الجمعة، 30 ديسمبر 2022

كما تذهب الدموع: يتلاشى العشق أيضا في الشوارع الخلفية!

لا يمكن لنا التخلي عن فكرة أن العمل الفني الأول لأي مُبدع إنما يحمل في داخله الجينات الوراثية الفنية له؛ وبالتالي فهو الذي يُحدد مصيره الفني فيما بعد. صحيح أن بعض المُبدعين من المُمكن لهم الانحراف عن الطريق الذي بدأوه- ولقد رأينا هذا مرارا لدى العديدين منهم- سواء بالسلب أم بالإيجاب، لكن يظل العمل الفني الأول هو المُحدد الأساس للطريق الفني الذي سينتهجه صاحبه فيما بعد، والذي سيعمل على تطويره إلى ما هو أجود بالضرورة، أي أنه يكون بمثابة البصمة الوراثية له، والتي نستطيع معرفته من خلالها.

هذه الفرضية، الأقرب إلى الصواب، إلى حد كبير، تُعد ضرورية ومُهمة في حال الرغبة في تأمل مسيرة أحد الفنانين وكيفية تطور آلياته الفنية، أو أسلوبيته فيما قدمه من أعمال تلت العمل الأول، وهو الأمر الذي يجعل تناول الفيلم الأول للمُخرج والسيناريست الصيني Wong Kar- wai وونج كار واي من الضرورة بمكان؛ لمعرفة كيفية نشأة أسلوبيته الفنية في الفيلم الأول As Tears Go By كما تذهب الدموع 1988م، وكيف تطورت هذه الأسلوبية الفنية فيما تلا هذا الفيلم من أفلام سينمائية أخرى كانت من المكانة الفنية التي جعلت منه من أهم المُخرجين في العالم؛ نظرا لعالمه الخاص الذي تدور فيه أفلامه، وامتلاكه لأسلوب سينمائي يختلف فيه عن الجميع من المُخرجين الآخرين.

يتناول وونج كار واي في فيلمه الأول العالم السُفلي للشوارع الخلفية في هونج كونج وما يسودها من عُنف شديد لا يمكن احتماله، وهو ما نراه على طول أحداث الفيلم في الكثير من مشاهد العراك بين أفراد العصابات، ولعل تناول كار واي لهذا العالم ومحاولته التركيز على تفاصيله ودقائقه يذكرنا للوهلة الأولى بالفيلم الأمريكي Mean Streets الشوارع الخلفية 1973م للمُخرج الإيطالي الأصل الأمريكي الجنسية Martin Scorsese مارتن سكورسيزي الذي تناول عالم العصابات العنيف في نيويورك من خلال شخصيتين تمثلا قُطبا هذا العالم الدموي.


صحيح أن ثمة روح ما تجمع بين العملين السينمائيين، لكن ليس معنى قولنا هذا أن كار واي قد اقتبس، أو أخذ من فيلم سكورسيزي. ربما تأثر واي بفيلم سكورسيزي، أو ظل عالمه عالقا في ذهنه إلى أن قام بصناعة فيلمه الأول، لكننا سنُلاحظ أن ثمة بونا شاسعا بين الفيلمين بعيدا عن هذه الروح التي تربط بينهما؛ فكلا الفيلمين يتناول عالم الجريمة والعصابات في قاع المدينة والشوارع الخلفية- سكوسيزي في نيويورك، وواي في هونج كونج- والصراع العاصف القائم بينهم، وهو الصراع الذي يؤدي إلى الكثير من الدموية والعنف، والإطاحة بالكثير من الجثث، لكن خلاف هذه الخطوط العريضة بين الفيلمين سيتبين لنا أن كل من المُخرجين يمتلك أسلوبيته الخاصة التي تختلف عن الآخر اختلافا بينا، أي أننا يمكن لنا رد هذه الروح الرابطة بينهما إلى أنها كانت بمثابة التحية الفنية من وونج كار واي لسكورسيزي.

في فيلم As Tears Go By كما تذهب الدموع العديد من المُلاحظات الأسلوبية التي يتميز بها وونج كار واي، وهي الأسلوبية التي ستظل معه في المُستقبل ليعمل على تطويرها، وتنضج كثيرا في أفلامه الأخرى القادمة؛ فهو حريص دائما على التصوير من خلال إضاءة لمبات النيون الباهتة، كما يُعد عالم الليل هو العالم الأثير لديه، وكأنه لا يعرف النهار أو يشعر نحوه بالكثير من الخشية، ولا يجد نفسه سوى في هذا العالم الليلي، كما لا يفوتنا حرصه على التصوير البطيء في العديد من المشاهد Slow Motion، وهو الأسلوب الأثير لديه في عالمه السينمائي الذي تطور فيما بعد ليعد ميزة تخصه وحده فيما يقدمه من أعمال سينمائية مُهمة، بالإضافة إلى مشاهد الضباب المُتصاعد دائما في الشوارع، ولجوئه إلى استخدام الكاميرا المحمولة لا سيما في مشاهد المُطاردات، وهوسه باستخدام مُوسيقى البوب التي تكاد أن تكون جزء لا يتجزأ من نسيج أفلامه جميعا، ومن ثم يُعد غيابها عن أي فيلم من أفلامه بمثابة نقص كبير في العالم الفيلمي الذي يقدمه وونج.


إذن، فالمُخرج نجح من خلال تقديم فيلمه الأول في تقديم أسلوبيته السينمائية التي تخصه، والتي ظلت معه طوال رحلته السينمائية المُستمرة حتى اليوم عاملا على تطويرها وإكسابها خصوصية لا يمكن لها أن تتوافر لغيره من المُخرجين، وهذا ما قصدناه آنفا حينما أكدنا على أن العمل الأول للمُخرج/ الفنان يكاد يكون بمثابة الشفرة الوراثية التي لا يمكن لها أن تتشابه مع غيره؛ وبالتالي نستطيع معرفة أسلوبية كل مُخرج من خلال هذا العمل الذي يقدم به نفسه.

يبدأ وونج كار واي فيلمه مُستخدما الكاميرا الثابتة التي تصور مدينة هونج كونج وصخبها بينما تتصاعد أعمدة الضباب من خلال إنارة لمبات النيون الباهتة، لينتقل على واه/ الأخ الأكبر- قام بدوره المُمثل الصيني Andy Lau آندي لاو- في فراشه بينما يدق جرس الهاتف بإلحاح. يمد واه يده من أسفل الغطاء ليرد، بينما يصله صوت عمته التي تخبره بأنها ستعاود الاتصال به مرة أخرى حينما يستيقظ، لكنها سُرعان ما تُعيد الاتصال بعد أقل من دقيقة لتخبره بأن ابنة عمه آه نجور- قامت بدورها المُمثلة الصينية Maggie Cheung ماجي تشيونج- ستأتي إليه؛ لأنها تعاني من مرض ما وتحتاج إلى مُتابعة الطبيب في المدينة.


مع وصول آه نجور إلى منزل واه يبدأ المُخرج عالمه الفيلمي؛ حيث نُلاحظ الثلجية واللامبالاة اللتين يتعامل بهما واه مع ابنة عمه، والتي يطلب منها عدم إيقاظه إذا ما اتصل به أحدهم. تشعر آه نجور بالكثير من الرهبة من واه، وترد على العديد من المُكالمات التي تأتيه إلى أن يستيقظ من نومه في مُنتصف النهار، لكنه يلاحظ أنها ترتدي كمامة على أنفها فيسألها عن السبب لتخبره بأنها تعاني من خلل في الرئة، وعليها معاودة الطبيب، إلا أنه يطلب منها خلعها؛ فهي لن تموت على أي حال.

يعاود فلاي/ أخوه- قام بدوره المُمثل الصيني Jacky Cheung جاكي تشيونج- مُهاتفة شقيقه لإخباره بأنه لم يستطع أخذ الدين من أحدهم حتى الآن، وأنه يقوم بالتفاوض معه؛ الأمر الذي يجعل واه يسرع بالخروج إليه، وحينما يجد شقيقه يتفاوض مع الرجل الجالس بين رجاله؛ يقوم بتناول إحدى زجاجات الكحول ليحطم بها وجه الرجل طالبا منه إخراج المال المدين به لأحدهم فيخرجه الرجل بينما الدماء تسيل كالشلال على وجهه.


نعرف أن واه/ الأخ الأكبر هو رجل عصابات يقوم بجمع الديون لأصحابها بمُقابل مالي، وأن فلاي أخاه الأصغر يعمل معه في عالم العصابات والشوارع الخلفية للمدينة، لكنه يتميز بالكثير من الحماقة التي تجعله يقع في الكثير من المآزق التي قد تودي بحياته لولا تدخل الأخ الأكبر دائما من أجل إنقاذه.

إن حرص المُخرج على عرض التفاصيل الدقيقة يؤكد لنا أن فلاي يشعر دائما بأنه أقل من الأخ الأكبر، وأنه لولا الأخ الأكبر لما كان له وجود في عالم الجريمة، وهو ما يجعله واقعا في مأزق وجودي يشعره بالكثير من الضآلة، والرغبة الدائمة في الشُهرة مثل أخيه الأكبر، لكن هذه الرغبة الحمقاء تدفعه إلى المزيد من الحماقة دائما مما يعرض حياته للخطر.

مما لا يمكن إنكاره أن هذا النمط من حياة الجريمة لا مكان فيه للمشاعر الطبيعية والدافئة، والرومانسية؛ ومن ثم فأصحابه يحيون دائما حياة مُضطربة، قلقة، مُعرضة للانتهاء بالسجن أو القتل في أي لحظة، أي أنهم من المُستحيل لهم العيش في حياة مُستقرة آمنة مثل باقي البشر، ومن هنا تنتفي المشاعر في حياتهم، ويختفي وجود المرأة التي هي النموذج الأساس للاستقرار، وهو ما يؤكد عليه المُخرج مُنذ المشاهد الأولى حينما يقابل واه حبيبته التي تقول له: لقد غادرت المُستشفى للتو. ليسألها: لماذا؟ غسيل معدة مرة أخرى؟ لترد عليه غاضبة: إنه إجهاض. يقول مُندهشا: أنت تمزحين؟ لكنها ترد: يمكنك التعامل معها على أنها مُزحة إذا ما رغبت في ذلك. يسألها واه: لِمَ لم تخبرينني بأنك حامل؟! فتقول: هل منحتني الفرصة لأخبرك؟ لقد انتظرتك لمُدة ثلاثة أيام، لكنك لم تتصل بي. يقول غاضبا: يمكنك الاتصال بي إذا لم أفعل. لترد: ماذا أستطيع أن أقول لك؟ بأني ذاهبة للإجهاض؟ أم لأطلب منك الزواج؟ كنا معا لمُدة ست سنوات، ما الذي حصلت عليه؟ شعرت بأني لا أعرفك، ولم أحصل حتى على أي مال، أنا فقيرة لدرجة اضطراري الاقتراض من أمي من أجل الإجهاض، تكلم، ماذا فعلت لي؟ يقول واه غاضبا: اخرسي، توقفي عن قول هذا الكلام الذي تقولينه مُنذ التقينا، كنت تعرفين بالفعل أي نوع من الأشخاص أنا، لا تبقي معي إذا ما كنت تريدين الزواج والمال.


ربما كان هذا الحوار الذي رأيناه في بداية الفيلم له أهمية محورية من أجل مُتابعة باقي الأحداث التالية؛ فرغم أن الفيلم يتحدث عن عالم العُنف والجريمة في الشوارع الخلفية من هونج كونج؛ الأمر الذي قد يجعله يبدو لنا من أفلام الجريمة والحركة، إلا أن وونج كار واي من خلال أسلوبيته الخاصة، وكتابته للسيناريو لا يهتم كثيرا بهذا العالم السُفلي، ولا يجعله في مُقدمه أحداثه، بل يجعله في الكثير من الأحيان كمُجرد خلفية لقصة الحب التي أدخلها في نسيج فيلمه، وهي القصة التي ستنشأ بينه وبين ابنة عمه فيما بعد؛ ليؤكد لنا رؤيته الخاصة التي تؤكد بأن الحب والمشاعر الدافئة لا يمكن لهما الحياة في مثل هذه البيئة المُحيطة الخطرة، ومن ثم فمن ينخرط في هذا العالم الدموي لا يمكن له الاستقرار مع امرأة، أو الشعور بالأمان معها، كما لا يمكن له منحها أي شعور بالأمان!

هذا المأزق الوجودي بالشعور بعدم الأمان الدائم لم يكن بسبب عمل واه في عالم العصابات فقط؛ فالمُخرج أكد لنا، من خلال الأحداث، أن واه قد بات يشعر بالملل من هذا العالم، وأنه على أتم الاستعداد لتركه في أي لحظة واعتزاله، لكن المُشكلة الأكبر تتمثل في أنه مُرتبط ارتباطا قويا بأخيه فلاي، وهو الأخ الذي يشعر دائما بالرغبة في الشُهرة داخل عالم الجريمة، والذي يحلم بأن يكون مثل الأخ الأكبر، مرهوب الجانب من الآخرين، ومُماثلا له في الشُهرة؛ مما يدفعه إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء التي تعرضه للقتل لولا تدخل واه في الوقت المُناسب من أجل حمايته، أي أن واه كلما قرر الابتعاد عن هذا العالم المُحاط بالكثير من الأخطار يجره أخوه الأصغر بسبب حماقاته المُتتالية.


يحاول فلاي اللعب مع بعض رجال العصابات مُستفزا إياهم من أجل إثبات جرأته ومقدرته على مواجهتهم، لكنه يُصاب بجرح غائر من عنق إحدى الزجاجات التي يضربه بها أحدهم ليشق صدره، وسُرعان ما يتجه إلى بيت أخيه واه مُستنجدا به في الوقت الذي كان يستعد فيه واه من أجل الخروج لتناول العشاء مع ابنة عمه آه نجور التي بدأ يشعر تجاهها بشيء غير قليل من المشاعر والحسية المتوترة، يعمل واه على إنقاذ شقيقه؛ ليسرع بالخروج من أجل الانتقام له ورد كرامته.

لكن في خضم هذه المُشاجرات المُتتالية مع رجال العصابات تتأكد آه نجور أن صحتها على ما يرام، وأنها لا تعاني من شيء كما أكد لها الطبيب؛ ومن ثم تعود إلى جزيرة لانتاو التي تعيش فيها تاركة رسالة لواه المُتغيب مُعظم الوقت لتخبره فيها: لقد قمت بإعداد وجبة لك في المطبخ، كما اشتريت عدة أكواب، أعلم أنه سيتم كسرها جميعا إن عاجلا أم آجلا، لذا أخفيت أحدهم، إذا ما احتجت هذا الكوب يوما ما كلمني لأخبرك أين أخفيته.


إن رحيل آه نجور من حياة واه يجعله على ثقة تامة بمشاعره نحوها، لا سيما أنها قد قامت بتغيير نمط حياته مُنذ دخلت بيته، وحرصت على جعله أكثر ترتيبا ونظاما، ونظافة، فضلا عن المشاعر التي نشأت بينهما رغم عدم اعترافهما لبعضهما البعض بها. لكن، لأن واه يكاد يكون مُنخرطا وغارقا حتى أذنيه في عالم الجريمة الذي يجره إليه حتى النخاع شقيقه الأحمق فلاي بأخطائه المُتكررة؛ ينسى مشاعره إلى حد ما ويتفرغ لحل مُشكلات أخيه الدائمة التي كان منها اقتراضه المال من أحد رجال العصابات المُنافسة لأخيه الأكبر ورفضه السداد لهم؛ الأمر الذي يجعلهم يلجأون إلى واه للشكوى وتهديده بأنهم لن يصبروا على أخيه، وسيقومون بقتله. يسرع واه إلى رجل العصابات الآخر/ توني بماله بعد تأكده بأن فلاي بالفعل رفض سداد قرضه ويسدد المال، لكن توني يخبره بأنه لا بد له من دفع الفوائد بسبب التأخير؛ الأمر الذي يجعل واه يقوم بتهديد صاحب المكان الذي تحميه العصابة، وأخذ المال منه ليدفع به لتوني.

الممثلة الصينية ماجي تشيونج

تحدث العديد من المُطاردات والتحدي بين واه وتوني- قام بدوره المُمثل الصيني Alex Man أليكس مان- مما يجعل الرجل الكبير يجمعهما أمام بعضهما البعض ويطلب منهما إنهاء الخلافات بينهما للتفرغ لأعمالهما، كما يخبرهما بأن أحد الرجال قد وشى ببعضهم إلى الشرطة، وأنه لا بد من قتل هذا الرجل قبل الذهاب للشهادة في المحكمة. حينما يحاول الرجال الانصراف يخبر الرجل الكبير واه بأنه لا بد له من التخلص من فلاي؛ لأنه يسبب له الكثير من المُشكلات التي قد تؤدي إلى القضاء عليه شخصيا قائلا: أعلم أنك وأخاك صديقان حميمان، لكنه مجنون للغاية، قم بتعليمه، أو سيتحول إلى قنبلة موقوتة بجانبك، يوما ما سيتسبب في مُشكلات قاتلة. 

إن مُلاحظة الجميع لحماقة فلاي التي قد تؤدي إلى مقتل الأخ الأكبر واه تؤكد أنه قد بات خطرا على أخيه الذي يحاول دائما حمايته والدفاع عنه؛ لذلك يفكر واه في إبعاد شقيقه عن عالم الجريمة بإرغامه على بيع كرات السمك كبائع متجول في الشارع، وهو الأمر الذي يخضع له فلاي مُكرها؛ ومن ثم نراه يمارسه بملل ولامبالاة.

يشعر واه بالكثير من الفراغ والعدمية اللذين يحيطان بحياته بعد خروج آه نجور منها وعودتها إلى لانتاو؛ لذا يفكر بالذهاب إليها للقائها والاعتراف لها بعشقه، إلا أنه حينما يقابلها يجدها في رفقة أحدهم، وحينما يسألها عنه تخبره بأنه طبيبها، فيحجم عن إخبارها بمشاعره، ويعلمها بأنه سيعود إلى المدينة، وأنه كان يرغب في إخبارها بأنه قد عرف مكان الكوب الذي كانت قد أخفته عنه.

في الوقت الذي كان يستعد فيه واه للعودة تصله رسالة من آه نجور تخبره فيها أن ينتظرها في محطة الأتوبيس وعدم المُغادرة للجزيرة، ولعل المشهد الذي يلتقي فيه واه معها كان من أفضل مشاهد الفيلم التي عبر فيها المُخرج عن التهاب المشاعر التي تربط بينهما حينما يمسك واه بيدها ليجري بها باتجاه أحد أكشاك الهواتف العامة في الشارع ليقوم بتقبيلها قبلة مُلتهبة طويلة يبثها من خلالها مشاعره العميقة التي يشعر بها تجاهها، لعل أهمية هذا المشهد تأتي من استخدام كار واي لتقنيته الأثيرة لديه في التصوير والتركيز على ما يرغبه؛ حيث يستخدم التصوير البطيء مُنذ بداية المشهد Slow Motion حتى انتهاء قبلتهما الطويلة وتلاشي المشهد على اللون الأبيض.


نُلاحظ هنا هوس المُخرج- الذي سيتابعه في كل أفلامه فيما بعد- باستخدام مُوسيقى البوب باعتبارها من نسيج الحدث الفيلمي الذي لا يمكن له الاكتمال من دونها؛ فحينما فكر واه في الذهاب إلى آه نجور شغل أغنية Take My Breath Away للاستماع إليها، وهي الأغنية التي ظلت مُسيطرة على الحدث حتى بعد لقائه بها في العديد من المشاهد لتعلو وتنخفض تبعا للحوار بينهما. أي أن استخدام المُخرج لهذه المُوسيقى جعلها من جوهر الفيلم وأحداثه لا سيما قصة العشق التي ربطت بينهما، وهو ما سيترك بأثره على المُشاهد الذي سيظل يتذكر أحداث الفيلم كلما استمع إليها فيما بعد.

يظل واه مع آه نجور ليعيشا عدة أيام في سعادة غامرة، إلى أن يذهب توني وعصابته إلى فلاي الذي يبيع كرات السمك، ويحاولون استفزازه؛ الأمر الذي يجعل الشرطة تأخذ عربة بيع السمك منه باعتباره بائعا متجولا، هنا يقرر فلاي الانتقام منهم؛ فيقوم بتحطيم سيارة توني بأنبوبة غاز صغيرة، لكن رجاله يوسعونه ضربا قاسيا إلى أن يضربه توني بالأنبوبة في صدره محاولا تحطيم أضلاعه، كما يحتجزه أيضا.


تصل مُكالمة لواه تخبره بأمر شقيقه؛ فيسرع إليه محاولا إنقاذه واعدا آه نجور بأنه سيعود إليها في نفس اليوم إلا انها تقوم بتوديعه شاعرة بالكثير من القلق عليه، وكأنها لن تلتقيه مرة أخرى. حينما يصل واه يخبره الرجل الكبير بأن شقيقه قد أخطأ وأنه عليه الاعتذار لتوني. يحاول واه الاعتذار بالفعل لتوني لكنه يبالغ في التنكيل بواه عاملا على إهانته؛ الأمر الذي يجعل واه يخرج مسدسه ليضعه داخل بنطال توني مُطلقا النار بين فخذيه بشكل رأسي لتخرج الرصاصة بين قدميه. يشعر توني بالكثير من الرعب، ويطلب من رجاله إطلاق سراح فلاي وتسليمه لشقيقه الذي يأخذه ليهربا بعيدا.

يطلب واه من فلاي التوجه إلى الريف حيث تسكن والدتهما، إلا أن فلاي يرفض، فيخبره واه بأنه إذا لم يرضخ لما يقوله سيتم قتله في الصباح بمُجرد خروجه من باب البيت على أيدي عصابة توني. يتوجه الأخوان للخارج من أجل تناول عشائهما لكنهما بمُجرد خروجها يحيط بهما رجال توني الذين يوسعونهما ضربا، كما ينتقم توني من واه بمحاولة تحطيم أضلاعه وتهديد فلاي الذي يبول على نفسه من فرط الضرب والخوف.

المخرج الصيني وونج كار واي

يطلب فلاي من واه الابتعاد عنه وعدم حمايته مرة أخرى، ويسرع بالهروب منه، ويحرص واه على العودة إلى لانتاو حيث تنتظره آه نجور رغم عدم مقدرته على الوقوف على قدميه. تسرع به آه نجور إلى طبيبها لمحاولة إنقاذه، وتظل بجواره لحين شفائه، وهي الفترة التي يمارسا فيها الكثير من العشق طالبا منها عدم مُغادرته ومُشاركته حياته.

لكن، رغم ظن واه أن حياته قد استقرت مع آه نجور يُفاجأ بأن فلاي ما زال يرتكب الكثير من الحماقات التي تعيده مرة أخرى إلى عالم الجريمة والخطر؛ فلقد اتفق فلاي مع الرجل الكبير على قتل الرجل الذي وشى ببعض رجال العصابات للشرطة، وأخذ مبلغا كبيرا في مُقابل ذلك، وهو المبلغ الذي ذهب به إلى الأخ الثالث لهما وأعطاه جزء كبيرا منه ليقول له: لم أفعل أي شيء كبير، أشعر بالخجل. ليرد عليه أخوه: لا تقل ذلك يا أخي. فيقول فلاي: استمع إليّ، ربما كنت تحتقرني في الماضي، نعم، أنا أستحق ذلك، لكن بعد يومين عندما تقرأ في الصُحف وتشاهد التلفاز؛ ستدرك بأني لست أحمقا، يمكنني أن أكون أخاك الأكبر، تذكر أن تخبر الجميع.

