الجمعة، 30 ديسمبر 2022

كما تذهب الدموع: يتلاشى العشق أيضا في الشوارع الخلفية!

لا يمكن لنا التخلي عن فكرة أن العمل الفني الأول لأي مُبدع إنما يحمل في داخله الجينات الوراثية الفنية له؛ وبالتالي فهو الذي يُحدد مصيره الفني فيما بعد. صحيح أن بعض المُبدعين من المُمكن لهم الانحراف عن الطريق الذي بدأوه- ولقد رأينا هذا مرارا لدى العديدين منهم- سواء بالسلب أم بالإيجاب، لكن يظل العمل الفني الأول هو المُحدد الأساس للطريق الفني الذي سينتهجه صاحبه فيما بعد، والذي سيعمل على تطويره إلى ما هو أجود بالضرورة، أي أنه يكون بمثابة البصمة الوراثية له، والتي نستطيع معرفته من خلالها.

هذه الفرضية، الأقرب إلى الصواب، إلى حد كبير، تُعد ضرورية ومُهمة في حال الرغبة في تأمل مسيرة أحد الفنانين وكيفية تطور آلياته الفنية، أو أسلوبيته فيما قدمه من أعمال تلت العمل الأول، وهو الأمر الذي يجعل تناول الفيلم الأول للمُخرج والسيناريست الصيني Wong Kar- wai وونج كار واي من الضرورة بمكان؛ لمعرفة كيفية نشأة أسلوبيته الفنية في الفيلم الأول As Tears Go By كما تذهب الدموع 1988م، وكيف تطورت هذه الأسلوبية الفنية فيما تلا هذا الفيلم من أفلام سينمائية أخرى كانت من المكانة الفنية التي جعلت منه من أهم المُخرجين في العالم؛ نظرا لعالمه الخاص الذي تدور فيه أفلامه، وامتلاكه لأسلوب سينمائي يختلف فيه عن الجميع من المُخرجين الآخرين.

يتناول وونج كار واي في فيلمه الأول العالم السُفلي للشوارع الخلفية في هونج كونج وما يسودها من عُنف شديد لا يمكن احتماله، وهو ما نراه على طول أحداث الفيلم في الكثير من مشاهد العراك بين أفراد العصابات، ولعل تناول كار واي لهذا العالم ومحاولته التركيز على تفاصيله ودقائقه يذكرنا للوهلة الأولى بالفيلم الأمريكي Mean Streets الشوارع الخلفية 1973م للمُخرج الإيطالي الأصل الأمريكي الجنسية Martin Scorsese مارتن سكورسيزي الذي تناول عالم العصابات العنيف في نيويورك من خلال شخصيتين تمثلا قُطبا هذا العالم الدموي.


صحيح أن ثمة روح ما تجمع بين العملين السينمائيين، لكن ليس معنى قولنا هذا أن كار واي قد اقتبس، أو أخذ من فيلم سكورسيزي. ربما تأثر واي بفيلم سكورسيزي، أو ظل عالمه عالقا في ذهنه إلى أن قام بصناعة فيلمه الأول، لكننا سنُلاحظ أن ثمة بونا شاسعا بين الفيلمين بعيدا عن هذه الروح التي تربط بينهما؛ فكلا الفيلمين يتناول عالم الجريمة والعصابات في قاع المدينة والشوارع الخلفية- سكوسيزي في نيويورك، وواي في هونج كونج- والصراع العاصف القائم بينهم، وهو الصراع الذي يؤدي إلى الكثير من الدموية والعنف، والإطاحة بالكثير من الجثث، لكن خلاف هذه الخطوط العريضة بين الفيلمين سيتبين لنا أن كل من المُخرجين يمتلك أسلوبيته الخاصة التي تختلف عن الآخر اختلافا بينا، أي أننا يمكن لنا رد هذه الروح الرابطة بينهما إلى أنها كانت بمثابة التحية الفنية من وونج كار واي لسكورسيزي.

في فيلم As Tears Go By كما تذهب الدموع العديد من المُلاحظات الأسلوبية التي يتميز بها وونج كار واي، وهي الأسلوبية التي ستظل معه في المُستقبل ليعمل على تطويرها، وتنضج كثيرا في أفلامه الأخرى القادمة؛ فهو حريص دائما على التصوير من خلال إضاءة لمبات النيون الباهتة، كما يُعد عالم الليل هو العالم الأثير لديه، وكأنه لا يعرف النهار أو يشعر نحوه بالكثير من الخشية، ولا يجد نفسه سوى في هذا العالم الليلي، كما لا يفوتنا حرصه على التصوير البطيء في العديد من المشاهد Slow Motion، وهو الأسلوب الأثير لديه في عالمه السينمائي الذي تطور فيما بعد ليعد ميزة تخصه وحده فيما يقدمه من أعمال سينمائية مُهمة، بالإضافة إلى مشاهد الضباب المُتصاعد دائما في الشوارع، ولجوئه إلى استخدام الكاميرا المحمولة لا سيما في مشاهد المُطاردات، وهوسه باستخدام مُوسيقى البوب التي تكاد أن تكون جزء لا يتجزأ من نسيج أفلامه جميعا، ومن ثم يُعد غيابها عن أي فيلم من أفلامه بمثابة نقص كبير في العالم الفيلمي الذي يقدمه وونج.


إذن، فالمُخرج نجح من خلال تقديم فيلمه الأول في تقديم أسلوبيته السينمائية التي تخصه، والتي ظلت معه طوال رحلته السينمائية المُستمرة حتى اليوم عاملا على تطويرها وإكسابها خصوصية لا يمكن لها أن تتوافر لغيره من المُخرجين، وهذا ما قصدناه آنفا حينما أكدنا على أن العمل الأول للمُخرج/ الفنان يكاد يكون بمثابة الشفرة الوراثية التي لا يمكن لها أن تتشابه مع غيره؛ وبالتالي نستطيع معرفة أسلوبية كل مُخرج من خلال هذا العمل الذي يقدم به نفسه.

يبدأ وونج كار واي فيلمه مُستخدما الكاميرا الثابتة التي تصور مدينة هونج كونج وصخبها بينما تتصاعد أعمدة الضباب من خلال إنارة لمبات النيون الباهتة، لينتقل على واه/ الأخ الأكبر- قام بدوره المُمثل الصيني Andy Lau آندي لاو- في فراشه بينما يدق جرس الهاتف بإلحاح. يمد واه يده من أسفل الغطاء ليرد، بينما يصله صوت عمته التي تخبره بأنها ستعاود الاتصال به مرة أخرى حينما يستيقظ، لكنها سُرعان ما تُعيد الاتصال بعد أقل من دقيقة لتخبره بأن ابنة عمه آه نجور- قامت بدورها المُمثلة الصينية Maggie Cheung ماجي تشيونج- ستأتي إليه؛ لأنها تعاني من مرض ما وتحتاج إلى مُتابعة الطبيب في المدينة.


مع وصول آه نجور إلى منزل واه يبدأ المُخرج عالمه الفيلمي؛ حيث نُلاحظ الثلجية واللامبالاة اللتين يتعامل بهما واه مع ابنة عمه، والتي يطلب منها عدم إيقاظه إذا ما اتصل به أحدهم. تشعر آه نجور بالكثير من الرهبة من واه، وترد على العديد من المُكالمات التي تأتيه إلى أن يستيقظ من نومه في مُنتصف النهار، لكنه يلاحظ أنها ترتدي كمامة على أنفها فيسألها عن السبب لتخبره بأنها تعاني من خلل في الرئة، وعليها معاودة الطبيب، إلا أنه يطلب منها خلعها؛ فهي لن تموت على أي حال.

يعاود فلاي/ أخوه- قام بدوره المُمثل الصيني Jacky Cheung جاكي تشيونج- مُهاتفة شقيقه لإخباره بأنه لم يستطع أخذ الدين من أحدهم حتى الآن، وأنه يقوم بالتفاوض معه؛ الأمر الذي يجعل واه يسرع بالخروج إليه، وحينما يجد شقيقه يتفاوض مع الرجل الجالس بين رجاله؛ يقوم بتناول إحدى زجاجات الكحول ليحطم بها وجه الرجل طالبا منه إخراج المال المدين به لأحدهم فيخرجه الرجل بينما الدماء تسيل كالشلال على وجهه.


