الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

ميعاد.. الوعي بمفهوم القصة القصيرة

إن الوعي بمفهوم القصة القصيرة من الأمور التي لا بد من توافرها للكاتب المُقبل على كتابة هذا الشكل من أشكال السرد الصعب فعليا؛ ومن ثم فهو يحتاج إلى قدر كبير من الفهم، وإدراك آلياته قبل الإقبال عليه؛ فالسرد القصصي يختلف اختلافا كليا عن السرد الروائي والفارق بينهما شاسع؛ لذلك فإن بعض المقولات الخادعة التي تُفيد بأن الرواية هي الفن الأكثر اكتمالا لا يمكن التعويل عليها؛ لأن فن الرواية رغم أهميته في تاريخ السرد إلا أنها لا يمكن أن تكون أكثر اكتمالا من فن القصة القصيرة التي تحتاج إلى الكثير من المهارة، والدربة والخبرة بها كي نُقبل على كتابتها؛ نظرا لدقتها، وصعوبتها.
لذلك فإن استسهال العديدون من الكتاب هذا الفن يوقعهم في مأزق كشف مقدرتهم على الكتابة السردية، ويضعهم في موقف شديد السذاجة؛ نظرا لأن معظمهم يظن أن القصة هي الأسهل، وهي التي يستطيع من خلالها بث تأملاته، وأفكاره؛ فيخرج لنا السرد في النهاية شائها لا علاقة له بالقصة، بقدر كونه مجرد كلام مهوّم في الفراغ لا يعدو أن يكون مجرد خواطر لا علاقة لها بالفن في النهاية.
إن تناول الكثيرين من الكتاب لفن القصة القصيرة قبل الانتقال إلى مرحلة أخرى من الكتابة، وهي كتابة الرواية من الأمور والخطوات المهمة لكل كاتب يُقبل على الكتابة السردية؛ لذلك رأينا الكثيرين من الكتاب يبدأون بالقصة أولا؛ نظرا لأن التمكن من كتابة القصة القصيرة يجعل الكتابة الروائية أكثر سهولة وانسيابية، بل وأكثر إحكاما وانضباطا وحرفية؛ فالقصة لا تحتمل الكثير من الثرثرات والترهلات التي يقع فيها الكثيرون من الكتاب- وهو ما نراه أحيانا في الرواية-، كما أنها من الفنون الشديدة التركيز والاقتصاد والإحكام في لغتها، أي أن كاتب القصة حينما يرغب في الإشارة إلى شيء داخل قصته يذهب إلى قلبه وهدفه مباشرة بأقل كلمات ممكنة من دون أي تمهيد قد يؤدي إلى الترهل الذي لا تحتمله القصة، هنا يكون فن القصة القصيرة في جوهره فن اللقطة الشديدة التركيز. فهي كفلاش الكاميرا الذي ينطلق فجأة بإضاءة مبهرة تغشي العينين، وسرعان ما يختفي، ولكن في هذه الثواني القليلة التي ينطلق فيها هذا الضوء ويختفي يستطيع القاص الماهر أن ينقل إلينا موقفا معينا بكل تفاصيله، هو كالحياة الكاملة من دون أي ثرثرات، أو تبريرات، أو شروحات.
كما أنها- في الغالب- تعتمد اعتمادا كبيرا على المفارقة التي يأتي بها الكاتب في نهاية القص، صحيح أنها ليست بالضرورة تعتمد على هذه المفارقة، لكنها من أساسياتها التي تُكسبها الكثير من التميز؛ لذلك حينما يُقبل بعض الكتاب على كتابة القصة القصيرة من دون وعي بآلياتها وفنيتها نلاحظ أنه يهوّم في الفراغ المطلق غير قادر على أن يعطينا قصة متماسكة البنية، أو قصة نخرج منها بمفارقة، أو أي معنى، بل هو مجرد سرد غير مفهوم الغاية، ومن دون أي جماليات من الممكن أن تكون مبررا كي نستمر في قراءتها، بل سرد في الفراغ لن يؤدي بالقارئ سوى إلى الفراغ- في حالة إذا ما كان السرد متماسكا-.
في القصة القصيرة لا تاريخ للشخصيات القصصية- على قدر الإمكان- بل هي شخصيات تنتمي إلى لحظتها الآنية التي بدأ فيها الكاتب؛ لتؤدي دورا معينا ومُحددا يريد من خلاله الكاتب تسليط الضوء على حدث معين، أو موقف ما يثير في نفس القارئ الكثير من التأملات والتساؤلات التي قد تؤدي إلى تغيير مسار حياة شخص ما، أو طريقة تفكيره، أو تدفعه إلى الكثير من التأمل؛ لذلك تكون الشخصيات في القصة قليلة جدا بالقياس إلى الرواية.
هذه المميزات وغيرها مما يميز القصة القصيرة ويعطيها الصدارة في الإحكام الفني هي ما جعلت منها فنا صعبا لا يتأتى للكاتب إلا بالكثير من الممارسة والتركيز والوعي بآلياته؛ كي يكون متميزا ومجيدا فيه؛ ولعل هذا الوعي بآليات الكتابة هو ما لمحناه في المجموعة القصصية "ميعاد" للقاصة اليمنية كوثر عبد الواحد الشريفي التي تكتب القصة القصيرة بمقدرة وفهم لآليات هذا القص.
ربما كان أهم ما يلفت النظر في السرد القصصي لدى كوثر الشريفي هو احتلال المشهدية البصرية قدرا كبيرا من قصصها، أي أنها تستعير أسلوب المونتاج السينمائي من السينما؛ لتوظفه في معظم قصصها؛ ومن ثم تختصر الكثير من التفاصيل التي لا داعي للحديث عنها؛ بما أنها تكتب سردا قصصيا يستدعي الكثير من التقشف وتجاوز التفاصيل، ومن هنا يبدو ذكائها وقدرتها على فهم جوهر القصة القصيرة التي تحتاج إلى الكثير من الإحكام والتركيز والبعد عن الثرثرة، وبما أنها رأت أن أسلوب المونتاج السينمائي الذي يجعل من المشاهد المتتالية- كما يحدث تماما في السينما- قادرا على مثل هذا التقشف؛ فلقد لجأت إليه في معظم قصصها؛ لإكسابها هذه الميزة، بالإضافة إلى الاستمتاع برافد من آليات الفن السينمائي واستخدامه بمتعة ومهارة في فن السرد القصصي. نلاحظ هذه المشهدية في قصتها "قلب واحد لا يكفي" التي تتحدث فيها عن فتاة ما تعشق الرسم على الخزف، لكنها تُصاب بنوبة قلبية تؤدي إلى وفاتها، ثم تتبرع أسرتها بقلبها لأحد المهندسين الذي يتميز بالكثير من العقلانية، والمنطق، والتفكير الجاف، كما أنه يحب الرياضيات والعلم أكثر من الفن والرسم، وهذه العقلانية جعلت من عمله الهدف الأول له في حياته؛ ومن ثم أخذ الكثير من عواطفه واهتمامه ببعض متطلبات زوجته، لكنه حينما يفيق من عملية نقل القلب من هذه الفتاة تلاحظ زوجته عليه بريقا في عينيه، كما تلاحظ اهتمامه المفاجئ بالخزف والرسوم المرسومة عليه، ويبدأ في رسم الكثير من الرسومات المختلفة لطيور وطووايس، وتشكيلات بالخط العربي على الأوراق والخزف، رغم أنه كان يكره الرسم في عمله ويتركه لغيره من الأصدقاء. من بين التغيرات التي تلاحظها الزوجة على زوجها أنه بدأ يهتم بالاستماع إلى ثرثراتها وتفاصيل الحياة اليومية التي تخصها، بل وبدأ يؤجل عمله من أجل أن يخرجا للتنزه، وهذا ما لم تعتده منه من قبل. تشعر الزوجة بالكثير من القلق على زوجها وتتجه إلى الممرضة التي أشرفت على حالة زوجها طالبة منها أن تدلها على أسرة الفتاة المتبرعة، وبالفعل حينما تذهب لمقابلة الأسرة تكتشف، حينما ترى صورة الفتاة، أنها تحمل في عينيها نفس البريق الذي ظهر في عيني زوجها بعد إجراء الجراحة، كما أن الفتاة كانت مغرمة بالرسم على الخزف، وهي الحالة التي آل إليها الزوج أيضا. هنا تُقرر الزوجة أن تأخذ الزوج إلى محل الفتاة الذي كانت تبيع فيه الخزف وترسم فيه، وتطلب من زوجها أن يشتري المكان؛ لأن روحه الحقيقية تكمن فيه.
رغم أن العلم قد لا يتماشى، أو لا يمكن له إثبات أن القلب المنقول من شخص إلى آخر من الممكن له أن ينقل صفات صاحبه إلى غيره، إلا أن القصة فيها قدر غير قليل من الاكتمال والإقناع من خلال بناء متماسك نجحت فيه القاصة أن تُقنع القارئ بذلك.
إن قدرة كوثر الشريفي على فهم آليات القصة تأتي من خلال عدة عناصر نجحت في استخدامها لبناء قصة محكمة ومتماسكة البناء، منها استخدامها للمونتاج السينمائي والمشهدية، وهو ما سبق أن ذكرناه منذ قليل؛ فالقاصة تفتتح قصتها من خلال مشهد قصصي للفتاة قبل موتها: "أمسكت بألوان الخزف واستنشقت رائحتها بلا أدنى ملامح للانزعاج. كانت الرائحة تجلب لها نوعا من الانتشاء، خاصة حين تمسك بقطعة خزف خالية من كل شيء حتى تخربش على سطحها كل تلك الهواجس التي تسكنها. تقلبها بين يديها، وتطرق مفكرة، باحثة في أروقة عقلها عن الصورة المثالية للقطعة التي ستحولها إلى شيء يتهافت الناس عليه". تستمر القاصة في وصف الحالة الشعورية للفتاة تجاه قطعة الخزف، ومدى عشقها للرسم عليها؛ لتنهي المشهد القصير بقولها: "أكملت الرسمة، ثم بدأت تمزج الألوان الأمثل لتلون طائرها، ولكن وخزا لحظيا ابتلع أنفاسها. الرؤية أمامها أصبحت ضبابا مستشريا، شوش على عينيها وعقلها معا، شوش على قدرتها على التوازن. لم يسمع أحد صوت ارتطام حاملة الألوان بالأرض الخشبية. لم يسمع أحد شيئا حتى نهاية ذلك اليوم". إن بدء القاصة قصتها بهذا المشهد الذي لم يتعد صفحة واحدة وسطرين اثنين يختصر الكثير من التفاصيل التي كان من الممكن أن تتحدث عنها مثرثرة، ولكن لأنها تُدرك أنها في حاجة إلى الاقتصاد في السرد؛ بما أنها تكتب السرد القصصي؛ فلقد لجأت إلى هذا المشهد كبداية للقص؛ كي تنتقل إلى المتن القصصي الذي يركز على التحولات التي حدثت للزوج الذي انتقل إليه قلبها بعد إجراء العملية الجراحية واكتسابه صفاتها هي؛ حيث ستنتقل بعد هذا المشهد مباشرة إلى مشهد هذا الزوج حينما يفيق من المخدر، ويبدأ في إدراك ما يدور حوله في المشفى؛ لتنهي هذا المشهد سريعا أيضا، وتنتقل إلى مشهد آخر للزوج بعدما عاد إلى بيته وبدأ يمارس حياته، أي أن القاصة تنجح أيما نجاح في استخدام المونتاج السينمائي كأداة أساسية في أسلوب القص؛ جاعلة منه أسلوبا قصصيا جوهريا لا يمكن لقصتها أن تكون أو تتم من دونه؛ ومن ثم تحولت القصة إلى مشاهد متتالية يستطيع كل مشهد منها تقديم المزيد من المعلومات والتقدم في البناء السردي، أي أن القاصة برعت في البناء القصصي؛ حيث كان كل مشهد من هذه المشاهد بمثابة لبنة لا بد منها؛ لتبني عليها القاصة لبنة جديدة في المشهد التالي؛ وبالتالي إذا ما سقط أحد هذه المشاهد فمن السهل انفراط البناء بالكامل وانهياره تماما، وهذا ما يدل على مهارتها في كتابة القصة القصيرة، وهذا أيضا ما ندركه في الفن السينمائي حيث يكون المشهد الذي لا داعي له، ولا يمكن له أن يقدم شيئا في تنامي السيناريو، أو لا يمكن البناء عليه بمثابة ترهل لا داعي له في الفيلم السينمائي ومن ثم لا بد من حذفه أثناء المونتاج.
هذه القدرة على الاقتصاد الذي لا بد منه في السرد القصصي نلحظها في: "لم يعد يطيق أن يمر يومه دون أن يستنشق رائحة الخزف، أن يستمع لزوجته وهي تحكي له عن تفاصيل مهمة وغير مهمة في حياتها حتى أدرك أنه لم يعرفها يوما من ذي قبل". في هذه الجملة الدالة مثلا تنجح الكاتبة في اختصار الكثير من التفاصيل في جملة لم تتعد السطرين. فهي لم تقل أن الزوج لم يكن يهتم بها من قبل، ولم تقل أنه اكتسب بعض السمات الأنثوية وهي الاهتمام الزائد بالتفاصيل سواء كانت مهمة أو غير مهمة، لكنها استطاعت أن تنقل إلينا هذه المعلومات من خلال القليل من المفردات التي كونت هذه الجملة بسلاسة وتلقائية لا عمدية فيها، وهو ما يدل على ذكائها وقدرتها الجيدة على السرد من دون أي تزيد أو مباشرة في سردها القصصي، الذي يتميز بالكثير من الاكتمال والمقدرة الفنية.
في قصة "الجاثوم" نقرأ جماليات التعبير عن امرأة هرمت وأصابها فقدان الذاكرة أو "الزهايمر"؛ فباتت تتذكر ماضيها من خلال الكوابيس التي تجثم على صدرها أثناء النوم، ولعل في هذه التجربة الإنسانية التي برعت في وصفها الكاتبة ما يُدلل على قدرتها الحقيقية على السرد القصصي؛ حيث تجعل القارئ قادرا على أن يعيش مع الشخصية القصصية انفعالاتها وذكرياتها بشكل غير قليل من الصدق الفني؛ فتبدأ القاصة قصتها بقولها: "كان جسدها متسمرا على فراشها، مشلولا لا تتذكر أبجديات تحريكه، لا شيء يدل على وجود حياة في هذا الجسد الهامد سوى جفنيها اللتين تحركتا من وقت لآخر بخفة نسبية. كان عقلها يعمل بتؤدة، وأعضاؤها الداخلية كذلك. تسمع ضربات قلبها الخافتة، تستطيع التنفس، وإن كان الأمر يجري بصعوبة بالغة. خانتها الذاكرة قليلا، فهي لا تتذكر ما هو آخر شيء قامت بعمله بالأمس قبل أن تستيقظ على هذا الحال. هل هي مستيقظة أساسا؟!". ربما نلحظ هنا الخطأ الذي وقعت فيه القاصة حينما تعمل على تأنيث المذكر فتكتب "جفنيها اللتين تحركتا" بدلا من التذكير، إلا أننا نلاحظ في هذا المقطع الذي تستهل به قصتها أنها تكشف لنا عن حال الشخصية القصصية وما تعانيه من سيطرة الجاثوم/ الكابوس عليها حتى أنه يجعلها في حالة من الشلل التام، ومن هنا تبدأ في نسج قصتها التي سيصدقها القارئ حتى قبل نهايتها بقليل حينما تأتي الكاتبة بالمفارقة التي تقلب القصة بالكامل- وهي من الأساليب السينمائية التي نُطلق عليها تويست-؛ فهي هنا تبدأ في استرجاع الذكريات باعتبارها أحداثا آنية وليست ماض انتهى منذ فترة طويلة، حينما تعجز عن فعل أي شيء اللهم إلا النظر في السقف الذي يحيلها إلى أن هذا السقف قد قامت بطلائه قريبا بيديها حينما تكاسل الزوج عن فعل ذلك وسوّف كثيرا؛ الأمر الذي جعلها تفعل ذلك بنفسها، ثم سرعان ما تبدأ في التساؤلات عن طفلها الرضيع الذي تركته وذهبت في النوم، وابنها الآخر البالغ أربع سنوات من العمر وعمن يعتني به الآن ويعطيه إفطاره، كذلك زوجها الذي لا يستطيع أن يفعل أي شيء من دونها. كيف يتصرفون الآن بينما هي عاجزة عن النهوض من أجلهم للاعتناء بهم؛ لاسيما أنها عمود البيت الذي يرتكز عليه الجميع: "للحظة نسيت خوفها من شللها التام حين سبحت بها ذاكرتها نحو هذه الأشياء الصغيرة التي تملأ حياتها الرتيبة بشيء من الفرح، ولكن الخوف عاود هزها بعنف حين تذكرت بأن ابنها الأكبر مريض منذ يومين! كيف كانت بهذا الإهمال لتنام وتنسى التأكد من أن حرارته قد خمدت؟ لو أنها تستطيع أن توقظ جسدها الأحمق الآن لتطمئن على صغيرها! ولكن هيهات، فلا شيء يجعله يتحرك من سباته!".
تعيش الشخصية القصصية جاثومها الذي يخنقها؛ حتى أنها تشعر بعدم القدرة على التنفس بينما تستعيد حياتها مع زوجها وأولادها، ولعل المقطع الذي تتذكر فيه حملها بطفلها الأصغر بينما الأكبر يبكي من دون سبب مسببا لها الكثير من الانفعال؛ الأمر الذي أدى إلى احتراق قميص زوجها الذي تقوم بكيه من المقاطع المهمة التي تُدلل على قدرة الكاتبة على فهم ماهية الكتابة السردية في القصة القصيرة حيث تنقل للقارئ ما ترغب أن تقوله من دون أي مباشرة، بل من خلال الحدث فقط، ولنقرأ: "وضعت الكاوية على حديد الطاولة بقوة، ثم صرخت عليه بعنف: إن لم تصمت فسأخبر أباك. تجاهلها الطفل تماما وشرع يرمي بجسده على الأرض. حاولت أن تستمر في كي القميص متجاهلة كل شيء آخر، ولكن صراخ ابنها كان يخترق رأسها كمسامير منتشرة في كل بقعة، جاعلا من التركيز أمرا شبه مستحيل. أحرقت ياقة القميص، فتركت الكاوية، وذهبت نحو ركن لتجلس فيه. لم تنم منذ أيام، حتى أصبحت تشعر بأن أبسط صوت يتحول إلى صراخ لا يطاق. احتوت رأسها بين كفيها، حتى حولت نظرها نحو زوجها الذي باغتها فجأة: لِمَ كل هذا الصراخ، ماذا هناك؟ لا أعرف! حدث ابنك، فأنا تعبت! في غضون دقائق من حديث زوجها معه، هدأ الفتى وهمد جنونه. لم يكن يخاف أحدا كخوفه من أبيه، فبالتأكيد سيهدأ. ترك الصغير الغرفة عن رضى تام، فلم يبق في الغرفة سوى امرأة حامل تبكي بصمت ورجل عاد لتوه من عمله. أصبحت تبكين كثيرا، ما المشكلة الآن؟! لا شيء. أنا متعبة فقط. من ماذا؟! لا أعلم من ماذا. لا أحد يبكي دون سبب! نظرت إليه بحدة، ثم أجابت وهي تحاول احتواء تبرمها: أنا مجنونة، أبكي دون سبب. لم أقل أنك مجنونة، أنا فقط لا أفهم لم تبكين طوال الوقت. وما أدراني لم أبكي؟! حتى البكاء أصبحت أحاسب عليه؟! أفٍ من هذا المنزل النكدي! افعلي ما تريدين، تعبت!"
هذ المقطع الحواري الذي دار بين الزوج والزوجة كان من المقاطع الذكية جدا والمهمة في هذه القصة التي يتضح من خلالها عدم قدرة الزوج على تفهم مشاعر الزوجة التي تتغير سيكولوجيتها تماما أثناء فترة الحمل ما بين الاكتئاب أحيانا، والألم من حملها، والفرحة، والشجن، وغير ذلك من الانفعالات المتفاوتة والمتغيرة؛ الأمر الذي يستدعي ضرورة تفهم مشاعر الزوجة في مثل هذه التقلبات، لكن القاصة هنا لم تحاول الثرثرة كثيرا كي توضح لنا أن الزوج غير قادر على تقهم مشاعر زوجته أو تقلباتها السيكولوجية، بل أخبرتنا بذلك بسلاسة من خلال هذا الحوار القصير الذي يُدلل على بلاغتها السردية في كتابة القصة القصيرة.
حينما تفيق الزوجة من جاثومها تحاول النهوض من أجل طفليها وزوجها إلا أننا نُفاجأ بأن الزوج قد مات منذ مدة طويلة، وأن الطفل الصغير قد كبر وتزوج من ابنة أخيها، وأنها تحيا معهما في بيتهما. هنا تكون المفارقة القصصية التي تنجح القاصة إغلاق قصتها من خلالها؛ فرغم أننا كقراء نصدق كل ما ذهبت إليه القصة من استعادة هذه الزوجة لذكرياتها باعتبارها لحظات آنية، إلا أننا في النهاية نعرف أن كل هذا كان ماضيا وليس حاضرا كما ظننا منذ بداية العمل، كما أن المفارقة القصصية في النهاية هي التي أعطت للقصة معنى وهدف ما.
في قصة "البياض المتسخ" ثمة مفهوم خاص للرجولة يعني الخشونة والفظاظة والعدائية في المجتمعات العربية، وهو المفهوم الذي يُنشئ عليه الآباء أبنائهم وإلا باتوا ناقصي الرجولة وأقرب إلى الإناث؛ مما يُسبب العار لأهلهم، وهو ما تعالجه القاصة في هذه القصة؛ لذلك نجد الطفل في نهاية القصة يتمنى أن يظل على طفولته ولا يكبر؛ حتى لا يصبح مثل أبيه وغيره من الرجال الكبار الشديدي الفظاظة؛ فهو يستمع دائما إلى الأب الذي يلوم الأم على سلوكه وأنه سينشأ خال من الرجولة؛ لأنه تربية امرأة: "أين ابني؟ يلعب في فناء المنزل. هذا الولد حساس أكثر من اللازم، لا أعلم كيف سيجابه هذا العالم كرجل يوما ما! ماذا حدث الآن؟! تصوري أنه ظل يبكي طوال الطريق إلى المدرسة لأن ابن الجيران سخر منه بدلا من أن يرد عليه بالمثل؟! مسكين ابني، ولكني لا أرى عيبا في ذلك! ما شاء الله عليكِ، لا ترين في هذا أي عيب؟! لا! بالعكس، جواب السفيه السكوت! لهذا سيكون ابنكِ ضعيف الشخصية طيلة عمره، لا يعرف كيف يأخذ حقه بنفسه! سمع بعدها والدته وهي تقول بصوت منخفض وغاضب: لِمَ تقول هذا عليه دائما؟ سيسمعك ويصدق هذا الكلام السخيف!! ضحك والده وقال باستخفاف: تربية نساء، هذه النتيجة. حين سمع الحوار، ذهب إلى الجهة الأخرى من الفناء، فتبعته القطة. لقد تغير والده كثيرا منذ أن بلغ الثامنة. زاد هو من انعزاله، وزادت سخرية والده. علم أنه سيقول هذا الكلام من جديد، ففضل ألا يسمعه. لا حاجة للإنسان أن يسمع أشياء يعرفها مسبقا عن نفسه".
القاصة اليمنية كوثر عبد الواحد الشريفي
هنا من خلال هذا المقطع يتبين لنا طريقة تربية العديدين من الآباء لأبنائهم ظنا منهم أنهم بهذا الشكل من الممكن أن يُنشئوا رجالا من الممكن أن يُعتمد عليهم، في حين أنهم في حقيقة الأمر يُنشئون رجالا مشوهين لا يمكن الاعتماد على قسوتهم وفظاظتهم وعنفهم الغير مبرر اللهم إلا أن يثبتوا أنهم من خلال هذا السلوك قد باتوا رجالا من الممكن الاعتماد عليهم؛ لذلك نرى الطفل في فناء المنزل يلعب بكرته وحيدا، لكنه يلمح قطا أعرجا يراقبه وقد شعر بالخوف من الفتى. يفكر الطفل في إيذاء الطفل والانتقام منه؛ نظرا لأن أصدقائه كثيرا ما يسخرون منه- ومن ثم يصبح الانتقام من القط هو انتقام من أصدقائه-، لكنه يتراجع عن فعل ذلك ويظل يراقب القط: "كانت هناك الكثير من القطط التي تأتي إلى فناء المنزل من وقت لآخر، وكان الفتى يتابع كل واحدة منها معظم الوقت لدقائق، أو يذهب ليخيفها بحركة مباغتة إن شعر بالملل من وجودها المتكرر. لاحظ مع الوقت أن ذلك الشعور الذي كانت تجلبه نظرات القطط الخائفة له يُشعره بلذة نسيها منذ وقت طويل. في كل مرة كان يرى فيها قطة مختبئة في مكان قريب منه، يحرص على أن يخيفها بضرب قدميه على الأرض ضاحكا بخبث، أو أن يرمي بجانبها حجرا صغيرا يجعلها تنتفض في ثوان لتهرب إلى الوراء، راجية أن يختفي هذا الفتى المزعج عنها"، أي أنه كان يمارس عملية إسقاط نفسي على القطط الضعيفة؛ بسبب ما يسمعه من قول والده عنه، أو بسبب سخرية الفتيان منه؛ الأمر الذي يشعره بالقليل من القوة واللذة نتيجة هذا الشكل من أشكال التعويض النفسي. لكنه هذه المرة حينما رأى القطة لم يحاول إيذائها رغم تفكيره في ذلك، بل ظل يتأملها؛ مما جعلها تكتسب بعض الطمأنينة وتقترب منه لتتمسح في ساقه، وهو ما جعله يألفها ويلعب معها لفترة طويلة؛ لذلك حينما عاد إلى المنزل وخلد الوالدان إلى النوم قام من نومه ووضع بعض اللبن المجفف في إناء وخرج به للقطة في الفناء، ولما لم يجدها تركه لها وعاد إلى نومه، لكنه وجد الإناء كما هو حينما استيقظ؛ فعرف أن القطة قد غادرت.
في الصباح حينما أخذه الأب معه في طريقه إلى المدرسة رأى مشهدا جعله يتمنى لو ظل طفلا بعيدا عن عالم الكبار القاسي الذي يتعلل بالرجولة: "حين كان ينتظر والده ليوصله إلى المدرسة، رأى كلبا خائفا يقف على بُعد خطوات من فتى كبير وطفل صغير. كان الفتى الكبير ممسكا بعصا طويلة، أما الأخ الصغير، فقد كان يبتعد إلى الوراء بخوف. هيا امسك بالعصا واضربه! لا أريد، أنا خائف! هيا، كن رجلا وامسك العصا! حين نفذ صبر الأخ الكبير، لوح بعصاه اتجاه الكلب الخائف. بدأ يلاحقه حين حاول الهرب، وتمكن من تصويب بعض الضربات عليه. كان يضحك بصوت عال، ويدعو أخاه الصغير لمشاركته: انظر كيف لقنته درسا! هكذا الرجال! قطع المشهد قدوم والد الفتى، فركب السيارة بصمت. قلب كفيه الصغيرتين أمامه. بدأتا تكبران بسرعة دون أن يلاحظ ذلك. نظر إلى كفي أبيه، ثم عاد للتحديق في كفيه. لا يريد للزمن أن يمر، فتصبح كفاه كبيرتين إلى هذا الحد. لقد أدرك أن الرجولة في هذا المكان أمر شاق جدا.".
صحيح أن القاصة ختمت قصتها بجملة فيها قدر من المباشرة والخطابية حينما كتبت "لقد أدرك أن الرجولة في هذا المكان أمر شاق جدا"، وهو ما يُعد عبئا لا تحتمله القصة؛ لأننا كقراء أدركنا هذا المعنى الفظ للرجولة من خلال ما كتبته من سرد، لكنها لم تكن من المباشرة التي من الممكن لها أن تُفسد القصة فنيا تماما؛ لذلك لا بد لنا أن نعود مرة أخرى إلى تأمل القصة التي تُفيد وتؤكد أن طريقة التربية الذكورية في مجتمعاتنا هي طريقة خاطئة نتيجة مفهوم الرجولة المشوه المقترن بالعنف الشديد، في حين أن تربية المرأة الي تعتمد على الكثير من المشاعر وتفهم واستيعاب الآخر هي الطريقة المثلى لتنشئة مجتمع يخلو من التشوهات النفسية التي نعاني منها. قالت الكاتبة ذلك من دون ضجيج، أو افتعال، أو الشعور بالمجتمع الذكوري الصلب المشوه، بل نجحت في قول ذلك من خلال أسلوب سردي وفني بعيدا تماما عن الافتعال الخطابي الذي نشاهده لدى الكثيرات من الكاتبات اللاتي يحلو لهن الضجيج والافتعال والصراخ من سطوة المجتمعات الذكورية؛ الأمر الذي يُفقد السرد في هذه الحالة فنيته.
في قصة "المكون المفقود" تؤكد الكاتبة أن المرء لا يمكن له الاستمتاع بفعل أي شيء إلا إذا كان هذا الفعل من أجل المتعة الخالصة فقط، أما إذا فُرض عليه هذا الأمر الذي كان يستمتع به سابقا؛ فهو بالضرورة يفقد متعته تماما، كما أنها تضعنا أمام إشكالية اجتماعية نُعاني منها جميعا في مجتمعاتنا حينما تحتشد الأسرة بالكامل لتشجيع فتياتها أو أبنائها على أمر ما منذ صغرهم، ثم سرعان ما يستنكرون عليهم هذا الشيء بعدما يكون الأبناء قد تشربونه وأحبوه تماما- نتيجة التشجيع- ويحاولون أن يبعدونهم عنه باعتباره عارا لا يصح لهم أن يفعلوه؛ لذلك نرى الطفلة التي تلعب دائما بألعابها وكأنها تطهو الطعام، وهذا ما كان يُسعد والدتها وأبيها، حتى أنها كانت تقول لهما أنها حينما تكبر ستكون طاهية في مطعم كبير: "حين أكبر، سأكون طاهية في مطعم كبير جدا! كانت تقول في كل مرة تتقن فيها اللعب بالصلصال، ثم تشكيله على مرأى والدتها بشكل مأكولات غريبة لا تعرفها هي بنفسها. لم تكن تسمح لها والدتها بأن تلعب بالعجين الحقيقي الذي كانت تقوم بعجنه من أجل عمل شيء كالكعك أو غيره، فكانت تجد في الصلصال عزاء وسيطرة أكبر على ما هو لها فقط. تضحك والدتها، ثم تهز كتفيها وهي تفكر ببراءة طفلتها التي لم تتعد عامها السادس. أما والدها، فيقول ضاحكا بسخرية: آخر الزمن ابنتي تصبح طاهية في المطاعم".
 تتعلم الطفلة الطهي بالفعل حينما تبلغ سن المراهقة من والدتها التي كانت كثيرا ما تثني عليها فخورة بها؛ لأنها طاهية ماهرة، بل وكان إتقانها للطهي مثار فخر جميع الجيران بها لاسيما أمهات صديقاتها اللاتي كن يتحسرن على بناتهن اللاتي لا يعرفن فنون الطهي اللازمة لهن من أجل بيوتهن المستقبلية: "كانت في كل زيارة لإحدى صديقاتها تستمع إلى والداتهن وهن يشتكين أن بناتهن لا يتقن شيئا عندما يتعلق الأمر بالطبخ. تحصل هي بالمقابل على الكثير من الإطراء على كل طبق تأتي به في كل زيارة. تتمنى والدات صديقاتها لو كانت فتياتهن يتحلين بنفس الموهبة والنفس في الطهي، فتشعر بأن كل ما قد هُدم من إيمانها بذاتها في هذا المنزل قد ترمم من جديد. الكل يغبطها على شيء هو السبب في عنائها هذا".
 تُمارس الفتاة فن الطهي بحب كبير، وتبدأ في طهي بعض الفطائر التي تأخذها معها إلى المدرسة وتبيعها لزميلاتها، لكن الأم تكتشف ذلك وتوبخها كثيرا وتهددها أنها إذا لم تلتفت إلى دراستها وتنسى هذه الأفكار الجالبة للعار فإنها ستزوجها لأول رجل يطرق باب بيتهم. رغم أن الفتاة تلتحق بكلية الطب إلا أنها تتزوج وتترك كليتها؛ ليقينها أنها لن تكون طاهية في مطعم كما حلمت كثيرا، وأن حلمها الأهم في حياتها هو أن تكون طاهية لا أن تكون طبيبة، وبما أنها لن تصل لحلمها؛ فلا داعي لإكمال تعليمها. يستمتع زوجها كثيرا بطهيها؛ حتى أن الأكل قد بات بالنسبة إليه هواية ممتعة منذ تزوجها، وتجلس ذات ليلة في مطبخها لتطهو إحدى كعكاتها التي يسيل لعاب زوجها عليها ويطلب منها المزيد بعدما يأكل قطعته بشهية كبيرة، لكنها تسأله إن كان طعمها لذيذا؛ فيؤكد لها ذلك بالإيجاب وطلب المزيد، إلا أنها تتناول منها قطعة لتشعر بيقين أن ثمة طعم ما مفقود كانت تستطيع أن تحس بمذاقه في الماضي حينما كانت تفعل ذلك بحب في بيت والديها: "مذاق الكعكة ليس كما كان، هناك شيء مفقود. قامت من مكانها وأخذت دفترها. قرأت الصفحة، ثم حاولت استرجاع كل الخطوات التي قامت بها، فوجدتها مطابقة لما كان عليها فعله. هناك شيء ما لم تعد تتذكر مذاقه. هل هو مكون مفقود، أم أن الفرن لم يكن حارا بما فيه الكفاية، أم ماذا؟ لا تعرف. كل ما تعرفه أن هناك شيئا تفتقده هذه الكعكة".
استطاعت القاصة هنا بذكاء سردي أن تتعامل مع مشكلة اجتماعية من خلال هذه القصة التي من الممكن سحبها على الكثير من الأمور التي يشجع فيها الوالدان أبنائهما على الكثير من الأمور ثم سرعان ما ينهونهم عما كانوا يشجعونهم عليه باعتباره عيبا وعارا؛ فدللت لنا على فصام اجتماعي خطير تعاني منه مجتمعاتنا العربية في أساليب التربية؛ الأمر الذي يؤدي إلى نشأة أجيال مصابة بالفصام بدورها؛ لذلك نراها تُنهي قصتها بشيء غير قليل من الانكسار: "ابتسمت له من جديد. حاولت أن تفرق في ذاكرة حواسها كل تلك الأشياء التي تم خلطها، وكل تلك الروائح. لم تعد ذاكرتها تحمل الكثير. غابت الروائح وأصبحت تحمل ذات الرائحة، رائحة خيبة وانكسار. وضعت لزوجها القطعة الثانية، ثم حاولت أن تكمل قطعتها. لم يعد للأمر لذة تُذكر".
في قصة "لجوء" تتحدث الكاتبة عن وضع طالبي اللجوء أمام السفارات والمهانة الشديدة التي يلاقونها، والوضع غير الإنساني وكأنهم مجرد متسولين لا قيمة أو كرامة لهم؛ فيتركونهم في الشارع أمام السفارات تحت لهيب الشمس الحارقة، ويتعاملون معهم بتعالي وشموخ وكأنهم لا يستحقون أن ينتموا إلى الإنسانية، بل ويصفونهم بقلة الأدب أحيانا حينما يطالب أحدهم ألا يعامله أحد الموظفين معاملة سيئة: "كانت هناك جلبة كادت أن تصبح اشتباكا بالأيدي على ما يبدو. نظرت نحوهم بخوف، فالأصوات العالية أصبحت تعقد في معدتها ورأسها ألف عقدة. كان هناك شاب في أواخر العشرين من عمره على ما يبدو، يصرخ وهو يبعد الأيادي عنه: لست متسولا حتى تعاملونني هكذا! أرجوك اترك المكان! انتظر دورك، وابق هناك بأدب! لا تلمسوني! أنا أساسا ذاهب، سخفاء!"؛ الأمر الذي يجعلها في نهاية الأمر تلقي بأوراق طلب اللجوء ممزقة إياها أمام السفارة، رغم حاجتها الشديدة للأمر، لكنها بعدما ترى هذه التعاملات المهينة، والانتظار الطويل تحت الشامس الحارقة من دون وجود أي مظلات تتيقن أن وجودها في وطنها أو في وطن بديل يتساويان مع بعضهما البعض: "توجهت نحو البوابة بتردد وهي ممسكة بالاستمارة، وارتعاش هاتفها يقلقها. نظرت إلى الشاشة، ثم نظرت إلى الاستمارة. وصلت عند حارسة الأمن التي قامت بتفتيشها من أعلى رأسها حتى إخمص قدميها. عليها أن تغلق هاتفها، وأن تضعه معهم! لكنها ردت على خالتها، والحارسة تعنفها بقسوة: أنتِ يا فتاة! عليك إغلاق هاتفك! كانت خالتها تثرثر دون توقف، أما هي، فكانت وكأنها صماء، لا تفهم شيئا مما يحدث حولها. نظرت إلى الشاب وهو لا يزال يضحك بسخرية، ثم إلى استمارتها مرة أخرى. قامت بتمزيقها ووضعت البقايا في حقيبتها. كله لجوء.. كلها غربة. فكرت، وهي تمشي بعيدا باحثة عن سيارة أجرة".
إن المجموعة القصصية "ميعاد" للقاصة اليمنية كوثر عبد الواحد الشريفي من المجموعات القصصية الجيدة التي تؤكد وجود مستوى مُحكم من السرد القصصي لدى العديد من الكتاب، وإن كان هذا المستوى لا يمكن له أن يكون إلا إذا استطاع السارد امتلاك أدواته السردية جيدا، ووعى مفهوم الجنس السردي الذي يبدأ في الكتابة فيه أولا؛ كي يستطيع أن يقدم لنا ما يمكن أن يفخر به، ومن ثم يُشكل إضافة إلى مدونة السرد العربي اللائق بها، كما أنها تؤكد من خلال كتابتها أن ثمة نساء إذا أخلصن فعليا لفن السرد- وهذا نادر- وابتعدن عن الصراخ والعويل ومفهوم ذكورية المجتمع الذي يطحنهن طول الوقت؛ استطعن التحليق إلى عوالم أكثر رحابة؛ وبالتالي ينعكس هذا على ما يقدمن من سرد روائي أو قصصي؛ فيتسع مفهومهن للعالم، ويصبح معجمهن اللغوي أكثر ثراء ونضجا بعيدا عن محدودية المفردات التي يدرن في فلكها، ومن ثم ينتفي النوع أمام الإبداع ولا يبقى لنا في النهاية سوى الكتابة الجيدة الخالية من جنس الكاتب سواء كان ذكرا أم أنثى.



محمود الغيطاني


مجلة الناشر الأسبوعي الإماراتية.
عدد أكتوبر 2019م.