أي أن شعوره الدائم بالضآلة وعدم تحقيق أي شيء في عالم العصابات والجريمة، ونظرته الدائمة لأخيه الأكبر واه، ورغبته في أن يكون مثله قد دفعته إلى قبول إطلاق النار على رجل العصابات الواشي باعتبار أن هذا الفعل سيكسبه الكثير من الأهمية والشُهرة والرهبة في عالم العصابات.

الممثل الصيني أليكس مان

يخبر الأخ الأصغر واه بالأمر؛ مما يجعله مُرغما على العودة مرة أخرى من أجل إنقاذ فلاي، واعدا آه نجور بأنه سيعود بسرعة. حينما يصل واه يطلب من فلاي الإحجام عما انتواه؛ لأن الأمر لن يفيده في شيء، بل سيلقي به في السجن- في حال إذا لم يتم قتله- كما يؤكد له أنه إذا ما قام بهذه العملية سيتذكره الآخرون ليومين أو ثلاثة أيام ويتحدثون عن شجاعته، لكنهم سُرعان ما سينسونه كأنه لم يكن. يتظاهر فلاي بالموافقة على كلام أخيه، لكنه يهرب منه ذاهبا من أجل تنفيذ مهمته.

في مشهد طويل امتد لثلاث دقائق كاملة، حرص من خلاله المُخرج وونج كار واي على تصويره بالكامل بالحركة البطيئة Slow Motion نشاهد مشهد النهاية الذي يقوم فيه فلاي بقتل الرجل الواشي المُحاط برجال الشرطة؛ فيفتح النيران عليه وعلى جميع الرجال المُحيطين به، إلا أن رجال الشرطة يقومون بتبادل النيران معه ليردونه قتيلا في الوقت الذي يصل فيه واه محاولا إنقاذ شقيقه، لكنه حينما يتأكد من قتله يخرج مسدسه محاولا الانتقام لفلاي ليتبادل معه رجال الشرطة إطلاق النيران ويقع قتيلا بدوره.

ربما تأتي أهمية هذا المشهد الذي انتهى به الفيلم على مقتل الشقيقين معا من خلال الأسلوبية الإخراجية والتصويرية التي قدم بها المُخرج المشهد؛ فبمُجرد إطلاق الرصاص على واه الذي ينتقم لأخيه ووقوعه على الأرض مُدرجا في دمائه ينتقل المُخرج بالقطع المونتاجي على مشهده السابق مع حبيبته آه نجور حينما كان يقوم بتقبيلها قبلته التي بثها فيها مشاعره العميقة تجاهها، وسُرعان ما يعود المُخرج مرة أخرى إليه بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة من خلال لقطة Close Up على وجهه الذي يعاني ولا يتذكر سوى آه نجور.

الممثل الصيني آندي لاو

هنا ينجح المُخرج في التعبير عن رؤيته السينمائية بصريا من خلال مشهد النهاية الذي يؤكد على أن المشاعر الرومانسية العميقة والطبيعية التي تعد من حق أي بشري لا يمكن لها الاتساق مع الرجال الذين يعيشون حياة خطرة في الشوارع الخلفية؛ لأن هؤلاء الرجال عرضة دائما للقتل أو السجن؛ ومن ثم فدخولهم في أي علاقات رومانسية محكوم عليها بالتلاشي وترك الكثير من الأثر المُؤلم للطرف الآخر بالفقد.

إن فيلم As Tears go by للمُخرج الصيني وونج كار باي يؤكد على أن العمل الأول للمُبدع يكاد يكون هو الشفرة الوراثية له؛ ومن ثم فهو يحمل بصمته الأسلوبية التي لا بد لها أن تستمر معه فيما بعد، وهو ما أكده لنا المُخرج فيما بعد فيما قدمه من سينما مُختلفة حافظت على أسلوبيته وعملت على تطويرها ونضجها، بل وأضاف إليها فيما بعد فلسفته العميقة باتجاه الوقت التي ترى أن الوقت قادر على تحطيم كل شيء، وبأن كل شيء في الحياة له فترة صلاحية لا بد له من انتهائه عندها حتى المشاعر الرومانسية العميقة، وهو الأمر الذي جعل أفلامه التالية تعبر عن الفقد، والحاجة الماسة للتواصل الإنساني، والشعور بالكثير من الفراغ وضآلة الفرد في مُجتمعات مُتسارعة النمو. صحيح أن الفيلم قد يبدو لنا للوهلة الأولى مُجرد فيلم عن الشوارع الخلفية وما يدور فيها بين رجال العصابات، لكن واي من خلال أسلوبيته الخاصة لم يهتم كثيرا بهذا العالم الذي جعله مُجرد خلفية للمشاعر التي ربطت بين واه وآه نجور، وهي المشاعر المحكوم عليها سلفا بالتلاشي وسط عوالم الجريمة التي لم يستطع واه الخروج منها بسبب شقيقه الأصغر فلاي ورغبته في الشُهرة والصعود!

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد ديسمبر 2022م.

الاثنين، 19 ديسمبر 2022

جولة أخرى: الكحول كبديل للألم النفسي!

هذا فيلم عن فلسفة تناول الكحول، وأثره على حياتنا الاجتماعية والنفسية!

لكن، هل هناك بالفعل ما يمكن أن نُطلق عليه "فلسفة تناول الكحول"؟! سعى المُخرج والسيناريست الدانماركي Thomas Vinterberg توماس فينتربيرج إلى صناعة فيلمه Another Round جولة أخرى، أو Druk حسب العنوان الأصلي للفيلم مُعتمدا على فرضية- لا نعرف مدى صحتها على أرض الواقع- تقول: إن الطبيب النفسي والفيلسوف النرويجي فين سكوردرود يؤكد بأن الإنسان يولد بنسبة مُعينة من الكحول في دمه لا تتعدى 0.05%، وهي نسبة ضئيلة جدا يحاول الجسم الحفاظ عليها، لكن إذا ما تم الحفاظ على هذه النسبة أو زيادتها قليلا بتناول الكحول بشكل مُنتظم طوال ساعات اليوم، ولكن بجرعات مُعتدلة سيؤدي ذلك إلى أن يكون المرء أكثر ابتهاجا، واستمتاعا بالحياة، ويكسبه ذلك المزيد من الشجاعة، بل ويصبح أكثر اجتماعية وإقبالا على مُمارسة حياته، أي أن الحفاظ على النسبة الكحولية في الدم عند مستوى مُعين ستجعل من حياة المرء نعيما فردوسيا، وأكثر سهولة مُتغلبا في ذلك على جميع مشاكله النفسية والاجتماعية!

بالتأكيد أن الاعتماد على مثل هذه الفرضية الشائكة يحمل في داخله الكثير جدا من المُخاطرة الشبيهة بالمُقامرة التي قد تحول من يعتمد عليها إلى مُدمن للكحول؛ ومن ثم ستؤدي إلى تدمير حياته بالكامل، بدلا من جعلها أكثر سهولة وبهجة؛ لأن اكتسابه البهجة، وشعوره بجمال الحياة وسهولتها بالحفاظ على مستوى مُعين من الكحول في دمه، فضلا عن تناوله للكحول بشكل دائم طوال ساعات النهار؛ للحفاظ على المستوى المطلوب قد يغريه بالمزيد من أجل اكتساب قدر أكبر من الحيوية التي سيلاحظها في سلوكه؛ ومن ثم يتحول إلى مُدمن حقيقي بزيادة جرعات الكحول التي لن يستطيع التحكم فيها فيما بعد، ومن هنا يبدأ تعثره الاجتماعي والسلوكي بالإفراط في التناول! فضلا عن أن الجسم سيعتاد كمية الكحول؛ ومن ثم سيكون في حاجة إلى المزيد فيما بعد كي يعطي التأثير المطلوب، وهنا سيقع المرء في دائرة كحولية لا يمكن له التخلص منها.


لكن، هل معنى ذلك أن المُخرج قدم لنا فيلما أخلاقيا محاولا التحذير من الإفراط في تناول الكحول؟

لم يهتم المُخرج بذلك، ولم يلتفت إليه، ولم ينظر للأمر بأي شكل من أشكال الأخلاقية أو التحذير، بل تأمل الأمر بمُتعة تتساوى مع مُتعة الحياة، حتى أننا نستطيع القول: إن تناول المُخرج لهذا الأمر أكد من خلاله على جمال الحياة، ومحاولة السيطرة والتغلب عليها من أجل مُمارستها بعشق ومُتعة في نهاية الأمر!

لعل التأكيد على هذا الأمر- حب الحياة- يتضح من الجملة الافتتاحية التي حرص المُخرج على أن يفتتح بها فيلمه بكتابته على الشاشة: ما هو الشباب؟ حلم، ما هو الحب؟ مضمون الحلم. وهي مقولة للفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد.


إذن، فالمُخرج هنا ينطلق من الحياة نفسها، وعشقه لها، بل من المُمكن لنا القول: إنه ينطلق من منحى فلسفي باتجاه الحياة، ومحاولة تأملها وجعلها أكثر جمالا وفتنة، وهو الأمر الذي نجح المُخرج، بالفعل، في إيصاله إلينا كمُشاهدين؛ حيث سنخرج من هذا الفيلم أكثر إقبالا على الحياة، وأكثر رغبة في الاستمتاع بها، رغم أنه يكاد يكون من أكثر أفلام السينما العالمية التي رأينا فيها تناول كميات من الكحول لم نرها في غيره من الأفلام!

يبدأ المُخرج فيلمه في مشاهد ما قبل التيترات Avant titre بمشهد كحولي يمرح فيه مجموعة من طلاب مدرسة ثانوية على شاطئ إحدى البحيرات، لنراهم يتسابقون كفريقين حاملين معهم زجاجات البيرة بشرط شربهم جميعا للكحول طوال مدة السباق، ومن يتقيأ منهم يتم خصم النقاط من فريقه! أي أن المُخرج منذ المشهد الأول في فيلمه يعمل على التأسيس للعالم الفيلمي الذي هو بصدد تقديمه من خلال مشهده التأسيسي المُهم، ثم يبدأ في استعراض شخصياته بشيء من التفصيل قبل الدخول في موضوعه الأساس- قيمة الكحول في حياتنا وتأثيره عليها.


إن استعراض حياة أبطال الفيلم- بشيء من الإيجاز- منذ البداية كان من الأهمية التي تجعلنا نندمج بسهولة مع فرضيته التي يذهب إليها- فرضية مستوى الكحول في الدم والحفاظ عليه- لذلك نرى مارتن- قام بدوره المُمثل الدانماركي Mads Mikkelsen مادس ميكلسن- مُدرس التاريخ الذي يمارس حياته بشكل فيه الكثير من الملل والسأم، وعدم الرغبة وكأنه مُكره عليها، أو مُضطر للحياة فيها، فنراه يلقي دروسه لطلابه بشيء غير قليل من الرتابة وعدم الحماس؛ الأمر الذي يجعلهم غير مُهتمين بمادته، كارهين لها، شاعرين بالكثير من الخوف لإحساسهم بأنهم سيفشلون فيها. هذه الرتابة التي يمارس بها مارتن تدريس مادة التاريخ ليست قاصرة على مُمارسة عمله فقط؛ فلقد كان منذ سنوات يملؤه الحماس، له مُستقبل كبير بعد حصوله على الدكتوراه، كما كان راقصا بارعا، وزوجا نموذجيا، لكننا سنلاحظ أن هذه الرتابة تنسحب على حياته الزوجية أيضا حتى أنه يكاد يكون قد بات مُغتربا عن أولاده، وزوجته أيضا التي لم يعد يراها إلا نادرا؛ لأنها باتت تفضل العمل في أوقات مسائية حتى لا يلتقيا كثيرا بعدما أصابت حياتهم ما يشبه السكتة القلبية.

هذا الفشل الأسري هو ما يركز عليه المُخرج ببراعة في المشهد الذي نرى فيه مارتن جالسا في فراشه بينما تستعد زوجته للخروج إلى نوبة عملها الليلي، فيسألها: هل أصبحت مُملا؟ لترد مُندهشة: ماذا تعني؟ ليقول: هل تجدينني مُملا؟ لتسأله: قياسا إلى ماذا، إلى حين ما كنت صغيرا أم ماذا؟ فيرد: نعم. لتخبره: ما عدت تشبه مارتن الذي التقيت به لأول مرة!


هذا الحوار بين الزوجين، وهذه الإجابة التي أجابته بها الزوجة يؤكدان قدر الصدع الذي حدث في علاقتهما الزوجية، حتى أنها لم تعد تعرفه، وهو بدوره يشعر بالاغتراب عنها وعن أسرته، حتى أنه حينما يقول لها: أنيكا، هل لي بلحظة من وقتك؟ لا تعره اهتماما وتسرع بالخروج من المنزل باتجاه العمل الليلي، غير راغبة في النقاش أو الحديث في أي شيء!

سنلاحظ أن الزوجة أنيكا- قامت بدورها المُمثلة السويدية الأصل النرويجية الجنسية Maria Bonnevie ماريا يونيفي- حريصة على الهروب الدائم من النقاش، أو الحديث مع مارتن، بل تعمل على عدم اللقاء به، أو الانفراد به معا؛ مما يُدلل على أن العلاقة الزوجية بينهما تكاد تكون مُنتهية تماما، وهو ما يشعر به مارتن بالفعل لكنه لا يمتلك المقدرة على إصلاحه، أو لا يعرف ما هي الطريقة التي لا بد له أن يتبعها كي يعيد العلاقة بينه وبين زوجته إلى حيويتها السابقة. هذه الغربة التي بات يشعر بها بين أسرته سنراها في مشهد آخر أكثر أهمية وتعبيرا عن حالته حينما نراه خارجا للاحتفال بعيد ميلاد صديقه ويخبر ولديه المُنشغلين في مُشاهدة التلفاز، واللذين لا يهتمان كثيرا لكلامه؛ فبعدما يعطيهما ظهره مُستعدا للخروج يلتفت إليهما مرة أخرى مُتأملا لهما طويلا رغم عدم انتباههما له. إن نظرته التأملية لولديه تحمل في عمقها الكثير من افتقاد التواصل، والشعور بالاغتراب، والوحدة، أو الحسرة على فقد عالمه الأسري.


سنشاهد هذه الرتابة في حياة أصدقائه من المُدرسين أيضا؛ فنرى تومي- قام بدوره المُمثل الدانماركي Thomas Bo Larsen توماس بو لارسن- مُدرس التربية الرياضية الذي يمارس حياته بنفس الخمول، حتى أنه لا يهتم بتدريب طلابه، بل يتركهم يمارسون ما يرغبونه من ألعاب بعدم حماس. كذلك بيتر- قام بدوره المُمثل الدانماركي Lars Ranthe لارس رانثي- مُدرس التربية الموسيقية الذي لا يهتم بالنشاز الذي يحدثه طلابه حينما يبدأون في الغناء ويتركهم يغنون كيفما اتفق لهم، كما لا يقوم بالعزف باهتمام لهم، ويعاني من عدم مقدرته على التعامل مع النساء بطبيعية. ونيقولاي- قام بدوره المُمثل الدانماركي Magnus Millang ماجنوس ميلانج- مُدرس علم النفس والفلسفة الذي لا يهتم كثيرا بمُمارسة عمله، فضلا عن شعوره بالملل والسأم الشديدين من حياته الزوجية، وهو ما اتضح في مشهد الاحتفال بعيد ميلاده الأربعين مع أصدقائه الثلاثة حينما سأله بيتر: كيف حالك؟ أنت تبلغ الأربعين اليوم. فيرد عليه ساخرا: حسنا، كيف يبدو حالي بحق الجحيم؟ لا أستطيع الشكوى، لدي زوجة جميلة، أعيش بجانب البحر، وهي ثرية، لدينا ثلاثة أطفال ينامون في فراشنا ويتبولون علينا كل ليلة، لم أعد أستطيع النوم.


ألا نلاحظ هنا أن الأصدقاء الأربعة لديهم الكثير من المشاكل في حياتهم، وهي المشاكل التي لا يستطيعون حلها، أو الخروج منها بل استسلموا لها مُمارسين حياتهم بشكل غير قليل من السأم والفتور؟ إنهم أربعة من الرجال وصلوا إلى أزمة مُنتصف العمر وركودها، والعجز عن مُعالجتها أو الخروج منها. إذن، فلقد نجح المُخرج بالفعل، وبشكل موجز في استعراض حياة أبطاله الأربعة الذين سيدفع بهم إلى هذه التجربة الشائكة تماما.

ليلة الاحتفال بعيد ميلاد نيقولاي الأربعين يجتمع الأربعة في أحد البارات ونلاحظ أن مارتن يتصرف بشكل كبير من الملل، كما يرفض تناول الكحول مُدعيا بأنه ما زال لديه بعض الأعمال كما سيضطر لقيادة سيارته، لكن نيقولاي يقول له: السؤال هو: ما هو التعقل؟ هناك ذلك الفيلسوف والطبيب النفسي النرويجي فين سكاردرود، إنه يعتقد أنه من التعقل الشرب طوال الوقت، يدعي أن البشر يولدون بمحتوى كحول في الدم بنسبة 0.05% مُنخفضة جدا، وهو ما يمثل كأسين من النبيذ، ويجب عليك الحفاظ عليه عند هذا المستوى. هنا يسأله تومي: إذن، على المرء الاستمرار في الشرب؟ ليرد نيقولاي: نعم، إنه يدعي عندما يكون لديك 0.05% من مُعدل الكحول في الدم؛ فأنت أكثر استرخاء واتزانا، وموسيقية وانفتاحا، أكثر شجاعة بشكل عام، يمكنني استعمال المزيد من الثقة بالنفس والمعنويات! وهو الأمر الذي يدفع مارتن إلى تنحية الليمون الذي يتناوله ويبدأ معهم في تناول الكحوليات. لكننا سنلاحظ أن مارتن بمُجرد ما تناول كأس النبيذ دفعة واحدة يشرد قليلا لتتساقط دموعه فجأة وكأنما النبيذ قد تساقط من عينيه بمُجرد ابتلاعه له في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم التي تعبر عن أزمته التي يشعر بها؛ لذلك يسأله أصدقائه بدهشة عما يعاني منه؛ ليخبرهم بشعوره بأن حياته الزوجية والعملية قد انهارتا تماما. يسأله نيقولاي: هل فكرت في شخص آخر؟ ليرد: لا، لم أفعل؛ إنها والدة أولادي، وقد اعتنت بوالدي عندما مات، كانت الخطة أن نمسك بأيدي بعضنا البعض عند تقدمنا في العمر.


إذن، فهو رغم أزمته الكبيرة التي وصل إليها زواجه، ورغم شعوره بالكثير من الفتور والملل إلا أنه ما زال حريصا على عدم خيانة زوجته، أو البحث عن بديل لها في أي علاقة جانبية، بل هو يشعر تجاهها بالكثير من الامتنان، والإخلاص فيما تعاهدا عليه.

يتناول الأصدقاء الأربعة الكثير من الكحول في تلك الليلة، لكنهم بعد انصرافهم يظل مارتن يفكر كثيرا فيما قاله نيقولاي، ويرى أن تطبيقه- الحفاظ على مستوى كحولي معين في الدم- لا بد له أن يخرجه من مشاكله؛ لذلك يبدأ في تطبيقه منذ اليوم التالي مُنفردا؛ فيذهب إلى المدرسة ومعه زجاجة من الفودكا التي يتناول منها غير مرة العديد من الجرعات في المرحاض؛ للحفاظ على المستوى الكحولي في دمه، ويلاحظ بالفعل أنه قد بات أكثر انطلاقا وبهجة وحسما في تدريس مادة التاريخ، حتى أن طلابه بدأوا ينتبهون إليه ويتفاعلون معه في تلقي مادة التاريخ!


حينما يخرج مارتن من المدرسة يشعر بأنه غير قادر على قيادة سيارته، وحينما يراه نيقولاي متوقفا أمام السيارة حائرا يسأله عن الأمر؛ فيخبره بأنه قد طبق ما قاله لهم في الليلة الماضية، ويشعر بعدم المقدرة على قيادة السيارة. يبتهج نيقولاي ويسأله عن النتيجة؛ فيخبره مارتن بأنه لم يشعر بما شعر به اليوم أثناء تدريس مادة التاريخ منذ سنوات، وأن التجربة جيدة جدا.

يطلب منه نيقولاي الاتصال بصديقيهما الباقيين للاجتماع معا، ويبدآن في وضع خطة لا بد لهم جميعا من تنفيذها، وهي تناول الكحول على مدار اليوم من أجل الحفاظ على النسبة الكحولية ما دام الأمر قد أتى بأكله مع مارتن، ويتفقون على أنهم سيفعلون ذلك على سبيل البحث العلمي، وسيدونون دائما النتائج لمعرفة أثر الكحول على حياتهم النفسية والاجتماعية مع الحرص على ألا يتحولوا إلى مُدمنين، كما يتفقون على أنهم لا بد لهم من التوقف عن التناول اليومي للكحول ابتداء من الثامنة مساء كل يوم من أجل العمل في اليوم التالي- تماما كما كان يفعل الروائي الأمريكي إرنست هيمنجواي الذي كان يتناول الكحول بشكل يومي ويتوقف عنه في هذه الساعة من أجل الكتابة- كما سيتوقفون عن التناول أيام العطلات أيضا.


ألا نلاحظ هنا جنون التجربة التي سيقبل عليها الأصدقاء الأربعة من أجل اختبار مدى صحتها وتأثيرها على حياتهم؟ مع مُلاحظة أن زج المُخرج بقصة الروائي الأمريكي إرنست هيمنجواي- باعتبارهم سيقتدون به فيما كان يفعله- تحمل في وجه آخر من وجوهها معنى أن الفيلم قد يعبر في معنى من معانيه إعادة إنتاج شكل جديد لإرنست هيمنجواي، وكأنما الفيلم هو جولة أخرى لحياة هيمنجواي. يشتري كل منهم جهاز قياس مستوى الكحول في الدم كي لا يؤدي شربهم اليومي على مدار اليوم إلى زيادة كبيرة عن المستوى الذي يرغبونه، وهو المستوى الذي يرون فيه مقدرته على مُساعدتهم في الحياة بشكل أفضل. لذلك نرى مارتن في فصله الدراسي أكثر حيوية وبهجة ومقدرة على التدريس والتعاطي مع الطلاب بسعادة وانطلاق؛ بل يضرب لهم مثال عن فرانكلين دي روزفلت، ووينستون ل تشرشل، وهتلر؛ حيث كان الاثنين الأولين مُدمنين للكحول لكنهما كانا ناجحين تماما في حياتيهما، بينما كان هتلر لا يتناول الكحول، ويحترم المرأة لكنه الشخصية الأسوأ في التاريخ؛ لذلك يقول لهم: العالم ليس كما تتوقعون، في إشارة منه إلى أن المرء ليس كما يبدو ظاهريا، بل إن الشكل الظاهري كثيرا ما ينخدع به الآخرون.


يراقبه صديقه نيقولاي وهو في فصله فيلاحظ مدى التقدم الذي وصل إليه؛ ومن ثم يشعر بالسعادة لأن التجربة بالفعل كانت ناجحة، وهو ما نراه لدى الباقين؛ فيبدأ بيتر بالعزف لطلابه بمُتعة، كما يلاحظ نشازهم في الغناء ويجعلهم يغنون بشكل أفضل، ويبدأ تومي بالاهتمام بتدريب الطلاب على مُباريات كرة القدم، وينجح في ذلك كثيرا، وهو ما يحدث أيضا مع نيقولاي الذي يبدأ في تدريس علم النفس بمُتعة لم يكن يشعر بها من قبل.

لم يتوقف النجاح هنا على الحياة العملية في حياة كل منهم فقط، بل انتقل هذا التغير إلى حياتهم الأسرية، وهو ما نراه مع مارتن الذي يبدأ في الاهتمام بأسرته وولديه؛ فيحضر لهم الطعام، ويبدأ في الحديث مع زوجته في الكثير من الأمور، أي أنهما يعود بينهما التواصل على الأقل في الحديث؛ لذلك يبدآن في مُراجعة حياتهما التي كانا يمتنعان عن مُراجعتها، بل ويبدي لها مارتن رغبته في قضاء إجازة الخريف معها ومع الولدين بالخروج لمُمارسة التجديف، وقضاء ليلة في الغابة، وهي الليلة التي نرى فيها الزوجين يتقاربان بالفعل من بعضهما البعض من خلال المشهد الجنسي بينهما في ظلام الغابة، حيث تتساقط دموعها أثناء مُمارسة الجنس، وحينما يسألها عن السبب رغم مُتعتها تخبره بأنها قد اشتاقت إليه كثيرا.


إن الإحساس المُمتع الذي بدأ يشعر به الأصدقاء الأربعة، وتقدمهم في الحياة بشكل أكثر بهجة ونجاحا، ومقدرتهم على حل الكثير من مشاكلهم لا سيما الأسرية يجعل لديهم الرغبة في تجربة الوصول إلى نقطة الاشتعال، ثم تخطيها ليروا أثر ذلك على سلوكهم الاجتماعي وعلاقاتهم؛ لذلك يضرب لهم نيقولاي مثال بقوله لبيتر: بيتر: أنت تحب كلاوس هيرفورد، كان عازف بيانو موهوبا جدا، لم يكن بإمكانه العزف إلا عند النقطة المُحددة من كونه ليس في حالة سُكر، ولا مُتيقظا، وكان رائعا للغاية.

يتفق الأصدقاء على إجراء تجربتهم بالوصول إلى نقطة الاشتعال، ويدونون في بحثهم الذي يكتبونه بأنه قرروا إجراء التجربة بشكل مُنفرد في بيت نيقولاي؛ تخوفا من أي آثار سلبية اجتماعية أو سلوكية قد تظهر عليهم، ويبدأون بالفعل تجربتهم ليصلوا إلى مستوى عال جدا من تركيز الكحول في الدم، حتى أنهم يبدأون في الانتشاء والرقص وإحداث الكثير من الجلبة، وتنتهي بهم الليلة في أحد البارات وقد وصلوا من السُكر مبلغه؛ الأمر الذي يجعلنا نرى بيتر يجلس شبه عار في البار ليعزف على البيانو، بينما يبدأ مارتن في الرقص بهوس ويحدثون الكثير من الجلبة داخل البار، بل ويسرقون بعض زجاجات الكحول أثناء خروجهم.

المُخرج والسيناريست الدانماركي توماس فينتربيرج

إن تخطي الأصدقاء الأربعة لدرجة الاشتعال الكحولي تُسبب لهم أزمة كبيرة في حياتهم؛ فنيقولاي يصل إلى منزله غير قادر على الوقوف على قدميه، وحينما ينام في فراشه يبول على زوجته التي تنهض مُنزعجة منه، وتلاحظ أنه في درجة من السُكر التي تجعله غير قادر على تمييز أي شيء؛ فتترك له المنزل مُصطحبة أبنائها، وتومي يبدأ في إدمان الكحول وعدم القدرة على الاستغناء عنه، حتى أنه يظل يشرب ليل نهار، ويصل إلى اجتماع المدرسة ذات يوم غير قادر على المشي باتزان! ومارتن لا يصل إلى بيته في تلك الليلة ويعثر عليه جيرانه نائما في حديقة منزلهم مُصابا بجرح في وجهه بينما يده مُمسكة بقلادة مفاتيحة، ويراه ابنه المار بالمُصادفة ويصطحبه إلى المنزل ليتركه في الفراش.

إذن، فلقد كانت التجربة بالوصول إلى درجة أكبر من الكحول في الدم مُدمرة لهم جميعا؛ حتى أنه في اليوم التالي على الإفطار تقول أنيكا لمارتن غاضبة: ما الذي يحدث يا مارتن؟ لم أعد أعرفك. ليرد: لم أعد أعرفك أيضا منذ وقت طويل، نحن لم نعد نتحدث، عشر دقائق في إجازة، وبعدها تذهبين مرة أخرى. فتقول: لقد كنت تبتعد عني منذ سنوات، لا أستطيع أن أبالي إذا ما كنت تشرب مع أصدقائك، هذا ليس المغزى؛ فهذا البلد بأكمله يشرب مثل المجانين على أي حال، ألا ترى أن مُشكلتنا هي أنك لست حاضرا دائما؟ أنت غير مرئي على الإطلاق، وعندما تستمتع يكون ذلك مع شخص آخر سواي. هنا يتأملها مارتن ليسألها: هل تستمتعين مع شخص آخر غيري؟ لترد مُترددة: لم أستطع فقط أن..، لم أستطع أن أجلس هنا وأنتظرك. ليثور مارتن ثورة عاتية حينما يعرف أنها خانته مع غيره من الرجال قائلا: لا تجلسي هنا وتنتظريني، اخرجي فحسب، اخرجي من هنا!

المصور النرويجي ستورلا براندث جروفلين

إذن، فلقد وصلت حياتهما إلى الصدع الكامل ببحثها عن رجل سواه للاستمتاع معه، رغم أننا نتذكر في بداية الفيلم بأنه لم يحاول البحث عن أي علاقة جانبية باعتبارها أم أولاده، ومن رعت أباه، فضلا عن إخلاصه لها في وعودهما التي أخذاها على بعضهما البعض. هنا تكمن المأساة التي وصل إليها مارتن باكتشافه لخيانة أنيكا له.

حينما يصل تومي إلى اجتماع المدرسة في حالة بالغة من السُكر حتى أنه يكون غير قادر على التوازن يأخذه مارتن إلى منزله، ويقوم بترتيبه مُنتظرا إياه حتى يفيق، ولما يحاول تومي تناول المزيد من الكحول يمنعه مارتن مُخبرا إياه بأن المدرسة قد استبعدته من العمل فيها، وأنه عليه التوقف عن تناول الكحول نهائيا، لكن تومي يستمر فيما بعد في تناوله اليومي حتى يفقد حياته!

إن الكارثة الحقيقية أن الأصدقاء باتوا اتكاليين في حياتهم على تأثير الكحول، أي أنهم قد رأوا فيه الحل السحري الذي من المُمكن له أن يحل لهم كل مشاكل حياتهم، ويكسبهم الكثير من التوازن، وهو ما نراه حينما يرى بيتر أحد الطلاب جالسا في أحد الأركان بالمدرسة بينما يبدو عليه الكثير من القلق وقد انسالت دموعه. يظن بيتر أن الأمر مُتعلق بتجربة عاطفية، لكن الطالب يؤكد له أن الأمر يتعلق بقلقه من الامتحان، وأنه يخشى الرسوب وعدم الالتحاق بالجامعة رغم أنه يذاكر دروسه، لكنه لا يشعر بأي شيء من التركيز. هنا ينصحه بيتر نصيحة فيه الكثير من الجنون حينما يطلب منه تناول كأس أو كأسين من الكحول قبل الاختبار؛ لاكتساب المزيد من الثقة بالنفس، أي أن المُدرس هنا ينصح الطالب بتناول الكحول وهو أمر خطير!

الممثل الدانماركي توماس بو لارسن

لذلك حينما يدخل الطالب إلى الامتحان ويلاحظ بيتر أنه يشعر بالاضطراب يأخذه في أحد الأركان مُقدما إليه زجاجة من الفودكا طالبا منه تناول جرعتين منها، ثم العودة إلى الاختبار، بل يضع له الفودكا أمامه في زجاجة مياه معدنية، وحينما يلاحظ تشتته يطلب منه تناول الماء الذي أمامه- الفودكا- ليستعيد أفكاره، لكن المُفاجأة الحقيقية أن الطالب بالفعل قد زال من نفسه تأثير القلق، وبات مُتماسكا، وبدأ يجيب على الأسئلة بثقة كبيرة، حتى أن الامتحان نفسه كان في مفهوم القلق؛ فيجيب: يوضح مفهوم القلق لدى كيركجارد كيف يتعامل الإنسان مع مفهوم الفشل، يجب أن تقبل نفسك على أنك غير معصوم؛ من أجل حب الآخرين والحياة. وحينما يسأله بيتر: هل يمكنك أن تعطينا مثالا؟ يرد: نعم، أنا نفسي قد فشلت.

إن تركيز المُخرج في هذا المشهد على مفهوم الفشل والقلق لم يأت اعتباطا، بل قدمه المُخرج عن عمدية للتأكيد على أن الحياة تحتمل دائما الفشل في أي شيء، وكل شيء، لكن ليس معنى الفشل أننا سنظل طوال حياتنا فاشلين، بل لا بد لنا من تقبل فكرة الفشل في حد ذاتها؛ من أجل حب الحياة وتقبلها، وحينها سنقوم بالمحاولة مرة أخرى، وهي المحاولة التي لا بد لها أن تؤدي إلى نجاحنا بعد هذا الفشل. وهو ما أراده المُخرج من حياة الأصدقاء الأربعة، أي أنه يعني أن فشلهم السابق في حياتهم لا يعني استمراريته، بل لا بد من قبوله للاستمرار فيما هو أفضل.

الممثل الدانماركي لارس رانثي

يحاول مارتن إعادة العلاقة مع زوجته مرة أخرى بعد الصدع الكبير الذي حدث فيها ومعرفته بخيانتها له، لكنها ترفض الأمر تاركة إياه. يموت تومي بعد إدمانه للكحول ويجتمع الأصدقاء الثلاثة في أحد البارات من أجل شرب نخبه، ويبدأون بالفعل في السُكر، حينها تصل إلى مارتن رسالة من زوجته تخبره فيها بأنها تشتاق إليه، لكنه- على غير المتوقع- يتأمل الرسالة بلا مُبالاة، ولما يرى الأصدقاء الثلاثة طلاب مدرستهم يحتفلون بتخرجهم خارج البار متناولين الكثير من الكحول؛ يخرجون للشارع من أجل مُشاركتهم، ويهمل مارتن رسالة أنيكا تماما، وكأنه قد اتخذ القرار ببدء حياة جديدة بعيدا عنها.

ينتهي الفيلم على مشهد الطلاب المُحتفلين بشرب كميات كبيرة من الكحول بينما يشاركهم المُدرسون الثلاثة في تناول المزيد منه. يعود مارتن إلى بهجته وسعادته، وإقباله على الحياة، فنراه يرقص بعد مُدة طويلة من التوقف عن الرقص، ليقفز في نهاية الأمر في الهواء راغبا في السقوط في مياه البحيرة، لكن المُخرج يعمل على تثبيت الصورة على مشهده القافز في الهواء فاردا جناحيه وكأنه يطير بحرية.

الممثل الدانماركي ماجنوس ميلانج

إن الفيلم الدانماركي جولة أخرى، للمُخرج توماس فينتربيرج فيلم ينتصر للحياة وجمالها، والرغبة في الإقبال عليها والاستمتاع بها، فيلم يؤكد أن الحياة لا يمكن لها التوقف؛ لذلك لا بد لنا من حبها قدر الإمكان، وهو ما يجعل مارتن يلقي بكل شيء خلف ظهره؛ ليقوم بالرقص والابتهاج بكل حيوية في النهاية. إن حب الحياة الذي يرغب المُخرج في إيصاله لنا يتضح من إهدائه الفيلم بعد انتهائه إلى ابنته إيدا، التي كان من المُفترض أن تقوم بالتمثيل في الفيلم، لكنها ماتت بعد خمس أيام من بدء التصوير، حتى أنه قام بالتصوير داخل مدرستها!

صحيح أن المُخرج أراد الوصول بنا إلى معنى حب الحياة من خلال نسبة الكحول في الدم بانيا فيلمه على فرضية شائكة شديدة الخطورة، وصحيح أن الأصدقاء الأربعة حينما بدأوا تجربتهم لم ينتبهوا إلى تقدمهم في العمر ومدى مقدرة جسدهم في مثل هذا السن على الاحتمال، لكنه أكد أن الحياة دائما جميلة من المُمكن مُمارستها من خلال العديد من الطرق، كما يمكن دائما أن نقوم بتدارك جميع أخطائنا في الوقت المُناسب، لأنه ليس معنى الخطأ أو الفشل انتهاء هذه الحياة. كما لا يمكن تجاهل تناول المُخرج الموضوع الكحولي بحيادية تامة لا علاقة له بالإدانة الأخلاقية، بل تناوله بشكل يكاد يقرب من التفلسف والحيادية التامة رغم آثاره المُدمرة على أحد الأصدقاء، كما لم يجنح إلى توقف الآخرين عن تناول الكحول بعد موت صديقهم، بل جعلهم يستمرون في تناوله حتى نهاية الأمر للاستمتاع بمفعوله السحري عليهم.

إن أهم ما في فيلم جولة أخرى هو أداء المُمثل الدانماركي مادس ميكلسن، صحيح أن باقي المُمثلين كان أداءهم مُقنعا، وشديد الإحكام، لكن ميكلسن- الذي ركز عليه الفيلم- يعد أسطورة في فن الأداء التمثيلي، وهو ما رأيناه من قبل مع نفس المُخرج في فيلمه السابق The Hunt الصيد 2012م، حيث قام ميكلسن أيضا بدور مُدرس تتهمه إحدى الطفلات من خلال خيالها باعتدائه الجنسي عليها. إن أداء ميكلسن، ومقدرته على التعبير بكل دقة عما يعتمل في نفس الشخصية لا يمكن الاختلاف عليه حتى أنك تظل مشدودا إلى ملامح وجهه وتعبيريتها لمدة طويلة لا يمكن لها أن تزول من ذهنك لفترة كبيرة، ولعل وجه المُمثل المنحوت نحتا؛ حتى أنك تظنه أحد التماثيل الفنية الموضوعة على قاعدتها ساعده كثيرا في أدائه التمثيلي.

الممثل الدانماركي مادس ميكلسن

لكن لا يفوتنا أيضا التصوير الجيد للمصور النرويجي sturla brandth grøvlen ستورلا براندث جروفلين الذي أكسب الفيلم الكثير من الأهمية والبهجة والتعبيرية لا سيما مشهد النهاية الذي نرى فيه مارتن يقوم بالرقص المُبهج أثناء سُكره وتناوله المزيد من الكحول بابتهاج وإقبال على الحياة.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد ديسمبر 2022م.