نعرف أن واه/ الأخ الأكبر هو رجل عصابات يقوم بجمع الديون لأصحابها بمُقابل مالي، وأن فلاي أخاه الأصغر يعمل معه في عالم العصابات والشوارع الخلفية للمدينة، لكنه يتميز بالكثير من الحماقة التي تجعله يقع في الكثير من المآزق التي قد تودي بحياته لولا تدخل الأخ الأكبر دائما من أجل إنقاذه.

إن حرص المُخرج على عرض التفاصيل الدقيقة يؤكد لنا أن فلاي يشعر دائما بأنه أقل من الأخ الأكبر، وأنه لولا الأخ الأكبر لما كان له وجود في عالم الجريمة، وهو ما يجعله واقعا في مأزق وجودي يشعره بالكثير من الضآلة، والرغبة الدائمة في الشُهرة مثل أخيه الأكبر، لكن هذه الرغبة الحمقاء تدفعه إلى المزيد من الحماقة دائما مما يعرض حياته للخطر.

مما لا يمكن إنكاره أن هذا النمط من حياة الجريمة لا مكان فيه للمشاعر الطبيعية والدافئة، والرومانسية؛ ومن ثم فأصحابه يحيون دائما حياة مُضطربة، قلقة، مُعرضة للانتهاء بالسجن أو القتل في أي لحظة، أي أنهم من المُستحيل لهم العيش في حياة مُستقرة آمنة مثل باقي البشر، ومن هنا تنتفي المشاعر في حياتهم، ويختفي وجود المرأة التي هي النموذج الأساس للاستقرار، وهو ما يؤكد عليه المُخرج مُنذ المشاهد الأولى حينما يقابل واه حبيبته التي تقول له: لقد غادرت المُستشفى للتو. ليسألها: لماذا؟ غسيل معدة مرة أخرى؟ لترد عليه غاضبة: إنه إجهاض. يقول مُندهشا: أنت تمزحين؟ لكنها ترد: يمكنك التعامل معها على أنها مُزحة إذا ما رغبت في ذلك. يسألها واه: لِمَ لم تخبرينني بأنك حامل؟! فتقول: هل منحتني الفرصة لأخبرك؟ لقد انتظرتك لمُدة ثلاثة أيام، لكنك لم تتصل بي. يقول غاضبا: يمكنك الاتصال بي إذا لم أفعل. لترد: ماذا أستطيع أن أقول لك؟ بأني ذاهبة للإجهاض؟ أم لأطلب منك الزواج؟ كنا معا لمُدة ست سنوات، ما الذي حصلت عليه؟ شعرت بأني لا أعرفك، ولم أحصل حتى على أي مال، أنا فقيرة لدرجة اضطراري الاقتراض من أمي من أجل الإجهاض، تكلم، ماذا فعلت لي؟ يقول واه غاضبا: اخرسي، توقفي عن قول هذا الكلام الذي تقولينه مُنذ التقينا، كنت تعرفين بالفعل أي نوع من الأشخاص أنا، لا تبقي معي إذا ما كنت تريدين الزواج والمال.


ربما كان هذا الحوار الذي رأيناه في بداية الفيلم له أهمية محورية من أجل مُتابعة باقي الأحداث التالية؛ فرغم أن الفيلم يتحدث عن عالم العُنف والجريمة في الشوارع الخلفية من هونج كونج؛ الأمر الذي قد يجعله يبدو لنا من أفلام الجريمة والحركة، إلا أن وونج كار واي من خلال أسلوبيته الخاصة، وكتابته للسيناريو لا يهتم كثيرا بهذا العالم السُفلي، ولا يجعله في مُقدمه أحداثه، بل يجعله في الكثير من الأحيان كمُجرد خلفية لقصة الحب التي أدخلها في نسيج فيلمه، وهي القصة التي ستنشأ بينه وبين ابنة عمه فيما بعد؛ ليؤكد لنا رؤيته الخاصة التي تؤكد بأن الحب والمشاعر الدافئة لا يمكن لهما الحياة في مثل هذه البيئة المُحيطة الخطرة، ومن ثم فمن ينخرط في هذا العالم الدموي لا يمكن له الاستقرار مع امرأة، أو الشعور بالأمان معها، كما لا يمكن له منحها أي شعور بالأمان!

هذا المأزق الوجودي بالشعور بعدم الأمان الدائم لم يكن بسبب عمل واه في عالم العصابات فقط؛ فالمُخرج أكد لنا، من خلال الأحداث، أن واه قد بات يشعر بالملل من هذا العالم، وأنه على أتم الاستعداد لتركه في أي لحظة واعتزاله، لكن المُشكلة الأكبر تتمثل في أنه مُرتبط ارتباطا قويا بأخيه فلاي، وهو الأخ الذي يشعر دائما بالرغبة في الشُهرة داخل عالم الجريمة، والذي يحلم بأن يكون مثل الأخ الأكبر، مرهوب الجانب من الآخرين، ومُماثلا له في الشُهرة؛ مما يدفعه إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء التي تعرضه للقتل لولا تدخل واه في الوقت المُناسب من أجل حمايته، أي أن واه كلما قرر الابتعاد عن هذا العالم المُحاط بالكثير من الأخطار يجره أخوه الأصغر بسبب حماقاته المُتتالية.


يحاول فلاي اللعب مع بعض رجال العصابات مُستفزا إياهم من أجل إثبات جرأته ومقدرته على مواجهتهم، لكنه يُصاب بجرح غائر من عنق إحدى الزجاجات التي يضربه بها أحدهم ليشق صدره، وسُرعان ما يتجه إلى بيت أخيه واه مُستنجدا به في الوقت الذي كان يستعد فيه واه من أجل الخروج لتناول العشاء مع ابنة عمه آه نجور التي بدأ يشعر تجاهها بشيء غير قليل من المشاعر والحسية المتوترة، يعمل واه على إنقاذ شقيقه؛ ليسرع بالخروج من أجل الانتقام له ورد كرامته.

لكن في خضم هذه المُشاجرات المُتتالية مع رجال العصابات تتأكد آه نجور أن صحتها على ما يرام، وأنها لا تعاني من شيء كما أكد لها الطبيب؛ ومن ثم تعود إلى جزيرة لانتاو التي تعيش فيها تاركة رسالة لواه المُتغيب مُعظم الوقت لتخبره فيها: لقد قمت بإعداد وجبة لك في المطبخ، كما اشتريت عدة أكواب، أعلم أنه سيتم كسرها جميعا إن عاجلا أم آجلا، لذا أخفيت أحدهم، إذا ما احتجت هذا الكوب يوما ما كلمني لأخبرك أين أخفيته.


إن رحيل آه نجور من حياة واه يجعله على ثقة تامة بمشاعره نحوها، لا سيما أنها قد قامت بتغيير نمط حياته مُنذ دخلت بيته، وحرصت على جعله أكثر ترتيبا ونظاما، ونظافة، فضلا عن المشاعر التي نشأت بينهما رغم عدم اعترافهما لبعضهما البعض بها. لكن، لأن واه يكاد يكون مُنخرطا وغارقا حتى أذنيه في عالم الجريمة الذي يجره إليه حتى النخاع شقيقه الأحمق فلاي بأخطائه المُتكررة؛ ينسى مشاعره إلى حد ما ويتفرغ لحل مُشكلات أخيه الدائمة التي كان منها اقتراضه المال من أحد رجال العصابات المُنافسة لأخيه الأكبر ورفضه السداد لهم؛ الأمر الذي يجعلهم يلجأون إلى واه للشكوى وتهديده بأنهم لن يصبروا على أخيه، وسيقومون بقتله. يسرع واه إلى رجل العصابات الآخر/ توني بماله بعد تأكده بأن فلاي بالفعل رفض سداد قرضه ويسدد المال، لكن توني يخبره بأنه لا بد له من دفع الفوائد بسبب التأخير؛ الأمر الذي يجعل واه يقوم بتهديد صاحب المكان الذي تحميه العصابة، وأخذ المال منه ليدفع به لتوني.

الممثلة الصينية ماجي تشيونج

تحدث العديد من المُطاردات والتحدي بين واه وتوني- قام بدوره المُمثل الصيني Alex Man أليكس مان- مما يجعل الرجل الكبير يجمعهما أمام بعضهما البعض ويطلب منهما إنهاء الخلافات بينهما للتفرغ لأعمالهما، كما يخبرهما بأن أحد الرجال قد وشى ببعضهم إلى الشرطة، وأنه لا بد من قتل هذا الرجل قبل الذهاب للشهادة في المحكمة. حينما يحاول الرجال الانصراف يخبر الرجل الكبير واه بأنه لا بد له من التخلص من فلاي؛ لأنه يسبب له الكثير من المُشكلات التي قد تؤدي إلى القضاء عليه شخصيا قائلا: أعلم أنك وأخاك صديقان حميمان، لكنه مجنون للغاية، قم بتعليمه، أو سيتحول إلى قنبلة موقوتة بجانبك، يوما ما سيتسبب في مُشكلات قاتلة. 

إن مُلاحظة الجميع لحماقة فلاي التي قد تؤدي إلى مقتل الأخ الأكبر واه تؤكد أنه قد بات خطرا على أخيه الذي يحاول دائما حمايته والدفاع عنه؛ لذلك يفكر واه في إبعاد شقيقه عن عالم الجريمة بإرغامه على بيع كرات السمك كبائع متجول في الشارع، وهو الأمر الذي يخضع له فلاي مُكرها؛ ومن ثم نراه يمارسه بملل ولامبالاة.

يشعر واه بالكثير من الفراغ والعدمية اللذين يحيطان بحياته بعد خروج آه نجور منها وعودتها إلى لانتاو؛ لذا يفكر بالذهاب إليها للقائها والاعتراف لها بعشقه، إلا أنه حينما يقابلها يجدها في رفقة أحدهم، وحينما يسألها عنه تخبره بأنه طبيبها، فيحجم عن إخبارها بمشاعره، ويعلمها بأنه سيعود إلى المدينة، وأنه كان يرغب في إخبارها بأنه قد عرف مكان الكوب الذي كانت قد أخفته عنه.

في الوقت الذي كان يستعد فيه واه للعودة تصله رسالة من آه نجور تخبره فيها أن ينتظرها في محطة الأتوبيس وعدم المُغادرة للجزيرة، ولعل المشهد الذي يلتقي فيه واه معها كان من أفضل مشاهد الفيلم التي عبر فيها المُخرج عن التهاب المشاعر التي تربط بينهما حينما يمسك واه بيدها ليجري بها باتجاه أحد أكشاك الهواتف العامة في الشارع ليقوم بتقبيلها قبلة مُلتهبة طويلة يبثها من خلالها مشاعره العميقة التي يشعر بها تجاهها، لعل أهمية هذا المشهد تأتي من استخدام كار واي لتقنيته الأثيرة لديه في التصوير والتركيز على ما يرغبه؛ حيث يستخدم التصوير البطيء مُنذ بداية المشهد Slow Motion حتى انتهاء قبلتهما الطويلة وتلاشي المشهد على اللون الأبيض.


نُلاحظ هنا هوس المُخرج- الذي سيتابعه في كل أفلامه فيما بعد- باستخدام مُوسيقى البوب باعتبارها من نسيج الحدث الفيلمي الذي لا يمكن له الاكتمال من دونها؛ فحينما فكر واه في الذهاب إلى آه نجور شغل أغنية Take My Breath Away للاستماع إليها، وهي الأغنية التي ظلت مُسيطرة على الحدث حتى بعد لقائه بها في العديد من المشاهد لتعلو وتنخفض تبعا للحوار بينهما. أي أن استخدام المُخرج لهذه المُوسيقى جعلها من جوهر الفيلم وأحداثه لا سيما قصة العشق التي ربطت بينهما، وهو ما سيترك بأثره على المُشاهد الذي سيظل يتذكر أحداث الفيلم كلما استمع إليها فيما بعد.

يظل واه مع آه نجور ليعيشا عدة أيام في سعادة غامرة، إلى أن يذهب توني وعصابته إلى فلاي الذي يبيع كرات السمك، ويحاولون استفزازه؛ الأمر الذي يجعل الشرطة تأخذ عربة بيع السمك منه باعتباره بائعا متجولا، هنا يقرر فلاي الانتقام منهم؛ فيقوم بتحطيم سيارة توني بأنبوبة غاز صغيرة، لكن رجاله يوسعونه ضربا قاسيا إلى أن يضربه توني بالأنبوبة في صدره محاولا تحطيم أضلاعه، كما يحتجزه أيضا.


