة على جذب انتباه المُشاهد حتى المشهد الختامي من الفيلم، ساعد في ذلك الأداء الناضج، أو بالأحرى المارثون الأدائي بين المُمثلين الذين حرصوا على التعبير عن انفعالاتهم بما يتناسب مع كل شخصية، والحوار الذي يتدرج متلونا ما بين الفكاهة، والجدية، والصرامة، والقلق، والخوف، وربما الذعر أحيانا، لنصل في النهاية إلى التطهر من أفعالنا السرية التي نحتفظ بها لأنفسنا فقط!

لكن، هل معنى ذلك أن الفيلم يعقد لنا جميعا مُحاكمة يديننا من خلالها؟


صحيح أن الفيلم يكاد أن يدين الجميع، لكنه يقدم فكرته بعين المُشاهد غير المُشترك في الفعل، أو غير المتورط فيه؛ فالفيلم لا يلوم أحدا، ولا يلقي صُناعه بأحكامهم الأخلاقية أو الوعظية على أحد، بل يقفون جميعا على مسافة كافية من الجميع مُراقبين إياهم فقط، مُتأملين من دون تورط، مُسجلين أفعالهم وردود أفعالهم، مُحذرين إيانا بانطلاقهم من مُنطلق "ماذا لو"، ومن خلال هذه الافتراضية- التي قد تتحقق، وربما لا تتحقق- يؤكدون لنا أن صندوق الأسرار المُظلم داخلنا لو انفتح، أو اطلع عليه أحد؛ سينفجر كالقنبلة المدوية مُدمرا كل ما حولنا، وسنكون نحن أول ضحاياه؛ لذا لا بد لنا من إعادة النظر في حيواتنا مرة أخرى لإنقاذها مما يمكن أن تؤول إليه إذا ما انفجر صندوق الأسرار المعتم، والكامن في منطقة عميقة من نفوسنا.

يحرص المُخرج في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre على التعريف السريع بالعالم الذي هو بصدد دخوله؛ لذا نرى مشاهد مُتفرقة لمجموعة من الأزواج مثل بيانكا- قامت بدورها المُمثلة الإيطالية Alba Rohrwacher ألبا روهرواتشر- وهي طبيبة بيطرية تتحدث هاتفيا مع إحدى زبوناتها عن جرعة العلاج التي لا بد أن يأخذها كلبها، بينما نُشاهد الزوج كوزيمو- قام بدوره المُمثل Edoardo Leo إدواردو ليو- الذي يعمل كسائق تاكسي ينتهي من ارتداء ثيابه مُتجها إليها لاحتضانها راغبا فيها، لتخبره بأنها قد توقفت عن تناول موانع الحمل؛ فيبدي سعادته بذلك، ثم لا يلبثا أن يخرجا من أجل اللحاق بموعد ما- سنعرف فيما بعد أنهما زوجان حديثان لم يمر على زواجهما إلا القليل من الشهور.


ينتقل المُخرج إلى منزل كارلوتا- قامت بدورها المُمثلة الإيطالية Anna Foglietta أنا فجلتا- التي سنعرف أنها أم لطفلين؛ فنراها تطلب من طفلتها النوم، بينما تأمر الابن أن ينام في العاشرة وألا يزعج جدته- أم الزوج- التي تعيش معهما، وحينما تخبرها الجدة بأنه لا يزعجها، ترد عليها بشكل غير لائق لتخبرها بأنها تساعد على إفساده، وحينما يسمعها الزوج يطلب منها عدم الحديث مع أمه بمثل هذا الشكل. نُلاحظ كارلوتا في مشهد تالٍ واقفة أمام الثلاجة لتفتحها خفية بينما تتناول جرعات سريعة وكبيرة من زجاجة النبيذ مُباشرة، بينما زوجها لي لي- قام بدوره المُمثل الإيطالي Valerio Mastandrea فاليريو ماستاندريا- يتظاهر بأنه يقضي حاجته في الحمام، بينما هو جالس يتفحص هاتفه- في إيحاء بأنه يجري مُحادثة سرية بينه وبين شخص ما- وسُرعان ما يخرج مُتعجلا زوجته للحاق بموعد ما، لكنهما حينما يصلان إلى باب شقتهما تدعي كارلوتا بأنها قد نسيت هاتفها بالداخل لتُسرع إلى الغرفة خالعة لسروالها الداخلي، وتخرج من دونه.


ينتقل المُخرج إلى شقة إيفا- قامت بدورها المُمثلة البولندية الأصل الإيطالية الجنسية Kasia Smutniak كاسيا سموتنياك- وهي طبيبة نفسية لنراها تتشاجر مع ابنتها صوفيا المُراهقة ذات السبعة عشر عاما- قامت بدورها المُمثلة الإيطالية Benedetta Porcaroli بينديتا بوركارولي- حينما تراها تتجهز للخروج فتسألها عن وجهتها، لتخبرها الفتاة أنها ستخرج مع صديقتها، لكن الأم تُصر على أنها تكذب عليها، وأنها ستخرج للقاء صديقها Gregorio جريجوريو، إلا أن الفتاة تنفي الأمر، هنا تخرج لها الأم علبة من الكاندوم لتسألها لم تحتفظ بها في حقيبتها، لكن الفتاة تؤكد لها أنها تخص صديقتها، وهي تحاول الاحتفاظ بها بعيدا عن صديقتها؛ فتتركها الأم غاضبة مُتجهة إلى المطبخ حيث يقوم الزوج/ روكو- قام بدوره المُمثل الإيطالي Marco Giallini ماركو جياليني- وهو طبيب تجميل بالطهي من أجل حفل عشاء لهم ولأصدقائهم الذين هم على وشك الحضور، بينما تخبره الزوجة غاضبة: ابنتك تحكي مجموعة من الأكاذيب. لكنه حينما يستمع إليها صامتا؛ تكمل مُنفعلة: أليس لديك شيئا لقوله؟! فيرد عليها هادئا: مثل ماذا؟ إنها في السابعة عشر من عمرها. فتخبره إيفا بأنها تخرج للقاء جريجوريو، وأنها لا يروقها ذلك لأنها لا تحبه، فيرد بهدوء بأن الفتاة تحبه، لكنها تقول له: وأنت أيضا لا تحبه؛ ليرد بعقلانية: من العبث محاولة منعها، لم يحب والداك مواعدتي، لكن ذلك لم يُحدث أي فرق. إلا أنها تخبره مُنفعلة بأنها قد وجدت في حقيبتها علبة كاندوم، فيلومها على تفتيشها في حقيبة ابنتهما، لكنها تحاول الإنكار بقيامها بالتفتيش.


ربما كانت هذه المشاهد التأسيسية في الفيلم، وهي المشاهد التي حرص عليها المُخرج بشكل سريع قبل نزول تيترات البداية، من الأهمية بمكان ما يجعلنا قادرين على التعرف على العالم الفيلمي الذي سيخوضه المُخرج، وفهم مُفرداته وأفراده الذين سيظلون معنا حتى النهاية؛ فنحن أمام ثلاث أسر، نُلاحظ في الأسرة الأولى أنهما زوجان جديدان يوجد بينهما الكثير من الانسجام والشغف الجنسي، بينما الأسرة الثانية لزوجين متزوجين مُنذ عشر سنوات، لكن من الواضح أن بينهما الكثير من الصدوع، أو أنهما قد بدآ يبتعدان عن بعضهما البعض- يفسر ذلك التناول المُفرط للنبيذ من قبل الزوجة خفية، كذلك خلعها لسروالها الداخلي خفية قبل الخروج من المنزل مما قد يوحي بأنها على علاقة بأحد الأشخاص الذين سيقابلونهم على العشاء، كما أن الزوج ينفرد بنفسه في الحمام لإجراء العديد من المُحادثات بعيدا عن عيني زوجته، بينما الأسرة الثالثة- وهي الأسرة المضيفة- يسودها الكثير من التوتر بين الأم والابنة، حيث نرى الأم تُضيّق عليها كثيرا، كما أنها كثيرة الانتقاد، بينما الزوج شديد الهدوء، قادر على التحكم في انفعالاته، تبدو تصرفاته وردوده فيها الكثير من الحكمة.


إذن، فلقد نجح المُخرج في التأسيس لعالمه الفيلمي الذي هو على وشك الدخول فيه، بشكل فيه من الإيجاز البصري البعيد عن الثرثرة ما يجعل المُشاهد مُتأهبا لمُتابعة أحداث فيلمه، تصل كل من كارلوتا، وبيانكا مع زوجيهما إلى منزل إيفا ليسألا بشغف عن صديقهما بيبي- قام بدوره المُمثل الإيطالي Giuseppe Battiston جوزيف باتيستون- وصديقته، حيث وعدهم بأنه سيعرفهم على صديقته الجديدة التي ارتبط بها، لكنه حينما يصل يكون وحيدا، وحينما يسألونه عنها يخبرهم بأنها قد أُصيبت بالحمى، ولم تستطع مُشاركته حفل العشاء.

يبدأ الأصدقاء وزوجاتهم يثرثرون عن الآخرين مُمارسين للنميمة الاجتماعية؛ ومن ثم يتحدثون عن صديق غائب اسمه Diego دييجو ومُشكلته مع زوجته حينما اكتشفت من خلال رسالة نصية على هاتفه بأنه يخونها مع فتاة في عمر ابنته- تبلغ من العمر 21 عاما- وتبدأ الزوجات يسألن أزواجهن عما إذا كانوا يعرفون بالأمر ويخفونه، فيؤكد الأزواج أنهم لا يمكن لهم إفشاء أسرار صديقهم، كما أن تدخلهم وإخبار زوجته سيكون بمثابة هدم لأسرة صديقهم، وتدخلهم فيما لا يعنيهم.

حينما يستقر الجميع على مائدة العشاء يؤكد كوزيمو أن الخطأ كان خطأ دييجو الذي لم يكن حريصا على مسح رسالة الفتاة واحتفظ بها في هاتفه؛ هنا تأخذ إيفا بطرف الحديث مُتحدثة عن أن الهواتف المحمولة قد باتت شبيهة بالصندوق الأسود في حياتنا قائلة: لدينا كل شيء، إنه الصندوق الأسود لحياتنا، كم عدد الأزواج الذين سينفصلون إذا ما نظروا إلى هواتف بعضهم البعض؟

نُلاحظ أنه بمُجرد إلقاء إيفا لجملتها الأخيرة  يظهر الكثير من التوتر على وجوه الجميع فيما عدا زوجها روكو الذي يبدو مُطمئنا غير شاعر بالقلق من أي شيء في حياته، لتؤكد كارلوتا مازحة بأن زوجها/ لي لي لم يسمح لها يوما بالنظر في هاتفه- في إيحاء منها بأنها تتشكك فيه- لكنه يخرج هاتفه على المائدة ليخبرها بأن الهاتف أمامها وأنها من المُمكن لها أن تلقي نظرة عليه، ولكن بشرط أن تعطيه هاتفها بدورها، هنا تقترح إيفا قائلة: إذن فنحن نقول: إنه لا أحد منا لديه أسرار؟ كلنا قديسين ما عدا دييجو! وتقترح بأن يلعبوا جميعا لعبة أثناء تناول العشاء بوضع هواتفهم جميعا على مائدة العشاء أثناء تناولهم له، وكل مُكالمة، أو رسالة، أو إيميل، أو واتس آب يأتي لأحدهم سيتم مُشاركته مع الجميع هذه الليلة.


يعترض زوجها روكو قائلا: أي لعبة هذه إيفا؟! لترد عليه: مُجرد لعبة. فيقول: لا أعتقد ذلك. لكنها ترد: ربما لديك ما تخفيه. إلا أنه يقول بهدوء: لكني قلق من أن يكون لديك ما تخفينه أنت، ليست لدي الرغبة في معرفة إذا ما كانت لديك علاقة غرامية. فتقول له: لو كانت لدي علاقة غرامية لما اقترحت هذه اللعبة. هنا يتدخل لي لي بقوله: وربما لديك، وتريدين أن يتم اكتشافك، هناك آلية نفسية يقوم فيها القاتل المُتسلسل بكل ما في وسعه من أجل اكتشافه.

رغم اعتراض الأزواج على البدء في هذه اللعبة إلا أن إيفا قد وضعت الجميع في مأزق باقتراحها لها؛ لأن أي شخص سيرفض مُمارستها ستبدأ زوجته في التشكك فيه؛ ومن ثم أُرغم الجميع على الموافقة من دون أي شكل من أشكال الاعتراض.

تطلب صوفيا الحديث مع أبيها مُنفردين فيترك المائدة مُنتحيا بها، لكن كوزيمو تصله رسالة نصية تقول: أحتاج لجسدك. هنا ينقلب الموقف رأسا على عقب، وتبدأ زوجته بيانكا في الانفعال الشديد وسؤاله عمن ترسل له بمثل هذه الرسالة، لكنه ينكر بأنه يعرف صاحب الرقم بدليل أنه غير مُسجل على هاتفه، لكن أثناء حديثهما تأتيه مُكالمة هاتفية من نفس الرقم؛ لتطلب منه بيانكا الرد وفتح مُكبر الصوت، وحينما يفعل كوزيمو لا يرد عليه أحد ليدخل روكو إلى غرفة الطعام ضاحكا، ونعرف أنها مُجرد مُزحة من روكو قام بها من تليفون ابنته صوفيا.


ربما من خلال هذا المشهد يتأكد لنا أن الأمور لا بد أن تتجه باتجاه كارثة زوجية حقيقية للجميع، ورغم أن ما رأيناه كان مُجرد مُزحة قام بها روكو، إلا أن هذه المُزحة من الوارد جدا أن تحدث بشكل حقيقي بين الفينة والأخرى، سواء لأي زوجة أو زوج منهم، أي أنهم يلعبون لعبة خطرة أشبه بالمُقامرة، أو بلعبة البوكر التي لا نعرف فيها أين ستنتهي بنا الأمور.

تأتي مُكالمة هاتفية من شقيقة بيبي تخبره فيها أنها قد وجدت له وظيفة في مدرسة خاصة بدلا من المدرسة التي يعمل فيها حيث لا يرغبون في تجديد التعاقد معه، لكنه يخبرها بأنه لا يرغب في الذهاب إلى المدرسة التي اختارتها له؛ لأنها بعيدة. يبدأ الأصدقاء في النقاش معه محاولين إقناعه بقبول المدرسة التي اختارتها له شقيقته، أو مُقاضاة المدرسة التي يعمل فيها، لكنه يطلب منهم عدم التدخل وتركه كي يحل الأمور بطريقته الشخصية. يحاول كوزيمو إقناعه بأن الحياة تتغير، وأنه قد عرض رخصته من أجل العمل كسائق أوبر بدلا من التاكسي لأن المُستقبل الآن للأوبر، هنا تندهش بيانكا لتسأله غاضبة عن السبب في عدم إخبارها بالأمر، لكنه يحاول إقناعها بأنه كان سيخبرها وأن الأمر لا يعدو أكثر من مُجرد تفكير مبدئي.


هنا ينهض بيبي إلى الشرفة لتدخين سيجارته ومُشاهدة خسوف القمر ليلحق به لي لي مُخبرا إياه بأنه في ورطة لا بد من حلها، وحينما يسأله بيبي عن الأمر يفضي إليه بأنه يتلقى رسالة يومية في العاشرة تماما من صديقة له مُتضمنة صورة شخصية لها، فيسأله بيبي عن الصورة ليخبره لي لي بأنها صورة لجسدها، ويحاول إقناع بيبي كي ينقذه من هذا المأزق باستبدال هاتفيهما لا سيما أنهما من نفس النوع والشكل.

يوافق بيبي على مضض بعدما يقنعه لي لي بأنه سيؤدي إليه خدمة كبيرة حتى لا ينهار زواجه من كارلوتا، كما أنه- بيبي- الوحيد غير المُرتبط فيهم. يتم استبدال الهاتفين بالفعل وتصل الرسالة في موعدها ليراها الجميع مُندهشين من الصورة التي أُرسلت إلى بيبي، ظانين أنه على علاقة بإحدى العاهرات.

ربما نظن- كمُشاهدين- أن الأمر هنا ما زال مُطمئنا، وأن لي لي قد خرج من مأزقه وانهيار زواجه الذي كان على وشك الحدوث، كما أننا سنتأكد بأن ما يقومون به هو قنبلة حقيقية موقوتة في سبيلها لتدميرهم جميعا. ولعل المُخرج كان من الذكاء أيضا بربط حفل العشاء بمُشاهدة خسوف القمر في هذه الليلة بما يحمله الخسوف من دلالات وإسقاطات رمزية تؤكد لنا بأن هذه الأسر في سبيلها للتدمير في نهاية الليلة. كما أن المُخرج لم يفوته استخدام هذا الرمز حينما قالت بيانكا: أتساءل: لم يذهلنا الخسوف كثيرا؟ فيرد روكو: الجانب المُظلم من القمر. إن الإجابة التي أجابها روكو تعني في جوهرها الجانب المُظلم من البشر، وهو الجانب الذي لا يعرفه أحد؛ وبالتالي فهو مُذهل لمن يرغب في معرفة الآخرين، والتلصص على أسرارهم بالفعل.


تصل لكوزيمو رسالة من زميلته في العمل تخبره بأنها في حاجة إليه، وحينما تسأله إيفا عنها، ترد زوجته بيانكا بالنيابة عنه بأنها زميلته، وأنها تعرفها جيدا، وربما هي راغبة منه أن يأخذ مكان أحدهم في العمل وستفسد عليه يوم عطلته، كما أنها ليست من النساء اللاتي ينجذب إليهن كوزيمو، حيث تمتلك صدرا ضخما؛ فتندهش إيفا من دفاع بيانكا عن زوجها، وتصر على أن يقوم بمُهاتفة هذه الزميلة لمعرفة ما تريده منه، لكنه يخبرها بأنه غير راغب في إفساد يوم عطلته.

تبدأ الرسائل والإيميلات، والمُهاتفات في الوصول إلى هواتفهم، فيأتي اتصالا هاتفيا لإيفا من والدها- طبيب التجميل المشهور- ويخبرها بأنه قد وجد لها طبيبا لإجراء الجراحة في روما، وحينما يسألها الأصدقاء عن هذه الجراحة تخبرهم بأن الأمر ليس خطيرا، وكل ما في الأمر أنها راغبة في تكبير ثدييها، لأن شكلهما لا يعجبانها، هنا يندهش الأصدقاء باعتبار أنها طبيبة نفسية لا بد لها أن تتقبل نفسها كما هي، إلا أن الدهشة الأكبر كانت بسبب بحثها عن طبيب تجميل لإجراء الجراحة بينما زوجها/ روكو طبيب تجميل. هنا يرد روكو بهدوء مُخبرا إياهم بأن والدها الطبيب النجم في مجاله، غير مُقتنع به كطبيب من المُمكن له إجراء مثل هذه الجراحة لابنته، وأنه لا يثق فيه، ورغم أن إيفا تحاول إنكار ذلك، إلا أنه يخبرها بأن والدها ينظر إليه باعتباره مُجرد طبيب تجميل لفتيات النوادي الليلية فقط.


كما يصل اتصال هاتفي لبيانكا من شخص اسمه ستيف جوبس، وحينما ترد عليه نعرف أنه أحد الفنيين الذين يصلحون لها جهاز الكمبيوتر الخاص بها، وأنها تسجل اسمه على هاتفها بهذا الاسم.

إن الاتصال الهاتفي الذي يأتي لروكو يكاد يكون هو بداية الفتيل الذي سيكشف الجميع أمام بعضهم البعض حينما تهاتفه ابنته صوفيا مُخبرة إياه بأن والدي جريجوريو في الخارج وأنه قد عرض عليها أن تقضي الليلة معه، وأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لكنها لم تكن تظن أنها قد تكون في هذه الليلة، وبالتالي فهي تستشير أباها فيما يجب عليها أن تفعله. يرد عليها روكو ليسألها بدوره عما ترغب في فعله، فتخبره بأنها ترغب في الأمر بالفعل، وتخشى إذا لم تذهب مع جريجوريو أن يغضب منها. فيرد عليها والدها بعقلانية مُؤكدا لها أنها إذا ما كانت ترغب في قضاء الليلة معه فقط لمُجرد ألا يغضب فعليها ألا تذهب؛ لأن هذه الليلة هي أهم ليلة في حياتها، وستظل تتذكرها دائما طوال حياتها كلما نظرت خلفها، أما إذا ما كانت راغبة في الأمر بالفعل فلتذهب معه. هنا تشكره صوفيا على علبة الكاندوم التي أعطاها لها، وتخبره بأنها لم تكن تعرف أين تتوجه بعينيها حينما أخذتها منه، كما تطلب منه أن يخبر والدتها بأنها ستقضي الليلة عند صديقتها، لكنه يطلب منها أن تخبر أمها بالحقيقة وألا تكذب عليها، فتخبره بأن أمها تنتقدها دائما، وحينما يطلب منها التحلي بالصبر في التعامل مع أمها تقول له بأنه واقع في عشقها للدرجة التي تجعله لا ينتبه للعاهرة التي يعيش معها- قاصدة أمها- ثم تنهي المُكالمة.


نقول: إن هذا المُهاتفة هي بداية كشف الجميع لبعضهم البعض لا سيما الجانب القبيح في كل منهم؛ فإيفا عرفت مشاعر ابنتها تجاهها؛ نظرا لتعامل إيفا السيء مع صوفيا، كما أن جملتها الأخيرة ربما قد توحي بأن الابنة على علم بأن أمها تخون أباها مع أحدهم، فضلا عن أن الحديث بالكامل يعري الأم تماما أمام الجميع، ومن جهة أخرى عرفت إيفا أن علبة الكاندوم التي وجدتها في حقيبة الابنة كانت هدية من الأب نفسه.

هذا التعري التدريجي للجميع سنلحظه حينما يصل إيميل لكارلوتا يخبرها بأن المعلومات التي طلبتها عن بيت المُسنين جاهزة، وأنها من المُمكن لها إعادة الاتصال بهم للمزيد من التفاصيل. هنا يشتعل الأمر بينها وبين زوجها لي لي الذي يفهم بأن زوجته ترغب في التخلص من أمه التي تعيش معهما في المنزل بوضعها في بيت للمُسنين. ورغم محاولتها إنكار الأمر في البداية إلا أنها تعترف في النهاية بأنها تفكر في الأمر بالفعل، وتطلب منه الاعتراف بأن وجود أمه في المنزل جعل حياتهما تتغير إلى الأسوأ. يبدأ الأصدقاء في التلطيف من الأمر بين الزوجين لتهدأ الأمور بينهما.


إذن، فكل منهم يبدأ في التعري التدريجي أمام الآخر ليعرف عنه ما كان يخفيه، يقترح بيبي الذهاب للشرفة لرؤية خسوف القمر، وتخبرهم بيانكا بأنها ستأخذ هاتفها معها لالتقاط صورة جماعية لهم، ولكن أثناء التقاط الصورة تصل رسالة إليها من حبيبها السابق؛ الأمر الذي يجعل كوزيمو ينفعل عليها مُتسائلا عن السبب الذي يجعله على اتصال بها، وحينما يبدأ في التشكك فيها تؤكد له أنه باستطاعتها تفسير الأمر، وتخبره بأنه قد وقع في حب إحدى الفتيات، لكن العلاقة بالنسبة لها معه مُجرد علاقة جنسية فقط من وجهة نظرها، وأن هذا الأمر يعذبه كثيرا؛ لذا فهو يستشيرها لتقدم له النصائح، وسُرعان ما تهاتفه أمام الجميع لتؤكد لزوجها ما قالته بالفعل. ثم تقول له: لو رغبت أن أهاتفه مرة أخرى لإخباره بالتوقف عن الحديث معي سأفعل. لترد عليها إيفا بخبث: إذن، سيكون كوزيمو سعيدا، ويمكنك الحديث مع إيفانو سرا. فترد بيانكا مُؤكدة: إذا ما أخبرت كوزيمو بأني لن أتحدث معه؛ فلن أفعل ذلك.


ألا نُلاحظ هنا ثمة شرا من قبل إيفا التي قامت باقتراح اللعبة، وأنها تحاول الإيقاع بين كوزيمو وبيانكا، أو مُجرد التشكيك في مدى إخلاصها له؟

تخبر كارلوتا إيفا بأن زوجها روكو- طبيب التجميل- قد عمل كطبيب نفسي لفترة من الوقت، وحينما تسألها إيفا عن كيفية معرفتها بذلك الأمر تخبرها بأن زوجها لي لي هو الذي فعل؛ لذلك تُفاتح إيفا روكو في الأمر ليرد عليها واثقا، أنه بالفعل قد مارس ذلك لمُدة ستة أشهر؛ لأنه أراد التأكد من أن هذا العمل ليس مضيعة للوقت، وأنه قد تعلم منه كثيرا، فتسأله ما الذي تعلمه، ليرد بحكمته المعهودة: كيفية نزع الفتيل. فتسأله: بمعنى؟ ليقول: عدم تحويل كل حجة إلى صراع من أجل السيادة، عدم الاعتقاد بأن الشخص الذي يرغب في التنازل ضعيف، في الواقع، أعتقد أنه حكمة، الأزواج الوحيدون الذين أراهم مُؤخرا هم أولئك الذين يتمكن أحدهما من التراجع، لكنها في حقيقتها خطوة للأمام، لا أريد أن ينتهي بنا المطاف مثل باربي وكين، أنت مُمتلئة بالبلاستيك، وأنا من دون خصيتين.


إن الكارثة الحقيقية، وبداية الانفجار بين الجميع تبدأ حينما تصل رسالة على تليفون بيبي الذي قام لي لي باستبداله معه، تقول: كيف حالك. هنا تتساءل زوجته كارلوتا عن هذا الشخص الذي يسأل عنه؛ فيخبرها بأنه زميله في العمل. لكنها تلح في السؤال عن السبب الذي يجعله يسأله ذلك السؤال؛ فيقول لها بأنه كان غاضبا اليوم في العمل؛ لذا فهو يطمئن عليه. يبدأ بيبي في التدخل طالبا منه الرد عليه، وألا يتجاهل رسالته، وأنه يجب على الأقل أن يقول له بأنه في المنزل. لكن الجميع يتساءلون عن السبب في أن يكذب لي لي في الرد بما أنه ليس في المنزل، ويطلبون من لي لي الرد برسالة تخبره بأنه يتناول العشاء مع الأصدقاء، إلا أن بيبي يصل إلى حالة غير طبيعية من الثورة والتوتر، مُخبرا إياهم بأنه ليس من الضروري التخلي عن خصوصيتنا لدرجة أن نخبر الجميع عما نفعله، وعن أماكننا، فيحاولون تهدئته ويخبره لي لي بأنه لن يرد. لكن الطرف الآخر يرسل رسالة جديدة تقول له بأنه أحمق. هنا تنزعج كارلوتا من هذه اللهجة التي يتحدث بها أحدهم لزوجها وتطلب منه تفسيرا، لكن الشخص على الطرف الآخر يقوم بالاتصال لتطلب كارلوتا من زوجها الرد وفتح مُكبر الصوت، هنا نستمع إلى الطرف الآخر مُتحدثا لائما إياه؛ لأنه خرج في حين أنه قد أخبره بأنه سيلتزم المنزل لإصابته بالحمى، ثم يخبره بأنه أحمق لا يعرف ما الذي يريده في الحياة، وهل هو يرغب في النساء أم في الرجال، وسُرعان ما ينهي المُكالمة.

المخرج والسيناريست الإيطالي باولو جنويس

لا بد من الانتباه هنا إلى أن هذه المُكالمة قد جاءت على هاتف بيبي الذي استبدل هاتفه مع لي لي من أجل إنقاذ حياته الزوجية، أي أن بيبي على علاقة مثلية مع أحد الرجال، وبما أن الهاتفين قد تم استبدالهما؛ فالجميع قد باتوا يظنون أن لي لي هو الذي على علاقة مثلية بأحدهم. تنهار كارلوتا/ الزوجة طالبة من زوجها تفسير الأمر، مُتساءلة عما إذا كان على علاقة جنسية مع هذا الرجل أم لا؟ يحاول لي لي الإنكار، مُؤكدا لهم جميعا بأنه زميله في العمل، وهو مثلي ومهووس به، لكن لي لي لا يعيره اهتماما، يحاول الجميع تصديقه على مضض إلا أن الطرف الآخر يرسل برسالة أخرى تُفجر الأمر تماما حينما تقرأ كارلوتا ما جاء فيها، حيث يقول له: أفتقد قبلاتك.

يحاول بيبي التدخل للاعتراف لهم بأن الهاتف يخصه، لكن لي لي يرفض تدخله أو توضيحه للأمر لسببين مُهمين، أولهما أنه يرغب في رد الجميل لصديقه الذي أنقذه أمام زوجته من مأزق العاهرة التي يعرفها باستبدال الهاتفين، وثانيهما: الغضب الشديد الذي انتاب صديق عمره كوزيمو لاعتقاده بأن لي لي مثلي التوجه، وأنه ليس بصديقه ما دام قد أخفى عنه الأمر طوال حياتهما.

الممثل الإيطالي إدواردو ليو

تحاول بيانكا تهدئة كارلوتا التي انتحت في المطبخ متناولة لكميات كبيرة من النبيذ لتهدئتها، فتقول لها بيانكا أنه لم يكن يخونها مع امرأة أخرى، لذا فالأمر لا يُشكك في علاقتيهما، بقدر ما يُشكك فيه نفسه، وأنه قد اضطر لإخفاء الأمر عنها وادعاء الأكاذيب لحساسية الأمر. فترد عليها كارلوتا مُنزعجة بأن هذه ليست هذه المُشكلة الحقيقية، المُشكلة أن هناك رجلا يفتقد قبلات زوجها، وسُرعان ما تتوجه إلى لي لي كإعصار لتسأله عن عدد الرجال الذين عرفهم من قبل ليؤكد لها بأنه لم يعرف رجلا آخر غيره، فتعود لسؤاله عن المُدة التي ارتبطا معا فيها، ليرد بأنها عدة شهور- غير راغب في قول الحقيقة وأن الأمر يخص بيبي، ولا يخصه هو- هنا تخبره بأنها كانت تشك بأنه على علاقة بإحدى العاهرات لأنه لم يلمس جسدها مُنذ عدة شهور، لكنها لم تكن تتوقع أن يكون السبب في زهده فيها رجلا مثله.

أثناء هذا المأزق يدق هاتف كوزيمو فيضطر للرد وفتح مُكبر الصوت ليحادثه أحدهم سائلا إياه عن خاتم ما وأقراط وهل أُعجبت بهما امرأة ما؛ فيخبره كوزيمو بأنه ليس في حالة تسمح له بالحديث الآن مُنهيا المُكالمة؛ لتنهض زوجته بيانكا مذهولة مُتسائلة عن الخاتم والأقراط التي يحدثه فيهما هذا الشخص، ولمن، فيخبرها أنهما لها، لكنها تخبره بأنها لا ترتدي أي أقراط في أذنيها، وبأنها حتى لم تثقب أذنيها من قبل.

هنا تقع الكارثة الثانية التي تتأكد فيها بيانكا بأن زوجها يخونها، وأثناء محاولة إقناعها بأنه لا يكذب عليها تأتيه مُكالمة أخرى؛ فتصر على أن يرد، لا سيما أنها من زميلته في العمل، يرفض كوزيمو الرد على الهاتف فتختطفه بيانكا لتفتح مُكبر الصوت وتستمع إلى زميلته التي تخبره بأنها قد أجرت اختبار حمل، وتأكدت بأنها حامل منه!

تنهار بيانكا لتسرع صوب الحمام وتلحقها كارلوتا محاولة تهدئتها، يحاول كوزيمو اللحاق بها وفتح باب الحمام إلا أن إيفا تلحق به لتجذبه إلى غرفة النوم خالعة الأقراط التي في أذنيها لترميها في وجهه واصفة إياه بأنه مُقرف، وتبصق عليه. أي أن كوزيمو الذي بات زوجا لبيانكا مُنذ عدة شهور قليلة على علاقة جنسية مع إيفا- زوجة صديقه روكو- وزميلته في العمل أيضا التي صارت حاملا منه!

الممثل الإيطالي جوزيف باتيستون

تأتي رسالة على هاتف كارلوتا التي تحاول تهدئة بيانكا؛ فيدق لي لي باب الحمام طالبا منها أن تأخذ هاتفها لترد على الرسالة، وحينما تراها تقف مذهولة لتقول لزوجها أنها من المُمكن لها تفسير الأمر، فيرد عليها بأن الأمر ليس في حاجة إلى تفسير حينما يرسل إليها أحدهم ليسألها هل هي ترتدي سروالا داخليا أم لا، لكنها تؤكد له بأنها لا تعرف هذا الشخص، وأن كل ما في الأمر أنه مُجرد صديق على الفيس بوك، وأن الأمر لا يعدو أكثر من لعبة يلعبانها، حتى أنها لم تسمع صوته أو تراه مرة واحدة، لكن لي لي يطلب منها أن تهاتفه؛ فتخبره بأنها لم تفعل من قبل، كما أنه يمتلك أسرة، لكنه يصر على الاتصال به، ويفعل بنفسه فاتحا مُكبر الصوت، فتسرع إيفا لترد بالنيابة عنها، وتخبره إيفا بأنها ترغب في رؤيته، لكنه يخبرها بأنهما قد اتفقا على عدم اللقاء، وأن هذا القرار كان قرارها هي، أما إذا ما كانت قد غيرت رأيها فهو لا يمانع في ذلك، كما يخبرها بأن صوتها جميلا، وليس كما تخيله.

تغلق إيفا الهاتف؛ ليتأكد لي لي مما أخبرته به زوجته، لكنه يظل ثائرا ويسألها عما إذا كانت مُرتدية لسروال داخلي أم لا، ويحاول جذب فستانها لأعلى إلا أنها تثور وترفع فستانها أمام الجميع، لتؤكد له بأنها لا ترتدي سروالا داخليا، كما تبدأ الأمور في الانهيار أكثر حينما تخبرهم بأن ثمة أسرار أخرى ليست موجودة في هواتفهم، ومنها أنها كات ثملة وتقود سيارة زوجها الذي كان بجوارها، واصطدمت بأحدهم، ومات، وادعى الزوج أنه الذي كان يقود السيارة، وأن الموت قد حدث بالخطأ رغم أنه لم يكن كذلك.

إن الجميع هنا يتعرى تماما أمام بعضهم البعض، والمُخرج مُصرّ على كشف الجانب القبيح من نفوسنا بشكل فيه من القسوة ما لا يمكن احتماله، حتى لكأنه أحد الجراحين الذي يوغل بمشرطه في لحومنا عميقا. هنا يتحدث بيبي الذي ظل مُراقبا، مُتأملا للمأساة التي تدور أمامه طوال الوقت، ليخبرهم بأن لي لي ليس مثليا، وأنه هو المثلي في الحقيقة، كما أن موضوع الفتاة التي يعرفها والتي كان من المُفترض أن يقدمها لهم الليلة حكاية زائفة، لأنه لا يعرف أي فتاة، بل يحب رجلا مثله، وأن المدرسة لا ترغب في تجديد العقد الذي بينهما بسبب مثليته، فيرد عليه روكو مُتسائلا: لم لا تُقاضيهم؟ لكن بيبي يؤكد له أنه لا يستطيع فعل ذلك؛ فهو قد عجز عن إخبارهم، وهم أعز وأقرب أصدقائه بحقيقة كونه مثليا، فكيف سيقف أمام المحكمة، والقاضي، والمُحامي، وأقاربه ليخبر الجميع بمثليته؟

الممثلة البولندية الأصل الإيطالية الجنسية كاسيا سموتنياك

يطلب منه روكو أن يعرفهم بحبيبه في المرة القادمة، لكن بيبي يرد عليه: لن أقدمه لكم، ليس لأنني خائف من كلماتك، لقد سمعت ما يكفي منها الليلة، ولكن لأنني أعرف أنه سيتعرض للأذى من أول نظرة مُندهشة، وأنا لا أريد له أن يتأذى، أرغب في حمايته، إذا ما كنت تحب شخصا ما؛ فعليك أن تحميه من أي شيء.

ربما كان الرد البليغ، الصادق الذي رده بيبي على روكو، من أفضل الجُمل والعبارات في الفيلم؛ فهو يؤكد لهم جميعا بشكل غير مُباشر بأنهم لا يحبون بعضهم البعض؛ لأنهم جميعا يؤذون من يحبونهم، تبعا لما رآه أمامه في هذه الليلة، فالجميع يخونون الجميع رغم علاقاتهم الزوجية، وادعائهم حبهم لبعضهم البعض، صحيح أن روكو وبيانكا يكادا أن يكونا الوحيدين اللذين لم يخونا شريكيهما، لكنهما كانا يخفيان أمورا عن شركائهما رغم أنها لا يمكن لها أن تؤذي أحدا.

يسمع كوزيمو صوت هاتفه في الحمام حيث تنتحي زوجته بيانكا؛ فيسرع إلى الحمام محاولا كسر الباب، وحينما يفتحه يجدها تقف أمام المرآة لتضع أحمر الشفاه، مُخبرة إياه بأن أمه قد هاتفته وأنها قد أخبرتها بأنه سيصبح أبا قريبا، ثم تُقبل شفتي بيبي مُخبرة إياه بأنه على حق، وعليه ألا يقدم حبيبه لهم، والاحتفاظ به لنفسه فقط حتى لا يؤذيه.

الممثل الإيطالي فاليريو ماستاندريا

هذه الانهيارات الاجتماعية والأسرية المُتتالية التي رأيناها في هذه الليلة العاصفة هي ما تؤكد لنا أن جوانبنا المُظلمة التي نحتفظ بها داخلنا إذا ما انفجرت ستدمرنا قبل تدمير كل من يحيطوننا؛ لذا فالفيلم يدفع بمُشاهده لإعادة النظر في حياته مرة أخرى بمُجرد الانتهاء منه، ولعل المُخرج كان من الحرفية ما جعله يوجه مُدير التصوير الإيطالي Fabrizio Lucci فابريزيو لوتشي الذي صور الفيلم بحرفية عالية، لا سيما أن المكان كان مُغلقا وضيقا؛ الأمر الذي جعل الكاميرا تتحول إلى مُجرد شخص شاخص للجميع، مُتأملا لهم، يتفحصهم بروية، ناقلا لنا تعبيرات وجوههم المُضطربة، الشاعرة أحيانا بالقلق، وأحيانا أخرى بالارتياح المُؤقت، وغالبا في انتظار كارثة مدوية لا بد من حدوثها لينفجر المكان بالكامل إلى كارثة اجتماعية؛ لذا فالكاميرا تُحاصرهم تماما وكأنهم مسجونون، بينما هي السجان الحريص على مُراقبتهم، صحيح أنها أحيانا ما تفك حصارها عنهم بابتعادها؛ لتنقل لنا اجتماعهم حول مائدة الطعام في لقطات عامة Full Shot، لكنها لقطات مُتأملة أيضا، وربما تكون مُزدرية لهم جميعا؛ نظرا لانقسامهم النفسي وخديعتهم جميعا لبعضهم البعض.

تسرع بيانكا للخروج من منزل روكو وإيفا، فيطلب روكو من كوزيمو اللحاق بزوجته، هنا يعمل المُخرج الإيطالي باولو جنويس على التصعيد من فنية الفيلم ليصل إلى هدفه منه، بالانقلاب Twist الذي يحدثه في فيلمه حينما نرى كوزيمو يلحق بزوجته أمام بيت روكو بينما تنظر إلى القمر لتتشابك يديهما، ونرى كارلوتا أمام سيارتها طالبة من زوجها الإسراع للعودة إلى البيت بسبب برودة الجو، بينما يهبط بيبي وحيدا ليستقل سيارته، بينما الأصدقاء يطلبون منه أن يأتي بالفتاة الجديدة التي ارتبط بها للتعارف عليها، فيخبرهم بأنها بمُجرد ما تُشفى سيأتي بها، وينتقل بنا المُخرج إلى إيفا وروكو في غرفة نومهما بينما تسأله إيفا: لِمَ لم توافق على اللعبة؟ ليرد بهدوء: لم تعجبني الفكرة. فتقول: لا، لقد أصررت على عدم اللعب، ألديك ما تخفيه؟ ليرد: لا. فتسأله: لم إذن؟ ليقول بحكمة: لأننا قابلون للكسر، جميعنا، البعض منا أكثر من الآخر، أنت على حق، لقد أصبح هذا صندوقنا الأسود، إنه يحتوي على كل شيء بداخله، ربما أكثر من اللازم، ومن الخطأ التلاعب به، لكني ليس لدي ما أخفيه، يمكنك أن تفعلي به ما ترغبين، يمكن إلقاء نظرة، لا يوجد رقم سري.

الممثل الإيطالي ماركو جياليني

يضع روكو هاتفه أمامها بجوار الفراش، بينما يُلاحظ قرطيها اللذين تخلعهما من أذنيها ليسألها عما إذا كانت قد اشترت قرطين جديدين؛ لتومئ له برأسها. أي أن المُخرج هنا انطلق- كما سبق أن قلنا- من فرضية "ماذا لو"، ماذا لو كانت كل هذه الأحداث السابقة قد حدثت بالفعل إذا لم يرفض روكو لعب هذه اللعبة؟ بالتأكيد لانهارت حياة الجميع كما رأينا، ولتعرى الجميع أمام بعضهم البعض، ولعرف روكو أن زوجته التي اقترحت اللعبة تخونه مع صديقه كوزيمو.

إن هذا الحوار الدائر بين إيفا وروكو يحمل فلسفة الفيلم التي رغب المُخرج في الحديث عنها، أو بالأحرى تحذيرنا منها، وسُرعان ما تنتقل الكاميرا إلى كوزيمو وبيانكا التي تقود السيارة بينما كوزيمو ينظر في هاتفه حيث جاءته رسالة من حبيبته/ زميلته في العمل، ورسالة أخرى من إيفا كانت قد أرسلتها له أثناء العشاء تقول له فيها: ليس لديك فكرة كم أرغب فيك الليلة! فيقوم بحذفها، وحينما تسأله بيانكا عما يفعل، يرد عليها بأنه يرسل رسالة لإيفا وروكو يشكرهما فيها على العشاء، والليلة الجميلة.

الممثلة الإيطالية ألبا روهرواتشر

لتعود الكامير للانتقال إلى كارلوتا ولي لي حينما عادا إلى منزلهما، بينما يسرع لي لي إلى الحمام لتفحص هاتفه مُتأملا الصورة الجديدة التي أرسلتها له رفيقته، في الوقت الذي تُسرع فيه كارلوتا إلى غرفة النوم لارتداء سروالها الداخلي خفية. لتعاود الكاميرا الانتقال إلى بيبي الذي يعود وحيدا في سيارته إلى حبيبه.

إن الفيلم الإيطالي "غرباء تماما" للمُخرج باولو جنويس ليس مُجرد فيلم شديد الجودة من الناحية الفنية، لا سيما السيناريو، وأداء المُمثلين فيه، بل هو مُغامرة فنية على الحافة تماما بالنسبة لجميع العاملين فيه، إما أن تستمر في وتيرة الصعود التدريجي جاذبة إليها المُشاهد، وإلا سقطت فجأة من ذهن من يراها؛ فيحجم عن الاستمرار في مُتابعتها، وهو ما يجعل المُونتير شديد اليقظة لاختيار القطع المُناسب، والمشاهد الحيوية فقط في السرد الفيلمي، ويجعل المصور شديد الحساسية تجاه لقطاته وتكويناتها، والاهتمام بجميع المُمثلين الجالسين إلى منضدة العشاء، والتنويع بين اللقطات القريبة، والقريبة جدا، أو العامة، والمتوسطة. ويجعل كتاب السيناريو شديدي الدقة في كتابته لا سيما أنه يعتمد اعتماد كليا على الحوار فقط؛ الأمر الذي يجعلهم حذرين بمهارة في تطوره التدريجي، ويجعل المُمثلين على استعداد دائم للمُنافسة فيما بينهم للتعبير عن الشخصيات بدقة، وإظهار انفعالاتهم الدقيقة على وجوههم، لا سيما أنهم نادرا ما يتحركون من أماكنهم، بل إن المُغامرة الكبرى هنا تخص المُخرج الذي غامر بإخراج مثل هذا الفيلم الصعب، محاولا إدارة فريق عمل الفيلم بالكامل، مُحافظا على حيويته وتصاعده حتى النهاية.

الممثلة الإيطالية أنا فجلتا

كما لا يفوتنا أن الفيلم يحمل مضمونه داخل العنوان بشكل فيه الكثير من السُخرية، فرغم أن جميع هؤلاء الأشخاص يرتبطون مع بعضهم البعض إما بالصداقة، أو الزواج، إلا أنهم لا يعرفون أي شيء عن بعضهم البعض، وبالتالي فهم بالفعل غرباء تماما، وليس كما يظنون هم!

 

محمود الغيطاني

مجلة ميريت الثقافية

عدد إبريل 2022م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق