الخميس، 12 ديسمبر 2019

مطماطة.. مراهقة السرد الرومانسي

إذا ما تأملنا اتجاهات الرواية العربية عبر تاريخها كما يصفها ويصنفها التاريخ الأدبي العربي سنعرف أن هناك اتجاها روائيا أطلق عليه الباحثون في تاريخ الأدب العربي الحديث اسم "الرواية الوجدانية" أو الرومانسية، وهي الرواية التي ركزت على التفاصيل الوجدانية للشخصية التي تتناولها، أو تعمل على تحليل هذه الشخصية ومشاعرها تجاه الآخرين، والعالم. هذا الشكل من أشكال الرواية برع فيه الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله في الأربعينيات من القرن الماضي وغيره من الروائيين، لكننا نلحظ أن هذا الشكل الروائي فيه الكثير من الخصائص التي لم تعد مناسبة لتطور آليات السرد الروائي الحديث الذي نراه الآن، والذي ينحو باتجاه التجريب سواء على مستوى الشكل، أو الموضوع، أو اللغة؛ ومن ثم انتهى هذا الشكل من السرد وحل محله الكثير من أشكال السرد الأخرى التي يغلب عليها التجريب أكثر من اتجاهه نحو الكلاسيكية.
هذا السرد الرومانسي إذا ما حاولنا تناوله بالقراءة أو التحليل النقدي الآن سنجد أننا غير قادرين على الاستمرار في قراءته اللهم إلا إذا أردنا دراسة هذه الفترة الزمنية من تاريخ الأدب العربي؛ فهو شكل من السرد كان متناسبا تماما مع زمنه الذي أنتجه فقط، لكنه لم يعد مناسبا للزمن الآني الذي نعيشه، ومن ثم سنرى أنه شديد السذاجة، والإملال، والترهل، والثرثرة، والتزيد، ومحاولة التفاصح في اللغة وغير ذلك من الخصائص التي ستصرف أي قارئ عنه، بل وستجعل الباحث في تاريخ الأدب يحاول تجرعه على مضض من أجل إتمام بحثه التاريخي الأدبي فقط، أو التساؤل الساخر: كيف كان هؤلاء الكتاب يكتبون هذا السرد ويتقبله القارئ باعتباره أكمل أشكال السرد العربي التي جعلت من كتابه نجوما في عالم الرواية العربية.
هذه الفترة التاريخية من تاريخ السرد الروائي العربي، والتأمل فيها هو ما دار في ذهني أثناء قراءة رواية "مطماطة" للروائي التونسي عثمان لطرش؛ فهو حريص كل الحرص على هذه الخصائص التي لم تعد ذات قيمة في السرد الروائي اليوم، بل يبدو أن الروائي يظن أنه ما دام يلتزم بهذه الخصائص فهو هكذا قد أجاد، رغم أن هذا الظن مجرد وهم لا أدري من هو الذي أقنعه به؛ مما حدا به إلى التزام هذا الشكل الساذج من السرد منذ بداية الرواية حتى نهايتها؛ مما جعلها ثقيلة لا يمكن لها أن تنتهي نتيجة رداءة السرد، وتزيده، وتكلف الأحداث والأمور والشخصيات، بل والتكلف الشديد في اللغة؛ الأمر الذي جعل اللغة السردية في هذه الرواية من أهم عوامل هدمها تماما منذ السطر السردي الأول؛ نتيجة عدم القدرة على استساغتها أو هضمها، والشعور بأنها لغة تأتي من بطون المعاجم والتاريخ، منفصلة تماما عن الزمن الذي نعيش فيه؛ مما يؤدي بها إلى الكثير من الثرثرة والتزيد، والوصف الذي لا داعي له. أي أن الرواية كان من الممكن اختصار نصفها على الأقل لو التزم لغة حديثة تتناسب مع السرد الحديث.
تبدأ رواية "مطماطة" في قرية مطماطة في الجنوب التونسي، وهي قرية في بطون الجبال. يتحدث الروائي عن صابر المدرس الملتزم البدوي صاحب الشخصية القوية والمعارض لما يدور من فساد في عهد زين العابدين بن علي، والذي يتزوج من "ناجية" لكنه في ليلة دخلته يهجم عليه زوار الفجر أو "الغول الأبيض" كما كانوا يطلقون على ذراع السلطة  هناك، فيعتقلونه ويقومون بتعذيبه والحكم عليه بالسجن، بينما تنهار ناجية وتظل في غيبوبة لمدة أسبوع، وحينما تعود إلى وعيها تنزح إلى باريس هي وأمها وأخوها لتعيش فيها على ذكرياتها القصيرة جدا مع صابر، وتظل تجتر اللحظات القصيرة التي كانتها معه، بالإضافة إلى حزنها ورهبتها مما رأته حينما هجموا على المنزل لاعتقال زوجها. يحزن سامح على الحال الذي وصلت إليه أخته من شرود وحزن دائم؛ فيعمل على تهريب صابر من سجون "الغول الأبيض" واستقدامه إلى باريس ليزفه على شقيقته مرة أخرى. ينجح في ذلك بالفعل ويأتي صابر إلى باريس بعد ست سنوات من السجن والاعتقال والتعذيب والإهانة، وينجبا فتاة جميلة يسميها "مطماطة"؛ الأمر الذي كان يُسبب لها الكثير من الحرج في فصول دراستها؛ مما يجعلها كثيرة التساؤل عن اسمها؛ فيحكي لها والدها عن قريته التي يحبها ويرتبط بها. يعمل صابر في باريس من خلال إحدى المجلات التي تصدر بالعربية، ويكتب الكثير من المقالات المعارضة للقمع في تونس، إلى أن تقوم الثورة التونسية على بن علي، وهنا يصر صابر على العودة هو وأسرته إلى تونس مرة أخرى.
هذه هي القصة التي تدور حولها رواية "مطماطة" والتي كان من الممكن لها أن تكون أكثر حيوية ويتم سردها في حوالي 90 صفحة فقط، إلا أن إصرار الروائي على التزيد، والإسهاب، والوصف، والتعليق، والثرثرة، التي لم يكن لها أي معنى سوى إثقال السرد جعله يكتبها في 169؛ مما أكسبها الكثير من الملل، والرغبة في الانصراف عنها.
إذا ما تناولنا رواية "مطماطة" سنلحظ منذ الصفحات الأولى أن الروائي يحرص على وجود تصديرين للرواية قبل البدء في السرد الروائي، التصدير الأول يأتي بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. مطماطة التاريخ"، وهو يحرص في هذا التصدير على أن يكون من جزئين، الجزء الأول منه للتعريف بمطماطة كما تحدث عنها عبد الرحمن بن خلدون، بينما الجزء الثاني من التصدير الأول يأتي بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. مطماطة الجغرافيا"، وفيه يعرفنا على مطماطة من خلال الجغرافيا، وتضاريسها، وسكانها من العرب والبربر، وغير ذلك من الأمور.
لكننا إذا ما حاولنا أن نتقبل على مضض هذا التصدير باعتبار أن القارئ غير التونسي لا يعلم شيئا عن تاريخ مطماطة ولا جغرافيتها ولا سكانها، فإننا لا يمكن لنا تقبل التصدير الثاني مطلقا الذي جاء بعنوان "قبل البدء.. قبل التخييل.. على سبيل التمهيد"؛ لأنه في هذا التصدير لخص لنا محتوى الرواية وحكاها بالكامل في صفحتين، وقال لنا ما الذي يقصده بمطماطة في الرواية وأنها فتاة أطلق عليها أبوها هذا الاسم بسبب كذا وكذا، أي أن الروائي هنا لم يكن في حاجة إلى كتابة روايته بعد هذا التلخيص الذي قدمه للقارئ؛ مما يجعلنا نتساءل لم كتبها إذن ما دام قد لخصها لنا في صفحتين؟! وما هو الداعي أساسا لتلخيصها اللهم إلا أن الروائي لم يخرج بعد من عباءة السرد الكلاسيكي في الأربعينيات من القرن الماضي، أي أنه يعيش بذهنه وسرده هناك في الزمن الماضي بينما يعيش بجسده فقط في الوقت الآني. بل يأتي هذا التلخيص أو التصدير باعتباره يلتزم التزاما حرفيا بالفعل بهذا الشكل القديم من السرد غير قادر على الخروج منه أو التطور؛ الأمر الذي انعكس هنا على لغة السرد التي كانت ثقيلة خارجة من بطون المعاجم، وكأنها لغة قريش لم تزل طازجة خارجة من أفواههم الآن.
يقول الروائي في تصديره: "مطماطة في الرواية فتاة ولدت في باريس بعد أن هُرب أبوها من سجن تونسي، وكان قد أودع هناك بسبب نشاطه السياسي المعارض للغول الأبيض في حقبة التسعينيات. سمى صابر وزوجته ناجية المولودة مطماطة، وهو اسم قريتهما التي عشقاها حد الجنون، ومُنعا من العودة إليها ولمس ذرات ترابها. معظم شخوص هذا المتن التخييلي مُبعدون عن أوطانهم، تبرح بهم جراحات اللهفة ويستبد بهم الحنين إلى الحرية المسلوبة.. إلى الوطن السليب. الصبية مطماطة تسكنها أشواك الاسم فتنشأ منشغلة باسمها راغبة في معرفة التاريخ والجغرافيا.. ساعية إلى أن تعيش اسمها مكانا ووجدانا. صابر وناجية والثمرة الناضجة تحررهم الثورة وتمنحهم تأشيرة الحرية والكرامة؛ فتعانق مطماطة الشخصية مطماطة المكان"! هنا لابد من التوقف لنقول ما كل هذه السذاجة يا رجل، إن السرد لا يمكن له أن يكون هكذا؛ فرغم سذاجة الفكرة وفرط رومانسيتها- بمفهوم الرواية الرومانسية في الأربعينيات- إلا أن الرواية لا يمكن أن يتم تلخيصها هكذا. لقد خدعك خيالك في التجويد كثيرا حينما ظننت أنك بهذه الجريمة النكراء في التلخيص ستقدم لقارئك شيئا ذا قيمة، أو أنك ستدهشه؛ لأنك في الحقيقة جعلت القارئ راغبا في الانصراف عن الرواية وعدم قراءتها منذ الصفحات الأولى، وقبل أن يبدأ السرد.
إذا كان من الممكن لنا تقبل التصدير الأول للرواية تاريخيا وجغرافيا على مضض باعتبار أن القارئ غير التونسي يجهل ما الذي تعنيه مطماطة- رغم أننا نرى أنه لا أهمية له مطلقا-، فنحن لا يمكن لنا تقبل التصدير الثاني، أو ملخص الرواية قبل بدايتها؛ لأن الروائي هنا يفترض في قارئه الغباء والسذاجة أولا، ويعتبر نفسه وصيا عليه ثانيا، بالإضافة إلى إفقاده الرواية لجمالياتها وتشويقها، والانحباس داخل شكل تقليدي من السرد "أكل عليه الدهر وشرب"، ولعلنا استخدمنا هذه الجملة التراثية كشكل من قبيل المقاربة الساخرة التي تتلائم مع فكرة المؤلف الكلاسيكية عن الرواية، وفهمه للغة.
لعل أهم آليات الهدم في هذه الرواية، لغة السرد التي حرص عليها الروائي الكثير من الحرص حتى نهايتها، يقول الروائي منذ السطر السردي الأول في روايته: "انفتحت أجفانها بطيئة ثم انجذبت إلى دفء الفراش، تكوّرت والتفت بالغطاء وأغمضت عينيها تترشف ثمالة في أدنى كأس النوم، هي تستلذ الغفوة بعد اليقظة، كأن الوسن زلزال تعقبه رجّات ارتدادية، المنبه يصر على اغتيال اللذة بنغمات عسكرية مفزعة، أزاحت الدثار الوثير كارهة ودون شفتيها بركان غضب. هي تحب النوم بل تستأنس به، تفر إليه وتفزع فيجود عليها بما تطلب وزيادة. لأمر ما اللذاذات تشتد جاذبيتها ويتضاعف سحرها متى شارفت على النهاية، أوقفت بحركة عنيفة مدافع الهاتف وجلست حيرى سكرى كأن أمرا خطيرا يهم بها. هذا دأبها كلما أفاقت صباحا تعيش لدقائق حالة فراغ مقيتة"، أقسم أنه كتبها هكذا كما نقلتها نصا!!
الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله
ربما نلمح في هذا المقطع الأول الذي افتتح به الروائي روايته بعض الأمور التي لا يمكن لها ان تستقيم مع آليات السرد العربي المعاصر منها: الغنائية في السرد، ثم المفردات التراثية التي لا تتلائم مع السرد والتي لا يمكن للسرد الحديث استعمالها مثل " تترشف ثمالة في أدنى كأس النوم"، " تستلذ الغفوة بعد اليقظة"، "الوسن"، " الدثار الوثير"، "دأبها"، كما لابد هنا من الانتباه إلى التشبيهات التي لا معنى لها، فكأن الروائي يُشبه بما لا يستقيم التشبيه معه مثل: "المنبه يصر على اغتيال اللذة بنغمات عسكرية مفزعة"، فكيف يمكن وصف نغمات المنبه بالنغمات العسكرية المفزعة؟ التشبيه هنا غير مستساغ تماما، كما أن قوله: " أزاحت الدثار الوثير كارهة ودون شفتيها بركان غضب" يجعلنا نتساءل: ما هو السبب في "بركان غضبها"؟ بالتأكيد أنها هي من ضبطت المنبه من أجل إيقاظها، ولم يكن هناك من أرغمها على النهوض من الفراش، وما هو الفعل الذي أدى إلى رد فعلها الغاضب؟ ليس هناك في الحقيقة ما يؤدي إلى ذلك ومن ثم فالروائي هنا يلقي الكلام على عواهنه. كما نلحظ أيضا أن الروائي يحب الثرثرة والتزيدات التي لا معنى لها؛ فكل هذا المقطع كان من الممكن جدا اختصاره في سطرين فقط بدلا من كل هذه الاستطرادات التي تثقل السرد كأن يقول: "فتحت جفنيها ببطء حينما دق جرس المنبه صباحا. حاولت النهوض من فراشها، لكن رغبتها في النوم غلبتها. أوقفت رنين المنبه المزعج بينما جلست على الفراش في حالة من الفراغ، راغبة في العودة إلى النوم".
في مقطع ثان يكتب المؤلف: "يممت شطر النافذة، أزاحت الستار فانزاح ولكنها لاحظت أن لا ضوء يصفع عينيها المخدرتين، وجفنيها المثقلين، ارتابت وظنت أن المنبه قد أخطأ لحظة الرنين المناسبة، قطّبت جبينها ثم كورت شفتيها ودفعتهما إلى الأمام سؤالا وحيرة. ولما دنت أكثر استبان الأمر، المنبه على صواب. أمامها سحب سوداء قاتمة تتلاحق طبقا على طبق كثيفة تخيم هذا الشتاء على سماء باريس، تحجب الشمس، تبدد أشعتها، تصفع الأجساد الغضة، تعضدها في الفعل سياط البرد ومعازف الريح، الريح تنوح فتجرح رخام الروح. المتضادات تلتقي في الفعل.. سياط الشمس تفعل فعل سياط البرد، والثلج كالنار يحرق. حتى النفس تبكي إذا فرط عليها الفرح وإذا فرط عليها الحزن. صوت الريح يدركها صفيرا موحشا ينفذ متحديا منافذ أُحكم غلقها، ترتد النفس وتنكمش ويتكور الجسد ويرتعش. بعثت من فيها على أديم الزجاج الناعم أنفاسا حرّى فتجمعت بخارا كثيفا"، هنا لابد من التوقف أمام هذا المقطع السردي قليلا للتساؤل: لم كل هذا التزيد والتعليقات، والتأملات التي لا معنى لها، إن المقطع السردي يفيد أنها لم تر شيئا حينما فتحت النافذة بسبب وجود سحب كثيفة، أي أنه كان من الممكن له أن يكتبه: "أزاحت ستار النافذة لكنها لم تر شيئا، ظنت أن المنبه لم يرن في موعده، لكنها أيقنت أنها في الصباح حينما رأت السحب الكثيفة في سماء باريس، والتي أشعرتها بالكثير من البرودة القارسة"، فلم كان كل هذا.
إذا ما تأملنا الاقتباسين السابقين من الرواية ثم قرأنا هذا الاقتباس الأخير: "راح عبود يتقدم في خطوات مضطربة نحو النافذة وقد أخذ قلبه يخفق خفقات زاخرة بالرقة، تمد مشاعره بفيض من النشوة الحالمة التي يزيد روعتها ذلك القلق المشتهى الموار بين ضلوعه، واستمر في تقدمه ولم يعد يحس من كيانه إلا إحساسات اللذة الروحية التي تستغرقه، وتلك اللهفة التي تدفعه إلى الشباك وقد تركزت كل آماله في أن تقع عيناه عليها. إنه ينطلق إلى الشباك كلما استيقظ من نومه في الصباح وكلما عاد من عمله قبيل الغروب، تداعبه أمنية أن يختلس إليها النظر وهي غادية رائحة في غرفتها، أو وهي مطلة على الطريق تروح عن نفسها. إنها لحظات حياته تلك التي يقف فيها منزويا خلف نافذته يمد الطرف الولهان إليها، والقلب يرقص طربا، والروح تهيم في عوالم صيغت من رقة امتزجت بغيبوبة تخدر الحواس، لا يستشعرها إلا الضارب في الأحلام، فما كان في حياته الرتيبة من متعة إلا تلك اللحظات القصار التي تكتحل فيها عيناه برؤيتها، وتلك الساعات التي يخلو فيها بطيفها الزائر، يعيش معه أجمل حياة"، هل ثمة اختلاف بين هذا المقطع والمقطعين السابقين؟ بالتأكيد لا، بل ربما كان المقطع الأخير أقل وطأة لغوية وتفاصحا من المقطعيين الأولين.
إذن ماذا لو عرفنا أن المقطع الأخير من رواية "السهول البيض" للروائي عبد الحميد جودة السحار؟ هنا يتبين لنا الجريمة التي اقترفها عثمان لطرش حينما كتب هذه الرواية، وهي جريمة لا يمكن لها الاستقامة مع السرد العربي الحديث الذي نعرفه اليوم، إنه ما زال يحيا هناك في الماضي، ويظن أن هذا الشكل السردي القديم هو السرد المعاصر؛ ومن ثم كانت روايته منفصلة تماما عن ذائقة أو فهم القارئ، كما أننا لابد سنلاحظ أن الروائيين – لطرش والسحار- يكتبان بشكل متشابه تماما، حتى أن كل منهم حريص على التعليق على الحدث الروائي، فيتدخل شارحا معلقا وكأننا في فيلم تسجيلي يأتينا صوت المعلق من خلف الكاميرا التي تعرض الحدث. هنا فقط تتضح الصورة أكثر بالمقارنة بين ما كتبه الروائيان ومدى تطابق أسلوبيتهما.
حينما نقرأ: "باريس فجرا عروس تجر أثوابها القشيبة.. يغازلها العشاق بألف لسان. سامح كان واحدا من المتيمين بباريس. هو يعشق مدنا كثيرة حد الوله. يحب مدائن شتى وهوى باريس مختلف مخصوص. بعد باريس هو بالفطرة مشدود مجذوب إلى البيت العتيق وبدرجة أقل يرى نفسه كلفا بمسقط رأسه، حتما عشق الأمكنة ليس كأي عشق. الصبابة فيه حنين ينهمر، حب لا خوف فيه من العاذل ولا من الواشي.. هوى باريس يدغدغ القادم، يُبهر الزائر.. يبرح بالمقيم"، لابد أن نتساءل: لم كان هذا المقطع؟ وما الفائدة منه، وما الذي أضافه الروائي إلى روايته من خلاله؟ وما كل هذه الغنائية الكثيفة في السرد والاستطرادات والتزيدات التي تعيق انطلاق السرد واسترساله بدلا من الدخول المباشر إلى العالم الروائي وقلب الحدث فضلا عن التمهيد الذي لا معنى له؟! وهل لو حذفنا مثل هذه المقاطع الغنائية التي لا داع لها من السرد سيتأثر؟ بالتأكيد لا، ومعنى عدم تأثره يعني أن الروائي لم يكن سوى مجرد ثرثار يستعذب الثرثرة ويلوكها كثيرا.
في شكل قميء من أشكال التفاصح يقول الروائي: "طلقت المكان والزمان وانكسر في مخيلتها الزجاج وطارت تحلق بعيدا. ذاكرة أب.. ذاكرة وطن.. ذاكرة قرية.. ذاكرة الغول الأبيض.. وهل يحيا الإنسان بلا ذاكرة؟ هل يستوي الكيان من دونها؟ أيبنى الآتي بتجاهلها؟ هي كالشظايا جارحة ولكن المرء يتلذذ بها. يلوذ إليها.. لعل بين اللذة والألم وشائج. تزاحمت حولها الذكريات، تدافعت كأنها تلاميذ الصفوف الأولى يتكاتفون من أجل قيادة الصف. وقفت الصبية، فكرت وفكرت ثم اقتنصت واحدة وزجرت الأخريات فانصرفن خائبات. قصة أب عشق حد الجنون قريته النائمة بين أحضان الجبال، أدرك شعاب الحب ووهاده، تشمم حشائشه واستلذ قطرات دم نزفت من أشواكه. الصور بدت أمام ناظره متقطعة، رأى جدران الذكرى تنثلم.. الذاكرة امرأة عارمة الشهوة تبدي وتصد، تتمنع والرغبة تفور بين جنبيها. انكفأت تنتظر انهمار الغيث ورددت وجع العشق صدى يأتي من شعر محمود درويش"، ماذا يريد المؤلف هنا أن يقول سوى أنها بدأت تتذكر؟ لا شيء آخر، فلم كل هذا التفاصح والتشبيهات والتساؤلات التي لا داعي لها؟! ليس ثمة سرد هنا بل تأملات لا معنى لها ولا علاقة لها بالسرد الروائي، وهو ما نراه متجليا في: "فجأة شق طالب كالدوسر عتوّا وكالجمل هيجانا الصفوف يرغي ويزبد انفتحت له ثنية وسط الجموع، تبعته جوقة تتغنى بشعارات وتردد أناشيد دون ألحان ودون نظام، ولم تمض دقائق حتى انفجر الدوسر".
الروائي التونسي عثمان لطرش
يحرص عثمان لطرش على الاستطراد والشرح كثيرا في سرده، ولست أدري من أوهمه بذلك؛ فالإيجاز السردي بات هو منطق السرد، كما أن الاستطراد يفترض الغباء في القارئ: "كأن الزمن يهيئها للفرح.. الزمن لمن يفقه معجمه ويمتلك مفاهيمه بين أمرين إما أن ينضج الفرح للمرء فيلقاه هنيئا مريئا، وإما أن ينضج الصدمة للمنتظر فيسبح في بركة من المرارة.. لم تعد هذه الدقائق زمن ترقب بل هي لحظات لهفة مرتعشة. سافرت بعيدا، ضربت عميقا هنا وهناك، حلقت عاليا عاليا، لامست السماء، داعبت النجوم، عانقت الزهور والرياحين، قطفت ثمارا متدلية، غنيت مع الطيور، راقصت الفراش. فجأة وقد عدت إلى الفراش، دق الباب ثلاثا ودق القلب ألفا"، هنا يتحدث الروائي عن أم مطماطة ليلة دخلتها وانتظارها لزوجها صابر، وبمجرد ما تحدث عن الزمن الذي سيهيئها للفرح نسى السرد والحدث تماما وهام على وجهه في عوالم من التوصيفات والاستطرادات المتأملة الشارحة لمعنى الزمن والتي تجعل القارئ راغبا في لفظ الرواية تماما والانصراف عنها.
لم يكتف الروائي هنا بالاستطرادات والتأملات فقط، بل نراه يتدخل في السرد بشخصه كروائي ليعلق على السرد: "لطالما كان العشق الصادق كالغيمة الممطرة ينبت زرعا خصيبا في كل البساتين.. في الكلام.. في الابتسام.. في الحركات.. في السكنات.. في الإشارات.. العاشق تفضحه حركاته أنّى سار يتضوّع منه عبق الوجد وينتشر حوله فيعلم الجميع ممن درى معنى العشق ما يُضمر. ما إن يتعتّبا الباب الزوج والبنت حتى تلفها كآبة الوحدة فتستسلم لهواجس الماضي بل كأنها مع الأيام وقعت في غرام الذاكرة، تُبكيها تُدمي قلبها ولكن لا تستطيع عنها فكاكا.. تغرق في مستنقع النفس، تسافر في ثنايا الذاكرة.. ما أعسر الرحيل.. ما أشقى الزمن.. لقد عضها الدهر بنابه وأناخ عليها بكلاكله.. ما أشد سياط الظلم، ترى الذاكرة كالرحى أمام جدتها تدور وتدور فيستحيل الحب دقيقا.. الظلم أيضا رحى تسحق النفس"، ولعل الطامة الكبرى الصاعقة بالفعل حينما لمحت مفردة "كلاكله" التي يستخدمها الروائي اليوم.
كما نلاحظ أن العديد من المقاطع لا علاقة لها بالسرد الروائي بل هي صالحة لأن تكون مقاطعا من مقال ما بعيد كل البعد عن الفن الروائي: "تذكر المواعيد في الوطن.. استحضر مفهوم الزمن عند الجهلة من بني جلدته هناك في البلاد العربية الإسلامية الواسعة.. أسوأ ما يذكر بعد الغول الأبيض استهتار الناس بالوقت بل الأدهى والأمرّ أن المتأخر عن الموعد يتباهى ولا يرى في صنيعه نقيصة الرئيس والوزير والمدير والعامل والطالب. بل هم يرون في تقديس الوقت ضربا من السذاجة وبعضهم يتندر بمن يحضر في الوقت ومن يجد في احترام المواعيد. ألا يعلمون أن مفهوم الوقت محرار تقاس به درجة تحضر أمة ما؟ أنسوا أم هم يتناسون قول أجدادهم الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ هنا في باريس تصيبك العدوى. عدوى الكد والاتقان والانضباط والنظافة ووو. هي لعمري سلوكات أسلافنا الصالحين تركناها بل منحناها لغيرنا من الشعوب التي اعتنقت عقيدة البناء والفعل والجمال في حين تركنا عقيدة الإيمان والتسليم. كأنهم اقتنصوا منا هذه القيم ونحن في غفلة حضارية"، ما معنى كل هذا المقطع؟ إنه مقطع من مقال وليس سردا روائيا، بل يعلق فيه الروائي برأيه في أمر ما لا يمكن أن يثري الحدث الروائي، وهذا ما نراه في قوله: "أحيانا أرى أنه من العبث أن نميز بين شخصين من بلدين متجاورين، نقول عن هذا جزائري وعن هذا تونسي والمسافة الفاصلة بينها أمتار وأسلاك. هي لعنة الهويات المتشظية. هو فعل الغزاة وتوهم العرب أن الجزء أفضل من الكل وأن الولاء للقُطر بديل حداثي عن الولاء للأمة"، من خلال هذين الاقتباسين لابد أن ننصح الكاتب بعدم الكتابة الروائية مرة أخرى إلا بعدما يفهم ما معنى السرد الروائي؛ لأنه هنا يرتكب جريمة فادحة في حق السرد الروائي وحق نفسه، وفي حقنا نحن كقراء نتعذب معه من أجل قراءة ما يكتبه باعتباره رواية.
ثمة مباشرة فجة في السرد داخل رواية مطماطة نراها غير مرة، هذه المباشرة نلحظها في: "في مصر وتونس في.. وفي.. كلنا يا أخي في الخوف شرق، هذه الحالة تحدث عنها ميشال فوكو الفيلسوف وسماها "ميكرو فيزياء السلطة" وتعني العبارة الفرنسية السلطة الخفية وشرح هذا الفيلسوف الفذ طرائق الخوف والرهبة في الأنفس بدءا بهراوة الشرطي مرورا بما يُدس في المناهج والمقررات المدرسية انتهاء بماكينة الإعلام الذي يتنامى دوره السياسي.. وهذه الطرق تنتج بشرا ديدنهم الخوف والتردد قبل الفعل"!! بالتأكيد أن علامتي التعجب هنا من عندي؛ فبالرغم من أن هذا المقطع جاء من خلال الحوار إلا أنه شديد الإقحام والمباشرة والفجاجة والافتعال.
يكتب الروائي التونسي عثمان لطرش في روايته: "ترك سامح ركبة أمه واقترب من ناجية فقد استفزه صمتها البديع ووجومها الشامخ الرصين فمازحها وقد أوتي مهارة لم يتعلمها في المدرسة، فهو القادر على تحريك السواكن، يُجري الكلام على اللسان إذا شح ويمتص من الوجوه الوجوم ومن القلب الهموم هو زرّاع البهجة وليس له من المعاول إلا قلبا سليما ولسانا رطبا"، وهنا لابد أن نؤكد على أن الاهتمام بالتوصيف المفرط والعمل عليه هو مفسد للمعنى، وغير مجد له، كما يدعونا للتساؤل: هل يكون الوجوم شامخا ورصينا كي نصفه بهذه الأوصاف؟!
القارئ لرواية مطماطة للروائي عثمان لطرش سيلحظ أن الروائي حريص كل الحرص على التأكيد على المثل والتقاليد، والتمسك بالإسلام والعض عليه بالنواجذ- كما كانوا يقولون قديما-، لكن لعل الحرص على هذه الأمور داخل الرواية بشكل مفتعل تماما إما بالقول، أي بالتدخل بنفسه في السرد، أو بافتعال الأحداث هو مفسد للرواية تماما، بل هو محاولة للتأكيد من الكاتب على أنه يرفض ما يتحدث عنه، ورفضه للشخصيات التي يكتب عنها محاولا التبرؤ منها، ودفع تهمة موافقته على أفعالها من تهريب وأحداث روائية قد لا تتناسب مع قيمه هو كمؤلف، وهذه كارثة حقيقية أن يرفض الكاتب ما يتحدث عنه من خيال روائي –إذا كان هنا ثمة خيال في هذه الرواية-؛ فالمبدع الحقيقي لا سقف له في خياله، ولا علاقة له بالأخلاقيات والمثل حين كتابته لنصه الإبداعي. يقول لطرش: "لخضر تراوده الذكرى تخفف عليه الوخز والوجع.. تذكر سامح التونسي.. احتواه وآواه ورسم له طريق الإحسان بالإحسان، فطلق كل ما لا يرتضيه الإسلام وينهي عنه وأقبل على الدين والحياة يعب منها حلالا طيبا. وقد استقام الأمر، فالرزق اليوم وفير ولكن شوكة الوطن جارحة"!
إذا ما تأملنا مستويات الحوار في رواية مطماطة لتأكد لنا أن الروائي لا يعرف كيف يدير الحوار، أي أن مستويات الحوار لا يمكن أن تكون مقنعة بالنسبة للقارئ العادي، فيقول: "ناجية ألم تطردي الدجى عن لياليك بعد؟ ومن يُبدد عتمة حطت على أيام صابر ليل نهار.. أراد أن ينتهز الفرصة فسبقته إلى الكلام وواصلت كأنها لا تحدث أحدا. ألا أفي لزوجي؟ ألا أقاسم من أحببت مآسيه؟ أأرفل في حلل الحياة وهو يتخبط في الأوحال؟ ألا أكون زوجة مخلصة؟ فتحت له أخته طريقا لم يتوقعه وكفته مؤونة كبرى من الحديث. فغير الخطة واختصرها. حسنا حسنا أخيتي.. ألا تثقين بما أقول؟ كل الثقة يا سامح.. إن بدا لعيني شعاع فمن الله ومنك. ألم أعدك يوما بأن إرادتي تذيب حديد سلاسله؟"، من خلال هذا الحوار المفتعل لا يمكن لنا أن نتقبله، أو يستقيم السرد الروائي، أو يكون مقنعا لطفل ما زال يتعلم القراءة في مراحله الأولى؛ فكيف لشخص أن يتحدث بمثل هذا الشكل من الحوار ومثل هذا المستوى اللغوي في الوقت الذي نعيش فيه؟ ثمة انفصال حقيقي بين الشخصيات واللغة التي يستنطقها بها المؤلف؛ فاللغة هنا لا تخص الشخصيات بقدر ما تخص الكاتب نفسه الذي يتحدث بلغة عتيقة على لسان شخصياته مما يجعلها منفصلة تماما عن الواقع الذي نعيش فيه. هل من الممكن أن يقول شخص ما يعيش في بارس وفي هذا التوقيت الزمني الذي نعيش فيه "حسنا حسنا يا أخيتي"؟! من أي معجم لعين يأتي الكاتب بمثل هذه اللغة الحوارية؟! وكيف ظن أن الحوار هكذا من الممكن أن يستقيم أو يقتنع به القارئ؟!
الروائي المصري عبد الحميد جودة السحار
بل هو من خلال الحوارات في الرواية يجعل القارئ يظن بنفسه قد عاد إلى عهد دخول الإسلام لمكة وكأن قريش تتحدث أمامنا، أي أنه قد جرنا من خلال آلة الزمن السحرية إلى آل قريش يتحدثون، فنراه يكتب حينما ينجحون في تهريب صابر ووصوله إلى باريس: "قال بصوت كالهمس: لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له منه الفرج ومنه الفرح. إن بعد العسر يسرا. قال الله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" صدق الله مولانا العظيم، رآها تتمتم فعرف أنها تتلو سرا بعض من آي القرآن"، كما نراه يحاول التفاصح لأقصى درجة في حالة من عدم القدرة على الفهم بأن التفاصح في اللغة السردية والبحث عن الكلمات في بطون المعاجم لا معنى له ولا علاقة له بالسرد الروائي فيكتب: "كيف لي أن أنسى الزمن وهو الذي أناخ علي بكلكله"، حتى لكأن امرؤ القيس يتحدث إلينا من قبره، الأمر الذي يقف عائقا بين العمل السردي والمتلقي ويشتت انتباهه وتركيزه.
تبدو لنا المبالغة الحقيقة في الكتابة والتي بدت لنا كالقشة التي قصمت ظهر البعير حينما نقرأ فصلا كاملا من الرواية يحرص فيه الروائي على السجع! وكأنه لم يكفه التفاصح في اللغة فلجأ إلى السجع من أجل ترصيع اللغة وتجميلها أكثر من وجهة نظره: "قالت: حدثني أبي عن الجذورْ سافر بي إلى الأقاصي.. خذني إلى أوار الزمن الغابر.. اسمي أراه يسكن الكتب.. نسيجا في الأذهان. قال: يُحكى أن جدنا مطماط رحل من بر العربْ وصوّب نحو الغرب يضنيه جم الغضبْ. كان شديد البنيانْ يتبعه الصبيانْ وتستدنيه النسوانْ ويُغلظ له رجال العربانْ، في وجهه واحة وجنانْ وترنيم البلبل في اللسانْ.. نشأ يتيما تعضه الفاقةْ.. فلا فرسا ركب ولا ناقةْ.. الأم شكت الدهر ورفاقهْ أما الأب فليس أحد يبكي فراقهْ. بعد أيام وشهور نزل مطماط بواد غير مشهورْ حوله الجبال كالسورْ فيه نبت وطيورْ وماء ينز من الصخورْ فيدور ويدورْ ويتلوّى ثم يغورْ..."، وهكذا يستمر لطرش في سرد هذا الفصل بالكامل على هذه الشاكلة السجعية القميئة التي أفسدت كل شيء في السرد الروائي؛ فزادته فسادا على فساده.
لا ينتبه الروائي التونسي عثمان لطرش إلى منطق الأشياء أثناء كتابته روايته؛ الأمر الذي يوقعه في الكثير من المآزق الساذجة التي تنسحب بالضرورة على الروائي فضلا عن السرد الساذج؛ فحينما يروي صابر لزوجته وابنته عن سنوات السجن يقول: "ماسكي كان مشهورا في السجن، يُعرف من مسكته، كان يُدعى الشنفرى هو مثل الشنفرى الشاعر. كان يؤذي حاضرا وغائبا، هو مخيف، رهيب، قوي.. لا يتكلم إلا لماما.. أحيانا يترنم بأبيات من شعر البرغوثي في الغزل ونعت الخيل والبادية.. ربما هذه هي علة الاسم وقيل إن البعض سماه المرزوقي لما سمع ترانيمه"! ما هذا الهذر يا رجل؟! أتعتقد القارئ بمثل هذه السذاجة؟! كيف يكون أحد السجانين بمثل هذه الثقافة ليترنم بأبيات الشعر؟ وكيف يكون اسمه الشنفرى نسبة إلى الشاعر الجاهلي الشنفرى الأزدي أو ثابت بن أوس الأزدي المتوفي عام 525م والذي كان من فحول الطبقة الثانية من الشعراء الجاهليين؟! إن ما كتبه لطرش هنا يُدلل أنه لا يعنيه منطق السرد بقدر ما يعنيه منطقه الشخصي هو، أي أنه يضع في الرواية ما يروق له دون اهتمام بمنطقية ما يكتبه، ألا يدري الروائي أن الشنفرى الأزدي قد يجهله عدد ضخم من المثقفين العرب، أو من يدعون الثقافة؟ فما باله بالمسجونين، والسجان؟!
هذه اللامنطقية في السرد نراها في ختامه للرواية حينما يكتب: "آخر النازلين من الطائرة الصغيرة هي مطماطة، اضطرابها وخوفها وفرحها المبرح أخّرا نزولها أنوار الفجر لم تساعدها على تبين ملامح الجبل وهي على المدرج. أحست بدوار، تمالكت نفسها وتابعت الخطوة تلو الخطوة حتى لقيت التراب. صرعها اللقاء لم يتحمل كيانها الفائر بالأسئلة أمواج الفرح الهادرة في نفسها، أمواج قوية تتدافع، تتلاطم في نفسها، في ذهنها، تهز الكيان، تلقتها أرض مطماطة وقد تراخت أطرافها، تلقتها ذرات الوطن الدافئة وقد فتر النفس وابيض الوجه.. لقد أُغمى عليها من لفح اللقاء من زمجرة الجبال السعيدة بلقاء البنت العاشقة. من فورة العشق الفائر. أفاقت عند الظهر فعلمت أنها ترقد في حوش الحفر عمارة غريبة عجيبة.. هي تحت الأرض.. رائحة التراب تزكم أنفها الدقيق تذكرت مرويات أمها"، هنا تتجلى لامنطقية ما يكتبه لطرش حتى لكأنه يكتب لنفسه ولا يعنيه أي منطق سيحاسبه عليه المتلقي؛ فكيف له أن يظن أننا سنتقبل ما كتبه حينما وصلت مطماطة إلى قريتها لدرجة أن يغشى عليها من فرط اللقاء؟! إن الفتاة لا تعرف شيئا البتة عن تونس بالكامل وليس عن مطماطة فقط، كما أنها ولدت على أرض فرنسية، وكبرت على نفس الأرض الفرنسية، أي أن ثمة قطيعة كاملة بينها وبين تونس لولا حكايات والديها، فهل يعتقد الروائي أنه من المنطق أن يكون كل هذا العشق داخل البنت بمجرد الوصول إلى أرض الوطن الذي تجهله حتى أنها يغشى عليها؟! كان من الأجدى أن يغشى على أمها أو أبيها حينما يصلان؛ فهما من يعرفان القرية وهما من يعشقانها، أما أن يظل الأبوين على تماسكهما وكأنهما كانا هنا بالأمس بينما يغشى على الفتاة فهذا مجرد درب من السذاجة، وعدم القدرة على فهم سيكولوجية النفس البشرية، ويتنافى مع كل منطق.
رواية مطماطة للروائي التونسي عثمان لطرش رغم افتقادها لكل عناصر الرواية التي نعرفها، ورغم أنه حاول التفاصح كثيرا بالبحث عن المفردات الصعبة في بطون المعاجم، إلا أن المفارقة المضحكة فعليا أن الرواية تخلو تماما من علامات الترقيم رغم أهميتها؛ ومن ثم بدا لنا السرد متداخلا تماما؛ مما جعل الكثير من الجمل تلتبس علينا نتيجة تداخلها مع الجمل السابقة عليها، أي أنه لم يكن يهتم باللغة في حقيقة الأمر، كما أن استخدام النقطتين بين الجمل لا معنى له في اللغة العربية، وليس من علامات الترقيم، في حين أن الكاتب استخدمها كثيرا للفصل بين الجمل في الوقت الذي أراد أن يبين لنا مدى معرفته باللغة في حين أنه يجهل علامات ترقيمها.
لابد للروائي أن يفهم ما هي آليات السرد المعاصر أولا قبل الشروع في كتابة رواية؛ لأنه إذا لم يفهم كيفية كتابة الرواية سيقدم لنا في النهاية شيئا باهتا فاشلا لا يمكن لنا تصنيفه مثل ما قرأناه في هذه الرواية.







محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد ديسمبر 2019م.

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2019

عاشقة من إفريقية.. تدريبات على السرد

هل من الممكن تحويل الخبرات الحياتية إلى سرد قصصي؛ ومن ثم الاستفادة من هذه الخبرات في نسج قصص ينتمي إلى الفن بعيدا عن المباشرة التي لا يمكن لها أن تليق بالفن؟
قد يبدو السؤال هنا غير وجيه وفيه القليل من السذاجة؛ لأن الفن بالضرورة يعتمد على تجاربنا الحياتية المتضافرة بالثقافة التي اكتسبناها من الكتب، وغير ذلك، لكن جوهر تحويل تجاربنا الحياتية ونقلها إلى العالم الفني الذي يختلف كثيرا عنها بجمالياته، وتكنيكاته وأسلوبيته لا بد أن يكون من خلال خبرات فنية ووعي بها، وإلا تحول السرد المعتمد على الخبرة الحياتية إلى مجرد ثرثرات ساذجة لا طائل من ورائها، لاسيما إذا ما حاولنا نقل التجربة كما هي تماما، أي كما حدثت في الواقع من دون الاعتماد على الآليات السردية التي تجعل من هذه الأحداث فنا مختلفا عن مباشرة الواقع، فليس كل ما يدور في الواقع صالحا للفن، كما أنه ليس كل ما هو فن صالحا لأن يكون واقعا؛ لأن الخيال يحمل في طياته الكثير من الشطحات والرغبات التي قد لا تكون صالحة لمعايشتها بقدر ما تكون صالحة للخيال فقط؛ ومن ثم تظل في إطار الخيالات التي يتمناها المرء.
ربما لاحظنا ذلك أثناء قراءتنا للمجموعة القصصية "عاشقة من إفريقية" للقاصة التونسية مها سالم الجويني؛ فالمجموعة تبدو للوهلة الأولى كمجموعة من التجارب الحياتية التي اعتمدتها القاصة كتكأة أساسية يقوم عليها السرد القصصي ومن ثم تحويلها إلى عالم فني يختلف عن الواقع المُعاش، ولكن سواء كانت القصص التي كتبتها القاصة بالفعل مجرد تجربة حياتية، أو حاولت هي كقاصة إيهامنا بذلك فثمة ملاحظات فنية لا بد من التوقف أمامها لمعرفة مدى قدرتها على الصياغة السردية القصصية من عدمها.
نلاحظ من خلال قصص المجموعة أن القاصة تعتمد السرد بشكله الكلاسيكي الذي رأيناه في بدايات السرد العربي في جل قصصها، فلا تجديد، ولا ألعاب سردية، ولا أحلام أو كوابيس، ولا استعارة لتقنيات العديد من الفنون، ولا اعتماد على تيار وعي أو غير وعي. كل ما هنالك مجرد شكل شديد الكلاسيكية في السرد رأيناه لدى العديدين من الكتاب والروائيين في منتصف القرن الماضي، ورغم ذلك لا يمكننا اعتبار هذا عيبا سرديا بقدر اعتباره عدم إحاطة القاصة بأساليب السرد الحديثة، أو عدم وعيها بها واتقانها بالشكل الذي يمكنها من استخدامها في كتابتها.
نرى ذلك مثلا في قصتها "عند مزار بومخلوف" حيث تبدأ القصة بشكل شديد الكلاسيكية: "وافقت أحلام على الزواج من عبد الستار، صاحب محل أثاث في الزهروني، وهو شاب ملتح من أنصار "الدعوة والتبليغ"، شهير في منطقتهم بفتوته وبورعه، يُحكى أنه كان يبيع الخمور في صغره، وكثير الاعتداء على الشباب، كان الجميع يهابه ويخشى الجدال معه، إلا أنه اهتدى إلى تلك الجماعة وصار من الذين يرتدون القميص، سافر للجهاد في سبيل الله إلى الهند لمدة أربعة أشهر، وتلقى دروسا على يد مشائخ المرجعية السلفية"، هنا نلاحظ أن السرد شديد التقليدية، بل إن مفردات اللغة لدى الكاتبة وأسلوبيتها تقليدية جدا؛ حتى أن المفردات لا تمتلك من الإحالات ما يمكن أن يُكسبها المزيد من الثراء، بل هي عادية تقترب من التقريرية التي تنزع عنها القليل من الفنية. في نفس القصة وفي مقطع آخر تكتب: "تعود أطوار خطبة أحلام لعبد الستار حين دُعي ذات يوم بعد صلاة الجمعة لمنزل الحاج إبراهيم الذي كان معجبا به وبإصراره على أداء الفرائض في وقتها، دخل عبد الستار لبيت الحاج حاسرا رأسه لأن هناك من كانت بصدد المرور أمامه بسرعة البرق، فتاة لم تتجاوز بعد السابعة عشر من عمرها". إذا ما تأملنا سردية وأسلوبية هذين المقطعين السابقين، ثم قرأنا المقطع التالي: "كان لا يزال طالبا في الجامعة عندما عرفها. وكان قد مضى عليها أربعة أيام منذ أن احترفت الرقص في إحدى صالات شارع عماد الدين. أما كيف عرفها وما هو تاريخ حياتها قبل أن تحترف الرقص فهذه قصة طويلة تحتاج إلى كتاب. وعندما رأته لأول مرة لم تر فيه غذاء لقلبها ولا ما يحقق آمالها وإنما رأت فيه خطوة إلى الأمام! وقد كان لا بد أن تختار عشيقا، ولو خُيرت لاختارت عشيقها من بين أفراد التخت أو من بين خدم الصالة أو من بين هؤلاء الذين احترفوا العشق وأجادوه وفهموا كيف يرضون الأجساد الرخيصة العقل الضيقة التي تعيش في "الصالات" وتلمع من حولها الأنوار، وتظل وهي منطفئة إلى الأبد".
نقول أننا إذا ما قرأنا المقطعين السابقين ثم قرأنا هذا المقطع الأخير هل من الممكن أن تختلف المفردات والأسلوبية، وطريقة السرد الكلاسيكية والتقريرية والراوي العليم/ الإله بين مقطع وآخر؟ أظن أن المقاطع الثلاثة متشابهة في كل شيء، ولكن إذا ما عرفنا أن المقطع الأخير هو من قصة للروائي المصري إحسان عبد القدوس من مجموعته القصصية "صانع الحب وبائع الحب"؛ لتبين لنا ما نسعى إلى توضيحه، وهو أن القاصة تنتمي في طريقة سردها إلى منتصف القرن الماضي، ونسيت أو تجاهلت أو عجزت عن إدراك أن السرد العربي والعالمي قد تطور كثيرا عن هذه الأسلوبية السردية العتيدة التي لم تعد صالحة للسرد اليوم، وهذا في حقيقة أمره يعود إلى فقر الخبرة الثقافية لدى القاصة، وهزال معرفتها بآليات السرد الحديث وتطوره وتقنياته؛ الأمر الذي جعلها تبدو لنا وكأنها قادمة إلينا من منتصف القرن العشرين، وليس من وقتنا الآني.
تتحدث القصة عن أحلام التي تزوجت من المتدين عبد الستار والذي كان صاحب تاريخ جرائمي ولا أخلاقي قديما، لكنه حينما انضم إلى الجماعات السلفية- كما نرى اليوم الكثير من النماذج- بات الآخرون يرونه شيخا جليلا، ويحترمونه متناسين كل ماضيه. يُعجب عبد الستار بأحلام رغم أن فارق العمر بينهما عشرين عاما، ويستغل ظروف أبيها الذي تثقله المعيشة عن الإنفاق على أبنائه وبناته، كما أن أحلام تُطرد من دراستها لأنها تُصرّ على ارتداء الحجاب في معهدها. نلاحظ أن عبد الستار يحول حياتها إلى جحيم منذ بداية ارتباطهما؛ فالخطوبة بينهما لا رقص فيها ولا غناء باعتبارهما حراما: "كان حفل الخطوبة هادئا جدا ارتفعت فيه بعض الزغاريد فقط، وتمت تلاوة القرآن مع الأذكار، وقام أخ عبد الستار بوضع قرص لأغاني المنشد سامي يوسف"، لكنه لم يكتف بذلك في حفل الخطوبة فقط بل: "أعلن أخ عبد الستار قدوم صديقهم "الشيخ علي" بعد برهة لتقديم درس بمناسبة الخطوبة وليبارك هذا الجمع، وتظاهرت النسوة بالاهتمام وبالسعادة، قدم الشيخ الذي جلس في الصالون الثانية، وعرض محاضرة في "منافع الزواج والنكاح" ومزايا الزوجة الصالحة ومفاسد نساء المسلمين"!
تحاول القاصة من خلال قصتها الحديث عن مأساة معاناة النساء مع الإسلاميين إذا ما ارتبطن بهم؛ حيث لا يرى هؤلاء في الزوجة سوى مجرد خادمة أو عبدة له: "استهل الداعية موعظته بما قال الإمام ابن تيمية في كتابه "أحكام النساء" الذي اشتراه لها الشهر الماضي: على المرأة أن تعلم أنها كالمملوكة للرجل، أي أنها جزء من أملاكه ووجبت عليها طاعته ويستند في ذلك إلى الحديث النبوي الشريف: لو كنت آمرا أحدا لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، من خلال هذا المنطق الاستعبادي يتعامل معها عبد الستار، بل يصل به الأمر إلى أن يكون عنيفا معها جنسيا وكأنه يجرب معها كل تجاربه الجنسية السابقة سواء مع النساء السابقات، أو من خلال خبرته في مشاهدة أفلام البورنو؛ الأمر الذي لا تحتمله أحلام مما يؤدي إلى إرغامها والاعتداء عليها جسديا من أجل الموافقة على رغباته.
صحيح أن القصة تتحدث عن معاناة النساء مع الإسلاميين وعقلياتهم المنغلقة، لكن القاصة وقعت في النهاية في مأزق عدم قدرتها على إغلاق السرد، أو حسن التخلص كما كنا نقول قديما؛ فالزوج يعتدي عليها ويضربها بعنف؛ فتذهب إلى والديها طالبة منهما رغبتها في الذهاب إلى جدتها في "الكاف" وهناك تحتضنها الجدة محتوية إياها لينتهي السرد من دون معرفة ما الذي سيفضي إليه ما سردته عن عبد الستار الذي ذهب إليه والدها بعدما عرف بضربه لها، أي أن القص أفضى في النهاية إلى الفراغ وعدم الاكتمال من دون القدرة على إغلاقه.
في قصة "لن أكون نزوة" نلحظ- فضلا عن الأسلوب الشديد التقليدية في السرد- أن القاصة حينما رغبت في اقتحام السرد أو الدخول إلى قلب الحدث كان هذا الاقتحام مفتعلا بشكل صارخ؛ الأمر الذي يسلب العمل الكثير من فنيته حيث تفتتح القاصة قصتها: "أيا امرأة تمسك القلب بين يديها، سألتكِ بالله لا تتركيني. كان ذلك أول حديثه معي، ولم يضف شيئا حين أمسك بيدي اليمنى قائلا: ما زلتِ في فن المحبة طفلة بيني وبينك أبحر وجبال. حين رمى بشعره خلت نفسي أمام زرياب وهو يعزف في بلاط هارون الرشيد، ذُهلت، أما زال في العرب من يقول شعرا؟! أدرت بوجهي قليلا متظاهرة بالخجل وقلت: ما زلت أقاوم في صمت، وشيب شعرك يغريني. لم أتمالك نفسي عن البوح بأني وقعت في سحر شعره الرمادي، أني أمسك شفتي عن النبس بأن خصلاته من أجمل ما رأيت، ربما لأنها زادت من وقاره ليظهر وكأنه من سلالة ملوك الشرق القدامى"، حتى هنا يبدو لنا السرد رغم تقليديته طبيعيا ومقبولا، لكن الساردة لا تلبث أن تخرجنا من السرد بشكل مقلق من خلال مباشرتها وافتعالها حينما تكتب بعد ذلك مباشرة: "إنه أحمد قابيل، شاعر وكاتب يمني، يدير إحدى دور النشر العربية، كثير الاعتزاز بعروبته ويحفظ تاريخ حِمير، ووجه ذي يزن، وحكايا الملكات السبع، كأنه كتاب مفتوح تورق صفحاته لتتنزل أمامك اسم اليمن"، إن انتقال القاصة المفاجئ من سردها الذي افتتحت به قصتها إلى المباشرة والتقريرية التي جاءت وكأنها تلقي علينا سيرة ذاتية لأحدهم كان من أهم عوامل انصرافنا عن إكمال السرد وشعورنا بالقلق الشديد؛ لعدم تناسب المقطع السابق سرديا مع فن القصة، فضلا عن تقريريته الشديدة. كان من الممكن للقاصة سوق كل هذه المعلومات عن فتاها الذي تتحدث عنه من خلال المواقف السردية، أو الحوار بينهما، أو أي شكل آخر تراه، أما أن تأتي المعلومات عن الشخصية بمثل هذا الشكل؛ فهذا لا يدل سوى عن سذاجة سردية تتمتع بها القاصة التي لم تنضج بعد، كما أنها أضرت القصة كثيرا والتي كان من الممكن لها أن تكون قصة جيدة وبسيطة حيث تتحدث عن إعجاب الساردة بهذا الرجل الذي قابلته في القاهرة والتقيا أكثر من مرة، وبينما كان هو غارقا في الشعر والثقافة والتاريخ حينما يتحدث معها رغم تجاربه النسائية العريضة المشهورة عنه، كانت هي غارقة في خصلات شعره البيضاء التي تأسرها وتجذبها إليه راغبة في مضاجعته بأي شكل من الأشكال؛ حتى أنها تخبره بذلك في آخر لقاء لها كي تقضي معه ما تبقى لها من أيام في القاهرة، لكنه يرفض بتهذيب قائلا لها: معذرة.. لن أكون نزوة.
القاصة التونسية مها سالم الجويني
في القصة التي تحمل عنوان المجموعة "عاشقة من إفريقية" نلاحظ أن القصة فيها الكثير من السذاجة والمشاعر المراهقة، حيث تتذكر "توناروز" قصة حبها الساذجة التي بدأت في عمر السادسة عشر حينما رأت أحد الفتيان في مناسبة عائلية ووقفت أمامه غير قادرة على التحرك حينما شعرت بقلبها ينبض تجاهه: "دخل قاعة الصالون الكبيرة الممتلئة بالجميع، نهضت هي بسرعة الضوء لتلقي عليه السلام بطريقة مضحكة، لقد كانت توناروز تبتسم كأنها عثرت على ورقة "يانصيب"، وكانت يداها الصغيرتان تتصببان عرقا، كانت شبه مخدرة، وهو ما لفت انتباه الحاضرين الذين بان لهم احمرار وجهها، وتحوّل صوتها الجهوري الصافي إلى صوت متقطع وهي تستأذن من ابن عمها الأصغر كي يفسح لها المجال للحديث مع ذلك القاهر"، رغم هذا الانبهار أو التعلق الساحر بالفتى فإن القاصة لم تقدم لنا أي مبررات مقنعة تجعلنا نصدق مثل هذا التعلق الفجائي بمجرد أن وقع نظر توناروز على الرجل وكأنه يوسف الصديق، لكن إذا ما تجاوزنا عدم وجود مبرر مقنع، ووافقنا معها على أنها لا بد أن تقع في غرامه بهذا الشكل المبالغ فيه سنجد أن الفتاة ستبدأ في نسج قصة حب خيالية لا محل لها من الواقع وتصدقها؛ ومن ثم تعيش مع الفتى قصة حب ملتهبة، ورغم مرور عشر سنوات وابتعادها عن الفتي وسفرها إلى إحدى الدول العربية، إلا أنها بمجرد ما تعثر عليه من خلال وسيلة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" ستعود إليها مشاعرها المراهقة الساذجة غير المبررة وتبدأ في الشعور بقصة الحب الملتهبة وكأنها حدثت لها للتو رغم أنه لا يبدي لها أي شكل من أشكال الاهتمام الخاص، أو المشاعر: "غير أن من كانت تحسبه توناروز قضية وبيت شعر كان يعاملها كرقم في قائمة صديقاته الطويلة، يجيب على مكالمتها في أوقات الفراغ وفي بعض الأحيان لا يرد السلام عليها إن اعترضته عند شوارع "الفيس بوك"، أو أمام تغريدات "تويتر". كان يعاملها كسلطان زمانه أو أكثر، وفي المقابل كانت تتعاطى معه كأحد ملوك الشراكسة الذين يُستحب التغني بحضورهم قبل الخوض في غمار أي حوار معهم. كان يبرر جفاءه الدائم بالتزاماته المهنية والعائلية"، من خلال هذا الاقتباس يتضح لنا أن القاصة نفسها تقع في التناقض أثناء سردها، فهي تؤكد على قصة حب توناروز للفتى في نفس الوقت الذي تؤكد أنه لا يعيرها اهتماما، ثم تأتي في نهاية القصة وتلقي اللوم عليه باعتباره خائنا لها ما كانت تتوقع منه هجرانها. إن هذه المراهقة توقع القاصة في المباشرة السردية أيضا التي نلمح من خلالها الصوت العالي التقريري غير المتناسب مع السرد القصصي حينما تكتب: "مرت عشر سنوات، وغادرت توناروز تراب وطنها لتشتغل في سلك الإعلام في إحدى العواصم العربية، غادرت الأهل محملة بجميع ذكرياتها، فكلما يبتعد المرء جغرافيا عن أرضه يقترب روحيا منها ويبدأ في البحث عن كل ما يربطه بها"، إن هذا المقطع السردي الشديد المباشرة لا علاقة له بالسرد، وإذا ما تم حذفه لن يؤثر فيه بأي شكل، بل من الممكن أن يزيد فنية السرد بدلا من التأثير عليه بالسلب.
هذا الشكل من السرد لا يصلح سوى للمراهقين الذين لن يفكروا كثيرا في منطقية السرد بقدر ما سيفكرون في المشاعر الملتهبة، تعود الفتاة إلى تونس وتتهيأ لملاقاته حيث تتخير ملابسها جيدا وحذاءها، ثم تتصل به: "أمسكت بهاتفها، واتصلت به لتقول له: شكرا للحن أنور براهم الذي أرسلته لي، رد على مكالمتها ببرود وكأنه لم يكن بصدد محادثتها منذ ساعتين. أمين أنا توناروز. أعلم، أنا آسف، لا أستطيع الحديث معك الآن لأني بجانب صديقتي. آه، آسفة، صديقتك؟! عفوا، أقصد حبيبتي. لم تصدق ما سمعت، خاصة أنها سمعت صوت ضحكتها عبر الهاتف، لم تفهم ما يحدث حولها، ولم تعرف من المخطئ في المسألة، هي؟ هو؟ هل فهمت حديثه بشكل خاطئ؟ أم ماذا؟".
في مقطع آخر من نفس القصة تكتب: "قررت أن ترسل إليه يومياتها مع الصورة الشمسية التي جمعتهما منذ سنوات، ولكنها تراجعت حين قال لها عقلها: إنها ذكرياتك وصورتك وقصتك التي عشت أطوارها وحدك، ولم يكن حضوره فيها سوى حضور شكلي فقط، قلبك هو الذي اخترعها، وروحك هي التي أخطأت التقدير، أجل! روحك التي لم تكن تعلم أن الفروسية تسكن روايات الأجداد ولم يبق منها سوى أغاني الصبايا وقد نسي العديد كلماتها، وروحك غاب عنها أن الرجال الأمازيغ رحلوا منذ سنوات ورجولتهم غدت قصائد عند مرثيات العجائز"!!
بالتأكيد يبدو هذا المقطع مغرقا في المراهقة والسذاجة؛ فلم كل هذا اللوم، ولم ترى أنه لم يعد هناك فرسانا، ولا رجال؟! إن إلقاء اللوم عليه غير منطقي بالكلية؛ فهي من اخترعت القصة، وهي من عاشتها مع نفسها بمشاعر مراهقة؛ ومن ثم فإن الجملة التي أنهت بها القصة لا يمكن قبولها لفرط سذاجتها: "كم أنا غبية! منذ متى كان الرجال أوطانا لنا؟!". إن هذه الجملة تستدعي منا نحن سؤالا أكثر منطقية وعقلانية: ومتى كان الرجل حبيبا لها حتى تتهمه بكل أنواع الاتهامات التي قد ترد على بالها؟! إن التفكير بمثل هذه المشاعر تجعل السرد متناقضا، وغير سوي، ولا يصلح سوى للمراهقين والمراهقات، فضلا عن أن العنوان لا يتناسب مع القصة؛ فهو يوحي لنا بأن ثمة ميزة ما للعاشقة الإفريقية، ولكن مع تأمل القصة سنجد أنها قد تصدق وتتماشى مع أي جنسية أخرى غير الإفريقية. إن تحديد الجنسية أو العرق يكون مقبولا في حالة وجود ميزة ما، ولكن مع انتفائها ينتفي التمييز؛ ومن ثم ينتفي العنوان بالضرورة ويصبح غير مناسب وإن كانت قد حرصت القاصة عليه لشوفينية واضحة لكونها تونسية أمازيغية تعتز بذلك، ولكن التعصبات لا يمكن أن تتماشى مع الفنون؛ لأنها مفسدة لها.
في قصة "الله معنا فمن علينا" تتحدث القاصة عن ليلى التي تقع في أزمة نفسية وعصبية شديدة تلزمها الفراش بسبب انتهاء قصة حب بينها وبين ليبي؛ لأنه رفض الزواج منها حينما فاتحته في الأمر باعتبارها تونسية لا يمكن أن تتقبلها عائلته الليبية: "كانت لمساتها على جبينها تساعدها على نسيان القهر الذي تعرضت إليه، حين عرضت على عادل الزواج بطريقة فيها الكثير من المزاح، لقد أخبرته بأنها أعلمت صديقاتها في تونس بأنها ستتزوج بليبي في إثيوبيا، وهي المزحة التي علق عليها عادل بكل جفاء قائلا: آسف، لا أستطيع الزواج بتونسية، أنت تعلمين موقف بعض العائلات في ليبيا من المجتمع التونسي، كذلك أنا لا أريد أوجاع رأس من عجائز العائلة، وقد رشحوا لي ابنة خالتي للزواج بها، أنصحك بالتوقف عن التفكير في هذا الموضوع". تحاول القاصة وصف حالة ليلى التي وصلت إليها بسبب هذا الرفض بقولها: "تعرضت لنوبة عصبية جعلتها تنتفض في فراشها كطائر مذبوح، حاولت الصراخ لكن صوتها كان مكتوما لا يستطيع الخروج من حنجرتها، أعادت الكرة مرة أخرى، حاولت مناداة صديقتها لمساعدتها، لكنها لم تقدر: زيـ..نب، تعالي. سمعتها صديقتها وقد كانت بصدد إعداد كوب من الشاي مع الإكليل لتشربه تلك العليلة النائمة كما ينام الميت على المصطبة الخشبية قبل الدفن، قدمت مذعورة: ليلى.. ما بك؟ حاولت تهدئة روعها، مسحت- بمنديل- عرقها المتصبب، وأمسكت بوشاح أدارته بقوة على رأسها الذي يكاد ينفجر، قدمت لها كوبا من الماء وأبعدت عنها هاتفها قائلة: انسى الآن كل شيء وحاولي أن تهدئي، فكري بنفسك قليلا، أرجوك استرخي قليلا ليذهب الألم".
إن الوصف المبالغ فيه من القاصة لحالة ليلى التي تخلى عنها حبيبها ورفض الزواج منها بسبب نظرته للمجتمع التونسي تكاد تكون ساذجة وفيها الكثير من المراهقة التي نؤكد عليها كثيرا في تناول القصص، بل إن القاصة تُصرّ على وصف هذه الحالة كثيرا طوال القصة إلى أن تذهب إلى الطبيب اللبناني صديقها وتخبره، فينصحها بالنقاش مع حبيبها حيث إن اختلاف الثقافات لا بد أن يؤدي إلى بعض الخلافات. تذهب ليلى إلى صالون التجميل لتهدئ أعصابها ثم تذهب إلى السوبر ماركت لتنهي قصتها بعدة أسئلة فيها من السذاجة والمباشرة ما لا يحتمله الفن حينما تقول: "توجهت إلى الملابس النسائية وقالت لنفسها: بعيدا عن مسألة الجراح، وبعيدا عن سيناريوهات رجال الشرق الذين يكتبون تاريخهم على أنغام الأنانية والوقاحة وتلك الذكورة المقيتة، من المسؤول عن آلام النساء؟ من المسؤول عن أوجاعنا؟". إن انتهاء السرد بهذه الأسئلة يدل على سذاجة ومباشرة فيها الكثير من الضجيج الذي يعكس صوت الكاتبة نفسها، وليس صوت الشخصية القصصية؛ ومن ثم كانت الأسئلة غير متناسبة مع السرد، ولا علاقة لها بالفن.
في قصتها "لحم الظأن" التي نلحظ فيها خطأ جسيما في العنوان حينما تستخدم مفردة "الظأن" بدلا من "الضأن"، نرى القاصة تتحدث عن اليسار التونسي من خلال نظرة شديدة السذاجة فيها الكثير من عدم النضج أيضا، والجهل بالماركسية واعتبارها اليسار أو الماركسية رديفا للإباحية فقط؛ ومن ثم فالفتاة التي لا تقبل الإباحية هي متخلفة لا يليق بها أن تكون يسارية، تأتي القصة على لسان صديقة البطلة التي كانت تراقب زميلها اليساري في الكلية- وائل- الذي له شهرة كبيرة كيساري مناضل، وهو الشاب الذي ستقع صديقتها روعة في حبه؛ ومن ثم ستقرأ في الماركسية وتتعمق فيها لمجرد أن تقترب من وائل فقط، وبالفعل تستطيع التقرب منه وتصبح صديقته المقربة، ثم تنشأ بينهما قصة حب، إلى أن يدعوها وائل لمنزله كي يتناولا عشاء جبليا معا ويتناقشا في أحوال اليسار. تتأنق روعة وترتدي أجمل ما لديها وتتجه إلى منزله، وبعد العشاء الذي تناولا فيه لحم الضأن يحاول وائل تقبيلها فتتمنع، لكنه يُصرّ على تقبيلها بعدما استبدت به الرغبة، ويحملها إلى الفراش، وهناك تدفعه بقوة وتتركه، لتحكي لصديقتها أنها رفضته لأنها تكره رائحة الضأن، وأنها رغبت أن تطلب منه غسل أسنانه أولا من لحم الضأن الذي تكرهه قبل ممارسة الحب معها أو تقبيلها لكنه لم يكن يستمع إليها بعدما استبدت به الرغبة، وفي اليوم التالي حينما تذهب إلى حلقة نقاش فيها وائل، وتبدأ في الحديث عن الماركسية: "تعمد وائل استفزاز روعة بتعليقاته على مداخلاتها عديد المرات ليصل به الأمر إلى أن يقول: روعة توقفي عن ادعاء التحرر، فحين تنجحين في تحرير جسدك من القيود ومن مكبلات المجتمعات الشرقية ستصبحين حينها رفيقتي. علقت روعة بذهول: نعم.. أنا؟ كيف؟! أجابها: أنت تعلمين جيدا قصدي، وأنا لا ألومك، ولكن أرجوك لا تلعبي دور التقدمية أمامي مرة أخرى، أو إلا إذا كانت لديك الرغبة في إقناعي بأنك الشريفة الطاهرة فتلك مسألة أخرى. جملته الأخيرة أثارت دهشة الجميع. لكن صديقتي لم تصمت: عزيزي وائل، لست بمريم العذراء ولا أريد أن أكون، وأنا تقدمية متحررة والجميع يعلم أنني أتردد كثيرا على شقق الرفاق بدون أي عقد، أما إن كنت تقصد ما وقع ليلة أمس أظنك فهمتني خطأ. قاطعها: كيف؟ لقد كنت ترتعشين حين اقتربت منك.. هاهاهاها. عزيزي، كنت أرتعش من رائحة الظأن التي أثارت قرفي، فأنا على حد علم صديقاتي وعلم من عاشرتهم قبلك، بأنني أكره اللحوم وأحبذ السلطات، عزيزي قبل نصحي بأن أترك دور العذراء أنصحك بترك أدوار الفحولة التي لا تليق بشاب لا يجيد تقبيل فتاة، ولا يفرق بين القرف والخوف. تعالت الضحكات أمام المشرب".
هكذا تُنهي القاصة قصتها الساذجة والتي تُدلل على جهل حقيقي باليسار ومفهوم التحرر والتقدمية وحصر هذه المفاهيم في المضاجعات الجنسية فقط، ومن ثم يكون الجنس هو المفهوم الحقيقي لليسار لدى هؤلاء في نسف ضخم وحقيقي لفلسفة تاريخية غيرت التاريخ بينما تجيء الكاتبة اليوم لتختزل هذه الفلسفة في المضاجعات فقط.
ثمة مشكلة حقيقية في سرد هذه القصة تنسفها من أساسها؛ فالقصة منذ بدايتها تدور على لسان صديقة روعة التي تحكي الأحداث وما دار فيها، ولكن حينما دعى وائل روعة إلى منزله رافقتها صديقتها حتى آخر لحظة في أحد المقاهي: "الآن السابعة مساء، كنت مع روعة في مقهى شارع باريس القريب من شقة الرفيق وائل، يرن هاتفها الشيوعي يسألها عن سبب التأخير، قلبها يخفق بشدة، عيناها تضجان فرحا، وائل يريدها بشغف ويتوق للجلوس معها، خرجت روعة مسرعة وتركتني أدفع الحساب وأتوجه وحيدة نحو محطة الرتل الخفيف. في طريقها إلى شقته، كانت العاشقة ترتب المواضيع، أيها ستختار لتطرحه؟ وكيف ستطرح أمامه بعض المسائل التي ربما قد يتطرق إليها؟ هي الآن عند باب شقته، تطرقه بلطف فينفتح بسرعة، يصافحها ممسكا بيدها بشغف، مع عبارات الترحيب الجبلية التي جعلتها تبتسم دون أن يترك يدها ودون أن تفارق نظراته وجهها". من خلال هذا المقطع نجد أن صديقتها الساردة تظل تسرد الأحداث بعين المبصرة والخبيرة وكأنها معها وهذا ما لا يمكن قبوله أو تخيله؛ فروعة قد تركتها؛ وبالتالي لا بد أن نتساءل: كيف استمر السرد على لسان الصديقة؟ ومن أين لها أن تعلم كل ما حدث بعد ذلك وتحكيه في لحظته الآنية رغم عدم وجودها معها؟! إن اختيار القاصة للصديقة كي تكون هي الساردة أوقعها في خطأ فني جسيم جعلها تسرد على لسانها ما لم تحضره أو تراه؛ وهو ما لا يمكن قبوله سرديا أو تبريره.
كما أننا نلاحظ من خلال هذه القصة أن القاصة تخطئ دائما في استخدم الاسم الموصول "الذي"، و"التي" فتضع بديلا عنهما "من" وهذا ما لم تأت به اللغة ولم يخبرنا به أحد من قبل: "كنت أشارك التصفيق خلسة، ومراعاة لمشاعر صديقتي "من" كانت تطير فرحا لكلمات وائل"، كذلك قولها: "تتناول الميكرفون من وائل "من" كان يجلس خلف منصة الحوار مع المحاضرين"، وفي هذين المثالين دليلا على وجود عربية جديدة ابتدعتها القاصة.
الروائي المصري إحسان عبد القدوس
في قصة "كلام المصطبة" نلحظ أن القاصة تسرد قصة مهمة ومكتملة السرد عن حال المجتمعات العربية التي ما زالت تهتم بعذرية الفتاة وترى في الفتاة غير العذراء مجرد عاهرة، أو بضاعة فاسدة لم تعد صالحة للاستعمال من خلال الساردة صاحبة الحمام التي تقوم "بنتف" شعر الفتيات وتنظيفهن، وهي صديقة وفية لفوزية أم منال الفتاة المقبلة على الزواج والمعروفة في منطقتها بالأخلاق والالتزام، ولكن حينما تطلب الساردة من منال أن تستلقي على ظهرها وتفتح لها ساقيها كي تقوم بتنظيفها وتهيئتها لليلة العرس تُفاجأ بأن منال ليست عذراء: "قصصت الشعر الكثيف، بدت لي جلدتها الوردية، بدأت في النتف من فوق وأمرتها بأن ترقد كليا على المصطبة، وترفع قليلا من رجلها وتفتحهما لي، حينها صعقتُ ولم أستوعب جيدا ما رأيت، كان مهبل منال مفتوحا، شككت في الأمر، مررت بإصبعي الذي دخل بكل سهولة، اقتربت أكثر لأتثبت مما أرى فوجدته فعلا مثقوبا"، وحينما تسأل الساردة منال عمن فعل بها ذلك تخبرها بأنه ابنها أحمد، تقع الساردة هنا في مأزق؛ ففوزية صديقتها المقربة وأم منال التي تأتمنها على ابنتها منذ ولادتها، كما أنه الأم تُكثر من الحديث عن أخلاق منال وأدبها؛ الأمر الذي جعل المنطقة كلها تشعر بالغيرة والحقد والحسد على منال ومن ثم ينتظر الجميع أي سقطة لها، كما أن الفتاة موعد دخلتها في هذه الليلة، تفكر السيدة في المأزق وهي واثقة أن ابنها لن يقبل الزواج بمنال وإنقاذها؛ فتجري لها عملية ترقيع لغشاء البكارة لإصلاح ما أفسده ابنها.
تبدو لنا هذه القصة من القصص القليلة في المجموعة المكتملة فنيا فضلا عن حديثها عن قضية مهمة ما زالت المجتمعات العربية تعاني منها؛ فالاهتمام المبالغ فيه بعذرية الفتيات وارتباط العذرية بالأخلاقيات الاجتماعية يصبح قيد حديدي على الجميع؛ الأمر الذي يؤدي إلى ازدواجية المجتمع، وانتشار الكذب والنفاق، والاصطناع، والزيف وهو ما رأيناه حينما أجرت الساردة للفتاة عملية ترقيع لغشاء البكارة؛ كي تبدو أمام المجتمع ما زالت محافظة على أخلاقياتها وشرفها كما يراهما المجتمع.
في قصة "الصبية الضائعة" نرى نموذجا حقيقيا لكيفية استغلال التجربة الحياتية في السرد القصصي وتحويلها إلى عمل فني يستطيع من خلاله المتلقي التأثر بها والتعاطف معها؛ وهنا نجحت القاصة بالفعل في صهر تجربتها وصياغتها في شكل فني للتخلص من عبئها النفسي عليها من خلال مها الجويني- لاحظ هنا أن اسم الشخصية القصصية يتماهى مع اسم المؤلفة نفسها، كما سنلحظ فيما بعد أن السمات الشكلية للشخصية تتماهى أيضا مع المؤلفة- الفتاة ذات الشعر "الأحرش"/ الخشن حيث تصفها زميلاتها في الصف الدراسي بوصف "الي شعرها أحرش"، فنقرأ منذ بداية القصة أن مها تعاني مع شعرها؛ حيث صديقاتها ينادينها: بصاحبة الشعر الأحرش؛ الأمر الذي يجعلها تذهب إلى حمام المدرسة ووضع المياة عليه كي يصير أملسا، كما أنها في بيتها تناديها أمها وأختها بذلك، ويزداد الأمر سوءا حينما تمشي في الشارع فيسخر منها المارة نتيجة شعرها الأحرش الذي لا يد لها فيه، إلى أن يأتيها عمل في إثيوبيا فتشعر بالراحة؛ حيث ستعيش بين الإثيوبيين وهناك ستجد الكثيرات ممن يمتلكن شعرا شبيها بشعرها؛ وبالتالي ستتخلص من سخرية الجميع منها وتذوب في المجتمع، لكنها هناك تجدهم يفرقون بينها وبين أهل البلد بسبب لون بشرتها فلا ينطلي عليهم كون شعرها مثلهم؛ لأن لونها يفضحها.
ربما تكون هذه القصة من أكثر قصص المجموعة نضجا ومقدرة فنية على صهر التجربة الشخصية في شكل فني مكتمل وناضج؛ حيث نجحت من خلالها القاصة في إيصال مشكلة البطلة التي تُشعرها بعبء شعرها عليها.
من القصص التي شعرنا فيها بالنضج السردي والفني أيضا قصة "تونسية ومزيونة" التي تعالج فيها القاصة مشكلة بنات المغرب العربي الكبير لاسيما التونسيات منهن حينما يهاجرن من وطنهم إلى مجتمعات الخليج للعمل هناك؛ حيث ينظر إليهم المجتمع طول الوقت باعتبارهن مشروع مفتوح للدعارة، وبالتالي تصبح التونسية هناك داعرة دائما من وجهة نظر الخليجيين، أو مشكوك في سلوكها طول الوقت، وهي من المشكلات الاجتماعية النمطية التي تعاني منها بنات تونس في هذه المجتمعات المنغلقة، وقد نجحت القاصة هنا في تناول هذه المشكلة من دون أي ضجيج أو افتعال، أو انفعال، بل بدت القصة مكتملة الفنية.
لكن تبقى المشكلة التي باتت أزلية لدى العديدين من الكتاب الذين لا يفقهون اللغة، ومن ثم يبدون دائما كأنهم لم يتعلموا العربية من قبل لفرط وقوعهم في الأخطاء اللغوية؛ فنرى الكاتبة تجهل دائما موضع الهمزات في الكلمات، ولا تفرق بين همزات القطع، وألف الوصل وهو الأمر الذي يجعلها تكتب "اسم" بالهمزة "إسم"، و"أصمت" بدلا من "اصمت" حيث أنه فعل أمر من الفعل الثلاثي الأصل، و"إقتربت" بدلا من "اقتربت"، و"إعتراني" بدلا من "اعتراني"، و"الإنتظار" بدلا من "الانتظار"، ومثلها "الإغتراب" بدلا من "الاغتراب"، و"إمرأة" بالهمزة بدلا من "امرأة"، و"بإنتصارها" بدلا من "بانتصارها"، و"إجمعي" بدلا من "اجمعي"، كما تكتب "مع أصدقاءه" بدلا من "مع أصدقائه" حيث المفردة مجرورة بحرف الجر، ولعل الكاتبة لم تعرف يوما أن حروف الجزم توجب حذف حرف العلة من الكلمات المعلولة التي تليها مثل "لم تبدِ" التي كتبتها "لم تبدي" بحرف العلة، كما تستخدم الكاتبة حرف الضاد بديلا لحرف الظاء وهو من الأخطاء الشائعة في دول المغرب العربي فتكتب "اسيقضت" بدلا بدلا من استيقظت"، وأظن أن الناشر لم يهتم أساسا بمراجعة المجموعة لغويا قبل دفعها للمطبعة وطباعتها؛ يدل على ذلك أخطاء الكتابة الكثيرة جدا على طول المجموعة مثل: "تنتطفئ" التي تقصد بها تنطفئ، و"على" بدلا من "علا"، و"أتردين" بدلا من "أتريدين"، و"وارائي" بدلا من "ورائي"، و"أركنت" بدلا من "ركنت"، و"المرأة" بدلا من همزة المد في "المرآة"، و"لعانته" بدلا من "لعناته" وغير ذلك الكثير من الأخطاء التي تكتظ بها المجموعة.
المجموعة القصصية "عاشقة من إفريقية" للقاصة التونسية مها سالم الجويني لا يمكن اعتبارها مجموعة مكتملة أو ناضجة فنيا؛ فنحن لا ننكر أن القاصة لديها الاستعداد الفطري والموهبة للكتابة والقص، لكنها لم تنضج بعد لتُقدم على تجربة نشر ما تكتبه؛ حيث معظم كتاباتها لم تكتمل فنيا بعد، وبالتالي فهذه المجموعة تُعد مجرد تدريبات على السرد القصصي، ولا يمكن لنا اعتبارها قصص فنية ناضجة من الممكن أن نأخذها مأخذ الجدية الكاملة.



محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب


عدد نوفمبر 2019م.



الجمعة، 1 نوفمبر 2019

رجل يدعى أوف.. شخص وحيد غاضب

بوستر الفيلم
يبرع المخرج السويدي هانز هولم Hannes Holm من خلال فيلمه A Man Called Ove رجل يُدعى أوف، أو En Man Som Heter Ove، تبعا لعنوان الفيلم الأصلي في السويدية، في تقديم شخصية أساسية ومحورية تتسيد كل مشاهد الفيلم تقريبا رغم فظاظتها، ونفورها من الجميع، وقسوتها أحيانا، واعتبار كل من حولها مجرد حمقى بينما هي الشخصية الوحيدة التي تفهم ما يجب أن يكون وتحافظ عليه وتلتزم به؛ ومن ثم فمن الضروري على الآخرين اتباعها وإلا تعرضت لغضبها والسخرية منها، بل وعقابها أحيانا.
إنها شخصية "أوف" Ove الذي قام بدوره بشكل بارع الممثل السويدي Rolf Lassgård  رولف لاسجارد؛ حيث قدم شخصية شديدة الغضب من كل من حوله، بل من العالم أجمع في شكل منفر تماما لا يمكن للمشاهد أن يتعاطف معه، ورغم ذلك كان هو الشخصية الأساس التي يدور حولها الفيلم، ويقوم عليها.
نرى أوف منذ بداية الفيلم رافضا للتكيف مع ما يحيطه في مجتمعه؛ فهو حينما يبتاع باقة زهور؛ كي يذهب بها لزيارة قبر زوجته، يتشاجر مع البائعة لأنها تطلب منه خمسين كرونر، ويخبرها أن العرض يؤكد أن الباقتين بقيمة سبعين كرونر وهو لا يحتاج سوى باقة واحدة، كما أن نصف السبعين هو 35 فقط وليس خمسين. تحاول الموظفة إفهامه أن الباقة الواحدة بخمسين بينما الباقتين بسبعين لكنه لا يقتنع؛ ويضطر- متضررا- في نهاية الأمر إلى شراء الاثنتين معا.
من خلال المشهد الافتتاحي للفيلم يتأكد للمُشاهد أن هذه الشخصية من الشخصيات غير القادرة على التكيف مع المجتمع، ولا ترى الحياة إلا من خلال لونين فقط: الأبيض والأسود، أي أنه لا يعترف باللون الرمادي، ولا يمكن له أن يتصالح معه؛ لذلك نراه يقوم يوميا بجولات صباحية في الحي الذي يسكنه من أجل الاطمئنان بأن القوانين يتم تنفيذها كما ينبغي، وبأن كل شيء مستقر ومُنظم، ولم يقم أحد من سكان الحي بالإخلال به؛ فنراه يُصادر إحدى الدراجات؛ لأن صاحبها لم يضعها في المكان المُناسب لها، ويمنع مرور سيارة ويكاد أن يضرب قائدها؛ لأن الحي ممنوع مرور السيارات فيه، ويأخذ أعقاب السجائر من على الأرض ويبحث عمن قام بإلقائها، ويتأكد من أن اللوحات الإرشادية في مكانها وثابته، وأن أبواب المخازن مغلقة كما ينبغي، وينهر زوجة عمدة الحي؛ لأن كلبها يتبول في الطريق- وهذا ممنوع- كما يطلب منها ارتداء حذاء من غير كعب حفاظا على النباتات العشبية في الحي.
أي أن شخصية أوف في النهاية هي شخصية شديدة الصرامة تجاه تطبيق القوانين والنظم المُتفق عليها، وهو يحاول طوال الوقت الحفاظ على هذه النظم وتطبيقها، بل وإرغام كل من حوله على فعل ذلك حتى لو كان من خلال نهرهم والصراخ في وجههم، أي أنه يرغمهم على فعل ذلك.
هذه الشخصية التي قد تبدو للوهلة الأولى مُنفرة تماما للجميع سنعرف مع مرور أحداث الفيلم أنه يبلغ من العمر 59 عاما، وأنه يعمل في مصانع السكك الحديدية منذ 43 عاما، وتتم إحالته إلى التقاعد رغم انتظامه وكفاءته في العمل، هنا يحاول أوف الذي فقد زوجته منذ ستة شهور فقط بعد معاناتها من السرطان- وهي الزوجة التي يذهب لزيارة قبرها يوميا- الانتحار؛ للحاق بها رغم ما يبدو على شخصيته من قوة وصلابة وعدم الميل للضعف أو اليأس.
يقدم لنا المخرج هانز هولم محاولات أوف المتعددة للانتحار- الذي يفشل في كل مرة- بشكل كوميدي رغم صرامة وجدية الفيلم، وهي الكوميديا السوداء التي تجعل المشاهد يضحك رغم مأساوية الحدث؛ فتارة حينما يحاول شنق نفسه يرى من خلال زجاج النافذة إحدى السيارات التي يقودها شخص لا يعرف القيادة؛ وبالتالي يُدمر صندوق البريد الخاص بأوف حينما يحاول الرجوع بالسيارة للخلف؛ الأمر الذي يجعل أوف يخرج رأسه من الحبل الملفوف حول رقبته قبل اللحظة الأخيرة من تحقيق الانتحار؛ ليخرج بغضب شديد من أجل تصحيح الأوضاع، وإخباره أن قيادة السيارات ممنوعة في المنطقة، بل ويخبره أنه أحمق ولا يصلح للقيادة. وفي مرة ثانية حينما يحاول الانتحار بشنق نفسه ينقطع الحبل وهو على شفا اللحظات الأخيرة من الموت، وتارة ثالثة يحاول الانتحار باستخدام عادم سيارته حينما يصل مخرج العادم بخرطوم ويضعه داخل السيارة ويديرها في انتظار اختناقه وموته، لكن في اللحظات الأخيرة لذهابه في الغيبوبة يسمع ضجيج صاخب ومُلِح؛ حيث تدق جارته الإيرانية- بارفانة- الباب طلبا في مساعدتها للذهاب إلى المشفى، وتارة رابعة حينما يحاول الانتحار بإطلاق النار على رأسه يدق جرس الباب بإلحاح ليجد أحد جيرانه يطلب منه المساعدة في المبيت عنده بعدما تشاجر مع أبيه وطرده من المنزل.
نحن هنا أمام محاولات متعددة للانتحار واللحاق بالزوجة التي فارقته قدمها الفيلم بشكل فيه الكثير من المفارقات الكوميدية؛ فالجميع من دون أي قصد يمنعونه من الانتحار، وهو مهتم بالعالم الخارجي الذي يريد تنظيمه رغم شعوره بالانزعاج من كل يحيطونه؛ ومن ثم يتعامل معهم بتجهم وصرامة شديدتين، ولعل المخرج كان من الذكاء الفني؛ ما جعله يهتم بالتفاصيل الدقيقة التي ترسم الشخصية التي يقدمها؛ فحينما يتهيأ لشنق نفسه نراه حريصا على أن يرتدي بذلته الأنيقة ليبدو في أبهى صورة حينما ينتحر ويقابل الزوجة، كما نرى هذا الحرص الدقيق- الذي يتساوى تماما ويعبر لنا عن شخصيته المهتمة بالقانون والنظام والتفاصيل- حينما يتهيأ للانتحار بإطلاق الرصاص على نفسه؛ فنراه يغطي جدران الصالة بالكامل وأرضياتها بمشمع شفاف حتى لا تتناثر دمائه فيها وتلوثها، وهو ما نراه أيضا حينما يفكر بالانتحار من خلال عادم السيارة؛ حيث يُغلق كل الفتحات باللاصق كما يغطي مقاعد السيارة بأوراق الجرائد.
هذه التفاصيل الدقيقة التي يحرص المخرج على تقديمها تُدلل على مخرج يعرف كيف يرسم الشخصية التي يتحدث عنها من خلال الصورة من دون الثرثرة أو الحديث الكثير الذي لا داعي له، أي أنه مخرج يفهم جيدا آليات صناعة السينما التي لا تحتاج إلى الكلام بقدر ما تحتاج إلى الصورة المُعبرة التي تتحدث بدلا من الممثلين؛ فأفعال البطل الدقيقة التي قد لا ينتبه إليها البعض هي التي ترسم هذه الشخصية بدقة، وتُعبر عنها بذكاء اعتمادا على بديهية مفادها أن المشهد الذي لا يمكنه تقديم المزيد من المعلومات في الفيلم السينمائي لا بد من حذفه؛ لأنه يُعد زائدا لا قيمة أو داعي له؛ ومن ثم يؤدي إلى ترهل البناء الدرامي في الفيلم. هذا البناء الدقيق للشخصية التي يتحدث عنها الفيلم كانت من أهم الرسائل التي تجعل المشاهد يفهم سيكولوجية أوف- المهتم بالتفاصيل والحفاظ على الأنظمة والقوانين؛ فهو لا يطبقها على الآخرين فقط، بل على نفسه أيضا- لا سيما أن المخرج هو كاتب السيناريو أيضا.
يحرص المخرج هانز هولم على تعريف المشاهد بحياة أوف السابقة التي ساهمت في تشكيل هذه الشخصية الغاضبة مما حولها من خلال مشاهد الفلاش باك Flash Back التي كان يبثها في الفيلم بذكاء إثر كل محاولة فاشلة للانتحار؛ أي في اللحظات الفاصلة ما بين الموت والحياة قبل أن يفشل في انتحاره؛ ففي محاولته الأولى لشنق نفسه، مثلا، وحينما يتعلق في الهواء لفترة قبل انقطاع الحبل يقول: عرفت يوما أن العقل ينشط في لحظات الموت؛ ومن ثم يشاهد المرء حياته كاملة، ولقد كان عقلي ينشط باتجاه أمي وحياتي السابقة، وهنا يبدأ المخرج في الانتقال إلى الفلاش باك لعرض حياته السابقة مع والده حيث ماتت أمه وهو طفل صغير، بينما كان الأب قليل الكلام في أي شيء، وإن كان يهتم به، وينشأ أوف مع أبيه العامل في السكك الحديدية، لكنه يصدمه قطار أمام عينيه فيموت، ويتم تعيين أوف مكانه.
الروائي السويدي فريدريك باكمان
تكتمل القصة الكاملة لحياة أوف على مراحل متباعدة خلال الفيلم، وفي كل مشهد من هذه المشاهد تكتمل لنا الصورة الكاملة لهذا الرجل الذي يتأكد لنا أنه ليس بهذه الصرامة والفجاجة التي يبدو عليها أمام الآخرين، بل هو يحمل قلبا طيبا، ويميل إلى مساعدة الجميع من دون أي مقابل. يحترق بيت دوف حينما كان شابا ولا يجد ملجأ للمبيت فيه سوى أحد القطارات حيث يعمل، لكنه يفيق من نومه ليجد القطار قد تحرك منذ قرابة الساعة كما أخبرته الفتاة الجالسة في المقعد المقابل، وحينما يأتي مفتش التذاكر يخبره أنه ليس معه تذكرة ولا نقود؛ فتتطوع الفتاة بدفع ثمن التذكرة له. يبدأ أوف لمدة ثلاثة أسابيع في ركوب نفس القطار ليلقاها مرة أخرى، وحينما يلتقيها يرتبك ويحاول إعادة ثمن التذكرة لها، لكنها تقول له: ألم تكن هناك طريقة أكثر لياقة لرد المال كدعوتك لي على العشاء؟
يرتبك أوف ويدعوها على العشاء ويخبرها عن حقيقته؛ ومن ثم تنشأ بينهما علاقة عميقة، وتساعده حتى يأخذ شهادة في البناء، ويتزوجان، لكنها أثناء رحلة لها معه إلى إسبانيا تنقلب بهما الحافلة وتفقد جنينها، وتعجز عن المشي، لكنها تُصرّ على إكمال دراستها لتكون مُدرسة، ولا تبخل على أحد بالمساعدة في حياتها إلى أن تموت بسبب السرطان.
نلاحظ من حياة أوف التي عرفناها على مدار الفلاشات باك العديدة طوال الفيلم أن حياته كانت مُغلقة تماما على الأب الذي فقده مُبكرا، ثم الزوجة التي حلت محل الأب والأم فيما بعد، أي أنه كان يرى العالم من خلال هاتين الشخصيتين لا سيما الزوجة التي كان يعجز عن مواجهة الحياة من دونها؛ لذلك فهي منذ أن فارقته يحاول العديد من المحاولات للحاق بها لكنه يفشل في ذلك، كما لا يستطيع التواصل مع من يحيطون به؛ لأنه لم يكن يستطيع فعل ذلك إلا من خلال الزوجة التي كانت ماهرة في علاقاتها الاجتماعية ومساعدة الآخرين.
المخرج السويدي هانز هولم
إن عدم قدرته على التكيف مع ما يحيطه نلحظه حينما يذهب إلى قبر زوجته ليقول لها: ستصدمين لو عرفت كيف أصبح الناس في أيامنا هذه، ليس باستطاعتهم فعل أي شيء، لا يمكنهم القيادة للخلف مع مقطورة، أو تغيير إطار السيارة، لو سألتهم عن أتفه الأمور في هذا العالم لن يفقهوا الإجابة. أي أنه غير قادر على الاقتناع بأن الحياة لا يمكن لها أن تستقيم من خلال اكتفاء المرء الذاتي بنفسه وابتعاده عن الآخرين- وهو ما كان يفعله في حياته-.
تحاول جارته المهاجرة الإيرانية الجديدة- بارفانة- التي قامت بأداء دورها الممثلة والمخرجة والكاتبة الإيرانية الأصل السويدية الجنسية بهار بارس Bahar Pars التودد إلى أوف بكافة الطرق رغم غضبه الدائم، وصراخه في وجهها، ومن خلال بارفانة نبدأ ملاحظة الجانب الطيب والنقي والحنون المخفي تحت الصرامة غير الحقيقية التي يواجه بها الآخرين، وبالفعل تستطيع بارفانة إعادته إلى الحياة، والقدرة على التكيف معها، والاختلاط بالآخرين وحل مشاكلهم، وحب الحياة، وتفهم أنه ليس بالضرورة أن يكون من حوله مثله تماما- لا سيما أنه فقد صديق عمره وعاداه؛ لأن صديقه كان يفضل سيارات الفولفو بينما هو يفضل سيارات الساب- لكنه حينما يصل إلى هذه النقطة ويتصالح مع ما يحيطه يقع في أزمة صحية، وفي المشفى تؤكد الطبيبة لبارفانه بأن مشكلته الصحية هي أن قلبه كبير، لكنه سيعيش، هنا تضحك بارفانة مما قالته الطبيبة، ولا تفهم أنه مصاب بتضخم في عضلة القلب، لكنها ذات صباح تستيقظ لتطل على منزله من النافذة وتلاحظ أن الثلوج لم تتم إزالتها من أمام بابه رغم أن الوقت قد تعدى جولاته الصباحية، وحينما تسرع إلى منزله تجده قد فارق الحياة، وترك لها وصيته التي يخبرها فيها أنه بالفعل كان يمتلك قلبا كبيرا كما قالت الطبيبة بسبب تضخم عضلة القلب، كما أنه يريد جنازة بسيطة في الكنيسة لا يحضرها سوى من شعروا بأنه كان يتعامل معهم بطريقة لطيفة؛ ليفاجأ المُشاهد بأن جميع أبناء الحي كانوا حاضرين جنازته؛ الأمر الذي يُدلل على أن الجميع كانوا يشعرون اتجاهه بالحب رغم فظاظته، وغضبه، وصرامته في التعامل معهم.
الممثل السويدي رولف لاسجارد
من التفاصيل السينمائية الدقيقة والمهمة المميزة لهذا الفيلم تأكيد المخرج على اكتساب الأطفال نفس خصال أوف، وهو ما حرص المخرج على تقديمه في مشهد النهاية بشكل بسيط وتلقائي لا ثرثرة فيه، ولا عمدية، وإن كان عميقا في إبداء الأثر الذي تركه أوف على الأجيال الجديدة التي شاهدته يحاول الحفاظ على النظام، والقوانين، والمُثل، حينما يعود أهل الحي من الجنازة ويقومون بإغلاق الباب الخارجي للحي، لكن الأطفال يعودون- مثلما كان أوف يفعل تماما- للتأكد من إحكام غلق الباب.
هذه التفاصل تُدلل على مخرج يمتلك أدواته السينمائية الجيدة، ويعرف كيف يصنع فيلما سينمائيا تُعبر فيه الصورة عن شخصياته، وتعمل على تشكيلها، ولعله في مشهد من أهم مشاهد الفيلم نرى أوف حينما يموت وهو نائم على كرسي أحد القطارات وحينما يفتح عينيه يفتحها على "سونيا" زوجته الجالسة أمامه على المقعد المقابل؛ فيبتسم لها، وهو نفس المشهد الذي رأيناه من قبل حينما احترق بيته وذهب للمبيت في أحد القطارات وحينما فتح عينيه رأى سونيا لأول مرة أمامه على المقعد المقابل له، أي أن المخرج يريد التأكيد على أن لقاء أوف بسونيا في المرة الأولى كان بمثابة البداية الحقيقية لحياته، بينما موته وتكرار نفس المشهد- ولكن في صورته وهو عجوز- يُعد بمثابة البداية الثانية لحياته الأخرى التي سيلتقي فيها بسونيا مرة أخرى في الأبدية، وهو شكل من أشكال التعبير السينمائي البليغة التي حرص المخرج على صناعتها والتأكيد عليها.
إذن؛ فمن خلال فيلم يتميز بالإيجاز والابتعاد عن الثرثرة من خلال الصورة ينجح المخرج هانز هولم في تقديم رواية الروائي السويدي فريدريك باكمان Fredrik Backman رجل يُدعى أوف الصادرة في 2012م، وهي الرواية التي تُعبر عن رجل شديد الغضب من كل شيء؛ الأمر الذي أكسبه الكثير من العدائية والصرامة والنفور، وإن كانت هذه الشخصية تُخفي داخلها الكثير من المودة، وقلب كبير يسع العالم بأكمله، وهو الأمر الذي نجح في التعبير عنه ببراعة الممثل السويدي رولف لاسجارد بشكل جعل المشاهد متعاطفا معه كثيرا، لدرجة الشعور بالافتقاد في أي مشهد يغيب عنه، بل يكاد المشاهد أن يبكي لفقده في مشهد وفاته.
الممثلة الإيرانية بهار بارس
كما نجحت الممثلة السويدية Ida Engvoll إيدا إنجفول التي قامت بدور الزوجة "سونيا"- من خلال القليل من المشاهد التي ظهرت فيها- في جذب المُشاهد إلى شخصيتها الدافئة، وابتسامتها الجميلة التي لم تفارق وجهها طيلة مشاهدها في الفيلم؛ فتركت الكثير من الأثر لدى من يراها، ورغبة في عدم غيابها من الكادر.
لكن، لعل البطل الحقيقي في فيلم "رجل يُدعى أوف" هو الموسيقى التصويرية التي قدمها الموسيقي Gaute Storaas جوت ستوراس؛ حيث كانت موسيقى خفيفة أقرب إلى المارشات العسكرية المُعبرة عن الحالة النظامية التي يعيشها أوف ولا يريد أن يتخلى عنها، والمصاحبة له دائما في كل جولاته داخل الحي، وإن لم تكن الموسيقى عسكرية بشكل صارم، بل دخل عليها إيحاء بالفكاهة إلى حد ما؛ لتكون هي البطل إلى جانب الأداء المُحكم الذي قدمه معظم طاقم الفيلم، بالإضافة إلى السيناريو الخلاق الذي كتبه مخرج الفيلم.



محمود الغيطاني
مجلة الثقافة الجديدة
عدد نوفمبر 2019م.