تصل مُكالمة لواه تخبره بأمر شقيقه؛ فيسرع إليه محاولا إنقاذه واعدا آه نجور بأنه سيعود إليها في نفس اليوم إلا انها تقوم بتوديعه شاعرة بالكثير من القلق عليه، وكأنها لن تلتقيه مرة أخرى. حينما يصل واه يخبره الرجل الكبير بأن شقيقه قد أخطأ وأنه عليه الاعتذار لتوني. يحاول واه الاعتذار بالفعل لتوني لكنه يبالغ في التنكيل بواه عاملا على إهانته؛ الأمر الذي يجعل واه يخرج مسدسه ليضعه داخل بنطال توني مُطلقا النار بين فخذيه بشكل رأسي لتخرج الرصاصة بين قدميه. يشعر توني بالكثير من الرعب، ويطلب من رجاله إطلاق سراح فلاي وتسليمه لشقيقه الذي يأخذه ليهربا بعيدا.

يطلب واه من فلاي التوجه إلى الريف حيث تسكن والدتهما، إلا أن فلاي يرفض، فيخبره واه بأنه إذا لم يرضخ لما يقوله سيتم قتله في الصباح بمُجرد خروجه من باب البيت على أيدي عصابة توني. يتوجه الأخوان للخارج من أجل تناول عشائهما لكنهما بمُجرد خروجها يحيط بهما رجال توني الذين يوسعونهما ضربا، كما ينتقم توني من واه بمحاولة تحطيم أضلاعه وتهديد فلاي الذي يبول على نفسه من فرط الضرب والخوف.

المخرج الصيني وونج كار واي

يطلب فلاي من واه الابتعاد عنه وعدم حمايته مرة أخرى، ويسرع بالهروب منه، ويحرص واه على العودة إلى لانتاو حيث تنتظره آه نجور رغم عدم مقدرته على الوقوف على قدميه. تسرع به آه نجور إلى طبيبها لمحاولة إنقاذه، وتظل بجواره لحين شفائه، وهي الفترة التي يمارسا فيها الكثير من العشق طالبا منها عدم مُغادرته ومُشاركته حياته.

لكن، رغم ظن واه أن حياته قد استقرت مع آه نجور يُفاجأ بأن فلاي ما زال يرتكب الكثير من الحماقات التي تعيده مرة أخرى إلى عالم الجريمة والخطر؛ فلقد اتفق فلاي مع الرجل الكبير على قتل الرجل الذي وشى ببعض رجال العصابات للشرطة، وأخذ مبلغا كبيرا في مُقابل ذلك، وهو المبلغ الذي ذهب به إلى الأخ الثالث لهما وأعطاه جزء كبيرا منه ليقول له: لم أفعل أي شيء كبير، أشعر بالخجل. ليرد عليه أخوه: لا تقل ذلك يا أخي. فيقول فلاي: استمع إليّ، ربما كنت تحتقرني في الماضي، نعم، أنا أستحق ذلك، لكن بعد يومين عندما تقرأ في الصُحف وتشاهد التلفاز؛ ستدرك بأني لست أحمقا، يمكنني أن أكون أخاك الأكبر، تذكر أن تخبر الجميع.

أي أن شعوره الدائم بالضآلة وعدم تحقيق أي شيء في عالم العصابات والجريمة، ونظرته الدائمة لأخيه الأكبر واه، ورغبته في أن يكون مثله قد دفعته إلى قبول إطلاق النار على رجل العصابات الواشي باعتبار أن هذا الفعل سيكسبه الكثير من الأهمية والشُهرة والرهبة في عالم العصابات.

الممثل الصيني أليكس مان

يخبر الأخ الأصغر واه بالأمر؛ مما يجعله مُرغما على العودة مرة أخرى من أجل إنقاذ فلاي، واعدا آه نجور بأنه سيعود بسرعة. حينما يصل واه يطلب من فلاي الإحجام عما انتواه؛ لأن الأمر لن يفيده في شيء، بل سيلقي به في السجن- في حال إذا لم يتم قتله- كما يؤكد له أنه إذا ما قام بهذه العملية سيتذكره الآخرون ليومين أو ثلاثة أيام ويتحدثون عن شجاعته، لكنهم سُرعان ما سينسونه كأنه لم يكن. يتظاهر فلاي بالموافقة على كلام أخيه، لكنه يهرب منه ذاهبا من أجل تنفيذ مهمته.

في مشهد طويل امتد لثلاث دقائق كاملة، حرص من خلاله المُخرج وونج كار واي على تصويره بالكامل بالحركة البطيئة Slow Motion نشاهد مشهد النهاية الذي يقوم فيه فلاي بقتل الرجل الواشي المُحاط برجال الشرطة؛ فيفتح النيران عليه وعلى جميع الرجال المُحيطين به، إلا أن رجال الشرطة يقومون بتبادل النيران معه ليردونه قتيلا في الوقت الذي يصل فيه واه محاولا إنقاذ شقيقه، لكنه حينما يتأكد من قتله يخرج مسدسه محاولا الانتقام لفلاي ليتبادل معه رجال الشرطة إطلاق النيران ويقع قتيلا بدوره.

ربما تأتي أهمية هذا المشهد الذي انتهى به الفيلم على مقتل الشقيقين معا من خلال الأسلوبية الإخراجية والتصويرية التي قدم بها المُخرج المشهد؛ فبمُجرد إطلاق الرصاص على واه الذي ينتقم لأخيه ووقوعه على الأرض مُدرجا في دمائه ينتقل المُخرج بالقطع المونتاجي على مشهده السابق مع حبيبته آه نجور حينما كان يقوم بتقبيلها قبلته التي بثها فيها مشاعره العميقة تجاهها، وسُرعان ما يعود المُخرج مرة أخرى إليه بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة من خلال لقطة Close Up على وجهه الذي يعاني ولا يتذكر سوى آه نجور.

الممثل الصيني آندي لاو

هنا ينجح المُخرج في التعبير عن رؤيته السينمائية بصريا من خلال مشهد النهاية الذي يؤكد على أن المشاعر الرومانسية العميقة والطبيعية التي تعد من حق أي بشري لا يمكن لها الاتساق مع الرجال الذين يعيشون حياة خطرة في الشوارع الخلفية؛ لأن هؤلاء الرجال عرضة دائما للقتل أو السجن؛ ومن ثم فدخولهم في أي علاقات رومانسية محكوم عليها بالتلاشي وترك الكثير من الأثر المُؤلم للطرف الآخر بالفقد.

إن فيلم As Tears go by للمُخرج الصيني وونج كار باي يؤكد على أن العمل الأول للمُبدع يكاد يكون هو الشفرة الوراثية له؛ ومن ثم فهو يحمل بصمته الأسلوبية التي لا بد لها أن تستمر معه فيما بعد، وهو ما أكده لنا المُخرج فيما بعد فيما قدمه من سينما مُختلفة حافظت على أسلوبيته وعملت على تطويرها ونضجها، بل وأضاف إليها فيما بعد فلسفته العميقة باتجاه الوقت التي ترى أن الوقت قادر على تحطيم كل شيء، وبأن كل شيء في الحياة له فترة صلاحية لا بد له من انتهائه عندها حتى المشاعر الرومانسية العميقة، وهو الأمر الذي جعل أفلامه التالية تعبر عن الفقد، والحاجة الماسة للتواصل الإنساني، والشعور بالكثير من الفراغ وضآلة الفرد في مُجتمعات مُتسارعة النمو. صحيح أن الفيلم قد يبدو لنا للوهلة الأولى مُجرد فيلم عن الشوارع الخلفية وما يدور فيها بين رجال العصابات، لكن واي من خلال أسلوبيته الخاصة لم يهتم كثيرا بهذا العالم الذي جعله مُجرد خلفية للمشاعر التي ربطت بين واه وآه نجور، وهي المشاعر المحكوم عليها سلفا بالتلاشي وسط عوالم الجريمة التي لم يستطع واه الخروج منها بسبب شقيقه الأصغر فلاي ورغبته في الشُهرة والصعود!

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد ديسمبر 2022م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق